اللّباب في علوم الكتاب - ج ٧

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ٧

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٦٤٠

فصل في تفسير الميثاق

اختلفوا في تفسير هذا الميثاق ، فقال أكثر المفسّرين (١) : هو العهد الذي عاهد الله عليه المؤمنين حين بايعوا رسول الله ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم وشرّف وكرم ـ تحت الشّجرة وغيرها على أن يكونوا على السّمع والطاعة في [المحبوب والمكروه](٢) ؛ وأضاف الميثاق الصّادر عن الرّسول إلى نفسه ، كقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ) [الفتح : ١٠] ، وأكّد ذلك بأنّهم التزموا وقالوا : (سَمِعْنا وَأَطَعْنا) ، ثم حذّرهم عن نقض تلك العهود فلا تعزموا بقلوبكم على نقضها ، فالله يعلم ذلك ، وكفى به مجازيا.

وقال ابن عبّاس : هو الميثاق الذي أخذه الله على بني إسرائيل حين قالوا : آمنّا بالتّوراة وبكلّ ما فيها ، وكان من جملة ما في التّوراة البشارة بمقدم محمّد ـ عليه الصلاة والسلام (٣) ـ.

وقال مجاهد والكلبي ومقاتل : هو الميثاق الذي أخذه منهم حين أخرجهم من ظهر آدم ، وأشهدهم على أنفسهم (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ، قالُوا : بَلى)(٤).

وقال السّديّ : المراد بالميثاق : الدّلائل العقليّة والشّرعية التي نصبها الله على التّوحيد والشّرائع (٥).

قوله تعالى : (إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا)(٦) ، في «إذ» ثلاثة أوجه :

أظهرها : أنّه منصوب ب «واثقكم».

الثاني : أنّه منصوب على الحال من الهاء في «به».

الثالث : أنّه حال من [«ميثاقه»](٧) ، وعلى هذين الوجهين الأخيرين يتعلّق بمحذوف على القاعدة المقرّرة.

و «قلتم» في محلّ خفض بالظّرف ، و «سمعنا» في محلّ نصب بالقول.

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ وَلا

__________________

(١) ينظر : المصدر السابق.

(٢) في ب : المكروه والمحبوب.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٤ / ٤٨١) والطبراني في «الكبير» كما في «مجمع الزوائد» (٧ / ١٧) من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٤٦٩) وعزاه للطبري والطبراني وقال الهيثمي في «المجمع» (٧ / ١٧) وعلي بن أبي طلحة لم يسمع من ابن عباس.

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٤ / ٤٨١) عن مجاهد وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٤٦٩) وزاد نسبته لابن المنذر وعبد بن حميد.

(٥) ذكره الفخر الرازي في «التفسير الكبير» (١١ / ١٤٢) عن السدي.

(٦) سقط في أ.

(٧) سقط في أ.

٢٤١

يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (٨) وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (٩) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ)(١٠)

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ) الآية.

لما حثّهم على الانقياد للتّكاليف ، وهي مع كثرتها محصورة في نوعين : التّعظيم لأمر الله ، والشّفقة على خلق الله.

قوله : (كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ) إشارة إلى التّعظيم لأمر الله ، ومعنى القيام لله : هو أن يقوم لله بالحقّ في كلّ ما يلزمه ، وقوله : (شُهَداءَ بِالْقِسْطِ) إشارة إلى الشّفقة على خلق الله ، فيه قولان :

الأوّل : قال عطاء (١) : لا تحاب من شهادتك أهل ودّك وقرابتك ، ولا تمنع شهادتك أعداءك وأضدادك.

الثاني : أمرهم بالصّدق في أفعالهم وأقوالهم ، وتقدّم نظيرها في «النّساء» ، إلّا أنّ هناك قدّم لفظة «القسط» وهنا أخّرت ، وكأنّ الغرض في ذلك ـ والله أعلم ـ أنّ آية «النّساء» جيء بها في معرض الإقرار على نفسه ووالديه وأقاربه ، فبدىء فيها بالقسط الذي هو العدل من غير محاباة نفس ، ولا والد ، ولا قرابة ، والّتي هنا جيء بها في [معرض](٢) ترك العداوة ، فبدىء فيها [بالأمر](٣) بالقيام لله ، لأنّه أردع للمؤمنين ، ثم ثنّي بالشّهادة بالعدل ، فجيء في كلّ معرض بما يناسبه.

وقوله : (لا يَجْرِمَنَّكُمْ) تقدّم مثله ، وكذلك (شَنَآنُ قَوْمٍ).

قوله تعالى : (عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا).

أي لا يحملنّكم بغض قوم على أن لا تعدلوا ، وأراد : لا تعدلوا فيهم فحذف للعلم به ، وظهور حرف الجرّ هنا يرجح تقديره.

قيل : والمعنى : ولا يحملنّكم [بغض](٤) قوم على أن تجوروا عليهم ، وتتجاوزوا الحدّ ، بل اعدلوا فيهم ، وإن أساءوا إليكم ، وهذا خطاب عامّ ، وقيل : إنّها مختصّة بالكفّار ، فإنّها نزلت في قريش لما صدّوا المسلمين عن المسجد الحرام (٥).

قوله : (اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى).

نهاهم أوّلا عن أن يحملهم البغضاء على ترك العدل ، ثم استأنف فصرّح لهم بالأمر

__________________

(١) ينظر : تفسير الرازي ١١ / ١٤٢.

(٢) سقط في أ.

(٣) سقط في أ.

(٤) سقط في أ.

(٥) ينظر : تفسير الرازي ١١ / ١٤٣.

٢٤٢

بالعدل تأكيدا ، ثم ذكر علّة الأمر بالعدل وهو قوله : (هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) ، والمعنى : أقرب إلى الاتّقاء من معاصي الله ، وقيل : أقرب إلى الاتّقاء من عذاب الله.

و «هو» ضمير المصدر المفهوم من الفعل أي : العدل ، وفيه تنبيه على أنّ وجوب العدل إذا كان مع الكفّار الذين هم أعداء الله بهذه الصّفة من القوّة ، فكيف بوجوبه مع المؤمنين الذين هم أولياؤه وأحبّاؤه ، ثم ذكر كلاما كالوعد (١) للمطعين والوعيد للمذنبين ، وهو قوله : (وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) ، يعني : [أنّه] عالم بجميع المعلومات ، لا يخفى عليه شيء من أحوالكم.

ثم ذكر وعد المؤمنين فقال : (وَعَدَ اللهُ ..) الآية.

واعلم أن «وعد» يتعدّى لاثنين :

أوّلهما : الموصول.

والثاني : [محذوف](٢) أي الجنّة.

وقد صرّح بهذا المفعول في غير هذا الموضع ، وعلى هذا فالجملة من قوله : (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ) لا محلّ لها ؛ لأنّها مفسّرة لذلك المحذوف تفسير السّبب للمسبّب ، فإن الجنّة مسببة عن المغفرة ، وحصول الأجر العظيم ، والكلام قبلها تامّ بنفسه.

وذكر الزّمخشريّ في الآية احتمالات [أخر](٣).

أحدها : أنّ الجملة من قوله (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ) [بيان للوعد](٤) ، كأنّه قال : قدم لهم وعدا ، فقيل : أيّ شيء وعده؟ فقال : (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ) ، وعلى هذا فلا محلّ لها أيضا ، وهذا أولى من الأوّل ؛ لأنّ تفسير الملفوظ به أولى من ادّعاء تفسير شيء محذوف.

الثاني : أنّ الجملة منصوبة بقول محذوف ، كأنّه قيل : وعدهم ، وقال لهم : «مغفرة».

