اللّباب في علوم الكتاب - ج ٧

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ٧

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٦٤٠

قوله : «كثيرا» فيه ثلاثة أوجه :

أظهرها : أنه مفعول به ، أي : بصدّهم ناسا ، أو فريقا ، أو جمعا كثيرا ، وقيل : نصبه على المصدرية ، أي : صدّا كثيرا ، وقيل : على ظرفية الزمان ، أي : زمانا كثيرا ، والأوّل أولى ؛ لأنّ المصادر بعدها ناصبة لمفاعيلها ، فيجري الباب على سنن واحد ، وإنما أعيدت الباء في قوله : «وبصدّهم» ولم تعد في قوله : «وأخذهم» وما بعده ؛ لأنه قد فصل بين المعطوف والمعطوف عليه بما ليس معمولا للمعطوف عليه ، بل بالعامل فيه وهو «حرّمنا» وما تعلّق به ، فلمّا بعد المعطوف من المعطوف عليه بالفصل بما ليس معمولا للمعطوف عليه ، أعيدت الباء لذلك ، وأمّا ما بعده ، فلم يفصل فيه إلا بما هو معمول للمعطوف عليه وهو «الرّبا». (وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ) في التوراة.

والجملة من قوله تعالى : (وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ) : في محلّ نصب ؛ لأنها حالية ، ونظير ذلك في إعادة الحرف وعدم إعادته ما تقدّم في قوله : (فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ) [الآية ١٥٥] الآية. و «بالباطل» يجوز أن يتعلق ب «أكلهم» على أنها سببية أو بمحذوف على أنها حال من «هم» في «أكلهم» ، أي : ملتبسين بالباطل.

وأمّا التّشديد في الآخرة ، وهو قوله : (وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً) لما وصف طريقة الكفّار والجهّال من اليهود ، وصف طريقة المؤمنين المحقّين منهم ، فقال : (لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) جيء هنا ب «لكن» لأنها بين نقيضين ، وهما الكفار والمؤمنون ، و «الرّاسخون» مبتدأ ، وفي الخبر احتمالان :

أظهرهما : أنه «يؤمنون».

والثاني : أنه الجملة من قوله : (أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ) ، و (فِي الْعِلْمِ) متعلق ب «الرّاسخون».

و «منهم» متعلّق بمحذوف ؛ لأنه حال من الضمير المستكنّ في «الرّاسخون».

فصل

معنى الكلام : ليس أهل الكتاب كلّهم بهذه الصّفة ، لكن الرّاسخون المبالغون في العلم منهم أولو البصائر ، وأراد به : الذين أسلموا ؛ كعبد الله بن سلام وأصحابه.

قوله تعالى : (وَالْمُؤْمِنُونَ) عطف على «الرّاسخون» ، وفي خبره الوجهان المذكوران في خبر «الرّاسخون» ولكن إذا جعلنا الخبر (أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ) ، فيكون يؤمنون ما محلّه؟ والذي يظهر أنه جملة اعتراض ؛ لأنّ فيه تأكيدا وتسديدا للكلام ، ويكون الضّمير في «يؤمنون» يعود على «الرّاسخون» و «المؤمنون» جميعا ، ويجوز أن تكون حالا منهما ؛ وحينئذ لا يقال : إنها حال مؤكّدة لتقدّم عامل مشارك لها لفظا ؛ لأنّ الإيمان فيها مقيّد ، والإيمان الأول مطلق ، فصار فيها فائدة ، لم تكن في عاملها ، وقد يقال : إنها مؤكّدة بالنسبة لقوله : «يؤمنون» ، وغير مؤكّدة بالنسبة لقوله : «الرّاسخون» ، والمراد ب «المؤمنون» المهاجرون والأنصار.

١٢١

قوله سبحانه : (وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ) قرأ الجمهور بالياء ، وقرأ جماعة كثيرة (١) : «والمقيمون» بالواو ؛ منهم ابن جبير وأبو عمرو بن العلاء في رواية يونس وهارون عنه ، ومالك بن دينار وعصمة عن الأعمش ، وعمرو بن عبيد ، والجحدري وعيسى بن عمر وخلائق. فأما قراءة الياء ، فقد اضطربت فيها أقوال النحاة ، وفيها ستة أقوال :

أظهرها ـ وعزاه مكيّ (٢) لسيبويه (٣) ، وأبو البقاء (٤) ، للبصريين ـ : أنه منصوب على القطع ، يعني المفيد للمدح ؛ كما في قطع النعوت ، وهذا القطع مفيد لبيان فضل الصلاة ، فكثر الكلام في الوصف بأن جعل في جملة أخرى ، وكذلك القطع في قوله (وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ) على ما سيأتي هو لبيان فضلها أيضا ، لكن على هذا الوجه يجب أن يكون الخبر قوله : «يؤمنون» ، ولا يجوز قوله (أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ) ، لأن القطع إنما يكون بعد تمام الكلام ، قال مكي (٥) : «ومن جعل نصب «المقيمين» على المدح جعل خبر «الرّاسخين» : «يؤمنون» ، فإن جعل الخبر (أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ) لم يجز نصب «المقيمين» على المدح ، لأنه لا يكون إلا بعد تمام الكلام». وقال أبو حيان (٦) : «ومن جعل الخبر : أولئك سنؤتيهم فقوله ضعيف» قال شهاب الدين (٧) : وهذا غير لازم ؛ لأن هذا القائل لا يجعل نصب «المقيمين» حينئذ منصوبا على القطع ، لكنه ضعيف بالنسبة إلى أنه ارتكب وجها ضعيفا في تخريج «المقيمين» كما سيأتي. وحكى ابن عطية (٨) عن قوم منع نصبه على القطع من أجل حرف العطف ، والقطع لا يكون في العطف ، إنما ذلك في النعوت ، ولما استدلّ الناس بقول الخرنق : [الكامل]

١٩٠١ ـ لا يبعدن قومي الذين هم

سمّ العداة وآفة الجزر

النّازلين بكلّ معترك

والطّيّبون معاقد الأزر (٩)

__________________

(١) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ١٣٥ ، والبحر المحيط ٣ / ٤١١ ، والدر المصون ٢ / ٤٦١.

(٢) ينظر : المشكل ١ / ٢١٢.

(٣) ينظر : الكتاب ١ / ٢٤٨ ، ٢٤٩.

(٤) ينظر : الإملاء ١ / ٢٠٢.

(٥) ينظر : المشكل ١ / ٢١٢.

(٦) ينظر : البحر المحيط ٣ / ٤١١.

(٧) ينظر : الدر المصون ٢ / ٤٦١.

(٨) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ١٣٥.

(٩) ينظر البيتان في ديوانها ص (٢٩) وشرح أبيات سيبويه ٢ / ١٦ وخزانة الأدب ٥ / ٤١ ، ٤٢ ، ٤٤ والأشباه والنظائر ٦ / ٢٣١ وأمالي المرتضى ١ / ٢٠٥ ، والجمل ص ٨٢ ، والإنصاف ٢ / ٤٦٨ وأوضح المسالك ٣ / ٣١٤ والحماسة البصرية ١ / ٢٢٧ وشرح التصريح ٢ / ١١٦ والكتاب ١ / ٢٠٢ ، ٢ / ٥٧ ، ٥٨ ، والهمع ٢ / ١١٩ ، والمحتسب ٢ / ١٩٨ والمقاصد النحوية ٣ / ٦٠٢ ، وابن الشجري ١ / ٣٤٤ ، ورصف المباني ص ٤١٦ وشرح الأشموني ٢ / ٣٩٩ ، والعيني ٣ / ٦٠٢ والدر المصون ٢ / ٤٦٢ ، والمحرر الوجيز ٢ / ١٣٥.

١٢٢

على جواز القطع ، فرّق هذا القائل بأنّ البيت لا عطف فيه ؛ لأنها قطعت «النّازلين» فنصبته ، و «الطّيّبون» فرفعته عن قولها «قومي» ، وهذا الفرق لا أثر له ؛ لأنه في غير هذا البيت ثبت القطع مع حرف العطف ، أنشد سيبويه : [المتقارب]

١٩٠٢ ـ ويأوي إلى نسوة عطّل

وشعثا مراضيع مثل السّعالي (١)

فنصب «شعثا» وهو معطوف.

الثاني : أن يكون معطوفا على الضمير في «منهم» ، أي : لكن الراسخون في العلم منهم ، ومن المقيمين الصلاة.

الثالث : أن يكون معطوفا على الكاف في «إليك» ، أي : يؤمنون بما أنزل إليك ، وإلى المقيمين الصّلاة ، وهم الأنبياء.

الرابع : أن يكون معطوفا على «ما» في «بما أنزل» ، أي : يؤمنون بما أنزل إلى محمّدصلى‌الله‌عليه‌وسلم وبالمقيمين ، ويعزى هذا للكسائيّ ، واختلفت عبارة هؤلاء في «المقيمين» ، فقيل : هم الملائكة ، قال (٢) مكي : ويؤمنون بالملائكة الذين صفتهم إقامة الصلاة ؛ كقوله : (يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ) [الأنبياء : ٢٠] ، وقيل : هم الأنبياء ، وقيل : هم المسلمون ، ويكون على حذف مضاف ، أي : وبدين المقيمين.

