اللّباب في علوم الكتاب - ج ٧

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ٧

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٦٤٠

واعلم أنّا إن حملنا قوله : «إنّ الذين» على المعهود السّابق لم يحتج إلى إضمار شرط في هذا الوعيد على أقوام علم الله منهم أنّهم يموتون على الكفر.

وإن حملناه على الاستغراق ، أضمرنا فيه شرط عدم التّوبة.

قوله سبحانه : (وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ) في هذا الاستثناء قولان :

أحدهما : أنه استثناء متّصل ، لأن [المراد](١) بالطّريق الأوّل : العموم ، فالثّاني من جنسه.

والثاني : أنه منقطع إن أريد بالطّريق شيء مخصوص ؛ وهو العمل الصّالح الذي يتوصّلون به إلى الجنّة ، وانتصب «خالدين» على الحال ، والعامل فيه معنى (لا يَهْدِيهِمُ اللهُ) ؛ لأنه بمنزلة : يعاقبهم خالدين ، وانتصب «أبدا» على الظّرف ، (وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً) أي : لا يتعذّر عليه شيء.

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً)(١٧٠)

قوله ـ تعالى ـ : (يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ) الآية لما أجاب عن شبهة اليهود ، [و](٢) بين فساد طريقهم ، ذكر خطابا عامّا يعمّهم ويعمّ غيرهم في الدّعوة إلى الإسلام.

قوله سبحانه : (بِالْحَقِ) : فيه وجهان :

أحدهما : أنه متعلّق بمحذوف ، والباء للحال ، أي : جاءكم الرسول ملتبسا بالحقّ ، أو متكلّما به.

والثاني : أنه متعلق بنفس «جاءكم» ، أي : جاءكم بسبب إقامة الحقّ ، والمراد بهذا الحق القرآن ، وقيل : الدعوة إلى عبادة الله ، والإعراض عن غيره ، و (مِنْ رَبِّكُمْ) فيه وجهان :

أحدهما : أنه متعلق بمحذوف ؛ على أنه حال أيضا من «الحقّ».

والثاني : أنه متعلق ب «جاء» ، أي : جاء من عند الله ، أي : أنه مبعوث لا متقوّل.

قوله تعالى : (فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ) في نصبه أربعة أوجه :

أحدها ـ وهو مذهب الخليل وسيبويه (٣) ـ : أنه منصوب بفعل محذوف واجب الإضمار ، تقديره : وأتوا خيرا لكم ؛ لأنه لمّا أمرهم بالإيمان فهو يريد إخراجهم من أمر ، وإدخالهم فيما هو خير منه ، ولم يذكر الزمخشريّ غيره ؛ قال : «وذلك أنه لمّا بعثهم على

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) سقط في ب.

(٣) ينظر : الكتاب ١ / ١٤٣.

١٤١

الإيمان وعلى الانتهاء عن التثليث ، علم أنه يحملهم على أمر ، فقال : خيرا لكم ، أي : اقصدوا وأتوا أمرا خيرا لكم مما أنتم فيه من الكفر والتثليث».

الثاني ـ وهو مذهب الفراء (١) ـ : أنه نعت لمصدر محذوف ، أي : فآمنوا إيمانا خيرا لكم ، وفيه نظر ؛ من حيث أنه يفهم أنّ الإيمان منقسم إلى خير وغيره ، وإلّا لم يكن لتقييده بالصفة فائدة ، وقد يقال : إنه قد يكون لا يقول بمفهوم الصفة ؛ وأيضا : فإن الصفة قد تأتي للتأكيد وغير ذلك.

الثالث ـ وهو مذهب الكسائي وأبي عبيد ـ : أنه منصوب على خبر «كان» المضمرة ، تقديره : يكن الإيمان خيرا ، وقد ردّ بعضهم هذا المذهب ؛ بأنّ «كان» لا تحذف مع اسمها دون خبرها ، إلا فيما لا بدّ له منه ، ويزيد ذلك ضعفا أنّ «يكن» المقدرة جواب شرط محذوف ، فيصير المحذوف الشرط وجوابه ، يعني : أنّ التقدير : إن تؤمنوا ، يكن الإيمان خيرا ، فحذفت الشرط ، وهو «إن تؤمنوا» وجوابه ، وهو «يكن الإيمان» وأبقيت معمول الجواب ، وهو «خيرا» ، وقد يقال : إنه لا يحتاج إلى إضمار شرط صناعيّ ، وإن كان المعنى عليه ؛ لأنّا ندّعي أن الجزم الذي في «يكن» المقدرة ، إنما هو بنفس جملة الأمر التي قبله ، وهو قوله : «فآمنوا» من غير تقدير حرف شرط ، ولا فعل له ، وهو الصحيح في الأجوبة الواقعة لأحد الأشياء السبعة ، تقول : «قم أكرمك» ، ف «أكرمك» جواب مجزوم بنفس «قم» ؛ لتضمّن هذا الطلب معنى الشرط من غير تقدير شرط صناعيّ.

الرابع ـ والظاهر فساده ـ : أنه منصوب على الحال ، نقله مكي (٢) عن بعض الكوفيّين ، قال : «وهو بعيد» ، ونقله أبو البقاء (٣) أيضا ، ولم يعزه.

(وَإِنْ تَكْفُرُوا) فإنّ الله غنيّ عن إيمانكم ؛ لأنه مالك السّماوات والأرض وخالقها ، ومن كان كذلك ، لم يكن محتاجا إلى شيء ، ويكون التّقدير فإنّ لله ما في السّماوات وما في الأرض ، ومن كان كذلك ، قادرا على إنزال العذاب عليكم لو كفرتم ، أو يكون المراد : إن كفرتم ، فله ملك السّماوات والأرض ، ومن كان كذلك فله عبيد يعبدونه وينقادون لأمره ، فيجازي كلّا بفعله.

قوله عزوجل (٤) : (يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلاَّ الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللهُ إِلهٌ واحِدٌ سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً)(١٧١)

لمّا أجاب عن شبهات اليهود ، تكلّم بعد ذلك مع النّصارى ، والتّقدير : يا أهل

__________________

(١) ينظر : معاني القرآن ١ / ١٩٥.

(٢) ينظر : المشكل ١ / ٢١٤.

(٣) ينظر : الإملاء ١ / ٢٠٤.

(٤) في ب : قوله تعالى.

١٤٢

الكتاب من النّصارى لا [تغلوا في دينكم](١) ، أي : تفرطوا في تعظيم المسيح ، والغلوّ : تجاوز الحدّ ، ومنه : غلوة السّهم ، وغلاء السّعر.

واعلم أنه ـ تعالى ـ حكى عن اليهود مبالغتهم في الطّعن في المسيح ، وهنا حكى عن النّصارى مبالغتهم (٢) في تعظيمه ، وهم أصناف اليعقوبيّة ، والملكانيّة ، والنّسطوريّة والمرقسيّة.

فقالت اليعقوبيّة : عيسى هو الله ، وكذلك الملكانيّة.

وقالت النّسطوريّة : عيسى ابن الله.

وقالت المرقسيّة : ثالث ثلاثة ، فأنزل الله هذه الآية.

ويقال : إن الملكانيّة تقول : عيسى هو الله ، واليعقوبيّة يقولون : ابن الله ، والنّسطوريّة يقولون : [ثالث](٣) ثلاثة عليهم رجل من اليهود يقال له : بولص ، وسيأتي في سورة التّوبة ـ إن شاء الله تعالى ـ.

وقال الحسن : يجوز أن تكون نزلت في اليهود والنّصارى ؛ فإنهم جميعا غلوا في أمر عيسى ـ عليه‌السلام ـ فاليهود بالتّقصير ، والنّصارى بمجاوزة الحدّ ، وهو في الدّين حرام.

