اللّباب في علوم الكتاب - ج ٦

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ٦

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٦٣٢

قال القرطبي : ولا يسلّم على النّساء الشّابات الأجانب ؛ خوف الفتنة من مكالمتهن بنزغة شيطان أو خائنة عين ، وأما المحارم والعجائز فحسن.

فصل

والرّدّ فرض كفاية ؛ إذا قام به البعض سقط عن الباقين ، والأولى للكلّ أن يحيّوا ؛ إذ (١) الرد واجب [على الفور](٢) فإن أخّر حتى انقضى الوقت ، وأجابه بعد فوت [الوقت](٣) ، كان ابتداء سلام لا جوابا ، وإذا ورد السلام في كتاب ، فجوابه واجب بالكتاب أيضا للآية ، وإذا سلّمت المرأة الأجنبيّة عليه ، وكان في رد الجواب عليها تهمة أو فتنة ، لم يجب الردّ ، بل الأولى ألا يفعل وحيث قلنا : لا يسلّم ، فلو سلّم لم يجب الرّدّ ؛ لأنه أتى بفعل منهيّ عنه ، فكان وجوده كعدمه.

قوله : (إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً).

قيل : الحسيب بمعنى المحاسب على العمل ؛ كالأكيل والشّريب والجليس ، بمعنى : المؤاكل والمشارب والمجالس ، أي : على كل شيء من ردّ السلام بمثله وبأحسن منه ، «حسيبا» : أي : محاسبا مجازيا ، وقيل : بمعنى الكافي من قولهم : حسبي كذا ، أي : كافيا ، قاله أبو عبيدة ؛ ومنه قوله تعالى : (حَسْبِيَ اللهُ) [التوبة : ١٢٩] ، وقال مجاهد : حفيظا.

قوله تعالى : (اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ حَدِيثاً)(٨٧)

وجه النّظم أنه ـ تعالى ـ يقول : من سلّم عليكم وحيّاكم ، فاقبلوا سلامه وأكرموه وعاملوه بناء على الظّاهر ، وأما (٤) البواطن فلا (٥) يعلمها إلا الله الذي لا إله إلا هو ، وإنما تنكشف بواطن الخلق في يوم القيامة. قوله : «ليجمعنكم» جواب قسم محذوف.

[قال القرطبيّ : اللام في قوله : «ليجمعنكم»](٦) لام قسم ، نزلت في الّذين شكّوا في البعث ، فأقسم الله ـ تعالى ـ بنفسه ، وكلّ لام بعدها نون مشدّدة فهي لام القسم وفي جملة هذا القسم مع جوابه ثلاثة أوجه :

أحدها : أنها في محل رفع خبرا ثانيا لقوله : «الله» ، و (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) : جملة خبر أوّل.

والثاني : أنها خبر لقوله : «الله» أيضا ، و (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) : جملة اعتراض بين المبتدأ وخبره.

__________________

(١) في ب : يجيبوا أو.

(٢) سقط في ب.

(٣) سقط في أ.

(٤) في ب : فأما.

(٥) في ب : فما.

(٦) سقط في أ.

٥٤١

والثالث : أنها مستأنفة لا محلّ لها من الإعراب ، وقد تقدّم إعراب (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) [البقرة : ٢٥٥] و (لا رَيْبَ فِيهِ) [البقرة : ٢] في البقرة.

قوله : (إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) فيه ثلاثة أوجه :

أحدها : أنها على بابها من انتهاء الغاية ، قال أبو حيان (١) : ويكون الجمع في القبور ، أو تضمّن «ليجمعنكم» معنى «ليحشرنكم» فيعدّى ب «إلى» ، يعني : أنه إذا ضمّن الجمع معنى الحشر لم يحتج إلى تقدير مجموع فيه.

وقال أبو البقاء (٢) ـ بعد أن جوّز فيها أن تكون بمعنى «في» ـ : «وقيل : هي على بابها ، أي : ليجمعنّكم في القبور ؛ فعلى هذا يجوز أن يكون مفعولا به ، ويجوز أن يكون حالا ، أي : ليجمعنّكم مفضين إلى حساب يوم القيامة» يريد بقوله «مفعولا به» : أنه فضلة كسائر الفضلات ، نحو : «سرت إلى الكوفة» ولكن لا يصحّ ذلك إلا بأن يضمّن الجمع معنى الحشر كما تقدّم ، وأمّا تقديره الحال ب «مفضين» فغير جائز ؛ لأنّه كون مقيّد.