الثالث : إجراء الوعد مجرى القول ؛ لأنّه ضرب منه ، ويجعل «وعد» واقعا على الجملة الّتي هي قوله : (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ) ، كما وقع «تركنا» على قوله تعالى : (سَلامٌ عَلى نُوحٍ) [الصافات : ٧٩] كأنه قيل : وعدهم هذا القول ، وإذا وعدهم من لا يخلف الميعاد فقد وعدهم مضمونه

من المغفرة والأجر العظيم ، أي : وعدهم بهذا المجموع ، وإجراء الوعد مجرى القول مذهب كوفيّ.

ثم ذكر وعيد الكفّار فقال : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا) الآية.

__________________

(١) في ب : كالوعيد.

(٢) في ب : المخزون.

(٣) في أ : أخرى.

(٤) سقط في أ.

٢٤٣

(الَّذِينَ كَفَرُوا) مبتدأ ، و «أولئك» مبتدأ ثان ، و «أصحاب» خبره ، والجملة خبر الأوّل ، وهذه الجملة مستأنفة ، آتي بها اسمية دلالة (١) على الثّبوت والاستقرار ، ولم يؤت بها في سياق الوعيد ، كما أتى بالجملة قبلها في سياق الوعد حسما لرجائهم ، وأجاز بعضهم أن تكون هذه الجملة داخلة في حيّز الوعد (٢) على ما تقدم تقريره في الجملة قبلها.

قال : لأنّ الوعيد اللّاحق بأعدائهم ممّا يشفي صدورهم ، ويذهب ما كانوا يجدونه من أذاهم ، ولا شكّ أن الأذى اللّاحق للعدوّ ، مما يسرّ ، ويفرح ما عند عدوّه ، وفيه نظر ، فإن الاستئناف واف بهذا المعنى ، فإن الإنسان إذا سمع خبرا يسوء عدوّه سرّ بذلك ، وإن لم يوعد به ، وقد يتقوى (٣) [صاحب](٤) هذا القول المتقدّم بأن الزّمخشريّ قد نحا إلى هذا المعنى في سورة سبحان [الإسراء : ٩ ، ١٠].

قال : فإن قلت : علام عطف (وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) [الإسراء : ١٠].

قلت : على (أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً) [الإسراء : ٩] على أنه بشرى للمؤمنين ببشارتين بثوابهم ، وبعقاب أعدائهم ، فجعل عقاب أعدائهم داخلا في حيّز البشارة فالبشارة هناك كالوعد هنا.

وهذه الآية تدلّ على أنّ الخلود في النّار ليس إلا للكفّار ؛ لأنّ قوله : (أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ) يفيد الحصر ، والمصاحبة تقتضي الملازمة ، كما يقال : أصحاب الصّحراء ، أي : الملازمون لها.

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ)(١١)

قوله سبحانه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ) الآية.

قتال قتادة : نزلت هذه الآية ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ببطن نخل فأراد بنو ثعلبة وبنو محارب أن يفتكوا به وبأصحابه إذا اشتغلوا بالصلاة فأطلع الله تبارك وتعالى نبيه على ذلك ، وأنزل الله صلاة الخوف ، وقال الحسن : كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم محاصرا غطفان بنخل ، فقال رجل من المشركين : هل لكم في أن أقتل محمدا؟ قالوا : وكيف تقتله؟ قال : أفتك به ، قالوا : وددنا أنك قد فعلت ذلك ، فأتى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم والنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم متقلد سيفه ، فقال : يا محمد أرني سيفك فأعطاه إيّاه فجعل الرجل يهزّ السيف وينظر مرة إلى السيف ومرة إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ،

__________________

(١) في أ : للدلالة.

(٢) في أ : الوعيد.

(٣) في ب : تقوى.

(٤) سقط في أ.

٢٤٤

وقال : من يمنعك مني يا محمد؟ قال : الله فتهدده أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فشام السيف ومضى ، فأنزل الله تعالى هذه الآية ، وقال مجاهد وعكرمة والكلبي وابن يسار عن رجاله : بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المنذر بن عمرو الساعدي وهو أحد النقباء ليلة العقبة في ثلاثين راكبا من المهاجرين والأنصار إلى بني عامر بن صعصعة فخرجوا فلقوا عامر بن الطفيل على بئر معونة وهي من مياه بني عامر واقتتلوا فقتل المنذر بن عمرو وأصحابه إلا ثلاثة نفر كانوا في طلب ضالة لهم أحدهم عمرو بن أمية الضمري فلم يرعهم إلا الطير يحوم في السماء يسقط من بين خراطيمها علق الدم فقال أحد النفر : قتل أصحابنا ثم تولى يشتد حتى لقي رجلا فاختلفا ضربتين فلما خالطته الضربة رفع رأسه إلى السماء وفتح عينيه وقال الله أكبر الجنة وربّ العالمين ، فرجع صاحباه فلقيا رجلين من بني سليم وكان بين النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبين قومهما موادعة ، فانتسبا لهما إلى بني عامر فقتلاهما وقدما قومهما إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يطلبون الدية فخرج ومعه أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهم ، حتى دخلوا على كعب بن الأشرف وبني النضير يستعينهم في عقلهما ، وكانوا قد عاهدوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على ترك القتال وعلى أن يعينوه في الديات ، قالوا : نعم يا أبا القاسم قد آن لك أن تأتينا وتسألنا حاجة اجلس حتى نطعمك ونعطيك الذي سألته ، فجلس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه ، فخلا بعضهم ببعض وقالوا : إنكم لن تجدوا محمدا أقرب منه الآن فمن يظهر على هذا البيت فيطرح عليه صخرة فيريحنا منه؟ فقال عمر بن جحاش : أنا ، فجاء إلى رحى عظيمة ليطرحها عليه فأمسك الله تعالى يده وجاء جبريل وأخبره ، فخرج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم راجعا إلى المدينة ثم دعا عليا فقال : لا تبرح مكانك فمن خرج عليك من أصحابي فسألك عني فقل : توجه إلى المدينة ، ففعل ذلك علي رضي الله عنه حتى تناهوا إليه ثم تبعوه ، فأنزل الله تعالى هذه الآية وقال : (فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) [المائدة : ١١].

قوله تعالى : «عليكم» يجوز أن يتعلّق ب «نعمة» ، وأن يتعلّق بمحذوف على أنّه حال منها.

و «إذ [هم](١)» ظرف ناصبه «النّعمة» أيضا ، أي : اذكروا نعمته عليكم في وقت همّهم [عليكم](٢).

ويجوز أن يتعلّق هذا الظّرف بما يتعلّق به «عليكم» ، إذا جعلته حالا من «نعمة» ، ولا يجوز أن يكون منصوبا ب «اذكروا» لتّنافي زمنيهما ، فإن «إذ» للمضيّ ، و «اذكروا» مستقبل ، و «أن يبسطوا» على إسقاط الباء أي همّوا بأن يبسطوا ، ففي موضع «أن» الخلاف المشهور.

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) سقط في أ.

٢٤٥

ومعنى بسط اليد مدّها إلى المبطوش به كقولهم : فلان بسيط الباع ، ومديد الباع بمعنى واحد ، يقال : بسط إليه لسانه إذا شتمه ، وبسط إليه يده إذا بطش به ، (فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ) أي : منعها أن تصل إليكم.

ثم قال : (وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) أي : كونوا مواظبين على طاعة الله ، ولا تخافوا أحدا في إقامة طاعة الله.

