اللّباب في علوم الكتاب - ج ٧

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ٧

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٦٤٠

الفحل (١) ، وكسب الحجام (٢) ، وثمن الكلب (٣) ، وثمن الخمر (٤) ، وثمن الميتة (٥) ، وحلوان الكاهن (٦) ، والاستعجال في المعصية (٧) ، روي ذلك عن عمر وعليّ وابن عباس وأبي هريرة ومجاهد ، وزاد بعضهم ، ونقص بعضهم.

وقال الأخفش (٨) : السّحت كلّ كسب لا يحقّ.

فصل

قال الحسن : كان الحاكم منهم إذا أتاه أحد برشوة جعلها في كمّه ، فيريها إيّاه ، وكان يتكلّم بحاجته ، فيسمع منه ، ولا ينظر إلى خصمه ، فيسمع الكذب ، ويأكل الرشوة (٩).

وقال أيضا : إنّما ذلك في الحكم إذا رشوته ليحقّ لك باطلا ، أو يبطل عنك حقا ، فأمّا أن يعطي الرجل الوالي يخاف ظلمه ليدرأ به عن نفسه فلا بأس ، والسّحت هو الرّشوة في الحكم على قول الحسن وسفيان وقتادة والضّحّاك.

وقال ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ هو الرشوة في كلّ شيء ، من يشفع شفاعة ليردّ بها حقّا أو يدفع بها ظلما ، فأهدي له فقبل ، فهو سحت.

فقيل له : يا أبا عبد الرّحمن ، ما كنّا نرى ذلك إلّا الأخذ على الحكم ، فقال : الأخذ على الحكم كفر (١٠) ؛ قال الله تعالى : (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ) [المائدة : ٤٤].

وقال بعضهم (١١) : كان فقراؤهم يأخذون من أغنيائهم ما لا ليقيموا على ما هم عليه

__________________

ـ نسبته للفريابي بلفظ : من السحت مهر الزانية ... وأخرجه الطبري (٤ / ٥٨١) عن عبد الله بن هبيرة قال : من السحت ثلاثة : مهر البغي.

وأخرجه ابن مردويه والديلمي عن أبي هريرة كما في «الدر المنثور» (٢ / ٥٠٣) قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : ست خصال من السحت : رشوة الإمام وثمن الكلب وعسب الفحل ومهر البغي وكسب الحجام وحلوان الكاهن.

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٥٠٢) عن علي وعزاه لأبي الشيخ بلفظ : أبواب السحت ثمانية : رأس السحت رشوة الحاكم وكسب البغي وعسب الفحل وثمن الميتة وثمن الخمر وثمن الكلب وكسب الحجام وأجر الكاهن.

(١) ينظر : المصدر السابق.

(٢) ينظر : المصدر السابق.

(٣) ينظر : المصدر السابق.

(٤) ينظر : المصدر السابق.

(٥) ينظر : المصدر السابق.

(٦) ينظر : المصدر السابق.

(٧) ينظر : المصدر السابق.

(٨) ينظر : تفسير البغوي ٢ / ٣٩.

(٩) ينظر : تفسير الفخر الرازي (١١ / ١٨٥).

(١٠) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٤ / ٥٧٩) عن ابن مسعود وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٥٠٢) وزاد نسبته لابن أبي حاتم وأبي الشيخ والبيهقي في «شعب الإيمان».

(١١) ينظر : الفخر الرازي ١١ / ١٨٥.

٣٤١

من اليهوديّة ، فالفقراء كانوا يسمعون أكاذيب الأغنياء ، ويأكلون السّحت الذي يأخذوه منهم.

وقيل : سمّاعون للأكاذيب التي كانوا ينسبونها إلى التوراة ، أكّالون للرّبا لقوله تعالى : (وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ) [النساء : ١٦١].

وقال عمر بن الخطّاب ـ رضي الله عنه ـ رشوة الحاكم من السّحت (١). وعن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنّه قال : «كلّ لحم نبت بالسّحت فالنّار أولى به» قالوا : يا رسول الله ، وما السّحت؟ قال : «الرشوة في الحكم» (٢).

وعن ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ أيضا أنّه قال : السحت أن يقضي الرجل لأخيه حاجة ، فيهدي إليه هديّة فيقبلها (٣).

وقال بعض العلماء (٤) : من السحت أن يأكل الرجل بجاهه ، بأن يكون للرجل حاجة عند السلطان ، فيسأله أن يقضيها له ، فلا يقضيها له إلّا برشوة يأخذها. انتهى.

وقال أبو حنيفة [ـ رضي الله عنه ـ] : إذا ارتشى الحاكم انعزل في الوقت ، وإن لم يعزل بطل كلّ حكم حكم به بعد ذلك.

قال القرطبي (٥) : وهذا لا يجوز أن يختلف فيه إن شاء الله ؛ لأنّ أخذ الرشوة فسق والفاسق لا ينفذ حكمه.

قوله تعالى : (فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ).

خيّره تعالى بين الحكم وبين الإعراض عنهم ، واختلفوا فيه على قولين :

الأول : أنّه في أمر خاصّ ، ثم اختلف هؤلاء.

فقال ابن عباس ، والحسن ، والزهريّ ـ رضي الله عنهم ـ : إنّه في أمر زنا المحصن (٦) ، وقيل : في قتيل قتل من اليهود في بني قريظة والنّضير كما تقدم ، فتحاكموا إلى النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ فجعل الدّية سواء (٧).

__________________

(١) تقدم.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٤ / ٥٨١) عن عبد الله بن عمر وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٥٠٢) وزاد نسبته لعبد بن حميد وابن مردويه.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٤ / ٥٧٩) وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والبيهقي في «شعب الإيمان» كما في «الدر المنثور» (٢ / ٥٠٢).

(٤) ذكره القرطبي منسوبا لابن خويزمنداد. ينظر : تفسير القرطبي ٦ / ١١٩.

(٥) ينظر : تفسير القرطبي ٦ / ١١٩.

(٦) أخرجه الطبري (٤ / ٥٨٢) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٥٠٤) عن ابن شهاب وزاد نسبته لابن إسحاق.

(٧) تقدم في سورة النساء.

٣٤٢

وقيل : هذا التخيير مختص بالمعاهدين الذين لا ذمّة لهم ، فإن شاء حكم بينهم ، وإن شاء أعرض عنهم.

والقول الثاني : أنّ الآية عامة في كل من جاء من الكفار ، ثم اختلفوا : فمنهم من قال : إنّ الحكم ثابت في سائر الأحكام غير (١) منسوخ وهو قول النّخعيّ والشّعبيّ وقتادة ، وعطاء ، وأبي بكر الأصمّ ، وأبي مسلم (٢).

وحكام المسلمين بالخيار في الحكم بين أهل الكتاب ، ومنهم من قال : إنه منسوخ بقوله تعالى : (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ) [المائدة : ٤٩] وهو قول ابن عباس ، والحسن ، ومجاهد ، وعكرمة (٣) [رضي الله عنهم] ، ومذهب الشافعيّ ـ رضي الله عنه ـ أنّه يجب على حاكم المسلمين أن يحكم بين أهل الذّمة إن تحاكموا إليه ، لأنّ في إمضاء حكم الإسلام عليهم صغارا لهم.

فأمّا المعاهد إلى مدّة ، فلا يجب على الحاكم أن يحكم بينهم ، بل يتخيّر في ذلك.

قال ابن عباس (٤) ـ رضي الله عنهما ـ : لم ينسخ من المائدة إلّا آيتان : قوله تعالى : (لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ) [المائدة : ٢] نسخها قوله : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ) [التوبة : ٥].

وقوله تعالى : (فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ) نسخها قوله تعالى : (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ) [المائدة : ٤٩] فأمّا إذا تحاكم مسلم وذميّ يجب علينا الحكم بينهما بلا خلاف ، لأنّه لا يجوز للمسلم الانقياد لحكم أهل الذّمّة.