والثاني : أنّها بمعنى «في» أي : في يوم القيامة ، ونظيره قول النّابغة : [الطويل]

١٨٨٥ ـ فلا تتركنّي بالوعيد كأنّني

إلى النّاس مطليّ به القار أجرب (٣)

أي : في النّاس.

والثالث : أنها بمعنى «مع» ، وهذا غير واضح المعنى.

قال القرطبي : وقيل : «إلى» وصلة في الكلام ، والمعنى : «ليجمعنكم» يوم القيامة والقيامة بمعنى القيام كالطّلابة والطّلاب ؛ قالوا : ودخلت التاء فيه للمبالغة ، كعلّامة ونسّابة ؛ لشدّة ما يقع فيه من الهول ، وسمّي بذلك لقيام الناس فيه للحساب ؛ قال تعالى : (يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) [المطففين : ٦].

وقال الزّجّاج : يجوز أن يقال : سميّت القيامة قيامة ؛ لقيام الناس من قبورهم ؛ قال ـ تعالى ـ : (يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ) [المعارج : ٤٣].

والجملة من قوله : (لا رَيْبَ فِيهِ) فيها وجهان :

أحدهما : أنّها في محلّ نصب على الحال من «يوم» ، فالضّمير في «فيه» يعود عليه.

والثاني : أنها في محلّ نصب نعتا لمصدر محذوف دلّ عليه «ليجمعنكم» أي : جمعا لا ريب فيه ، والضمير يعود عليه والأول أظهر ، (وَمَنْ أَصْدَقُ) : تقدّم نظير هذه الجملة ، و «حديثا» نصب على التّمييز. وقرأ الجمهور : «أصدق» بصاد خالصة ، وحمزة

__________________

(١) ينظر : البحر المحيط ٣ / ٣٢٥.

(٢) ينظر : الإملاء ١ / ١٨٩.

(٣) تقدم برقم ١٣٠.

٥٤٢

والكسائي : بإشمامها زايا ، وهكذا كلّ صاد ساكنة بعدها دال (١) ، نحو : «تصدقون» و «تصدية» ، وهذا كما فعل حمزة في (الصِّراطَ) [الفاتحة : ٥] و (بِمُصَيْطِرٍ) [الغاشية : ٢٢] ، للمجانسة قصد الخفّة.

فصل

قوله : (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ حَدِيثاً) أي : قولا ووعدا ، وهذا استفهام على سبيل الإنكار ، والمقصود منه : وجوب كونه ـ تعالى ـ صادقا ، وأن الكذب والخلف في قوله محال.

قال ابن الخطيب (٢) : ظاهر الآية يدلّ على أنّه ـ تعالى ـ أثبت أن القيامة ستوجد لا محالة ، وجعل الدّليل على ذلك مجرّد إخبار الله ـ تعالى ـ عنه ، وهذا حقّ ؛ لأن المسائل الأصوليّة على قسمين : منها ما العلم (٣) بصحّة النبوّة يحتاج إلى العلم بصحّته ، ومنها ما لا يكون كذلك.

فالأوّل : مثل علمنا بافتقار (٤) العالم إلى صانع عالم بالمعلومات قادر على كل الممكنات ، فإنّا ما (٥) لم نعلم ذلك ، لا يمكننا العلم بصدق الأنبياء ، فكل مسألة ، هذا شأنها ، فإنه يمتنع إثباتها بالقرآن وإخبار الأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ وإلا وقع الدّور.

وأما القسم الثّاني : وهو جملة المسائل التي لا يتوقّف العلم بصحّة النّبوّة على العلم بصحّتها ، فكل ذلك ممّا يمكن إثباته بكلام الله ـ تعالى ـ وإخباره ، ومعلوم أن قيام السّاعة كذلك ، فلا جرم أمكن إثباته بالقرآن وبكلام الله ـ تعالى ـ ، فثبت أن الاستدلال على قيام القيامة بإخبار الله ـ تعالى ـ عنه استدلال صحيح. انتهى.

