اللّباب في علوم الكتاب - ج ٧

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ٧

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٦٤٠

عَلَيْكُمُ) ، وكان من تمام نعمته أن دخلوا مكة آمنين ، وعليها ظاهرين ، وحجّوا آمنين مطمئنين لم يخالطهم أحد من المشركين.

قال ابن الخطيب (١) : وهذا المعنى قد عرف بقوله : (الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ) فحمله على هذا تكرير ، وإنما معنى قوله : (وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً) أي : بسبب ذلك الإكمال ؛ لأنه لا نعمة أتم من نعمة الإسلام.

قوله سبحانه : (وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً) في «رضي» وجهان :

أحدهما : أنه متعد لواحد ، وهو «الإسلام» ، و «دينا» على هذا حال.

وقيل : هو مضمّن معنى صيّر وجعل ، فيتعدّى لاثنين ؛ أولهما : «الإسلام» والثاني : «دينا».

«لكم» يجوز فيه (٢) وجهان :

أحدهما : أنه متعلق ب «رضي».

والثاني : أنه متعلق بمحذوف ؛ لأنّه حال من الإسلام ، ولكنّه قدّم عليه.

ومعنى الكلام أنّ هذا هو الدين المرضيّ عند الله ، ويؤكّده قوله تعالى : (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ) [آل عمران : ٨].

وقوله تعالى : (فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ) قد تقدم الكلام عليها في البقرة [آية : ١٧٣].

و (فِي مَخْمَصَةٍ) متعلق ب «اضطرّ» ، [ومعنى : «اضطرّ»](٣) أصيب بالضر الذي لا يمكنه الامتناع معه من الميتة.

و «المخمصة» : المجاعة ؛ لأنها تخمص [لها](٤) البطون ، أي : تضمر.

قال أهل اللّغة (٥) : الخمص والمخمصة : خلاء البطن من الطعام ، وأصله من الخمص الذي هو ضمور البطن. يقال : رجل خميص وخمصان ، وامرأة خميصة وخمصانة ، والجمع خمائص وخمصانات ، وهي صفة محمودة في النساء.

ويقال : رجل خمصان وامرأة خمصانة ، ومنه أخمص القدم لدقّتها ، ويستعمل في الجوع والغرث.

قال : [الطويل]

__________________

(١) ينظر : الرازي ١١ / ١١١.

(٢) في أ : فيها.

(٣) سقط في ب.

(٤) سقط في أ.

(٥) ينظر : تفسير الرازي ١١ / ١١١.

٢٠١

١٩٣٠ ـ تبيتون في المشتى ملاء بطونكم

وجاراتكم غرثى يبتن خمائصا (١)

وقال آخر : [الوافر]

١٩٣١ ـ كلوا في بعض بطنكم تعفّوا

فإنّ زمانكم زمن خميص (٢)

وصف الزمان بذلك مبالغة كقولهم : نهاره صائم ، وليله قائم. و «غير» نصب على الحال.

قال بعضهم : ينتصب بمحذوف مقدّر على معنى : فيتناول (٣) غير متجانف ، ويجوز أن ينتصب بقوله : «اضطرّ» ويكون المقدر متأخرا.

والجمهور على «متجانف» بألف وتخفيف النون من «تجانف».

وقرأ أبو عبد الرحمن والنّخعيّ (٤) «متجنّف» بتشديد النّون دون ألف.

قال أبو محمد بن عطية : وهي أبلغ من «متجانف» (٥) في المعنى ؛ لأنّ شدّة العين تدلّ على مبالغة وتوغّل في المعنى.

و «لإثم» متعلّق ب «متجانف» ، واللام على بابها.

وقيل : هي بمعنى «إلى» (٦) أي غير مائل إلى إثم ولا (٧) حاجة إليه.

وقد تقدم معنى هذا واشتقاقها عند قوله : (فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً).

قال القرطبي (٨) : هو معنى قوله : (غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ) ، ومعنى «الإثم» هاهنا أن تأكل فوق الشّبع تلذّذا في قول أهل «العراق».

وفي قول أهل «الحجاز» : أن تكون عاصيا (٩).

قال قتادة (١٠) : غير متعرّض لمعصية في مقصده.

وقوله : (فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ) جملة ، إمّا في محل جزم ، أو رفع على حسب ما قيل في «من» ، وكذلك القول في الفاء إما واجبة أو جائزة ، والعائد على كلا التقديرين محذوف ، أي : (فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ) له ، [يعني](١١) : يغفر له أكل المحرّم عند الاضطرار «رحيم» بعباده ،

__________________

(١) ينظر : ديوان الأعشى (١٤٩) ، الدر المصون ٢ / ٤٨٧.

(٢) تقدم برقم ١٦٤.

(٣) في ب : فيقال.

(٤) وبها قرأ يحيى بن وثاب كما في المحرر الوجيز ٢ / ١٥٥ ، والبحر المحيط ٣ / ٤٤٢ ، والدر المصون ٢ / ٤٨٨.

(٥) في ب : «تجانف».

(٦) في ب : أي.

(٧) في أ : أو.

(٨) ينظر القرطبي : ٦ / ٤٤.

(٩) في ب : غاصبا.

(١٠) ينظر : تفسير البغوي ٢ / ١١.

(١١) سقط في ب.

٢٠٢

حيث أحلّ لهم ذلك المحرم عند احتياجهم إلى أكله ، وهذا من تمام ما تقدم ذكره في المطاعم التي حرّمها الله تعالى ، يعني : إنها وإن كانت محرمة إلا أنها تحل في حال الاضطرار ، ومن قوله : «فسق» إلى هاهنا ـ اعتراض وقع في النّسق ، والغرض منه تأكيد ما ذكر من معنى التحريم ، فإن تحريم هذه الخبائث من جملة الدّين الكامل والنعمة الثابتة والإسلام الذي هو الدين المرضيّ عند الله تعالى.

قوله تعالى : (يَسْئَلُونَكَ ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ)(٤)

قوله تعالى : (يَسْئَلُونَكَ ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ) الآية (١).

وهذا أيضا متّصل بما قبله من ذكر المطعومات ، وقد تقدم الكلام على «ماذا» [وما قيل فيها فليلتفت إليه](٢).

وقوله : «لهم» بلفظ الغيبة لتقدم ضمير الغيبة في قوله تعالى : «يسألونك».

ولو قيل في الكلام : ماذا أحلّ لنا؟ لكان جائزا على حكاية الجملة ، كقولك : أقسم زيد ليضربنّ ولأضربنّ ، بلفظ الغيبة والتكلم ، إلا أن ضمير المتكلّم يقتضي حكاية ما قالوا ، كما أن «لأضربن» يقتضي حكاية الجملة المقسم عليها ، و «ماذا أحلّ؟» هذا الاستفهام معلّق للسؤال ، وإن لم يكن السؤال من أفعال القلوب إلّا أنّه كان سبب العلم ، والعلم يعلق ، فكذلك سببه ، وقد تقدم تحريره في «البقرة».

وقال الزمخشري (٣) هنا : في السؤال معنى القول ، فلذلك وقع بعده ماذا أحل لهم ، كأنه قيل : يقولون : ماذا أحل لهم ، ولا حاجة إلى تضمين السؤال معنى القول (٤) ؛ لما تقدم من أن السؤال يعلق بالاستفهام كمسببه.

وقال ابن الخطيب (٥) : لو كان حكاية لكلامهم لكانوا قد قالوا : ماذا أحلّ لهم ، ومعلوم أن ذلك باطل لا يقولونه ، وإنما يقولون ماذا أحلّ لنا ، بل الصحيح أنه ليس حكاية لكلامهم ، بل هو بيان كيفية الواقعة.

