اللّباب في علوم الكتاب - ج ٧

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ٧

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٦٤٠

أظهرهما : أنّه منصوب على المفعول بعامل مضمر يليق بالمحلّ ، أي : أو أتى أو عمل فسادا.

والثاني : أنه مصدر ، والتقدير : أو أفسد فسادا بمعنى إفساد فهو اسم مصدر ، كقوله : [الوافر]

١٩٥٦ ـ وبعد عطائك المائة الرّتاعا (١)

ذكره أبو البقاء (٢).

و «في الأرض» متعلّق بنفس «فساد» ؛ لأنّك تقول : «أفسد في الأرض» إلّا في قراءة الحسن بنصبه ، وخرّجناه على النّصب على المصدرية ، كما ذكره أبو البقاء ، فإنه لا يتعلّق به ؛ لأنه مصدر مؤكّد ، وقد نصّوا على أنّ المؤكد لا يعمل ، فيكون «في الأرض» متعلّقا بمحذوف على أنه صفة ل «فسادا» والفاء في «فكأنّما» في الموضعين جواب الشّرط واجبة الدّخول ، و «ما» كافة لحرف التّشبيه ، والأحسن أن تسمى هنا مهيّئة لوقوع الفعل بعدها ، و «جميعا» : إمّا حال أو توكيد.

فصل

قال الزّجّاج (٣) : التقدير : من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض ، وإنّما قال تعالى ذلك ؛ [لأنّ](٤) القتل يحل لأسباب كالقصاص ، والكفر ، والزّنا بعد الإحصان ، وقطع الطّريق ونحوه ، فجمع تعالى هذه الوجوه كلّها في قوله تعالى (أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ) ثم قال : (فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً).

فإن قيل : كيف يكون قتل النّفس الواحدة مساويا للكلّ؟ فذكر المفسّرون (٥) له وجوها ، وهي مبنيّة على مقدّمة ، وهي أنّ تشبيه أحد الشّيئين بالآخر ، لا يقتضي الحكم بمشابهتهما من كلّ الوجوه ، وإذا صحّت المقدّمة ، فنقول : الجواب من وجوه :

أحدها : [المقصود من تشبيه](٦) قتل النّفس الواحدة بقتل النّفوس : المبالغة في تعظيم أمر القتل العمد العدوان وتفخيم شأنه ، يعني : كما أنّ قتل كلّ الخلق أمر مستعظم عند كلّ أحد ، فكذلك يجب أن يكون قتل الإنسان الواحد مستعظما منهيا ، فالمقصود بيان مشاركتهما في الاستعظام ، لا بيان مشاركتهما في مقدار الاستعظام ، وكيف لا يكون مستعظما وقد قال ـ تعالى ـ : (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً) [النساء : ٩٣].

وثانيها : أنّ جميع النّاس لو علموا من إنسان واحد أنّه يقصد قتلهم بأجمعهم ، فلا

__________________

(١) تقدم.

(٢) ينظر : الإملاء ١ / ٢١٤.

(٣) ينظر : تفسير الرازي ١١ / ١٦٧.

(٤) سقط في أ.

(٥) ينظر : تفسير الرازي ١١ / ١٦٧.

(٦) في أ : أن التشبيه من.

٣٠١

شكّ أنهم يدفعونه دفعا لا يمكن تحصيل مقصوده ، فكذلك إذا علموا (١) منه أنّه يقصد قتل إنسان واحد [معيّن يجب أن](٢) يجدّوا في دفعه ، ويجتهدوا كاجتهادهم في الصّورة الأولى.

وثالثها : أنه لمّا أقدم على القتل العمد العدوان فقد رجّح داعية الشّهوة والغضب على داعية الطّاعة ، ومتى كان الأمر [كذلك](٣) كان التّرجيح حاصلا بالنّسبة إلى كلّ واحد ، فكان في قلبه أنّ كلّ أحد نازعه في شيء من مطالبه ؛ فإنّه لو قدر عليه لقتله ، ونيّة المؤمن في الخيرات خير من عمله ، فكذلك [نيّة المؤمن في الشّرور شرّ من عمله ، فيصير المعنى : من يقتل إنسانا قتلا عمدا عدوانا فكأنّما قتل جميع النّاس](٤).

ورابعها : قال ابن عبّاس ـ رضي الله عنهما ـ في رواية عكرمة «من قتل نبيّا أو إمام عدل ، فكأنّما قتل النّاس جميعا ومن أحياها : من سلم من قتلها ، فكان كمن سلم من قتل النّاس جميعا» (٥).

وخامسها : قال مجاهد : من قتل نفسا محرّمة يصلى النّار بقتلها ، كما يصلاها لو قتل النّاس جميعا ، ومن أحياها : من سلم من قتلها ، فكان كمن سلم من قتل النّاس جميعا (٦).

وسادسها : قال قتادة : أعظم الله أجرها وعظّم وزرها (٧) ، معناه : من استحلّ قتل مسلم بغير حقّه ، فكأنّما قتل النّاس جميعا في الإثم لا يسلمون منه ، ومن أحياها وتورّع عن قتلها ، فكأنّما أحيا النّاس جميعا في الثّواب لسلامتهم منه.

وسابعها : قال الحسن : فكأنّما قتل النّاس جميعا ، يعني : أنّه يجب عليه من القصاص بقتلها ، مثل الذي يجب عليه لو قتل النّاس جميعا ، ومن أحياها ، أي : عفا عمّن وجب عليه القصاص له ، فلم يقتله فكأنّما أحيا النّاس جميعا (٨) ، قال سليمان بن علي : قلت للحسن : يا أبا سعيد : أهي لنا كما كانت لبني إسرائيل؟ قال : والذي لا إله غيره ما كان دم بني إسرائيل أكرم على الله من دمائنا (٩).

__________________

(١) في أ : عملوا.

(٢) سقط في أ.

(٣) سقط في أ.

(٤) سقط في أ.

(٥) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٤ / ٥٤١) من طريق عكرمة عن ابن عباس.

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٤٩٠) وعزاه للطبري وحده ، والبغوي في تفسيره ٢ / ٣١.

(٦) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٤ / ٥٤٣) عن مجاهد وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٤٩٠) وزاد نسبته لعبد بن حميد وابن المنذر.

(٧) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٤ / ٥٤٥) عن قتادة.

(٨) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٤ / ٥٤٥) عن الحسن بمعناه وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٤٩١) عنه مختصرا وعزاه لعبد بن حميد وابن المنذر.

(٩) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٩ / ٥٤٥) عن الحسن وينظر : البغوي ٢ / ٣٢.

٣٠٢

وإحياء النّفس : هو تخليصها من المهلكات كالحرق ، والغرق ، والجوع المفرط ، والبرد والحرّ المفرطين.

ثم قال : (وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ) رسلهم (بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ) ، أي : بعد مجيء الرّسل وبعد ما كتبنا عليهم تحريم القتل ، «لمسرفون» الذي هو خبر «إن» ولا تمنع من ذلك لام الابتداء فاصلة بين العامل ومعموله المتقدّم عليه ؛ لأنّ دخولها على الخبر على خلاف الأصل ؛ إذ الأصل دخولها على المبتدأ ، [وإنّما منع منه دخول «إنّ» و «ذلك» إشارة إلى مجيء الرّسل بالبيّنات](١).

قوله تعالى : (إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (٣٣) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)(٣٤)

لما ذكر تغليظ الإثم في قتل النّفس بغير حقّ ولا فساد في الأرض أتبعه ببيان الفساد في الأرض.

وقوله تعالى : (إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ) : مبتدأ وخبره (أَنْ يُقَتَّلُوا) وما عطف عليه ، أي: إنّما جزاؤهم التّقتيل ، أو التّصليب ، أو النّفي.

وقوله : (يُحارِبُونَ اللهَ) ، أي : يحاربون أولياءه كذا قدّره الجمهور.

وقال الزّمخشريّ (٢) : «يحاربون رسول الله ، ومحاربة المسلمين في حكم محاربته».

