اللّباب في علوم الكتاب - ج ٦

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ٦

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٦٣٢

كان إذا غزا قوما ، فإن سمع أذانا كفّ عنهم ، وإن لم يسمع ، أغار عليهم.

وروي عن ابن عصام عن أبيه ؛ أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان إذا بعث سريّة قال : «إذا رأيتم مسجدا أو سمعتم أذانا ، فلا تقتلوا أحدا» (١).

قوله تعالى : (لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً (٩٥) دَرَجاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً)(٩٦)

كما رغّب في الجهاد ، أتبع ذلك ببيان أحكام الجهاد ، ومن أحكامه : التّحذير عن قتل المسلمين على سبيل العمد والخطأ وعلى تأويل الخطأ ، ثم أتبعه بحكم آخر ؛ وهو بيان فضل المجاهد على غيره.

وقيل : لما عاتبهم على قتل المتكلّم بالشّهادة ، فلعلّه وقع في قلوبهم أن الأولى الاحتراز عن الجهاد ؛ للوقوع في مثل هذا المحذور فذكر عقبه (٢) فضل المجاهد على غيره ؛ إزالة لهذه الشّبهة.

قوله (غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ) قرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة وعاصم : «غير» بالرفع ، والباقون : بالنّصب ، والأعمش (٣) : بالجرّ.

والرّفع على وجهين :

أظهرهما : أنه على البدل من «القاعدون» وإنما كان هذا أظهر ؛ لأن الكلام نفي ، والبدل معه أرجح ؛ لما قرّر في علم النّحو.

والثاني : أنه رفع على الصّفة ل «القاعدون» ، ولا بد من تأويل ذلك ؛ لأن «غير» لا تتعرّف بالإضافة ، ولا يجوز اختلاف النّعت والمنعوت تعريفا وتنكيرا ، وتأويله : إمّا بأن القاعدين لمّا لم يكونوا ناسا بأعيانهم ، بل أريد بهم الجنس ، أشبهوا النّكرة فوصفوا كما توصف ، وإمّا بأن «غير» قد تتعرّف إذا وقعت بين ضدّين ، وهذا كما تقدّم في إعراب (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ) [الفاتحة : ٧] في أحد الأوجه ، وهذا كلّه خروج عن الأصول

__________________

(١) أخرجه الحميدي في «مسنده» رقم (٨٢٠) والبزار والطبراني كما في «مجمع الزوائد» (٦ / ٢١٠) من حديث ابن عصام عن أبيه وقال الهيثمي : رواه البزار والطبراني وإسنادهما حسن.

(٢) ينظر : السبعة ٢٣٧ ، والحجة ٣ / ١٧٩ ، وفيه ذكر رواية عن ابن كثير أنه قرأ بالنصب.

وينظر : : حجة القراءات ٢١٠ ، وإعراب القراءات ١ / ١٣٧ ، والعنوان ٨٥ ، وشرح شعلة ٣٤٣ ، وشرح الطيبة ٤ / ٢١٥ ، وإتحاف ١ / ٥١٩.

(٣) وقرأ بالكسر ـ مع الأعمش ـ أبو حيوة كما في : المحرر الوجيز ٢ / ٩٧ ، وينظر : البحر المحيط ٣ / ٣٤٤ ، والدر المصون ٢ / ٤١٧.

٥٨١

المقرّرة ، فلذلك اختير (١) الأوّل ؛ ومثله : [الرمل]

١٨٦٦ ـ وإذا أقرضت قرضا فاجزه

إنّما يجزي الفتى غير الجمل (٢)

برفع «غير» كذا ذكره أبو عليّ ، والرّواية : «ليس الجمل» عند غيره.

وقال الزّجّاج : ويجوز أن يكون «غير» رفعا (٣) على جهة الاستثناء ، والمعنى : لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون ، إلا أولي الضّرر فإنّهم يساوون المجاهدين ، أي : الذين أقعدهم (٤) عن الجهاد الضّرر ، والكلام في رفع المستثنى بعد النفي قد تقدم عند (٥) قوله : (ما فَعَلُوهُ)(٦)(إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ) [النساء : ٦٦].

والنّصب على [أحد](٧) ثلاثة أوجه :

[الأوّل](٨) : النّصب على الاستثناء من «القاعدون» [وهو الأظهر ؛ لأنه المحدّث عنه ، والمعنى : لا يستوي القاعدون](٩) إلا أولي الضّرر ، وهو اختيار الأخفش.

والثاني : من «المؤمنين» وليس بواضح.

والثالث : على الحال من «القاعدون» [والمعنى : لا يستوي القاعدون](١٠) في حال صحّتهم والمجاهدون ؛ كما يقال : جاءني زيد غير مريض ، أي : جاءني زيد صحيحا ، قاله الزّجّاج والفرّاء ؛ وهو كقوله : (أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ) [المائدة : ١].

والجرّ على الصفة للمؤمنين وتأويله كما تقدم في وجه الرفع على الصفة.

قال الأخفش : القراءة بالنّصب على الاستثناء أولى ؛ لأن المقصود منه استثناء قوم لم يقدروا على الخروج ؛ كما روي في التّفسير أنه لما ذكر الله ـ تعالى ـ فضيلة المجاهدين ، جاء قوم من أولي الضرر ، فقالوا للنّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : حالتنا كما ترى ، ونحن نشتهي الجهاد ، فهل لنا من طريق؟ فنزل (غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ) فاستثناهم الله ـ تعالى ـ.

وقال آخرون : القراءة بالرّفع أولى ؛ لأن الأصل في كلمة «غير» أن تكون صفة ، ثم إنها وإن كانت صفة ، فالمقصود والمطلوب من الاستثناء حاصل ؛ لأنّها في كلتا الحالتين أخرجت أولي الضّرر من تلك المفضوليّة ، وإذا كان هذا المقصود حاصلا على كلا التقديرين ، وكان الأصل في كلمة «غير» أن تكون صفة ، كانت القراءة بالرّفع أولى.

فالضّرر النّقصان ، سواء كان بالعمى أو العرج أو المرض ، أو بسبب عدم الأهبة.

__________________

(١) في أ : اخترت.

(٢) تقدم.

(٣) في أ : بالفاء.

(٤) في أ : لقعادهم.

(٥) في ب : في.

(٦) في ب : فعله.

(٧) سقط في أ.

(٨) سقط في ب.

(٩) سقط في أ.

(١٠) سقط في أ.

٥٨٢

فصل

روى ابن شهاب عن سهل بن سعد السّاعدي ـ رضي الله عنه ـ ؛ أنه قال : رأيت مروان بن الحكم جالسا في المسجد ، فأقبلت حتّى جلست إلى جنبه ، فأخبرنا أن زيد بن ثابت ـ رضي الله عنه ـ أخبره ؛ أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أملى عليه «لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله» ، قال : فجاء ابن أمّ مكتوم وهو يمليها عليّ ، فقال : يا رسول الله ، لو أستطيع الجهاد لجاهدت ، وكان رجلا أعمى ، فأنزل الله ـ تعالى ـ عليه وفخذه على فخذي ، فثقلت عليّ حتّى خفت أن ترضّ فخذي ، ثم سري عنه ، فأنزل الله : (غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ)(١) في فضل الجهاد والحثّ عليه.

روى أنس ـ رضي الله عنه ـ ؛ أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لمّا رجع من غزوة تبوك ، فدنا من المدينة فقال : «إن في المدينة لأقواما ما سرتم من مسير ولا قطعتم من واد إلا كانوا معكم فيه ، قالوا : يا رسول الله وهم بالمدينة؟ قال : نعم وهم بالمدينة حبسهم العذر» (٢) ، وروى مقسم عن ابن عبّاس ؛ قال : (لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) عن بدر ، والخارجون إلى (٣) بدر.