(وَلا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَ) وتصفوا الله بالحلول والاتّحاد في بدن الإنسان أو روحه.

وقيل : لا تقولوا إنّ له شريكا أو ولدا ، ونزّهوه عن هذه الأحوال.

قوله : (إِلَّا الْحَقَّ) هذا استثناء مفرّغ ، وفي نصبه وجهان :

أحدهما : أنه مفعول به ؛ لأنه تضمّن معنى القول ؛ نحو : «قلت خطبة».

والثاني : أنه نعت مصدر محذوف ، أي : إلا القول الحقّ ، وهو قريب في المعنى من الأوّل.

قوله [ـ سبحانه ـ](٤) : (إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ).

قرأ جعفر بن محمّد (٥) : «المسّيح» بوزن «السّكّيت» ؛ كأنه جعله مثال مبالغة ؛ نحو : «شرّيب العسل» ، و «المسيح» مبتدأ بعد «إنّ» المكفوفة ، و «عيسى» بدل منه ، أو عطف بيان ، و (ابْنُ مَرْيَمَ) صفته و (رَسُولُ اللهِ) خبر المبتدأ ، و «كلمته» عطف عليه.

و «ألقاها» جملة ماضية في موضع الحال ، و «قد» معها مقدرة ، وفي عامل الحال ثلاثة أوجه نقلها أبو البقاء (٦) :

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) في ب : مبالغة.

(٣) سقط في أ.

(٤) سقط في ب.

(٥) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٤١٧ ، والدر المصون ٢ / ٤٦٩.

(٦) ينظر : الإملاء ١ / ٢٠٤.

١٤٣

أحدها : أنه معنى «كلمة» ؛ لأنّ معنى وصف عيسى بالكلمة : المكوّن بالكلمة من غير أب ، فكأنه قال : ومنشؤه ومبتدعه.

والثاني : أن يكون التقدير : إذ كان ألقاها ، ف «إذ» ظرف زمان مستقبل ، و «كان» تامّة ، وفاعلها ضمير الله تعالى ، و «ألقاها» حال من ذلك الفاعل ، وهو كقولهم : «ضربي زيدا قائما».

والثالث : أن يكون حالا من الهاء المجرورة ، والعامل فيها معنى الإضافة ، تقديره : وكلمة الله ملقيا إيّاها. انتهى. أمّا جعله العامل معنى «كلمة» فصحيح ، لكنه لم يبين في هذا الوجه من هو صاحب الحال؟ وصاحب الحال الضمير المستتر في «كلمته» العائد على عيسى ؛ لما تضمّنته من معنى المشتقّ ؛ نحو : «منشأ ومبتدع» ، وأمّا جعله العامل معنى الإضافة ، فشيء ضعيف ، ذهب إليه بعض النحويّين ، وأمّا تقديره الآية بمثل «ضربي زيدا قائما» ، ففاسد من حيث المعنى ، والله أعلم.

فصل في تفسير الكلمة

قد تقدّم في تفسير «الكلمة» في قوله : (يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ) [آل عمران : ٤٥] ، والمعنى : أنّه وجد بكلمة الله وأمره ، من غير واسطة [أب](١) ولا نطفة ؛ لقوله [تعالى](٢) : (إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)](٣) [آل عمران : ٥٩].

قوله تعالى (وَرُوحٌ) عطف على «كلمة» ، و «منه» صفة ل «روح» ، و «من» لابتداء الغاية مجازا ، وليست تبعيضيّة ، ومن غريب ما يحكى أن بعض النصارى ناظر عليّ بن الحسين بن واقد المروزيّ ، وقال : «في كتاب الله ما يشهد أنّ عيسى جزء من الله» ، وتلا : (وَرُوحٌ مِنْهُ) ، فعارضه ابن واقد بقوله تعالى : (وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ) [الجاثية : ١٣] ، وقال : «يلزم أن تكون تلك الأشياء جزءا من الله تعالى ، وهو محال بالاتفاق» ، فانقطع النصرانيّ وأسلم.

فصل

قيل : معنى (رُوحٌ مِنْهُ) [هي](٤) روح كسائر الأرواح ، وإنّما أضافها الله ـ تعالى ـ إلى نفسه تشريفا.

وقيل : الرّوح هو النّفخ الذي نفخه (٥) جبريل في درع مريم ـ [عليها‌السلام](٦) ـ

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) سقط في أ.

(٣) سقط في ب.

(٤) سقط في أ.

(٥) في أ : نفخ.

(٦) سقط في ب.

١٤٤

فحملت بإذن الله ، سمّي النّفخ «روحا» ؛ لأنّه ريح يخرج من الرّوح ، وأضافه إلى نفسه ؛ لأنه كان بأمره.

والرّوح والرّيح متقاربان ، فالرّوح : عبارة عن نفخ جبريل ـ عليه‌السلام ـ ، وقوله : «منه» يعني : أنّ ذلك النّفخ من جبريل كان بأمر الله وإذنه ، فهو منه ؛ وهكذا قوله : (فَنَفَخْنا فِيهِ)(١)(مِنْ رُوحِنا) [التحريم : ١٢].

وقيل : (رُوحٌ مِنْهُ) أي : رحمة منه ، فكان ـ عليه‌السلام ـ رحمة لمن تبعه ، وآمن به ، من قوله ـ [تعالى](٢) ـ : (وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ) [المجادلة : ٢٢] ، أي : برحمة منه وقال ـ عليه الصلاة والسلام ـ : «إنّما أنا رحمة مهداة».

وقيل : الرّوح الوحي ، أوحى إلى مريم بالبشارة ، وإلى جبريل بالنّفخ ، وإلى عيسى أن كن فكان ؛ كقوله ـ [تعالى](٣) ـ : (يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ)](٤) [النحل : ٢]. يعني : بالوحي ؛ وقال ـ تعالى ـ في صفة القرآن : (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا) [الشورى : ٥٢].

وقيل : أراد بالرّوح : جبريل ، معناه : كلمته ألقاها إلى مريم ، وألقاها ـ أيضا ـ روح منه بأمره ، وهو جبريل [ـ عليه‌السلام ـ](٥) ؛ كقوله : (تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها)](٦) [القدر : ٤] يعني : جبريل فيها ، وقال : (فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا) [مريم : ١٧] يعني : جبريل.

وقيل : لما جرت عادة النّاس أنّهم إذا وصفوا شيئا بغاية الطّهارة والنّظافة ، قالوا : إنّه روح ، فلما كان عيسى لم يتكوّن من نطفة ، وإنما من نفخة جبريل ـ عليه‌السلام ـ لا جرم وصف بأنّه روح ، والمراد من قوله : «منه» التّشريف والتّفضيل ؛ كما يقال : هذه نعمة من الله ، أي (٧) : تلك النّعمة الكاملة الشّريفة (٨).

وقيل : إنه كان سببا لحياة الخلق في أديانهم ، [فوصف أنّه روح ؛ كما وصف القرآن في قوله : (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا) [الشورى : ٥٢] ، سمّاه روحا ؛ لمّا كان سببا لحياة الخلق في أديانهم](٩).

وقيل : لما أدخل التّنكير في لفظ «روح» أفاد التّعظيم ، فكان المعنى : روح من الأرواح الشّريفة القدسيّة العالية.

__________________

(١) في ب : فيها.

(٢) سقط في أ.

(٣) سقط في أ.

(٤) سقط في أ.

(٥) سقط في ب.

(٦) سقط في ب.

(٧) في أ : إلى.

(٨) في ب : كامله شريفة.

(٩) سقط في ب.

١٤٥

وقوله : «منه» أضاف ذلك الرّوح إلى نفسه تشريفا ، ثم قال : (فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ) أي : أنّ عيسى من رسل الله ، فآمنوا به كإيمانكم بسائر الرّسل ، ولا تجعلوه إلها.