يعني : أنّ المقصود أنّهم يحاربون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإنما ذكر اسم الله ـ تبارك وتعالى ـ تعظيما وتفخيما لمن يحارب ، كقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ) [الفتح : ١٠] ، وقد تقدّم تحقيق ذلك عند قوله تعالى : (يُخادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا) [البقرة : ٩].

فإن قيل : المحاربة مع الله ـ عزوجل ـ غير ممكنة ، فيجب حمله على المحاربة مع أولياء الله ، والمحاربة مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ممكنة فلفظ (يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ) يلزم أن يكون محمولا على المجاز والحقيقة معا فلفظ المحاربة بما نسبت إلى الرّسول فلفظ المحاربة إذا نسبت إلى الله تعالى كان مجازا ، لأن المراد منه محاربة أولياء الله ، وإذا نسبت إلى الرّسول كانت حقيقة ، وذلك ممتنع.

فالجواب : إنّما تحمل المحاربة على مخالفة الأمر والتّكليف.

والتقدير : إنّما جزاء الذين يخالفون أحكام الله تعالى وأحكام رسوله ، ويسعون في

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) ينظر : الكشاف ١ / ٦٢٨.

٣٠٣

الأرض فسادا كذا وكذا ، ومن يجز ذلك لم يحتج إلى شيء من هذه التّأويلات بل يقول تحمل محاربتهم لله ـ تعالى ـ على معنى يليق بها ، وهي المخالفة مجازا ، ومحاربتهم لرسوله على المقاتلة حقيقة. قوله : «فسادا» في نصبه ثلاثة أوجه :

أحدها : أنه مفعول من أجله (١) ، أي يحاربون ويسعون لأجل الفساد ، وشروط النّصب موجودة.

الثاني : أنّه مصدر واقع موقع الحال : ويسعون في الأرض مفسدين ، أو ذوي فساد ، أو جعلوا نفس الفساد مبالغة ، ثلاثة مذاهب [مشهورة](٢) تقدّم تحريرها.

الثالث : أنه منصوب على المصدر ، أي : إنّه نوع من العامل قبله ، فإنّ معنى «يسعون» هنا : يفسدون وفي الحقيقة ، ف «فساد» قائم مقام الإفساد [والتقدير :](٣) ، ويفسدون في الأرض بسعيهم إفسادا.

و «في الأرض» الظّاهر : أنه متعلّق بالفعل قبله ، كقوله : (سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ) [البقرة : ٢٠٥].

وقد أجيز أن يكون في محلّ نصب على الحال ؛ لأنّه يجوز أن لو تأخّر عنه أن يكون صفة له. وأجيز أن يتعلّق أيضا بنفس «فسادا» ، وهذا إنّما يتمشّى إذا جعلنا «فسادا» حالا.

أمّا إذا جعلناه مصدرا امتنع ذلك لتقدّمه عليه ، ولأنّ المؤكد لا يعمل.

وقرأ الجمهور «أن يقتّلوا» (٤) وما بعده من الفعلين بالتثقيل ، ومعناه : التّكثير بالنّسبة إلى من تقع به هذه الأفعال.

وقرأ الحسن (٥) وابن محيصن بتخفيفها.

قوله تعالى (مِنْ خِلافٍ) في محلّ نصب على الحال من «أيديهم» و «أرجلهم» أي: [تقطع مختلف](٦) بمعنى : أن يقطع يده اليمنى ، ورجله اليسرى.

والنّفي : الطّرد.

و «الأرض» المراد بها هاهنا : ما يريدون الإقامة بها ، أو يراد من أرضهم.

و «أل» عوض من المضاف إليه عند من يراه.

__________________

(١) في أ : لأجله.

(٢) سقط في أ.

(٣) سقط في أ.

(٤) سقط في أ.

(٥) وقرأ بها مجاهد. ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ١٨٥ ، والبحر المحيط ٣ / ٤٨٥ ، والدر المصون ٢ / ٥١٧ ، والشواذ ٣٨.

(٦) في أ : تقطع مختلفة.

٣٠٤

فصل

قال الضّحّاك : نزلت في قوم من أهل الكتاب ، كان بينهم وبين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عهد ، فنقضوا العهد وقطعوا السّبيل وأفسدوا (١).

وقال الكلبي : نزلت في قوم هلال بن عويمر ، وذلك أنّ النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم واعد هلال بن عويمر وهو أبو بردة الأسلمي ، على ألا يعينه ولا يعين عليه ، ومن مرّ بهلال بن عويمر إلى رسول الله ـ صلّى الله عليه وعلى اله وسلّم ـ فهو آمن لا يهاج ، فمرّ قوم من بني كنانة يريدون الإسلام ، بناس من أسلم من قوم هلال بن عويمر ، ولم يكن هلال شاهدا ، فشدّوا عليهم فقتلوهم وأخذوا أموالهم ، فنزل جبريل بالقصّة (٢).

وقال سعيد بن جبير : نزلت في ناس من عرينة وعكل (٣) أتوا النّبيّ ـ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم ـ وبايعوه على الإسلام وهم كذبة ، فبعثهم النّبيّ ـ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم ـ إلى إبل الصّدقة فارتدّوا ، وقتلوا الرّاعي واستاقوا الإبل ، فبعث النّبيّ ـ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم ـ من ردّهم وأمر بقطع أيديهم وأرجلهم ، وسمل أعينهم بمسامير وكحلهم بها ، وطرحهم في الحرّ يستسقون فلا يسقون حتى ماتوا (٤).

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٩ / ٥٤٧) عن الضحاك وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٤٩٤) ، وزاد نسبته لعبد بن حميد وينظر : تفسير البغوي ٢ / ٣٢.

(٢) ينظر : تفسير الرازي ١١ / ١٦٩.

(٣) وزعم ابن التين تبعا للداودي أن «عرينة» هم عكل ، وهو غلط ، بل هما قبيلتان متغايرتان : عكل من عدنان ، وعرينة من قحطان ، وعكل بضم المهملة وإسكان الكاف قبيلة من تيم الرباب ، و «عرينة» بالعين والراء المهملتين والنون مصغرا حي من قضاعة وحي من بجيلة ، والمراد هنا الثاني كذا ذكره موسى بن عقبة في المغازي ، وكذا رواه الطبري من وجه آخر عن أنس ، ووقع عند عبد الرزاق من حديث أبي هريرة بإسناد ساقط أنهم من بني فزارة. وهو غلط لأن بني فزارة من مضر لا يجتمعون مع عكل ولا مع عرينة أصلا ، وذكر ابن إسحاق في المغازي أن قدومهم كان بعد غزوة ذي قرد وكانت في جمادى الآخرة سنة ست. وذكرها المصنف بعد الحديبية وكانت في ذي القعدة منها ، وذكر الواقدي أنها كانت في شوال منها ، وتبعه ابن سعد وابن حبان وغيرهما.

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٩ / ٥٤٨) عن سعيد بن جبير وينظر : تفسير البغوي ٢ / ٣٢ ، ومن طريق أنس أخرجه البخاري ١٢ / ١٠٩ ، في الحدود باب المحاربين من أهل الكفر (٦٨٠٣) ، ومسلم ٣ / ١٢٩٦ كتاب القسامة باب حكم المحاربين (٩ / ١٦٧١).

قال ابن بطال : ذهب البخاري إلى أن آية المحاربة نزلت في أهل الكفر والردة ، وساق حديث العرنيين وليس فيه تصريح بذلك ، ولكن أخرج عبد الرزاق عن معمر عن قتادة حديث العرنيين وفي آخره قال : «بلغنا أن هذه الآية نزلت فيهم : إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله الآية» ووقه مثله في حديث أبي هريرة ، وممن قال ذلك الحسن وعطاء والضحاك والزهري قال : وذهب جمهور الفقهاء إلى أنها نزلت فيمن خرج من المسلمين يسعى في الأرض بالفساد ويقطع الطريق ، وهو قول مالك والشافعي والكوفيين ، ثم قال : ليس هذا منافيا للقول الأول وإن نزلت في العرنيين بأعيانهم لكن لفظها عام يدخل في معناه كل من فعل مثل فعلهم من المحاربة والفساد. قال ابن حجر بل هما متغايران ، ـ

٣٠٥

قال أبو قلابة : هؤلاء قتلوا وسرقوا ، وحاربوا الله ورسوله وسعوا في الأرض فسادا ، فنزلت هذه نسخا لفعل النّبيّ ـ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم ـ (١) فصارت السّنّة منسوخة بهذا القرآن العظيم ، ومن قال إنّ السّنّة لا تنسخ بالقرآن قال : إنما كان النّاسخ لتلك السّنّة سنّة أخرى ، ونزل هذا القرآن العظيم مطابقا للسّنّة النّاسخة.