قال القرطبي (٦) : «ما» في موضع رفع بالابتداء ، والخبر (أُحِلَّ لَهُمْ) ، و «ذا» زائدة وإن شئت كانت بمعنى «الذي» ، ويكون الخبر (قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ).

__________________

(١) في ب : قل أحل الطيبات وما علمتم من الجوارح.

(٢) سقط في أ.

(٣) ينظر : الكشاف ١ / ٦٠٦.

(٤) سقط في أ.

(٥) ينظر : تفسير : الرازي ١١ / ١١٢.

(٦) ينظر : تفسير القرطبي ٦ / ٤٤.

٢٠٣

فصل في سبب نزولها

قال سعيد بن جبير : نزلت هذه الآية في عديّ بن حاتم ، وزيد بن المهلهل [الطائيين وهو](١) زيد الخيل الذي سمّاه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم زيد الخير ، فقال : «يا رسول الله ، إنّا قوم نصيد بالكلاب ، والبزاة ، فماذا يحلّ لنا منها؟». فنزلت هذه الآية (٢).

وقيل : سبب نزولها أنّ النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما أمر بقتل الكلاب ، قالوا : يا رسول الله ، ماذا يحلّ لنا من هذه الأمّة التي أمرت بقتلها؟ فنزلت هذه الآية ، فلما نزلت أذن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في اقتناء الكلاب التي ينتفع بها ، ونهى عن إمساك ما لا ينتفع بها (٣).

قوله تعالى : (قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ) يعني : الذّبائح على اسم الله عزوجل.

وقيل : كلّ ما تستطيبه العرب وتستلذّه من غير أن يرد بتحريمه نصّ من كتاب أو سنة ، وكانت العرب في الجاهلية يحرمون أشياء [من الطيبات](٤) كالبحيرة والسّائبة والوصيلة ، والحام ، فهم كانوا يستطيبونها إلا أنّهم كانوا يحرّمون أكلها لشبهات ضعيفة ، فذكر تعالى أن كلّ ما يستطاب فهو حلال ، وأكّده بقوله تعالى : (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ) [الأعراف : ٣٢] وبقوله : (وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ) [الأعراف : ١٥٧] ، والطّيب في لغة العرب هو المستلذّ والحلال المأذون ، يصير ـ أيضا ـ طيّبا تشبيها بما هو مستلذ ؛ لأنّهما اجتمعا في انتفاء الضّرورة ، ولا يمكن أن يكون المراد بالطّيّبات هنا المحللات وإلا لصار تقدير الآية : قل [أحلّ](٥) لكم المحللات ، وهذا ركيك ، فوجب حمل الطيبات على المستلذّ المشتهى.

واعلم أن العبرة في الاستلذاذ والاستطابة بأهل المروءة والأخلاق الجميلة ؛ فإنّ أهل البادية يستطيبون أكل جميع الحيوانات ، واعلم أنّ قوله تعالى : (خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) [البقرة : ٢٩] يقتضي التّمكن من الانتفاع بكل ما في الأرض ، إلا أنّه ورد تخصيصه بقوله : (وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ) ، ونص في هذه الآية على إباحة المستلذات والطيبات ، وهذا أصل كبير في معرفة ما يحلّ وما يحرم من الاطعمة.

قوله سبحانه : (وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ) في «ما» هذه ثلاثة أوجه :

أحدها : أنها موصولة بمعنى «الذي» ، والعائد محذوف ، أي [ما](٦) علمتموه ،

__________________

(١) في أ : الطالبين فهو.

(٢) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٤٥٩) وعزاه لابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٩ / ٥٤٦) عن محمد بن كعب القرظي وأخرجه بمعناه عن عكرمة (٩ / ٥٤٦).

(٤) سقط في أ.

(٥) سقط في أ.

(٦) سقط في أ.

٢٠٤

ومحلها الرفع عطفا على مرفوع ما لم يسمّ فاعله أي : وأحل لكم صيد أو أخذ ما علمتم ، فلا بد من حذف هذا المضاف.

والثاني : أنّها شرطيّة فمحلها رفع بالابتداء ، والجواب قوله : «فكلوا».

قال أبو حيان : وهذا أظهر ؛ لأنّه لا إضمار فيه.

والثالث : أنّها موصولة ـ أيضا ـ ومحلّها الرفع بالابتداء ، والخبر قوله : «فكلوا» وإنّما دخلت الفاء (١) تشبّها للموصول باسم الشّرط ، وقوله : من الجوارح في محلّ نصب ، وفي صاحبها وجهان :

أحدهما (٢) : أنّه الموصول وهو «ما».

والثاني : أنّه الهاء العائدة على الموصول ، وهو في المعنى كالأوّل.

والجوارح : جمع جارحة ، والهاء للمبالغة سميت بذلك ؛ لأنّها تجرح الصيد غالبا ، أو لأنّها تكسب والجرح الكسب.

ومنه : (وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ) [الأنعام : ٦٠] والجارحة صفة (٣) جارية مجرى الأسماء ؛ لأنّها لم تذكر موصوفها غالبا.

وقرأ عبد الله (٤) بن عبّاس ، وابن الحنفية «علّمتم» مبنيا للمفعول ، وتخريجها : أن يكون ثمّ مضاف محذوف ، أي : وما علّمكم الله من أمر الجوارح [«مكلبين» : حال من فاعل «علمتم» ومعنى مكلبين : مؤدبين ومضرين ومعوّدين ، أي : حال تكلبيكم](٥) هذه الجوارح ، أي : إغرائكم إياها على الصّيد.

قال أبو حيّان (٦) : وفائدة هذه الحال ، وإن كانت مؤكدة لقوله : «علّمتم» ـ فكان يستغنى عنها ـ أن يكون المعلم ماهرا بالتعليم ، حاذقا فيه موصوفا به ا ه.

وفي جعله هذه الحال مؤكدة نظر ، بل هي مؤسسة.

واشتقّت هذه الحال من لفظ «الكلب» هذا الحيوان المعروف ، وإن كانت الجوارح يندرج فيها غيره حتى سباع الطيور تغليبا له ؛ لأنّ الصّيد أكثر ما يكون به عند العرب.

أو اشتقت من «الكلب» ، وهو الضّراوة ، ويقال : هو كلب بكذا أي : حريص ، وبه كلب أي حرص ، وكأنه ـ أيضا ـ مشتقّ من الكلب هذا الحيوان لحرصه (٧) أو اشتقت من الكلب ، والكلب : يطلق على السّبع ـ أيضا ـ.

__________________

(١) في أ : ألفا.

(٢) في ب : أحدها.

(٣) في أ : صفه.

(٤) ينظر : البحر المحيط ٣ / ٤٤٥ ، والدر المصون ٢ / ٤٨٩.

(٥) سقط في أ.

(٦) ينظر : البحر المحيط ٣ / ٤٤٤.

(٧) في أ : لمرضه.

٢٠٥

ومنه الحديث : «اللهمّ سلّط عليه كلبا من كلابك» (١) فأكله الأسد.

قال أبو حيّان : وهذا الاشتقاق لا يصحّ ؛ لأنّ كون الأسد كلبا هو وصف فيه ، والتكليب من صفة المعلّم ، والجوارح هي سباع بنفسها ، وكلاب بنفسها لا بجعل المعلّم ، ولا طائل تحت هذا الرّدّ.

وقرىء (٢) «مكلبين» بتخفيف اللام ، وفعّل وأفعل قد يشتركان في معنى واحد ، إلا أنّ «كلّب» بالتّشديد معناه : علّمها وضرّاها ، وأكلب معناه صار ذا كلاب (٣).