وقوله : (فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِهِمْ) كلا الجارّين متعلّق ب «المجاهدون» و «المجاهدون» عطف على القاعدون.

فصل

اختلفوا في هذه الآية : هل تدلّ على أن المؤمنين القاعدين الأضراء ، يساوون المجاهدين أم لا؟.

قال بعضهم : لا تدل ؛ لأنا إن حملنا لفظ «غير» على الصفة ، وقلنا : [إن](٤)

__________________

(١) أخرجه البخاري (٨ / ١٩٥ ـ ١٩٦) كتاب التفسير : باب قوله تعالى : لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ... حديث (٤٥٩٢) والترمذي (٤ / ٩٢) والنسائي (٢ / ٥٤) وأحمد (٥ / ١٨٤) والبيهقي (٩ / ٢٣) وابن الجارود ص (٤٦٠) والطبري في «تفسيره» (٩ / ٩٠) والبغوي في «شرح السنة» (٧ / ٨٧) من حديث زيد بن ثابت وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٣٦١) وزاد نسبته لابن سعد وعبد بن حميد وابن المنذر وأبي نعيم في «الدلائل».

(٢) أخرجه البخاري (٧ / ٧٣٢) كتاب المغازي باب نزول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الحجر (٤٤٢٣) ومسلم (٣ / ١٥١٨) كتاب الإمارة : باب ثواب من حبسه عن الغزو مرض (١٥٩ / ١٩١١) من حديث أنس بن مالك.

(٣) أخرجه البخاري (٨ / ١٠٨) كتاب التفسير : «باب قوله تعالى : لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ...» حديث (٤٥٩٥) والطبري في «تفسيره» (٩ / ٩١) من طريق مقسم عن ابن عباس.

وذكره ابن كثير في «تفسيره» (٢ / ٥٤٩) وقال : انفرد به البخاري دون مسلم وأورده السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٣٦٢) وزاد نسبته لعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.

(٤) سقط في أ.

٥٨٣

التّخصيص بالصّفة لا يدل على نفي الحكم عمّا عداه ، لم يلزم ذلك ، وإن حملناه على الاستثناء ، وقلنأ : [إن](١) الاستثناء من النّفي ليس بإثبات ، لم يلزم أيضا ذلك ، أمّا إذا حملناه على الاستثناء وقلنا : الاستثناء من النّفي إثبات ، لزم القول بالمساواة.

واعلم أن هذه المساواة في حق الأضراء ، عند من يقول بها مشروطة بشرط آخر ذكره الله ـ تعالى ـ في سورة التّوبة ، وهو قوله : (لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى) [التوبة : ٩١] إلى قوله : (إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ) [التوبة : ٩١] ، ويدل على المساواة ما تقدّم في حديث غزوة تبوك.

وتقرير ذلك قوله عليه الصلاة والسلام : «إن بالمدينة قوما ما سلكتم واديا إلّا كانوا معكم» (٢) ، وقال عليه‌السلام : «إذا مرض العبد قال الله ـ تعالى ـ : اكتبوا لعبدي ما كان يعمله في الصحة إلى أن يبرأ» (٣).

وقال المفسّرون (٤) في قوله ـ تعالى ـ : (ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) [التين : ٥ ، ٦] ؛ أن من صار هرما ، كتب له أجر عمله قبل هرمه غير منقوص ، وقالوا في تفسير قوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ «نيّة المؤمن خير من أجر عمله» : إن المؤمن ينوي الإيمان والعمل الصّالح ، لو عاش لهذا لا يحصّل له ثواب تلك النّيّة أبدا.

قوله ـ تعالى ـ : (فَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً) لما بيّن [تعالى](٥) أن المجاهدين والقاعدين لا يستويان ، ثم إن عدم الاستواء يحتمل الزّيادة والنّقصان ، لا جرم بيّنه الله ـ تعالى ـ.

قوله : «درجة» في نصبه أربعة [أوجه :]

أحدها : أنها منصوبة على المصدر ؛ لوقوع «درجة» موقع المرّة من التّفضيل ؛ كأنه قيل : فضّلهم تفضيلة ، نحو : «ضربته سوطا» وفائدة التنكير التّفخيم.

الثاني : أنها حال من «المجاهدين» أي : ذوي درجة.

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) تقدم.

(٣) أخرجه ابن أبي شيبة (٢ / ٢٣٠) عن عطاء مرسلا وللحديث شاهد عن أبي موسى :

أخرجه البخاري (٢ / ٢٤٦) وأبو داود (٣٠٩١) وأحمد (٤ / ٤١٠) والبيهقي (٣ / ٣٧٤) ولفظه : إذا مرض العبد أو سافر كتب له ما كان يعمل مقيما صحيحا.

وللحديث شاهد آخر عن عبد الله بن عمرو بلفظ ما من أحد من المسلمين يبتلى ببلاء في جسده إلا أمر الله الحفظة الذين يحفظونه : اكتبوا لعبدي مثل ما كان يعمل وهو صحيح ما دام محبوسا في وثاقي.

أخرجه أحمد (٢ / ١٩٤) والحاكم (١ / ٣٤٨).

وقال الحاكم : صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.

(٤) ينظر : تفسير الرازي ١١ / ٧.

(٥) سقط في أ.

٥٨٤

الثالث : منصوبة انتصاب الظّرف ، أي : في درجة ومنزلة.

الرابع : انتصابها على إسقاط الجارّ (١) أي : بدرجة.

فلما حذف الجارّ ، وصل الفعل فعمل ، وقيل : نصب على التّمييز.

قوله : (وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى) «كلّا» مفعول أول ل «وعد» مقدما عليه ، و «الحسنى» مفعول ثان ، وقرىء (٢) : «وكلّ» على الرّفع بالابتداء ، والجملة بعده خبره ، والعائد محذوف ، أي : وعده ؛ وهذه كقراءة ابن عامر في سورة الحديد : (وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى) [الحديد : ١٠].

والمعنى : كلّا من القاعدين والمجاهدين ، فقد وعده الله الحسنى.

قال الفقهاء : وهذا يدلّ على أن الجهاد فرض كفاية ، وليس على كلّ واحد بعينه ؛ لأنه ـ تعالى ـ وعد القاعدين الحسنى كما وعد المجاهدين ، ولو كان الجهاد واجبا على كلّ أحد على التّعيين ، لما كان القاعد أهلا لوعد الله إيّاه الحسنى.

وقيل : أراد ب «القاعدين» هنا : أولي الضّرر ، فضّل الله المجاهدين عليهم درجة ؛ لأن المجاهد باشر الجهاد مع النّيّة ، وأولو الضّرر لهم نيّة بلا مباشرة ، فنزلوا عنهم درجة وعلى هذا نزول الدّلالة.

قوله ـ تعالى ـ : (وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً) في انتصاب «أجرا» أربعة أوجه :

أحدها : النّصب على المصدر من معنى الفعل الذي قبله لا من لفظه ؛ لأن معنى (فَضَّلَ اللهُ): آجر ؛ فهو كقوله : أجرهم أجر ، ثم قوله ـ تعالى ـ : (دَرَجاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً) بدل من قوله : «أجرا».

الثاني : أنه انتصب على إسقاط الخافض ، أي : فضلهم بأجر.

الثالث : النّصب على أنّه مفعول ثاني ؛ لأنه ضمّن فضّل معنى أعطى ، أي : أعطاهم أجرا تفضلا منه.

الرابع : أنه حال من درجات](٣).

قال الزمخشري (٤) : «وانتصب «أجرا» على الحال من النّكرة التي هي «درجات» مقدّمة عليها» وهو غير ظاهر ؛ لأنه لو تأخّر عن «درجات» لم يجز أن يكون نعتا ل «درجات» لعدم المطابقة ؛ لأنّ «درجات» جمع ، و «أجرا» مفرد ، كذا ردّه بعضهم ، وهي غفلة ؛ فإنّ «أجرا» مصدر ، والأفصح فيه أن يوحّد ويذكّر مطلقا ، [وقيل : انتصب على التّمييز ، و «درجات» عطف بيان].