الخامس : أن يكون معطوفا على الكاف في «قبلك» أي : ومن قبل المقيمين ، ويعني بهم الأنبياء أيضا.

السادس : أن يكون معطوفا على نفس الظّرف ، ويكون على حذف مضاف ، أي : ومن قبل المقيمين ، فحذف المضاف ، وأقيم المضاف إليه مقامه ، فهذا نهاية القول في تخريج هذه القراءة.

وقد زعم قوم أنها لحن ، ونقلوا عن عائشة وأبان بن عثمان أنها خطأ من جهة غلط كاتب المصحف.

قالوا : وحكي عن عائشة وأبان بن عثمان ؛ أنه من غلط الكاتب ، وهذا يعني أن يكتب: «والمقيمون الصلاة» ، وكذلك في سورة «المائدة» : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ) [المائدة : ٦٩] ، وقوله : (إِنْ هذانِ لَساحِرانِ) [طه : ٦٣] ، قالوا : هذا خطأ من الكاتب.

وقال عثمان : «إن في المصحف لحنا ستقيمه العرب بألسنتها» (٣) فقيل له : إلا

__________________

(١) تقدم.

(٢) ينظر : المشكل ١ / ٢١٢.

(٣) لقد كفانا العلامة الزرقاني في مناهله مؤنة الرد على هؤلاء الخونة ، حيث أورد شبهاتهم التي أثاروها حول هذه القضية ثم شرع يفندها ؛ وإليك تفصيل ردوده.

يقولون : روي عن عثمان أنه حين عرض عليه المصحف قال : «أحسنتم وأجملتم ، إن في القرآن لحنا ستقيمه العرب بألسنتها». ـ

١٢٣

تغيّره ، فقال : دعوه ؛ فإنّه لا يحلّ حراما ، ولا يحرّم حلالا.

__________________

ـ ويقولون : روي عن عكرمة أنه قال : «لما كتبت المصاحف عرضت على عثمان ، فوجد فيها حروفا من اللحن ، فقال : لا تغيّروها فإن العرب ستغيرها ، أو قال : ستعربها بألسنتها ، لو كان الكاتب من ثقيف والمملي من هذيل لم توجد فيه هذه الحروف».

قال الشيخ الزرقاني : أورد أعداء الإسلام هاتين الروايتين ، وقالوا : إنهما طعنان صريحان في رسم المصحف ، فكيف يكون مصحف عثمان وجمعه للقرآن ، موضع ثقة ، وإجماع من الصحابة؟ وكيف يكون توقيفا؟ وهذا عثمان نفسه يقول بملء فيه : «إن فيه لحنا».

ونجيب على هذه الشبهة أولا : بأن ما جاء في هاتين الروايتين ضعيف الإسناد ، وأن فيهما اضطرابا وانقطاعا. قال العلامة الألوسي في تفسيره : «إن ذلك لم يصح عن عثمان أصلا» ا ه ولعلك تلمح معي دليل سقوط هاتين الروايتين ماثلا فيهما من جراء هذا التناقض الظاهر بين وصفهما نسّاخ المصحف بأنهم أحسنوا وأجملوا ، ووصفهما المصحف الذي نسخوه بأن فيه لحنا ، وهل يقال للذين لحنوا في المصحف : أحسنتم وأجملتم؟

اللهم إلا إذا كان المراد معنى آخر.

ثانيا : أن المعروف عن عثمان في دقته ، وكمال ضبطه ، وتحرّيه ـ يجعل صدور أمثال هاتين الروايتين من المستحيل عليه ، انظر إلى ما سبق من دستوره في جمع القرآن. ثم انظر إلى ما أخرجه أبو عبيد عن عبد الرحمن بن هانىء مولى عثمان قال : كنت عند عثمان ، وهم يعرضون المصاحف ، فأرسلني بكتف شاة إلى أبيّ بن كعب فيه ا «لم يتسن» ، وفيه ا «لا تبديل للخلق» وفيه ا «فأمهل الكافرين» فدعا بدواة فمحا أحد اللامين ، وكتب (لِخَلْقِ اللهِ) ، ومحا «فأمهل» وكتب «فمهل» وكتب (لَمْ يَتَسَنَّهْ) فألحق فيها الهاء.

قال ابن الأنباري : فكيف يدعى عليه أنه رأى فسادا فأمضاه؟ وهو يوقف على ما يكتب ، ويرفع الخلاف الواقع من الناسخين فيه ، فيحكم بالحق ويلزمهم إثبات الصواب وتخليده ا ه.

ثالثا : على فرض صحة ما ذكر يمكن أن نؤوله بما يتفق والصحيح المتواتر عن عثمان في نسخ المصاحف وجمع القرآن ، ومن نهاية التثبت والدقة والضبط.

وذلك بأن يراد بكلمة «لحنا» في الروايتين المذكورتين قراءة ولغة ، والمعنى : أن في القرآن ورسم مصحفه وجها في القراءة لا تلين به ألسنة العرب جميعا ، ولكنها لا تلبث أن تلين به ألسنتهم جميعا بالمران ، وكثرة تلاوة القرآن بهذا الوجه ، وقد ضرب بعض أجلاء العلماء لذلك مثلا كلمة (الصراط) بالصاد المبدلة من السين فتقرأ العرب بالصاد عملا بالرسم.

وهناك شبهة ثانية :

يقولون : روي عن سعيد بن جبير أنه كان يقرأ (وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ) ويقول «هو من لحن الكتّاب».

والجواب : أن ابن جبير لا يريد بكلمة «لحن» الخطأ إنما يريد بها اللغة ، والوجه في القراءة على حد قوله تعالى : (وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ) والدليل على هذا التوجيه : أن سعيد بن جبير نفسه كان يقرأ :

«وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ» ، فلو كان يريد باللحن الخطأ ما رضي لنفسه هذه القراءة. وكيف يرضى ما يعتقد أنه خطأ؟.

وهذه الكلمة في آية من سورة النساء ونصها : (لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ ، وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ ، وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ ، وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ، أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً) فكلمة (وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ) قرأها الجمهور بالياء منصوبا كما ترى. وقرأها جماعة بالواو ، منهم أبو عمرو في رواية يونس وهارون عنه. ولكل من القراءتين وجه صحيح فصيح ـ

١٢٤

وقالوا : وأيضا فهي في مصحف ابن مسعود بالواو فقط نقله الفراء ، وفي مصحف

__________________

ـ في اللغة العربية ، فالنصب مخرّج على المدح ، والتقدير «وأمدح المقيمين الصلاة». والرفع مخرّج على العطف ، والمعطوف عليه مرفوع كما ترى.

يقولون : ألا يكفي في الطعن على جمع القرآن ورسمه ما روي عن ابن عباس في قوله تعالى : (حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا) أنه قال : إن الكاتب أخطأ والصواب : «حتى تستأذنوا».

ونجيب (أولا) بما أجاب به أبو حيان إذ يقول ما نصه : إن من روى عن ابن عباس أنه قال ذلك. فهو طاعن في الإسلام ملحد في الدين ، وابن عباس بريء من ذلك القول ا ه.

(ثانيا) : بما أخرجه ابن أبي حاتم وابن الأنباري في المصاحف وابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس أنه فسّر «تستأنسوا» فقال : أي تستأذنوا من يملك الإذن من أصحابها يعني أصحاب البيوت.

(ثالثا) أن القراء لم يرووا غير قراءة «تستأنسوا» فلو كان ذاك النقل صحيحا عن ابن عباس لنقلوا عنه أنه قرأ «تستأذنوا».

(رابعا) إذا سلمنا للحاكم أن هذا الخبر صحيح عن ابن عباس ، فإننا نرده برغم دعوى هذه الصحة ، لأنه معارض للقاطع المتواتر وهو قراءة «تستأنسوا». والقاعدة أن معارض القاطع ساقط ، وأن الرواية متى خالفت رسم المصحف فهي شاذّة لا يلتفت إليها ولا يعوّل عليها.

يقولون : ألا يكفي في الطعن على جمع القرآن ورسمه ، ما روي عن ابن عباس أيضا أنه قرأ : «أفلم يتبين الذين آمنوا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا». فقيل له : إنها في المصحف (أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا) فقال : أظن الكاتب كتبها وهو ناعس.

ونجيب : بأنه لم يصح ذلك عن ابن عباس. قال أبو حيان : بل هو قول ملحد زنديق. وقال الزمخشري : ونحن ممن لا يصدق هذا في كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.

وكيف يخفى هذا حتى يبقى ثابتا بين دفتي الإمام (أي المصحف الإمام) وهو مصحف عثمان ، وكان متقلبا بين أيدي أولئك الأعلام ، المحتاطين لدين الله المهيمنين عليه ، لا يغفلون عن جلائله ودقائقه ، خصوصا عن القانون الذي إليه المرجع ، والقاعدة التي أقيم عليها البناء؟ هذا والله فرية ، ما فيها مرية ا ه. وقال الفراء : لا يتلى إلا كما أنزل : (أَفَلَمْ يَيْأَسِ) ا ه. وعلى ذلك تكون رواية ذلك في الدر المنثور وغيره عن ابن عباس رواية غير صحيحة. ومعنى (أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا) : أفلم يعلموا. قال القاسم بن معن : هي لغة هوازن. وجاء بها الشعر العربي في قول القائل :

«أقول لهم بالشّعب إذ يأسرونني

ألم تيأسوا أنّي ابن فارس زهدم»

أي ألم تعملوا.