قوله ـ تعالى ـ : (وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ) ، أي : لا تقولوا آلهتنا ثلاثة ، ف «ثلاثة» خبر مبتدأ مضمر ، والجملة من هذا المبتدأ والخبر في محلّ نصب بالقول ، أي : ولا تقولوا : «آلهتنا ثلاثة» قال الزّجاج : ويدلّ عليه قوله بعد ذلك : (إِنَّمَا اللهُ إِلهٌ واحِدٌ) ، وقيل : تقديره : الأقانيم ثلاثة ، أو المعبود ثلاثة ، وقال الفارسيّ : تقديره : الله ثالث ثلاثة ، ثم حذف المضاف ، وأقيم المضاف إليه مقامه ، يريد بذلك موافقة قوله : (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ) [المائدة : ٧٣].

قال الفرّاء : تقديره : ولا تقولوا هم ثلاثة ؛ كقوله : (سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ) [الكهف : ٢٢] وكانت النّصارى [يقولون :](١) أب ، وابن ، وروح القدس.

فصل في بيان تفسير النصارى للتثليث

قال القرطبي (٢) : فرق النّصارى مجتمعون على التّثليث ، ويقولون : إن الله جوهر واحد ، وله ثلاثة أقانيم ، فيجعلون كلّ أقنوم إلها ، ويعنون بالأقانيم : الوجود والحياة والعلم ، وربما يعبّرون [عن](٣) الأقانيم بالأب ، والابن ، وروح القدس ، فيعنون بالأب الوجود ، وبالرّوح الحياة ، وبالابن المسيح ، في كلام لهم فيه تخبيط.

ومحصول كلامهم يئول إلى التّمسّك بأنّ عيسى إله ؛ بما كان يجري الله على يديه من خوارق العادات على حسب دواعيه وإرادته.

قالوا : قد علمنا خروج هذه الأمور من مقدور البشر ، فينبغي أن يكون المقتدر عليها موصوف بالإلهيّة.

فيقال لهم : لو كان ذلك من مقدوراته وكان مستقلّا به ، كان تخليص نفسه من أعدائه ، ودفع شرّهم عنه من مقدوراته ، وليس كذلك ؛ فإن اعترفوا بذلك سقط استدلالهم وقولهم : إنه كان يفعلها ، وإن لم يسلّموا فلا حجّة لهم ـ أيضا ـ ؛ لأنّهم معارضون بموسى ـ عليه‌السلام ـ ، وما كان يجري الله ـ تعالى ـ على يديه من الأمور العظام ؛ كفلق البحر ، وقلب العصا ثعبانا ، واليد البيضاء ، وضرب الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا ، وإنزال المنّ والسّلوى وغير ذلك ، وكذلك ما جرى على أيدي الأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ ، فإن أنكروا ذلك ، فينكر ما يدّعونه في ظهوره على يد عيسى ـ عليه‌السلام ـ ، ولا يمكنهم إثبات شيء من ذلك [لعيسى ؛ فإن إثباته عندنا بنصّ القرآن ، وهم ينكرون القرآن ويكذّبون من أتى به](٤) ، ولا يمكنهم إثبات ذلك بأخبار التّواتر.

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) ينظر : تفسير القرطبي ٦ / ١٧.

(٣) سقط في أ.

(٤) سقط في أ.

١٤٦

[و](١) قوله ـ عزوجل ـ : (انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ) نصب «خيرا» لنصبه فيما تقدّم في جميع وجوهه ، ونسبته إلى قائليه ، ثم أكّد التّوحيد بقوله : (إِنَّمَا اللهُ إِلهٌ واحِدٌ) ثم نزّه نفسه عن الولد بقوله : (سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ) وتقديره : من أن يكون ، أو : عن أن يكون ؛ لأنّ معنى : «سبحان» : التّنزيه ، فكأنّه قيل : نزّهوه عن أن يكون ، أو من أن يكون له ولد ، فيجيء في محلّ «أن» الوجهان المشهوران ، وقد تقدّمت دلائل تنزيه الله عن الولد في سورة «آل عمران» و «واحد» نعت على سبيل التوكيد ، وظاهر كلام مكي (٢) أنه نعت لا على سبيل التوكيد ، فإنه قال : و «الله» مبتدأ ، و «إله» خبره ، و «واحد» نعت ، تقديره : «إنّما الله منفرد في إلهيّته» ، وقيل : «واحد» تأكيد بمنزلة (لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ) [النحل : ٥١] ، ويجوز أن يكون «إله» بدلا من «الله» ، و «واحد» خبره ، تقديره : إنّما المعبود واحد ، وقوله : (أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ) تقديم نظيره [في الآية ٤٧ آل عمران]. وقرأ الحسن (٣) : «إن يكون» بكسر الهمزة ورفع «يكون» على أنّ «إن» نافية ، أي : ما يكون له ولد ، فعلى قراءته يكون هذا الكلام جملتين ، وعلى قراءة العامة يكون جملة واحدة.

ثم قال ـ تعالى ـ : ولله (ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ).

واعلم أنّه ـ تعالى ـ في كل موضع نزّه نفسه عن الولد ذكر كونه ملكا ومالكا لما في السموات وما في الأرض ؛ فقال في «مريم» : (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً) [مريم : ٩٣] ، والمعنى : أن من كان مالكا لما في السّموات وما في الأرض ولكلّ ما فيها ، كان مالكا لعيسى ولمريم ؛ لأنهما كانا في السّموات وفي الأرض ، ولما هو أعظم منهما في الذّات والصّفات ، وإذا كان مالكا لما هو أعظم منهما ، فبأن يكون مالكا لهما أولى ، وإذا كانا مملوكين له ، فكيف يعقل مع هذا توهّم كونهما ولدا وزوجة.

ثم قال ـ تعالى ـ : (وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً) أي : إن الله ـ تعالى ـ كاف في تدبير المخلوقات ، وفي حفظ المحدثات ، فلا حاجة معه إلى القول بإثبات آله آخر ، وهو إشارة إلى ما يذكره المتكلّمون ؛ من أنّه لمّا كان [ـ تعالى ـ](٤) عالما بجميع المعلومات قادرا على كل المقدورات ، كان كافيا في الإلهيّة ، فلو فرضنا آلها آخر ، كان معطّلا لا فائدة فيه ، وذلك نقص ، والنّاقص لا يكون إلها.

قوله تعالى : (لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً (١٧٢) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) ينظر : المشكل ١ / ٢١٤.

(٣) ينظر : الشواذ (٣٦) ، والبحر المحيط ٣ / ٣ / ٤١٨ ، القرطبي ٦ / ٢٦ ، الدر المصون ٢ / ٤٧٠.

(٤) سقط في أ.

١٤٧

فَيُعَذِّبُهُمْ عَذاباً أَلِيماً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً)(١٧٣)

قوله : (لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ) الآية لمّا أقام الحجّة القاطعة على أنّ عيسى عبد الله ، لا يجوز أن يكون ابنا له ، أشار بعده إلى حكاية شبهتهم ، وأجاب عنها ؛ لأنّ الشّبهة التي عوّلوا عليها في إثبات أنّه ابن الله ؛ هو [أنّه](١) كان يخبر عن الغيبيّات (٢) ، ويأتي بخوارق العادات من الإبراء والإحياء ، فكأنّه ـ تعالى ـ قال : (لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ) بسبب القدر من العلم والقدرة عن عبادة الله ـ [سبحانه] وتعالى ـ ، فإن الملائكة المقرّبين أعلى حالا منه في القدرة ؛ لأن ثمانية منهم حملة العرش على عظمته ، ثم [إنّ](٣) الملائكة مع كمالهم في العلوم ، لم يستنكفوا عن عبوديّة (٤) الله ، فكيف يستنكف المسيح عن عبوديّته بسبب هذا القدر القليل الذي كان معه من العلم والقدرة.