__________________

(١) في ب : الباء.

(٢) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٣٤٧ ، والدر المصون ٢ / ٤١٧.

(٣) سقط في أ.

(٤) ينظر : الكشاف ١ / ٥٥٤.

٥٨٥

قوله ـ تعالى ـ : «درجات» : فيه ستّة أوجه :

الأربعة المذكورة في «درجة».

والخامس : أنه بدل من «أجرا».

السادس : ذكره ابن عطيّة أنه منصوب بإضمار فعل ، على أن يكون تأكيدا للأجر ؛ كما تقول: «لك عليّ ألف درهم عرفا» كأنك قلت : أعرفها عرفا ، وفيه نظر ، و (مَغْفِرَةً وَرَحْمَةً) عطف على «درجات» ، ويجوز فيهما النّصب بإضمار فعلهما [تعظيما] ، أي : وغفر لهم مغفرة ، ورحمهم رحمة.

فإن قيل : إنه ـ تعالى ـ لم ذكر أولا «درجة» وههنا «درجات»؟

فالجواب من وجوه :

أحدها : ليس المراد بالدّرجة الواحدة بالعدد ، بل الواحد بالجنس ، فيدخل تحته الكثير بالنّوع.

وثانيها : أن المجاهد أفضل [بالضّرورة](١) من القاعد المضرور [بدرجة](٢) ومن القاعد الصّحيح [بدرجات](٣) وهذا على القول بعدم المساواة بين المجاهدين والأضرّاء.

وثالثها : فضّل المجاهدين في الدّنيا بدرجة واحدة ، وهي الغنيمة ، وفي الآخرة بدرجات كثيرة في الجنّة.

ورابعها : أن المراد ب «المجاهدين» في الأولى : المجاهدين بأموالهم وأنفسهم ، وههنا المراد ب «المجاهدين» : من كان مجاهدا على الإطلاق في كلّ الأمور ، وأعني : في عمل الظّاهر ؛ كالجهاد بالنفس والمال (٤) والحج ، وعلى العبادات كلّها ، وفي أعمال القلوب وهو أشرف أنواع الجهاد ؛ لأنه صرف القلب (٥) من الالتفات إلى غير الله إلى الاستغراق في طاعة الله.

فصل

ذكر المفسّرون معنى «الدرجات».

قال ابن جبير (٦) في هذه الآية هي سبعون درجة ، ما بين كل درجتين (٧) عدو الفرس الجواد المضمر سبعين خريفا (٨).

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) سقط في ب.

(٣) سقط في أ.

(٤) في ب : بالمال والنفس.

(٥) في أ : الحلم.

(٦) في ب : ابن محيريز.

(٧) في أ : درجة.

(٨) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٩ / ٩٨) عن ابن محيريز وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٣٦٤) وزاد نسبته لعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.

وأخرجه عبد الرزاق في مصنفه عن أبي مجلز كما في «الدر المنثور» (٢ / ٣٦٤).

٥٨٦

وقيل : الدّرجات هي الإسلام والهجرة والجهاد والشّهادة ، فاز بها المجاهدون.

فصل : في حكم الجهاد

والجهاد في الجملة فرض ، غير أنه ينقسم إلى فرض العين وفرض الكفاية ، ففرض العين أن يدخل العدوّ دار قوم من المؤمنين ، فيجب على كلّ مكلّف من الرّجال ممن لا عذر له من أهل تلك البلدة الخروج إلى عدوّهم ، حرا كان أو عبدا ، غنيا كان أو فقيرا ، دفعا عن أنفسهم وعن جيرانهم ، وهو في حقّ من بعد منهم من المسلمين فرض على الكفاية ، فإن لم يقع الكفاية بمن نزل بهم ، يجب على من بعد منهم من المسلمين عونهم ، وإن وقعت الكفاية بالنّازلين بهم ، فلا فرض على الأبعدين ، ولا يدخل في هذا القسم العبيد والفقراء ، فإذا كان الكفّار قادرين في بلادهم ، فعلى الإمام ألا يخلّي كلّ سنة عن غزوة يغزوها بنفسه أو بسراياه ، حتى لا يكون الجهاد معطلا.

فصل : رد شبهة الشيعة

قالت الشّيعة : عليّ كان من المجاهدين ، وأبو بكر من القاعدين ، فيكون عليّ أفضل ؛ للآية ، فيقال لهم : مباشرة علي للقتال أكثر مباشرة من النّبيّ (١) صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فيكون أفضل منه ، وهذا لا يقوله عاقل ، فإن قالوا : جهاد النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأنه في إظهار الدّين بتقرير [الأدلة](٢) قلنا : وكذلك أبو بكر ، سعى في إظهار الدّين في أوّل الإسلام ، حتى أسلم على يده جماعة ، وبالغ في الذّبّ عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بنفسه وماله ، وكان عليّ حينئذ صبيّا لا يسلّم أحد بقوله ، وما كان قادرا على الدّين ، وجهاد أبي بكر في أوّل الإسلام وضعفه ، وجهاد عليّ كان وهو في الدّين بعد ظهور الإسلام وقوّته ، والأوّل أفضل ، وأيضا : فجهاد أبي بكر كان بالدّعوة إلى الدّين ، وأكثر أفاضل العشرة أسلموا على يده ، وذلك حرفة النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وجهاد عليّ كان بالقتل (٣) ، والأوّل أفضل.

فصل : رد شبهة المعتزلة

[قالت المعتزلة](٤) لما كان التّفاوت في الثواب بحسب التّفاوت في العمل ، دلّ على أن علّة الثّواب هو العمل ، وأيضا لو لم يكن العمل موجبا للثّواب ، لكان (٥) الثّواب هبة لا أجرا ، والله ـ تعالى ـ سمّاه أجرا.

فالجواب : أن العمل علّة الثّواب ، بجعل الشّارع لا بذاته.

__________________

(١) في أ : للنبي.

(٢) سقط في أ.

(٣) في ب : بالفعل.

(٤) سقط في أ.

(٥) في أ : وكان.

٥٨٧

فصل : الاشتغال بالنوافل أفضل من النكاح

قال (١) الشّافعيّة : دلّت الآية على أن الاشتغال بالنّوافل ، أفضل من الاشتغال بالنكاح ؛ لأن من أقام بالجهاد ، سقط الفرض عن الباقين ، فلو أقيموا عليه كان من النّوافل ، والآية تقتضي تفضيل جميع المجاهدين (٢) من مفترض و [من](٣) متنفّل على القاعدين والمتنفل بالنّكاح قاعد عن الجهاد ، فثبت أن الاشتغال بالمندوب إليه من الجهاد أفضل من الاشتغال بالنّكاح.

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيراً (٩٧) إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً (٩٨) فَأُولئِكَ عَسَى اللهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكانَ اللهُ عَفُوًّا غَفُوراً)(٩٩)

لما ذكر ـ [تعالى](٥) ـ ثواب من أقدم على الجهاد ، أتبعه بعقاب من قعد عنه ورضي بالسّكون في دار الحرب.

قوله : «توفّاهم» يجوز أن يكون ماضيا ، وإنما لم تلحق علامة التّأنيث للفعل ؛ لأن التأنيث مجازيّ ؛ ويدلّ على كونه فعلا ماضيا قراءة «توفتهم» (٦) بتاء التأنيث.

قال الفرّاء : ويكون مثل قوله : (إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا) [البقرة : ٧٠] فيكون إخبارا عن حال أقوام معيّنين ، انقرضوا ومضوا (٧) ويجوز أن يكون مضارعا حذفت إحدى التّاءين تخفيفا منه ، والأصل : تتوفّاهم ، وعلى هذا تكون الآية عامّة في حقّ كلّ من كان بهذه الصّفة.