يقولون : من وجوه الطعن أيضا ما روي عن ابن عباس أنه كان يقول في قوله تعالى : (وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) إنما ه ي «ووصى ربك» التزقت الواو بالصاد. وكان يقرأ : ووصى ربك ، ويقول : أمر ربّك ، إنهما واوان التصقت إحداهما بالصاد. وروي عنه أنه قال : أنزل الله هذا الحرف على لسان نبيكم : ووصى ربك ألّا تعبدوا إلّا إيّاه. فلصقت إحدى الواوين بالصاد ، فقرأ الناس : «وقضى ربّك» ولو نزلت على القضاء ما أشرك أحد.

ونجيب عن ذلك كله (أولا) بما أجاب به ابن الأنباري إذ يقول : «إن هذه الروايات ضعيفة».

(ثانيا) : أن هذه الروايات معارضة للمتواتر القاطع ؛ وهو قراءة «وقضى» ومعارض القاطع ساقط. ـ

١٢٥

__________________

ـ (ثالثا) : أن ابن عباس نفسه ، قد استفاض عنه أنه قرأ : «وقضى» وذلك دليل على أن ما نسب إليه من تلك الروايات من الدسائس الرخيصة التي لفّقها أعداء الإسلام. قال أبو حيان في البحر : والمتواتر هو «وقضى». وهو المستفيض عن ابن عباس والحسن وقتادة ، بمعنى أمر. وقال ابن مسعود وأصحابه بمعنى «وصّى» ا ه إذن رواية «وقضى» هي التي انعقد الإجماع عليها من ابن عباس ، وابن مسعود ، وغيرهما. فلا يتعلق بأذيال مثل هذه الرواية الساقطة إلا ملحد ، ولا يرفع عقيرته بها إلا عدوّ من أعداء الإسلام.

الشبهة السادسة :

يقولون : إن ابن عباس روي عنه أيضا أنه كان يقرأ : «ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان ضياء» ويقول : خذوا هذه الواو ، واجعلوها في (الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ : إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ) وروي عنه أيضا أنه قال : انزعوا هذه الواو ، واجعلوها في (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ).

ونجيب (أولا) بأن هذه الروايات ضعيفة ؛ لم يصح شيء منها عن ابن عباس.

(ثانيا) أنها معارضة للقراءة المتواترة المجمع عليها ، فهي ساقطة.

(ثالثا) أن بلاغة القرآن قاضية بوجود الواو لا بحذفها ، لأن ابن عباس نفسه فسر الفرقان في الآية المذكورة بالنصر ، وعليه يكون الضياء بمعنى التوراة أو الشريعة ، فالمقام للواو لأجل هذا التغاير.

الشبهة السابعة :

يقولون : روي عن ابن عباس في قوله تعالى : (مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ) أنه قال : هي خطأ من الكاتب. وهو أعظم من أن يكون نوره مثل نور المشكاة. إنما هي : «مثل نور المؤمن كمشكاة».

ونجيب (أولا) بأنها رواية معارضة للقاطع المتواتر ، فهي ساقطة.

(ثانيا) أنه لم ينقل عن أحد من القراء أن ابن عباس قرأ : مثل نور المؤمن ، فكيف يقرأ رضي الله عنه بما يعتقد أنه خطأ ، ويترك ما يعتقد أنه صواب؟ ألا إنها كذبة مفضوحة! ولو أنهم نسبوها لأبيّ بن كعب ، لكان الأمر أهون ، لأنه روي في الشواذ أن ابن كعب قرأ : مثل نور المؤمن. والذي ينبغي أن تحمل عليه هذه الروايات أن أبيا رضي الله عنه أراد تفسير الضمير في القراءة المعروفة المتواترة وهي مثل نوره. فهي روايات عنه في التفسير لا في القراءة ، بدليل أنه كان يقرأ : (مَثَلُ نُورِهِ).

دفع عام عن ابن عباس :

كل ما روي عن ابن عباس في تلك الشبهات ، يمكن دفعه دفعا عاما بأن ابن عباس قد أخذ القرآن عن زيد بن ثابت وأبيّ بن كعب ، وهما كانا في جمع المصاحف. وزيد بن ثابت كان في جمع أبي بكر أيضا. وكان كاتب الوحي ، وكان يكتب ما يكتب بأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإقراره. وابن عباس كان يعرف ذلك ويوقن به ، فمحال إذن أن ينطق لسانه بكلمة تحمل رائحة اعتراض على جمع القرآن ورسم القرآن! وإلا فكيف يأخذ عن زيد وابن كعب ثم يعترض على جمعهما ورسمهما؟.

الشبهة الثامنة :

يقولون : روي عن هشام بن عروة عن أبيه أنه قال : سألت عائشة عن لحن القرآن ، عن قوله تعالى : إِنْ هذانِ لَساحِرانِ وعن قوله تعالى : (وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ) وعن قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ). فقالت : يا بن أخي هذا من عمل الكتّاب ، قد أخطأوا في الكتاب. قال السيوطي في هذا الخبر : إسناده صحيح على شرط الشيخين. ويقولون أيضا : روي عن أبي خلف مولى بني جمح أنه دخل مع عبيد بن عمير على عائشة فقال : جئت أسألك عن آية في كتاب الله ، كيف كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقرؤها؟ قالت : أيّة آية؟ قال : (الَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا) أوالذين يأتون ما أتوا. قالت : أيهما أحبّ إليك؟ قلت والذي نفسي بيده لإحداهما أحبّ إليّ من الدّنيا جميعا. قالت : ـ

١٢٦

__________________

ـ أيّهما؟ قلت : الذين يأتون ما أتوا. فقالت : أشهد أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كذلك كان يقرؤها ، وكذلك أنزلت ، ولكن الهجاء حرف.

ونجيب (أولا) بأن هذه الروايات مهما يكن سندها صحيحا ، فإنها مخالفة للمتواتر القاطع ، ومعارض القاطع ساقط مردود ، فلا يلتفت إليها ، ولا يعمل بها.

(ثانيا) أنه قد نص في كتاب إتحاف فضلاء البشر ، على أن لفظ «هذان» قد رسم في المصحف من غير ألف ولا ياء ، ليحتمل وجوه القراءات الأربع فيها ، كما شرحنا ذلك سابقا في فوائد رسم المصحف.

وإذن فلا يعقل أن يقال أخطأ الكاتب ، فإن الكاتب لم يكتب ألفا ولا ياء. ولو كان هناك خطأ تعتقده عائشة ما كانت تنسبه للكاتب ، بل كانت تنسبه لمن يقرأ بتشديد (إن) وبالألف لفظا في (هذان). ولم ينقل عن عائشة ولا عن غيرها تخطئة من قرأ بما ذكر ، وكيف تنكر هذه القراءة وهي متواترة مجمع عليها؟ بل هي قراءة الأكثر ، ولها وجه فصيح في العربية لا يخفى على مثل عائشة. ذلك هو إلزام المثنى الألف في جميع حالاته. وجاء منه قول الشاعر العربي :

«واها لسلمى ثم واها واها

يا ليت عيناها لنا وفاها

وموضع الخلخال من رجلاها

بثمن يرضى به أباها

إنّ أباها وأبا أباها

قد بلغا في المجد غايتاها»

فبعيد عن عائشة أن تنكر تلك القراءة ، ولو جاء بها وحدها رسم المصحف.

(ثالثا) أن ما نسب إلى عائشة رضي الله عنها من تخطئة رسم المصحف في قوله تعالى : (وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ) بالياء ، مردود بما ذكره أبو حيان في البحر إذ يقول ما نصه : «وذكر عن عائشة رضي الله عنها وعن أبان بن عثمان أن كتبها بالياء من خطأ كاتب المصحف. ولا يصح ذلك عنهما ، لأنهما عربيان فصيحان ، وقطع النعوت أشهر في لسان العرب. وهو باب واسع ذكر عليه شواهد سيبويه وغيره. وقال الزمخشري : «لا يلتفت إلى ما زعموا من وقوعه خطأ في خط المصحف. وربما التفت إليه من لم ينظر في الكتاب «يريد كتاب سيبويه» ولم يعرف مذاهب العرب وما لهم في النصب على الاختصاص من الافتنان ، وخفي عليه أن السابقين الأولين الذين مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل ، كانوا أبعد همة في الغيرة على الإسلام ، وذبّ المطاعن عنه ، من أن يتركوا في كتاب الله ثلمة يسدوها من بعدهم ، وخرقا يرفوه من يلحقهم».

(رابعا) : أن قراءة «والصابئون» بالواو ، لم ينقل عن عائشة أنها خطأت من يقرأ بها ، ولم ينقل أنها كانت تقرأ بالياء دون الواو. فلا يعقل أن تكون خطأت من كتب بالواو.