والاستنكاف : استفعال من النّكف ، والنّكف : أن يقال [له] سوء ، ومنه : «وما عليه في هذا الأمر نكف ولا وكف» ، قال أبو العباس : «واستفعل هنا بمعنى دفع النّكف عنه» ، وقال غيره : «هو الأنفة والتّرفّع» ، ومنه : «نكفت الدّمع بإصبعي» ، إذا منعته من الجري على خدّك ، قال : [الطويل]

١٩١٠ ـ فبانوا فلو لا ما تذكّر منهم

من الحلف لم ينكف لعينيك مدمع (٥)

فصل

روي أن وفد نجران قالوا : يا محمّد ، إنك تعيب صاحبنا ، فتقول : إنّه عبد الله ، فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ليس بعار لعيسى ـ عليه‌السلام ـ أن يكون عبدا لله» فنزلت هذه الآية (٦).

وقرأ عليّ (٧) : «عبيدا» على التّصغير ، وهو مناسب للمقام ، وقرأ الجمهور «أن يكون عبدا لله» بفتح همزة «أن» ، [فهو في موضع نصب ، وقرأ الحسن (٨) : «إن» بكسر الهمزة على أنّها نفي بمعنى](٩) : ما يكون له ولد ، فينبغي رفع «يكون» ، ولم يذكره الرواة ؛ نقله القرطبيّ (١٠).

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) في ب : المغيبات.

(٣) سقط في أ.

(٤) في ب : عبادة.

(٥) ينظر البيت في اللسان (نكف) والبحر المحيط ٣ / ٤١٠ ، والدر المصون ٢ / ٤٧١ وزاد المسير ٢ / ٢٦٣.

(٦) ينظر : «التفسير الكبير» للفخر الرازي (١١ / ٩٣).

(٧) ينظر : البحر المحيط ٣ / ٤١٩ ، والدر المصون ٢ / ٤٧٠.

(٨) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ١٤٠ ، والبحر المحيط ٣ / ٤١٨ ، والدر المصون ٢ / ٤٧٠.

(٩) سقط في ب.

(١٠) ينظر : تفسير القرطبي ٦ / ١٩.

١٤٨

وقوله تعالى : (وَلَا الْمَلائِكَةُ) عطف على «المسيح» ، أي : ولن يستنكف الملائكة أن يكونوا عبيدا لله ، وقال أبو حيان (١) ما نصّه : «وفي الكلام حذف ، التقدير : ولا الملائكة المقرّبون أن يكونوا عبيدا لله ، فإن ضمّن «عبدا» معنى «ملكا لله» ، لم يحتج إلى هذا التقدير ، ويكون إذ ذاك (وَلَا الْمَلائِكَةُ) من باب عطف المفردات ، بخلاف ما إذا لحظ في «عبد» معنى الوحدة ، فإن قوله : (وَلَا الْمَلائِكَةُ) يكون [من] عطف الجمل ؛ لاختلاف الخبر ، وإن لحظ في قوله : (وَلَا الْمَلائِكَةُ) معنى : «ولا كل واحد من الملائكة» كان من باب عطف المفردات» ، وقال الزمخشريّ (٢) : «فإن قلت : علام عطف «والملائكة»؟ قلت : إمّا أن يعطف على «المسيح» ، أو اسم «يكون» ، أو على المستتر في «عبدا» لما فيه من معنى الوصف ؛ لدلالته على العبادة ، وقولك : «مررت برجل عبد أبوه» فالعطف على المسيح هو الظاهر ؛ لأداء غيره إلى ما فيه بعض انحراف عن الغرض ، وهو أن المسيح لا يأنف أن يكون هو ولا من فوقه موصوفين بالعبودية ، أو أن يعبد الله هو ومن فوقه» ، قال أبو حيان : «والانحراف عن الغرض الذي أشار إليه كون الاستنكاف يكون مختصّا بالمسيح ، والمعنى التامّ إشراك الملائكة مع المسيح في انتفاء الاستنكاف عن العبوديّة ، ويظهر أيضا مرجوحيّة الوجهين من وجه دخول «لا» ؛ إذ لو أريد العطف على الضمير في «يكون» أو في «عبدا» لم تدخل «لا» ، بل كان يكون التركيب بدونها ، تقول : «ما يريد زيد أن يكون هو وأبوه قائمين» و «ما يريد زيد أن يصطلح هو وعمرو» ، فهذان التركيبان ليسا من مظنّة دخول لا ، وإن وجد منه شيء ، أوّل». انتهى ، فتحصّل في رفع «الملائكة» ثلاثة أوجه ، أوجهها الأوّل.

فصل

استدلّ الجمهور بهذه الآية : على أنّ الملك أفضل من البشر ، وقد تقدّم الكلام عليه ، في البقرة [آية ٣٤].

وقال ابن الخطيب (٣) : والذي نقوله ههنا : إنّا نسلّم أنّ اطّلاع الملائكة على المغيّبات أكثر من اطلاع البشر عليهما ، ونسلّم أن قدرة الملائكة على التّصرّف في هذا العالم أشدّ من قدرة البشر ، إنما النّزاع في أنّ ثواب طاعات الملائكة أكثر ، أم ثواب طاعات البشر وهذه الآية لا تدلّ على ذلك ؛ وذلك أن النّصارى إنّما أثبتوا إلهيّة عيسى ؛ لأنه أخبر عن الغيب (٤) ، وأتى بخوارق العادات ، فإيراد الملائكة لأجل إبطال هذه الشّبهة ، إنما يستقيم إذا كانت الملائكة أقوى حالا في هذا العالم ، وفي هذه القدرة من البشر ، ونحن نقول بموجبه.

__________________

(١) ينظر : البحر المحيط ٣ / ٤١٩.

(٢) ينظر : الكشاف ١ / ٥٩٧.

(٣) ينظر : تفسير الرازي ١١ / ٩٣.

(٤) في ب : الغيوب.

١٤٩

فأما أن يقال : المراد من الآية تفضيل الملائكة على المسيح في كثرة الثّواب على الطّاعات ، فذلك ممّا لا يناسب (١) هذا الموضع ، ولا يليق به.

فظهر أنّ هذا الاستدلال إنّما قوي في الأوهام ؛ لأن النّاس ما لخّصوا محلّ النّزاع.

وأجاب البغوي (٢) عن استدلالهم بهذه الآية ؛ فقال : ولا حجّة لهم فيه ؛ لأنه لم يقل ذلك رفعا لمقامهم على مقام البشر ، بل ردّا على الذين يقولون : الملائكة آلهة ، لما ردّ على النّصارى قولهم : المسيح ابن الله ، وقال ردّا على النّصارى بزعمهم ؛ فإنّهم يقولون بتفضيل الملائكة ، وهذه الآية تدلّ على أنّ طبقات الملائكة مختلفة ؛ لقوله ـ تعالى ـ : (وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ)

قوله تعالى (فَسَيَحْشُرُهُمْ) الفاء يجوز أن تكون جوابا للشّرط في قوله : (وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ) ، فإن قيل : جواب «إن» الشرطية وأخواتها غير «إذا» لا بدّ أن يكون محتملا للوقوع وعدمه ، وحشرهم إليه جميعا لا بدّ منه ، فكيف وقع جوابا لها؟ فقيل في جوابه وجهان :

أصحهما : أن هذا الكلام تضمّن الوعد والوعيد ؛ لأنّ حشرهم يقتضي جزاءهم بالثواب أو العقاب ، ويدلّ عليه التفصيل الذي بعده في قوله : (فَأَمَّا الَّذِينَ) إلى آخره ، فيكون التقدير: ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر ، فيعذبه عند حشره إليه ، ومن لم يستنكف ولم يستكبر ، فيثيبه.