على أن الزجاج قال : يقال : رجل مكلّب يعني بالتشديد ، ومكلب يعني [من](٤) أكلب وكلّاب يعني بتضعيف اللام أي : صاحب كلاب.

وجاءت جملة الجواب هنا فعلية ، وجملة السؤال هنا اسمية ، وهي ماذا أحل؟ فهي جواب لها من حيث المعنى ، لا من حيث اللفظ ؛ إذ لم يتطابقا في الجنس.

والكلّاب والمكلّب هو الذي يعلم الكلاب الصيد.

فمكلّب صاحب الكلاب كمعلّم : صاحب التّعليم ، ومؤدّب : صاحب التّأديب.

فصل

معنى الآية وأحلّ لكم صيد ما علمتم من الجوارح. واختلفوا في هذه الجوارح ، فقال الضّحاك والسّدّيّ : [هي](٥) الكلاب (٦) دون غيرها (٧) ، ولا يحلّ ما صاده غير الكلب إلا أن يدرك ذكاته ، ولا عمل على هذا ، بل عامّة أهل العلم (٨) على أنّ المراد من الجوارح الكواسب (٩) من سباع البهائم كالفهد ، والنمر ، والكلب ، ومن سباع الطّير كالبازي والعقاب والصّقر ونحوها (١٠) مما يقبل التعليم فيحلّ صيد جميعها.

__________________

(١) أخرجه الحاكم (٢ / ٥٣٩) من طريق أبي نوفل بن أبي عقرب عن أبيه ، قال : كان لهب بن أبي لهب يسب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : اللهم سلط عليه كلبك. فخرج في قافلة يريد «الشام» فنزلوا منزلا فقال : إني أخاف دعوة محمد فقالوا له كلا فحطوا متاعه حوله وقعدوا حوله يحرسونه فجاء الأسد فانتزعه فذهب به.

وقال الحاكم : صحيح الإسناد ولم يخرجاه.

(٢) وقرأ بها الحسن وأبو زيد كما في المحرر الوجيز ٢ / ١٥٧ ، وينظر : البحر المحيط ٣ / ٤٤٥ ، والدر المصون ٢ / ٤٨٩.

(٣) في أ : كلب.

(٤) سقط في أ.

(٥) سقط في ب.

(٦) في أ : الكلب.

(٧) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٩ / ٥٤٩) عن الضحاك والسدي.

(٨) ينظر : تفسير البغوي ٢ / ١٢.

(٩) في أ : المكاسب.

(١٠) في ب : ونحوها.

٢٠٦

قوله سبحانه وتعالى : «تعلّمونهنّ» فيه (١) أربعة أوجه :

أحدها : أنّها جملة مستأنفة.

الثاني : أنّها جملة في محلّ نصب على أنّها حال ثانية من فاعل «علّمتم».

ومنع أبو البقاء ذلك ؛ لأنّه لا يجيز للعامل أن يعمل في حالين ، وتقدّم الكلام في ذلك.

الثالث : أنّها حال من الضّمير المستكنّ في «مكلّبين» فتكون حالا من حال ، وتسمّى المتداخلة وعلى كلا التقديرين المتقدمين فهي حال مؤكّدة ؛ لأن معناها مفهوم من «علمتم» ، ومن «مكلّبين».

الرابع : أن تكون جملة اعتراضية ، وهذا على جعل ما شرطيّة أو موصولة خبرها «فكلوا» فيكون قد اعترض بين الشّرط وجوابه ، أو بين المبتدأ وخبره.

فإن قيل : هل يجوز وجه خامس ، وهو أن تكون هذه الجملة حالا من «الجوارح» ، أو من الجوارح حال كونها تعلمونهنّ ؛ لأنّ في الجملة ضمير ذي الحلال؟

فالجواب : أنّ ذلك لا يجوز لأنه يؤدّي إلى الفصل بين هذه الحال وبين صاحبها بأجنبيّ ، وهو مكلّبين الذي هو حال من فاعل «علمتم».

وأنث [الضمير في «تعلّمونهنّ»](٢) مراعاة للفظ الجوارح ، إذ هو جمع جارحة ، ومعنى «تعلّمونهنّ» تؤدبونهن (٣) أدب أخذ الصّيد ، (مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللهُ) أي من العلم الذي (عَلَّمَكُمُ اللهُ).

وقال السّدّيّ : أي كما علّمكم الله (٤) ، «من» بمعنى الكاف ، والمقصود منه المبالغة في التّعظيم.

قوله تعالى : (فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ) في «من» وجهان :

أظهرهما : أنّها تبعيضيّة ؛ لأنّ الدمّ والريش لا يؤكل ، كقوله : (كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ) [الأنعام : ١٤١] وهي صفة لموصوف محذوف هو مفعول الأكل ، أي : فكلوا شيئا مما أمسكن عليكم.

والثاني : أنّها زائدة لا تزاد في الإثبات ، وإنّما تزاد في النّفي والاستفهام ، وهو قياس قول الأخفش.

قال القرطبيّ (٥) : وخطّأه البصريّون فقالوا : «من» لا تزاد في الإثبات وإنما تزاد في

__________________

(١) في أ : فيها.

(٢) في أ : العزيز «يعلمونهن».

(٣) في ب : تؤدبهم.

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٩ / ٥٢٢) عن السدي وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٤٦٠) وعزاه للطبري عن الحسن.

(٥) ينظر : تفسير القرطبي ٦ / ٤٩.

٢٠٧

النفي والاستفهام فعلى الأوّل تتعلّق بمحذوف ، وعلى الثاني لا تعلق لها ، و «ما» موصولة أو نكرة موصوفة ، والعائد محذوف ، على كلا التّقديرين ، أي : أمسكنه كما تقدّم ، والنّون في «أمسكن» للجوارح ، و «عليكم» متعلق ب «أمسكن» ، والاستعلاء هنا مجاز.

فصل

معنى الكلام أنّ الجارحة المعلّمة إذا خرجت بإرسال صاحبها فأخذت الصّيد وقتلته حلّ ، والتعليم هو أن يوجد فيه ثلاثة أشياء إذا أشليت استشلت ، وإذا زجرت انزجرت ، وإذا أخذت الصّيد [أمسكت] ولم تأكل ، فإذا وجد منها ذلك مرارا وأقله ثلاث مرّات كانت معلّمة ، يحلّ قتلها إذا خرجت بإرسال صاحبها لما روي عن عدي بن حاتم عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا أرسلت كلبك المعلّم وسمّيت فأمسك وقتل فكل وإن أكل فلا تأكل فإنّما أمسك على نفسه ، فإذا خالط كلابا لم يذكر اسم الله عليه فأمسكته وقتلته فلا تأكل ، فإنّك لا تدري أيّها قتل وإذا رميت الصّيد فوجدته بعد يوم ، أو يومين ليس به إلا أثر سهمك فكل وإذا وقع في الماء فلا تأكل ، فإنّك لا تدري الماء قتله ، أو سهمك».

واختلفوا فيما أخذت الصّيد ، وأكلت منه شيئا ، فذهب أكثر العلماء إلى تحريمه.

وروي [ذلك عن](١) ابن عبّاس ، وهو قول عطاء وطاوس والشّعبي ، وبه قال الثّوري وابن المبارك وأصحاب الرّأي ، وأصحّ قولي الشّافعي ـ رضي الله عنه ـ لقوله عليه الصلاة والسلام «فإن أكل فلا تأكل ، فإنّما أمسك على نفسه» (٢) ورخص بعضهم في أكله ، روي ذلك عن ابن عمر وسلمان الفارسيّ وسعد بن أبي وقاص ، وقال مالك : لما روي عن [أبي](٣) ثعلبة [الخشني](٤) قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا أرسلت كلبك وذكرت اسم الله فكل ، وإن أكل منه»(٥).