قوله تعالى : (وَلَقَدْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وَقالَ اللهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ)(١٢)

قوله جلا وعلا : (وَلَقَدْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ) الآية في اتّصال هذه الآية بما قبلها وجوه :

أحدها : أنه لما ذكر في الآية الأولى ، وهو قوله : (وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وَأَطَعْنا) [المائدة : ٧] ، ذكر بعده أخذ الميثاق من بني إسرائيل لكنّهم نقضوه ، وتركوا الوفاء به ، أي فلا تكونوا مثل أولئك من اليهود في هذا الخلق الذّميم ، فتصيروا مثلهم فيما نزل بهم.

وثانيها : لما قال تعالى : (اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ) ، وقد تقدّم في بعض روايات أسباب النّزول أنّها نزلت في اليهود ، وأنّهم أرادوا إيقاع الشّرّ برسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ فلما ذكر الله تعالى [ذلك](١) أتبعه بذكر فضائحهم ، وبيان (٢) أنّهم [أبدا](٣) كانوا مواظبين (٤) على نقض المواثيق.

ثالثها : أنّ الغرض من الآيات المتقدّمة ترغيب المكلّفين في قبول التكاليف وترك العصيان ، فذكر تعالى أنّه كلّف من كان قبلكم كما كلّفكم ؛ لتعلموا أنّ عادة الله في عباده أن يكلّفهم ، فليس التّكليف مخصوصا بكم أيّها المؤمنون ، بل هي عادة جارية له مع جميع عباده (٥).

قوله سبحانه : (وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً).

[«منهم»](٦) يجوز أن يتعلّق ب «بعثنا» ، ويجوز أن يتعلّق بمحذوف على أنّه حال من

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) في أ : وبين.

(٣) سقط في أ.

(٤) في ب : مناقضين.

(٥) ينظر : تفسير الرازي ١١ / ١٤٥.

(٦) سقط في أ.

٢٤٦

(اثْنَيْ عَشَرَ) ، لأنه في الأصل صفة له فلما [قدّم نصب](١) حالا ، وقد تقدّم الكلام في تركيب (اثْنَيْ عَشَرَ) وبنائه ، وحذف نونه في «البقرة» [البقرة ٦٠].

[«وميثاق» يجوز أن يكون مضافا إلى المفعول ـ وهو ظاهر ـ أي : إنّ الله ـ تعالى ـ واثقهم ، وأن يكون مضافا إلى فاعله ، أي : إنّهم واثقوه تعالى.

والمفاعلة : يجوز نسبة الفعل فيها إلى كلّ من المذكورين](٢).

«والنّقيب» فعيل ، قيل : بمعنى فاعل مشتقّا من النّقب وهو التّفتيش ، ومنه : (فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ) [ق : ٣٦] ، وسمّي بذلك ؛ لأنّه يفتّش عن أحوال القوم وأسرارهم.

قال الزّجّاج (٣) : أصله النّقب ، وهو الثّقب الواسع ، ومنه المناقب ، وهي الفضائل ؛ لأنّها لا تظهر إلا بالتّنقيب عنها ، ونقبت (٤) الحائط أي : بلغت في النّقب إلى آخره ، ومنه : النّقبة من الجرب ؛ لأنه داء شديد الدّخول ؛ لأن البعير يطلى بالهناء فهو حدّ طعم القطران (٥) في لحمه ، والنّقبة في السّراويل بغير رجلين ؛ لأنّه قد يولع في فتحها ، ونقبها ويقال : كلب نقيب ، وهو كلب ينقب حنجرته لئلّا يرتفع صوت نباحه ، يفعله البخلاء من العرب لئلّا يظفر بهم ضيف.

وقيل : هو بمعنى مفعول ، كأنّ القوم اختاروه على علم منهم ، وتفتيش على أحواله.

وقيل : هو للمبالغة كعليم وخبير.

وقال الأصمّ (٦) : هو المنظور إليه المسند إليه أمور القوم وتدبير مصالحهم.

فصل

قال المفسّرون (٧) : إن بني إسرائيل كانوا اثني عشر سبطا ، واختار الله من كل سبط رجلا يكون نقيبا لهم وحاكما فيهم.

وقال مجاهد : إن النقباء بعثوا إلى مدينة الجبّارين الذين أمر موسى بالقتال معهم ليقفوا على أحوالهم ، ويرجعوا بذلك إلى نبيّهم (٨).

قال القرطبي (٩) : ذكر محمّد بن حبيب في «المحبر» (١٠) أسماء نقباء بني إسرائيل ،

__________________

(١) في ب : نصب قدم.

(٢) سقط في أ.

(٣) ينظر : تفسير الرازي ١١ / ١٤٥.

(٤) في ب : بقيت.

(٥) في ب : الفيران.

(٦) ينظر : تفسير الرازي ١١ / ١٤٦.

(٧) ينظر : المصدر السابق.

(٨) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٤ / ٤٩٠) عن مجاهد وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٤٧٢) وزاد نسبته إلى عبد بن حميد وابن المنذر. وينظر : تفسير الرازي ١١ / ١٣٦.

(٩) ينظر : القرطبي ٦ / ٧٥.

(١٠) في ب : المجيز.

٢٤٧

فقال : من سبط روبيل : شموع بن ركوب ، ومن سبط شمعون : شوقوط بن حوري ، ومن سبط يهوذا : كالب بن يوقنا ، ومن سبط السّاحر : يوغول (١) بن يوسف ، ومن سبط أفرائيم ابن يوسف : يوشع بن النون ، ومن سبط بنيامين : يلظى بن روقو ، ومن سبط ربالون : كرابيل بن سودا ، ومن سبط منشا بن يوسف كدى بن سوشا ، ومن سبط دان : عمائيل بن كسل ، ومن سبط كاذ كوال بن موخى ، ومن سبط نفتال : يوحنّا بن قوشا ، ومن سبط شير ستور بن ميخائيل ، فلّما ذهبوا إليهم رأوا أجراما عظيمة وقوّة وشوكة فهابوهم ورجعوا ، وحدّثوا قومهم وقد نهاهم موسى ـ عليه‌السلام ـ أن يحدّثوهم ، فنكثوا الميثاق إلا كالب ابن يوقنا من سبط يهوذا ، ويوشع بن نون من سبط أفرائيم بن يوسف ، وهما اللذان قال الله تعالى فيهما : (قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ) [المائدة : ٢٣].

فصل

قال القرطبي (٢) : دلّت هذه الاية على قبول خبر الواحد فيما يفتقر إليه المرء ، ويحتاج إلى اطّلاعه من حاجاته الدينيّة والدّنيويّة ، فترتب (٣) عليه الأحكام ، ويربط به الحلال والحرام ، وفيها ـ أيضا ـ دليل على اتّخاذ الجاسوس ، وقد بعث رسول الله ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ بسبسة عينا ، أخرجه مسلم (٤). وسيأتي حكم معاني الجاسوس في الممتحنة إن شاء الله تعالى.

قوله سبحانه : (وَقالَ اللهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ) في الكلام حذف ، والتقدير : وقال الله لهم إنّي معكم ؛ إلّا أنّه [حذف](٥) ذلك لاتّصال [الكلام](٦) بذكرهم

__________________

(١) في أ : يجوول

(٢) ينظر : القرطبي ٦ / ٧٥.

(٣) في أ : فنزل.

(٤) أخرجه مسلم كتاب الإمارة ١٤٥ وأبو داود كتاب الجهاد باب في بعث العيون (٢٦١٨) وأحمد (٣ / ١٣٦) من حديث أنس بن مالك.