فصل

استدلت المعتزلة بهذه الآية على أنّ كلام الله ـ تعالى ـ محدث ، قالوا : لأنّه تعالى وصفه بكونه حديثا في هذه الآية وفي قوله ـ تعالى ـ : (اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ) [الزمر : ٢٣] ، والحديث: هو الحادث والمحدث.

والجواب : أنكم تحكمون بحدوث الكلام الذي هو الحرف والصّوت ، ونحن لا ننازع في حدوثه ، إنما [الّذي](٦) ندّعي قدمه شيء آخر غير هذه الحروف والأصوات ،

__________________

(١) ينظر : العنوان ٨٥ ، وشرح شعلة ٣٤٢ ، وإتحاف ١ / ٥١٧ ، والبحر المحيط ٣ / ٣٢٦ ، والدر المصون ٢ / ٤٠٦.

(٢) ينظر : تفسير الرازي ١٠ / ١٧٣.

(٣) في ب : يعلم.

(٤) في أ : بانتقال.

(٥) في ب : فإننا إذا.

(٦) سقط في أ.

٥٤٣

والآية لا تدل على حدوث ذلك الشّيء ألبتّة بالاتّفاق منّا ومنكم ؛ أمّا منّا : فظاهر ، وأما منكم : فإنّكم تنكرون وجود كلام سوى هذه الحروف والأصوات ، فكيف يمكنكم أن تقولوا بدلالة هذه الآية على حدوثه.

قوله تعالى : (فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللهُ أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً (٨٨) وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَواءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ حَتَّى يُهاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (٨٩) إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقاتِلُوكُمْ أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شاءَ اللهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَما جَعَلَ اللهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً)(٩٠)

(١) قوله ـ تعالى ـ : (فَما لَكُمْ) : مبتدأ وخبر ، و (فِي الْمُنافِقِينَ) فيه ثلاثة أوجه :

أحدها : أنه متعلّق بما تعلّق به الخبر ، وهو «لكم» ، أي : أيّ شيء كائن لكم ـ أو مستقرّ لكم ـ في أمر المنافقين.

والثاني : أنه متعلّق بمعنى فئتين ، فإنّه في قوّة «ما لكم تفترقون في أمور المنافقين» فحذف المضاف ، وأقيم المضاف إليه مقامه.

والثالث : أنه متعلّق بمحذوف على أنه حال من «فئتين» ؛ لأنه في الأصل صفة لها ، تقديره : فئتين مفترقتين في المنافقين ، وصفة النكرة إذا قدّمت عليها ، انتصبت حالا.

وفي «فئتين» وجهان :

أحدهما : أنها حال من الكاف والميم في «لكم» ، والعامل فيها الاستقرار الذي تعلّق به «لكم» ؛ ومثله : (فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ) [المدثر : ٤٩] ، وقد تقدّم أنّ هذه الحال لازمة ؛ لأن الكلام لا يتمّ دونها ، وهذا مذهب البصريّين في كل ما جاء من هذا التّركيب.

والثاني ـ وهو مذهب الكوفيين ـ : أنه نصب على خبر «كان» مضمرة ، والتقدير : ما لكم في المنافقين كنتم فئتين ، وأجازوا : «ما لك الشاتم» أي : ما لك كنت الشّاتم ، والبصريّون لا يجيزون ذلك ؛ لأنه حال والحال لا تتعرّف ، ويدلّ على كونه حالا التزام مجيئه في هذا التّركيب نكرة ، وهذا كما قالوا في «ضربي زيدا قائما» : إنّ «قائما» لا يجوز نصبه على خبر «كان» المقدّرة ، بل على الحال ؛ لالتزام تنكيره. وقد تقدّم اشتقاق «الفئة» في البقرة.

__________________

(١) سقط في ب.