ثمّ قال : (وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً) والمعنى أنهم كانوا لا يتحاكمون إليه إلا لطلب الأسهل والأخف كالجلد مكان الرجم ، فإذا لم يحكم بينهم وأعرض عنهم شق عليهم ، وصاروا أعداء له ، فبين تعالى أنّه لا تضره عداوتهم له.

ثمّ قال تعالى : (وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ) أي بالعدل : (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) أي : العادلين.

قوله تعالى : (وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ) (٤٣)

قوله تعالى : (وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ) كقوله : (كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى) [البقرة : ٢٦٠] وقد تقدم.

[قوله :](٥) «وعندهم التّوراة» «الواو» للحال ، و «التوراة» يجوز أن تكون مبتدأ والظرف

__________________

(١) في أ : الحكم.

(٢) ينظر : تفسير الرازي ١١ / ١٨٦.

(٣) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٥٠٤) وعزاه لأبي عبيد وابن المنذر وابن مردويه عن ابن عباس.

(٤) تقدم في بداية السورة آية ٢.

(٥) سقط في أ.

٣٤٣

خبره ، ويجوز أن يكون الظرف حالا ، و «التوراة» فاعل به لاعتماده على ذي الحال.

والجملة الاسميّة أو الفعليّة في محلّ نصب على الحال.

وقوله : (فِيها حُكْمُ اللهِ) ، «فيها» خبر مقدم ، و «حكم» مبتدأ ، أو فاعل كما تقدم في «التوراة» ، والجملة حال من «التوراة» ، أو الجار وحده ، و «حكم» مصدر مضاف لفاعله.

وأجاز الزمخشريّ (١) : ألّا يكون لها محل من الإعراب ، بل هي مبيّنة ؛ لأنّ عندهم ما يغنيهم عن التحكيم ، كما تقول : «عندك زيد ينصحك ، ويشير عليك بالصّواب ، فما تصنع بغيره؟».

وقوله تعالى : (ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ) معطوف على «يحكّمونك» ، فهو في سياق التعجّب المفهوم من «كيف» وذلك إشارة إلى حكم الله الذي في التوراة ، ويجوز أن يعود إلى التحكيم والله أعلم.

فصل

هذا تعجّب من الله لنبيه [عليه الصلاة والسلام] من تحكيم اليهود إياه (٢) بعد علمهم بما في التوراة من حدّ الزّاني ، ثم تركهم قبول ذلك الحكم فيتعدلون عما يعتقدونه حكما [حقا](٣) إلى ما يعتقدونه باطلا طلبا للرخصة فظهر جهلهم وعنادهم من وجوه :

أحدها : عدولهم عن حكم كتابهم.

والثاني : رجوعهم إلى حكم من كانوا يعتقدون أنه مبطل.

والثالث : إعراضهم عن حكمه بعد أن حكّموه ، فبين الله تعالى حال جهلهم وعنادهم ؛ لئلا يغترّ مغترّ أنهم أهل كتاب الله ومن المحافظين على أمر الله.

ثمّ قال تعالى : (وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ) أي بالتوراة وإن كانوا يظهرون الإيمان بها ، وقيل: هذا إخبار بأنهم لا يؤمنون أبدا ، وهو خبر عن المستأنف لا عن الماضي.

وقيل : إنّهم وإن طلبوا الحكم منك فما هم بمؤمنين بك ، ولا بالمعتقدين في صحّة حكمك.

قوله تعالى : (إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللهِ وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ)(٤٤)

قوله تعالى : (إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ) الآية.

__________________

(١) ينظر : الكشاف ١ / ٦٣٦.

(٢) في أ : إياهم.

(٣) سقط في أ.

٣٤٤

قوله سبحانه : (فِيها هُدىً) يحتمل الوجهين المذكورين في قوله : (وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ) ، ف «هدى» مبتدأ أو فاعل ، والجملة حال من «التّوراة».

وقوله : «يحكم بها» يجوز أن تكون جملة مستأنفة ، ويجوز أن تكون منصوبة المحلّ على الحال ، إمّا من الضّمير في «فيها» ، وإمّا من «التّوراة».

وقوله : (الَّذِينَ أَسْلَمُوا) صفة ل «النّبيّون» ، وصفهم بذلك على سبيل المدح ، والثّناء ، لا على سبيل التّفصيل ؛ فإنّ الأنبياء كلّهم مسلمون ، وإنّما أثنى عليهم بذلك ، كما تجري الأوصاف على أسماء الله تعالى.

قال الزّمخشريّ (١) : أجريت على النّبيّين على سبيل المدح كالصفات الجارية على القديم ـ سبحانه ـ لا للتفصلة والتوضيح ، وأريد بإجرائها التّعريض باليهود ، وأنّهم بعداء من ملّة الإسلام الذي هو دين الأنبياء كلّهم في القديم والحديث ، فإن اليهود بمعزل عنها.

وقوله تعالى : (الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا) منار على ذلك ، أي : دليل على ما ادّعاه.

فإن قلت : (هُدىً وَنُورٌ) العطف يقتضي المغايرة ، فالهدى محمول على بيان الأحكام والشرائع (٢) والتكاليف ، والنّور بيان التّوحيد ، والنّبوّة ، والمعاد.

وقال الزّجّاج (٣) : الهدى بيان الحكم الذي يستفتون فيه النبيّ ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ ، والنور بيان أنّ أمر النبيّ [صلى الله عليه وعلى آله وسلم] حقّ.

وقوله : (يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ) يريد الذين كانوا بعد موسى [عليه‌السلام].

وقوله (الَّذِينَ أَسْلَمُوا) أي : سلّموا وانقادوا لأمر الله كما أخبر عن إبراهيم [عليه‌السلام] : (إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) [البقرة : ١٣١] ، وكقوله : (وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً) [آل عمران : ٨٣].

وأراد بالنبيّين الذين بعثوا بعد موسى [عليه وعليهم‌السلام] ليحكموا بما في التوراة [وقد أسلموا لحكم التوراة وحكموا بها ، فإنّ من النبيين من لم يحكم بحكم التوراة منهم](٤) عيسى [عليه الصلاة والسلام] قال تعالى : (لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً).

وقال الحسن والزهري وعكرمة ، وقتادة والسديّ : يحتمل أن يكون المراد بالنبيين هم محمّد [صلى الله عليه وعلى آله وسلم] حكم على اليهود بالرجم (٥) ، وكان هذا حكم التّوراة ، وذكره بلفظ الجمع تعظيما له كقوله تعالى : (إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ) [النحل : ١٢٠] وقوله تعالى : (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ) [النساء : ٥٤] لأنه كان قد اجتمع فيه من خصال الخير ما كان حاصلا لأكثر الأنبياء.

__________________

(١) ينظر : الكشاف ١ / ٦٣٦.

(٢) في أ : بيان الأحكام.

(٣) ينظر : تفسير الرازي ١٢ / ٣.

(٤) سقط في أ.

(٥) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٤ / ٥٨٩) عن عكرمة.

٣٤٥

قال ابن الأنباري (١) : هذا ردّ على اليهود والنّصارى [لأنّ بعضهم كانوا يقولون : الأنبياء كلهم يهود أو نصارى ، فقال تعالى :](٢)(يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا) يعني : أنّ الأنبياء ما كانوا موصوفين باليهودية والنصرانيّة بل كانوا مسلمين لله منقادين لتكاليفه.

وقوله تعالى : (لِلَّذِينَ هادُوا) فيه وجهان :

أحدهما : أن النبيين إنما يحكمون بالتوراة لأجلهم ، وفيما بينهم ، والمعنى : يحكم بها النبيون الذين أسلموا على الذين هادوا ؛ كقوله تعالى : (وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها) [الإسراء : ٧] أي : فعليها ، وكقوله : (أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ) [الرعد : ٢٥] أي : عليهم.

وقيل : فيه حذف كأنه قال : للذين هادوا وعلى الذين هادوا فحذف أحدهما اختصارا.

والثاني : أنّ المعنى على التقديم والتأخير ، أي : إنّا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور للذين هادوا يحكم بها النبيون الذين أسلموا.