(خامسا) أن كلام عائشة في قوله تعالى : (يُؤْتُونَ ما آتَوْا) لا يفيد إنكار هذه القراءة المتواترة المجمع عليها. بل قالت للسائل : أيهما أحبّ إليك؟ ولا تحصر المسموع عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما قرأت هي به.

بل قالت : إنه مسموع ومنزل فقط. وهذا لا ينافي أن القراءة الأخرى مسموعة ومنزلة كتلك. خصوصا أنها متواترة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. أما قولها : ولكن الهجاء حرف ، فكلمة مأخوذة من الحرف بمعنى القراءة واللغة ، والمعنى أن هذه القراءة المتواترة التي رسم بها المصحف ، لغة ووجه من وجوه الأداء في القرآن الكريم. ولا يصح أن تكون كلمة حرف في حديث عائشة مأخوذة من التحريف الذي هو الخطأ ، وإلا كان حديثا معارضا للمتواتر ، ومعارض القاطع ساقط.

الشبهة التاسعة : يقولون : روي عن خارجة بن زيد بن ثابت أنه قال : قالوا لزيد يا أبا سعيد «أوهمت» إنما هي «ثمانية أزواج من الضأن اثنين اثنين ، ومن المعز اثنين اثنين ومن الإبل اثنين اثنين ، ومن البقر اثنين اثنين». فقال : لا. إن الله تعالى يقول : (فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى) فهما زوجان ، كل ـ

١٢٧

أبيّ كذلك وهي (١) قراءة مالك بن دينار والجحدري وعيسى الثقفيّ ، وهذا لا يصحّ عن عائشة ولا أبان ، وما أحسن قول الزمخشريّ رحمه‌الله : «ولا يلتفت إلى ما زعموا من وقوعه لحنا في خط المصحف ، وربما التفت إليه من لم ينظر في الكتاب ، ومن لم يعرف

__________________

ـ واحد منهما زوج. الذكر زوج ، والأنثى زوج ا ه. قال أعداء الإسلام : فهذه الرواية تدل على تصرّف نساخ المصحف واختيارهم ما شاءوا في كتابة القرآن ورسمه.

والجواب أن كلام زيد هذا لا يدل على ما زعموا. إنما يدل على أنه بيان لوجه ما كتبه وقرأه سماعا وأخذا عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا تصرّفا وتشهيا من تلقاء نفسه. وكيف يتصور هذا من الصحابة في القرآن وهم مضرب الأمثال في كمال ضبطهم وتثبتهم في الكتاب والسنة. لا سيما زيد بن ثابت ، وقد عرفت فيما سبق من هو زيد في حفظه. وأمانته ودينه وورعه؟ وعرفت دستوره الدقيق الحكيم في كتابة الصحف والمصاحف! «فأنى يؤفكون»؟.

يقولون : إن مروان هو الذي قرأ «ملك يوم الدين» من سورة الفاتحة بحذف الألف من لفظ «مالك». ويقولون : إنه حذفها من تلقاء نفسه دون أن يرد ذلك عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فضلا عن أن يتواتر عنه قراءة ولفظا ، أو يصح كتابة ورسما.

والجواب أن هذا كذب فاضح (أولا) لأنه ليس لهم عليه حجة ولا سند.

(ثانيا) أن الدليل قام ، والتواتر تمّ والإجماع انعقد ، على أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قرأ لفظ (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) بإثبات الألف وحذفها ، وأخذ أصحابه عنه ذلك. فممن قرأ بهما عليّ وابن مسعود وأبيّ بن كعب. وممن قرأ بالقصر أي حذف الألف أبو الدرداء وابن عباس وابن عمر. وممن قرأ بالمد أي إثبات الألف أبو بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم أجمعين. وهؤلاء كلهم كانوا قبل أن يكون مروان ، وقبل أن يولد مروان ، وقبل أن يقرأ مروان. وقصارى ما في الأمر أن مروان اتفق أن روايته كانت القصر فقط. وذلك لا يضرنا في شيء. كما اتفق أن رواية عمر بن عبد العزيز كانت المد فقط.

(ثالثا) أن كلمة «مالك» رسمت في المصحف العثماني بالألف هكذا «ملك» كما سبق.

خلاصة الدفاع :

والخلاصة أن تلك الشبهة وما ماثلها ، مدفوعة بالنصوص القاطعة ، والأدلة الناصعة ، على أن جميع القرآن الذي أنزله الله وأمر بإثباته ورسمه ولم ينسخه ناسخ في تلاوته ، هو هذا الذي حواه مصحف عثمان بين الدفتين ، لم ينقص منه شيء ، ولم يزد فيه شيء ، بل إن ترتيبه ونظمه كلاهما ثابت على ما نظمه الله سبحانه وتعالى ورتبه رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من آي وسور. لم يقدم من ذلك مؤخر ، ولم يؤخر منه مقدم. وقد ضبطت الأمة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ترتيب آي كل سورة ومواقعها ، كما ضبطت منه نفس القراءات وذات التلاوة. على ما سبق وما سيجيء في الكلام على القراءات إن شاء الله.

فليلاحظ دائما في الرد على أمثال تلك الشبهات أمران :

(أولهما) تلك القاعدة الذهبية التي وضعها العلماء : وهي أن خبر الآحاد إذا عارض القاطع سقط عن درجة الاعتبار ، وضرب به عرض الحائط ، مهما تكن درجة إسناده من الصحة.

(ثانيهما) خطّ الدفاع الذي أقمناه في المبحث الثامن حصنا حصينا دون النيل من الصحابة واتهامهم بسوء الحفظ أو عدم التثبت والتحري ، خصوصا في كتاب الله وسنة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. مناهل العرفان ١ / ٣٧٩ ـ ٣٩٠.

(١) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٢ / ١٣٥ ، البحر المحيط ٣ / ٤١١ ، والدر المصون ٢ / ٤٦١.

١٢٨

مذاهب العرب وما لهم في النصب على الاختصاص من الافتنان ، وغبي عليه أنّ السابقين الأولين الذين مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل ، كانوا أبعد همة في الغيرة عن الإسلام وذبّ المطاعن عنه من أن يقولوا ثلمة في كتاب الله ؛ ليسدّها من بعدهم ، وخرقا يرفوه من يلحق بهم». وأمّا قراءة الرفع ، فواضحة.

قوله تعالى : (وَالْمُؤْتُونَ) فيه سبعة أوجه أيضا :

أظهرها : أنه على إضمار مبتدأ ، ويكون من باب المدح المذكور في النصب وهذا أوّل الأوجه.

الثاني : أنه معطوف على «الرّاسخون» ، وفي هذا ضعف ؛ لأنه إذا قطع التابع عن متبوعه ، لم يجز أن يعود ما بعده إلى إعراب المتبوع ، فلا يقال : «مررت بزيد العاقل الفاضل» بنصب «العاقل» ، وجر «الفاضل» ، فكذلك هذا.

الثالث : أنه عطف على الضمير المستكنّ في «الرّاسخون» ، وجاز ذلك للفصل.

الرابع : أنه معطوف على الضمير في «المؤمنون».

الخامس : أنه معطوف على الضمير في «يؤمنون».

السادس : أنه معطوف على «المؤمنون».

السابع : أنه مبتدأ وخبره «أولئك سنؤتيهم» ، فيكون «أولئك» مبتدأ ، و «سنؤتيهم» خبره ، والجملة خبر الأوّل ، ويجوز في «أولئك» أن ينتصب بفعل محذوف يفسّره ما بعده ، فيكون من باب الاشتغال ، إلا أنّ هذا الوجه مرجوح من جهة أنّ «زيد ضربته» بالرفع أجود من نصبه ؛ لأنه لا يحوج إلى إضمار ؛ ولأنّ لنا خلافا في تقديم معمول الفعل المقترن بحرف التنفيس في نحو «سأضرب زيدا» منع بعضهم «زيدا سأضرب» ، وشرط الاشتغال جواز تسلّط العامل على ما قبله ، فالأولى أن نحمله على ما لا خلاف فيه ، وقرأ حمزة (١) : «سيؤتيهم» بالياء ؛ مراعاة للظاهر في قوله : (وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللهِ) ، والباقون بالنون على الالتفات تعظيما ، ولمناسبة قوله : «وأعتدنا» ،

فصل

والعلماء على ثلاثة أقسام :

[الأوّل] : علماء بأحكام الله فقط.

[الثاني] : علماء بذات الله وصفاته فقط.

[الثالث] : علماء بأحكام الله ، وبذات الله.

__________________

(١) ينظر : السبعة ٢٤٠ ، والحجة ٣ / ١٨٩ ، وحجة القراءات ٢١٩ ، والعنوان ٨٦ ، وشرح الطيبة ١ / ٢٢٣ ، وإتحاف ١ / ٢٢٥

١٢٩

والله [ـ تعالى ـ](١) وصف العلماء أوّلا : بكونهم راسخين في العلم ، ثم شرح ذلك مبيّنأ :

أولا : كونهم عالمين بأحكام الله ، وعاملين بها.

أما علمهم بأحكام الله ، فهو قوله [ـ تعالى ـ](٢) : (وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ).