وقال بعضهم (٢) : حكمهم ثابت إلا السّمل والمثلة ، وروى قتادة عن ابن سيرين أنّ ذلك قبل أن تنزل الحدود.

قال أبو الزّناد : ولما فعل رسول الله ـ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم ـ ذلك بهم أنزل الله الحدود ، ونهاه عن المثلة فلم يعد (٣) ، وعن قتادة قال : بلغنا أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم [بعد

__________________

ـ والمرجع إلى تفسير المراد بالمحاربة ، فمن حملها على الكفر خص الآية بأهل الكفر ومن حملها على المعصية عمم ، ثم نقل ابن بطال عن إسماعيل القاضي أن ظاهر القرآن وما مضى عليه عمل المسلمين يدل على أن الحدود المذكورة في هذه الآية نزلت في المسلمين ، وأما الكفار فقد نزل فيهم : (فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ) إلى آخر الآية فكان حكمهم خارجا عن ذلك. وقال تعالى في آية المحاربة : (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ) وهي دالة على أن من تاب من المحاربين يسقط عنه الطلب بما ذكر بما جناه فيها ، ولو كانت الآية في الكافر لنفعته المحاربة ، ولكان إذا أحدث الحرابة مع كفره اكتفينا بما ذكر في الآية وسلم من القتل فتكون الحرابة خففت عنه القتل ، وأجيب عن هذا الإشكال بأنه لا يلزم من إقامة هذه الحدود على المحارب المرتد مثلا أن تسقط عنه المطالبة بالعود إلى الإسلام أو القتل وما نقله المصنف عن سعيد بن جبير أن معنى المحاربة لله الكفر به وأخرج الطبري من طريق روح بن عبادة عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن أنس في آخر قصة العرنيين قال : فذكر لنا أن هذه الآية نزلت فيهم : (إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ) ، وأخرج نحوه من وجه آخر عن أنس وأخرج الإسماعيلي هناك من طريق مروان بن معاوية عن معاوية بن أبي العباس عن أيوب عن أبي قلابة عن أنس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قوله تعالى : (إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ) قال هم من عكل. قلت : قد ثبت في الصحيحين أنهم كانوا من عكل وعرينة ، فقد وجد التصريح الذي نفاه ابن بطال ، والمعتمد أن الآية نزلت أولا فيهم وهي تتناول بعمومها من حارب من المسلمين بقطع الطريق ، لكن عقوبة الفريقين مختلفة : فإن كانوا كفارا يخير الإمام فيهم إذا ظفر بهم ، وإن كانوا مسلمين فعلى قولين : أحدهما : وهو قول الشافعي والكوفيين ينظر في الجناية فمن قتل قتل ومن أخذ المال قطع ومن لم يقتل ولم يأخذ مالا نفي ، وجعلوا «أو» للتنويع ، وقال مالك : بل هي للتخيير فيتخير الإمام في المحارب المسلم بين الأمور الثلاثة ، ورجح الطبري الأول ، واختلفوا في المراد بالنفي في الآية : فقال مالك والشافعي يخرج من بلد الجناية إلى بلدة أخرى ، زاد مالك فيحبس فيها. وعن أبي حنيفة بل يحبس في بلده ، وتعقب بأن الاستمرار في البلد ولو كان مع الحبس إقامة فهو ضد النفي فإن حقيقة النفي الإخراج من البلد ، وقد قرنت مفارقة الوطن بالقتل قال تعالى : (وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ) وحجة أبي حنيفة أنه لا يؤمن منه استمرار المحاربة في البلدة الأخرى ، فانفصل عنه مالك بأنه يحبس بها ، وقال الشافعي : يكفيه مفارقة الوطن والعشيرة خذلانا وذلا.

(١) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٤٩٢) عن أبي قلابة وعزاه للحافظ عبد الغني في «إيضاح الإشكال».

(٢) ينظر : تفسير البغوي ٢ / ٣٢.

(٣) أخرجه البيهقي في «سننه» (٨ / ٢٨٣) عن أبي الزناد وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٤٩١) وعزاه للبيهقي وحده وينظر : البغوي ٢ / ٣٢.

٣٠٦

ذلك كان يحثّ على الصّدقة وينهى عن المثلة ، وقال سليمان التّيمي عن أنس : إنّما سمل النبي ـ صلّى الله](١) عليه وعلى آله وسلّم ـ أعين هؤلاء ؛ لأنّهم سملوا أعين الرّعاة (٢).

وقال الليث بن سعد : نزلت هذه الآية معاتبة لرسول الله ـ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم ـ وتعليما له عقوبتهم (٣) وقال : إنّما جزاؤهم لا المثلة ، ولذلك ما قام النّبيّ ـ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم ـ خطيبا إلا نهى عن المثلة (٤).

وقيل : نزلت هذه الآية في الّذين حكي عنهم من بني إسرائيل ـ أنّهم بعد أن غلظ عليهم عقاب القتل العمد العدوان ، فهم مسرفون في القتل ويفسدون في الأرض ، فمن أتى منهم بالقتل والفساد في الأرض فجزاؤهم كذا وكذا.

وقيل : نزلت هذه الآية في قطّاع الطّريق من المسلمين [وهذا قول](٥) أكثر الفقهاء (٦) قالوا : والذي يدل على أنّه لا يجوز حمل الآية على المرتدّين من وجوه :

أحدها : أنّ قطع المرتدّ لا يقف على المحاربة ، ولا على إظهار الفساد في دار الإسلام ، والآية تقتضي ذلك.

وثانيها : لا يجوز الاقتصار في المرتدّ على قطع اليد ، ولا على النّفي ، والآية تقتضي ذلك.

وثالثها : أن الآية تقتضي سقوط الحد بالتّوبة قبل القدرة ؛ لقوله تعالى (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ).

والمرتدّ يسقط حدّه (٧) بالتّوبة قبل القدرة وبعدها ، فدلّ على أن الآية لا تعلّق لها بالمرتدّين.

ورابعها : أن الصّلب غير مشروع في حق المرتدّ ، وهو مشروع هاهنا فوجب ألا تكون الآية مختصّة بالمرتدّين.

وخامسها : أنّ قوله تعالى : (الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً) يتناول كل من يوصف بهذه سواء كان مسلما أو كافرا ، ولا يقال : الآية نزلت في الكفّار ؛ لأن

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) أخرجه مسلم (٥ / ١٠١ ، ١٠٣) والبيهقي (٨ / ٦٢) عن أنس بن مالك وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٤٩٢) وزاد نسبته للنحاس في ناسخه.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٩ / ٥٥٠) عن الوليد بن مسلم عن الليث بن سعد قال : سمعت محمد بن عجلان يقول : ... فذكره.

والاثر ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٤٩٢ ـ ٤٩٣).

(٤) تقدم.

(٥) سقط في أ.

(٦) ينظر : تفسير البغوي ٢ / ٣٣ ، تفسير الرازي ١١ / ١٦٩.

(٧) في ب : حقه.