والثاني : أنّ الجواب محذوف ، أي : فيجازيه ، ثم أخبر بقوله : (فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً) ، وليس بالبيّن ، وهذا الموضوع محتمل أن يكون ممّا حمل على لفظة «من» تارة في قوله : «يستنكف» [و «يستكبر»] فذلك أفرد الضمير ، وعلى معناها أخرى في قوله : «فسيحشرهم» ولذلك جمعه ، ويحتمل أنه أعاد الضمير في «فسيحشرهم» على «من» وغيرها ، فيندرج المستنكف في ذلك ، ويكون الرابط لهذه الجملة باسم الشرط العموم المشار إليه ، وقيل : بل حذف معطوفا لفهم المعنى ، والتقدير : فسيحشرهم ، أي : المستنكفين وغيرهم ، كقوله : (سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ) [النحل : ١٨] ، أي : والبرد.

و «جميعا» حال ، أو تأكيد عند من جعلها ك «كلّ» وهو الصحيح ، وقرأ الحسن (٣) : «فسنحشرهم» بنون العظمة ، وتخفيف باء «فيعذّبهم» ، وقرىء (٤) «فسيحشرهم» بكسر الشين ، وهي لغة في مضارع «حشر».

وقوله تعالى : (فَأَمَّا الَّذِينَ) : قد تقدّم الكلام على نظيرتها ، ولكن هنا سؤال حسن

__________________

(١) في أ : ينتسب.

(٢) ينظر : تفسير البغوي ١ / ٥٠٣.

(٣) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ١٤٠ ، والبحر المحيط ٣ / ٤٢٠ ، والدر المصون ٢ / ٤٧١.

(٤) ينظر : الدر المصون ٢ / ٤٧١.

١٥٠

قاله الزمخشريّ وهو : «فإن قلت : التفصيل غير مطابق للمفصّل ؛ لأنه اشتمل على الفريقين ، والمفصّل على فريق واحد ، قلت : هو مثل قولك : «جمع الإمام الخوارج : فمن لم يخرج عليه ، كساه حلّة ، ومن خرج عليه ، نكّل به» وصحة ذلك ؛ لوجهين :

أحدهما : أن يحذف ذكر أحد الفريقين ؛ لدلالة التفصيل عليه ؛ ولأنّ ذكر أحدهما يدلّ على ذكر الثاني ؛ كما حذف أحدهما في التفصيل في قوله عقيب هذا : (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ).

والثاني : وهو أن الإحسان إلى غيرهم مما يغمّهم ؛ فكان داخلا في جملة التنكيل بهم ، فكأنه قيل : ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيعذبهم بالحسرة ، إذا رأوا أجور العاملين ، وبما يصيبهم من عذاب الله». انتهى ، يعني بالتفصيل قوله : «فأمّا» و «أمّا» ، وقد اشتمل على فريقين ، أي : المثابين والمعاقبين ، وبالمفصّل قوله قبل ذلك : (وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ) ، ولم يشتمل إلا على فريق واحد هم المعاقبون.

فصل

بيّن ثواب الّذين آمنوا وعملوا الصّالحات أنه يوفّيهم أجورهم ، ويزيدهم من فضله من التّضعيف ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر.

قوله : (وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا) عن عبادته (فَيُعَذِّبُهُمْ عَذاباً أَلِيماً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً).

وقدم ثواب المؤمنين على عقاب المستنكف (١) ؛ لأنّهم إذا رأوا ثواب المطيعين ، ثم شاهدوا بعده عقاب أنفسهم ، كان ذلك أعظم في الحسرة.

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً)(١٧٤)

(٢) لما أورد الحجّة على جميع الفرق من المنافقين والكفّار واليهود والنّصارى ، وأجاب عن شبهاتهم عمم الخطاب ، ودعا جميع النّاس إلى الاعتراف برسالة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والمراد بالبرهان : محمد ـ عليه الصلاة والسلام ـ ، وسمّي برهانا ؛ لأن حرفته إقامة البرهان على تحقيق الحقّ ، وإبطال الباطل ، والنّور المبين (٣) هو القرآن ؛ لأنه سبب لوقوع نور الإيمان في القلب.

قوله تعالى : (مِنْ رَبِّكُمْ) فيه وجهان :

__________________

(١) في ب : المستنكفين.

(٢) سقط في أ.

(٣) في ب : البين.

١٥١

أظهرهما : أنه متعلّق بمحذوف ، لأنه صفة ل «برهان» أي : برهان كائن من ربكم ، و «من» يجوز أن تكون لابتداء الغاية مجازا أو تبعيضيّة ، أي : من براهين ربّكم.

والثاني : أنه متعلّق بنفس «جاء» ، لابتداء الغاية كما تقدّم.

قوله تعالى : (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطاً مُسْتَقِيماً)(١٧٥)

فالمراد : أنهم امتنعوا به من زيغ الشّيطان ، (فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ).

فصل

قال ابن عبّاس ـ رضي الله عنهما ـ : المراد بالرّحمة الجنّة (١) ، وبالفضل : ما يتفضّل به عليهم بما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، [ولا خطر على قلب بشر](٢).

(وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطاً مُسْتَقِيماً).

قوله عزّ وجّل : (صِراطاً) : مفعول ثان ل «يهدي» ؛ لأنه يتعدّى لاثنين ؛ كما تقدم تحريره ، وقال جماعة منهم (٣) مكّيّ : إنه مفعول بفعل محذوف دلّ عليه «يهديهم» ، والتقدير : «يعرّفهم». وقال أبو البقاء (٤) قريبا من هذا إلا أنه لم يضمر فعلا ، بل جعله منصوبا ب «يهدي» على المعنى ؛ لأنّ المعنى يعرّفهم ، قال مكيّ (٥) في الوجه الثاني : «ويجوز أن يكون مفعولا ثانيا ل «يهدي» ، أي : يهديهم صراطا مستقيما إلى ثوابه وجزائه» قال شهاب الدين : ولم أدر لم خصّصوا هذا الموضع دون الذي في الفاتحة [الآية : ٣] ، واحتاجوا إلى تقدير فعل ، أو تضمينه معنى «يعرّفهم»؟ وأجاز أبو عليّ أن يكون منصوبا على الحال من محذوف ؛ فإنه قال : «الهاء في «إليه» راجعة إلى ما تقدّم من اسم الله ، والمعنى : ويهديهم إلى صراطه ، فإذا جعلنا (صِراطاً مُسْتَقِيماً) نصبا على الحال ، كانت الحال من هذا المحذوف». انتهى ، فتحصّل في نصبه أربعة أوجه :

أحدها : أنه مفعول ب «يهدي» من غير تضمين معنى فعل آخر.

الثاني : أنه على تضمين معنى «يعرّفهم».

الثالث : أنه منصوب بمحذوف.

الرابع : أنه نصب على الحال ، وعلى هذا التقدير الذي قدّره الفارسيّ تقرب من الحال المؤكّدة ، وليس كقولك : «تبسّم ضاحكا» ؛ لمخالفتها لصاحبها بزيادة الصفة ، وإن وافقته لفظا ، والهاء في «إليه» : إمّا عائدة على «الله» بتقدير حذف مضاف ؛ كما تقدّم من

__________________

(١) ينظر : الرازي ٩ / ٩٣.

(٢) سقط في ب.

(٣) ينظر : المشكل ١ / ٢١٥.

(٤) ينظر : الإملاء ١ / ٢٠٥.

(٥) ينظر : المشكل ١ / ٢١٥.

١٥٢

نحو : «ثواب» أو «صراطه» ، وإمّا على الفضل والرحمة ؛ لأنهما في معنى شيء واحد ، وإما عائدة على الفضل ؛ لأنه يراد به طريق الجنان.