وتقدم تفسير الربانيّين ، وأمّا الأحبار فقال ابن عباس وابن مسعود [رضي الله عنهما] : هم الفقهاء.

واختلف أهل اللّغة (٣) في واحده قال الفرّاء (٤) : إنّه «حبر» بكسر الحاء وسمّي بذلك لمكان الحبر الذي يكتب به ؛ لأنّه يكون صاحب كتب ، وقال أبو عبيد (٥) : «حبر» بفتح الحاء ، وقال اللّيث (٦) : هو «حبر» ، و «حبر» بفتح الحاء وكسرها.

ونقل البغويّ (٧) : أنّ الكسر أفصح ، وهو العالم المحكم للشّيء.

وقال الأصمعيّ (٨) : لا أدري أهو الحبر أو الحبر ، وأنكر أبو الهيثم الكسر ، والفراء «الفتح» ، وأجاز أبو عبيد الوجهين ، واختار الفتح.

قال قطرب : هو من الحبر الذي هو بمعنى الجمال بفتح الحاء وكسرها وفي الحديث «يخرج من النّار رجل ذهب حبره وسبره» (٩) أي حسنه وهيئته ، ومنه التّحبير أي : التحسين قال تعالى: (وَأَزْواجُكُمْ تُحْبَرُونَ) [الزخرف : ٧٠] أي : يفرحون ويزينون ، وسمّي ما يكتب حبرا لتحسينه الخطّ ، وقيل : لتأثيره وقال الكسائيّ ، والفرّاء ، وأبو عبيدة : اشتقاقه من الحبر الذي يكتب به.

وقيل : الرّبّانيّون هاهنا من النّصارى ، والأحبار من اليهود وقيل : كلاهما من

__________________

(١) ينظر : تفسير الرازي ١٢ / ٤.

(٢) سقط في أ.

(٣) ينظر : تفسير الرازي ١٢ / ٤.

(٤) ينظر : تفسير الرازي ١٢ / ٤.

(٥) ينظر : المصدر السابق.

(٦) ينظر : المصدر السابق.

(٧) ينظر : تفسير البغوي ٢ / ٤٠.

(٨) ينظر : تفسير الرازي ١٢ / ٤.

(٩) ذكره الفخر الرازي في «التفسير الكبير» (١٢ / ٤).

٣٤٦

اليهود ، وهذا يقتضي كون الربانيّين أعلى حالا من الأحبار ، فيشبه أن يكون الربانيّون كالمجتهدين والأحبار كآحاد العلماء.

قوله : (لِلَّذِينَ هادُوا) في هذه «اللّام» ثلاثة أقوال :

أظهرها : أنّها متعلّقة ب «يحكم» ، فعلى هذا معناها الاختصاص ، وتشمل من يحكم له ، ومن يحكم عليه ، ولهذا ادّعى بعضهم أنّ في الكلام حذفا تقديره : «يحكم بها النبيون للذين هادوا وعليهم» ذكره ابن عطيّة (١) وغيره.

والثاني : أنها متعلقة ب «أنزلنا» ، أي : أنزلنا التوراة للّذين هادوا يحكم بها النّبيّون.

والثالث : أنها متعلقة بنفس «هدى» أي : هدى ونور للذين هادوا ، وهذا فيه الفصل بين المصدر ومعموله ، وعلى هذا الوجه يجوز أن يكون (لِلَّذِينَ هادُوا) صفة ل (هُدىً وَنُورٌ) ، أي : هدى ونور كائن للذين هادوا وأوّل هذه الأقوال هو المقصود.

قوله تعالى : (وَالرَّبَّانِيُّونَ) عطف على «النبيّون» أي : [إنّ الرّبّانيّين وقد تقدم تفسيرهم في آل عمران] يحكمون أيضا بمقتضى ما في التّوراة.

قال أبو البقاء (٢) : «وقيل : الرّبّانيون «مرفوع» بفعل محذوف ، أي : ويحكم الربانيون والأحبار بما استحفظوا» انتهى.

يعني أنّه لما اختلف متعلّق الحكم غاير بين الفعلين أيضا ، فإن النبيين يحكمون بالتوراة ، والأحبار والربانيون يحكمون بما استحفظهم الله تعالى ، وهذا بعيد عن الصّواب ؛ لأنّ الذي استحفظهم هو مقتضى ما في التّوراة ، فالنبيّون والربانيّون حاكمون بشيء واحد ، على أنّه سيأتي أنّ الضّمير في «استحفظوا» عائد على النّبيين فمن بعدهم.

قال ابن عبّاس وغيره : الربانيون يرشدون الناس بالعلم ، ويربونهم للصغار قبل كبار (٣).

وقال أبو رزين (٤) : الرّبّانيّون العلماء ، والحكماء (٥) ، وأمّا الأحبار : فقال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ : هم الفقهاء (٦) والحبر والحبر بالفتح والكسر : الرجل العالم ، مأخوذ من التّحبير ، والتّحبر ؛ فهم يحبّرون العلم ويزيّنونه ، فهو محبّر في صدورهم.

قال الجوهريّ (٧) : والحبر والحبر واحد أحبار اليهود ، وهو بالكسر أفصح ؛ لأنّه يجمع على أفعال دون الفعول.

__________________

(١) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ١٩٥.

(٢) ينظر : الإملاء ١ / ٢١٦.

(٣) ذكره القرطبي في تفسيره ٦ / ١٢٣.

(٤) ينظر : تفسير القرطبي ٦ / ١٢٣.

(٥) ينظر : المصدر السابق.

(٦) ذكره الرازي في «التفسير الكبير» (١٢ / ٤). وأخرجه الطبري (٤ / ٥٩٠) عن الضحاك بمعناه.

(٧) ينظر : تفسير القرطبي ٦ / ١٢٣ ، الصحاح (٢ / ٦٢٠)

٣٤٧

قال الفرّاء (١) : هو حبر بالكسر ، يقال ذلك للعالم.

وقال الثّوريّ (٢) : سألت الفرّاء : لم سمّي الحبر حبرا؟ فقال : يقال للعالم حبر وحبر ، فالمعنى مداد حبرهم ، ثم حذف كما قال : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) [يوسف : ٨٢] [أي أهل القرية](٣).

قال : فسألت الأصمعيّ ، فقال : ليس هذا بشيء ، إنما سمّي حبرا لتأثيره ، يقال : على أسنانه حبر ، أي : صفرة أو سواد.

وقال المبرّد : وسمّي الحبر الذي يكتب به حبرا ؛ لأنه يحبّر به ، أي : يحقّق به.

وقال أبو عبيد (٤) : والذي عندي في واحد الأحبار أنّه للحبر بالفتح ، ومعناه العالم بتحبير الكلام ، والعلم تحسينه ، والحبر بالكسر : الذي يكتب به.

قوله تعالى : (بِمَا اسْتُحْفِظُوا) أجاز أبو البقاء فيه ثلاثة أوجه :

أحدها : أنّ «بما» بدل من قوله : «بها» بإعادة العامل لطول الفصل ، قال : «وهو جائز وإن لم يطل» أي : يجوز إعادة العامل في البدل ، وإن لم يطل.

قلت (٥) : وإن لم يفصل أيضا.

الثاني : أن يكون متعلّقا بفعل محذوف ، أي : ويحكم الربانيون بما استحفظوا ، كما قدمته(٦) عنه.

والثالث : أنّه مفعول به ، أي : يحكمون بالتوراة بسبب استحفاظهم ذلك ، وهذا الوجه الأخير هو الذي نحا إليه الزمخشريّ ؛ فإنه قال : «بما استحفظوا بما سألهم أنبياؤهم حفظه من التوراة ، أي : بسبب سؤال أنبيائهم إيّاهم أن يحفظوه من التّبديل والتّغيير» ، وهذا على أنّ الضمير يعود على الربانيين ، والأحبار ، دون النّبيّين ، فإنّه قدّر الفاعل المحذوف «النبيين» ، وأجاز أن يعود الضمير في «استحفظوا» على النبيين والربانيين والأحبار ، وقدّر الفاعل المنوب عنه : الباري تعالى ، أي : بما استحفظهم الله تعالى ، يعني : بما كلّفهم حفظه.