٣٠٧

العبرة بعموم اللّفظ لا خصوص السّبب ، فإن قيل : المحاربون هم الذين يجتمعون ولهم منعة ، ويقصدون المسلمين في أرواحهم (١) ودمائهم ، واتّفقوا على أنّ هذه الصّفة إذا حصلت في الصّحراء كانوا قطّاع الطّريق ، وأما إن حصلت في الأمصار ، فقال الأوزاعيّ ومالك واللّيث بن سعد والشّافعيّ : هم أيضا قطّاع الطّريق ، هذا الحدّ عليهم ، قالوا : وإنّهم في المدن يكونون أعظم ذنبا فلا أقلّ من المساواة ، واحتجّوا بالآية وعمومها ، ولأنّ هذا حدّ فلا يختلف كسائر الحدود [وقال أبو حنيفة ومحمّد : إذا حصل ذلك في المصر لا يقام عليه الحدود](٢) لأنه لا يلحقه الغوث في الغالب فلا يتمكّن من المغالبة ، فصار في حكم السّارق.

فصل

قوله تعالى في الآية (أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ). اختلف العلماء (٣) في لفظة «أو» : فقال ابن عبّاس (٤) في رواية الحسن ، وسعيد بن المسيب ، ومجاهد ، والنّخعي : إنّها للتّخيير ، والمعنى : أنّ الإمام مخيّر في المحاربين إن شاء قتل ، وإن شاء صلب ، وإن شاء قطع الأيدي والأرجل ، وإن شاء نفى ، وقال ابن عبّاس ـ رضي الله عنهما ـ في رواية عطاء (٥) : «أو» هاهنا [ليست](٦) للتّخيير ، بل لبيان الأحكام وترتيبها.

قال ابن عبّاس ـ رضي الله تعالى عنهما ـ في قطّاع الطريق إذا قتلوا وأخذوا المال : قتلوا وصلبوا ، وإذا قتلوا ولم يأخذوا المال ، قتلوا ولم يصلبوا ، وإذا أخذوا المال ولم يقتلوا ؛ قطعت أيديهم وأرجلهم ، وإذا قتلوا ولم يأخذوا المال قتلوا ولم يصلبوا ، وإذا أخذوا المال ولم يقتلوا ؛ قطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف ، وإذا أخافوا السّبيل ، ولم يأخذوا مالا ؛ نفوا من الأرض (٧) ، وهذا قول قتادة [والشّافعي ، والأوزاعيّ](٨) ، وأصحاب الرّأي. واختلفوا في كيفيّة القتل والصّلب ، فظاهر مذهب الشّافعيّ : أنه يقتل ثم يصلب ، وقيل : يصلب حيّا ثم يطعن حتى يموت مصلوبا ، وهو قول اللّيث بن سعد (٩) ، وقيل : يصلب ثلاثة أيّام ، ثم ينزل ثم يقتل ، وإذا قتل يقتل حتما ، لا يسقط بعفو وليّ الدّم.

واختلف في النّفي : فقال سعيد بن جبير ، وعمر بن عبد العزيز : أنّ الإمام يطلبه

__________________

(١) في أ : أزواجهم وفي.

(٢) سقط في أ.

(٣) ينظر : تفسير الرازي ١١ / ١٧٠.

(٤) ينظر : تفسير البغوي ٢ / ٣٣ ، والرازي ١١ / ١٧٠.

(٥) ينظر : تفسير البغوي ٢ / ٣٣.

(٦) سقط في أ.

(٧) أخرجه الشافعي في «مسنده» (١٥٣١) والبيهقي (٨ / ٢٨٣) عن ابن عباس موقوفا.

(٨) في ب : والأوزاعي والشافعي وأحمد.

(٩) ينظر : تفسير البغوي ٢ / ٣٣.

٣٠٨

ففي كلّ بلد يوجد ينفى عنه (١) ، وقيل : يطلبون ليقام عليهم الحدود ، وهو قول ابن عبّاس ، واللّيث بن سعد ، وبه قال الشّافعي ، وإسحاق (٢).

وقال أبو حنيفة : النّفي هو : الحبس ، وهو اختيار أهل اللّغة.

قالوا : لأن قوله (أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ) : إمّا أن يكون المراد به النّفي من جميع الأرض ، وذلك غير ممكن مع بقاء الحياة ، [وإمّا](٣) أن يكون المراد إخراجه من تلك البلدة إلى بلدة أخرى وهو غير جائز ، لأنّه إمّا أن ينفى من بلاد الإسلام فيؤذيهم ، أو إلى بلاد الكفر فيكون تعريضا له بالرّدّة ، وذلك غير جائز ، فلم يبق إلّا أن يكون المراد من النّفي نفيه عن جميع الأرض إلى مكان الحبس قالوا : والمحبوس : قد يسمّى منفيا من الأرض لأنه لا ينتفع بشيء من طيّبات الدّنيا ولذّاتها ، ولا يرى أحدا من أحبابه ، فصار منفيا عن اللّذات والشّهوات والطّيّبات فكان كالمنفي في الحقيقة ، ولما حبسوا صالح بن عبد القدّوس على تهمة الزّندقة في حبس ضيق وطال لبثه هناك ذكر شعر منه : [الطويل]

١٩٥٧ ـ خرجنا من الدّنيا ونحن من أهلها

فلسنا من الأموات فيها ولا الأحيا (٤)

وقال ـ سامحه الله وعفا عنه وعنّا ـ قوله : [الطويل]

١٩٥٨ ـ إذا [جاءنا] (٥) السّجّان يوما لحاجة

عجبنا وقلنا : جاء هذا من الدّنيا (٦)

قوله تعالى : (ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا).

«ذلك» إشارة إلى الجزاء المتقدّم ، وهو مبتدأ.

وقوله : «لهم خزي» فيه ثلاثة أوجه :

أحدها : أن يكون «لهم» (٧) خبرا متقدّما ، و «خزي» مبتدأ مؤخّر ، و (فِي الدُّنْيا

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٩ / ٥٥٤) عن سعيد بن جبير والبغوي ٢ / ٣٣.

(٢) ينظر : تفسير البغوي ٢ / ٣٣.

(٣) سقط في أ.

(٤) هذا البيت والبيت الذي بعده من قصيدة واحدة ، ويرويان :

خرجنا من الدنيا ونحن من أهلها

فلسنا من الأموات فيها ولا الأحيا

إذا جاءنا السجان يوما لحاجة

عجبنا وقلنا جاء هذا من الدنيا

ينظر : القرطبي ٦ / ١٠٠ ، وروح المعاني ٣ / ١١٩.

كما يرويان :

خرجنا من الدنيا ونحن من أهلها

فلسنا من الأحياء فيها ولا الموتى

إذا جاءنا السجان يوما لحاجة

عجبنا وقلنا جاء هذا من الدنيا

ينظر : مشكل القرآن لابن قتيبة ص ٤٠٠ ، والفخر الرازي ١٢ / ١٧١ ، وعيون الأخبار ١ / ٨١ ـ ٨٢.

وأمالي الشريف المرتضى ١ / ١٠١ ، والمحاسن والأضداد ص ٣٨.

(٥) سقط في أ.

(٦) ينظر : تخريج البيت السابق.

(٧) في أ : خزي.

٣٠٩

صفة له ، فيتعلق بمحذوف ، أو يتعلّق بنفس «خزي» على أنّه ظرفيّة ، والجملة في محلّ رفع خبر ل «ذلك».

الثاني : أن يكون «خزي» خبرا ل «ذلك» ، و «لهم» متعلّق بمحذوف على أنّه حال من «خزي» ؛ لأنّه في الأصل صفة له ، فلمّا قدّم انتصب حالا.

وأمّا «في الدّنيا» فيجوز فيه الوجهان المتقدّمان من كونه صفة ل «خزي» أو متعلّقا به ، ويجوز فيه أن يكون متعلّقا بالاستقرار الذي تعلّق به «لهم».

الثالث : أن يكون [«لهم»](١) خبرا ل «ذلك» و «خزي» فاعل ، ورفع الجار هنا الفاعل لمّا اعتمد على المبتدأ ، و «في الدّنيا» على هذا فيه الأوجه الثلاثة.

فصل في شبهة للمعتزلة وردها

المراد بالخزي في الدّنيا : الفضيحة والهوان والعذاب ، ولهم في الآخرة عذاب عظيم.