وروي أن أبا ثعلبة الخشني قال : قلت يا نبيّ الله : إنّا بأرض قوم من أهل كتاب ، أفنأكل في آنيتهم؟ وبأرض صيد أصيد بقوسي وبكلبي الذي ليس بمعلّم ، وبكلبي المعلّم

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) متفق عليه ، أخرجه البخاري في الصحيح ١ / ٢٧٩ ، كتاب الوضوء ؛ باب الماء الذي يغسل به شعر الإنسان الحديث (١٧٥) وفي ٩ / ٦٠٩ ، كتاب الذبائح والصيد باب إذا أكل الكلب ، الحديث (٥٤٨٤) وفي ٩ / ٦١٠ باب الصيد إذا غاب عنه يومين ، الحديث (٥٤٨٤) وفي (٩ / ٦١٢) ، باب إذا وجد مع الصيد كلبا آخر الحديث (٥٤٨٦) وأخرجه مسلم في الصحيح ٣ / ١٥٣١ ، كتاب الصيد والذبائح : باب الصيد بالكلاب المعلمة الحديث (٦ / ١٩٢٩).

(٣) سقط في ب.

(٤) سقط في ب.

(٥) أخرجه أبو داود (٣ / ٢٧١ ـ ٢٧٢) كتاب الصيد باب في الصيد (٢٨٥٢) والبيهقي (٩ / ٢٣٧ ـ ٢٣٨) من حديث أبي ثعلبة الخشني وذكره الحافظ ابن حجر في «التخليص» (٤ / ١٣٦ وقال : أعله البيهقي.

٢٠٨

فما يصلح لي؟ قال : «أمّا ما ذكرت من آنية [أهل الكتاب](١) فإن وجدتم غيرها فلا تأكلوا فيها ، وإن لم تجدوا غيرها فاغسلوها ، وكلوا فيها وما صدت بقوسك فذكرت اسم الله عليه فكل. وما صدت بكلبك المعلّم فذكرت اسم الله عليه فكل ، وما صدت بكلبك غير المعلّم فأدركت ذكاته فكل» (٢).

قوله تعالى : (وَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ) في هذه الهاء ثلاثة أوجه :

أحدها (٣) : أنها عائدة على المصدر المفهوم من الفعل (٤) وهو الأكل ، كأنّه قيل : واذكروا اسم الله على الأكل ، ويؤيده قوله عليه‌السلام : «سمّ الله وكل ممّا يليك».

والثاني : أنّه يعود على (ما عَلَّمْتُمْ) ، أي : اذكروا اسم الله على الجوارح عند إرسالها على الصيد ، وقوله عليه الصلاة والسلام : «إذا أرسلت كلبك ، وذكرت اسم الله عليه».

والثّالث : أنها تعود عل ى «ما أمسكن» أي : اذكروا اسم الله على ما أدركتم [ذكاته مما أمسكته](٥) عليكم الجوارح ، وحتى على هذا الإعراب وجوب اشتراط التسمية في هذه المواضع.

ثم قال : (وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ).

أي : واحذروا مخالفة أمر الله في تحليل ما حلّله وتحريم ما حرّمه (٦).

فصل

قال القرطبيّ (٧) : دلّت الآية على جواز اتخاذ الكلاب واقتنائها للصّيد ، وثبت ذلك في صحيح السّنّة ، وزادت الحرث والماشية ، وقد كان [في](٨) أوّل الإسلام أمر بقتل الكلاب ، وقال : «من اقتنى كلبا إلّا كلب ماشية ، أو صيد نقص من عمله كلّ يوم قيراطان» (٩).

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) متفق عليه ، أخرجه البخاري في الصحيح ، الحديث (٥٤٧٨) ، ومسلم في الصحيح ٣ / ١٥٣٢ ، كتاب الصيد والذبائح باب الصيد بالكلاب المعلمة الحديث (٨ / ١٩٣). وينظر : تفسير البغوي ٢ / ١٢ ، الدر المصون ٣ / ٢٠٤.

(٣) في أ : الأول.

(٤) في أ : الفصل.

(٥) في أ : وكونه مما أمسك.

(٦) ينظر : تفسير الرازي ١١ / ١١٥.

(٧) ينظر : القرطبي ٦ / ٥٠.

(٨) سقط في أ.

(٩) متفق عليه ، أخرجه البخاري في الصحيح ٩ / ٦٠٨ ، كتاب الذبائح والصيد ، باب من اقتنى كلبا ليس بكلب صيد أو ماشية الحديث (٥٤٨٠) ومسلم في الصحيح ٣ / ١٢٠١ كتاب المساقاة (٢٢) باب الأمر بقتل الكلاب الحديث (٥٠ / ١٥٧٤) وقوله : (ضاري) أي كلبا معودا بالصيد ، يقال ضري الكلب وأضراه صاحبه : أي عوده وأغراه به ويجمع على ضوار والقيراط ٢١٢٥ غراما ذهبيا.

٢٠٩

قال القرطبيّ (١) : وهذا المنع إمّا لترويعه المسلمين وتشويشه عليهم بنباحه.

أو لمنع دخول الملائكة البيت ، أو لنجاسته على مذهب من يرى ذلك ، وإما لاقتحام النهي على اتخاذ ما لا منفعة فيه.

فصل

قال القرطبيّ (٢) : وفي الاية دليل على أنّ العالم له من الفضيلة ما ليس للجاهل ، لأنّ الكلب المعلّم له فضيلة على سائر الكلاب ، فالإنسان إذا كان له علم أولى.

قوله تعالى : (الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ)(٥)

قوله تعالى : [(الْيَوْمَ)(٣)(أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ) الآية.

الكلام فيه كالكلام فيما قبله ، وزعم قوم أنّ المراد بالثلاثة أيام المذكورة هنا وقت واحد ، وإنّما كرره توكيدا ، ولاختلاف الأحداث (٤) الواقعة فيه حسن تكريره ، وليس بشيء.

وادّعى بعضهم أنّ في الكلام تقديما وتأخيرا ، وأنّ الأصل «فاذكروا اسم الله عليه» «وكلوا مما أمسكن عليكم» وهذا يشبه [قول](٥) من يعيد الضمير على الجوارح المرسلة.

قوله تعالى : (وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) فيه وجهان :

أصحهما : أنّه مبتدأ ، وخبره (أُحِلَّ لَكُمُ) وأبرز الإخبار بذلك في جملة اسمية اعتناء بالسؤال عنه.

وأجاز أبو البقاء (٦) أن يكون مرفوعا عطفا (٧) على مرفوع ما لم يسم فاعله وهو «الطيّبات» ، وجعل قوله : (أُحِلَّ لَكُمُ) خبر مبتدأ محذوف ، وهذا ينبغي ألا يجوز البتة لتقدير ما لا يحتاج إليه مع ذهاب بلاغة الكلام.

وقوله : (وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ) مبتدأ وخبر ، وقياس قول أبي البقاء أن يكون «طعام» عطفا على ما قبله ، «وحلّ» خبر مبتدأ محذوف ، ولم يذكره ، كأنه (٨) استشعر الثواب (٩).

__________________

(١) ينظر : تفسير القرطبي ٦ / ٥٠.

(٢) ينظر : المصدر السابق.