وقوله تعالى : (مِنْ كِتابِ اللهِ) ؛ قال الزمخشريّ (٧) : و «من» في (مِنْ كِتابِ اللهِ) للتّبيين ، يعني أنّها لبيان جنس المبهم في «بما» فإنّ «ما» يجوز أن تكون موصولة اسميّة بمعنى «الّذي» ، والعائد محذوف ، أي : بما استحفظوه ، وأن تكون مصدريّة ، أي : باستحفاظهم.

__________________

(١) ينظر : تفسير القرطبي ٦ / ١٢٣.

(٢) ينظر : تفسير القرطبي ٦ / ١٢٣.

(٣) سقط في أ.

(٤) ينظر : تفسير القرطبي ٦ / ١٢٣.

(٥) في ب : وقال غيره.

(٦) في ب : تقدم.

(٧) ينظر : الكشاف ١ / ٦٣٧.

٣٤٨

وجوّز أبو البقاء (١) : أن تكون حالا من أحد شيئين : إمّا من «ما» الموصولة ، أو من عائدها المحذوف ، وفيه نظر من حيث المعنى.

وقوله : «وكانوا» داخل في حيّز الصّلة أي : وبكونهم شهداء عليه ، أي : رقباء لئلّا يبدل ، ف «عليه» متعلق ب «شهداء» ، والضمير في «عليه» يعود على (كِتابِ اللهِ) وقيل : على الرسول عليه الصلاة والسلام ، أي : شهداء على نبوّته ورسالته.

وقيل : على الحكم ، والأوّل هو الظاهر.

قوله تعالى : (بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللهِ) أي : استودعوا. وحفظ كتاب الله على وجهين :

أحدهما : أن يحفظ فلا ينسى.

والثاني : أن يحفظ فلا يضيع ، فإن كان استحفظوا من صلة الأحبار ، فالمعنى : العلماء بما استحفظوا.

وقال الزجاج (٢) : يحكمون بما استحفظوا.

قوله تعالى (وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ) أي : هؤلاء النبيون والربانيون والأحبار كانوا شهداء على أن كل ما في التوراة حق وصدق من عند الله تعالى فلا جرم كانوا يمضون أحكام التوراة ، ويحفظونها عن التحريف والتغيير.

ثم قال تعالى : (فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ) لمّا قرر أن النبيين والربانيين والأحبار ، كانوا قائمين بإمضاء أحكام التوراة من غير مبالاة ، خاطب اليهود الذي كانوا في عصر النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ ، ومنعهم من التحريف والتغيير.

واعلم أن إقدام القوم على التحريف لا بد وأن يكون لخوف أو رهبة أو لطمع ورغبة ، ولما كان الخوف أقوى تأثيرا من الطمع قدم تعالى ذكره فقال : (فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ) والمعنى لا تحرفوا كتابي للخوف من الناس ، ومن الملوك والأشراف ، فتسقطوا عنهم الحدود الواجبة عليهم ، وتستخرجوا الحيل في إسقاط تكاليف الله عنهم ، ولما ذكر أمر الرهبة أتبعه بالرغبة فقال تعالى : (وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً) أي : كما نهيتكم عن تغيير أحكامي لأجل الخوف والرهبة فكذلك أنهاكم عن التغيير والتبديل لأجل الطمع في الجاه والمال والرشوة ، فإن متاع الدنيا قليل. ولما منعهم من الأمرين أتبعه بالوعيد الشديد ، فقال تعالى : (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ) وهذا تهديد لليهود في افترائهم على تحريف حكم الله في حد الزاني المحصن ، يعني أنهم لما أنكروا حكم الله المنصوص عليه في التوراة ، قالوا : إنه غير واجب فهم كافرون على

__________________

(١) ينظر : الإملاء ١ / ٢١٦.

(٢) ينظر : تفسير الرازي ١٢ / ٥.

٣٤٩

الإطلاق بموسى والتوراة وبمحمد والقرآن وبعيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام.

فصل

قالت الخوارج (١) : من عصى الله فهو كافر ، واحتجوا بهذه الآية ، وقالوا : إنها نص في أن كل من حكم بغير ما أنزل الله فهو كافر ، وكل من أذنب فقد حكم بغير ما أنزل الله ، فوجب أن يكون كافرا ، وقال الجمهور : ليس الأمر كذلك ، وذكروا عن هذه الشبهة أجوبة منها أن هذه الآية نزلت في اليهود فتكون مختصة بهم.

قال قتادة والضحاك : نزلت هذه الآيات الثلاث في اليهود دون من أساء من هذه الأمة(٢).

وروى البراء بن عازب : أن هذه الثلاثة آيات في الكافرين (٣) ، وهذا ضعيف ؛ لأن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب وقال آخرون : المراد (مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ) كلام أدخل كلمة «من» في معرض الشرط فيكون للعموم ، وقولهم : من الذين سبق ذكرهم ، زيادة في النص ، وذلك غير جائز. وقال عطاء : هو كفر دون كفر (٤).

وقال طاووس : ليس بكفر ينقل عن الملة ، ولا بكفر بالله واليوم الآخر (٥). فكأنهم حملوا الآية على كفر النعمة لا على كفر الدين ، وهو أيضا ضعيف ، لأن إطلاق لفظ الكافر إنما ينصرف إلى الكفر في الدين وقال ابن الأنباري (٦) : يجوز أن يكون المعنى ومن لم يحكم بما أنزل الله فقد فعل فعلا يضاهي أفعال الكفار ، وهذا أيضا ضعيف لأنه عدول عن الظاهر.

وقال عبد العزير (٧) : قوله (بِما أَنْزَلَ) صيغة عموم ، ومعنى (أَنْزَلَ اللهُ) أي : نص الله ، حكم الله في كل ما أنزله ، والفاسق لم يأت بضد حكم الله إلا في القليل من العمل ، أما في الاعتقاد والإقرار فهو موافق ، وهذا أيضا ضعيف ، لأنه لو كانت هذه الآية [وعيدا مخصوصا](٨) لمن خالف حكم الله تعالى ، في كل ما أنزله الله لم يتناول هذا الوعيد

__________________

(١) ينظر : تفسير الرازي ١٢ / ٦.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٤ / ٥٩٢) عن الضحاك ، وينظر : تفسير البغوي ٢ / ٤٠.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٤ / ٥٩٢) عن البراء بن عازب مرفوعا وأخرجه أيضا (٤ / ٥٩٢) عن أبي صالح.

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٤ / ٥٩٥) عن عطاء.

(٥) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٤ / ٥٩٦) عن طاوس وقد ورد هذا المعنى أيضا عن ابن عباس.

أخرجه الحاكم (٢ / ٣١٣).

وقال : صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٥٠٧) وزاد نسبته لسعيد بن منصور والفريابي وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في سننه.

(٦) ينظر : تفسير الرازي ١٢ / ٦.

(٧) ينظر : المصدر السابق.

(٨) في أ : وعيدها مخصوص.

٣٥٠

اليهود بسبب مخالفتهم حكم الله في الرجم ، وأجمع المفسرون أن هذا الوعيد يتناول اليهود بسبب مخالفتهم حكم الله في واقعة الرجم ، فدلّ على سقوط هذا الجواب.

وقال عكرمة (١) : قوله تعالى : (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ) إنما يتناول من أنكر بقلبه وجحد بلسانه ، أما من عرف بقلبه كونه حكم الله إلا أنه أتى بما يضاده ، فهو حاكم بما أنزل الله ، ولكنه تارك له فلا يلزم دخوله تحت هذه الآية.

قوله تعالى : (وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (٤٥)

قوله تعالى : (وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ).