قالت المعتزلة (٢) : دلّت الآية [على القطع بوعيد](٣) الفسّاق من أهل الصّلاة وعلى أنّ عقابهم قد أحبط ثوابهم ؛ لأنّه تعالى حكم بأنّ ذلك لهم خزي في الدّنيا وذلك يدل على أن استحقاقهم للذمّ في الحال ، وإذا استحقّوا الذّم في الحال امتنع استحقاقهم للمدح والتّعظيم ؛ لأنّ ذلك جمع بين الضّدّين ، وإذا كان كذلك ثبت القطع بوعيد الفسّاق ، وثبت القول بالإحباط.

والجواب : لا نزاع بيننا وبينكم أنّ هذا إنّما يكون واقعا على جهة الخزي والاستحقاق ، إذا لم يتقدّمه توبة ، وإذا جاز لكم [أن تشترطوا هذا الحكم بعدم التّوبة](٤) لدليل دلّ على اعتبار هذا الشّرط ، فنحن أيضا نشترط لهذا الحكم عدم العفو ، وحينئذ لا يبقى الكلام إلّا في أنّه هل دلّ الدّليل [على أنّه ـ تعالى ـ](٥) يعفو عن الفسّاق أم لا؟ وقد تقدّمت هذه المسألة في سورة البقرة عند قوله تعالى (بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ) [البقرة : ٨١].

قوله تعالى : (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا) فيه وجهان :

أحدهما : أنّه منصوب على الاستثناء من المحاربين ، وللعلماء خلاف في التّائب من قطّاع الطّريق ، هل تسقط عنه العقوبات كلّها ، أو عقوبة قطع الطّريق فقط؟.

وأما ما يتعلّق بالأموال وقتل الأنفس ، فلا تسقط ، بل حكمه إلى صاحب المال ، ووليّ الدّم ، والظّاهر الأوّل.

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) ينظر : تفسير الرازي ١١ / ١٧١.

(٣) في ب : بوعيد القطع على.

(٤) في أ : لهذا الحكم مقدم التوبة.

(٥) سقط في أ.

٣١٠

الثاني : أنّه مرفوع بالابتداء ، والخبر قوله : «فإن (اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) والعائد محذوف ، أي : غفور له ؛ ذكر هذا الثّاني أبو البقاء (١). وحينئذ يكون استثناء منقطعا بمعنى : لكن التّائب يغفر له.

فصل

من ذهب إلى أنّ الآية نزلت في الكفار قال : (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا) : من شركهم ، وأسلموا قبل أن تقدروا عليهم فلا سبيل عليهم بشيء من الحدود ولا تبعة عليهم فيما أصابوا في حال الكفر من دم أو مال.

أما المسلمون المحاربون : فمن (٢) تاب منهم قبل القدرة عليه ، وهو قبل أن يظفر بهم الإمام تسقط عنه كل عقوبة وجبت حقا لله تعالى ، ولا يسقط ما كان من حقوق العباد ، فإذا كان قد قتل في قطع الطّريق يسقط عنه بالتّوبة [قبل القدرة عليه](٣) تحتّم القتل ، ويبقى عليه القصاص لولي القتيل إن شاء عفا عنه ، وإن شاء استوفاه ، وإن كان قد أخذ المال يسقط عنه القطع ، وإن كان جمع بينهما يسقط عنه تحتّم القتل والصّلب ، ويجب ضمان المال.

وقال بعضهم : إذا جاء تائبا قبل القدرة [عليه لا يكون لأحد عليه تبعة في دم ولا مال إلّا أن يوجد معه مال بعينه فيردّه إلى صاحبه.

روي عن علي رضي الله عنه في حارثة بن زيد كان خرج محاربا فسفك الدماء ، وأخذ الأموال ثم جاء تائبا قبل أن يقدر عليه فلم يجعل له عليه تبعة. أما من تاب بعد القدرة](٤) فلا يسقط عنه شيء منها.

وقيل : كلّ عقوبة تجب حقا لله ـ تعالى ـ من عقوبات قطع الطّريق ، وقطع السّرقة ، وحدّ الزنا ، والشّرب تسقط بالتّوبة بكل حال كما تقدّم والأكثرون على أنّها لا تسقط.

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)(٣٥)

(٥) في كيفيّة النّظم وجهان :

أحدهما : أنّه لما أخبر رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن قوما من اليهود همّوا أن يبسطوا أيديهم إلى الرّسول وإلى أصحابه بالغدر والمكر ، ومنعهم الله تعالى من مرادهم ، وشرح للرّسول شدّة تعصّبهم على الأنبياء وإصرارهم على إيذائهم ، وامتدّ الكلام إلى هذا الموضع ، فعند هذا

__________________

(١) ينظر : الإملاء ١ / ٢١٤.

(٢) في أ : لمن.

(٣) سقط في أ.

(٤) سقط في أ.

(٥) سقط في أ.

٣١١

رجع إلى المقصود الأوّل وقال (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ)(١) ، كأنه قيل : قد عرفتم كمال جسارة اليهود على المعاصي والذّنوب ، وبعدهم عن الطّاعات الّتي هي الوسائل للعبد إلى الرّبّ ، فكونوا يا أيّها المؤمنون بالضّدّ من ذلك فاتّقوا معاصي الله ، وتوسّلوا إليه بالطّاعات.

والثاني : أنهم لما قالوا : (نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ).

أي : أبناء أنبياء الله فكان افتخارهم بأعمال آبائهم كأنّه (٢) تعالى قال : «يا أيها الذين آمنوا [اتقوا الله](٣) ولتكن مفاخرتكم بأعما لكم لا بشرف آبائكم وأسلافكم ، فاتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة».

في قوله تعالى : «إليه» ثلاثة أوجه :

أحدها : أنه متعلّق بالفعل قبله.

الثاني : أنه متعلّق بنفس «الوسيلة».

قال أبو البقاء (٤) : لأنّها بمعنى المتوسّل به ، فلذلك عملت فيما قبلها.

يعني : أنّها ليست بمصدر ، حتى يمتنع أن يتقدّم معمولها عليها.

الثالث : أنه متعلّق بمحذوف على أنّه حال من «الوسيلة» ، وليس بالقوي.

و «الوسيلة» أي : القربة ، فعيلة من توسّل إليه فلان بكذا إذا تقرّب إليه ، وجمعها : وسائل.

قال لبيد : [الطويل]

١٩٥٩ ـ أرى النّاس لا يدرون ما قدر أمرهم

ألا كلّ ذي لبّ إلى الله واسل (٥)

أي : متوسّل ، فالوسيلة هي التي يتوسّل بها إلى المقصود.

فصل

قال ابن الخطيب (٦) : التّكليف نوعان : ترك المنهيّات : وهو قوله تعالى (اتَّقُوا اللهَ) ، وفعل الطّاعات : وهو قوله (وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ) ، والتّرك مقدّم على الفعل بالذّات ؛ لأنه بقاء على العدم [الأصلي](٧) ، والفعل إيجاد وتحصيل ، والعدم سابق ، ولذلك قدّمت التّقوى فإن قيل : لم اختصّت الوسيلة بالفعل ، مع أنّ ترك المعاصي قد يكون وسيلة؟

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) في أ : فقال.

(٣) سقط في أ.

(٤) ينظر : الإملاء ١ / ٢١٥.

(٥) ينظر البيت في ديوانه (٢٥٦) ، وينظر : الكشاف ١ / ٦٢٨.

(٦) ينظر : تفسير الرازي ١١ / ١٧٣.

(٧) سقط في أ.

٣١٢

فالجواب : أن التّرك بقاء على العدم ، وذلك لا يمكن التّوسّل به ، بل من دعته الشهوة [إلى فعل القبيح](١) ، فتركه مرضاة الله حصل التّوسّل إلى الله بذلك الامتناع ، لكنّه من باب الأفعال ، ولذلك قال المحقّقون : ترك [الشّيء](٢) عبارة عن فعل ضدّه.