و «ظالمي» حال من ضمير «توفّاهم» ، والإضافة (٨) غير محضة (٩) ؛ إذ الأصل : ظالمين أنفسهم ؛ لأنه وإن أضيف إلى المعرفة ، إلا أنه نكرة في الحقيقة ؛ لأن المعنى على الانفصال ؛ كأنه قيل : الظّالمين أنفسهم ، إلا أنّهم لما حذفوا [النّون](١٠) طلبا للخفة ، واسم الفاعل سواء أريد به الحال أو الاستقبال ، فقد يكون مفصولا في المعنى وإن كان موصولا في اللّفظ ؛ فهو كقوله ـ تعالى ـ : (هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا) [الأحقاف : ٢٤] ، و (هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ) [المائدة : ٩٥] ، (ثانِيَ عِطْفِهِ) [الحج : ٩] ، والتقدير : ممطر لنا ، وبالغا للكعبة وثانيا عطفه ، والإضافة في هذه المواضع لفظيّة لا معنويّة.

__________________

(١) في ب : قالت.

(٢) في أ : الجهاد.

(٣) سقط في ب.

(٥) سقط في أ.

(٦) ينظر : البحر المحيط ٣ / ٣٤٨ ، والدر المصون ٢ / ٤١٨.

(٧) في ب : وبادوا.

(٨) في ب : تتوفاهم والآية.

(٩) في أ : مختصة.

(١٠) سقط في ب.

٥٨٨

وفي خبر «إنّ» هذه ثلاثة أوجه :

أحدها : أنه محذوف ، تقديره : إنّ الذين توفّاهم الملائكة هلكوا ، ويكون قوله : (قالُوا : فِيمَ كُنْتُمْ) مبيّنا لتلك الجملة المحذوفة.

الثاني : أنه (فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ) ودخلت الفاء زائدة في الخبر ؛ تشبيها للموصول باسم الشّرط ، ولم تمنع «إنّ» من ذلك ، والأخفش يمنعه ، وعلى هذا فيكون قوله : (قالُوا : فِيمَ كُنْتُمْ) إمّا صفة ل «ظالمي» ، أو حالا للملائكة ، و «قد» معه مقدّرة عند من يشترط ذلك ، وعلى القول بالصّفة ، فالعائد محذوف ، أي : ظالمين أنفسهم قائلا لهم الملائكة.

والثالث : أنه (قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ) ، ولا بد من تقدير العائد أيضا ، أي : قالوا لهم كذا ، و «فيم» خبر «كنتم» ، وهي «ما» الاستفهاميّة حذفت ألفها حين جرّت ، وقد تقدّم تحقيق ذلك عند قوله : (فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللهِ) [البقرة : ٩١] ، والجملة من قوله : (فِيمَ كُنْتُمْ) في محلّ نصب بالقول ، و (فِي الْأَرْضِ) متعلق ب «مستضعفين» ، ولا يجوز أن يكون «في الأرض» هو الخبر ، و «مستضعفين» حالا ، كما يجوز ذلك في نحو : «كان زيد قائما في الدّار» لعدم الفائدة في هذا الخبر.

فصل في معنى التّوفّي

في هذا التّوفّي قولان :

الأول : قول الجمهور ، معناه تقبض أرواحهم عند الموت.

فإن قيل : كيف الجمع بينه وبين قوله ـ تعالى ـ : (اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها) [الزمر : ٤٢] ، (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) [التوبة : ٢٨] وبين قوله (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ) [السجدة : ١١].

فالجواب : خالق الموت هو الله ـ تعالى ـ ، والمفوّض إليه هذا العمل هو ملك الموت وسائر الملائكة أعوانه.

الثاني : توفّاهم الملائكة ، يعني : يحشرونهم إلى النّار ، قاله الحسن.

فصل

الظّلم قد يراد به الكفر (١) ؛ كقوله ـ تعالى ـ : (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) [لقمان : ١٣] ، وقد يراد به المعصية ؛ كقوله : (فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ) [فاطر : ٣٢] ، وفي المراد بالظّلم ههنا قولان :

الأول : قال بعض المفسّرين (٢) : نزلت في ناس من أهل مكّة ، تكلّموا بالإسلام ولم

__________________

(١) في ب : الظلم هو الكفر.

(٢) ينظر : تفسير البغوي ١ / ٤٦٩.

٥٨٩

يهاجروا منهم : قيس بن الفاكه (١) بن المغيرة ، وقيس بن الوليد وأشباههما ، فلما خرج المشركون إلى بدر ، خرجوا معهم ، فقاتلوا (٢) مع الكفّار وعلى هذا أراد بظلمهم أنفسهم : إقامتهم في دار الكفر (٣) ، وقوله ـ تعالى ـ : (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ) أي : ملك الموت وأعوانه ، أو أراد ملك الموت وحده ؛ لقوله ـ تعالى ـ : (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ) [السجدة : ١١] والعرب قد تخاطب الواحد بلفظ الجمع.

الثاني : أنها نزلت في قوم من المنافقين ، كانوا يظهرون الإيمان للمؤمنين خوفا ، فإذا رجعوا إلى قومهم ، أظهروا لهم الكفر ، ولا يهاجرون إلى المدينة (٤).

وقوله : (قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ) من أمر دينكم ، وقيل : فيم كنتم من حرب أعدائه ، وقيل : لما تركتم (٥) الجهاد ورضيتم بالسّكون في دار الكفّار (٦) ؛ لأن الله ـ تعالى ـ لم يكن يقبل الإسلام بعد هجرة النّبي (٧) صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلا بالهجرة ، ثم نسخ ذلك بعد فتح مكّة بقوله «لا هجرة بعد الفتح» وهؤلاء قتلوا يوم بدر ، وضربت الملائكة وجوههم وأدبارهم ، وقالوا لهم : فيم كنتم؟ [(قالُوا كُنَّا)](٨) أي : في ماذا كنتم أو في أيّ الفريقين كنتم؟ أفي المسلمين أو في المشركين؟ سؤال توبيخ وتقريع ، فاعتذروا بالضّعف عن مقاومة المشركين ، (قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ) عاجزين (٩) ، (فِي الْأَرْضِ) يعني : أرض مكّة.

فإن (١٠) قيل : كان حقّ الجواب أن يقولوا : كنا في كذا وكذا ، ولم نكن في شيء.

فالجواب : أن معنى (فِيمَ كُنْتُمْ) : التّوبيخ ، بأنهم لم يكونوا في شيء من الدّين ، حيث قدروا على المهاجرة ولم يهاجروا فقالوا : كنّا مستضعفين اعتذارا عمّا وبّخوا به ، واعتلالا بأنّهم ما كانوا قادرين على المهاجرة ، ثم إنّ الملائكة لم يقبلوا منهم هذا العذر ، بل ردّوه عليهم ، فقالوا : (أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها) يعني أنكم كنتم قادرين على الخروج من مكّة إلى بعض البلاد التي لا تمنعون فيها من إظهار دينكم ، فبقيتم (١١) بين الكفّار لا للعجز عن مفارقتهم ، بل مع القدرة على المفارقة (١٢).

فصل

وقد ورد لفظ الأرض على ثمانية أوجه :

__________________

(١) في أ : الفاكهة.

(٢) في ب : فقتلوا.

(٣) أخرجه الطبري (٩ / ١٠٥) عن عكرمة وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٣٦٥) وزاد نسبته لعبد بن حميد وابن أبي حاتم.

(٤) تقدم.

(٥) في أ : تركوا.

(٦) في أ : الحرب.

(٧) في أ : الهجرة للنبي.

(٨) سقط في ب.

(٩) في أ : مهاجرين.

(١٠) في أ : قال.

