اللّباب في علوم الكتاب - ج ٧

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ٧

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٦٤٠

فصل : لا يحب الله الجهر بالسوء ولا غير الجهر

قال العلماء : إنه ـ تعالى ـ لا يحبّ الجهر بالسّوء من القول ولا غير الجهر ، وإنما ذكر هذا الوصف ؛ لأن كيفيّة الواقعة أوجبت ذلك ؛ كقوله ـ تعالى ـ : (إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَتَبَيَّنُوا) [النساء : ٩٤] والتّبيّن واجب في الظّعن والإقامة ، فكذا ههنا.

فصل شبهة المعتزلة وردها

قالت المعتزلة (١) : دلت الآية على أنّه لا يريد من عباده فعل القبائح ولا يخلقها ؛ لأن محبّة الله عبارة عن إرادته ، فلما قال : (لا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ). علمنا أنه لا يريد ذلك ، وأيضا لو كان خالقا لأفعال العباد (٢) ، لكان مريدا لها ؛ ولو كان مريدا لها ، لكان قد أحبّ إيجاد الجهر بالسّوء من القول ، وهو خلاف الآية.

والجواب : المحبّة عبارة عن إعطاء الثّواب على القول ، وعلى هذا يصحّ أن يقال : إنّه ـ تعالى ـ أراده ولكنّه ما أحبّه.

ثم قال : (وَكانَ اللهُ سَمِيعاً عَلِيماً) وهو تحذير من التّعدّي في الجهر المأذون فيه ، يعني : فليتّق الله ولا يقل إلّا الحقّ ، فإنه سميع لما تقوله ، عليم بما تضمره ، وقيل : سميع لدعاء المظلوم ، عليم بعقاب الظّالم.

قوله تعالى : (إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً)(١٤٩)(٣)

(٣) قيل : «تبدوا خيرا» أي : حسنة فيعمل (٤) بها ، كتبت عشرة ، وإن همّ بها ولم يعملها ، كتبت له حسنة واحدة ، وهو قوله : (أَوْ تُخْفُوهُ).

وقيل : المراد من الخير : المال ؛ لقوله : (إِنْ تُبْدُوا خَيْراً) والمعنى : إن تبدوا صدقة تعطونها جهرا ، أو تخفوها فتعطوها سرّا ، (أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ) أي : عن مظلمة والظاهر أن الضّمير المنصوب في «تخفوه» عائد (٥) على «خيرا» ، والمراد به : أعمال البرّ كلّها ، وأجاز بعضهم أن يعود على «السّوء» أي : أو تخفوا السّوء ، وهو بعيد.

ثم قال : (فَإِنَّ اللهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً).

قال الحسن : يعفو عن الجانبين مع قدرته على الانتقام (٦) ، فعليكم أن تقتدوا بسنّة الله ، وقال الكلبي (٧) : الله أقدر على عفو ذنوبكم منك على عفو صاحبك (٨) ، وقيل : عفوّا لمن عفى ، قديرا على إيصال الثّواب إليه.

__________________

(١) ينظر : تفسير الرازي ١١ / ٧٢.

(٢) في ب : العبد.

(٣) سقط في ب.

(٣) سقط في ب.

(٤) في ب : تعمل.

(٥) في ب : بما يدل.

(٦) ينظر : تفسير الرازي (١١ / ٧٣).

(٧) ينظر : تفسير الرازي ١١ / ٧٣.

(٨) ينظر : المصدر السابق.

١٠١

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً (١٥٠) أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (١٥١) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً)(١٥٢)

لما تكلم على طريقة المنافقين ، أخذ يتكلّم على مذاهب اليهود والنّصارى ومناقضاتهم ، وذكر في آخر هذه السّورة من هذا الجنس أنواعا :

أولها : إيمانهم ببعض الأنبياء دون بعض ؛ لأنهم كفروا بمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فبيّن أن الكفر به كفر بالكلّ ؛ لأن ما من نبيّ إلا وقد أمر قومه بالإيمان بمحمّد ـ عليه الصلاة والسلام ـ وبجميع الأنبياء.

قال المفسّرون (٢) : نزلت هذه الآية في اليهود ، وذلك أنّهم آمنوا بموسى ، والتّوراة ، وعزير ، وكفروا بعيسى ، والإنجيل ، وبمحمّد ـ عليه الصلاة والسلام ـ ، والقرآن ، (وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً) أي : بين الإيمان بالكلّ وبين الكفر بالكلّ سبيلا ، أي : واسطة ، وهي (٣) الإيمان بالبعض دون البعض ، وأشير ب «ذلك» وهو للمفرد ، والمراد به : البيّنة (٤) ، أي : بين الكفر والإيمان ، وقد تقدّم نظيرها في البقرة ، وفي خبر «إنّ» قولان :

الأول : أنه محذوف ، تقديره : جمعوا المخازي.

والثاني : هو قوله : (أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ) والأوّل أحسن لوجهين :

أحدهما : أنه أبلغ ؛ لأن الجواب إذا حذف ذهب الوهم كلّ مذهب ، فإذا ذكر بقي مقتصرا على المذكور.

والثاني : أنه رأس آية ، والأحسن ألا يكون الخبر منفصلا عن المبتدأ ، و «بين» يجوز أن يكون منصوبا ب «يتّخذوا» ، وأن يكون منصوبا بمحذوف ؛ إذ هو حال من «سبيلا».

قوله : «حقّا» فيه أوجه :

أحدها : أنه مصدر مؤكّد لمضمون الجملة [قبله](٥) ، فيجب إضمار عامله وتأخيره عن الجملة المؤكّد لها ، والتقدير : أحقّ ذلك حقا ، وهكذا كلّ مصدر مؤكّد لغيره أو لنفسه.

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) ينظر : تفسير البغوي ١ / ٤٩٤.

(٣) في أ : وعلى.

(٤) في أ : التثنية.

(٥) سقط في أ.

١٠٢

قال بعضهم : انتصب «حقّا» على مثل قولك : «زيد أخوك حقّا» ، تقديره : أخبرتك بهذا المعنى إخبارا حقّا.

والثاني : أنه حال من قوله : (هُمُ الْكافِرُونَ) قال أبو البقاء (١) : أي : «كافرون غير شكّ» وهذا يشبه أن يكون تفسيرا للمصدر المؤكد ، وقد طعن الواحديّ على هذا التوجيه ؛ فقال : «الكفر لا يكون حقّا بوجه من الوجوه» ، والجواب : أنّ الحقّ هنا ليس يراد به ما يقابل الباطل ، بل المراد به أنه ثابت لا محالة ، وأنّ كفرهم مقطوع به.

الثالث : أنه نعت لمصدر محذوف ، أي : الكافرون كفرا حقّا ، وهو أيضا مصدر مؤكّد ، ولكن الفرق بينه وبين الوجه الأول : أنّ هذا عامله مذكور ، وهو اسم الفاعل ، وذاك عامله محذوف.

فصل

أي (٢) : كانوا كافرين حقّا لوجهين :

الأول : أن الدّليل الذي يدلّ على نبوّة البعض ، ألزم (٣) منه القطع بأنّه حيث حصلت المعجزة (٤) حصلت النّبوّة ، فإن جوّزنا في بعض المواضع حصول المعجز بدون الصّدق ، تعذّر (٥) الاستدلال بالمعجز على الصّدق ، وحينئذ يلزم الكفر بجميع الأنبياء ، فثبت أنّ من لم يقبل نبّوة أحد من الأنبياء ، لزمه الكفر بجميع الأنبياء.

فإن قيل : هب أنه يلزم (٦) الكفر بكل الأنبياء ، ولكن ليس إذا توجّه بعض الإلزامات على إنسان ، لزم أن يكون ذلك الإنسان قائلا به ، فإلزام الكفر غير [والتزام الكفر غير](٧) فالقوم لمّا لم يلتزموا ذلك ، فكيف يقضي عليهم بالكفر.

فالجواب : [الإلزام](٨) إذا كان خفيّا بحيث يحتاج فيه إلى فكر وتأمّل ، كان الأمر كما ذكرتم ، أمّا إذا كان جليّا واضحا ، لم يبق بين الإلزام والالتزام فرق.