أي كتبنا عليهم في التوراة حكم أنواع القصاص وهو أن حكم الزاني المحصن «الرجم» فغيّروه وبدّلوه ، وبيّن أيضا في التوراة : أن النفس بالنفس فغيّروا هذا الحكم ففضلوا بني النضير على بني قريظة ، وخصصوا إيجاب القود ببني قريظة دون بني النضير فهذا أوجه النظم ، ومعنى «كتبنا» أي : فرضنا ، وكان شر القصاص أو العفو ، وما كان فيهم الدية والضمير في «عليهم» ل «الذين (هادُوا). قوله تعالى : (أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) : «أن» واسمها وخبرها في محل نصب على المفعولية ب «كتبنا» ، والتقدير : وكتبنا عليهم أخذ النفس بالنفس.

وقرأ الكسائي (٢) «والعين» وما عطف عليها بالرفع ، وقرأ نافع وحمزة وعاصم بنصب الجميع.

وقرأ أبو عمرو ، وابن كثير ، وابن عامر (٣) بالنصب فيما عدا «الجروح» فإنهم يرفعونها.

فأما قراءة الكسائي فوجّهها أبو علي الفارسي بثلاثة أوجه :

أحدها : أن تكون «الواو» عاطفة جملة اسمية على جملة فعلية ، فتعطف الجمل كما تعطف المفردات ، يعني أن قوله : «والعين» مبتدأ ، و «بالعين» خبره ، وكذا ما بعدها ، والجملة الاسمية عطف على الفعلية من قوله : «وكتبنا» وعلى هذا فيكون ذلك ابتداء تشريع ، وبيان حكم جديد غير مندرج فيما كتب في التوراة.

__________________

(١) ينظر : تفسير الرازي ١٢ / ٦.

(٢) ينظر : السبعة ٢٤٤ ، والحجة ٣ / ٢٢٣ ، وحجة القراءات ٢٢٥ ، والعنوان ٨٧ ، وإعراب القراءات ١ / ١٤٦ ، وشرح شعلة ٣٥٠ ، وشرح الطيبة ٤ / ٢٢٨ ، ٢٢٩ ، وإتحاف ١ / ٥٣٦.

(٣) ينظر : القراءة السابقة.

٣٥١

قالوا : وليست مشركة للجملة مع ما قبلها لا في اللفظ ولا في المعنى.

وعبّر الزمخشري عن هذا الوجه بالاستئناف قال : «أو» للاستئناف ، والمعنى : فرضنا عليهم أن النفس مأخوذة بالنفس مقتولة بها ، إذا قتلها بغير حقّ ، وكذلك العين مفقودة بالعين ، والأنف مجدوع بالأنف ، والأذن مصلومة أو مقطوعة بالأذن والسّنّ مقلوعة بالسن ، والجروح قصاص وهو المقاصّة ، وتقديره : أن النفس مأخوذة بالنفس ، سبقه إليه الفارسي ، إلا أنه قدر ذلك في جميع المجرورات ، أي : والعين مأخوذة بالعين إلى آخره ، والذي قدّره الزمخشري مناسب جدا ، فإنه قدر متعلّق كل مجرور بما يناسبه ، فالفقء (١) للعين ، والقلع للسن ، والصّلم للأذن ، والجدع للأنف ، إلا أن أبا حيّان [كأنه](٢) غضّ منه حيث قدّر الخبر الذي تعلّق به المجرور كونا مقيدا ، والقاعدة في ذلك إنما يقدّر كونا مطلقا.

قال : «وقال الحوفي : «بالنفس» يتعلّق بفعل محذوف تقديره : يجب أو يستقر ، وكذا العين بالعين وما بعدها ، فقدّر الكون المطلق ، والمعنى : يستقر قتلها بقتل النفس» ، إلا أنه قال قبل ذلك : «ينبغي أن يحمل قول الزمخشري على تفسير المعنى لا تفسير الإعراب» ثم قال : فقدّر ـ يعني : الزمخشري ـ ما يقرب من الكون المطلق ، وهو : «مأخوذ» ، فإذا قلت : «بعت الشياه شاة بدرهم» ، فالمعنى : مأخوذة بدرهم ، وكذلك الحر بالحر أي : مأخوذ.

والوجه الثاني من توجيه الفارسيّ : أن تكون «الواو» عاطفة جملة اسمية على الجملة من قوله : (أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ). [لكن من حيث المعنى لا من حيث اللفظ ، فإن معنى (كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) قلنا لهم : إن النفس بالنفس](٣) فالجمل مندرجة تحت الكتب من حيث المعنى لا من حيث اللفظ.

وقال ابن عطية (٤) : «ويحتمل أن تكون «الواو» عاطفة على المعنى» وذكر ما تقدم ، ثم قال : ومثله لما كان المعنى في قوله تعالى : (يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ) [الصافات : ٤٥] يمنحون (٥) عطف «وحورا عينا» عليه ، فنظّر هذه الآية بتلك لاشتراكهما في النظر إلى المعنى ، دون اللفظ وهو حسن.

قال أبو حيان (٦) : وهذا من العطف على التوهم ؛ إذ توهم في قوله : (أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) : النفس بالنفس ، وضعّفه بأن العطف على التوهم لا ينقاس.

والزمخشري نحا إلى هذا المعنى ، ولكنه عبّر بعبارة أخرى فقال : [الرفع للعطف](٧)

__________________

(١) ي ب : فالفقأة.

(٢) سقط في أ.

(٣) سقط في أ.

(٤) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ١٩٧.

(٥) في ب : يمحون.

(٦) ينظر : البحر المحيط ٣ / ٥٠٦.

(٧) سقط في أ.

٣٥٢

على محلّ «أن النفس» ؛ لأن المعنى : (وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) ، وإما لإجراء «كتبنا» «مجرى» قلنا ، وإما أن معنى الجملة التي هي (النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) مما يقع عليه الكتب ، كما تقع عليه القراءة تقول : كتبت : الحمد لله وقرأت : سورة أنزلناها ، ولذلك قال الزّجّاج (١) : «لو قرىء إن النفس بالنفس بالكسر لكان صحيحا».

قال أبو حيان (٢) : هذا الوجه الثاني من توجيه أبي عليّ ، إلا أنه خرج عن المصطلح ، حيث جعله من العطف على المحل وليس منه ، لأن العطف على المحلّ هو العطف على الموضع ، وهو محصور ليس هذا منه ، ألا ترى أنا لا نقول : (أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) في محل رفع ؛ لأن طالبه مفقود ، بل «أن» وما في حيّزها بتأويل مصدر لفظه وموضعه نصب ؛ إذ التقدير : «كتبنا عليهم أخذ النفس» ، قال شهاب الدين (٣) : والزمخشري لم يعن أن (٤) «أن» وما في حيّزها في محل رفع ، فعطف عليها المرفوع حتى يلزمه أبو حيان بأن لفظها ومحلّها نصب ، إنما عنى أن اسمها محلّه الرفع قبل دخولها ، فراعى العطف عليه كما راعاه في اسم «إن» المكسورة وهذا الرد ليس لأبي حيّان ، بل سبقه إليه أبو البقاء ، فأخذه منه.

قال أبو البقاء (٥) : «ولا يجوز أن يكون معطوفا على «أنّ» وما عملت فيه في موضع نصب» انتهى.

وليس بشيء لما تقدم.

قال أبو شامة : فمعنى الحديث : قلنا لهم : النّفس بالنفس ، فحمل (الْعَيْنَ بِالْعَيْنِ) على هذا ، لأنّ «أنّ» لو حذفت لاستقام المعنى بحذفها كما استقام بثبوتها ، وتكون «النفس» مرفوعة ، فصارت «أن» هنا ك «إن» المكسورة في أن حذفها لا يخلّ بالجملة ، فجاز العطف على محل اسمها ، كما يجوز على محلّ اسم المكسورة ، وقد حمل على ذلك : (أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ) [التوبة : ٣].

قال ابن الحاجب : «ورسوله» بالرفع معطوف على اسم «أنّ» وإن كانت مفتوحة لأنها في حكم المكسورة ، وهذا موضع لم ينبه عليه النحويون.