(١١) في أ : ما قمتم.

(١٢) في أ : الفائقة.

٥٩٠

الأول : الأرض المعروفة.

الثاني : أرض المدينة ، قال الله ـ تعالى ـ : (أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها).

الثالث : أرض مكّة ؛ قال ـ تعالى ـ : [(قالُوا])(١)(كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ) أي: بمكّة.

الرابع : أرض مصر ؛ قال ـ تعالى ـ : (فَأَرادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ) [الإسراء : ١٠٣].

الخامس : أرض الجنّة ؛ قال تعالى (وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ) [الزمر : ٧٤].

السادس : بطون النّساء (٢) ؛ قال ـ تعالى ـ : (وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها) الأحزاب : ٢٧] يعني : النساء (٣).

السابع : الرحمة ؛ قال ـ تعالى ـ : (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللهِ واسِعَةٌ) [الزمر : ١٠] ، وقوله ـ تعالى ـ : (يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ) [العنكبوت : ٥٦] أي : رحمتي.

الثامن : القلب ؛ قال ـ تعالى ـ : (اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) [الحديد : ١٧] ، أي : يحيي القلوب بعد قسوتها.

قوله : (فَتُهاجِرُوا) منصوب في جواب الاستفهام.

وقال أبو البقاء (٤) : (أَلَمْ تَكُنْ) استفهام بمعنى التّوبيخ ، «فتهاجروا» منصوب على جواب الاستفهام ؛ لأنّ النّفي صار إثباتا بالاستفهام». انتهى.

قوله : «لأنّ النّفي» إلى آخره لا يظهر تعليلا لقوله : «منصوب على جواب الاستفهام» ؛ لأن ذلك لا يصحّ ، وكذا لا يصحّ جعله علّة لقوله : «بمعنى التّوبيخ» ، و [«ساءت»] : قد تقدّم القول في «ساء» ، وأنها تجري مجرى «بئس» فيشترط في فاعلها ما يشترط في فاعل تيك ، و «مصيرا» : تمييز.

وكما بيّن عدم عذرهم ، ذكر وعيدهم ، فقال : (فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيراً) [أي :](٥) بئس المصير إلى جهنّم ، ثم استثنى فقال : «إلا المستضعفين» : في هذا الاستثناء قولان :

أحدهما : أنه متصل ، والمستثنى منه قوله : (فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ) ، والضمير يعود على المتوفّين ظالمي أنفسهم ، قال هذا القائل : كأنه قيل : فأولئك في جهنّم إلا المستضعفين ، فعلى هذا يكون هذا استثناء متّصلا.

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) في ب : طول سيناء.

(٣) في ب : طور سيناء.

(٤) ينظر : الإملاء ١ / ١١٢.

(٥) سقط في ب.

٥٩١

والثاني ـ وهو الصّحيح ـ : أنه منقطع ؛ لأن الضّمير في «مأواهم» عائد على قوله : (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ) ، وهؤلاء المتوفّون : إمّا كفّار أو عصاة بالتّخلّف ، على ما قال المفسّرون ، [وهم] قادرون على الهجرة ، فلم يندرج فيهم المستضعفون فكان منقطعا ، و (مِنَ الرِّجالِ) حال من المستضعفين ، أو من الضّمير المستتر فيهم ، فيتعلّق بمحذوف.

قوله : (لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً) في هذه الجملة أربعة أوجه :

أحدها : أنّها مستأنفة جواب لسؤال مقدّر ، كأنه قيل : ما وجه استضعافهم؟ فقيل : كذا.

والثاني : أنها حال.

قال أبو البقاء (١) : «حال مبيّنة عن معنى الاستضعاف» ، قال شهاب الدين : كأنّه يشير إلى المعنى المتقدّم في كونها جوابا لسؤال مقدّر.

الثالث : أنها مفسّرة لنفس المستضعفين ؛ لأنّ وجوه الاستضعاف كثيرة ، فبيّن بأحد محتملاته ؛ كأنه قيل : إلا الذين استضعفوا بسبب عجزهم عن كذا وكذا.

الرابع : أنها صفة للمستضعفين أو للرّجال ومن بعدهم ، ذكره الزمخشري ، وعبارة البيضاوي أنه صفة للمستضعفين ؛ إذ لا ترقية فيه ، أي : لا تعيّن فيه ، فكأنه نكرة ، فصحّ وصفه بالجملة. انتهى ما ذكرنا. واعتذر عن وصف ما عرّف بالألف واللام بالجمل التي في حكم النّكرات ، بأن المعرّف بهما لمّا لم يكن معيّنا ، جاز ذلك فيه ، كقوله : [الكامل]

١٨٦٧ ـ ولقد أمرّ على اللّئيم يسبّني

 ............(٢)

وقد قدّمت تقرير المسألة.

فصل في معنى الآية

المعنى : لا يقدرون على حيلة ولا نفقة ، إذا (٣) كان بهم مرض ، أو كانوا تحت قهر قاهر يمنعهم من المهاجرة.

وقوله : [و] (٤) لا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً) أي : لا يعرفون طريق الحقّ ، ولا يجدون من يدلهم على الطّريق.

قال مجاهد والسّدّي وغيرهما : المراد بالسّبيل [هنا :](٥) سبيل المدينة (٦).

قال القرطبيّ (٧) : والصّحيح أنّه عامّ في جميع السّبل.

__________________

(١) ينظر : الإملاء ١ / ١٩٢.

(٢) تقدم برقم ٧٥٧.

(٣) في ب : أو.

(٤) سقط في ب.

(٥) سقط في ب.

(٦) ينظر : تفسير البغوي ١ / ٤٧٠ ، والقرطبي ٥ / ٢٢٤.

(٧) ينظر : تفسير القرطبي ٥ / ٢٢٣.

٥٩٢

روي أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعث بهذه الآية [إلى](١) مسلمي مكّة ، فقال جندب بن ضمرة لبنيه : احملوني فإني لست من المستضعفين ، ولا أنّي لا أهتدي الطّريق ، والله لا أبيت اللّيلة بمكّة ، فحملوه على سرير متوجّها (٢) [إلى](٣) المدينة ، وكان شيخا كبيرا فمات في الطّريق.

فإن قيل : كيف أدخل الولدان في جملة المستثنين من أهل الوعيد ، فإن الاستثناء إنّما يحسن لو كانوا مستحقّين للوعيد على بعض الوجوه.

قلنا : سقوط الوعيد إذا كان بسبب العجز ، والعجز تارة يحصل بسبب عدم الأهبة ، وتارة [يحصل](٤) بسبب الصّبا ، فلا جرم حسن هذا الاستثناء ، هذا إذا أريد بالولدان الأطفال ، ويجوز أن يراد المراهقون منهم ، الّذين كملت (٥) عقولهم ، فتوجّه التّكليف نحوهم فيما بينهم [وبين الله](٦) ، وإن أريد العبيد والإماء البالغون ، فلا سؤال.

قوله : (فَأُولئِكَ عَسَى اللهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ) وفيه سؤالان :

أحدهما : أن القوم [لما](٧) كانوا عاجزين عن الهجرة ، والعاجز عن الشّيء غير مكلّف به ، وإذا لم يكن مكلّفا ، لم يكن عليه في تركه عقوبة ، فلم قال : (عَسَى اللهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ) والعفو لا يتصوّر (٨) إلّا مع الذّنب ، وأيضا : «عسى» كلمة إطماع ، وهذا يقتضي عدم القطع بحصول العفو.

فالجواب (٩) عن الأول : أن المستضعف قد يكون قادرا على ذلك الشّيء مع ضرب من المشقّة ، وتمييز الضّعف الذي يحصل عنده الرّخصة عند الحدّ الذي لا يحصل عنده الرّخصة شاقّ ، فربما (١٠) ظنّ الإنسان أنّه عاجز عن المهاجرة ، ولا يكون (١١) كذلك ، ولا سيّما في الهجرة عن الوطن ؛ فإنها شاقّة على النّفس ، وبسبب شدّة النّفرة قد يظن الإنسان كونه عاجزا ، مع أنّه لا يكون كذلك ، فلهذا المعنى كانت الحاجة في العفو شديدة في هذا المقام.