الوجه الثاني : هو أنّ قبول البعض دون الكلّ إن كان لطلب الرّياسة ، كان ذلك في الحقيقة كفرا بكل الأنبياء [عليهم‌السلام](٩).

(وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً) [«وأعتدنا» أي : هيّأنا](١٠)(لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً) ولمّا ذكر الوعيد ، أتبعه بذكر الوعد ؛ فقال : (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ) الآية.

__________________

(١) ينظر : الإملاء ١ / ٢٠٠.

(٢) في ب : إنما.

(٣) في ب : يلزم.

(٤) في أ : حصل المعجز.

(٥) في أ : يقدر.

(٦) في ب : يلزمه.

(٧) سقط في أ.

(٨) سقط في أ.

(٩) سقط في أ.

(١٠) سقط في أ.

١٠٣

قد تقدّم الكلام على دخول «بين» على «أحد» في البقرة فأغنى عن إعادته ، وقرأ الجمهور (١) : «سوف نؤتيهم» بنون العظمة ؛ على الالتفات ، ولموافقة قوله : «وأعتدنا» ، وقرأ حفص عن عاصم بالياء ، أعاد الضمير على اسم تعالى في قوله : (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ). وقول بعضهم : قراءة النون أولى ؛ لأنها أفخم ، ولمقابلة «وأعتدنا» ليس بجيّد لتواتر القراءتين.

والمعنى : آمنوا بالله ورسله كلّهم ، ولم يفرّقوا بين أحد من الرّسل ، يقولون : لا نفرّق بين أحد من رسله ، (أُولئِكَ سَوْفَ) نؤتيهم (أُجُورَهُمْ) بإيمانهم بالله وكتبه ورسله ، (وَكانَ اللهُ غَفُوراً) : يغفر سيّئاتهم ، «رحيما» بهم.

قوله تعالى : (يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ فَعَفَوْنا عَنْ ذلِكَ وَآتَيْنا مُوسى سُلْطاناً مُبِيناً (١٥٣) وَرَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثاقِهِمْ وَقُلْنا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُلْنا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (١٥٤) فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٥٥) وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً (١٥٦) وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللهِ وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّباعَ الظَّنِّ وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً (١٥٧) بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً)(١٥٨)

(٢) وذلك أن كعب بن الأشرف ، وفنحاص بن عازوراء من اليهود قالا لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : إن كنت نبيّا فأتنا بكتاب جملة من السّماء ؛ كما أتى [به](٣) موسى ـ عليه‌السلام ـ ، فأنزل الله ـ تعالى ـ : (يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ)(٤). وكان هذا السّؤال منهم تحكّما واقتراحا ، لا سؤال انقياد ، والله ـ تعالى ـ لا ينزّل الآيات على اقتراح العباد ، والمقصود من الآية : بيان ما جبلوا عليه من التّعنّت ؛ كأنه قيل : إن موسى لمّا نزل عليه كتاب من السّماء ، لم يكتفوا بذلك القدر ، بل طلبوا منه الرّؤية على سبيل المعاينة ، فكان طلب هؤلاء الكتاب ليس لأجل الاسترشاد ، بل لمحض العناد.

قوله : (فَقَدْ سَأَلُوا) : في هذه الفاء قولان :

__________________

(١) ينظر : السبعة ٢٤٠ ، والحجة ٣ / ١٨٨ ، ١٨٩ ، وحجة القراءات ٢١٨ ، وإعراب القراءات ١ / ١٣٩ ، والعنوان ٨٦ ، وشرح شعلة ٣٤٦ ، وشرح الطيبة ٤ / ٢٢٠ ، وإتحاف ١ / ٥٢٣ ، ٥٢٤.

(٢) سقط في ب.

(٣) سقط في أ.

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٩ / ٣٥٦) عن السدي.

١٠٤

أحدهما : أنها عاطفة على جملة محذوفة ، قال ابن عطيّة : «تقديره : فلا تبال ، يا محمّد ، بسؤالهم ، وتشطيطهم ، فإنها عادتهم ، فقد سألوا موسى أكبر من ذلك.

والثاني : أنها جواب شرط مقدّر ، قاله الزمخشريّ أي : إن استكبرت ما سألوه منك ، فقد سألوا» ، و «أكبر» صفة لمحذوف ، أي : سؤالا أكبر من ذلك ، والجمهور : «أكبر» بالباء الموحدة ، والحسن (١) «أكثر» بالثاء المثلثة.

ومعنى «أكبر» أي : أعظم من ذلك ، يعنى : السّبعين الّذين خرج بهم [موسى](٢) إلى الجبل ، «فقالوا : أرنا الله جهرة» أي : عيانا ، فقولهم : «أرنا» جملة مفسّرة لكبر السّؤال ، وعظمه. [و «جهرة» تقدّم الكلام عليها ، إلا أنه هنا يجوز أن تكون «جهرة» من صفة القول ، أو السؤال ، أو من صفة السائلين ، أي : فقالوا مجاهرين ، أو : سألوا مجاهرين ، فيكون في محلّ نصب على الحال ، أو على المصدر ، وقرأ الجمهور «الصّاعقة». وقرأ النّخعيّ (٣) : «الصّعقة» وقد تقدّم تحقيقه في البقرة (٤) والباء في «بظلمهم» سببية ، وتتعلّق بالأخذ].

قوله : (ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ) يعنى : إلها ، (مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ) وهي الصّاعقة ، وسمّاها بيّنات ـ وإن كانت شيئا واحدا ؛ لأنها دالّة على قدرة الله ـ تعالى ـ ، وعلى علمه وعلى قدمه ، وعلى كونه مخالفا للأجسام والأعراض ، وعلى صدق موسى.

وقيل : «البيّنات» إنزال الصّاعقة وإحياؤهم بعد إماتتهم.

وقيل : المعجزات التي أظهرها لفرعون ، وهي العصا ، واليد البيضاء ، وفلق البحر ، وغيرها من المعجزات القاهرة (٥).

ثم قال : (فَعَفَوْنا عَنْ ذلِكَ) ولم نستأصلهم.

قيل : هذا استدعاء إلى التّوبة ، معناه : أن أولئك الّذين أجرموا تابوا ، فعفونا عنهم ، فتوبوا أنتم حتى نعفو عنكم.

وقيل : معناه : أن قوم موسى ـ وإن كانوا قد بالغوا في اللّجاج والعناد ، لكنا (٦) نصرناه وقرّبناه فعظم أمره وضعف خصمه ، وفيه بشارة للرّسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ على سبيل التّنبيه والرّمز ، وهو أنّ هؤلاء الكفار وإن كانوا يعاندونه ـ فإنّه بالآخرة يستولي عليهم ويقهرهم.

__________________

(١) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ١٣١ ، والبحر المحيط ٣ / ٤٠٢ ، والدر المصون ٢ / ٤٥٤.

(٢) سقط في ب.

(٣) وبها قرأ أبو عبد الرحمن السلمي كما في المحرر ٢ / ١٣١ ، والبحر المحيط ٣ / ٤٠٢ ، والدر المصون ٢ / ٤٥٤.

(٤) آية : ٥٥.

(٥) في ب : الباهرة.

(٦) في ب : ولكن.

١٠٥

ثم قال [ـ تعالى ـ](١) : (وَآتَيْنا مُوسى سُلْطاناً مُبِيناً) أي : حجّة بيّنة ، وهي الآيات السّبع (٢).

قوله : (وَرَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثاقِهِمْ) [في «فوقهم» : وجهان ، أظهرهما أنه متعلق ب «رفعنا» ، وأجاز أبو البقاء (٣) وجها ثانيا وهو أن يكون متعلقا بمحذوف لأنه حال من الطور. و «بميثاقهم» متعلق أيضا بالرفع ، والباء للسببية ، قالوا : وفي الكلام حذف مضاف تقديره : بنقض ميثاقهم].

[و] قال بعض المفسّرين (٤) : إنهم امتنعوا من قبول شريعة التّوراة ، ورفع الله الجبل فوقهم حتّى قبلوا ، والمعنى : ورفعنا فوقهم الطّور ؛ لأجل أن يعطوا الميثاق بقبول الدّين.