وبسبسة هو ابن عمرو بن ثعلبة بن حرشة بن زيد بن عمرو بن سعد بن ذبيان بن شداد بن غطفان بن قيس بن جهينة الجهني. حليف بني طريف بن الخزرج بن ساعدة بن كعب بن الخزرج ، وهو بموحدتين مفتوحتين ، بينهما مهملة ساكنة ثم مهملة مفتوحة ، ويقال له : بسبس بغير هاء ، وهو قول ابن إسحاق وغيره ، شهد بدرا باتفاق ووقع ذكره في صحيح مسلم من حديث أنس قال : بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وآله بسبسة عينا ينظر ما صنعت عير أبي سفيان ، فذكر الحديث في وقعة بدر ، وهو بموحدتين وزن فعللة ، وحكى عياض أنه في مسلم بموحدة مصغر ، ورواه أبو داود ووقع عنده بسيسة بصيغة التصغير وكذا قال ابن الأثير أنه رآه في أصل ابن مندة لكن بغير هاء والصواب الأول فقد ذكر ابن الكلبي أنه الذي أراد الشاعر بقوله :

أقم لها صدورها يا بسبس

إن مطايا القوم لا تحبس

«الإصابة (١ / ١٥٢)».

(٥) سقط في أ.

(٦) سقط في أ.

٢٤٨

وقوله : (إِنِّي مَعَكُمْ) قيل : هذا خطاب للنّقباء ، وقيل : [خطاب](١) لكلّ بني إسرائيل ، والأوّل أولى ؛ لأنّه أقرب إلى الضمير (٢).

قوله تعالى : (لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ) هذه هي اللّام الموطّئة للقسم ، والقسم معها محذوف ، وقد تقدّم أنّه إذا اجتمع قسم وشرط أجيب سابقهما ، إلا أن يتقدّم ذو خبر ، فيجاب الشّرط مطلقا.

واعلم أنّ الكلام قد تمّ عند قوله : (وَقالَ اللهُ إِنِّي مَعَكُمْ) أي : بالعلم والقدرة ، فأسمع كلامكم ، وأرى أفعالكم ، وأعلم ضمائركم ، وهذه مقدّمة معتبرة في الترغيب والتّرهيب ، ثم ابتدأ بعدها جملة شرطية ، والشّرط مركّب من خمسة أمور ، وهي قوله : (لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً).

قوله عز وعلا : «لأكفّرنّ» هذه «اللّام» هي جواب القسم لسبقه ، وجواب الشّرط محذوف لدلالة جواب [القسم](٣) عليه ، وهذا معنى قول الزّمخشريّ : أن [معنى](٤) قوله : «لأكفّرنّ» سادّ مسدّ جوابي القسم والشّرط ، لا كما فهمه بعضهم وردّ عليه ذلك.

ويجوز أن يكون «لأكفّرنّ» جوابا لقوله تعالى قبل ذلك : (وَلَقَدْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ) لما تضمّنه الميثاق [من] معنى القسم ، وعلى هذا فتكون الجملتان ، أعني قوله : «وبعثنا» (وَقالَ اللهُ) فيهما (٥) وجهان :

أحدهما : أنّها في محلّ نصب على الحال.

الثاني : أن تكونا جملتي اعتراض ، والظّاهر أنّ قوله : (لَئِنْ أَقَمْتُمُ) جوابه «لأكفّرنّ» كما تقدّم ، وجملة هذا القسم المشروط وجوابه مفسرة لذلك الميثاق المتقدم.

والتّعزير التّعظيم.

قال : [الوافر]

١٩٤٤ ـ وكم من ماجد لهم كريم

ومن ليث يعزّر في النّديّ (٦)

وقيل : هو الثّناء بخير قاله يونس ، وهو قريب من الأوّل.

وقال الفرّاء : هو الردّ عن الظّلم.

وقال الزّجّاج (٧) : هو الرّدع والمنع ، فعلى القولين الأوّلين يكون المعنى :

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) ينظر : تفسير الرازي ١١ / ١٤٦.

(٣) سقط في أ.

(٤) سقط في أ.

(٥) في ب : فهما.

(٦) ينظر : البحر ٣ / ٤٨٥ ، الأضداد لابن الأنباري ١٤٧ ، الدر المصون ٢ / ٥٠٠.

(٧) ينظر : معاني القرآن ٢ / ١٧٣.

٢٤٩

وعظّمتموهم [وأثنيتم](١) عليهم خيرا ، وعلى الثّالث والرابع يكون المعنى : ورددتم وردعتم عنهم سفاءهم (٢).

قال الزّجّاج (٣) : عزّرت فلانا فعلت به ما يردعه عن القبيح [مثل نكلت](٤) ، فعلى هذا يكون «عزّرتموهم» رددتم عنهم أعداءهم.

وقرأ الحسن البصري (٥) «برسلي» بسكون السّين حيث وقع.

وقرأ (٦) الجحدريّ : (وَعَزَّرْتُمُوهُمْ) خفيفة الزّاي ، وهي لغة.

وقرأ (٧) في [الفتح : ٩] [«وتعزروه»](٨) بفتح عين المضارعة ، وسكون العين ، وضم الزّاي ، وهي موافقة لقراءته هنا ، وتقدّم الكلام في نصب «قرضا» في [البقرة : ٢٤٥].

فإن قيل : لم أخّر الإيمان بالرّسل عن إقامة الصلاة وإيتاء الزّكاة ، مع أنه مقدّم عليهما؟.

فالجواب : أنّ اليهود كانوا مقرّين بأنّه لا بد في حصول النّجاة من إقامة الصلاة ، وإيتاء الزّكاة ، إلّا أنّهم كانوا مصرّين على تكذيب بعض الرّسل ، فذكر بعد إقامة الصّلاة وإيتاء الزّكاة أنّه لا بد من الإيمان بجميع الرّسل حتى يحصل المقصود ، وإلّا لم يكن لإقامة الصلاة وإيتاء الزّكاة تأثير في حصول النّجاة بدون الإيمان بجميع الرّسل.

فإن قيل : قوله : (وَأَقْرَضْتُمُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً) دخل تحت إيتاء الزّكاة ، فما فائدة الإعادة؟.

فالجواب : أنّ المراد بالزّكاة الواجبة ، وبالقرض الصّدقة المندوبة ، وخصّها بالذّكر تنبيها على شرفها.

قال الفرّاء (٩) : ولو قال : وأقرضتم الله إقراضا حسنا ، لكان صوابا ، إلا أنّه قد يقام الاسم مقام المصدر ، ومثله (فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ) [آل عمران : ٣٧] ، ولم يقل : يتقبّل ، وقوله : (وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً) [آل عمران : ٣٧] ولم يقل إنباتا.

قوله سبحانه : (فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ).

أي : أخطأ الطّريق المستقيم الذي هو الدّين المشروع لهم ، وقد تقدّم الكلام على سواء السّبيل.

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) في ب : سفهاهم.

(٣) ينظر : معاني القران ٢ / ١٧٤.

(٤) سقط في أ.

(٥) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ١٦٨ ، والبحر المحيط ٣ / ٤٦٠ ، والدر المصون ٢ / ٥٠٠.

(٦) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ١٦٨ ، والبحر المحيط ٣ / ٤٦٠ ، والدر المصون ٢ / ٥٠٠.

(٧) الآية (٩) من «الفتح».

(٨) سقط في أ.

(٩) ينظر : تفسير الرازي ١١ / ١٤٧.