(٣) سقط في أ.

(٤) في ب : الأحكام.

(٥) سقط في أ.

(٦) ينظر : الإملاء ١ / ٢٠٨.

(٧) في أ : عاطفا.

(٨) في أ : لأنه.

(٩) في أ : الثوب.

٢١٠

فصل

ومعنى (أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ) يعني الذّبائح على اسم الله عزوجل ، وفي المراد ب (طَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) ثلاثة أقوال :

الأوّل : الذّبائح ، يريد ذبائح اليهود والنّصارى ومن دخل في دينهم من سائر الأمم قبل مبعث محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

فأمّا من دخل في دينهم بعد المبعث فلا تحلّ ذبيحته ، فلو ذبح يهوديّ أو نصرانيّ على اسم غير الله (١) ، كالنّصراني يذبح على اسم المسيح ، فاختلفوا فيه : فقال ابن عمر : لا يحلّ ، وهو قول ربيعة. وذهب أكثر العلماء إلى أنه يحلّ ، وهو قول الشّعبيّ وعطاء والزهريّ ومكحول.

وسئل الشعبيّ وعطاء عن النصراني يذبح باسم المسيح قالا : يحلّ ، فإن الله تعالى قد أحلّ ذبائحهم وهو يعلم ما يقولون.

وقال الحسن (٢) : إذا ذبح اليهوديّ والنصرانيّ فذكر اسم غير الله وأنت تسمع فلا تأكله ، وإذا غاب عنك فكل ، فقد أحلّ الله ذلك.

وأما المجوس (٣) فقد سنّ فيهم سنة أهل الكتاب في أخذ الجزية منهم دون أكل ذبائحهم ونكاح نسائهم.

وعن عليّ ـ رضي الله عنه ـ أنّه استثنى نصاري بني تغلب ، وقالوا : ليسوا على النّصرانيّة ، ولم (٤) يأخذوا منها إلا شرب الخمر (٥) ، وبه أخذ الشافعيّ ـ رضي الله عنه ـ وعن ابن عبّاس رضي الله عنهما أنّه سئل عن ذبائح نصارى العرب (٦) ، فقال : لا بأس به ، وبه أخذ أبو حنيفة.

والقول الثاني : أنّ المراد بطعامهم الخبز والفاكهة ، وما لا يحتاج فيه إلى الزكاة ، وهو منقول عن بعض أئمّة الزّيديّة.

القول الثالث : أنّ المراد جميع المطعومات.

وحجّة القول الأوّل : أنّ ما سوى الذبائح حلال قبل أن كانت لأهل الكتاب ، فلا يبقى للتّخصيص بأهل الكتاب فائدة ، ولأن ما قبل هذه الآية في بيان الصيد والذّبائح

__________________

(١) في أ : على غير اسم الله.

(٢) ينظر : تفسير البغوي ٢ / ١٣.

(٣) ينظر : تفسير الرازي ١١ / ١١٥.

(٤) في أ : ولما.

(٥) أخرجه الشافعي في «الأم» (٢ / ١٩٦) والبيهقي (٩ / ٢٨٤) والطبري في «تفسيره» (٩ / ٥٧٥) عن علي بن أبي طالب.

وذكره الحافظ ابن حجر في «فتح الباري» وقال : أخرجه الشافعي وعبد الرزاق بأسانيد صحيحة.

(٦) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٩ / ٥٧٤) عن ابن عباس.

٢١١

[فحمل الآية على الذبائح أولى] وهي التي تصير طعاما بفعل الذّبائح [فحمل الآية عليه أولى] وقوله : «وطعامكم» فإن قيل : كيف شرع لهم حلّ طعامنا وهم كفّار ليسوا من أهل الشّرع؟

قال الزّجّاج (١) : معناه حلال لكم أن تطعموهم ، فيكون خطاب الحلّ مع المسلمين ؛ وقيل : لأنّه ذكر عقيبه حكم النّساء ، ولم يذكر حلّ المسلمات لهم ، فكأنه قال : حلال لكم أن تطعموهم حرام عليكم أن تزوّجوهم.

فصل

قوله : (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ) في رفع «المحصنات» وجهان :

أحدهما : أنّه مبتدأ خبره محذوف ، أي : والمحصنات حلّ لكم أيضا وهذا هو الظاهر.

واختار أبو البقاء (٢) أن يكون معطوفا على «الطّيبات» ، فإنّه [قال :](٣) «من المؤمنات» حال من الضّمير في «المحصنات» أو من نفس «المحصنات» إذا عطفتها على «الطّيّبات» و «حلّ» مصدر بمعنى الحلال ؛ فلذلك لم يؤنّث ولم يثنّ ، [ولم يجمع](٤) لأنه أحسن الاستعمالين في المصادر الواقعة صفة للأعيان ، ويقال في الإتباع : حلّ بلّ وهو كقولهم : حسن بسن ، وعطشان نطشان.

و «من المؤمنات» حال كما تقدّم ، إما من الضمير في «المحصنات» ، أو من «المحصنات» ، وقد تقدّم [الكلام في](٥) اشتقاق هذه اللفظة ، واختلاف القراء فيها في سورة النساء (٦).

فصل في معنى المحصنات

هذا منقطع عن قوله : (وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ) وراجع إلى الأوّل.

واختلفوا في معنى «المحصنات» ، فذهب أكثر العلماء إلى أنّ المراد الحرائر ، وأجازوا [نكاح](٧) كل حرّة مؤمنة كانت أو كتابية فاجرة كانت أو عفيفة ، وهو قول مجاهد. وقال هؤلاء: لا يجوز للمسلم نكاح الأمة الكتابيّة لقوله : (فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ) [النساء : ٢٥] جوّز (٨) نكاح الأمة بشرط أن تكون مؤمنة ولقوله : (إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَ) ، ومهر الأمة لا يدفع إليها بل إلى سيّدها ، وجوّز أكثرهم نكاح الأمة الكتابيّة الحربيّة لقوله : (فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ).

__________________

(١) ينظر : تفسير البغوي ٢ / ١٣.

(٢) ينظر : الإملاء ١ / ٢٠٨.

(٣) سقط في أ.

(٤) سقط في أ.

(٥) سقط في أ.

(٦) الآية : ٢٤.

(٧) سقط في أ.

(٨) في ب : ويجوز.

٢١٢

وقال ابن عباس : لا يجوز ، وقرأ : (قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ) إلى قوله : (حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ) [التوبة : ٢٩] فمن أعطى الجزية حلّ لنا نساؤهم ، ومن لم يعط لم يحلّ لنا نساؤه.

وذهب قوم إلى أنّ المراد من «المحصنات» في الاية العفائف من الفريقين حرائر كنّ ، أو إماء.

وأجازوا نكاح الأمة الكتابيّة وحرّموا البغايا (١) من المؤمنات والكتابيّات وهو قول الحسن ، وقال الشعبيّ : إحصان الكتابية أن تستعفّ عن الزّنا ، وتغتسل من الجنابة (٢).

وذهب ابن عمر (٣) إلى أنّه لا يجوز نكاح الذميّة لقوله تعالى : (وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَ) [البقرة : ٢٢١] ويقول (٤) : لا أعلم شركا أعظم من قولها (٥) : إنّ [ربّها](٦) عيسى ، وأجاب من قال بهذا القول عن التّمسك بقوله : (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) بوجوه :

أحدها : أنّ المراد الذين آمنوا منهم ، فإنّه كان يحتمل أن يخطر ببال بعضهم أنّ الكتابية إذا آمنت هل يجوز للمسلم التزويج بها أم لا؟ فبين الله تعالى بهذه الآية جواز ذلك.