وقال الزمخشريّ : «بميثاقهم : بسبب ميثاقهم ؛ ليخافوا فلا ينقضوه» وظاهر هذه العبارة : أنه لا يحتاج إلى حذف مضاف ، بل أقول : لا يجوز تقدير هذا المضاف ؛ لأنه يقتضي أنهم نقضوا الميثاق ، فرفع الله الطّور عليهم ؛ عقوبة على فعلهم النقض ، والقصة تقتضي أنّهم همّوا بنقض الميثاق ، فرفع الله عليهم الطور ، فخافوا فلم ينقضوه ، [وإن كانوا قد نقضوه] بعد ذلك ، وقد صرّح أبو البقاء (٥) بأنهم نقضوا الميثاق ، وأنه تعالى رفع الطّور عقوبة لهم فقال : «تقديره : بنقض ميثاقهم ، والمعنى : ورفعنا فوقهم الطّور ؛ تخويفا لهم بسبب نقضهم الميثاق» ، وفيه ذلك النظر المتقدّم ، ولقائل أن يقول : لمّا همّوا بنقضه وقاربوه ، صحّ أن يقال : رفعنا الطّور فوقهم ؛ لنقضهم الميثاق ، أي : لمقاربتهم نقضه ، لأنّ ما قارب الشيء أعطي حكمه ؛ فتصحّ عبارة من قدّر مضافا ؛ كأبي البقاء وغيره.

وقال بعض المفسّرين (٦) : إنّهم أعطوا الميثاق على أنهم إن همّوا بالرّجوع عن الدّين ، فالله ـ تعالى ـ يعذّبهم بأيّ أنواع العذاب ، أراد : فلمّا همّوا بترك الدّين ، أظلّ الله الطّور عليهم. والميثاق مصدر مضاف لمفعوله ، وقد تقدّم في البقرة الكلام على قوله (ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً) ، و «سجّدا» حال من فاعل «ادخلوا».

قوله : «لا تعدوا» قرأ الجمهور : «تعدوا» بسكون العين ، وتخفيف الدال من عدا يعدو ، كغزا يغزو ، والأصل : «تعدووا» بواوين : الأولى لام الكلمة والثانية ضمير الفاعلين ، فاستثقلت الضمة على لام الكلمة ، فحذفت ، فالتقى بحذفها ساكنان ، فحذف الأوّل ، وهو الواو الأولى ، وبقيت واو الفاعلين ، فوزنه : تفعوا ومعناه : لا تعتدوا ولا تظلموا باصطياد الحيتان فيه.

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) ف ب : التسع.

(٣) ينظر : الإملاء ١ / ٢٠٠.

(٤) ينظر : تفسير الرازي ١١ / ٧٦.

(٥) ينظر : الإملاء ١ / ٢٠٠.

(٦) ينظر : تفسير الرازي ١١ / ٧٦.

١٠٦

قال الواحدي (١) : يقال : عدا عليه أشدّ العداء [والعدو](٢) والعدوان ، أي : ظلمه ، وجاوز الحدّ ؛ ومنه قوله : (فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ) [الأنعام : ١٠٨] وقيل : (لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ) من العدو بمعنى الحضر ، والمراد به النّهي عن العمل والكسب يوم السّبت ؛ كأنه قيل : اسكنوا (٣) عن العمل في هذا اليوم واقعدوا في منازلكم [فأنا الرزّاق]. وقرأ نافع (٤) بفتح العين وتشديد الدال ، إلا أن الرواة اختلفوا عن قالون عن نافع : فرووا عنه تارة بسكون العين سكونا محضا ، وتارة إخفاء فتحة العين ، فأما قراءة نافع ، فأصلها : تعتدوا ، ويدلّ على ذلك إجماعهم على : (اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ) [البقرة : ٦٥] كونه من الاعتداء ، وهو افتعال من العدوان ، فأريد إدغام تاء الافتعال في الدال ، فنقلت حركتها إلى العين ، وقلبت دالا وأدغمت. وهذه قراءة واضحة ، وأما ما يروى عن قالون من السكون المحض ، فشيء لا يراه النحويّون ؛ لأنه جمع بين ساكنين على غير حدّهما ، وأمّا الاختلاس فهو قريب للإتيان بحركة ما ، وإن كانت خفيّة ، إلا أنّ الفتحة ضعيفة في نفسها ، فلا ينبغي أن تخفى لتزاد ضعفا ؛ ولذلك لم يجز القراء رومها وقفا لضعفها ، وقرأ (٥) الأعمش : «تعتدوا» بالأصل الذي أدغمه نافع.

ثم قال (وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً) قال القفال (٦) : الميثاق الغليظ : هو العهد المؤكّد غاية التّوكيد.

قوله : (فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ) : في «ما» هذه وجهان :

أحدهما : أنها زائدة بين الجارّ ومجروره تأكيدا.

والثاني : أنها نكرة تامّة ، و «نقضهم» بدل منه ، وهذا كما تقدّم في [قوله] (فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ) [آل عمران : ١٥٩]. و «نقض» مصدر مضاف لفاعله ، و «ميثاقهم» مفعوله ، وفي متعلّق الباء الجارة ل «ما» هذه وجهان :

أحدهما : أنه «حرّمنا» المتأخّر في قوله : (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا)(٧) وعلى هذا ، فيقال : «فبظلم» متعلّق ب «حرّمنا» أيضا ، فيلزم أن يتعلق حرفا جرّ متحدان لفظا ومعنى بعامل واحد ؛ وذلك لا يجوز إلا مع العطف أو البدل ، وأجابوا عنه بأن قوله «فبظلم» بدل من قوله «فبما» بإعادة العامل ، فيقال : لو كان بدلا لما دخلت عليه فاء

__________________

(١) ينظر : تفسير الرازي ١١ / ٧٦.

(٢) سقط في ب.

(٣) في ب : اسكتوا.

(٤) ينظر : السبعة ٢٤٠ ، والحجة ٣ / ١٩٠ ، وحجة القراءات ٢١٨ ، والعنوان ٨٦ ، وإعراب القراءات ١ / ١٣٩ ، وشرح الطيبة ٤ / ٢٢١ ، ٢٢٢ ، وشرح شعلة ٣٤٦ ، وإتحاف ١ / ٥٢٤.

(٥) وقرأ بها الحسن كما في المحرر الوجيز ٢ / ١٣٢ ، وقرأ بها الأخفش كما في البحر ٣ / ٤٠٣ ، وينظر : الدر المصون ٢ / ٤٥٥.

(٦) ينظر : تفسير الرازي ١١ / ٧٧.

(٧) في الآية : ٦٠.

١٠٧

العطف ؛ لأن البدل تابع بنفسه من غير توسّط حرف عطف ، وأجيب عنه بأنه لمّا طال الكلام بين البدل والمبدل منه ، أعاد الفاء للطّول ، ذكر ذلك أبو البقاء (١) والزّجّاج (٢) والزمخشريّ وأبو بكر وغيرهم.

وردّه أبو حيان (٣) بما معناه أنّ ذلك لا يجوز لطول الفصل بين المبدل والبدل ، وبأنّ المعطوف على السبب سبب ، فيلزم تأخّر بعض أجزاء السبب الذي للتحريم في الوقت عن وقت التحريم ؛ فلا يمكن أن يكون سببا أو جزء سبب إلا بتأويل بعيد ، وذلك أن قولهم : «إنّا قتلنا المسيح» وقولهم على مريم البهتان إنما كان بعد تحريم الطيبات ، قال : «فالأولى أن يكون التقدير : لعنّاهم ، وقد جاء مصرّحا به في قوله : فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم».