ثم قال ـ تعالى ـ : (وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) ، لمّا أمر بترك ما لا ينبغي بقوله : (اتَّقُوا اللهَ) وفعل ما ينبغي بقوله (وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ) وكل واحد منهما شاقّ ثقيل على النّفس فإن النّفس تدعو إلى اللّذّات المحسوسة ، والعقل يدعو إلى خدمة الله وطاعته والإعراض عن المحسوسات ؛ فكان بين الحالتين تضادّ وتناف ، وإذا كان الأمر كذلك فالانقياد لقوله تعالى (وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ) من أشقّ الأشياء على النّفس وأشدها ثقلا على الطّبع ، فلهذا أردف ذلك التّكليف بقوله (وَجاهِدُوا فِي) سبيل الله (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) ، ولمّا أرشد المؤمنين في هذه الآية إلى معاقد الخيرات ومفاتح السّعادات ، أتبعه بشرح حال الكفّار.

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذابِ يَوْمِ الْقِيامَةِ ما تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٣٦) يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ)(٣٧)

(٣) قد تقدم الكلام على «أنّ» الواقعة بعد «لو» على أنّ فيها مذهبين.

و «لهم» خبر ل «أنّ» ، و (ما فِي الْأَرْضِ) اسمها ، و «جميعا» (٤) توكيد له ، أو حال منه و «مثله» في نصبه وجهان :

أحدهما : عطف على اسم «أن» وهو «ما» الموصولة.

والثاني : أنه منصوب على المعيّة ، وهو رأي الزّمخشري ، وسيأتي ما يرد على ذلك والجواب عنه.

و «معه» ظرف واقع موقع الحال.

[«واللام»](٥) متعلّقة بالاستقرار الذي تعلّق به الخبر ، وهو «لهم».

و «به» و «من عذاب» متعلّقان بالافتداء ، والضّمير في «به» عائد على «ما» الموصولة ، وجيء بالضّمير مفردا وإن تقدّمه شيئان وهما (ما فِي الْأَرْضِ) و «مثله» ، إما لتلازمهما فهما في حكم شيء واحد ؛ وإما لأنّه حذف من الثّاني لدلالة ما في الأوّل عليه ، كقوله رحمة الله عليه : [الطويل]

__________________

(١) في أ : للقبيح.

(٢) سقط في أ.

(٣) سقط في أ.

(٤) في أ : وجمعها.

(٥) سقط في أ.

٣١٣

١٩٦٠ ـ ................

فإنّي وقيّار بها لغريب (١)

أي : لو أنّ لهم ما في الأرض ليفتدوا به ، ومثله معه ليفتدوا به وإما لإجراء الضمير مجرى اسم الإشارة ، كقوله : [الرجز]

١٩٦١ ـ ................

كأنّه في الجلد ... (٢)

وقال بعضهم : ليفتدوا بذلك المال.

وقد تقدم في «البقرة».

و «عذاب» بمعنى : تعذيب بإضافته إلى «يوم» خرج «يوم» عن الظرفية ، و «ما» نافية وهي جواب «لو» ، وجاء على الأكثر من كون الجواب النّفي بغير «لام» ، والجملة الامتناعية في محل رفع خبرا ل «إن» ، وجعل الزّمخشريّ توحيد الضّمير في «به» لمدرك آخر ، وهو أنّ «الواو» في «ومثله» [واو «مع» قال بعد أن ذكر الوجهين المتقدمين : ويجوز أن تكون الواو في «ومثله»](٣) بمعنى «مع» فيتوحد المرجوع إليه.

فإن قلت : فبم ينصب المفعول معه؟.

قلت : بما تستدعيه «لو» من الفعل ؛ لأن التّقدير : لو ثبت أنّ لهم ما في الأرض ، يعني : أنّ حكم ما قبل المفعول معه في الخبر والحال ، وعود الضّمير حكمه لو لم يكن بعده مفعول معه ، تقول : «كنت وزيدا كالأخ» قال الشاعر : [الطويل]

١٩٦٢ ـ فكان وإيّاها كحرّان لم يفق

عن الماء إذ لاقاه حتّى تقدّدا (٤)

فقال : «كحرّان» بالإفراد ولم يقل (٥) : «كحرّانين» ، وتقول : «جاء زيد وهندا ضاحكا في داره».

وقد اختار الأخفش أن يعطى حكم المتعاطفين ، يعني : فيطابق الخبر ، والحال ، والضمير له ولما بعده ، فتقول : «كنت وزيدا كالأخوين».

قال بعضهم : والصّحيح جوازه على قلّة.

وقد رد أبو حيّان على الزمخشري ، وطوّل معه.

قال شهاب الدّين (٦) : ولا بد من نقل نصّه ؛ قال (٧) : وقول الزمخشري ويجوز أن تكون «الواو» بمعنى «مع» ليس بشيء ؛ لأنّه يصير التقدير : مع مثله معه ، أي : مع مثل ما

__________________

(١) تقدم.

(٢) تقدم.

(٣) سقط في أ.

(٤) البيت لكعب بن جعيل ، ينظر : الكتاب ١ / ١٥٠ ، الأزهية ص ٣٢ ، شرح أبيات سيبويه ١ / ٤٣١ ، الدر المصون ٢ / ٥١٩.

(٥) في أ : وكم.

(٦) ينظر : الدر المصون ٢ / ٥١٩.

(٧) ينظر : البحر المحيط ٣ / ٤٨٧.

٣١٤

في الأرض [مع ما في الأرض](١) إن جعلت الضّمير في «معه» عائدا على «ما» يكون معه حالا من «مثله».

وإذا كان ما في الأرض مع مثله كان مثله معه ضرورة ، فلا فائدة في ذكر «معه» لملازمة معيّة كل منهما للآخر.

وإن جعلت (٢) الضمير عائدا على «مثله» ، أي : مع مثله مع ذلك المثل ، فيكون المعنى مع مثلين ، فالتّعبير عن هذا المعنى بتلك العبارة عييّ ؛ إذ الكلام المنتظم أن يكون التّركيب إذا أريد ذلك المعنى مع مثليه.

وقول الزّمخشري : «فإن قلت» إلى آخر الجواب [هذا السؤال](٣) لا يرد ؛ لأنّا قد بيّنّا فساد أن يكون «الواو» واو «مع» ، وعلى تقدير وروده فهذا بناء منه على أنّ [«أن»](٤) إذا جاءت بعد «لو» كانت في محلّ رفع بالفاعليّة ، فيكون التقدير على هذا لو ثبت كينونة ما في الأرض مع مثله لهم ليفتدوا به ، فيكون الضّمير عائدا على «ما» فقط.

وهذا الذي ذكره هو تفريع منه على مذهب المبرّد (٥) في أنّ «أن» بعد «لو» في محل رفع على الفاعليّة ، وهو مذهب مرجوح ، ومذهب سيبويه (٦) : أن «أنّ» بعد «لو» في محلّ رفع مبتدأ.

والذي يظهر من كلام الزّمخشري هنا وفي تصانيفه أنّه ما وقف على مذهب سيبويه في هذه المسألة.

وعلى المفرع على مذهب المبرّد لا يجوز أن تكون «الواو» بمعنى «مع» والعامل فيها «ثبت» المقدّرة لما تقدم من وجود لفظة «معه» ، وعلى تقديره سقوطها لا يصحّ ؛ لأن «ثبت» ليس رافعا ل «ما» العائد عليها الضمير وإنما هو رافع مصدرا منسبكا من «أن» وما بعدها ، وهو كون ؛ إذ التقدير لو ثبت كون ما في الأرض جميعا لهم ومثله معه ليفتدوا به ، والضمير عائد على [ما] دون الكون ، فالرّافع الفاعل غير النّاصب للمفعول معه ، إذ لو كان إيّاه للزم من ذلك وجود الثّبوت مصاحبا للمثل [والمعنى على كينونة ما في الأرض مصاحبا للمثل ، لا على ثبوت ذلك مصاحبا للمثل ،](٧) وهذا فيه غموض.

وبيانه : أنّك إذا قلت : «يعجبني قيام زيد وعمرا» ، جعلت «عمرا» مفعولا معه ، والعامل فيه «يعجبني» [لزم](٨) من ذلك أن «عمرا» لم يقم ، وأعجبك القيام وعمرو.