قال شهاب الدين (٦) : بلى قد نبّه النحويون على ذلك ، واختلفوا فيه ، فجوّزه بعضهم ، وهو الصحيح ، وأكثر ما يكون ذلك بعد «علم» أو ما في معناه كقوله : [الوافر]

١٩٦٩ ـ وإلّا فاعلموا أنّا وأنتم

بغاة ما بقينا في شقاق (٧)

__________________

(١) ينظر : معاني القرآن ٢ / ١٩٦.

(٢) ينظر : البحر المحيط ٣ / ٥٠٦.

(٣) ينظر : الدر المصون ٢ / ٥٣٠.

(٤) في ب : يعرفان.

(٥) ينظر : الإملاء ١ / ٢١٦.

(٦) ينظر : الدر المصون ٢ / ٥٣١.

(٧) البيت لبشر بن أبي خازم ينظر : ديوانه ١٦٥ ، والكتاب ١ / ٢٩٠ والإنصاف ١٩٠ ، ابن يعيش ٨ / ٦٩ ، والدر المصون ٢ / ٥٣١.

٣٥٣

وقوله تعالى : (وَأَذانٌ مِنَ اللهِ) [التوبة : ٣] الآية ؛ لأن «الأذان» بمعنى الإعلام.

الوجه الثالث : أن «العين» عطف على الضمير المرفوع المستتر في الجار الواقع خبرا ؛ إذ التقدير أنّ النفس بالنفس هي والعين ، وكذا ما بعدها ، والجار والمجرور بعدها في محل نصب على الحال مبينة للمعنى ؛ إذ المرفوع هنا مرفوع بالفاعلية لعطفه على الفاعل المستتر وضعّف هذا بأن هذه أحوال لازمة ، والأصل أن تكون منتقلة ، وبأنه يلزم العطف على الضمير المرفوع المتصل من غير فصل بين المتعاطفين ، ولا تأكيد ولا فصل ب «لا» بعد حرف العطف كقوله : (ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا) [الأنعام : ١٤٨] وهذا لا يجوز عند البصريين إلا ضرورة.

قال أبو البقاء (١) : وجاز العطف من غير توكيد كقوله : (ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا) قال شهاب الدين (٢) : قام الفصل ب «لا» بين حرف العطف ، والمعطوف مقام التوكيد ، فليس نظيره.

وللفارسي بحث في قوله : (ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا) مع سيبويه ، فإن سيبويه (٣) يجعل طول الكلام ب «لا» عوضا عن التوكيد بالمنفصل ، كما طال الكلام في قولهم : «حضر القاضي اليوم امرأة».

قال الفارسي : «هذا يستقيم إذا كان قبل حرف العطف ، أما إذا وقع بعده فلا يسدّ مسدّ الضمير ، ألا ترى أنك لو قلت : «حضر امرأة القاضي اليوم» لم يغن (٤) طول الكلام في غير الموضع الذي ينبغي أن يقع فيه».

قال ابن عطية (٥) : «وكلام سيبويه متجه على النظر النحوي ، وإن كان الطول قبل حرف العطف أتمّ ، فإنه بعد حرف العطف مؤثر ، لا سيما في هذه الآية ، لأن «لا» ربطت المعنى ؛ إذ قد تقدمها نفي ، ونفت (٦) هي أيضا عن «الآباء» فيمكن العطف.

واختار أبو عبيد قراءة رفع الجميع ، وهي رواية الكسائي ؛ لأن أنسا ـ رضي الله عنه ـ رواها قراءة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وروى أنس عنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ أيضا «أن النّفس بالنّفس» بتخفيف «أن» ورفع «النفس» ، وفيها تأويلان :

أحدهما : أن تكون «أن» مخفّفة من الثقيلة ، واسمها ضمير الأمر والشأن محذوف ، و (النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) مبتدأ وخبر ، في محل رفع خبرا ل «أن» المخففة ، كقوله : (أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) [يونس : ١٠] فيكون المعنى كمعنى المشدّدة.

__________________

(١) ينظر : الإملاء ١ / ٢١٦.

(٢) ينظر : الدر المصون ٢ / ٥٣١.

(٣) ينظر : الكتاب ١ / ٣٩٠.

(٤) في ب : تسن.

(٥) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ١٩٧.

(٦) في أ : ونفيت.

٣٥٤

والثاني : أنها «أن» المفسرة ؛ لأنها بعد ما هو بمعنى القول لا حروفه وهو «كتبنا» ، والتقدير : أي النفس بالنفس ، ورجّح هذا على الأول بأنه يلزم من الأول وقوع المخففة بعد غير العلم ، وهو قليل أو ممنوع ، وقد يقال : إن «كتبنا» لمّا كان بمعنى «قضينا» قرب من أفعال اليقين.

وأما قراءة نافع ومن معه فالنّصب على اسم «أنّ» لفظا ، وهي النفس ، والجار بعده خبره.

و «قصاص» خبر «الجروح» ، أي : وأن الجروح قصاص ، وهذا من عطف الجمل ، عطفت الاسم على الاسم ، والخبر على الخبر ، كقولك «إنّ زيدا قائم وعمرا منطلق» عطفت «عمرا» على «زيدا» ، و «منطلق» على «قائم» ، ويكون الكتب شاملا للجميع ، إلّا أنّ في كلام ابن عطية ما يقتضي أن يكون «قصاص» خبرا على المنصوبات أجمع ، فإنه قال : وقرأ نافع وحمزة وعاصم (١) بنصب ذلك كلّه ، و «قصاص» خبر «أنّ» ، وهذا وإن كان يصدق أن أخذ النفس بالنفس والعين بالعين قصاص ، إلا أنه صار هنا بقرينة المقابلة مختصا بالجروح ، وهو محل نظر.

وأما قراءة أبي عمرو ومن معه ، فالمنصوب كما تقدم في قراءة نافع ، لكنهم لم ينصبوا «الجروح» قطعا له عما قبله ، وفيه أربعة أوجه : الثلاثة المذكورة في توجيه قراءة الكسائي ، وقد تقدم إيضاحه.

والرابع : أنه مبتدأ وخبره «قصاص» ، يعني : أنه ابتداء تشريع ، وتعريف حكم جديد.

قال أبو علي : «فأمّا (وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ) [فمن رفعه يقطعه عما قبله ، فإنه يحتمل هذه الوجوه الثلاثة التي ذكرناها في قراءة من رفع (وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ) ، ويجوز أن يستأنف (وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ)](٢) ليس على أنه مما كتب عليهم في التوراة ، ولكنه على الاستئناف ، وابتداء تشريع» انتهى.

إلا أن أبا شامة قال ـ قبل أن يحكي عن الفارسي هذا الكلام ـ : «ولا يستقيم في رفع الجروح الوجه الثالث ، وهو أنه عطف على الضمير الذي في خبر «النفس» وإن جاز فيما قبلها ، وسببه استقامة المعنى في قولك : مأخوذة هي بالنفس ، والعين هي مأخوذة بالعين ، ولا يستقيم ، والجروح مأخوذة قصاص ، وهذا معنى قولي (٣) : لما خلا قوله : (الْجُرُوحَ قِصاصٌ) عن «الباء» في الخبر خالف الأسماء التي قبلها ، فخولف بينهما في الإعراب».

قال شهاب الدين (٤) : وهذا الذي قاله واضح ، ولم يتنبه له كثير من المعربين.

__________________

(١) تقدمت.

(٢) سقط في أ.

(٣) في ب : قولنا.

(٤) ينظر : الدر المصون ٢ / ٥٣٢.

٣٥٥

وقال بعضهم : «إنما رفع «الجروح» ولم ينصب تبعا لما قبله فرقا بين المجمل والمفسر». يعني أن قوله : (النَّفْسَ بِالنَّفْسِ ، وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ) مفسّر غير مجمل ، بخلاف «الجروح» ، فإنها مجملة ؛ إذ ليس كل جرح يجري فيه قصاص ؛ بل ما كان يعرف فيه المساواة ، وأمكن ذلك فيه ، على تفصيل معروف في كتب الفقه.