وأما عملهم بها ، فهو قوله : (وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ) وخصّهما بالذّكر ؛ لكونهما أشرف الطّاعات البدنيّة والماليّة.

ولمّا شرح كونهم عالمين بالأحكام وعاملين بها ، شرح بعده كونهم عالمين بالله.

وأشرف المعارف العلم بالمبدأ ، والمعاد ؛ فالعلم بالمبدأ قوله ـ تعالى ـ : (وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللهِ) ، والعلم بالمعاد قوله : (وَالْيَوْمِ الْآخِرِ).

قوله تعالى : (إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ)(٣)(وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً* وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً* رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً)

لما حكى أن اليهود يسألون الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن ينزّل عليهم كتابا من السّماء ؛ وذكر ـ تعالى ـ بعده أنّهم لا يطلبون ذلك استرشادا ، ولكن عنادا ، وحكى أنواع فضائحهم وقبائحهم ، فلما وصل إلى هذا المقام ، شرع الآن في الجواب عن تلك الشّبهة ؛ فقال : (إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ). والمعنى : أنّا توافقنا على نبوّة نوح وإبراهيم وإسماعيل وجميع المذكورين ، على أنّ الله ـ تعالى ـ أوحى إليهم ، ولا طريق إلى العلم بكونهم أنبياء الله ورسله إلا المعجزات ، ولكلّ واحد منهم نوع من المعجزة معيّنة ، وأما أنزل الله على كلّ واحد من هؤلاء المذكورين [كتابا بتمامه ؛ مثل ما أنزل على موسى ، فلما لم يكن عدم إنزال الكتاب على هؤلاء](٤) دفعة واحدة قادحا في نبوّتهم ، بل كفى في ظهور نبوّتهم نوع واحد من أنواع المعجزات ، علمنا أن هذه الشّبهة زائلة ، وأن إصرار اليهود على طلب المعجزة باطل ؛ لأن إثبات المدلول يتوقّف على إثبات (٥) الدّليل ، فإذا حصل الدّليل وتمّ ، فالمطالبة بدليل آخر يكون تعنّتا ولجاجا.

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) سقط في ب.

(٣) سقط في أ.

(٤) سقط في ب.

(٥) في ب : ثبوت.

١٣٠

قوله سبحانه : (كَما أَوْحَيْنا) : الكاف نعت لمصدر محذوف ، أي : إيحاء مثل إيحائنا ، أو على أنه حال من ذلك المصدر المحذوف المقدّر معرّفا ، أي : أوحيناه ، أي : الإيحاء حال كونه مشبها لإيحائنا إلى من ذكر ، وهذا مذهب سيبويه (١) ، وقد تقدّم تحقيقه ، وفي «ما» وجهان : أن تكون مصدرية ؛ فلا تفتقر إلى عائد على الصحيح ، وأن تكون بمعنى «الذي» ، فيكون العائد محذوفا ، أي : كالذي أوحيناه إلى نوح ، و «من بعده» متعلق ب «أوحينا» ، ولا يجوز أن تكون «من» للتبيين ؛ لأنّ الحال خبر في المعنى ، ولا يخبر بظرف الزمان عن الجثّة إلا بتأويل ، وأجاز أبو البقاء (٢) أن يتعلّق بنفس «النّبيّين» ، يعني أنه في معنى الفعل ؛ كأنه قيل : «والذين تنبئوا من بعده» وهو معنى حسن.

فصل لماذا ذكر نوح ـ عليه‌السلام ـ أولا

قالوا : إنّما بدأ ـ تعالى ـ بذكر نوح ؛ لأنه كان أبا البشر مثل آدم ـ عليه‌السلام ـ ، قال : (وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ) [الصافات : ٧٧] ؛ ولأنّه أول نبيّ شرح الله على لسانه الأحكام ، وأوّل نذير على الشّرك ، وأوّل من عذّبت أمّته لردّهم دعوته ، وأهلك (٣) أهل الأرض بدعائه ، وكان أطول الأنبياء عمرا ، وجعلت معجزته في نفسه ، لأنّه عمر ألف سنة ، فلم تنقص له سنّ ، ولم تشب له شعرة ، ولم تنتقص له قوّة ، ولم يصبر أحد على أذى قومه مثل ما صبر هو على طول عمره.

فصل

قوله [ـ تعالى ـ](٤)(إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ) ثم خصّ بعض النّبيّين بالذّكر ؛ لكونهم أفضل من غيرهم ؛ كقوله : (وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ) [البقرة : ٩٨].

واعلم أنّه ذكر في هذه الآية اثنا عشر نبيّا ، ولم يذكر موسى معهم ؛ لأن اليهود قالوا : إن كنت يا محمّد نبيّا [حقّا](٥) ، فأتنا بكتاب من السّماء دفعة واحدة ؛ كما أتى موسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ بالتّوراة دفعة واحدة ؛ فأجاب الله عن هذه الشّبهة بأنّ هؤلاء الأنبياء الاثني عشر ، كانوا أنبياء ورسلا ، مع أنّ واحدا منهم لم يأت بكتاب مثل التّوراة دفعة واحدة.

__________________

(١) ينظر : الكتاب ١ / ١١٦.

(٢) ينظر : الإملاء ١ / ٢٠٣.

(٣) في ب : وهلك.

(٤) سقط في أ.

(٥) سقط في ب.

١٣١

وإذا كان المقصود من تعديده هؤلاء الأنبياء هذا المعنى ، لم يجز ذكر موسى معهم.

وفي «يونس» ستّ لغات (١) ؛ أفصحها : واو خالصة ، ونون مضمومة ، وهي لغة الحجاز ، وحكي كسر النون بعد الواو ، وبها قرأ نافع في رواية حبّان ، وحكي أيضا فتحها مع الواو ، وبها قرأ النّخعي ، وهي لغة لبعض عقيل ، وهاتان القراءتان جعلهما بعضهم منقولتين من الفعل المبنيّ للفاعل أو للمفعول ، جعل هذا الاسم مشتقا من الأنس ، وإنما أبدلت الهمزة واوا ؛ لسكونها وانضمام ما قبلها ؛ ويدلّ على ذلك مجيئه بالهمزة على الأصل في بعض اللغات ؛ كما سيأتي ، وفيه نظر ، لأن هذا الاسم أعجميّ ، وحكي تثليث النون مع همز الواو ؛ كأنهم قلبوا الواو همزة ؛ لانضمام ما قبلها ؛ نحو : [الوافر]

١٩٠٣ ـ أحبّ المؤقدين إليّ مؤسى

 ................(٢)

قال شهاب الدين (٣) : وقد تقدّم تقريره ، وحكي أنّ ضمّ النون مع الهمز لغة بعض بني أسد ، إلا أني لا أعلم أنه قرىء بشيء من لغات الهمز ، هذا إذا قلنا : إن هذا الاسم ليس منقولا من فعل مبنيّ للفاعل أو للمفعول حالة كسر النون أو فتحها ، أمّا إذا قلنا بذلك ، فالهمزة أصلية غير منقلبة من واو ؛ لأنه مشتق من الأنس ، وأمّا مع ضمّ النون ، فينبغي أن يقال بأن الهمزة بدل من الواو ؛ لانتفاء الفعلية مع ضم النون.

قوله تعالى : (زَبُوراً) قرأ الجمهور بفتح الزاي ، وحمزة (٤) بضمّها ، وفيه ثلاثة أوجه :

أحدها : أنه جمع «زبر» قال الزمخشريّ : جمع «زبر» ، وهو الكتاب ، ولم يذكر غيره ، يعني أنه في الأصل مصدر على فعل ، ثم جمع على فعول ، نحو : فلس وفلوس ، وقلس وقلوس ، وهذا القول سبقه إليه أبو علي الفارسيّ في أحد التخريجين عنه ، قال أبو عليّ : «ويحتمل أن يكون جمع زبر وقع على المزبور ، كما قالوا : ضرب الأمير ، ونسج اليمن فصار اسما ، ثم جمع على زبور كشهود وشهد ؛ كما سمّي المكتوب كتابا» ، يعني أبو عليّ ؛ أنه مصدر واقع موقع المفعول به ؛ كما مثّله.

والثاني : أنه جمع «زبور» في قراءة العامة ، ولكنه على حذف الزوائد ، يعني حذفت الواو منه ، فصار اللفظ : زبر ، وهذا التخريج الثاني لأبي عليّ ، قال أبو عليّ : «كما قالوا :

__________________

(١) ينظر هذه اللغات وما تبع ذلك من قراءات في : المحرر الوجيز ٢ / ١٣٦ والبحر المحيط ٣ / ٤١٣ ، والدر المصون ٢ / ٤٦٤.

(٢) تقدم.

(٣) ينظر : الدر المصون : ٢ / ٤٦٤.

(٤) ينظر : السبعة ٢٤٠ ، والحجة ٣ / ١٩٣ ، وحجة القراءات ٢١٩ ، وإعراب القراءات ١ / ١٤٠ ، والعنوان ٨٦ ، وشرح الطيبة ٤ / ٢٢٣ ، وشرح شعلة ٣٤٧ ، وإتحاف ١ / ٥٢٦.