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) في أ : كان.

(٣) سقط في أ.

(٤) سقط في أ.

(٥) ينظر : المقتضب ٣ / ٧٧.

(٦) ينظر : الكتاب ١ / ٤١٠.

(٧) سقط في أ.

(٨) سقط في أ.

٣١٥

وإن جعلت (١) العامل فيه القيام : كان عمرو قائما ، وكان الإعجاب قد تعلّق بالقيام مصاحبا لقيام عمرو.

فإن قلت : هلّا كان «ومثله معه» مفعولا معه ، والعامل فيه هو العامل في «لهم» ؛ إذ المعنى عليه؟.

قلت : لا يصحّ ذلك لما ذكرناه من وجود «معه» في الجملة ، وعلى تقدير سقوطها لا يصحّ ؛ لأنّهم نصّوا على أنّ قولك : «هذا لك وأباك» ممنوع في الاختيار.

قال سيبويه (٢) : وأما «هذا لك وأباك» فقبيح ؛ لأنّه لم يذكر فعلا ولا حرفا فيه معنى فعل حتى يصير كأنّه قد تكلّم بالفعل ، فأفصح سيبويه بأن اسم الإشارة وحرف الجر المتضمن (٣) [لمعنى الاستقرار لا يعملان في المفعول معه وقد أجاز بعض النحويين في حرف الجر والظرف أن يعملا](٤) نحو «هذا لك وأباك».

فقوله : «وأباك» يكون مفعولا معه ، والعامل الاستقرار في «لك». انتهى. ومع هذا الاعتراض الذي ذكره ، فقد يظهر عنه جواب ، وهو أنّا نقول : نختار أن يكون الضّمير في قوله : «معه» عائدا على «مثله» ويصير المعنى : مع مثلين ، وهو أبلغ من أن يكون مع مثل واحد.

وقوله : «تركيب عييّ» فهم قاصر ، ولا بدّ من جملة محذوفة قبل قوله : (ما تُقُبِّلَ مِنْهُمْ) تقديره : وبذلوه ، أو وافتدوا به ، ليصحّ التّرتيب المذكور ؛ إذ لا يترتّب على استقرار ما في الأرض جميعا ومثله معه لهم عدم التّقبّل ، إنما يترتّب عدم التّقبّل على البذل والافتداء والعامّة على «تقبّل» مبنيا [للمفعول حذف فاعله لعظمته وللعلم به.

وقرأ يزيد بن قطيب (٥) : «ما تقبّل» مبنيا للفاعل](٦) وهو ضمير الباري تبارك وتعالى.

قوله [تعالى] (وَلَهُمْ عَذابٌ) مبتدأ وخبره مقدّم عليه ، و «أليم» صفته بمعنى : مؤلم ، وهذه الجملة أجازوا فيها ثلاثة أوجه :

أحدها : أن تكون حالا ، وفيه ضعف من حيث المعنى.

المعنى الثاني : أن تكون في محلّ رفع عطفا على خبر «أن» أخبر عن الذين كفروا بخبرين لو استقرّ لهم جميع ما في الأرض مع مثله فبذلوه ، لم يتقبّل منهم وأنّ لهم عذابا أليما.

الثالث : أن تكون معطوفة على الجملة من قوله : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) ، وعلى هذا فلا محلّ لها ؛ لعطفها على ما لا محلّ له.

__________________

(١) في أ : جعلنا.

(٢) ينظر : الكتاب ١ / ١٢٨.

(٣) في أ : التضمن.

(٤) سقط في أ.

(٥) ينظر : البحر المحيط ٣ / ٤٨٧.

(٦) سقط في أ.

٣١٦

وقوله تعالى : (يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا) كقوله تعالى : (يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ) [النساء : ٢٨] وقد تقدّم.

والجمهور على «أن يخرجوا» مبنيّا للفاعل وقرأ يحيى (١) بن وثّاب (٢) ، وإبراهيم النّخعي «يخرجوا» مبنيا للمفعول وهما واضحتان ، والمقصود من هذا الكلام لزوم العذاب لهم ، وأنّه لا سبيل لهم إلى الخلاص منه وإرادتهم إلى الخروج تحتمل وجهين :

الأوّل : أنهم قصدوا وطلبوا المخرج منها ، كقوله تعالى (كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها) [السجدة : ٢٠].

قيل : إذا [لفحتهم](٣) النّار إلى فوق فهناك يتمنّون الخروج.

وقيل : يكادون أن يخرجوا من النّار ؛ لقوّة النّار ورفعها للمعذّبين.

والثاني : أنهم يتمنّون ذلك ويريدوه بقلوبهم (٤).

فصل

احتجّ أهل السّنّة بهذه الآية على أن الله تعالى يخرج من النار من قال : لا إله إلا الله مخلصا ؛ لأنّه تعالى جعل هذا المعنى من تهديدات [الكفّار ، وأنواع ما خوّفهم به ، ولو لا أنّ هذا المعنى يختصّ بالكفار وإلا لم يكن لتخصيص](٥) الكفّار به معنى ، ويؤكده قوله (وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ) ، وهذا يفيد الحصر ، فكان المعنى : ولهم عذاب مقيم لا لغيرهم كما أن قوله (لَكُمْ دِينَكُمْ) لا لغيركم ، فهاهنا كذلك.

قوله تعالى : (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا نَكالاً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٣٨) فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٩) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)(٤٠)

«و» في اتّصالها وجهان :

الأوّل : أنه لما أوجب في الآية المتقدّمة قطع الأيدي والأرجل عند أخذ المال على سبيل [المحاربة ، بيّن في هذه الآية أن أخذ المال على سبيل](٦) السّرقة يوجب قطع الأيدي ، والأرجل أيضا.

__________________

(١) ينظر : الشواذ ٣٨ ، المحرر الوجيز ٢ / ١٨٧ ، والبحر المحيط ٣ / ٤٨٨ ، ونسبها أيضا إلى أبي واقد ، وينظر : الدر المصون ٢ / ٥٢٠.

(٢) في أ : ذباب.

(٣) في ب : لفحهم لهب.

(٤) في ب والرازي : بقولهم ، ينظر : تفسير الرازي ١١ / ١٧٥.

(٥) سقط في أ.

(٦) سقط في أ.

٣١٧

الثاني : أنّه لما ذكر تعظيم أمر القتل حيث قال : «من قتل نفسا بغير نفس [أو فساد في الأرض](١) فكأنما قتل النّاس جميعا ومن أحياها فكأنّما أحيا النّاس جميعا» ذكره بعد الجنايات التي تبيح القتل والإيلام فذكر :

أولا : قطع الطريق.

وثانيا : من السّرقة.

قوله تعالى : (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ) قرأ الجمهور بالرفع.

وعيسى بن عمر وابن أبي عبلة (٢) بالنّصب.

ونقل عن أبيّ (٣) : «والسّرّق والسّرّقة» بضم السّين وفتح الرّاء مشدّدتين ؛ قال الخفّاف : «وجدته في مصحف أبيّ كذلك».

وممن ضبطهما بما ذكرت أبو عمرو ، إلّا أن ابن عطيّة جعل هذه القراءة تصحيفا [فإنّه قال : «ويشبه أن يكون هذا تصحيفا](٤) من الضابط». لأن قراءة الجماعة إذا كتبت : «والسّرق» : بغير ألف وافقت في الخط هذه ، قلت : ويمكن توجيه هذه القراءة بأنّ «السرق» جمع «سارق» ، فإنّ فعّلا يطّرد جمعا لفاعل صفة ، نحو ضارب وضرّب.