السؤال الثاني : ما فائدة ذكر لفظة «عسى» ههنا؟.

فالجواب : لأن فيها دلالة على [أن](١٢) ترك الهجرة أمر مضيّق لا توسعة فيه ، حتى أن المضطر البيّن الاضطرار من حقّه أن يقول : عسى الله أن يعفو عني ، فكيف الحال في غيره ، ذكره الزّمخشري(١٣).

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) في ب : وتوجه.

(٣) سقط في ب.

(٤) سقط في أ.

(٥) في ب : حملت.

(٦) سقط في ب.

(٧) سقط في ب.

(٨) في أ : يتقرر.

(٩) في ب : والجواب.

(١٠) في أ : شك فيها.

(١١) في ب : وليس.

(١٢) سقط في ب.

(١٣) ينظر : تفسير الرازي ١١ / ١٢.

٥٩٣

قال ابن الخطيب : والأولى (١) أن يكون الجواب ما تقدّم من أن الإنسان لشدة نفرته عن مفارقة الوطن ، ربّما ظنّ نفسه عاجزا عنها مع أنه لا يكون كذلك ، فلهذا المعنى ذكر العفو بكلمة «عسى» لا بالكلمة الدّالّة على القطع.

قال المفسّرون : وكلمة «عسى» من الله واجب ؛ لأنه للإطماع ، والله ـ تعالى ـ إذا أطمع عبده أوصله إليه.

ثم قال : (وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً).

ذكر الزّجّاج (٢) في كان ثلاثة أوجه :

الأول : «كان» قبل أن خلق الخلق موصوفا بهذه الصّفة.

الثاني : كان مع جميع العباد بهذه الصّفة ، والمقصود بيان أن هذا عادة الله أجراها في حقّ خلقه.

الثالث : أنه ـ تعالى ـ لو قال : «عفو غفور» كان هذا إخبارا عن كونه كذلك فقط ، ولمّا قال : إنّه كان كذلك ، فهذا إخبار وقع بخبره على وفقه ، فكان ذلك أدلّ على كونه صدقا [وحقّا](٣) ومبرّأ عن الكذب.

وقال ابن عباس : كنت أنا وأمّي ممن عذر الله [يعني](٤) : من المستضعفين (٥) ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يدعو لهؤلاء المستضعفين.

روى أبو هريرة ؛ قال كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا قال : سمع الله لمن حمده في الرّكعة الأخيرة (٦) [من صلاة العشاء](٧) قنت (٨) : اللهم أنج عيّاش بن أبي ربيعة ، اللهم أنج الوليد بن الوليد ، اللهمّ أنج المستضعفين (٩) من المؤمنين ، اللهم اشدد وطأتك على مضر ، اللهم اجعلها عليهم سنين كسني يوسف.

قوله تعالى : (وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً)(١٠٠) [الآية](١٠).

لما رغّب في الهجرة ، ذكر السّبب الذي يمنع الإنسان من الهجرة ثم أجاب عنه ، وذلك المانع أمران :

__________________

(١) في أ : فالأولى.

(٢) ينظر : تفسير الرازي ١١ / ١٢.

(٣) سقط في أ.

(٤) سقط في أ.

(٥) تقدم.

(٦) في ب : الآخرة.

(٧) سقط في ب.

(٨) في أ : قلت.

(٩) في ب : اللهم أنج سلمه بن هشام اللهم أنج المستضعفين.

(١٠) سقط في ب.

٥٩٤

الأوّل : أن يكون في وطنه في راحة ورفاهية فيظن (١) أنه بمفارقته للوطن يقع في الشّدّة وضيق العيش ، فأجاب الله عن ذلك بقوله : (وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَسَعَةً).

قال القرطبي (٢) : قوله : (وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللهِ) شرط ، وجوابه : (يَجِدْ فِي الْأَرْضِ).

واشتقاق المراغم من الرغام (٣) وهو التّراب ؛ يقولون : رغم أنفه ، ويريدون أنه وصل إلى شيء يكرهه ؛ لأن الأنف عضو في غاية العزّة ، والتّراب في غاية الذّلّة ، فجعلوا قولهم : رغم أنفه كناية عن الذّلّ ، إذا عرف هذا ، [فنقول](٤) المشهور (٥) أن هذه المراغمة إنّما حصلت بسبب فراقهم ، وخروجهم عن ديارهم ، وعن ابن عبّاس : «مراغما» [أي](٦) : متحوّلا [يتحوّل إليه](٧)(٨).

وقال مجاهد : متزحزحا عما يكره (٩) ، وقيل : سمّيت المهاجرة مراغمة ؛ لأن من يهاجر يراغم قومه ؛ لأنه لا يجد في ذلك [البلد](١٠) من النّعمة والخير ، ما يكون سببا لرغم أنف أعدائه الّذين كانوا معه في بلدته الأصليّة ، فإنه إذا استقام حاله في تلك البلد الأجنبيّة ، ووصل خبره إلى أهل بلدته ، خجلوا من سوء معاملتهم له ، ورغمت أنوفهم بذلك وهذا أولى الوجوه.

وأمّا المانع الثاني عن الهجرة : فهو أن الإنسان يقول : إن خرجت عن بلدي لطلب هذا الغرض ، فربما وصلت إليه ، وربّما لم أصل إليه ، فالأولى ألّا أضيع الرّفاهية الحاضرة بسبب طلب شيء قد يحصل وقد لا يحصل ، فأجاب الله ـ تعالى ـ عن ذلك بقوله : (وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ).

والمراد ب «السّعة» : سعة الرّزق ، وقيل : سعة من الضّلال إلى الهدى.

قوله ـ تعالى ـ : (وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) (١١).

روي أنه لما نزلت هذه الآية ، سمعها رجل من بني ليث شيخ كبير مريض يقال له : جندع بن ضمرة ، فقال : والله ما أنا ممّن استثنى الله ـ عزوجل ـ ، وإني لأجد حيلة ،

__________________

(١) في أ : فنظر.

(٢) ينظر : تفسير القرطبي ٥ / ٢٢٣.

(٣) في أ : الرغامة.

(٤) سقط في ب.

(٥) في ب : فالمشهور.

(٦) سقط في ب.

(٧) سقط في ب.

(٨) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٩ / ١١٩) عن ابن عباس والضحاك وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٣٦٨) من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس وزاد نسبته لابن المنذر وابن أبي حاتم.

(٩) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٩ / ١٢٠) عن مجاهد وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٣٦٨) وزاد نسبته لعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.

(١٠) سقط في ب.

(١١) سقط في أ.

٥٩٥

ولي من المال ما يبلّغني المدينة وأبعد منها ، والله لا أبيت اللّيلة بمكّة ، أخرجوني ، فخرجوا به يحملونه على سرير حتى أتوا به التّنعيم ، فأدركه الموت ، فصفّق بيمينه على شماله ، فقال : اللهم هذه لك وهذه لرسولك ، أبايعك على ما بايعك عليه رسولك ، فمات فبلغ خبره أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقالوا : لو وافى المدينة لكان أتمّ أجرا.

وضحك المشركون وقالوا : ما أدرك هذا ما طلب ، فأنزل الله ـ تعالى ـ : (وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ) (١)(٢) أي : قبل بلوغه إلى مهاجره ، (فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ). أي : وجب بإيجابه على نفسه فضلا منه.

و «مهاجرا» نصب على الحال من فاعل «يخرج».