والثاني : أنه متعلق بمحذوف ، فقدّره ابن عطيّة : لعنّاهم وأذللناهم وختمنا على قلوبهم ، قال : «وحذف جواب مثل هذا الكلام بليغ» ، وتسمية مثل هذا «جواب» غير معروف لغة وصناعة ، وقدّره أبو البقاء (٤) : «فبما نقضهم ميثاقهم طبع على قلوبهم ، أو لعنوا ، وقيل : تقديره : فبما نقضهم لا يؤمنون ، والفاء زائدة». [أي : في قوله تعالى : (فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلاً)]. انتهى. وهذا الذي أجازه أبو البقاء تعرّض له الزمخشريّ ، وردّه ، فقال : «فإن قلت: فهلّا زعمت أنّ المحذوف الذي تعلّقت به الباء ما دلّ عليه قوله «بل طبع الله ، فيكون التقدير : فبما نقضهم طبع الله على قلوبهم ، بل طبع الله عليها بكفرهم قلت : لم يصحّ لأن قوله : (بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ) ردّ وإنكار لقولهم : (قُلُوبُنا غُلْفٌ) ، «فكان متعلقا به» ، قال أبو حيان (٥) : «وهو جواب حسن ، ويمتنع من وجه آخر ، وهو أنّ العطف ب «بل» للإضراب ، والإضراب إبطال ، أو انتقال ، وفي كتاب الله في الإخبار لا يكون إلا للانتقال ، ويستفاد من الجملة الثانية ما لا يستفاد من الأولى ، والذي قدّره الزمخشريّ لا يسوغ فيه الذي قرّرناه ؛ لأنّ قوله: فبما نقضهم ميثاقهم وكفرهم بآيات الله وقولهم قلوبنا غلف بل طبع الله عليها [هو مدلول الجملة التي صحبتها «بل» ، فأفادت الثانية ما أفادت الأولى ، ولو قلت : مرّ زيد بعمرو ، بل مرّ زيد بعمرو ، لم يجز». وقدّره الزمخشري : فعلنا بهم ما فعلنا ، وتقدّم الكلام على الكفر بآيات الله ، وقتلهم الأنبياء بغير حقّ في البقرة.

وأمّا قولهم : (قُلُوبُنا غُلْفٌ) جمع غلاف ، والأصل «غلف» بتحريك اللّام ، وخفّف كما قيل بالتّسكين ؛ ككتب ورسل بتسكين التاء والسّين والمعنى على هذا : أنهم قالوا :

__________________

(١) ينظر : الإملاء ١ / ٢٠٠.

(٢) ينظر : معاني القرآن ١ / ١٣٩.

(٣) ينظر : البحر المحيط ٣ / ٤٠٤.

(٤) ينظر : الإملاء ١ / ٢٠٠.

(٥) ينظر : البحر المحيط ٣ / ٤٠٤.

١٠٨

قلوبنا غلف ، أي : أوعية للعلم ، فلا حاجة بنا (١) إلى علم سوى ما عندنا ، فكذّبوا الأنبياء بهذا القول.

وقيل : إن غلفا جمع أغلف (٢) وهو المغطّى بالغلاف ، أي : بالغطاء ، والمعنى على هذا : أنّهم قالوا : قلوبنا في أغطية ، [فهي](٣) لا تفقه ما تقولون ؛ نظيره قولهم : (قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ) [فصلت : ٥].

قوله : (بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْها) هذا إضراب عن الكلام المتقدّم ، أي : ليس الأمر كما قالوا من قولهم : (قُلُوبُنا غُلْفٌ) ، وأظهر القرّاء لام بل في «طبع» إلا الكسائي (٤) ، فأدغم من غير خلاف ، وعن حمزة خلاف ، والباء في «بكفرهم» يحتمل أن تكون للسببية ، وأن تكون للآلة ؛ كالباء في «طبعت بالطّين على الكيس» يعني أنه جعل الكفر كالشيء المطبوع به ، أي : مغطّيا عليها ، فيكون كالطابع ، وقوله : (إِلَّا قَلِيلاً) يحتمل النصب على نعت مصدر محذوف ، أي : إلا إيمانا قليلا وهو إيمانهم بموسى والتّوراة فقط ، وقد تقدم أن الإيمان بالبعض دون البعض كفر ، ويحتمل كونه نعتا لزمان محذوف ، أي : زمانا قليلا ، ولا يجوز أن يكون منصوبا على الاستثناء من فاعل «يؤمنون» أي : إلّا قليلا منهم فإنّهم يؤمنون ؛ لأنّ الضّمير في «لا (يُؤْمِنُونَ) عائد على المطبوع على قلوبهم ، ومن طبع على قلبه بالكفر ، فلا يقع منه الإيمان.

[والجواب أنّه من إسناد ما للبعض للكلّ ، أي : في قوله : (بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ) فتأمّل](٥).

وقال البغوي (٦) : (إِلَّا قَلِيلاً) يعني : ممّن كذّب الرّسل [لا](٧) من طبع (٨) على قلبه ؛ لأنّ من طبع الله على قلبه ، لا يؤمن أبدا ، وأراد بالقليل : عبد الله بن سلام وأصحابه.

قوله : «وبكفرهم» : فيه وجهان :

أحدهما : أنه معطوف على «ما» في قوله : (فَبِما نَقْضِهِمْ) فيكون متعلّقا بما تعلّق به الأول.

الثاني : أنه عطف على «بكفرهم» الذي بعد «طبع» ، وقد أوضح الزمخشريّ ذلك غاية الإيضاح ، واعترض وأجاب بأحسن جواب ، فقال : «فإن قلت : علام عطف قوله «وبكفرهم»؟ قلت : الوجه أن يعطف على (فَبِما نَقْضِهِمْ) ، ويجعل قوله : (بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْها

__________________

(١) في ب : لنا.

(٢) في أ : أغلفة.

(٣) سقط في أ.

(٤) ينظر : السبعة ١٢٣.

(٥) سقط في أ.

(٦) ينظر : تفسير البغوي ١ / ٤٩٦.

(٧) سقط في ب.

(٨) في ب : يطبع.

١٠٩

بِكُفْرِهِمْ) كلاما يتبع قوله : (وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ) على وجه الاستطراد ، ويجوز عطفه على ما يليه من قوله «بكفرهم» ، فإن قلت : فما معنى المجيء بالكفر معطوفا على ما فيه ذكره؟ سواء عطف على ما قبل الإضراب ، أو على ما بعده ، وهو قوله : (وَكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللهِ) ، وقوله «بكفرهم»؟ قلت : قد تكرر منهم الكفر ؛ لأنهم كفروا بموسى ، ثم بعيسى ، ثم بمحمد ، فعطف بعض كفرهم على بعض ، أو عطف مجموع المعطوف على مجموع المعطوف عليه ؛ كأنه قيل : فبجمعهم بين نقض الميثاق ، والكفر بآيات الله ، وقتل الأنبياء ، وقولهم : قلوبنا غلف ، وجمعهم بين كفرهم وبهتهم مريم وافتخارهم بقتل عيسى ؛ عاقبناهم ، أو بل طبع الله عليها بكفرهم وجمعهم بين كفرهم كذا وكذا».

قوله : [(وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ)] (بُهْتاناً عَظِيماً) في نصب [«بهتانا»] خمسة أوجه :

أظهرها : أنه مفعول به ؛ فإنه مضمن معنى «كلام» ؛ نحو : قلت خطبة وشعائرا.

الثاني : أنه منصوب على نوع المصدر ، كقولهم : «قعد القرفصاء» يعني : أن القول يكون بهتانا وغير بهتان.

الثالث : أن ينتصب نعتا لمصدر محذوف ، أي : قولا بهتانا ، وهو قريب من معنى الأول.

الرابع : أنه منصوب بفعل مقدر من لفظه ، أي : بهتوا بهتانا.

الخامس : أنه حال من الضمير المجرور في قولهم ، أي : مباهتين ، وجاز مجيء الحال من المضاف إليه ؛ لأنه فاعل معنى ، والتقدير : وبأن قالوا ذلك مباهتين.

فصل في المقصود بالبهتان

والمراد بالبهتان : أنهم رموا مريم بالزنا ، لأنهم أنكروا قدرة الله ـ تعالى ـ على خلق الولد من غير أب ، ومنكر قدرة الله على ذلك كافر ؛ لأنه يلزم أن يقول : كل ولد مسبوق بوالد لا إلى أول ، وذلك يوجب القول بقدم العالم والدهر ، والقدح في وجود الصانع المختار ، فالقوم أولا أنكروا قدرة الله ـ تعالى ـ على خلق الولد من غير أب ، وثانيا : نسبوا مريم إلى الزنا.

فالمراد بقوله : «وبكفرهم» هو إنكارهم قدرة الله ـ تعالى ـ ، وبقوله : (وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً) نسبتهم إياها إلى الزنا ، ولما حصل التغير (١) حسن العطف ، وإنما صار هذا الطعن بهتانا عظيما ؛ لأنه ظهر عند ولا دة عيسى ـ عليه‌السلام (٢) ـ [من](٣) الكرامات

__________________

(١) في ب : التغاير.