قوله تعالى : (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالاً وَنِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)(١٧٦)

قوله ـ جل وعلا ـ : (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ) إلى آخر السورة لما تكلّم [في](١) أوّل السّورة [في](٢) أحكام الأموال ، ختمها بذلك الآخر مشاكلا للأوّل ، ووسط السّورة مشتمل على المناظرة مع الفرق المخالفين في الدّين.

قال المفسرون (٣) : نزلت في جابر بن عبد الله ، قال : عادني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم [وشرف وكرم وعظم](٤) ، وأنا مريض لا أعقل ، فتوضّأ وصبّ من وضوئه عليّ ، فعقلت ، فقلت : يا رسول الله ، لمن الميراث ، إنّهما يرثني كلالة ، فنزلت (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ)(٥). ومعنى : يستفتونك : يستخبرونك ، قال البراء بن عازب : هذه آخر آية نزلت من القرآن (٦).

قال القرطبي (٧) : كذا قال في مسلم ، وقيل : أنزلت في النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قوله سبحانه وتعالى : (فِي الْكَلالَةِ) : متعلق ب «يفتيكم» ؛ على إعمال الثاني ، وهو اختيار البصريّين ، ولو أعمل الأول ، لأضمر في الثاني ، وله نظائر في القرآن : (هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ) [الحاقة : ١٩]. (آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً) [الكهف : ٩٦] (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللهِ) [المنافقون : ٥] (وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا) [البقرة : ٣٩] ، وقد تقدّم الكلام فيه في البقرة ، وتقدّم الكلام في اشتقاق الكلالة في أوّل هذه السّورة [النساء : ١٢] ، وقوله : (إِنِ امْرُؤٌ) كقوله : (وَإِنِ امْرَأَةٌ) [النساء : ٣٨]. و «هلك» جملة فعلية في محلّ رفع صفة ل «امرؤ».

و «ليس له ولد» جملة في محلّ رفع أيضا صفة ثانية ، وأجاز أبو البقاء (٨) أن تكون هذه الجملة حالا من الضمير في «هلك» ، ولم يذكر غيره ، ومنع الزمخشريّ أن تكون حالا ، ولم يبيّن العلة في ذلك ، ولا بيّن صاحب الحال أيضا ، هل هو «امرؤ» أو الضمير

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) سقط في أ.

(٣) ينظر : تفسير البغوي ١ / ٥٠٤.

(٤) سقط في ب.

(٥) تقدم.

(٦) أخرجه البخاري (١٢ / ٢٦) كتاب الفرائض : باب ميراث الأخوات والإخوة حديث (٦٧٤٣).

(٧) ينظر : تفسير القرطبي ٦ / ٢٠.

(٨) ينظر : الإملاء ١ / ٢٠٥.

١٥٣

في «هلك»؟ قال أبو حيان (١) : «ومنع الزمخشريّ (٢) أن يكون قوله : (لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ) جملة حالية من الضمير في «هلك» ، فقال : ومحلّ (لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ) الرفع على الصفة ، لا النصب على الحال». انتهى ، قال شهاب الدين (٣) : والزمخشريّ لم يقل كذلك ، أي : لم يمنع كونها حالا من الضمير في «هلك» ، بل منع حاليتها على العموم ، كما هو ظاهر قوله ، ويحتمل أنه أراد منع حاليتها من «امرؤ» ؛ لأنه نكرة ، لكنّ النكرة هنا قد تخصّصت بالوصف ، وبالجملة فالحال من النكرة أقلّ منه من المعرفة ، والذي ينبغي امتناع حاليتها مطلقا ؛ كما هو ظاهر عبارته ؛ وذلك أنّ هذه الجملة المفسّرة للفعل المحذوف لا موضع لها من الإعراب ؛ فأشبهت الجمل المؤكّدة ، وأنت إذا أتبعت أو أخبرت ، فإنما تريد ذلك الاسم المتقدّم في الجملة المؤكّدة السابقة ، لا ذلك الاسم المكرّر في الجملة الثانية التي جاءت تأكيدا ؛ لأن الجملة الأولى هي المقصودة بالحديث ، فإذا قلت : «ضربت زيدا ، ضربت زيدا الفاضل» ، ف «الفاضل» صفة «زيدا» الأوّل ؛ لأنه في الجملة المؤكدة المقصود بالإخبار ، ولا يضرّ الفصل بين النعت والمنعوت بجملة التأكيد ، فهذا المعنى ينفي كونها حالا من الضمير في «هلك» ، وأما ما ينفي كونها حالا من «امرؤ» فلما ذكرته لك من قلّة مجيء الحال من النكرة في الجملة ، وفي هذه الآية على ما اختاروه من كون (لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ) صفة ـ دليل على الفصل بين النعت والمنعوت بالجملة المفسرة للمحذوف في باب الاشتغال ، ونظيره : «إن رجل قام عاقل فأكرمه» ف «عاقل» صفة ل «رجل» فصل بينهما ب «قام» المفسّر ل «قام» المفسّر.

فصل

قال القرطبيّ (٤) : معنى قوله ـ تعالى ـ : (لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ) أي : ليس له ولد ولا والد ، فاكتفى بذكر أحدهما.

قال الجرجانيّ (٥) : لفظ الولد ينطلق على الوالد والمولود ، فالوالد يسمّى والدا ؛ لأنه ولد ، والمولود يسمّى ولدا ؛ لأنه [ولد](٦) ؛ كالذّرّيّة [فإنّها من ذرأ](٧) ثم تطلق على الولد ، وعلى الوالد ؛ قال ـ تعالى ـ : (وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ) [يس : ٤١] وقوله ـ سبحانه ـ : (وَلَهُ أُخْتٌ) ؛ كقوله : (لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ) ، والفاء في «فلها» جواب «إن».

فصل في تقييدات ثلاثة ذكرها الرازي في الآية

قال ابن الخطيب (٨) : ظاهر هذه الآية فيه تقييدات ثلاثة :

__________________

(١) ينظر : البحر المحيط ٣ / ٤٢٢.

(٢) ينظر : الكشاف ١ / ٥٩٨.

(٣) ينظر : الدر المصون ٢ / ٤٧٣.

(٤) ينظر : تفسير القرطبي ٦ / ٢٠.

(٥) ينظر : تفسير القرطبي ٦ / ٢١.

(٦) سقط في أ.

(٧) سقط في أ.

(٨) ينظر : تفسير الرازي ١١ / ٩٥.

١٥٤

الأول : أن ظاهرها يقتضي أن الأخت إنّما تأخذ النّصف عند عدم الولد فأما عند وجود الولد ، فإنها لا تأخذ النصف ، وليس الأمر كذلك بل شرط كون الأخت تأخذ النصف ألّا يكون للميت ولد ابن ، وهذا لا يرد على ظاهر الآية ؛ لأن المقصود من الآية بيان أصحاب الفروض ومستحقّيها ، وفي هذه الصّورة إنما تأخذ النّصف بالتعصيب لا بكونه مفروضا أصالة ، بل لكونه ما بقي (١) بدليل أنه (٢) لو كان معها بنتان ، فإن لها الثلث الباقي بعد فرض البنتين.

الثاني : ظاهر الآية يقتضي أنّه إذا لم يكن للميت ولد ولا والد ؛ لأن الأخت لا ترث مع الوالد بالإجماع ، وهذا لا يرد ـ أيضا ـ على ظاهر الآية في الكلالة ، وشرطها عدم الولد والوالد.

الثالث : أن قوله : «ولها أخت» المراد منه الأخت من الأبوين ، ومن الأب ؛ لأن الأخت من الأم ، والأخ من الأمّ قد بيّن الله حكمه في أوّل السّورة.