٢٥٠

فإن قيل : من كفر قبل ذلك أيضا فقد ضلّ سواء السّبيل؟ فالجواب : نعم ، ولكن الضّلال بعده أظهر وأعظم ؛ لأنّ الكفر إنما عظم قبحه لعظم النّعمة المكفورة ، فإذا زادت النّعمة زاد قبح الكفر.

قوله تعالى : (فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)(١٣)

قوله تعالى : (فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ) الآية.

قد تقدّم الكلام على نظيره.

قال القرطبي (١) : والمعنى : فبنقضهم ميثاقهم ، و «ما» زائدة للتّوكيد.

قال قتادة وغيره (٢) : وذلك أنّها تؤكّد الكلام بمعنى تمكنه في النّفس من جهة حسن النّظم ، ومن جهة تكثيره [للتّوكيد](٣) ، كقوله [الوافر]

١٩٤٥ ـ ................

لشيء مّا يسوّد من يسود (٤)

وقيل : نقض الميثاق تكذيب الرّسل ، وقيل (٥) : الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، وقيل : كتمانهم صفة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقيل : المجموع.

وقال عطاء : «لعنّاهم» أبعدناهم من رحمتنا ، وقال الحسن ومقاتل : مسخناهم قردة وخنازير. وقال ابن عبّاس : ضربنا الجزية عليهم (٦).

قوله تعالى : (وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً).

قرأ الجمهور «قاسية» اسم فاعل من قسا يقسو.

وقرأ (٧) الأخوان وهي قراءة عبد الله «قسيّة» بفتح القاف وكسر السّين وتشديد الياء ، واختلف الناس في هذه القراءة.

فقال الفارسي : ليست من ألفاظ العرب [في الأصل](٨) ، وإنّما هي كلمة أعجميّة معرّبة ، يعني أنها مأخوذة من قولهم : درهم قسيّ ، أي : مغشوش ، شبّه قلوبهم في كونها غير صافية من الكدر بالدّراهم المغشوشة غير الخالصة ، وأنشدوا قول أبي زبيد : [البسيط]

__________________

(١) ينظر : تفسير القرطبي ٦ / ٧٦.

(٢) ينظر : المصدر السابق.

(٣) سقط في أ.

(٤) ينظر : القرطبي ٦ / ٧٦.

(٥) في ب : قتل.

(٦) تقدمت هذه الآثار في سورة النساء وآل عمران.

(٧) ينظر : الحجة ٣ / ٢١٦ ، وحجة القراءات ٢٢٣ ، وإعراب القراءات ١ / ١٤٤ ، والعنوان ٨٧ ، وشرح شعلة ٣٤٨ ، وشرح الطيبة ٤ / ٢٢٦ ، وإتحاف ١ / ٥٣١.

(٨) سقط في أ.

٢٥١

١٩٤٦ ـ لها صواهل في صمّ السّلام كما

صاح القسيّات في أيدي الصّياريف (١)

وقول الآخر : [الطويل]

١٩٤٧ ـ وما زوّدوني غير سحق عمامة

وخمس مىء منها قسيّ وزائف (٢)

وقال الزّمخشري (٣) ، وقرأ عبد الله «قسيّة» ، أي : رديئة مغشوشة من قولهم : «درهم قسيّ» ، وهو من القسوة ؛ لأن الذّهب والفضّة الخالصين فيهما لين ، والمغشوش فيه صلابة ويبس والقاسي والقاسح بالحاء المهملة أخوان في الدّلالة على اليبس.

وهذا القول سبقه إليه «المبرّد» ، فإنه قال : «يسمى الدّرهم المغشوش قسيّا لصلابته وشدّته للغشّ الذي فيه» ، وهو يرجع للمعنى الأوّل ، والقاسي والقاسح بمعنى واحد.

وعلى هذين القولين تكون اللّفظة عربيّة.

وقيل : بل هذه القراءة توافق قراءة الجماعة في المعنى والاشتقاق ؛ لأنّه «فعيل» للمبالغة ك «شاهد» ، و «شهيد» ، فكذلك قاس وقسيّ ، وإنما أنّث على معنى الجماعة في المعنى والاشتقاق.

وقرأ الهيصم (٤) بن شداخ : «قسيّة» بضم القاف وتشديد الياء.

وقرىء (٥) «قسيّة» بكسر القاف إتباعا ، وأصل القراءتين : «قاسوة» ، و «قسيوة» لأن الاشتقاق من القسوة.

فصل

والمعنى أنّ قلوبهم ليست بخالصة الإيمان ، بل إيمانهم مشوب بالكفر والنّفاق ، وقيل : نائية عن قبول الحقّ ، منصرفة عن الانقياد للدّلائل.

وقالت المعتزلة (٦) : أخبرنا عنها بأنّها صارت قاسية ، كما يقال : فلان جعل فلانا قاسيا وعدلا. ثم إنّه تعالى ذكر بعض نتائج تلك القسوة ، فقال : (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ) وهذا التّحريف هو تبديلهم نعت النّبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ ، وقيل : التّأويل الباطل.

والجملة من قوله : «يحرّفون» فيها أربعة أوجه :

__________________

(١) ينظر : المقرب (٣٠٦) ، وأمالي القالي (١ / ٢٨) ، اللسان (صهل) الدر المصون ٢ / ٥٠٠.

(٢) البيت لمزرد بن ضرار. ينظر : ديوانه ص ٥٣ ، اصلاح المنطق ص ٣٠٠ ، تذكرة النحاة ص ١١٤ جمهرة اللغة ص ٨٢٢ ، شرح ديوان الحماسة للمرزوقي ٣٦٤ ، الدر المصون ٢ / ٥٠٠.

(٣) ينظر : الكشاف ١ / ٦١٥ ، والبحر المحيط ٣ / ٤٦١ ، والدر المصون ٢ / ٥٠١.

(٤) ينظر : البحر المحيط ٣ / ٤٦١. والدر المصون ٢ / ٥٠١.

(٥) ينظر : القراءة السابقة.

(٦) ينظر : تفسير الرازي ١١ / ١٤٨.

٢٥٢

أحدها : أنّها مستأنفة بيان لقسوة قلوبهم ؛ لأنّه لا قسوة أعظم من الافتراء (١) على الله تعالى.

والثاني : أنّها حال من مفعول «لعنّاهم» أي : لعنّاهم حال اتّصافهم بالتّحريف.

والثالث : قال أبو البقاء (٢) : أنّها حال من الضّمير المستتر في «قاسية».

وقال : ولا يجوز أن يكون حالا من «القلوب» ؛ لأنّ الضّمير في «يحرّفون» لا يرجع إلى «القلوب» ، وفي هذا نظر من حيث جواز أن يكون حالا من الضّمير في «قاسية» ، يلزمه أن يجوّز أن يكون حالا من «القلوب» ، لأنّ الضّمير المستتر في «قاسية» يعود على «القلوب» ، فكما يمتنع أن يكون حالا من ظاهره (٣) [يمتنع أن يكون حالا من ضميره](٤) ، وكأنّ المانع الذي توهمه كون الضّمير وهو الواو في «يحرّفون» إنّما يعود على اليهود بجملتهم لا على قلوبهم خاصّة ، فإن القلوب لا تحرّف ، إنما يحرّف أصحاب القلوب ، وهذا لازم له في تجويزه الحاليّة من الضّمير في «قاسية».

ولقائل أن يقول : المراد ب «القلوب» نفس الأشخاص ، وإنما عبّر عنهم بالقلوب ؛ لأن هذه الأعضاء هي محلّ التّحريف ، أي : إنّه صادر عنها بتفكّرها فيه ، فيجوز على هذا أن يكون حالا من «القلوب».