وثانيها : ما روي [عن عطاء](٧) قال : «إنّما رخّص الله ـ تعالى ـ في التزويج بالكتابيّة في ذلك الوقت ؛ لأنّه كان في المسلمات قلّة ، والآن ففيهن كثرة عظيمة فزالت الحاجة ، فلا جرم زالت الرّخصة» (٨).

وثالثها : الآيات الدّالة على وجوب مباينة الكفّار ، كقوله (٩) تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ) [الممتحنة : ١] وقوله (لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ) [آل عمران : ١١٨] ، ولأنّ عند حصول الزّوجيّة ربما قويت المحبّة فيصير ذلك سببا لميل الزوج إلى دينها.

قوله سبحانه : (إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَ) ظرف العامل فيه أحد شيئين ، إمّا «أحلّ» وإما «حلّ» المحذوف على حسب ما قرّر ، والجملة بعده في محلّ خفض بإضافته إليها (١٠) ، وهي ـ هنا ـ لمجرّد الظرفيّة.

__________________

(١) في ب : البقايا.

(٢) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٤٦٢) وعزاه لعبد الرزاق عن الشعبي وأخرجه الطبري في «تفسيره» (٩ / ٥٨٥). وينظر : تفسير البغوي ٢ / ١٤.

(٣) ينظر : تفسير الرازي ١١ / ١١٦.

(٤) في ب : وتقول.

(٥) في ب : قولنا.

(٦) سقط في ب.

(٧) سقط في أ.

(٨) ذكره الرازي في تفسيره ١١ / ١١٦.

(٩) في ب : سايبة لكفار لقوله.

(١٠) في أ : الهاء.

٢١٣

ويجوز أن تكون شرطية ، وجوابها محذوف ، أي : (إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَ) (١) حللن لكم.

والأوّل أظهر.

و «محصنين» حال ، وعاملها أحد ثلاثة أشياء : إما «آتيتموهنّ» ، وصاحب الحال الضمير المرفوع (٢).

وأما «أحلّ» المبني للمفعول.

وأما «حل» المحذوف كما تقدّم.

و «غير» يجوز فيه ثلاثة أوجه :

أحدها : أن ينتصب على أنّه نعت ل «محصنين».

والثاني : أن ينصب على الحال ، وصاحب الحال الضمير المستتر في «محصنين».

والثالث : أنه حال من فاعل «آتيتموهنّ» على أنّها حال ثانية منه ، وذلك عند من يجوز ذلك.

فصل

تقييد التحليل بإيتاء الأجور يدلّ على تأكيد وجوها (٣) ، وأن من تزوّج [امرأة](٤) وعزم أن لا يعطي الزوجة صداقها كان في صورة الزّاني ، فتسمية المهر بالأجرة يدلّ على أنّ الصّداق لا يتقدر كما أنّ أقل الأجل في الإجارات لا يتقّدر.

وقوله : (مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ) أي غير معالنين بالزّنا (وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ).

قال الشعبيّ : الزّنا ضربان :

السفاح [وهو الزّنا على سبيل الإعلان ، واتّخاذ الخدن](٥) وهو الزّنا في السرّ (٦) والله تعالى حرّمهما في هذه الآية ، وأباح التمتّع بالمرأة على جهة الإحصان.

قوله تعالى : (وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ) يجوز فيه الجرّ على أنه [عطف](٧) على «مسافحين» ، وزيدت [«لا»](٨) [تأكيدا للنّفي](٩) المفهوم من «غير» ، والنّصب على أنّه عطف على «غير» باعتبار أوجهها الثلاثة ، ولا يجوز عطفها على «محصنين» ؛ لأنّه [مقترن ب «لا»](١٠) المؤكدة للنفي المتقدم ، ولا نفي مع «محصنين» ، وتقدّم معاني هذه الألفاظ.

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) في أ : المرفع.

(٣) في ب : وجوبها.

(٤) سقط في ب.

(٥) سقط في ب.

(٦) ذكره الفخر الرازي في «تفسيره» (١١ / ١١٧) عن عامر الشعبي.

(٧) سقط في أ.

(٨) سقط في أ.

(٩) في ب : لتأكيد النفي.

(١٠) في أ : اقترن بلا.

٢١٤

وقوله تعالى : (وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ) تقدّم له نظائر.

وقيل : المراد بالإيمان المؤمن به ، فهو مصدر واقع موقع المفعول به كدرهم ضرب الأمير.

وقيل : ثمّ مضاف محذوف ، أي بموجب الإيمان ، وهو الباري ـ تبارك وتعالى ـ.

واعلم أنّ الكافر إنّما يكفر بالله ورسوله. وأمّا الكفر بالإيمان فهو محال ، فلذلك اختلف المفسرون ، فقال ابن عباس ومجاهد قوله : (وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ) أي بالله الذي يجب الإيمان به (١) ، وإنّما حسن هذا المجاز ؛ لأنّه يقال : رب الإيمان ورب الشيء قد يسمى باسم ذلك الشيء على سبيل المجاز.

وقال الكلبيّ : «بالإيمان» (٢) بكلمة التّوحيد (٣) ، وهي شهادة أن لا إله إلّا الله ؛ لأنّ الإيمان من لوازمها ، وإطلاق الشّيء على لازمه مجاز مشهور.

وقال قتادة : إنّ ناسا من المسلمين ، قالوا : كيف نتزوج نساءهم مع كونهم على غير ديننا ، فأنزل الله هذه الآية : (وَمَنْ يَكْفُرْ) أي بما [نزل](٤) في القرآن ، فهو كذا وكذا ، فسمّى القرآن إيمانا ؛ لأنّه مشتمل على [بيان](٥) كلّ ما لا بدّ منه في الإيمان. وقيل : ومن (يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ) أن يستحلّ الحرام ويحرّم الحلال (فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ).

فصل

القائلون بالإحباط ، قالوا : المراد بقوله : (وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ) فقد حبط ، أي : عقاب كفره يزيل ما كان حاصلا له من ثواب إيمانه ، والذين ينكرون القول بالإحباط قالوا : معناه أن عمله الذي أتى به بعد ذلك الإيمان فقد هلك وضاع ، فإنّه إنّما يأتي بتلك الأعمال بعد الإيمان لاعتقاده أنها خير من الإيمان فإذا لم يكن الأمر كذلك ، بل كان ضائعا باطلا كانت تلك الأعمال باطلة في نفسها (٦).

قوله تعالى : (وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ) الظّاهر أن الخبر قوله : (مِنَ الْخاسِرِينَ) ، فيتعلّق قوله : (فِي الْآخِرَةِ) بما تعلّق به هذا الخبر.

وقال مكّيّ (٧) : العامل في الظّرف محذوف تقديره : هو خاسر في الآخرة ، ودلّ على المحذوف قوله : (مِنَ الْخاسِرِينَ) فإن جعلت الألف واللام في «الخاسرين» ليستا

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٩ / ٥٩٣) وذكره الرازي في «التفسير الكبير» (١١ / ١١٧).

(٢) في ب : الإيمان.

(٣) ذكره الرازي في «التفسير الكبير» (١١ / ١١٧) عن الكلبي.

(٤) سقط في ب.

(٥) سقط في ب.

(٦) ينظر : تفسير الرازي ١١ / ١١٧.

(٧) ينظر : المشكل ١ / ٢٢٠.

٢١٥

بمعنى «الذين» جاز أن يكون العامل في الظّرف (مِنَ الْخاسِرِينَ) ، بمعنى أنّه لو كانت موصولة لامتنع أن يعمل ما بعدها فيما قبلها ؛ لأنّ الموصول لا يتقدم عليه ما في حيّزه ، وهذا كما قالوا في قوله : (إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقالِينَ) [الشعراء : ١٦٨] ، (وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ) [يوسف : ٢٠].