١٣٢

ظريف وظروف ، وكروان وكروان ، وورشان وورشان على تقدير حذف الياء والألف» ، وهذا لا بأس به ؛ فإنّ التكسير والتصغير يجريان غالبا مجرى واحدا ، وقد رأيناهم يصغّرون بحذف الزوائد نحو : «زهير وحميد» في أزهر ومحمود ، ويسميه النحويون «تصغير التّرخيم» ، فكذلك التكسير.

الثالث : أنه اسم مفرد ، وهو مصدر جاء على فعول ؛ كالدّخول ، والقعود ، والجلوس ، قاله أبو البقاء (١) وغيره ، وفيه نظر ؛ من حيث إنّ الفعول يكون مصدرا للازم ، ولا يكون للمتعدّي إلا في ألفاظ محفوظة ، نحو : اللّزوم والنّهوك ، وزبر ـ كما ترى ـ متعدّ ، فيضعف جعل الفعول مصدرا له.

قال أهل اللّغة (٢) : الزّبور الكتاب ، وكلّ كتاب زبور ، وهو «فعول» بمعنى «مفعول» ؛ كالرّسول والرّكوب والحلوب ، وأصله من زبرت بمعنى كتبت ، وقد تقدّم معنى هذه المادّة في آل عمران [آية ١٨٤].

فصل في معنى الآية

معنى (وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً) أي : صحفا وكتبا مزبورة ، أي : مكتوبة ، وكان فيها التّحميد والتّمجيد والثّناء على الله تعالى.

قال القرطبيّ (٣) ـ رحمه‌الله ـ : الزّبور كتاب داود ـ عليه‌السلام ـ مائة وخمسين سورة ، ليس فيها حكم ، ولا حلال ، ولا حرام ، وإنّما هي (٤) حكم ومواعظ ، والأصل في الزّبر التّوثيق ؛ فيقال : بئر مزبورة ، أي : مطويّة بالحجارة ، والكتاب يسمّى زبورا ؛ لقوّة الوثيقة به.

وكان داود ـ عليه الصلاة والسلام ـ حسن الصّوت ؛ وإذا أخذ في قراءة الزّبور ، اجتمع عليه الإنس والجنّ والطّير والوحش ؛ لحسن صوته ، وكان متواضعا يأكل من عمل يده في الخوص ، فكان يصنع الدّروع ، فكان أزرق العينين ، وجاء في الحديث : «الزّرقة في العين يمن».

قوله ـ عزوجل ـ : (وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ)](٥) الجمهور على نصب «رسلا» ، وفيه ثلاثة أوجه :

أحدها : أنّه منصوب على الاشتغال ؛ لوجود شروطه ، أي : وقصصنا رسلا.

قال القرطبيّ (٦) : ومثله مما أنشد سيبويه : [المنسرح]

__________________

(١) ينظر : الإملاء ١ / ٢٠٣.

(٢) ينظر : تفسير الرازي ١١ / ٨٦ ، ولسان العرب ٣ / ١٨٠٤.

(٣) ينظر : تفسير القرطبي ٦ / ١٣.

(٤) في أ : ملىء.

(٥) سقط في ب.

(٦) ينظر : تفسير القرطبي ٦ / ١٣.

١٣٣

١٩٠٤ ـ أصبحت لا أحمل السّلاح ولا

أملك رأس البعير إن نفرا

والذّئب أخشاه إن مررت به

وحدي وأخشى الرّياح والمطرا (١)

أي : وأخشى الذّئب ، والمعنى على حذف مضاف ، أي : قصصنا أخبارهم ، فيكون (قَدْ قَصَصْناهُمْ) لا محلّ له ؛ لأنه مفسّر لذلك العامل المضمر ، ويقوّي هذا الوجه قراءة أبيّ (٢): «ورسل» بالرفع في الموضعين ، والنصب هنا أرجح من الرفع ؛ لأن العطف على جملة فعلية ، وهي : (وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً).

الثاني : أنه منصوب عطفا على معنى (أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ) ، أي : أرسلنا ونبّأنا نوحا ورسلا ، وعلى هذا فيكون (قَدْ قَصَصْناهُمْ) في محلّ نصب ؛ لأنه صفة ل «رسلا».

الثالث : أنه منصوب بإضمار فعل ، أي : وأرسلنا رسلا ؛ وذلك أنّ الآية نزلت رادّة على اليهود في إنكارهم إرسال الرسل ، وإنزال الوحي ، كما حكى الله عنهم في قوله : (ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ) [الأنعام : ٩١] والجملة أيضا في محل الصفة.

وقيل : نصب على حذف حر الجرّ ، والتقدير : كما أوحينا إلى نوح ، وإلى رسل.

وقرأ (٣) أبيّ : «ورسل» بالرفع في الموضعين ، وفيه تخريجان.

أظهرهما : أنه مبتدأ وما بعده خبره ، وجاز الابتداء هنا بالنكرة ؛ لأحد شيئين : إمّا العطف ؛ كقوله : [البسيط]

١٩٠٥ ـ عندي اصطبار وشكوى عند قاتلتي

فهل بأعجب من هذا امرؤ سمعا (٤)

وإما التفصيل ؛ كقوله : [المتقارب]

١٩٠٦ ـ فأقبلت زحفا على الرّكبتين

فثوب لبست وثوب أجر (٥)

__________________

(١) البيتان للربيع بن ضبع ينظر : خزانة الأدب ٧ / ٣٨٤ ، ولسان العرب (ضمن) ، وأمالي المرتضى ١ / ٢٥٥ ، وحماسة البحتري ص ٢٠١ ، وشرح التصريح ٢ / ٣٦ ، والكتاب ١ / ٨٩ ، والمقاصد النحوية ٣ / ٣٩٨ ، والرد على النحاة ص ١١٤ ، وشرح المفصل ٧ / ١٠٥ ، والمحتسب ٢ / ٩٩ ، وأوضح المسالك ٣ / ١١٤. والأشباه والنظائر ٧ / ١٧٣.

(٢) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ١٣٧ ، والبحر المحيط ٣ / ٤١٤ ، والدر المصون ٢ / ٤١٥.

(٣) ينظر : القراءة السابقة.

(٤) ينظر البيت في الأشباه والنظائر ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٨٦٣ ، ومغني اللبيب ٢ / ٤٦٨ والدر المصون ٢ / ٤٦٥.

(٥) استشهد بالبيت على حذف عائد المخبر عنه ، بشرط كونه منصوبا بفعل لفظا ، نحو : فثوب نسيت وثوب أجر ، وفي البيت توجيهان آخران ذكرهما ابن هشام وأصلهما للأعلم : أحدهما : أن جملتي (نسيت ، أجر) ليستا خبرين ، بل هما نعتان للمبتدأين ، وخبراهما محذوفان ، والتقدير : فمن أثوابي ثوب منسي وثوب مجرور ، والتوجيه الثاني : أن الجملتين خبران ، ولكن هناك نعتان محذوفان والتقدير فثوب ـ

١٣٤

وكقوله : [الطويل]

١٩٠٧ ـ إذا ما بكى من خلفها انصرفت له

بشقّ وشقّ عندنا لم يحوّل (١)

والثاني ـ وإليه ذهب ابن عطيّة ـ : أنه ارتفع على خبر ابتداء مضمر ، أي : وهم رسل ، وهذا غير واضح ، والجملة بعد «رسل» على هذا الوجه تكون في محلّ رفع ؛ لوقوعها صفة للنكرة قبلها.

قوله : (وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ) كالأول. وقوله : (وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى) الجمهور على رفع الجلالة ، وهي واضحة. و «تكليما» مصدر مؤكد رافع للمجاز.

قال الفرّاء (٢) : العرب [تسمّي](٣) ما يوصل إلى الإنسان كلاما بأيّ طريق وصل ولكن لا تحقّقه بالمصدر ، فإذا حقّق بالمصدر ، لم يكن إلّا حقيقة الكلام ؛ كالإرادة ، يقال : أراد فلان إرادة ، يريد : حقيقة الإرادة.

قال القرطبي (٤) : «تكليما» يقدر معناه بالتّأكيد ، وهذا يدلّ على بطلان قول من يقول : خلق [الله](٥) لنفسه كلاما في شجرة ، فسمعه موسى ـ [عليه‌السلام](٦) ـ ، بل هو الكلام الحقيقيّ الذي يكون به المتكلّم متكلّما.

قال النّحّاس (٧) : وأجمع النّحويّون على أنّك إذا أكّدت الفعل بالمصدر ، لم يكن مجازا ، وأنّه لا يجوز في قول الشاعر : [الرجز]

١٩٠٨ ـ امتلأ الحوض وقال قطني (٨)

__________________

ـ لي نسيته وثوب لي أجره ، وعلى هذين التوجيهين ، فالمسوّغ للابتداء بالنكرة كونها موصوفة.