٥٤٤

فصل

قال قوم : نزلت في الذين تخلّفوا يوم أحد من المنافقين ، وقالوا : (لَوْ نَعْلَمُ قِتالاً لَاتَّبَعْناكُمْ) [آل عمران : ١٦٧]. فاختلف أصحاب الرّسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ : فقالت منهم فرقة : كفروا ، وآخرون قالوا : لم يكفروا ، فنزلت الآية ؛ وهو قول زيد بن ثابت (١) وطعن في هذا الوجه : بأن في نسق الآية ما يقدح فيه وأنّهم من أهل مكّة ؛ وهو قوله : (فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ حَتَّى يُهاجِرُوا).

وقال مجاهد : هم قوم خرجوا إلى المدينة ، وأسلموا ثم ارتدّوا ، واستأذنوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى مكّة ؛ ليأتوا ببضائع لهم يتّجرون فيها ، فخرجوا وأقاموا بمكّة ، فاختلف المسلمون فيهم (٢) : فقائل يقول : هم منافقون ، وقائل يقول : هم مؤمنون.

وقيل : نزلت في ناس (٣) من قريش قدموا المدينة ، وأسلموا ثم ندموا على ذلك ، فخرجوا كهيئة المتنزّهين حتى بعدوا عن المدينة ، فكتبوا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنّا على الّذي وافقناك عليه من الإيمان ، ولكنّا اجتوينا المدينة واشتقنا إلى أرضنا ، ثم إنّهم خرجوا في تجارة لهم نحو الشّام فبلغ ذلك المسلمين ، فقال بعضهم (٤) : نخرج إليهم فنقتلهم ونأخذ ما معهم ؛ لأنّهم رغبوا عن ديننا ، وقالت طائفة : كيف تقتلون قوما على دينكم إن لم يذروا ديارهم ، وكان هذا بعين النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو ساكت لا ينهى واحدا من الفريقين ؛ فنزلت الآية.

وقيل : هم العرنيون (٥) : وقال ابن زيد : نزلت في أهل الإفك (٦) ، وقال ابن عبّاس وقتادة : هم قوم أسلموا بمكّة ثم لم يهاجروا وكانوا يظاهرون المشركين ، فاختلف المسلمون فيهم وتشاجروا ، فنزلت : (فَما لَكُمْ) يا معشر المؤمنين (فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ) أي : صرتم فيهم فئتين ، (وَاللهُ أَرْكَسَهُمْ) أي : نكّسهم وردّهم إلى الكفر وأحكامه من الذّلّ والصّغار والسّبي والقتل (٧).

__________________

(١) أخرجه البخاري (٤ / ٨٣ ـ ٧ / ٢٧٥ ـ ٨ / ١٩٣ ـ فتح) ومسلم (١ / ٣٨٩ ـ ٣٩٠) والترمذي كتاب التفسير باب فما لكم في المنافقين والبيهقي في «دلائل النبوة» (٣ / ٢٢٢) والطبري في «تفسيره» (٩ / ٨ ـ ٩) من حديث زيد بن ثابت.

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٣٤٠) وزاد نسبته للطيالسي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٨ / ٩ / ١٠٩) عن مجاهد وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٣٤٠) وزاد نسبته لعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.

(٣) في ب : أناس.

(٤) في ب : فقالت طائفة.

(٥) ذكره الفخر الرازي في «التفسير الكبير» (١٠ / ١٧٤).

(٦) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٩ / ١٣) من طريق ابن وهب عن ابن زيد.

(٧) تقدم.

٥٤٥

قال الحسن : وإنما سمّاهم منافقين وإن أظهروا الكفر ؛ لأنهم وصفوا بالصّفة التي كانوا عليها من قبل (١).

قوله : (وَاللهُ أَرْكَسَهُمْ) مبتدأ وخبر ، وفيها وجهان :

أظهرهما : أنها حال : إمّا من المنافقين ـ وهو الظّاهر ـ ، وإمّا من المخاطبين ، والرابط الواو ، كأنه أنكر عليهم اختلافهم في هؤلاء ، والحال أنّ الله قد ردّهم إلى الكفر.

والثاني : أنها مستأنفة أخبر ـ تعالى ـ عنهم بذلك. و (بِما كَسَبُوا) متعلّق ب «أركسهم» ، والباء سببيّة ، أي : بسبب كسبهم ، و «ما» مصدريّة أو بمعنى الّذي ، والعائد محذوف على الثّاني ، لا على الأوّل على الصّحيح.