وتقدير مكيّ متعلّق هذا الظرف وهو خاسر ، وإنّما هو بناء على كون «أل» (١) موصولة بدليل قوله : فإن جعلت الألف واللّام ليستا بمعنى «الذين» وبالجملة فلا حاجة إلى هذا التقدير ، بل العامل فيه كما تقدّم العامل في الظرف الواقع خبرا ، وهو الكون المطلق ، ولا يجوز أن يكون «في الآخرة» هو [الخبر و (مِنَ الْخاسِرِينَ) متعلق بما تعلق به ، لأنه لا فائدة في ذلك ، فإن جعل](٢)(مِنَ الْخاسِرِينَ) حالا من ضمير الخبر ، ويكون حالا لازمة جاز ، وهو ضعيف في الإعراب ، وقد تقدّم نظير هذه الآية في «البقرة» عند قوله : (وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) [البقرة : ١٣٠].

فصل

قوله : (وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ) مشروط بشرط غير مذكور في الآية ، وهو أن يموت على ذلك الكفر إذ لو تاب عن الكفر لم يكن في الآخرة من الخاسرين ، ويدل على أنّه لا بدّ من هذا الشّرط قوله : (وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) [البقرة : ٢١٧].

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ ما يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)(٦)

قوله سبحانه وتعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ) الآية اعلم أنّ الله تعالى افتتح السورة بقوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ). فطلب الوفاء بعهد العبوديّة ، فكأنّ العبد قال : يا إلهي ، العهد (٣) نوعان : عهد الرّبوبيّة منك ، وعهد العبوديّة منا ، فأنت أولى بأن تقدم الوفاء (٤) بعهد الرّبوبية والكرم ، [نعم أنا أوفي بعهد الربوبية والكرم](٥) ومعلوم أنّ منافع الدنيا محصورة في نوعين : لذات المطعم ، ولذات المنكح ،

__________________

(١) في أ : إلى.

(٢) سقط في أ.

(٣) في ب : فالعهد.

(٤) في ب : أولى بالوفاء.

(٥) سقط في ب.

٢١٦

فبيّن تعالى ما يحلّ وما يحرم من المطاعم والمناكح ، ولما كانت الحاجة [إلى] المطعوم فوق الحاجة إلى المنكوح قدم بيان المطعوم على المنكوح ، فلما تم هذا البيان فكأنه قال : قد وفيت بعهد الربوبية فيما يطلب من منافع الدّنيا ، فاشتغل أنت في الدّنيا بالوفاء بعهد العبودية ، فلما كان أعظم الطّاعات بعد الإيمان الصّلاة ، ولا يمكن إقامتها إلا بالطّهارة لا جرم بدأ الله تعالى بذكر شرائط الوضوء.

قوله تعالى : (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ).

قالوا : تقديره : إذا أردتم القيام كقوله : (فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ) [النحل : ٩٨].

وهذا من إقامة المسبّب مقام (١) السبب ، وذلك أنّ القيام متسبّب عن الإرادة ، والإرادة سببه.

قال الزّمخشريّ (٢) : فإن قلت : لم جاز أن يعبر عن إرادة الفعل بالفعل؟ قلت : لأنّ الفعل يوجد بقدرة الفاعل عليه ، وإرادته له ، وهي قصده إليه وميله ، وخلوص داعيته ، فكما عبر عن القدرة على الفعل [بالفعل](٣) في قولهم : الإنسان لا يطير ، والأعمى لا يبصر ، أي : لا يقدران على الطّيران والإبصار ؛ ومنه قوله تعالى : (نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ) [الأنبياء : ١٠٤] أي : قادرين على الإعادة ، كذلك عبر عن إرادة الفعل بالفعل ، وذلك لأنّ [الفعل](٤) مسبّب عن القدرة ، فأقيم [المسبب](٥) مقام السبب للملابسة بينهما ، ولإيجاز الكلام.

وقيل : تقديره : إذا قصدتم الصلاة ؛ لأنّ من توجّه إلى شيء وقام إليه كان قاصدا له ، فعبّر بالقيام عن القصد.

والجمهور قدروا حالا محذوفة من فاعل «قمتم» ، أي : إذا قمتم إلى الصلاة محدثين ؛ إذ لا وضوء على غير المحدث ، وإن كان قال به جماعة قالوا : ويدلّ على هذه الحال المحذوفة مقابلتها بقوله : (وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا ،) فكأنه قيل : إن كنتم محدثين الحدث الأصغر فاغسلوا كذا ، وامسحوا كذا ، وإن كنتم محدثين [الحدث الأكبر](٦) فاغسلوا الجسد كلّه.

قال شهاب الدّين (٧) : فيه نظر.

فصل هل الأمر بالوضوء تكليف مستقل؟

قال قوم (٨) : الأمر بالوضوء ليس تكليفا مستقلا بنفسه ؛ لأنّ قوله : (إِذا قُمْتُمْ إِلَى

__________________

(١) في أ : بعلم.

(٢) ينظر : الكشاف ١ / ٦٠٩.

(٣) في ب : عبر عن الفعل.

(٤) في أ : الفعيل.

(٥) في ب : السبب.

(٦) في أ : حدثا أكبر.

(٧) ينظر : الدر المصون ٢ / ٤٩٢.

(٨) ينظر : تفسير الرازي ١١ / ١١٩.

٢١٧

الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا) جملة شرطية ، الشّرط فيها القيام إلى الصلاة ، والجزاء الأمر بالغسل ، والمعلّق على الشيء بحرف الشرط [يعدم عند](١) عدم الشّرط ، فاقتضى أن الأمر بالوضوء تبع (٢) للأمر بالصّلاة.

وقال آخرون : المقصود من الوضوء الطّهارة ، والطّهارة مقصودة بذاتها لقوله تعالى في آخر الآية : (وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ) ، ولقوله عليه الصلاة والسلام : «[بني](٣) الدّين على النّظافة» (٤) ، وقال : «أمّتي غرّ محجّلون من أثر الوضوء يوم القيامة» (٥).

والأخبار الواردة في كون الوضوء سببا لغفران الذنوب كثيرة.

فصل

قال داود (٦) : يجب الوضوء لكلّ صلاة لظاهر الآية لأن قوله تعالى : (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ) يقتضي العموم ، [وقال أكثر الفقهاء (٧) : لا يجب].

قال الفقهاء (٨) كلمة «إذا» لا تفيد العموم ؛ لأنّه لو قال لامرأته إذا دخلت الدار فأنت طالق ، فدخلت مرة طلّقت ، فلو (٩) دخلت ثانية لم تطلق [ثانيا](١٠) وإذا قال السيّد لعبده : إذا دخلت السّوق فادخل على فلان ، وقل له كذا وكذا ، فهذا لا يفيد الفعل إلا مرة واحدة.

ويمكن أن يجاب بأنّ التّكاليف الواردة في القرآن مبناها على التّكرير وليس الأمر كذلك في الصور التي ذكرتم فإن القرائن الظاهرة دلت على أنه ليس مبنى الأمر فيها على التكرير ، وأما الفقهاء فاستدلوا على صحة قولهم بأنّ النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم الفتح صلّى صلوات كلّها بوضوء واحد ، وجمع يوم الخندق بين أربع صلوات بوضوء واحد (١١).

وأجاب داود بأنّ خبر الواحد لا ينسخ القرآن ، وقال قوم (١٢) : هو أمر على طريق

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) في ب : بيع.