وقال بعضهم : خولف في الإعراب لاختلاف الجراحات وتفاوتها ، فإذن الاختلاف في ذلك كالخلاف المشار إليه ، وهذان الوجهان لا معنى لهما ، ولا ملازمة بين مخالفة الإعراب ، ومخالفة الأحكام المشار إليها بوجه من الوجوه ، وإنما ذكرتها تنبيها على ضعفها.

وقرأ نافع (١) : «والأذن بالأذن» سواء كان مفردا أم مثنى ، كقوله : (كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً) [لقمان : ٧] بسكون الذال ، وهو تخفيف للمضموم ك «عنق» في «عنق» والباقون بضمهما ، وهو الأصل ، ولا بد من حذف مضاف في قوله : (وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ) : إمّا من الأول ، وإمّا من الثاني ، وسواء قرىء برفعه أو بنصبه ، تقديره : وحكم الجروح قصاص ، أو : والجروح ذات قصاص.

والقصاص : المقاصّة ، وقد تقدم الكلام عليه في «البقرة» [الآية ١٧٨].

وقرأ (٢) أبيّ بنصب «النفس» ، والأربعة بعدها و «أن الجروح» بزيادة «أن» الخفيفة ، ورفع «الجروح» ، وعلى هذه القراءة يتعيّن أن تكون المخففة ، ولا يجوز أن تكون المفسرة ، بخلاف ما تقدّم من قراءة أنس عنه عليه‌السلام بتخفيف «أن» ورفع «النفس» حيث جوزنا فيها الوجهين ، وذلك لأنه لو قدرتها التفسيرية [وجعلتها معطوفة على ما قبلها فسد من حيث إن «كتبنا» يقتضي أن يكون عاملا لأجل أنّ «أن» المشدّدة غير عامل لأجل «أن» التفسيرية](٣). فإذا انتفى تسلّطه عليها انتفى تشريكها مع ما قبلها ؛ لأنه إذا لم يكن عمل فلا تشريك ، فإذا جعلتها المخفّفة تسلّط عمله عليها ، فاقتضى العمل التشريك في انصباب معنى الكتب عليهما.

فصل

قال ابن عباس ـ رضي الله تعالى عنهما ـ : أخبر الله تعالى بحكمه في التوراة ، وهو أن النفس بالنفس. الخ ، فما بالهم يقتلون بالنفس النفسين ، ويفقأون بالعين العينين (٤) ،

__________________

(١) ينظر : السبعة ٢٤٤ ، والحجة ٣ / ٢٢٧ ، وحجة القراءات ٢٢٧ ، والعنوان ٨٧ ، وإعراب القراءات ١ / ١٤٦ ، وشرح شعلة ٣٤٩ ، وإتحاف ١ / ٥٣٦.

(٢) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ١٩٧ ، والبحر المحيط ٣ / ٥٠٧ ، والدر المصون ٢ / ٥٣٢.

(٣) سقط في أ.

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٨ / ٥٩٨) عن ابن عباس وينظر : تفسير البغوي ٢ / ٤١.

٣٥٦

والمعنى أن من قتل نفسا بغير قود قتله ، ولم يجعل الله لهم دية في نفس ولا جرح ، إنما هو العفو أو القصاص ، وأما الأطراف فكل شخصين جرى القصاص بينهما في النفس جرى القصاص بينهما في جميع الأطراف إذا تماثلا في السلامة ، وإذا امتنع القصاص في النفس امتنع أيضا في الأطراف ، ولما ذكر حكم بعض الأعضاء ذكر الحكم في كلها فعمّ بعض التخصيص فقال : (وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ) ، وهو كل ما يمكن أن يختص فيه مثل الشفتين والذكر والأنثيين والأليتين والقدمين واليدين وغيرهما ، فأما ما لا يمكن القصاص فيه من رضّ لحم أو كسر عظم أو جرح يخاف منه التلف ، ففيه أرش ؛ لأنه لا يمكن الوقوف على نهايته.

وقرأ أبيّ (١) : «فهو كفارته له» ، أي : التصدق كفارة ، يعني الكفارة التي يستحقها له لا ينقص منها وهو تعظيم لما فعل كقوله : (فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ) [الشورى : ٤٠].

قوله تعالى : (فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ) أي : بالقصاص المتعلق بالنفس ، أو بالعين أو بما بعدها ، فهو أي : فذلك التصدق ، عاد الضمير على المصدر لدلالة فعله عليه ، وهو كقوله تعالى : (اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ) [المائدة : ٨].

والضمير في «له» فيه ثلاثة أوجه :

أحدها : وهو الظاهر : أنه يعود على الجاني ، والمراد به وليّ القصاص أي : فالتصدق كفّارة لذلك المتصدق بحقه ، وإلى هذا ذهب كثير من الصحابة فمن بعدهم [ويؤيده قوله تعالى في آية القصاص في البقرة وأن تعفوا أقرب للتقوى](٢).

والثاني : أن الضمير [يراد به](٣) الجاني ، [والمراد بالمتصدق كما تقدم مستحق القصاص ، والمعنى أنه إذا تصدق المستحق على الجاني](٤) ، كان ذلك التصدق كفارة للجاني حيث لم يؤاخذ به.

قال الزمخشري (٥) : «وقيل : فهو كفارة له أي : للجاني إذا تجاوز عنه صاحب الحق سقط عنه ما لزمه في الدنيا والآخرة» فأمّا أجر العافي فعلى الله قال الله تعالى : (فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ) وقال عليه الصلاة والسلام : «من تصدّق من جسده بشيء كفّر الله عنه بقدره من ذنوبه» (٦) وإلى هذا ذهب ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ في آخرين.

الثالث : أن الضمير يعود على المتصدق أيضا ، لكن المراد الجاني نفسه ، ومعنى

__________________

(١) ينظر : البحر المحيط ٣ / ٥٠٧.

(٢) سقط في أ.

(٣) في ب : يعود على.

(٤) سقط في أ.

(٥) ينظر : الكشاف ١ / ٦٣٨.

(٦) ذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (٦ / ٣٠٢) وعزاه لعبد الله ابن الإمام أحمد في «زوائد المسند» والطبراني في الكبير عن عبادة بن الصامت وقال : ورجال المسند رجال الصحيح.

٣٥٧

كونه متصدقا ، أنه إذا جنى جناية ، ولم يعرف به أحد ، فعرف هو بنفسه ، كان ذلك الاعتراف بمنزلة التصدق الماحي لذنبه وجنايته قاله مجاهد.

ويحكى عن عروة بن الزبير أنه أصاب إنسانا في طوافه ، فلم يعرف الرجل من أصابه ، فقال له عروة : «أنا أصبتك ، وأنا عروة بن الزّبير ، فإن كان يعنيك شيء فها أنا ذا» (١) وعلى هذا التأويل يحتمل أن يكون «تصدّق» من الصدقة ، وأن يكون من الصّدق.

قال شهاب الدين (٢) : فالأول واضح ، والثاني معناه أن يتكلف الصدق ؛ لأن ذلك مما يشق.

وقوله تعالى : (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ) يجوز في «من» أن تكون شرطية ، وهو الظاهر ، وأن تكون موصولة ، والفاء في الخبر زائدة لشبهه بالشرط.

و «هم» في قوله : (هُمُ الْكافِرُونَ) ونظائره فصل أو مبتدأ (٣) ، وكله ظاهر مما تقدّم في نظائره.

فإن قيل : إنه ذكر أولا قوله تعالى : (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ) وثانيا : (هُمُ الظَّالِمُونَ) والكفر أعظم من الظلم. فلماذا ذكر أعظم التهديدات ، ثم ذكر بعده الأخف فأيّ فائدة في ذلك؟ فالجواب : أن الكفر من حيث إنه إنكار لنعمة المولى وجحود لها ، فهو كفر ، ومن حيث إنه يقتضي إلقاء النفس في العقاب الدائم الشديد فهو ظلم للنفس ففي الآية الأولى ذكر ما يتعلق بتقصيره في حق نفسه والله أعلم.