(٢) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(٣) سقط في ب.

١١٠

والمعجزات ، ما دل على براءتها (١) من كل عيب ، نحو قوله : (وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا) [مريم : ٢٥] وكلام عيسى ـ [عليه‌السلام](٢) ـ طفلا منفصلا عن أمه ، فإن كل ذلك دلائل قاطعة على براءة مريم ـ [عليها‌السلام](٣) ـ من كل ريبة ، فلا جرم وصف الله ـ [تعالى](٤) ـ [طعن](٥) اليهود فيها بأنه بهتان عظيم.

واعلم أنه لما وصف طعن اليهود في مريم بأنه بهتان عظيم ، وو صف طعن المنافقين في عائشة بأنه بهتان عظيم ، حيث قال : (سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ) [النور : ١٦] ؛ دل ذلك على أن الروافض الذين يطعنون في عائشة ، بمنزلة اليهود الذين يطعنون في مريم ـ عليها‌السلام ـ.

قوله : «وقولهم» عطف على «وكفرهم» ، وكسرت «إن» لأنها مبتدأ بعد القول وفتحها لغة.

و «عيسى» بدل من «المسيح» ، أو عطف بيان ، وكذلك «ابن مريم» ، ويجوز أن يكون صفة أيضا ، وأجاز أبو البقاء (٦) في (رَسُولَ اللهِ) هذه الأوجه الثلاثة ، إلا أن البدل بالمشتقات قليل ، وقد يقال : إن (رَسُولَ اللهِ) جرى مجرى الجوامد ، وأجاز فيه أن ينتصب بإضمار «أعني» ، ولا حاجة إليه. قوله «شبه لهم» : «شبه» مبني للمفعول ، وفيه وجهان :

أحدهما : أنه مسند للجار بعده ؛ كقولك : «خيل إليه ، ولبس عليه» [كأنه قيل : ولكن وقع لهم التشبيه].

والثاني : أنه مسند لضمير المقتول الذي دل عليه قولهم : «إنا قتلنا» أي : ولكن شبه لهم من قتلوه ، فإن قيل : لم لا يجوز أن يعود على المسيح؟ فالجواب : أن المسيح مشبه به [لا مشبه].

فصل

وهذا القول منهم يدل على كفر عظيم منهم ؛ لأن قولهم : فعلنا ذلك ، يدل على رغبتهم في قتله [بجد واجتهاد](٧) ، وهذا القدر كفر عظيم.

فإن قيل : اليهود كانوا كافرين بعيسى ـ عليه‌السلام ـ أعداء له ، عامدين لقتله ، يسمونه الساحر ابن الساحرة ؛ والفاعل ابن الفاعلة ، فكيف قالوا : إنا قتلنا المسيح [عيسى](٨) ابن مريم رسول الله؟.

__________________

(١) في أ : برائها.

(٢) سقط في أ.

(٣) سقط في أ.

(٤) سقط في ب.

(٥) سقط في أ.

(٦) ينظر : الإملا ١ / ٢٠١.

(٧) سقط في ب.

(٨) سقط في أ.

١١١

فالجواب من وجهين (١) :

الأول : أنهم قالوه على وجه الاستهزاء ؛ كقول فرعون : (إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ) [الشعراء : ٢٧] وقول كفار قريش لمحمد ـ عليه‌السلام ـ : (يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ) [الحجر : ٦].

الثاني : أنه يجوز أن يضع (٢) الله الذكر الحسن مكان ذكرهم القبيح في الحكاية عنهم ؛ رفعا لعيسى ابن مريم ـ عليه‌السلام ـ عما كانوا يذكرونه به.

ثم قال ـ تعالى ـ : (وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ).

واعلم أن اليهود لما زعموا أنهم قتلوا المسيح ، كذبهم الله في هذه الدعوى ، فقال ... الآية.

فإن قيل : إذا جاز أن يلقي الله ـ تعالى ـ شبه إنسان على إنسان آخر ، فهذا يفتح باب السفسطة ، فإذا رأينا زيدا فلعله ليس بزيد ، ولكنه ألقى شبه زيد عليه ، وعند ذلك لا يبقى الطلاق والنكاح والملك موثوقا به ، وأيضا يفضي إلى القدح في التواتر ؛ لأن خبر التواتر إنما يفيد العلم بشرط انتهائه إلى المحسوس ، فإذا جوزنا حصول مثل هذا الشبه في المحسوسات ، يوجه الطعن في التواتر ، وذلك يوجب القدح في جميع الشرائع ، وليس لمجيب أن يجيب عنه ؛ بأن ذلك مختص بزمان الأنبياء ـ [عليهم الصلاة والسلام](٣) ـ ؛ لأنا نقول : لو صح ما ذكرتم ، فذلك إنما يعرف بالدليل والبرهان ، فمن لم يعلم ذلك الدليل وذلك البرهان ، وجب ألا يقطع بشيء من المحسوسات ، فتوجه الطعن في التواتر ، وو جب ألا يعتمد على شيء من الأخبار المتواترة.

وأيضا : ففي زماننا إن انسدت المعجزات ، فطريق الكرامات مفتوح ، وحينئذ يعود (٤) الاحتمال المذكور في جميع الأزمنة ، وبالجملة ففتح هذا الباب يوجب الطعن في التواتر ، والطعن في التواتر يوجب الطعن في نبوة [جميع](٥) الأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ ، وإذا (٦) كان هذا يوجب الطعن في الأصول ، كان مردودا.

فالجواب : قال كثير من المتكلمين (٧) : إن اليهود لما قصدوا قتله ، رفعه الله إلى السماء ، فخاف رؤساء اليهود من وقوع الفتنة بين عوامهم ، فأخذوا إنسانا وقتلوه وصلبوه ، وألبسوا على الناس أنه هو المسيح ، والناس ما كانوا يعرفون المسيح إلا بالاسم ؛ لأنه كان قليل المخالطة للناس ، وإذا كان اليهود هم الذين ألبسوا على الناس ، زال (٨) السؤال ،

__________________

(١) في ب : وجوه.

(٢) في أ : يقبح.

(٣) سقط في أ.

(٤) في ب : فيعود.

(٥) سقط في ب.

(٦) في ب : فإذا.

(٧) ينظر : تفسير الرازي ١١ / ٧٩.

(٨) في ب : زوال.

١١٢

ولا يقال : إن النصارى ينقلون عن أسلافهم أنهم شاهدوه مقتولا ؛ لأن تواتر النصارى ينتهي إلى أقوام قليلين ، لا يبعد اتفاقهم على الكذب ، وقيل غير ذلك ، وقد تقدم بقية الكلام على الأسئلة الواردة هنا عند قوله : (إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَ) في سورة آل عمران [الآية : ٥٥].

ثم قال : (وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ) هذا الاختلاف فيه قولان :

الأول : أنهم هم النصارى كلهم متفقون على أن اليهود قتلوه ، إلا أنهم ثلاث فرق :نسطورية ، وملكانية ، ويعقوبية :

فالنسطورية : زعموا أن المسيح صلب من جهة ناسوته ، لا من جهة لا هوته ، وهو قول أكثر الحكماء ؛ لأن الإنسان ليس عبارة عن هذا الهيكل (١) ، بل هو إما جسم شريف في هذا البدن ، وإما جوهر روحاني مجرد في ذاته ، وهو مدبر لهذا البدن ، والقتل إنما ورد هلى هذا الهيكل ، وأما حقيقة نفس عيسى ، فالقتل ما ورد عليها ، ولا يقال : كل إنسان كذلك ، فما وجه هذا التخصيص؟ لأنا نقول إن نفسه كانت قدسية علوية سماواة ، شديدة الإشراق بالأنوار الإلهية ، وإذا كانت كذلك ، لم يعظم تألمها (٢) بسبب القتل وتخريب البدن ، ثم إنها بعد الانفصال عن ظلمة البدن ، تتخلص إلى فسحة (٣) السماوات وأنوار عالم الجلال ، فتعظم بهجتها وسعادتها هناك ، وهذه الأحوال غير حاصلة لكل الناس ، وإنما حصلت لأشخاص قليلين من مبدإ (٤) خلق آدم إلى قيام القيامة ، فهذا فائدة التخصيص.