والرابع : أن يكون حالا من «هم» في «قلوبهم».

قال أبو البقاء (٥) : وهو ضعيف يعني : لأنّ الحال من المضاف إليه لا تجوز ، وغيره يجوّز ذلك في مثل هذا الموضع ؛ لأن المضاف بعض المضاف إليه.

وقرأ الجمهور بفتح الكاف (٦) وكسر اللّام ، وهو جمع «كلمة».

وقرأ (٧) أبو رجاء «الكلم» بكسر الكاف وسكون اللّام ، وهو تخفيف قراءة الجماعة ، وأصلها أنّه كسر الكاف إتباعا ، ثم سكن العين تخفيفا.

وقرأ السّلمي (٨) والنّخعي : «الكلام» بالألف ، و (عَنْ مَواضِعِهِ) وتقدّم مثله في «النّساء» [النساء : ٤٦].

قوله تعالى : (وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ).

قال ابن عباس (٩) : تركوا نصيبا ممّا أمروا به من الإيمان بمحمّد ـ عليه الصلاة والسلام ـ.

__________________

(١) في أ : الافتراض.

(٢) ينظر : الإملاء ١ / ٢١١.

(٣) في أ : ضميره.

(٤) سقط في أ.

(٥) ينظر : الإملاء ١ / ٢١١.

(٦) في أ : السين.

(٧) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ١٦٩ ، والبحر المحيط ٣ / ٤٦١ ، والدر المصون ٢ / ٥٠١.

(٨) ينظر : القراءة السابقة.

(٩) ينظر : الرازي ١١ / ١٤٨.

٢٥٣

قوله ـ سبحانه ـ : (وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ).

في «خائنة» [ثلاثة أوجه](١) :

أحدها : أنّها اسم فاعل ، والهاء للمبالغة ك «رواية وعلّامة [ونسّابة](٢)» ، أي : على شخص خائن.

قال الشّاعر : [الكامل]

١٩٤٨ ـ حدّثت نفسك بالوفاء ولم تكن

للغدر خائنة مغلّ الإصبع (٣)

الثاني : أن التّاء للتّأنيث ، وأنّث على معنى : طائفة أو فرقة أو نفس أو فعلة خائنة.

قال ابن عبّاس : (عَلى خائِنَةٍ) ، أي : على معصية ، وكانت خيانتهم نقض العهد ، ومظاهرتهم المشركين على حرب رسول الله ـ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم ـ وهمّهم بقتله وسمه ونحوها من الخيانات الّتي ظهرت منهم.

الثالث : أنها بمعنى المصدر ك «العافية والعاقبة (٤) والكاذبة واللاغية والواقية» ، قال تعالى: (فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ) [الحاقة : ٥] أي : بالطّغيان ، وقال : (لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ) [الواقعة : ٢] أي كذب ، وقال : (لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً) [الغاشية : ١١] أي : لغوا.

وتقول العرب : سمعت راغية الإبل ، وثاغية الشاء ، يعنون رغاءها وثغاءها.

قال الزّجّاج (٥) : [ويقال](٦) عافاه الله عافية ، ويؤيّد هذا الوجه قراءة الأعمش (٧) «على خيانة» وأصل «خائنة» خاونة وخيانة وخوانة [لقولهم : تخوّن ، وخوّان](٨) وهو [أخون ، وإنما أعلّا إعلال «قائمة» ، و «قيام»](٩).

و «منهم» صفة ل «خائنة» إن أريد بها الصّفة ، وإن أريد بها المصدر قدّر مضاف ، أي : من بعض خياناتهم.

قوله تعالى : (إِلَّا قَلِيلاً) منصوب على الاستثناء ، وفي المستثنى منه أربعة أقوال :

أظهرها : أنّه لفظ «خائنة» ، وهم الأشخاص المذكورون في الجملة قبله ، أي : لا تزال تطّلع على من يخون منهم إلّا القليل ، فإنّه لا يخون فلا تطلغ عليه ، وهم الذين أسلموا من أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وأصحابه.

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) في ب : وتشابه.

(٣) ينظر : اللسان (صبع) ، الطبري ١٠ / ١٣٢ ، إصلاح المنطق ٢٩٥ ، الكشاف ١ / ٦١٦ ، الدر المصون ٢ / ٥٠١.

(٤) في أ : الغائبة.

(٥) ينظر : تفسير الرازي ١١ / ١٤٨.

(٦) سقط في أ.

(٧) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ١٧٠ ، والبحر المحيط ٣ / ٤٦٢ ، والدر المصون ٢ / ٥٠١.

(٨) في أ : كقولهم : يجوز وجواز.

(٩) في أ : أجوزه وأهل الإعلال قائمة وقيام.

٢٥٤

قال أبو البقاء (١) : «ولو قرىء بالجرّ على البدل لكان مستقيما» ، يعني على البدل من «خائنة» ، فإنّه في حيز (٢) كلام غير موجب.

والثاني ذكره ابن عطيّة (٣) : أنّه الفعل أي : لا تزال تطّلع على فعل الخيانة إلا فعلا قليلا ، وهذا واضح إن أريد بالخيانة أنّها صفة للفعلة المقدّرة كما تقدّم ، ولكن يبعد ما قاله ابن عطيّة قوله بعده : «منهم» ، وقد تقدّم لنا نظير ذلك في قوله : (ما فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ) [النساء : ٦٦] من حيث جوّز الزّمخشريّ فيه أن يكون صفة لمصدر محذوف.

الثالث : أنّه «قلوبهم» في قوله تعالى : (وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً) ، قال صاحب هذا القول : والمراد بهم : «المؤمنون ؛ لأنّ القسوة زالت عن قلوبهم» ، وهذا بعيد جدّا ؛ لقوله : «لعنّاهم».

الرابع : أنّه الضّمير في «منهم» من (٤) قوله : (عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ) قاله مكيّ (٥).

قوله [تعالى] : (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ).

قيل : «العفو» نسخ بآية السّيف ، وقيل : لم ينسخ ، وعلى هذا فيه وجهان :

أحدهما : معناه : فاعف عن مؤمنيهم ، ولا تؤاخذهم بما سلف منهم.

الثاني : أنّا إن حملنا القليل على الكفّار [منهم الذين بقوا على الكفر] ، فالمعنى : أنّ الله تعالى أمر رسوله بالعفو عنهم في صغائر زلّاتهم ما داموا باقين على العهد ، وهو قول أبي مسلم(٦).

ثم قال تعالى : و (اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ).

قال ابن عبّاس : إذا عفوت فأنت محسن ، وإذا كنت محسنا فقد أحبّك الله (٧).

وقيل : المراد بهؤلاء المحسنين : هم المعنيّون بقوله تعالى : (إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ) وهم الذين ما نقضوا العهد.

قوله تعالى : (وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللهُ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ)(١٤)

قوله سبحانه : (وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى) الآية.

في قوله : (وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا) خمسة أوجه :

__________________

(١) ينظر : الإملاء ١ / ٢١١.

(٢) في أ : جره.

(٣) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ١٦٩.

(٤) في أ : في.

(٥) ينظر : المشكل ١ / ٢٢٣.

(٦) ينظر : تفسير الرازي ١١ / ١٤٨.

(٧) ذكره الرازي في «التفسير الكبير» (١١ / ١٤٨ ـ ١٤٩) عن ابن عباس.