والدّليل على أنّ المراد الجمع قراءة (٥) عبد الله «والسّارقون والسّارقات» بصيغتي جمع السلامة ، فدلّ على أنّ المراد الجمع ، إلا أنه يشكل في أنّ «فعّلا» يكون من جمع : فاعل وفاعلة تقول : نساء ضرّب ، كما تقول : رجال ضرّب ، ولا يدخلون عليه تاء التّأنيث حيث يراد به الإناث ، والسّرّقة هنا ـ كما رأيت ـ في هذه القراءة بتاء التّأنيث ، حيث أريد ب «فعّل» (٦) جمع فاعلة ، فهو مشكل من هذه الجهة لا يقال : إن هذه التّاء يجوز أن تكون لتأكيد الجمع ؛ لأنّ ذلك محفوظ لا يقاس عليه نحو : «حجارة» وأمّا قراءة الجمهور ففيها وجهان :

أحدهما : هو مذهب سيبويه (٧) ، والمشهور من أقوال البصريّين أن «السّارق» مبتدأ محذوف الخبر تقديره : «فيما يتلى عليكم» أو فيما فرض ـ «السّارق» و «السّارقة» أي : حكم السّارق ، وكذا قوله : (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا) [النور : ٢].

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ١٨٧ ، والبحر المحيط ٣ / ٤٩٠ ، والدر المصون ٢ / ٥٢٠ والشواذ ٣٨.

(٣) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ١٨٨ ، والبحر المحيط ٣ / ٤٨٩ ، والدر المصون ٢ / ٥٢٠.

(٤) سقط في أ.

(٥) وبها قرأ إبراهيم النخعي ، كما في المحرر الوجيز ٢ / ١٨٨ ، وينظر : البحر المحيط ٣ / ٤٨٨ ، والدر المصون ٢ / ٥٢٠.

(٦) في أ : مفعل.

(٧) ينظر : الكتاب ١ / ٧١ ، ٧٢.

٣١٨

ويكون قوله : «فاقطعوا» بيانا لذلك الحكم المقدّر ، فما بعد الفاء مرتبط بما قبلها ، ولذلك أتى بها فيه ؛ لأنّه هو المقصود.

ولو لم يأت بالفاء لتوهّم أنه أجنبيّ والكلام على هذا جملتان : الأولى : خبريّة ، والثّانية : أمريّة.

والثاني : وهو مذهب الأخفش ، ونقل عن المبرّد وجماعة كثيرة أنّه مبتدأ أيضا ، والخبر الجملة الأمرية من قوله : «فاقطعوا» ، وإنّما دخلت الفاء في الخبر ؛ لأنه يشبه الشّرط ؛ إذ الألف واللّام فيه موصولة ، بمعنى «الّذي» و «الّتي» والصفة صلتها ، فهي في قوّة قولك : «والذي سرق والتي سرقت فاقطعوا» ، وهو اختيار الزّجّاج (١). وما يدلّ على أنّ المراد من الآية الشّرط والجزاء وجوه :

الأوّل : أنه تعالى صرّح بذلك في قوله تعالى (جَزاءً بِما كَسَبا.) وهذا يدلّ على أنّ القطع جزاء على فعل السّرقة ، فوجب أن يعمّ الجزاء لعموم الشّرط.

والثاني : أن السّرقة جناية ، والقطع عقوبة ، فربط العقوبة بالجناية مناسب ، وذكر الحكم عقيب الوصف المناسب يدلّ على أنّ الوصف علّة لذلك الحكم.

الثالث : أنّا إذا حملنا الآية على هذا الوجه كانت [الآية](٢) مفيدة ، ولو (٣) حملناها على سارق معيّن صارت مجملة غير مفيدة ، فالأوّل أولى.

وأجاز الزمخشري (٤) الوجهين ، ونسب الأوّل لسيبويه ، ولم ينسب الثّاني ، بل قال : ووجه آخر ، وهو أن يرتفعا بالابتداء ، والخبر : «فاقطعوا».

وإنما اختار سيبويه أنّ خبره محذوف كما تقدّم تقديره دون الجملة الطّلبيّة بعده لوجهين :

أحدهما : النّصب في مثله هو الوجه في كلام العرب ، نحو : «زيدا فاضربه» لأجل الأمر بعده.

قال سيبويه (٥) في هذه الآية : الوجه في كلام العرب النّصب ، كما تقول «زيدا فاضربه» ، ولكن أبت العامّة إلّا (٦) الرّفع.

والثاني : دخول الفاء في خبره ، وعنده أنّ «الفاء» لا تدخل إلا في خبر الموصول الصّريح ك «الذي» ، و «من» ، بشروط أخر مذكورة في كتب النّحو ، وذلك لأنّ الفاء إنّما دخلت لشبه المبتدأ بالشّرط ، واشترطوا أن تصلح لأداة الشّرط من كونها جملة فعلية مستقبلة المعنى ، أو ما يقوم مقامها من ظرف وشبهه ، ولذلك إذا لم تصلح لأداة الشّرط ،

__________________

(١) ينظر : تفسير الرازي ١١ / ١٧٦.

(٢) سقط في أ.

(٣) في أ : وهو.

(٤) ينظر : الكشاف ١ / ٦٣١.

(٥) ينظر : الكتاب ١ / ٧٢.

(٦) في أ : على.

٣١٩

لم يجز دخول الفاء في [الخبر ، وصلة «أل» لا تصلح لمباشرة أداة الشّرط فلذلك لا تدخل الفاء في](١) خبرها ، وأيضا ف «أل» (٢) وصلتها في حكم اسم واحد ، ولذلك تخطّاها الإعراب.

وأما قراءة عيسى بن عمر ، وإبراهيم : فالنّصب بفعل مضمر يفسّره العامل في سببيهما (٣) نحو : «زيدا فأكرم أخاه» ، والتقدير : «فعاقبوا السّارق والسّارقة» تقدّره فعلا من معناه ، نحو «زيدا ضربت غلامه» ، أي : «أهنت زيدا».

ويجوز أن يقدّر العامل موافقا لفظا ؛ لأنّه يساغ أن يقال : قطعت السّارق وهذه قراءة واضحة لمكان الأمر بعد الاسم المشتغل عنه.

قال الزّمخشريّ (٤) : وفضّلها سيبويه على قراءة العامّة ؛ لأجل الأمر ؛ لأن «زيدا فاضربه» أحسن من «زيد فاضربه».

وفي نقله تفضيل النّصب على قراءة العامّة نظر ، ويظهر ذلك بنصّ سيبويه.

قال سيبويه : الوجه في كلام العرب النّصب ، [كما تقول : «زيدا اضربه» ؛ ولكن أبت العامّة إلا الرّفع ، وليس في هذا ما يقتضي تفضيل النّصب بل معنى](٥) كلامه أن هذه الآية ليست من الاشتغال في شيء ؛ إذ لو كان من باب الاشتغال لكان الوجه النّصب ، ولكن لم يقرأها الجمهور إلا بالرّفع ، فدلّ على أنّ الآية محمولة على كلامين كما تقدّم ، لا على كلام واحد ، وهذا ظاهر.

وقد رد ابن الخطيب على سيبويه بخمسة أوجه ، وذلك أنه فهم كما فهم الزّمخشريّ من تفضيل النّصب ، فقال : الذي ذهب إليه سيبويه ليس بشيء ، ويدل على فساده وجوه :

الأول : أنه طعن في القراءة المتواترة المنقولة عن الرّسول وعن أعلام الأمّة ، وذلك باطل قطعا ، فإن قال سيبويه : لا أقول : إنّ القراءة بالرّفع غير جائزة ، ولكنّي أقول : قراءة النّصب أولى ، فنقول : رديء أيضا ؛ لأن ترجيح قراءة لم يقرأ بها (٦) إلّا عيسى بن عمر على قراءة الرّسول وجميع الأمّة في عهد الصّحابة والتّابعين أمر منكر ، وكلام مردود.

الثاني : لو كانت القراءة بالنّصب أولى ، لوجب أن يكون في القرّاء من يقرأ : واللذين (يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما) [النساء : ١٦] ، بالنّصب ، ولمّا (٧) لم يوجد في القرّاء من يقرأ كذلك ، علمنا سقوط هذا القول.

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) في أ : قال.

(٣) في أ : سببها.

(٤) ينظر : الكشاف ١ / ٦٣١.

(٥) سقط في أ.

(٦) في ب : القراءة التي لم يقرأ بها.

(٧) في أ : والنصب وإذا.

٣٢٠