وأما الملكانية فقالوا : القتل والصلب وصلا إلى اللاهوت بالإحساس والشعور ، لا بالمباشرة.

وقالت اليعقوبية : القتل والصلب وقعا بالمسيح الذي هوجوهر متولد من جوهرين.

فهذا شرح مذاهب النصارى في هذا الباب ، وهو المراد من قوله : (وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ).

والمنزل (٥) الثاني : أن المراد ب (الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ) اليهود ، وفيه وجهان :

الأول : أنهم لما قتلوا الشخص المشبه به ، كان المشبه قد ألقي على وجهه ، ولم يلق على جسده شبه جسد عيسى ، فلما قتلوه ونظروا إلى بدنه ، قالوا : الوجه وجه عيسى والجسد جسد غيره.

__________________

(١) في ب : الكيل.

(٢) في ب : ألمها.

(٣) في أ : فسيحة.

(٤) في أ : بعد.

(٥) في ب : والقول.

١١٣

والثاني : قال السدي (١) : إن اليهود حبسوا عيسى ـ عليه‌السلام ـ مع عشرة من الحواريين في بيت ، فدخل عليه رجل من اليهود ليخرجه ويقتله ، فألقى (٢) الله شبه عيسى ـ عليه‌السلام ـ على ذلك الرجل ، ورفع عيسى إلى السماء ، فأخذوا ذلك الرجل فقتلوه على أنه عيسى ـ عليه‌السلام ـ ، ثم قالوا [إن كان هذا عيسى فأين صاحبنا ، وإن كان صاحبنا فأين عيسى](٣) ، فذلك اختلافهم فيه.

قوله : (لَفِي شَكٍّ مِنْهُ) : «منه» في محل جر صفة ل «شك» يتعلق بمحذوف ، ولا يجوز أن تتعلق فضلة بنفس «شك» ؛ لأن الشك إنما يتعدى ب «في» لا ب «من» ، ولا يقال : إن «من» بمعنى «في» ؛ فإن ذلك قول مرجوح ، ولا ضرورة لنا به هنا.

وقوله : (ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ) يجوز في (مِنْ عِلْمٍ) وجهان :

أحدهما : أنه مرفوع بالفاعلية ، والعامل أحد الجارين : إما «لهم» وإما «به» ، وإذا جعل أحدهما رافعا له ، تعلق الآخر بما تعلق به الرافع من الاستقرار المقدر ، و «من» زائدة لوجود شرطي الزيادة.

والوجه الثاني : أن يكون (مِنْ عِلْمٍ) مبتدأ زيدت فيه «من» أيضا ، وفي الخبر احتمالان :

أحدهما : أن يكون «لهم» فيكون : «به» : إما حالا من الضمير المستكن في الخبر ، والعامل فيها الاستقرار المقدر ، وإما حالا من «علم» ، وإن كان نكرة ؛ لتقدمها عليه ، ولا عتماده على نفي ، فإن قيل : يلزم تقدم حال المجرور بالحرف عليه ، وهو ضرورة ، لا يجوز في سعة الكلام.

فالجواب : أنا لا نسلم ذلك ، بل نقل أبو البقاء (٤) وغيره ؛ أن مذهب أكثر البصريين جواز ذلك ، ولئن سلمنا أنه لا يجوز إلا ضرورة ، لكن المجرور هنا مجرور بحرف جر زائد ، والزائد في حكم المطرح ، وأما أن يتعلق بمحذوف على سبيل البيان ، أي : أعني به ، ذكره أبو البقاء (٥) ، ولا حاجة إليه ، ولا يجوز أن يتعلق بنفس «علم» ؛ لأن معمول المصدر لا يتقدم عليه.

والاحتمال الثاني : أن يكون «به» هو الخبر ، و «لهم» متعلق بالاستقرار ؛ كما تقدم ، ويجوز أن تكون اللام مبينة مخصصة كالتي في قوله : (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) [الإخلاص : ٤]. وهذه الجملة المنفية تحتمل ثلاثة أوجه : الجر على أنها صفة ثانية ل «شك» أي : غير معلوم.

__________________

(١) ينظر : تفسير الرازي ١١ / ٨٠.

(٢) في ب : ألقى.

(٣) سقط في أ.

(٤) ينظر : الإملا ١ / ٢٠١.

(٥) ينظر السابق.

١١٤

الثاني : النصب على الحال من «شك» ، وجاز ذلك ، وإن كان نكرة لتخصصه بالوصف بقوله «منه».

الثالث : الاستئناف ، ذكره أبو البقاء ، وهو بعيد.

قوله : (إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِّ) في هذا الاستثناء قولان :

أصحهما : ولم يذكر الجمهور غيره : أنه منقطع ؛ لأن اتباع الظن ليس من جنس العلم ، [قال شهاب الدين :](١) ، ولم يقرأ فيما علمت إلا بنصب «اتباع» على أصل الاستثناء المنقطع ، وهي لغة الحجاز ، ويجوز في تميم الإبدال من «علم» لفظا ، فيجر ، أو على الموضع ، فيرفع ؛ لأنه مرفوع المحل ؛ كما قدمته لك ، و «من» زائدة فيه.

والثاني ـ قاله ابن عطية ـ : أنه متصل ، قال : «إذ العلم والظن يضمهما جنس أنهما من معتقدات اليقين ، يقول الظان على طريق التجوز : «علمي في هذا الأمر كذا» إنما يريد ظني» انتهى ، وهذا غير موافق عليه ؛ لأن الظن ما ترجح فيه أحد الطرفين ، واليقين ما جزم فيه بأحدهما ، وعلى تقدير التسليم فاتباع الظن ليس من جنس العلم ، بل هو غيره ، فهو منقطع أيضا ، أي : ولكن اتباع الظن حاصل لهم.

ويمكن أن يجاب شهاب الدين عما رد به على ابن عطية : بأن العلم قد يطلق على الظن ، فيكون من جنسه ؛ كقوله ـ تعالى ـ (الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ) [البقرة : ٤٦] وأراد : يعلمون ، وقوله : (حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا) [يوسف : ١١٠] أي : تيقنوا ، وقوله : (وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها) [الكهف : ٥٣] وإذا كان يصح إطلاقه عليه ، صار الاستثناء متصلا.

فصل في دفع شبهة لمنكري القياس

احتج نفاة القياس بهذه الآية ، وقالوا : العمل بالقياس من اتباع الظن ، وهو مذموم ؛ لأن الله ـ تعالى ـ ذكر اتباع الظن في معرض الذم هاهنا ، وذم الكفار في سورة الأنعام بقوله : (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ)(٢)(إِلَّا يَخْرُصُونَ) [الأنعام : ١١٦] وقال : (إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً) [يونس : ٣٦] فدل ذلك على أن اتباع الظن مذموم.

والجواب : لا نسلم أن العمل بالقياس [من اتباع الظن ؛ فإن الدليل القاطع لما دل على العمل بالقياس](٣) ، كان الحكم المستفاد من القياس معلوما لا مظنونا.

قوله : (وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً) الضمير في «قتلوه» فيه أقوال :

أظهرها : أنه ل «عيسى» ، وعليه جمهور المفسرين.

__________________

(١) ينظر : الدر المصون ٢ / ٤٥٨.

(٢) في أ : أنتم.

(٣) سقط من ب.

١١٥

والثاني ـ وبه قال ابن قتيبة والفراء (١) ـ : أنه يعود على العلم ، أي : ما قتلوا العلم يقينا ، على حد قولهم : «قتلت العلم والرأي يقينا» و «قتلته علما» ، ووجه المجاز فيه : أن القتل للشيء يكون عن قهر واستعلاء ؛ فكأنه قيل : وما كان علمهم علما أحيط به ، إنما كان عن ظن وتخمين.

الثالث ـ وبه قال ابن عباس والسدي وطائفة كبيرة ـ : أنه يعود للظن تقول : «قتلت هذا علما ويقينا» ، أي : تحققت ، فكأنه قيل : وما صح ظنهم عندهم وما تحققوه يقينا ، ولاقطعوا الظن باليقين.

قوله : «يقينا» فيه خمسة أوجه :

أحدها : أنه نعت مصدر محذوف ، أي : قتلا يقينا.