وفي البيت رواية أخرى رواها السكري في شرح ديوان امرىء القيس بنصب ثوب على أنه مفعول مقدم للفعل الذي بعده ، ولا شاهد في البيت على هذه الرواية ، وبعض المتأخرين يرجح هذه الرواية على رواية الرفع ؛ لأنها لا تحوج إلى تقدير محذوف ، وأن حذف الضمير المنصوب العائد على المبتدأ من جملة الخبر ، مما لا يجيزه جماعة من النحاة ، منهم سيبويه إلا لضرورة الشعر ، ولكن رواية سيبويه بالرفع أوثق.

كما ذكروا البيت شاهدا على جواز الابتداء بالنكرة ، بشرط أن تكون للتنويع والتفصيل والبيت لامرىء القيس ينظر ديوانه (١٥٩) سيبويه ١ / ٤٤ ، الكافية ١ / ٩٢ ، شرح ابن عقيل ١ / ٢١٩ ، شرح أبيات مغني اللبيب ٧ / ٣٧ ، المغني ٤٧٢ ، ٦٣٣ ، المحتسب ٢ / ١٤٢ ، ابن الشجري ١ / ٩٣ ، ٣٢٦ ، المقاصد النحوية ١ / ٥٤٥ ، وخزانة الأدب ١ / ٣٧٣ ، ٣٧٤ والأشباه والنظائر ٣ / ١١٠ وشرح ابن عقيل ص ١١٣ والدر المصون ٢ / ٤٦٥.

(١) تقدم.

(٢) ينظر : تفسير البغوي ١ / ٥٠٠.

(٣) سقط في أ.

(٤) ينظر : تفسير القرطبي ٦ / ١٣.

(٥) سقط في أ.

(٦) سقط في ب.

(٧) ينظر : تفسير القرطبي ٦ / ١٤.

(٨) صدر بيت وعجزه :

مهلا رويدا قد ملأت بطني

١٣٥

أن يقول : قال قولا فكذا لمّا قال : «تكليما» وجب أن يكون كلاما على الحقيقة.

ومعنى الآية : أنّ الله ـ تعالى ـ ذكر هؤلاء الأنبياء والرّسل [وخص موسى](١) بالتكليم

معه ولم يلزم من تخصيص موسى عليه‌السلام بهذا التّشريف ، الطّعن في نبوة الأنبياء ـ عليهم‌السلام ـ ، فكذلك لا يلزم من إنزال التّوراة دفعة واحدة الطّعن فيمن أنزل عليه الكتاب مفصّلا.

وقرأ إبراهيم (٢) ويحيى بن وثّاب : بنصب الجلالة.

وقال بعضهم : (وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً) (٣) معناه : وجرح الله موسى بأظفار المحن ومخالب الفتن ، وهذا تفسير باطل.

وقد جاء التأكيد بالمصدر في ترشيح المجاز ؛ كقول هند بنت النعمان بن بشير في زوجها روح بن زنباع وزير عبد الملك بن مروان : [الطويل]

١٩٠٩ ـ بكى الخزّ من روح وأنكر جلده

وعجّت عجيجا من جذام المطارف (٤)

تقول : إنّ زوجها روحا قد بكى ثياب الخزّ من لبسه ؛ لأنه ليس من أهل الخزّ ، وكذلك صرخت صراخا من جذام ـ وهي قبيلة روح ـ ثياب المطارف ، تعني : أنهم ليسوا من أهل تلك الثياب ، فقولها : «عجّت المطارف» مجاز ؛ لأن الثياب لا تعجّ ، ثم رشحته بقولها عجيجا ، وقال ثعلب : لو لا التأكيد بالمصدر ، لجاز أن يكون كما تقول : «كلّمت لك فلانا» ، أي : أرسلت إليه ، أو كتبت له رقعة.

قوله تعالى : (رُسُلاً مُبَشِّرِينَ) : فيه أربعة أوجه :

أحدها : أنه بدل من «رسلا» الأول في قراءة الجمهور ، وعبّر الزمخشريّ عن هذا بنصبه على التكرير ، كذا فهم عنه أبو حيان.

الثاني : أنه منصوب على الحال الموطّئة ؛ كقولك : «مررت بزيد رجلا صالحا» ، ومعنى الموطّئة ، أي : أنّها ليست مقصودة ، إنما المقصود صفتها ؛ ألا ترى أن الرجوليّة مفهومة من قولك «بزيد» ، وإنما المقصود وصفه بالصلاحية.

الثالث : أنه نصب بإضمار فعل ، أي : أرسلنا رسلا.

__________________

ـ ينظر إصلاح المنطق ص ٥٧ ، ٣٤٢ والإنصاف ص ١٣٠ وأمالي المرتضى ٢ / ٣٠٩ وتخليص الشواهد ص ١١١ وجواهر الأدب ص ١٥١ والخصائص ١ / ٢٣ ورصف المباني ص ٣٦٢ وسمط اللآلىء ص ٤٧٥ وشرح الأشموني ١ / ٥٧ وشرح المفصل ١ / ٨٢ ، ٢ / ١٣١ ، ٣ / ١٢٥ واللسان (قطط) والمقاصد النحوية ١ / ٣٦١ ومجالس ثعلب ص ١٨٩.

(١) سقط في أ.

(٢) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ١٣٧ ، والبحر المحيط ٣ / ٤١٤ ، والدر المصون ٢ / ٤٦٦.

(٣) سقط في أ.

(٤) تقدم.

١٣٦

الرابع : أنه منصوب على المدح ، قدّره أبو البقاء (١) ب «أعني» ، وكان ينبغي أن يقدّره فعلا دالّا على المدح ، نحو : «أمدح» ، وقد رجّح الزمخشريّ هذا الأخير ، فقال : «والأوجه أن ينتصب «رسلا» على المدح».

قوله : «لئلّا» هذه لام كي ، وتتعلّق ب «منذرين» على المختار عند البصريّين ، وب «مبشّرين» على المختار عند الكوفيّين ؛ فإن المسألة من التنازع ، ولو كان من إعمال الأول ، لأضمر في الثاني من غير حذف ، فكان يقال : مبشّرين ومنذرين [له] لئلا ، ولم يقل كذلك ، فدلّ على مذهب البصريّين ، وله في القرآن نظائر تقدّم منها جملة صالحة ، وقيل : اللام تتعلّق بمحذوف ، أي : أرسلناهم لذلك ، و «حجّة» اسم «كان» ، وفي الخبر وجهان :

أحدهما : هو «على الله» و «للنّاس» حال.

والثاني : أن الخبر «للنّاس» و «على الله» حال ، ويجوز أن يتعلّق كلّ من الجارّ والمجرور بما تعلّق به الآخر ، إذا جعلناه خبرا ، ولا يجوز أن يتعلّق على الله ب «حجّة» ، وإن كان المعنى عليه ؛ لأنّ معمول المصدر لا يتقدم عليه ، و «بعد الرّسل» متعلق ب «حجّة» ، ويجوز أن يتعلّق بمحذوف على أنه صفة ل «حجّة» ؛ لأنّ ظروف الزمان توصف بها الأحداث ؛ كما يخبر بها عنها ؛ نحو : «القتال يوم الجمعة».

فصل في جواب الآية عن شبهة اليهود

هذه الآية جواب عن شبهة اليهود ، وتقريره : أن المقصود من بعثة الرّسل أن يبشّروا وينذروا ، وهذا المقصود حاصل سواء كان الكتاب نازلا دفعة واحدة أو منجّما ، ولا يختلف هذا الغرض بنزول الكتاب منجّما أو دفعة واحدة.

بل لو قيل : إن إنزال الكتاب منجّما مفرّقا أقرب إلى المصلحة ، لكان أولى ؛ لأن الكتاب إذا نزل دفعة واحدة ، كثرت التّكاليف على المكلّف ، فيثقل فعلها ؛ ولهذا السّبب أخذ قوم موسى ـ عليه‌السلام ـ على التمرّد ، ولم يقبلوا تلك التّكاليف.

أمّا إذا نزل الكتاب منجّما مفرّقا ، سهل قبوله للتّدريج ، فحينئذ يحصل الانقياد والطّاعة من القوم ، فكان اقتراح اليهود إنزال الكتاب دفعة واحدة اقتراحا فاسدا.

ثم قال : (وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً) يعني : هذا الذي تطلبونه من الرسول أمر هيّن في القدرة ، وإنما طلبتموه على سبيل اللّجاج ، وهو ـ تعالى ـ عزيز ، وعزّته تقتضي ألا يجاب المتعنّت إلى مطلوبه ، وكذلك حكمته تقتضي هذا الامتناع ؛ لعلمه ـ تعالى ـ بأنّه لو فعل ذلك لبقوا مصرّين على اللّجاج ؛ لأنه ـ تعالى ـ أعطى موسى ـ [عليه الصلاة والسلام](٢)

__________________

(١) ينظر : الإملاء ١ / ٢٠٣.

(٢) سقط في أ.

١٣٧

ـ هذا التّشريف ، ومع ذلك أصرّوا على المكابرة واللّجاج.

فصل

احتجّوا بهذه الآية على أنّ معرفة الله ـ تعالى ـ لا تثبت إلا بالسّمع ؛ لأن قوله : (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) يدلّ على أنّ قبل البعثة يكون للنّاس حجّة في ترك الطّاعات ، ويؤيّده قوله ـ تعالى ـ : (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) [الإسراء : ١٥] ، وقوله : (وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى) [طه : ١٣٤].