وقوله عزوجل : (وَهُوَ يَرِثُها) لا محلّ لهذه الجملة من الإعراب ؛ لاستئنافها ، وهي دالة على جواب الشرط ، وليست جوابا ؛ خلافا للكوفيّين وأبي زيد ، وقال أبو البقاء (٣) : «وقد سدّت هذه الجملة مسدّ جواب الشرط» ، يريد أنها دالة كما تقدّم ، وهذا كما يقول النحاة : إذا اجتمع شرط وقسم ، أجيب سابقهما ، وجعل ذلك الجواب سادّا مسدّ جواب الآخر ، والضّميران من قوله : (وَهُوَ يَرِثُها) عائدان على لفظ امرىء وأخت دون معناهما ، فهو من باب قوله : [الطويل]

١٩١١ ـ وكلّ أناس قاربوا قيد فحلهم

ونحن خلعنا قيده فهو سارب (٤)

وقولهم : «عندي درهم ونصفه» ، وقوله تعالى : (وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ) [فاطر : ١١] ، وإنما احتيج إلى ذلك ؛ لأنّ الحية لا تورث ، والهالك لا يرث ، فالمعنى: وامرأ آخر غير الهالك يرث أختا له أخرى.

فصل

المعنى : إن الأخ يستغرق ميراث الأخت ، إن لم يكن للأخت ولد ، فإن كان لها ابن ، فلا شيء للأخ ، وإن كان ولدها أنثى ، فللأخ ما فضل عن فرض البنات ، وهذا في الأخ للأبوين أو [الأخ](٥) للأب ، فأما الأخ للأمّ ؛ فإنه [لا يستغرق الميراث ، ويسقط بالولد](٦).

قوله تعالى : (فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ) الألف في «كانتا» فيها أقوال :

__________________

(١) في ب : يبقى.

(٢) في ب : ما.

(٣) ينظر : الإملاء ١ / ٢٠٥.

(٤) تقدم.

(٥) سقط في ب.

(٦) سقط في أ.

١٥٥

أحدها : أنها تعود على الأختين يدلّ على ذلك قوله : (وَلَهُ أُخْتٌ) ، أي : فإن كانت الأختان اثنتين ، وقد جرت عادة النحويّين أن يسألوا هنا سؤالا ، وهو أنّ الخبر لا بدّ أن يفيد ما لا يفيده المبتدأ ، وإلّا لم يكن كلاما ، ولذلك منعوا : «سيّد الجارية مالكها» ؛ لأن الخبر لم يزد على ما أفاده المبتدأ ، والخبر هنا دلّ على عدد ذلك العدد مستفاد من الألف في «كانتا» ، وقد أجابوا عن ذلك بأجوبة منها : ما ذكره أبو الحسن الأخفش وهو أنّ قوله «اثنتين» يدلّ على مجرّد الاثنينيّة من غير تقييد بصغير أو كبير أو غير ذلك من الأوصاف ، يعني أن الثّلثين يستحقّان بمجرّد هذا العدد من غير اعتبار قيد آخر ؛ فصار الكلام بذلك مفيدا ، وهذا غير واضح ؛ لأنّ الألف في «كانتا» تدلّ أيضا على مجرّد الاثنينيّة من غير قيد بصغير أو كبير أو غيرهما من الأوصاف ، فقد رجع الأمر إلى أنّ الخبر لم يفد غير ما أفاده المبتدأ ، ومنها : ما ذكره مكي (١) عن الأخفش أيضا ، وتبعه الزمخشريّ وغيره ؛ وهو الحمل على معنى «من» ، وتقريره ما ذكره الزمخشريّ ؛ قال رحمه‌الله : «فإن قلت : إلى من يرجع ضمير التثنية والجمع في قوله : «فإن كانتا اثنتين ، وإن كانوا إخوة»؟ قلت : أصله : فإن كان من يرث بالأخوّة اثنتين ، وإن كان من يرث بالأخوّة ذكورا وإناثا ، وإنما قيل : «فإن كانتا ، وإن كانوا» كما قيل : «من كانت أمّك» ، فكما أنّث ضمير «من» لمكان تأنيث الخبر كذلك ثنّى وجمع ضمير من يرث في «كانتا» و «كانوا» ؛ لمكان تثنية الخبر وجمعه» ، وهو جواب حسن.

إلا أن أبا حيان (٢) اعترضه ، فقال : «هذا تخريج لا يصحّ ، وليس نظير «من كانت أمّك» ؛ لأنه قد صرّح ب «من» ، ولها لفظ ومعنى ، فمن أنّث ، راعى المعنى ؛ لأن التقدير : أية أمّ كانت أمك» ومدلول الخبر في هذا مخالف لمدلول الاسم ؛ بخلاف الآية ؛ فإن المدلولين واحد ، ولم يؤنّث في «من كانت أمك» ؛ لتأنيث الخبر ، إنما أنّث لمعنى «من» ؛ إذ أراد بها مؤنّثا ؛ ألا ترى أنك تقول : «من قامت» ، فتؤنث مراعاة للمعنى ؛ إذ أردت السؤال عن مؤنّث ، ولا خبر هنا ؛ فيؤنّث «قامت» لأجله». انتهى. قال شهاب الدين (٣) : وهذا تحامل منه على عادته ، والزمخشريّ وغيره لم ينكروا أنه لم يصرّح في الآية بلفظ «من» ؛ حتّى يفرّق لهم بهذا الفرق الغامض ، وهذا التخريج المذكور هو القول الثاني في الألف.

والظاهر أنّ الضمير في «كانتا» عائد على الوارثتين ، و «اثنتين» خبره ، و «له» صفة محذوفة بها حصلت المغايرة بين الاسم والخبر ، والتقدير : فإن كانت الوارثتان اثنتين من الأخوات ، وهذا جواب حسن ، وحذف الصفة لفهم المعنى غير منكر ، وإن كان أقلّ من

__________________

(١) ينظر : المشكل ١ / ٢١٦.

(٢) ينظر : البحر المحيط ٣ / ٤٢٣.

(٣) ينظر : الدر المصون ٢ / ٤٧٤.

١٥٦

عكسه ، ويجوز أن يكون خبر «كان» محذوفا ، والألف تعود على الأختين المدلول عليهما بقوله : «وله أخت» ؛ كما تقدّم ذكره عن الأخفش وغيره ؛ وحينئذ يكون قوله : «اثنتين» حالا مؤكّدة ، والتقدير : وإن كانت الأختان له ، فحذف «له» ، لدلالة قوله : (وَلَهُ أُخْتٌ) عليه. فهذه أربعة أقوال.

فصل

أراد اثنتين فصاعدا ، وهو أنّ من مات له أخوات فلهنّ الثلثان.

قوله تعالى : (فَإِنْ كانُوا) في هذا الضمير ثلاثة أوجه :

أحدها : أنه عائد على معنى «من» المقدرة ، تقديره : «فإن كان من يرث إخوة» ؛ كما تقدّم تقريره عن الزمخشريّ وغيره.

الثاني : أنه يعود على الإخوة ، ويكون قد أفاد الخبر بالتفصيل ؛ فإنّ الإخوة يشمل الذّكور والإناث ، وإن كان ظاهرا في الذكور خاصّة ، فقد أفاد الخبر ما لم يفده الاسم ، وإن عاد على الوارث ، فقد أفاد ما لم يفده الاسم إفادة واضحة ، وهذا هو الوجه الثالث ، وقوله : «فللذّكر» ، أي : منهم ، فحذف لدلالة المعنى عليه.

فصل

هذه الآية دالّة على أنّ الأخت المذكورة ليست هي الأخت للأمّ.