(٣) سقط في أ.

(٤) ذكره الحافظ العراقي في «تخريج الإحياء» (١ / ١٢٥) وقال : لم أجده هكذا وفي الضعفاء لابن حبان من حديث عائشة : تنظفوا فإن الإسلام نظيف والطبراني في الأوسط بسند ضعيف جدا من حديث ابن مسعود بلفظ : النظافة تدعو إلى الإيمان.

وله شاهد عن أبي هريرة بلفظ : تنظفوا بكل ما استطعتم فإن الله بنى الإسلام على النظافة.

ذكره الشيخ على القاري في «الأسرار المرفوعة» (ص ٩٢) وعزاه للرافعي عن أبي هريرة.

(٥) أخرجه البخاري في الصحيح ١ / ٢٣٥ ، كتاب الوضوء : باب فضل الوضوء ومسلم في الصحيح ١ / ٢١٦ ، كتاب الطهارة : باب استحباب إطالة الغرة والتحجيل في الوضوء الحديث (٣٥ / ٢٤٦).

(٦) ينظر : تفسير الرازي ١١ / ١١٩.

(٧) ينظر : المصدر السابق.

(٨) ينظر : تفسير الرازي ١١ / ١٢٠.

(٩) سقط في أ.

(١٠) في ب : فإذا.

(١١) ينظر : تفسير الرازي ١١ / ١٢٠.

(١٢) ينظر : تفسير البغوي ٢ / ١٥.

٢١٨

النّدب ، ندب من قام إلى الصلاة أن يجدّد الطّهارة وإن كان على طهر لما روى عبد الله بن حنظلة بن عامر أنّ رسول الله ـ صلّى الله عليه وعلى آله وسلم ـ أمر بالوضوء عند كلّ صلاة طاهرا ، أو غير طاهر ، فلما شقّ ذلك عليه أمر بالسّواك عند كل صلاة ، وقال قوم (١) : هو إعلام من الله تعالى ورسوله أن لا وضوء عليه إلا إذا قام إلى الصّلاة دون غيرها من الأعمال ، فأذن له أن يفعل بعد الحدث ما بدا له من الأفعال غير الصلاة ، كما روى ابن عبّاس (٢) قال : كنا عند النبيّصلى‌الله‌عليه‌وسلم فرجع من الغائط ، فأتي بطعام فقيل : «ألا تتوضأ ، فقال : لم أصلّ فأتوضّأ» (٣).

قوله سبحانه : (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ).

وحدّ الوجه من [منابت الشّعر](٤) إلى منتهى الذقن طولا ، وما بين الأذنين عرضا يجب غسل جميعه في الوضوء ، ويجب إيصال الماء إلى ما تحت الحاجبين ، وأهداب العينين ، والشّارب ، والعذار ، والعنفقة وإن كان كثيفة.

وأما العارض واللّحية وإن كانت كثيفة لا ترى البشرة من تحتها لا يجب غسل باطنها في الوضوء ، بل يجب غسل ظاهرها ، وهل يجب إمرار الماء لما على ظاهر ما استرسل من اللحية عن الذّقن؟.

فقال أبو حنيفة (٥) : لا يجب ؛ لأنّ الشّعر النازل عن حدّ الرّأس لا يكون حكمه حكم الرأس في جواز المسح ؛ كذلك النازل عن حدّ الوجه لا يكون حكمه حكم الوجه في وجوب غسله ، وقال غيره : يجب إمرار الماء على ظاهره ؛ لأنّ الله تعالى أمر بغسل الوجه ، والوجه ما يقع به المواجهة ، قال ابن عباس (٦) : يجب غسل داخل العينين ؛ لأنّه من الوجه ، وقال غيره (٧) : لا يجب للحرج.

والمضمضة والاستنشاق يجبان في الوضوء.

والغسل عند أحمد وإسحاق وعند الشّافعيّ لا يجبان بناء على أنهما من الباطن ، ولو نبت للمرأة لحية؟ وجب إيصال الماء إلى جلدة الوجه ، وإن كانت كثيفة.

قوله [سبحانه](٨) : (وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ).

__________________

(١) ينظر : المصدر السابق.

(٢) ينظر : المصدر السابق.

(٣) أخرجه مسلم ١ / ٢٨٣ ، في الحيض : باب جواز أكل المحدث الطعام بلفظ : «لم؟ أأصلي فأتوضأ؟

(٣٧٤) ، وأحمد (٣ / ٢٨٥) ، والحميدي (١ / ٢٢٥) رقم (٤٧٨) والبغوي في «شرح السنة» (١ / ٣٥٩) والبيهقي (١ / ٤٢) من حديث ابن عباس.

(٤) في ب : منابت شعر الرأس.

(٥) ينظر : تفسير البغوي ٢ / ١٥.

(٦) ينظر : تفسير الرازي ١١ / ١٢٤.

(٧) ينظر : المصدر السابق.

(٨) سقط في ب.

٢١٩

في «إلى» هذه وجهان :

أحدهما : أنّها على بابها من انتهاء [الغاية](١) ، وفيها حينئذ خلاف.

فقائل : إن ما بعدها لا يدخل فيما قبلها.

وقائل بعكس ذلك.

وقائل : لا تعرض لها في دخول ولا عدمه ، وإنّما [يدور](٢) الدخول والخروج مع الدّليل وعدمه.

وقائل : إن كان ما بعدها من جنس ما قبلها [دخل](٣) في الحكم ، وإلّا فلا ، ويعزى لأبي العبّاس.

وقائل : إن كان ما بعدها من غير جنس ما قبلها لم يدخل ، وإن كان من جنسه ، فيحتمل الدخول وعدمه.

وأوّل هذه الأقوال هو الأصحّ عند النّحاة.

قال بعضهم : وذلك أنّا حيث وجدنا قرينة مع «إلى» ، فإن تلك القرينة تقتضي الإخراج مما قبلها ، فإذا ورد كلام مجرد عن القرائن ، فينبغي أن يحمل على الأمر الفاشي الكثير ، وهو الإخراج ، وفرق هذا القائل بين «إلى» و «حتّى» فجعل «حتى» تقتضي الإدخال ، و «إلى» تقتضي الإخراج بما تقدّم من الدّليل.

[وهذه الأقوال دلائلها في غير هذا الكتاب ، وقد أوضحتها في كتابي «شرح التسهيل»](٤).

والوجه الثاني : أنّها بمعنى «مع» أي : مع المرافق ، وقد تقدّم الكلام في ذلك عند قوله : (إِلى أَمْوالِكُمْ).

و «المرافق» جمع «مرفق» بفتح الميم وكسر الفاء على الفصيح من اللغة ، وهو مفصل بين العضد والمعصم.

فصل

ذهب أكثر العلماء (٥) إلى وجوب غسل اليدين مع المرفقين والرجلين مع الكعبين. وقال مالك والشعبيّ ومحمّد بن جرير وزفر : لا يجب غسل المرفقين والكعبين في اليد والرجل ؛ لأن حرف «إلى» للغاية ، والحدّ لا يدخل في المحدود ، وما يكون غاية للحكم يكون خارجا عنه كقوله تعالى : (أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ) [البقرة : ١٨٧].

والجواب : أنّ حدّ الشيء قد يكون منفصلا عن المحدود بمقطع محسوس ، فهاهنا

__________________

(١) في ب : للغاية.

(٢) في أ : يريد.

(٣) في ب : لم يدخل.

(٤) سقط في أ.

(٥) ينظر : تفسير البغوي ٢ / ١٥.

٢٢٠