فصل شبهة للمعتزلة وردها

قالت المعتزلة (١) : دلّت هذه الآية على أن العبد قد يحتجّ على الربّ ـ سبحانه وتعالى ـ وأنّ الذي يقوله أهل السّنّة من أنّه تعالى لا اعتراض عليه في شيء ، وأنّه يفعل ما يشاء كما شاء ليس بشيء ؛ لأن قوله : (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) يقتضي أنّ لهم حجّة على الله قبل الرّسل ، وذلك يبطل قول أهل السّنّة.

والجواب (٢) : أن المراد (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ) أي : فيما يشبه الحجّة فيما بينكم.

فصل شبهة للمعتزلة وردها

قالت المعتزلة : دلّت الآية على أنّ تكليف ما لا يطاق غير جائز ؛ لأن عدم إرسال الرّسل إذا كان يصلح عذرا ، فبأن يكون عدم المكنة والقدرة صالحا لأن يكون عذرا أولى.

والجواب : بالمعارضة بالعلم.

قوله تعالى : (لكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً) (١٦٦)

قوله تعالى : (لكِنِ اللهُ يَشْهَدُ) هذه الجملة الاستدراكية لا يبتدأ بها ، فلا بدّ من جملة محذوفة ، وتكون هذه الجملة مستدركة عنها ، والجملة المحذوفة هي ما روي في سبب النزول ؛ أنه لمّا نزلت : (إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) [الآية : ١٦٣ النساء] ، قالوا : ما نشهد لك بهذا أبدا ، فنزلت : (لكِنِ اللهُ يَشْهَدُ) ، وقد أحسن الزمخشريّ هنا في تقدير جملة غير ما ذكرت ، وهو : «فإن قلت : الاستدراك لا بدّ له من مستدرك ، فأين هو في قوله : (لكِنِ اللهُ يَشْهَدُ)؟ قلت: لمّا سأل أهل الكتاب إنزال الكتاب من السماء ، وتعنّتوا بذلك ، واحتجّ

__________________

(١) ينظر : تفسير الرازي ١١ / ٨٨.

(٢) في أ : وأجيبوا.

١٣٨

عليهم بقوله : (إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) قال : (لكِنِ اللهُ يَشْهَدُ) بمعنى أنهم لا يشهدون ، لكن الله يشهد» ، ثم ذكر الوجه الأول.

وقرأ الجمهور بتخفيف «لكن» ورفع الجلالة ، والسّلميّ (١) والجرّاح الحكمي بتشديدها ونصب الجلالة ، وهما كالقراءتين في (وَلكِنَّ الشَّياطِينَ) [البقرة : ١٠٢] وقد تقدّم ، والجمهور على «أنزله» مبينا للفاعل ، وهو الله تعالى ، والحسن (٢) قرأه «أنزل» مبنيّا للمفعول ، وقرأ السلميّ (٣) «نزّله بعلمه» مشدّدا ، والباء في «بعلمه» للمصاحبة ، أي : ملتبسا بعلمه ، فالجارّ والمجرور في محلّ نصب على الحال ، وفي صاحبها وجهان :

أحدهما : الهاء في «أنزله».

والثاني : الفاعل في «أنزله» أي : أنزله عالما به ، و (الْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ) مبتدأ وخبر ، يجوز أن تكون حالا أيضا من المفعول في «أنزله» ، أي : والملائكة يشهدون بصدقه ، ويجوز ألّا يكون لها محلّ ، وحكمه حينئذ كحكم الجملة الاستدراكيّة قبله ، وقد تقدّم الكلام على مثل قوله: (وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً) [النساء : ٦].

فصل

قال ابن عبّاس ـ رضي الله عنهما ـ : إن رؤساء مكّة أتوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وشرّف وكرّم ومجّد وعظّم وقالوا : يا محمّد ، إنا سألنا عنك اليهود ، عن صفتك في كتابهم ، فزعموا أنّهم لا يعرفونك ودخل عليه جماعة من اليهود ، فقال لهم : «والله إنكم لتعلمن أني رسول الله». فقالوا : ما نعلم ذلك والله ، فأنزل الله ـ تعالى ـ : (لكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ)](٤) إن جحدوك وكذّبوك ، وشهادة الله عرفت بإنزال هذا القرآن البالغ في الفصاحة إلى حيث عجز الأوّلون والآخرون عن معارضته ، فكان ذلك معجزا ، وإظهار المعجزة شهادة بكون المدّعي صادقا ، ولما كانت شهادته إنما عرفت بإنزاله بواسطة القرآن ، قال : (لكِنِ اللهُ يَشْهَدُ) لك بالنّبوّة ، بواسطة إنزال هذا القرآن عليك ، ثم بيّن صفة هذا (٥) الإنزال ، وهو أنّه ـ تعالى ـ أنزله بعلم تامّ ، وحكمة بالغة. فقوله بغاية الحسن ونهاية الكمال ؛ كما يقال في الرّجل المشهور بكمال الفضل والعلم ، إذا صنّف كتابا واستقصى في تحريره : إنّه إنما صنّف هذا بكمال علمه وفضله ، يعني : أنه اتّخذ جملة علومه وسيلة إلى تصنيف هذا الكتاب ، فيدلّ ذلك على وصف ذلك التّصنيف

__________________

(١) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ١٣٨ ، والبحر المحيط ٣ / ٤١٥ ، والدر المصون ٢ / ٤٦٧.

(٢) ينظر القراءة السابقة.

(٣) ينظر : البحر المحيط ٣ / ٤١٥ ، والدر المصون ٢ / ٤٦٧.

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٩ / ٤٠٩) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٤٣٩) وزاد نسبته لابن إسحق والبيهقي في الدلائل والخبر في «السيرة النبوية» لابن هشام (٢ / ٢١١) عن ابن عباس.

(٥) في ب : ذلك.

١٣٩

بغاية الجودة والحسن ، فكذا ههنا دلّت هذه الآية على أنّ لله ـ تعالى ـ علما ؛ لأنّها أثبتت العلم لله ـ تعالى ـ ولو كان علمه نفس ذاته ، لزم إضافة الشّيء إلى نفسه ، وهو محال.

وقوله ـ تعالى ـ : (وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ) إنّما تعرف شهادة الملائكة له بذلك ؛ لأن إظهار المعجزة على يده ، لمّا دلّ على أنّ الله ـ تعالى ـ شهد بذلك ، فالملائكة [أيضا](١) يشهدون لا محالة ، لأنّهم لا يسبقونه بالقول ، فكأنّه قيل : يا محمد إن كذّبك هؤلاء [اليهود](٢) ، فلا تبال بهم ، فإنّ إله العالمين يصدّقك ، وملائكة السّموات يصدّقونك في ذلك ، ومن صدّقه ربّ العالمين ، وملائكة العرش والكرسيّ ، والسّموات السّبع أجمعين ، لم يلتفت إلى تكذيب أخسّ النّاس.

ثمّ قال : (وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً) [وقد تقدّم الكلام فيه](٣).

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلالاً بَعِيداً (١٦٧) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً (١٦٨) إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً)(١٦٩)

قوله ـ تعالى ـ : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ) الآية والجمهور على «وصدّوا» مبنيّا للفاعل ، وقرأ (٤) عكرمة وابن هرمز : «وصدّوا» مبنيّا للمفعول ، وهما واضحتان ، وقد قرىء بهما في المتواتر في قوله : (وَصَدُّوا) [الرعد : ٣٣] في الرعد ، و (وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ) [غافر : ٣٧] في غافر.

والمراد كفروا بقولهم : لو كان رسولا ، لأتى بكتاب دفعة واحدة من السّماء ؛ كما أنزلت التوراة على موسى ؛ وقولهم : إنّ الله ـ تعالى ـ ذكر في التّوراة ؛ أنّ شريعة موسى لا تبدّل ولا تنسخ إلى يوم القيامة ، وقولهم : إنّ الأنبياء لا يكونون إلّا من ولد هارون وداود ، وصدّهم عن سبيل الله : بكتمان نعت محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(قَدْ ضَلُّوا ضَلالاً بَعِيداً) ، إلا أنّ أشدّ النّاس ضلالا من كان يعتقد في نفسه أنّه محقّ ، ثم يتوسّل بذلك الضّلال إلى اكتساب المال والجاه ، ثم يبذل جهده في إلقاء غيره في مثل ذلك الضّلال ، فهذا قد بلغ في الضّلال إلى أقصى الغايات.

ولمّا وصف الله ضلالهم ، ذكر وعيدهم ؛ فقال : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا) بكتمان نعت محمّد [صلى‌الله‌عليه‌وسلم](٥) ، وظلموا أتباعهم بإلقاء الشّبهات (لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ) ، وقد تقدّم الكلام على قوله (لِيَغْفِرَ لَهُمْ) وأن الفعل مع هذه اللّام أبلغ منه دونها.

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) سقط في أ.

(٣) سقط في أ.

(٤) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ١٣٨ ، والبحر المحيط ٣ / ٤١٦ ، والدر المصون ٢ / ٤٦٧.

(٥) سقط في أ.

١٤٠