٢٥٥

أظهرها : [أنّ «من»](١) متعلّق بقوله : «أخذنا» ، والتّقدير الصّحيح فيه أن يقال : تقديره : وأخذنا من الذين قالوا : إنّا نصارى ميثاقهم ، فتوقع «الّذين» بعد «أخذنا» وتؤخر عنهم «ميثاقهم» ، ولا يجوز أن تقدّر : «وأخذنا ميثاقهم» من «الّذين» فيتقدّم «ميثاقهم» على (الَّذِينَ قالُوا).

وإن كان ذلك جائزا من حيث كونهما مفعولين ، كلّ منهما جائز التّقديم والتّأخير ؛ لأنّه يلزم عود الضّمير على متأخّر لفظا ورتبة وهو لا يجوز إلا في مواضع محصورة ، نصّ على ذلك جماعة (٢) منهم مكّي (٣) وأبو البقاء (٤).

والثاني : أنّه متعلّق بمحذوف على أنّه خبر لمبتدأ محذوف ، قامت صفته مقامه ، والتّقدير : «ومن الذين قالوا إنا نصارى قوم أخذنا ميثاقهم» ، فالضّمير في «ميثاقهم» يعود على ذلك المحذوف.

والثالث : خبر مقدّم ـ أيضا ـ ولكن قدّروا المبتدأ موصولا حذف ، وبقيت [صلته](٥) والتقدير : ومن الّذين قالوا : إنّا نصارى من أخذنا ميثاقهم فالضمير في «ميثاقهم» عائد على «من» ، والكوفيّون يجيزون حذف الموصول ، وقد تقدم لنا معهم البحث في ذلك ، ونقل مكّي (٦) مذهب الكوفييّن هذا ، [وقدّره عندهم : «ومن الذين قالوا إنّا نصارى من أخذنا»](٧) ، وهذا التّقدير لا يؤخذ منه أنّ المحذوف موصول فقط ، بل يجوز أن تكون «من» المقدّرة نكرة موصوفة حذفت وبقيت صفتها ، فيكون كالمذهب الأوّل.

الرابع : أن تتعلّق «من» ب «أخذنا» كالوجه الأوّل ، إلا أنّه لا يلزم فيه ذلك التّقدير ، وهو أن توقع (مِنَ الَّذِينَ) بعد «أخذنا» وقبل : «ميثاقهم» ، بل يجوز أن يكون التّقدير على العكس ، بمعنى : أنّ الضّمير في «ميثاقهم» يعود على بني إسرائيل ، ويكون المصدر من قوله : «ميثاقهم» مصدرا تشبيهيّا ، والتّقدير : أخذنا من النّصارى ميثاقا مثل ميثاق بني إسرائيل ، كقولك : أخذت من زيد ميثاق عمرو ، أي [ميثاقا مثل ميثاق عمرو](٨) ، وبهذا الوجه بدأ الزّمخشري ، فإنّه قال : أخذنا من النّصارى ميثاق من ذكر قبلهم من قوم موسى ، أي : مثل ميثاقهم بالإيمان بالله والرّسل.

والخامس : أن «من الّذين» معطوف على «منهم» في قوله : (وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ) أي : من اليهود [والمعنى : ولا تزال تطّلع على خائنة من اليهود](٩) ، ومن

__________________

(١) في أ : أنه.

(٢) في أ : الجماعة.

(٣) ينظر : المشكل ١ / ٢٢٣.

(٤) ينظر : الإملاء ١ / ٢١١.

(٥) سقط في أ.

(٦) ينظر : المشكل ١ / ٢٢٣.

(٧) سقط في أ.

(٨) سقط في أ.

(٩) سقط في أ.

٢٥٦

الذين قالوا إنّا نصارى ، ويكون قوله : (أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ) على هذا مستأنفا ، وهذا ينبغي ألّا يجوز لوجهين :

أحدهما : الفصل غير المغتفر.

والثاني : أنّه تهيئة (١) للعامل في شيء ، وقطعه عنه ، وهو لا يجوز.

فصل

إنما (٢) قال : (وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى) ولم يقل : «ومن النصارى» ؛ لأنّهم سمّوا أنفسهم بهذا الاسم ادّعاء لنصرة الله ، بقولهم لعيسى : (نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ) [آل عمران : ٥٢] ، وليسوا موصوفين به.

قال الحسن : فيه دليل على أنّهم نصارى بتسميتهم لا بتسمية الله (٣) وقيل : أراد بهم اليهود والنّصارى ، فاكتفى بذكر أحدهما (٤) ، والصّحيح الأوّل ، والمراد ب «ميثاقهم» أنّه مكتوب في الإنجيل أن يؤمنوا بمحمّد ـ عليه الصلاة والسلام ـ «فنسوا حظّا ممّا ذكّروا به» وذلك الحظّ هو الإيمان بمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتنكير «الحظّ» يدلّ على أنّ المراد به حظّ واحد ، وهو الإيمان بمحمّد ، وإنما خصّ هذا الواحد بالذّكر مع أنّهم تركوا كثيرا ممّا أمرهم به ، لأنّ هذا هو المهمّ الأعظم.

وقوله : (فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) بالأهواء المختلفة والجدال في الدّين ، فقيل : بين اليهود والنّصارى ، وقيل : بين فرق النّصارى ، وأن (٥) بعضهم يكفّر بعضا إلى يوم القيامة.

وقوله : (وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللهُ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ) وعيد لهم.

قوله : «بينهم» فيه وجهان :

أحدهما : أنّه ظرف ل «أغرينا».

والثاني : أنّه حال من «العداوة» ، فيتعلّق بمحذوف ، ولا يجوز أن يكون ظرفا للعداوة ؛ لأنّ المصدر لا يتقدّم معموله عليه.

و (إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) أجاز فيه أبو البقاء (٦) أن يتعلّق ب «أغرينا» ، أو ب «العداوة» أو ب «البغضاء» أي : أغرينا إلى يوم القيامة [بينهم العداوة والبغضاء ، أو أنهم يتعادون إلى يوم القيامة](٧) أو يتباغضون إلى يوم القيامة.

__________________

(١) في أ : لهيئة.

(٢) في أ : أنها.

(٣) ينظر : تفسير البغوي ٢ / ٢٢.

(٤) في أ : أخذتم.

(٥) في ب : فإن.

(٦) ينظر : الإملاء ١ / ٢١١.

(٧) سقط في أ.

٢٥٧

وعلى ما أجازه أبو البقاء أن تكون المسألة من باب الإعمال ، ويكون قد وجد التّنازع بين ثلاثة عوامل ، ويكون من إعمال الثّالث للحذف من الأوّل والثّاني ، وتقدّم تحرير ذلك.

و «أغرينا» من أغراه بكذا أي : ألزمه إياه ، وأصله من الغراء الذي يلصق به ، ولامه واو [فالأصل](١) أغرونا ، وإنما قلبت الواو ياء ؛ لوقوعها رابعة [ك «أغوينا» ،](٢) ، ومنه قولهم : سهم مغروّ أي : معمول بالغراء ، يقال : غري بكذا يغرى غرى وغراء ، فإذا أريد تعديته عدّي بالهمزة ، فقيل : أغريته بكذا.

والضمير في «بينهم» يحتمل أن يعود على (الَّذِينَ قالُوا : إِنَّا نَصارى) ، وأن يعود على اليهود المتقدمين الذّكر ، وبكلّ قال جماعة كما [قدّمنا](٣) وهذا الكلام معطوف على الكلام قبله من قوله : (وَلَقَدْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ) أي : ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل ، وأخذنا من الّذين قالوا.

قوله تعالى : (يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ (١٥) يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ)(١٦)

لما حكى عن اليهود والنّصارى نقض العهد ، دعاهم بعد ذلك إلى الإيمان بمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : (يا أَهْلَ الْكِتابِ) وأراد اليهود والنّصارى ، ووحّد «الكتاب» إرادة للجنس.