فصل

قال بعضهم : إن من قصد طاعة وعجز عن إتمامها ، كتب الله ثواب تلك الطّاعة ؛ كالمريض يعجز عما كان يعمله في حال صحّته من الطّاعة ، فيكتب الله [له](٣) ثواب ذلك العمل ؛ هكذا روي عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقال آخرون : يكتب له : أجر (٤) قصده ، وأجر القدر الذي أتى به من ذلك العمل ، أما أجر تمام العمل ، فذلك محال.

والقول الأوّل أولى ؛ لأنه ـ تعالى ـ ذكر هذه الآية في معرض التّرغيب في الهجرة ، وهو أنّ من خرج للرّغبة في (٥) الهجرة ، فقد وجد ثواب الهجرة (٦) ، والتّرغيب إنما يحصل بهذا المعنى ، فأما القول بأنّ معنى الآية هو أن يصل إليه ثواب ذلك القدر من العمل ، فلا يصلح مرغّبا ؛ لأنه من المعلوم أن كلّ من أتى بعمل فإنه يجد الثّواب (٧) المرتّب على قدر ذلك العمل.

فصل : شبه المعتزلة في وجوب الثواب على الله والرد عليها

قالت المعتزلة : هذه الآية تدلّ على أن العمل يوجب الثّواب على الله ـ تعالى ـ ؛

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) أخرجه أبو يعلى (٥ / ٨١) رقم (٢٦٧٩) والطبري في «تفسيره» (٥ / ٢٤٠) وابن أبي حاتم كما في «تفسير ابن كثير» (٢ / ٣٧٢) والطبراني في «الكبير» كما في «مجمع الزوائد» (٧ / ١٠) عن ابن عباس.

وذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (٧ / ١٠) وقال رواه أبو يعلى ورجاله ثقات كما أورده الحافظ ابن حجر في «المطالب العالية» (٣٥٢٨) وعزاه لأبي يعلى وأخرجه الطبري في «تفسيره» (٩ / ١١٧) من وجه آخر عن ابن عباس وذكره السيوطي من هذا الوجه في «الدر المنثور» (٢ / ٣٦٨) وزاد نسبته لابن المنذر وابن أبي حاتم.

(٣) سقط في أ.

(٤) في أ : الأجر.

(٥) في أ : من.

(٦) في ب : الآخرة.

(٧) في أ : يثاب.

٥٩٦

لقوله (١) : (فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ ،) وذلك يدلّ على قولنا من ثلاثة أوجه :

الأول : حقيقة الوجوب هو الوقوع والسّقوط ؛ قال ـ تعالى ـ : (فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها) [الحج : ٣٦] أي وقعت وسقطت.

وثانيها : أنه ذكره بلفظ الأجر ، والأجر عبارة عن المنفعة المستحقّة ، فأمّا الذي لا يكون مستحقا ، فلا يسمّى أجرا ، بل يسمّى هبة.

وثالثها : قوله : (عَلَى اللهِ) وكلمة «على» للوجوب ؛ قال ـ تعالى ـ : (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً)(٢) [آل عمران : ٩٧].

والجواب : أنا لا ننازع في الوجوب ، لكن بحكم الوعد والتّفضّل (٣) والكرم ، لا بحكم الاستحقاق الذي لو لم يفعل لخرج عن الإلهيّة.

فصل

نقل القرطبي عن مالك ؛ أنه قال : هذه الآية تدلّ على أنّه ليس لأحد المقام بأرض يسبّ (٤) فيها السّلف ويعمل فيها بغير الحقّ.

فصل

استدلّوا بهذه الآية على أنّ الغازي إذا مات في الطّريق ، وجب سهمه في الغنيمة ، كما وجب أجره ، وفيه ضعف ؛ لأن لفظ الآية مخصوص بالأجر ، وأيضا فاستحقاق السّهم من الغنيمة مستحقّ بحيازتها ، إذ لا يكون ذلك إلا بعد حيازتها.

قوله ـ تعالى ـ : (وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ) قال عكرمة مولى ابن عبّاس : طلبت اسم هذا الرّجل أربع عشرة سنة حتى وجدته ، وفي قول عكرمة [هذا](٥) دليل على شرف هذا العلم ، وأنّ الاعتناء به حسن والمعرفة به فضل ؛ ونحوه قول [ابن عبّاس](٦) : مكثت سنين أريد أن أسأل عمر ـ رضي الله عنه ـ عن المرأتين اللّتين تظاهرتا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فما (٧) يمنعني إلا مهابته ، والذي ذكره عكرمة هو قول ضمرة بن العيص ، أو العيص بن ضمرة بن زنباع ، حكاه الطّبري عن سعيد بن جبير ، ويقال فيه : ضميرة أيضا ، وذكر أبو عمرو أنّه قد قيل فيه : خالد بن حزام بن خويلد ابن أخي خديجة ، [خرج](٨) مهاجرا إلى أرض الحبشة ، فهتفته حيّة في الطّريق ، فمات قبل أن يبلغ أرض الحبشة ؛ فأنزل الله فيه الآية ، وحكى ابن الجوزيّ أنه حبيب بن ضمرة.

__________________

(١) في ب : لقوله تعالى.

(٢) سقط في ب.

(٣) في ب : الفضل.

(٤) في ب : يسبب.

(٥) سقط في ب.

(٦) سقط في أ.

(٧) في ب : ما.

(٨) سقط في ب.

٥٩٧

وقال السّدّيّ : ضمرة بن جندب الضمريّ (١).

وحكى المهدويّ أنه ضمرة بن ضمرة بن نعيم ، وقيل ضمرة بن خزاعة.

وروى معمر عن قتادة : لما نزل قوله ـ تعالى ـ : (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ) قال رجل من المسلمين وهو مريض : والله ـ تعالى ـ ما لي عذر : إني لدليل في الطّريق وإني لموسر ، فاحملوني فأدركه الموت في الطّريق ، فقال أصحاب النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لو بلغ إلينا لتمّ أجره ، وقد مات بالتّنعيم ، وجاء بنوه إلى النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأخبروه بالقصّة ، فنزل قوله : (وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ)](٢) الآية.

قوله : (ثُمَّ يُدْرِكْهُ) الجمهور على جزم «يدركه» عطفا على الشّرط قبله ، وجوابه : (فَقَدْ وَقَعَ) ، وقرأ الحسن البصري (٣) بالنّصب.

قال ابن جنّي : «وهذا ليس بالسّهل ، وإنما بابه الشّعر لا القرآن ، وأنشد : [الوافر]

١٨٦٨ ـ سأترك منزلي لبني تميم

وألحق بالحجاز فأستريحا (٤)

والآية أقوى من هذا ؛ لتقدّم الشرط قبل المعطوف» ، يعني : أن النّصب بإضمار «أن» إنّما يقع بعد الواو والفاء في جواب الأشياء الثّمانية أو عاطف ، على تفصيل في كتب النحو ، والنّصب بإضمار «أن» في غير تلك المواضع ضرورة ؛ كالبيت المتقدم ؛ وكقول الآخر : [الطويل]

١٨٦٩ ـ ............

ويأوي إليها المستجير فيعصما (٥)

وتبع الزّمخشري أبا الفتح في ذلك ، وأنشد البيت الأوّل. وهذه المسألة جوّزها الكوفيّون لمدرك آخر ، وهو أن الفعل الواقع بين الشّرط والجزاء ، يجوز فيه الرّفع والنّصب والجزم إذا وقع بعد الواو والفاء ؛ واستدلّوا بقول الشّاعر : [الطويل]

١٨٧٠ ـ ومن لا يقدّم رجله مطمئنّة

فيثبتها في مستوى القاع يزلق (٦)

وقول الآخر : [الطويل]

١٨٧١ ـ ومن يقترب منّا ويخضع نؤوه

ولا يخش ظلما ما أقام ولا هضما (٧)

__________________

(١) ينظر : تفسير القرطبي ٥ / ٢٢٤.