قوله تعالى : (وَقَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ)(٤٦)

قوله تعالى : (وَقَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ) الآية ، قد تقدم معنى «قفينا» وأنه من قفا يقفو أي : تبع قفاه في البقرة [الآية ٨٧] وقوله تعالى : (عَلى آثارِهِمْ بِعِيسَى) كلا الجارّين متعلق به على تضمينه معنى «جئنا به على آثارهم قافيا لهم».

وقد تقدم أيضا أن التضعيف فيه ليس للتعدية لعلّة ذكرت هناك ، وإيضاحها أنّ «قفا» متعدّ لواحد قبل التضعيف ، قال تعالى : (وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) [الإسراء : ٣٦] ف «ما» موصولة بمعنى «الذي» هي مفعول ، وتقول العرب : «قفا فلان أثر فلان» أي : تبعه ، فلو كان التضعيف للتعدّي لتعدى إلى اثنين ، فكان التركيب يكون : «ثم قفيناهم عيسى ابن مريم» ف «هم» مفعول ثان ، و «عيسى» أول ، ولكنه ضمّن كما تقدم ، فلذلك تعدى

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٤ / ٦٠٣) عن مجاهد.

(٢) ينظر : الدر المصون ٢ / ٥٣٣.

(٣) في ب : انتهى قوله تعالى فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ.

٣٥٨

بالباء ، و «على» قال (١) الزمخشري (٢) : «قفّيته» مثل : عقّبته إذا أتبعته ، ثم يقال : «قفّيته بفلان» مثل : عقّبته به ، فتعديه إلى الثاني بزيادة «الباء».

فإن قلت : فأين المفعول الأول؟

قلت : هو محذوف ، والظرف الذي هو (عَلى آثارِهِمْ) كالسّادّ مسدّه ؛ لأنه إذا قفّى به على أثره ، فقد قفّى به إياه ، فكلامه هنا ينحو إلى أنّ «قفّيته» مضعفا ك «قفوته» ثلاثيا ثم عدّاه بالباء ، وهذا وإن كان صحيحا من حيث إنّ «فعّل» قد جاء بمعنى «فعل» المجرد ك «قدّر وقدر» ، إلا أنّ بعضهم زعم أن تعدية المتعدي لواحد لا يتعدّى إلى ثان بالباء ، لا تقول في «طعم زيد اللحم» : «أطعمت زيدا باللحم» ولكن الصواب أنه قليل غير ممتنع ، جاءت منه ألفاظ قالوا : «صكّ الحجر الحجر» ثم يقولون : صككت الحجر بالحجر ، و «دفع زيد عمرا» ثم : دفعت زيدا بعمرو ، أي : جعلته دافعا له ، فكلامه إما ممتنع ، أو محمول على القليل ، وقد تقدم في البقرة الإشارة إلى منع ادّعاء حذف المفعول من نحو «قفّينا» في البقرة [الآية ٨٧].

وناقشه أبو حيان (٣) في قوله : «فقد قفّى به إياه» من حيث إنه أتى بالضمير المنفصل مع قدرته على المتصل ، فيقول : «قفيته به».

قال : «ولو قلت : «زيد ضربت بسوط إياه» لم يجز إلا في ضرورة شعر ، بل ضربته بسوط» ، وهذا ليس بشيء ، لأن ذلك من باب قوله : (يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ) [الممتحنة : ١] (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ) [النساء : ١٣١] وقد تقدّم تحقيقه.

والضمير في «آثارهم» : إمّا للنبيين ؛ لقوله : (يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ) وإمّا لمن كتبت عليهم تلك الأحكام ، والأول أظهر ؛ لقوله في موضع آخر : (بِرُسُلِنا وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ).

و «مصدقا» حال من «عيسى».

قال ابن عطية (٤) : وهي حال مؤكّدة ، وكذلك قال في «مصدقا» الثانية ، وهو ظاهر فإن من لازم الرّسول والإنجيل الذي هو كتاب إلهي أن يكونا مصدّقين.

و «لما» متعلّق به.

وقوله : «من التوراة» حال : إما من الموصول ، وهو «ما» المجرورة باللام ، وإما من الضمير المستكنّ في الظرف لوقوعه صلة ، ويجوز أن تكون لبيان جنس الموصول.

قوله تعالى : (وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ) يجوز فيها وجهان :

__________________

(١) في ب : قول.

(٢) ينظر : الكشاف ١ / ٦٣٩.

(٣) ينظر : البحر المحيط ٣ / ٥١٠.

(٤) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ١٩٩.

٣٥٩

أحدهما : أن تكون عطفا على قوله : «وقفّينا» فلا يكون لها محلّ ، كما أن المعطوف عليه لا محلّ له ، ويجوز أن تكون في محلّ نصب على الحال عطفا على «مصدقا» الأوّل إذا جعل «مصدقا» الثاني حالا من «عيسى» أيضا كما سيأتي ، [ويجوز أن تكون الجملة حالا](١) وإن لم يكن «مصدقا» الثاني حالا من «عيسى».

قوله تعالى : (فِيهِ هُدىً) يجوز أن يكون «فيه» وحده حالا من الإنجيل ، و «هدى» فاعل به ؛ لأنه لما اعتمد على ذي الحال رفع الفاعل ويجوز أن يكون «فيه» خبرا مقدّما ، «وهدى» مبتدأ مؤخر ، والجملة حال ، و «مصدقا» حال عطفا على محل «فيه هدى» بالاعتبارين أعني اعتبار أن يكون «فيه» وحده هو الحال ، فعطفت هذه الحال عليه ، وأن يكون «فيه هدى» جملة اسمية محلّها النصب ، و «مصدقا» عطف على محلّها ، وإلى هذا ذهب ابن عطية ، إلّا أن هذا مرجوح من وجهين :

أحدهما : أن أصل الحال أن تكون مفردة ، والجار أقرب إلى المفرد من الجمل.

الثاني : أن الجملة الاسمية الواقعة حالا ، الأكثر أن تأتي فيها بالواو ، وإن كان فيها ضمير ـ حتى زعم الفراء ـ وتبعه الزمخشري (٢) أن ذلك لا يجوز إلا شاذّا ، وكون «مصدقا» حالا من «الإنجيل» هو الظاهر.

وأجاز مكي بن أبي طالب (٣) ـ وتبعه أبو البقاء (٤) ـ أن يكون «مصدقا» ، الثاني حالا أيضا من «عيسى» كرّر توكيدا.

قال ابن عطية (٥) : «وهذا فيه قلق من جهة اتساق المعاني».

قال شهاب الدين (٦) : إذا جعلنا «وآتيناه» حالا منه ، وعطفنا عليها هذه الحال الأخرى ، فلا أدري وجه القلق من الحيثية المذكورة؟

وقوله : «وهدى» الجمهور على النّصب ، وهو على الحال : إمّا من «الإنجيل» ، عطفت هذه الحال على ما قبلها ، وإمّا من «عيسى» أي : ذا هدى وموعظة ، أو هاديا ، أو جعل نفس الهدى مبالغة.

وأجاز الزمخشري أن ينتصبا على المفعول من أجله ، وجعل العامل فيه قوله تعالى : (آتَيْناهُ) ، قال : وأن ينتصبا مفعولا لهما لقوله : «وليحكم» كأنه قيل وللهدى وللموعظة آتيناه الإنجيل وللحكم.

وجوز أبو البقاء (٧) وغيره أن يكون العامل فيه «قفّينا» أي : قفينا للهدى والموعظة ،

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) ينظر : الكشاف ١ / ٦٣٩.

(٣) ينظر : المشكل ١ / ٢٣١.

(٤) ينظر : الإملاء ١ / ٢١٧.

(٥) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ١٩٩.

(٦) ينظر : الدر المصون ٢ / ٥٣٤.

(٧) ينظر : الإملاء ١ / ٢١٧.

٣٦٠