ثم قال : (يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ).

قال ابن عباس : أخفوا آية الرّجم من التّوراة وبيّنها الرّسول ـ عليه‌السلام ـ لهم ، وهو لم يقرأ [كتابا](٤) ولم يتعلّم علما من أحد (٥) ، وهذه معجزة ، وأخفوا صفة محمّد ـ عليه الصلاة والسلام ـ في الإنجيل ، وغير ذلك.

قوله : «يبيّن» في محلّ نصب على الحال من «رسولنا» ، أي : جاءكم (٦) رسولنا في هذه الحالة ، و «ممّا» يتعلّق بمحذوف ؛ لأنّه صفة ل «كثيرا» ، و «ما» موصولة اسميّة ، و «تخفون» صلتها ، والعائد محذوف ، أي : من الذين كنتم تخفونه ، و (مِنَ الْكِتابِ) متعلّق بمحذوف على أنّه حال من العائد المحذوف.

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) في أ : فأغرينا.

(٣) في أ : قد قبلوا.

(٤) في أ : كتبا.

(٥) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٤ / ٥٠٢) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٤٧٥) وزاد نسبته لابن الضريس وابن أبي حاتم والحاكم وصححه.

(٦) في ب : حالكم.

٢٥٨

وقوله : (وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ) ، أي : لا يظهر كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب ، فلا يتعرّض لكم ، ولا يؤاخذكم به ؛ لأنّه لا حاجة له إلى إظهاره ، والفائدة في ذلك : أنهم (١) علموا كون الرّسول عالما بكلّ ما يخفونه ، فيصير ذلك داعيا لهم إلى ترك الإخفاء ، لئلا يفتضح أمرهم(٢).

والضّمير في «يبيّن» و «يعفو» يعود على الرّسول.

وقد جوّز قوم أن يعود على الله تعالى ، وعلى هذا فلا محلّ لقوله : «يبيّن» من الإعراب ، ويمتنع أن يكون حالا من «رسولنا» لعدم الرّابط ، وصفة «كثير» محذوفة للعلم بها ، وتقديره: عن كثير من ذنوبكم ، وحذف الصّفة قليل.

قوله : (قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ) لا محلّ له [من الإعراب](٣) لاستئنافه ، ، و (مِنَ اللهِ) يجوز أن يتعلق ب «جاء» ، وأن يتعلّق بمحذوف على أنّه حال من «نور» ، قدّمت صفة النّكرة عليها ، فنصبت حالا.

فصل في معنى الآية

والمراد بالنّور : محمد ـ عليه الصلاة والسلام ـ ، وبالكتاب : القرآن ، وقيل : المراد بالنّور: الإسلام ، وبالكتاب القرآن ، وقيل : النّور والكتاب والقرآن ، وهذا ضعيف ؛ لأنّ العطف يوجب التّغاير.

قوله تعالى : «يهدي» فيه خمسة أوجه :

أظهرها : أنّه في محلّ رفع ؛ لأنّه صفة ثانية (٤) ل «كتاب» ، وصفه بالمفرد ثم بالجملة ، وهو الأصل.

الثاني : أن يكون صفة أيضا لكن ل «نور» ، وصفه بالمفرد ثم بالجملة ، ذكره أبو البقاء(٥) وفيه نظر ، إذ القاعدة أنّه إذا اجتمعت التّوابع قدّم النّعت على عطف النّسق ، تقول جاء زيد العاقل وعمرو ، ولا تقول : جاء زيد وعمرو العاقل ؛ لأنّ فيه إلباسا أيضا.

الثالث : أن يكون حالا من «كتاب» ، لأن النّكرة لما تخصّصت بالوصف قربت من المعرفة.

وقياس (٦) قول أبي البقاء أنّه يجوز أن يكون [حالا من «نور» ، كما جاز أن يكون](٧) صفة له (٨).

__________________

(١) في أ : إذا.

(٢) في ب : يفتضحوا.

(٣) سقط في أ.

(٤) في أ : ثابتة.

(٥) ينظر الإملاء ١ / ٢١٢.

(٦) في أ : وقيل.

(٧) سقط في أ.

(٨) سقط في أ.

٢٥٩

الرابع : أنّه حال من «رسولنا» بدلا من الجملة الواقعة حالا له ، وهي قوله : «يبيّن».

الخامس : أنّه حال من الضّمير في «يبيّن» ذكرهما أبو البقاء (١) ، ولا يخفى ما فيهما من الفصل ؛ ولأن فيه ما يشبه تهيئة (٢) العامل للعمل ، وقطعه عنه ، والضّمير في «به» يعود على من جعل «يهدي» حالا منه ، أو صفة له.

قال أبو البقاء (٣) : فلذلك أفرد ، أي : إن الضمير في «به» أتي به مفردا ، وقد تقدّمه شيئان وهما : «نور» و «كتاب» ، ولكن لما قصد بالجملة من قوله : «يهدي» الحال ، أو الوصف من أحدهما ، أفرد الضّمير.

وقيل : الضمير في «به» يعود على الرّسول [وقيل : يعود على «السّلام»](٤) ، وعلى هذين القولين لا تكون الجملة من قوله : «يهدي» حالا ولا صفة لعدم الرّابط.

و «من» موصولة أو نكرة موصوفة ، وراعى لفظها في قوله : «اتّبع» فلذلك [أفرد الضّمير ، ومعناها ، فلذلك](٥) جمعه في قوله : «ويخرجهم».

وقرأ عبيد بن عمير ، ومسلم بن جندب ، والزّهري (٦) «به» بضم الهاء حيث وقع ، وقد تقدّم أنّه الأصل.

وقرأ الحسن (٧) «سبل» بسكون الباء ، وهو تخفيف قياسي به كقولهم في عنق : عنق ، وهذا أولى لكونه جمعا ، وهو مفعول ثان ل «يهدي» على إسقاط حرف الجرّ ، أي إلى «سبل» ، وتقدّم تحقيق نظيره ، ويجوز أن ينتصب على أنّه بدل من «رضوانه» إما بدل كل من كلّ لأن سبل السلام [هي رضوان الباري تعالى ، وإما بدل اشتمال ؛ لأن الرضوان مشتمل على سبل السلام ؛ أو لأنها مشتملة على رضوان الله تعالى ، وإما بدل](٨) بعض من كل ؛ لأن سبل السلام بعض الرضوان.

فصل

معنى (يَهْدِي بِهِ اللهُ) أي : بالكتاب المبين (مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ) أي : كان مطلوبه من طلب الدّين (٩) اتّباع الدّين [الذي](١٠) يرتضيه الله ، (سُبُلَ السَّلامِ) [أي : طرق السّلامة](١١) وقيل : السلام هو الله عزوجل ، و «سبله» : دينه الذي شرع لعباده ، ويجوز

__________________

(١) ينظر : الإملاء ١ / ٢١٢.

(٢) في أ : لهيئة.

(٣) ينظر : الإملاء ١ / ٢١٢.

(٤) سقط في أ.

(٥) سقط في أ.

(٦) وقرأ بها حميد كما في المحرر الوجيز ٢ / ١٧١ ، والبحر المحيط ٣ / ٤٦٤ ، والدر المصون ٢ / ٥٠٥.

(٧) وقرأ بها ابن شهاب وينظر : السابق.

(٨) سقط في أ.

(٩) في ب : الدنيا.

(١٠) سقط في أ.

(١١) سقط في أ.

٢٦٠