الثاني : أنه مصدر من معنى العامل قبله ؛ كما تقدم مجازه ؛ لأنه في معناه ، أي : وما تيقنوه يقينا.

الثالث : أنه حال من فاعل «قتلوه» ، أي : وما قتلوه متيقنين لقتله.

الرابع : أنه منصوب بفعل من لفظه حذف للدلالة عليه ، أي : ما تيقنوه يقينا ، ويكون مؤكدا لمضمون الجملة المنفية قبله ، وقدر أبو البقاء (٢) العامل على هذا الوجه مثبتا ، فقال : «تقديره : تيقنوا ذلك يقينا» ، وفيه نظر.

الخامس ـ وينقل عن أبي بكر بن الأنباري ـ : أنه منصوب بما بعد «بل» من قوله : «رفعه الله» ، وأن في الكلام تقديما وتأخيرا ، أي : بل رفعه الله إليه يقينا ، وهذا قد نص الخليل ، فمن دونه على منعه ، أي : أن «بل» لا يعمل ما بعدها فيما قبلها ؛ فينبغي ألا يصح عنه ، وقوله : (بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ) رد لما ادعوه من قتله وصلبه ، والضمير في «إليه» عائد على «الله» على حذف مضاف ، أي : إلى أسمائه ومحل أمره ونهيه.

فصل : إثبات المشبهة للجهة ودفع ذلك

احتج المشبهة بقوله ـ تعالى ـ : (بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ) في إثبات الجهة.

والجواب : أن المراد الرفع إلى موضع لا يجري فيه حكم غير الله ـ تعالى ـ ؛ كقوله (٣) تعالى (وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) [آل عمران : ١٠٩] وقوله ـ تعالى ـ : (وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ) [النساء : ١٠٠] ، وكانت الهجرة في ذلك الوقت ، إلى المدينة.

وقال إبراهيم : (إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي) [الصافات : ٩٩].

فصل : دلالة الآية على رفع عيسى عليه‌السلام

دلت [هذه](٤) الآية على رفع عيسى ـ عليه‌السلام ـ إلى السّماء ، وكذلك قوله :

__________________

(١) ينظر : معاني القرآن ١ / ٢٩٤.

(٢) ينظر : الإملاء ١ / ٢٠١.

(٣) في ب : لقوله.

(٤) سقط في أ.

١١٦

(إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) [آل عمران : ٥٥].

ثم قال : (وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً) ، والمراد بالعزّة : كمال القدرة ، ومن الحكمة : كمال العلم ، نبّه بهذا على أنّ رفع عيسى ـ عليه‌السلام ـ إلى السّموات وإن [كان](١) كالمتعذّر على البشر ، لكنّه لا بدّ فيه من النّسبة إلى قدرتي وحكمتي ؛ كقوله ـ تعالى ـ : (سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً) [الإسراء : ١] فإنّ الإسراء (٢) وإن كان متعذّرا بالنّسبة إلى قدرة محمّد ، إلا أنّه سهل بالنسبة إلى قدرة الله ـ تعالى ـ.

قوله تعالى : (وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً)(١٥٩)

(٣) لما ذكر فضائح اليهود وقبح أفعالهم ، وأنّهم قصدوا قتل عيسى عليه الصلاة والسلام ، وأنّه (٤) لم يحصل لهم ذلك المقصود ، وأنّ عيسى ـ عليه‌السلام ـ حصل له أعظم المناصب ، بيّن أن هؤلاء اليهود الذين بالغوا في عداوته ، لا يخرج أحد منهم من الدّنيا إلا بعد أن يؤمن به ، فقال : (وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ) ، «إن» هنا نافية بمعنى «ما» ، و «من أهل» يجوز فيه وجهان :

أحدهما : أنه صفة لمبتدأ محذوف ، والخبر الجملة القسمية المحذوفة وجوابها ، والتقدير : وما أحد من أهل الكتاب إلّا والله ليؤمننّ به ، فهو كقوله : (وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ) [الصافات: ١٦٤] ، أي : ما أحد منّا ، وكقوله : (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها) [مريم : ٧١] أي : ما أحد منكم إلّا واردها ، هذا هو الظاهر.

والثاني ـ وبه قال الزمخشري وأبو البقاء (٥) ـ : أنه في محلّ الخبر ، قال الزمخشري : «وجملة (لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ) جملة قسمية واقعة صفة لموصوف محذوف ، تقديره : وإن من أهل الكتاب أحد إلّا ليؤمننّ به ، ونحوه : (وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ«وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها) ، والمعنى : «وما من اليهود أحد إلا ليؤمنن» ، قال أبو حيان (٦) : «وهو غلط فاحش ؛ إذ زعم أن (لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ) جملة قسمية واقعة صفة لموصوف محذوف إلى آخره ، وصفة «أحد» المحذوف إنما الجار والمجرور ؛ كما قدّرناه ، وأمّا قوله : (لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ) ، فليست صفة لموصوف ، ولا هي جملة قسمية ، إنما هي جملة جواب القسم ، والقسم محذوف ، والقسم وجوابه خبر للمبتدأ ، إذ لا ينتظم من «أحد» ، والمجرور إسناد ؛ لأنه لا يفيد ، وإنما ينتظم الإسناد بالجملة القسمية وجوابها ، فذلك هو محطّ الفائدة ، وكذلك أيضا الخبر هو (إِلَّا لَهُ مَقامٌ) ، وكذلك (إِلَّا وارِدُها) ؛ إذ لا ينتظم مما قبل «إلّا» تركيب

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) في أ : الإسراف.

(٣) سقط في أ.

(٤) في أ : عليه‌السلام وأنهم.

(٥) ينظر : الإملاء ١ / ٢٠١.

(٦) ينظر : البحر المحيط ٣ / ٤٠٨.

١١٧

إسناديّ». [قال شهاب الدين](١) وهذا ـ كما ترى ـ قد أساء العبارة في حق الزمخشريّ ؛ بما زعم أنه غلط ، وهو صحيح مستقيم ، وليت شعري كيف لا ينتظم الإسناد من «أحد» الموصوف بالجملة التي بعده ، ومن الجارّ قبله؟ ونظيره أن تقول : «ما في الدّار رجل إلّا صالح» فكما أن «في الدار» خبر مقدّم ، و «رجل» مبتدأ مؤخر ، و «إلّا صالح» صفته ، وهو كلام مفيد مستقيم ، فكذلك هذا ، غاية ما في الباب أنّ «إلّا» دخلت على الصفة ؛ لتفيد الحصر ، وأما ردّه عليه حيث قال : جملة قسميّة ، وإنما هي جواب القسم ، فلا يحتاج إلى الاعتذار عنه ، ويكفيه مثل هذه الاعتراضات.

واللام في «ليؤمننّ» جواب قسم محذوف ، كما تقدّم. وقال أبو البقاء (٢) : «ليؤمننّ جواب قسم محذوف ، وقيل : أكّد بها في غير القسم ؛ كما جاء في النفي والاستفهام» ، فقوله : «وقيل ... إلى آخره» إنما يستقيم ذلك ، إذا أعدنا الخلاف إلى نون التوكيد ؛ لأنّ نون التوكيد قد عهد التأكيد بها في الاستفهام باطّراد ، وفي النفي على خلاف فيه ، وأما التأكيد بلام الابتداء في النفي والاستفهام ، فلم يعهد ألبتة ، وقال (٣) أيضا قبل ذلك : «وما من أهل الكتاب أحد ، وقيل : المحذوف «من» وقد مرّ نظيره ، إلا أنّ تقدير «من» هنا بعيد ، لأن الاستثناء يكون بعد تمام الاسم ، و «من» الموصولة والموصوفة غير تامّة» ، يعني أن بعضهم جعل ذلك المحذوف لفظ «من» ، فيقدّر : وإن من أهل من إلّا ليؤمننّ ، فجعل موضع «أحد» لفظ «من» ، وقوله : «وقد مرّ نظيره» ، يعني قوله تعالى : (وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ) [آل عمران : ١٩٩] ومعنى التنظير فيه أنه قد صرّح بلفظ «من» المقدّرة ههنا.