(٢) سقط في ب.

(٣) وقرأ بها قتادة ونبيح والجراح كما في المحرر الوجيز ٢ / ١٠٢ ، وينظر : البحر المحيط ٣ / ٣٥١ ، والدر المصون ٢ / ٤٢٠.

(٤) تقدم برقم ٧٥٩.

(٥) تقدم برقم ٧٦٠.

(٦) البيت لابن زهير ينظر : الكشاف ٣ / ٨٩ ، شرح أبيات سيبويه ٢ / ١١٩ ، وهو لزهير بن أبي سلمى ينظر ديوانه ص ٢٥٠ ، وينظر : المقتضب ٢ / ٢٣ ، ٦٧ ، والدر المصون ٢ / ٤٢٠.

(٧) ينظر : أوضح المسالك ٤ / ١٤ ، وشرح الأشموني ٣ / ٥٩١ ، وشرح التصريح ٢ / ٢٥١ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٤٠١ ، وشرح شذور الذهب ص ٤٥٤ ، ومغني اللبيب ٢ / ٥٦٦ ، والمقاصد النحوية ٤ / ٤٣٤ والدر المصون ٢ / ٤٢٠.

٥٩٨

وإذا ثبت ذلك في الواو والفاء ، فليجز في «ثمّ» ؛ لأنها حرف عطف.

وقرأ النّخعيّ ، وطلحة بن مصرّف (١) برفع الكاف ، وخرّجها ابن جنّي على إضمار مبتدأ ، أي : «ثم هو يدركه الموت» فعطف جملة اسميّة على فعليّة ، وهي جملة الشّرط : الفعل المجزوم وفاعله ، وعلى ذلك حمل يونس قول الأعشى : [البسيط]

١٨٧٢ ـ إن تركبوا فركوب الخيل عادتنا

أو تنزلون فإنّا معشر نزل (٢)

أي : وأنتم تنزلون ، ومثله قول الآخر : [البسيط]

١٨٧٣ ـ إن تذنبوا ثمّ تأتيني بقيّتكم

فما عليّ بذنب عندكم حوب (٣)

أي : ثم أنتم تأتيني ، وهذا أوجه من أن يحمل على أن يأتيني. قلت : يريد أنه لا يحمل على إهمال الجازم ، فيرفع الفعل بعده ، كما رفع في :

١٨٧٤ ـ ألم يأتيك والأنباء تنمي

بما لاقت لبون بني زياد (٤)

فلم يحذف الياء ، وهذا البيت أنشده النّحويّون على أنّ علامة الجزم ، حذف الحركة المقدّرة في حرف العلّة ، وضمّوا إليه أبياتا أخر ، أمّا أنّهم يزعمون : أنّ حرف الجزم يهمل ، ويستدلون بهذا البيت فلا. ومنهم من خرّجها على وجه آخر ؛ وهو أنه أراد الوقف على الكلمة ، فنقل حركة هاء الضّمير إلى الكاف السّاكنة للجزم ، كقول الآخر : [الرجز]

١٨٧٥ ـ عجبت والدّهر كثير عجبه

من عنزيّ سبّني لم أضربه (٥)

يريد : «لم أضربه» بسكون الباء للجازم ، ثم نقل إليها حركة الهاء ، فصار اللّفظ «ثم يدركه» ثم أجرى الوصل مجرى الوقف ، فالتقى ساكنان ، فاحتاج إلى تحريك الأوّل وهو الهاء ، فحرّكها بالضّمّ ؛ لأنه الأصل ، وللإتباع أيضا.

ثمّ قال الله ـ تعالى ـ : (وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) أي : ويغفر [الله](٦) ما كان منه [من القعود](٧) إلى أن خرج.

فصل

قال ابن العربيّ (٨) : قسّم العلماء الذّهاب في الأرض [إلى](٩) قسمين : هربا ، وطلبا.

__________________

(١) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ١٠٢ ، والبحر المحيط ٣ / ٣٥٠ ، والدر المصون ٢ / ٤٢٠.

(٢) تقدم برقم ١٧٢٥.

(٣) البيت لرويشد الطائي ينظر شرح ديوان الحماسة للمرزوقي ١ / ١٦٨ واللسان (بقي) والدر المصون ٢ / ٤٢٠.

(٤) البيت لقيس بن زهير ينظر الكتاب ٣ / ٣١٦ والتصريح ١ / ٨٧ والخزانة ٣ / ٥٣٤ وابن يعيش ٨ / ٢٤ وابن الشجري ١ / ٨٤ ـ ٨٥ والخصائص ١ / ٣٣٣ والهمع ١ / ٥٢ والدر المصون ٢ / ٤٢٠.

(٥) تقدم برقم ١٠٠٧.

(٦) سقط في ب.

(٧) سقط في أ.

(٨) ينظر : تفسير القرطبي ٥ / ٢٢٤.

(٩) سقط في ب.

٥٩٩

والأول (١) ينقسم ستّة أقسام :

أحدها : الهجرة : وهي الخروج من دار الحرب إلى دار الإسلام ، وكانت فرضا في أيّام النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهذه الهجرة باقية مفروضة إلى يوم القيامة ، والّتي انقطعت بالفتح : هي القصد إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حيث كان ، فإن بقي في دار الحرب ، عصى ويختلف في حاله.

وثانيها : الخروج من أرض البدعة ؛ كما تقدّم نقله عن مالك ؛ فإنه إذا لم يقدر على إزالة (٢) المنكر يزول عنه ، قال [الله](٣) ـ تعالى ـ : (وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ) [الأنعام : ٦٨].

وثالثها : الخروج من أرض غلب عليها الحرام ؛ لأن طلب الحلال فرض على كلّ مسلم.

ورابعها : الفرار من الأذيّة (٤) في البدن ، وذلك فضل من الله ورخصة ؛ كما فعل إبراهيم ـ عليه الصلاة والسلام ـ لمّا خاف من قومه وقال : (إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي) [العنكبوت : ٢٦] ، وقال : (إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ) [الصافات : ٩٩] ، وقال ـ تعالى ـ حكاية عن موسى ـ عليه الصلاة والسلام : (فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ) [القصص : ٢١].

وخامسها : خوف المرض في البلاد الوخمة ، فيخرج إلى أرض النزهة ؛ لأن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أذن للرّعاة حين استوخموا المدينة ، أن يخرجوا إلى المسرح فيكونوا فيه ؛ حتى ما يصحّوا (٥) ، وقد استثني من ذلك الخروج من الطّاعون ، بما في الحديث الصّحيح (٦).

وسادسها : الفرار خوف الأذيّة في المال ، فإن حرمة مال المسلم ؛ كحرمة دمه.

وأما الطّلب فينقسم قسمين :

طلب دين وطلب دنيا.

فأمّا طلب الدّين فينقسم إلى تسعة أقسام :

الأول : سفر العبرة ؛ قال تعالى : (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ)(٧) [الروم : ٩].

يقال : إنّ (٨) ذا القرنين إنّما طاف الأرض ؛ ليرى عجائبها ، وقيل : لينفذ الحقّ فيها.

__________________

(١) في ب : فالأول.

(٢) في أ : أن.

(٣) سقط في أ.

(٤) في أ : الأذاية.

(٥) في ب : يصبحوا.

(٦) وهو حديث أسامة بن زيد قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الطاعون أرسل على بني إسرائيل أو على من كان قبلكم فإذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه».

أخرجه البخاري (١٠ / ١٩٠) كتاب الطب : باب ما يذكر في الطاعون حديث (٥٧٣٠) ومسلم (٤ / ١٧٣٧) كتاب السلام : باب الطاعون والطيرة والكهانة وغيرها حديث (٩٢ ـ ٢٢١٨).

(٧) سقط في أ.

(٨) في أ : لك.

٦٠٠