روي أن الصّديق ـ رضي الله عنه ـ قال في خطبته : ألا إنّ الآية الّتي أنزلها الله ـ تعالى ـ في سورة النّساء في الفرائض ؛ فأولها : في الولد والوالد ، وثانيها : في الزّوج والزّوجة والإخوة من الأمّ ، والآية التي ختم بها السّورة في الإخوة والأخوات ، والآية التي ختم بها في سورة الأنفال أنزلها في أولي الأرحام (١).

قوله ـ تعالى ـ : (يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا) فيه ثلاثة أوجه :

أظهرها : أن مفعول البيان محذوف ، و (أَنْ تَضِلُّوا) مفعول من أجله ؛ على حذف مضاف ، تقديره : يبيّن الله أمر الكلالة كراهة أن تضلّوا فيها ، أي : في حكمها ، وهذا تقدير المبرّد.

والثاني ـ قول الكسائي والفراء (٢) وغيرهما من الكوفيين ـ : أنّ «لا» محذوفة بعد «أن» ، والتقدير : لئلّا تضلّوا ، قالوا : وحذف «لا» شائع ذائع ؛ كقوله : [الوافر]

١٩١٢ ـ رأينا ما رأى البصراء فيها

فآلينا عليها أن تباعا (٣)

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٩ / ٤٣١) والبيهقي (٦ / ٣١) وعبد بن حيمد كما في «الدر المنثور» (٢ / ٤٤٥) عن قتادة قال ذكر لنا أن أبا بكر الصديق قال في خطبته ... فذكره.

(٢) ينظر : معاني القرآن ١ / ٢٩٧.

(٣) البيت للقطامي. ينظر ديوانه (٤٣) والبحر المحيط ٣ / ٤٢٤ والدر المصون ٢ / ٤٧٥ والطبري ٩ / ٤٤٦.

١٥٧

أي : ألّا تباع ، وقال أبو إسحاق الزّجاج (١) : «هو مثل قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا) [فاطر : ٤١] أي : لئلا تزولا ، وقال أبو عبيد : «رويت للكسائيّ حديث ابن عمر وهو : «لا يدعونّ أحدكم على ولده أن وافق من الله إجابة» (٢) فاستحسنه ، أي : لئلّا يوافق.

قال النّحّاس (٣) : المعنى عند أبي عبيد : لئلا يوافق من الله إجابة ، وهذا القول عند البصريّين خطأ ؛ لأنهم لا يجيزون إضمار «لا» ، والمعنى عندهم : يبيّن الله لكم كراهة أن تضلّوا ، ثم حذف ؛ كما قال : [(وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ)](٤) [يوسف : ٨٢] ، وكذا معنى الحديث ، أي كراهة أن يوافق من الله إجابة.

ورجّح الفارسيّ قول المبرّد ؛ بأنّ حذف المضاف أشيع من حذف «لا» النافية.

الثالث : أنه مفعول «يبيّن» ، والمعنى : يبيّن الله لكم الضلالة ، فتجتنبونها ؛ لأنه إذا بيّن الشر اجتنب ، وإذا بيّن الخير ارتكب.

فصل

اعلم أن في هذه السّورة [الشّريفة](٥) لطيفة عجيبة ، وهي أن أوّلها مشتمل على بيان كمال قدرة الله ـ تعالى ـ ؛ لقوله : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) [النساء : ١] وهذا دالّ على سعة القدرة ، وآخرها مشتمل على بيان كمال العلم ، وهو قوله تعالى : (وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) وهذان الوصفان ؛ أعني : العلم والقدرة بهما تثبت الرّبوبيّة والإلهيّة والجلال والعزّة ، وبهما يجب على العبد أن يكون مطيعا للأوامر والنّواهي ، منقادا للتّكاليف.

روي عن البراء [بن عازب](٦) قال : آخر سورة [نزلت](٧) كاملة (بَراءَةٌ مِنَ اللهِ) [التوبة : ١] وآخر آية نزلت ، آخر (٨) سورة النّساء : (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ).

وروي [عن](٩) ابن عباس ؛ [أنّ](١٠) آخر آية نزلت آية الرّبا ، وآخر سورة نزلت : (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ)(١١).

وروي بعد ما نزلت سورة «النصر» عاش رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعدها ستّة أشهر ، ثم نزلت

__________________

(١) ينظر : معاني القرآن ٢ / ١٤٩.

(٢) أخرجه أبو يعلى في «مسنده» كما في المطالب العالية (٣ / ٢٣٧) رقم (٣٣٦٦).

(٣) ينظر : تفسير القرطبي ٦ / ٢١.

(٤) سقط في أ.

(٥) سقط في ب.

(٦) سقط في ب.

(٧) سقط في أ.

(٨) في ب : خاتمة.

(٩) سقط في أ.

(١٠) سقط في أ.

(١١) تقدم في آية الربا من البقرة.

١٥٨

في طريق حجّة الوداع : (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ) فسمّيت آية الصّيف ، لأنها نزلت في الصّيف ، ثم نزلت وهو واقف بعرفات : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً)](١) [المائدة : ٣] ، فعاش بعدها إحدى وعشرين يوما.

عن أبيّ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ النّساء فكأنّما تصدّق على كلّ من ورث ميراثا ، وأعطي من الأجر كمن اشترى محرّرا ، وبرىء من الشّرك ، وكان في مشيئة الله ـ تعالى ـ من الّذين يتجاوز عنهم» (٢).

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) ذكره الزمخشري في «تفسيره» (١ / ٣٠٠).

١٥٩

سورة المائدة

مدنية كلها إلا قوله تعالى : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) [الآية : ٣] فإنها نزلت ب «عرفات».

قال القرطبي : (١) روي أنها نزلت منصرف الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم من «الحديبية».

وذكر النقاش عن أبي سلمة أنه قال : لما رجع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من «الحديبية» قال : يا علي ، أشعرت أنه نزلت علي سورة المائدة ، ونعمت الفائدة (٢).

قال ابن العربي : هذا حديث موضوع [لا يحل لمسلم اعتقاده](٣) أما إنا نقول : سورة المائدة ، ونعمت الفائدة ، فلا نؤثره عن أحد ، ولكنه كلام حسن.

وقال ابن عطية : وهذا عندي لا يشبه كلام النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وروي عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم [أنه](٤) قال : «سورة المائدة تدعى في ملكوت الله المنقذة ، تنقذ صاحبها من أيدي ملائكة العذاب» (٥).

ومن هذه السورة ما نزل في حجة الوداع ، ومنها ما أنزل عام الفتح ، وهو قوله : (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ) [الآية : ٢] ، وكل ما أنزل من القرآن بعد الهجرة فهو مدني ، سواء نزل ب «المدينة» أو في سفر.

والمكّي [هو] ما نزل قبل الهجرة ، وهي مائة وعشرون آية وألفان وثمانمائة وأربع كلمات ، وإحدى عشر ألف وتسعمائة وثلاثون حرفا.

روي عن أبي ميسرة ، قال : المائدة آخر ما نزل ، ليس فيها منسوخ (٦).

قال أبو ميسرة : أنزل الله تعالى في هذه السورة ثمانية عشر حكما ، لم ينزلها في غيرها ، [وهي](٧) قوله سبحانه : (وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ) ،

__________________

(١) ينظر : القرطبي ٦ / ٢٢.

(٢) ذكره القرطبي في «تفسيره» (٦ / ٢٢).

(٣) في أ : لا عن المسلم اعتقادي.

(٤) سقط في أ.

(٥) ذكره أيضا القرطبي في «تفسيره» (٦ / ٢٢).

(٦) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٤٤٧) عن ابن ميسرة عمرو بن شرحبيل وعزاه لأبي داود والنحاس كلاهما في «الناسخ والمنسوخ». وينظر القرطبي ٦ / ٢٢.

(٧) سقط في أ.

١٦٠