وقرأ أبيّ (٤) : «ليؤمننّ به قبل موتهم» بضم النون الأولى مراعاة لمعنى «أحد» المحذوف ، وهو وإن كان لفظه مفردا ، فمعناه جمع ، والضمير في «به» لعيسى ـ عليه‌السلام ـ ، وقيل : لله تعالى ، وقيل : لمحمّد ـ عليه‌السلام ـ ، وفي «موته» لعيسى ، ويروى في التفسير ؛ أنه حين ينزل إلى الأرض يؤمن به كلّ أحد ، حتى تصير الملّة كلّها إسلامية وهو قول قتادة ، وابن زيد (٥) وغيرهما ، وهو اختيار الطّبريّ.

وقيل : يعود على «أحد» المقدّر ، أي : لا يموت كتابيّ حتى يؤمن بعيسى قبل موته عند المعاينة حين لا ينفعه.

ونقل عن ابن عبّاس ذلك ، فقال له عكرمة : أفرأيت إن خرّ بيت أو احترق أو أكله سبع؟ قال : لا يموت حتّى يحرّك بها شفتيه ، أي : بالإيمان بعيسى (٦).

__________________

(١) ينظر : الدر المصون ٢ / ٤٥٩.

(٢) ينظر : الإملاء ١ / ٢٠٢.

(٣) ينظر : الإملاء ١ / ٢٠١.

(٤) ينظر : البحر المحيط ٣ / ٤٠٨ ، والدر المصون ٢ / ٤٦٠.

(٥) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٩ / ٣٨٠ ، ٣٨١) عن قتادة وابن زيد.

(٦) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٩ / ٣٨٣) عن ابن عباس.

١١٨

وروى شهر بن حوشب [عن الحجّاج ؛ أنه](١) قال يا شهر آية في كتاب الله ما قرأتها إلّا في نفسي منها شيء ، يعني : هذه الآية ؛ فإني أضرب عنق اليهودي ، ولا أسمع منه ذلك (٢) ، فقلت : إن اليهودي إذا حضره الموت ضربت الملائكة وجهه ودبره ، وقالوا (٣) : يا عدوّ الله ، أتاك عيسى نبيّا فكذّبت [به ، فيقول :](٤) آمنت أنّه عبد الله ، وتقول للنّصرانيّ : أتاك عيسى نبيّا فزعمت أنّه الله وابن الله ، فيقول : آمنت أنه عبد الله ، فأهل الكتاب [يؤمنون](٥) به ، ولكن حيث لا ينفعهم ذلك الإيمان ، فاستوى الحجّاچ جالسا فقال : ممّن نقلت هذا؟ فقال : حدّثني [به](٦) محمد بن عليّ ابن الحنفيّة ، فأخذ ينكت في الأرض بقضيب ، ثم قال : أخذتها من عين صافية (٧).

وقرأ الفيّاض بن غزوان (٨) «وإنّ من أهل الكتاب» بتشديد «إنّ» ، وهي قراءة مردودة لإشكالها.

فصل

روى أبو هريرة عن النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «يوشك أن ينزل فيكم ابن مريم حكما عدلا ، يكسر الصّليب ، ويقتل الخنزير ، ويضع الجزية ، ويفيض المال حتّى لا يقبله أحد ، وتميل (٩) في زمانه الملل كلّها إلى الإسلام ، ويقتل الدّجّال ، فيمكث في الأرض أربعين سنة ، ثم يتوفّى فيصلّي عليه المسلمون» وقال أبو هريرة اقرءوا إن شئتم : (وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ) أي : قبل موت عيسى ابن مريم ـ [عليه‌السلام](١٠) ـ ثم يعيدها أبو هريرة ثلاث مرّات (١١).

قال الزّمخشريّ : والفائدة في إخبار الله ـ تعالى ـ بإيمانهم بعيسى قبل موتهم ـ أنّهم متى علموا أنه (١٢) لا بدّ لهم من الإيمان به لا محالة ، مع كونه لا ينفعهم الإيمان في ذلك الوقت ، فلا يؤمنوا به حال ما ينفعهم ذلك الإيمان.

قوله سبحانه (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ) العامل فيه «شهيدا» وفيه دليل على جواز تقدّم خبر

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) في أ : فلك.

(٣) في أ : ويقولوا.

(٤) سقط في أ.

(٥) سقط في أ.

(٦) سقط في أ.

(٧) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٤٢٧) وعزاه لابن المنذر عن شهر بن حوشب.

(٨) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ١٣٤ ، والبحر المحيط ٣ / ٤٠٩ ، والدر المصون ٢ / ٤٦٠.

(٩) ف ب : وتميل.

(١٠) سقط في أ.

(١١) متفق عليه ، أخرجه البخاري في الصحيح ٤ / ٤١٤ ، كتاب البيوع «باب قتل الخنزير» الحديث (٢٢٢٢) وفي ٦ / ٤٩٠ ـ ٤٩١ ، كتاب الأنبياء : باب نزول عيسى ابن مريم عليهما‌السلام الحديث (٣٤٤٨) ، ومسلم في الصحيح ١ / ١٣٥ ـ ١٣٦ كتاب الإيمان : باب نزول عيسى ابن مريم حاكما بشريعة نبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم الحديث (٢٤٢ / ١٥٥).

(١٢) في ب : أنهم.

١١٩

«كان» عليها ؛ لأنّ تقديم المعمول يؤذن بتقديم العامل ، وأجاز أبو البقاء (١) أن يكون منصوبا ب «يكون» وهذا على رأي من يجيز ل «كان» أن تعمل في الظرف وشبهه ، والضمير في «يكون» لعيسى يعني : يكون عيسى عليهم شهيدا : أنه قد بلّغهم رسالة ربّه ، وأقرّ بالعبوديّة على نفسه مخبرا عنهم و (وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ) [المائدة : ١١٧] وكل نبيّ شاهد على أمّته ، وقيل : الضّمير في «يكون» لمحمّد ـ عليه‌السلام ـ.

قوله تعالى : (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ كَثِيراً (١٦٠) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٦١) لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً)(١٦٢)

قوله ـ تعالى ـ : (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا) الآية لمّا ذكر قبائح أفعال اليهود ، ذكر عقيبه تشديده ـ تعالى ـ عليهم في الدّنيا والآخرة ، أما تشديده في الدّنيا ، فهو تحريم الطّيّبات عليهم وكانت محلّلة لهم قبل ذلك ؛ لقوله ـ تعالى ـ : (وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ) إلى قوله [ـ تعالى ـ](٢) : (ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ) [الأنعام : ١٤٦] وقيل : لمحمدعليه‌السلام.

قوله سبحانه : «فبظلم» : هذا الجارّ متعلّق ب «حرّمنا» والباء سببية ، وإنما قدّم على عامله ؛ تنبيها على قبح سبب التحريم ، وقد تقدّم أنّ قوله : «فبظلم» بدل من قوله : (فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ) ، وتقدّم الردّ على قائله أيضا فأغنى عن إعادته ، و (مِنَ الَّذِينَ) صفة ل «ظلم» أي : ظلم صادر عن الذين هادوا ، وقيل : ثمّ صفة للظلم محذوفة للعلم بها ، أي : فبظلم أي ظلم ، أو فبظلم عظيم ؛ كقوله : [الطويل]

١٩٠٠ ـ فلا وأبي الطّير المربّة بالضّحى

على خالد لقد وقعت على لحم (٣)

أي : لحم عظيم.

قوله جلّ وعلا : (أُحِلَّتْ لَهُمْ) هذه الجملة صفة ل «طيّبات» فمحلّها نصب ، ومعنى وصفها بذلك ، أي : بما كانت عليه من الحلّ ، ويوضّحه قراءة ابن عباس «كانت أحلت لهم» والمراد من ظلمهم : ما تقدّم ذكره من نقض الميثاق ، وكفرهم بآيات الله ، وبهتانهم على مريم ، وقولهم : (إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَحَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ) وهو ما ذكر في سورة الأنعام [الأنعام : ١٤٦] «وبصدّهم» وبصرفهم (٤) أنفسهم وغيرهم (عَنْ سَبِيلِ اللهِ) عن دين الله.

__________________

(١) ينظر : الإملاء ١ / ٢٠٢.

(٢) سقط في أ.

(٣) تقدم.

(٤) في ب : وصرفهم.

١٢٠