والإركاس : الردّ والرّجع ، ومنه الرّكس ، قال ـ عليه‌السلام ـ في الرّوثة لمّا أتي بها : «إنها ركس». وقال أميّة بن أبي الصّلت : [البسيط]

١٨٥٦ ـ فأركسوا في جحيم النّار إنّهم

كانوا عصاة وقالوا الإفك والزّورا (٢)

أي : ردّوا ، وقال الرّاغب : «الرّكس والنّكس : الرّذل ، إلا أنّ الرّكس أبلغ ؛ لأن النّكس : ما جعل أعلاه أسفله ، والرّكس : ما صار رجيعا بعد أن كان طعاما».

وقال النّضر بن شميل والكسائي : الرّكس والنّكس : قلب الشّيء على رأسه ، أو ردّ أوّله على آخره ، والمركوس والمنكوس واحد.

وقيل : أركسه أوبقه ، قال : [المتقارب]

١٨٥٧ ـ بشؤمك أركستني في الخنا

وأرميتني بضروب العنا (٣)

وقيل : الإركاس : الإضلال ، ومنه : [المتقارب]

١٨٥٨ ـ وأركستني عن طريق الهدى

وصيّرتني مثلا للعدى (٤)

وقيل : هو التنكيس ، ومنه : [الرمل]

١٨٥٩ ـ ركّسوا في فتنة مظلمة

كسواد اللّيل يتلوها فتن (٥)

وارتكس فلان في أمر كان ، أي : نجا منه والرّكوسيّة : قوم بين النّصارى والصّابئين ، والرّاكس : الثّور وسط البيدر (٦) والثيران حواليه وقت الدياس.

__________________

(١) ذكره الفخر الرازي في «التفسير الكبير» (١٠ / ١٧٤) عن الحسن.

(٢) ينظر البيت في ديوانه (٢٣٦) والبحر المحيط ٣ / ٣٢٤ والدر المصون ٢ / ٤٠٧ وتفسير الطبري ٩ / ٧.

(٣) ينظر البيت في البحر المحيط ٣ / ٣٢٤ والدر المصون ٢ / ٤٠٧.

(٤) ينظر البيت في البحر المحيط ٣ / ٣٢٥ والدر المصون ٢ / ٤٠٨.

(٥) البيت لعبد الله بن رواحة : ينظر البحر ٣ / ٣٢٥ والدر المصون ٢ / ٤٠٨ وتفسير القرطبي ٥ / ٣٠٧.

(٦) في ب : الدور.

٥٤٦

ويقال : أركس وركّس بالتّشديد وركس بالتّخفيف : ثلاث لغات بمعنى واحد ، وارتكس هو ، أي : رجع.

وقرأ (١) عبد الله : «ركسهم» ثلاثيا ، وقرىء (٢) «ركّسهم ـ ركّسوا» بالتشديد فيهما.

وقال أبو البقاء (٣) : «وفيه لغة أخرى : «ركسه الله» من غير همز ولا تشديد ، ولا أعلم أحدا قرأ به».

قلت : قد تقدّم أن عبد الله قرأ «والله ركسهم» من غير همز ولا تشديد [ونقل ابن الخطيب أنّها قراءة أبيّ أيضا] وكلام أبي البقاء مخلّص ؛ فإنه إنما ادّعى عدم العلم بأنّها قراءة ، لا عدم القراءة بها.

قال الرّاغب : «إلا أن «أركسه» أبلغ من «ركسه» ؛ كما أنّ أسفله أبلغ من سفله» وفيه نظر.

فصل

قوله : (أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً) قالت المعتزلة : المراد من قوله : (أَضَلَّ اللهُ) ليس أنّه هو خلق الضّلال فيه للوجوه المشهورة ؛ لأنه قال قبل هذه الآية : (وَاللهُ أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا) فبيّن ـ تعالى ـ [أنه](٤) إنّما ردّهم وطردهم بسبب كسبهم وفعلهم ، وذلك ينفي القول بأنّ ضلالهم حصل بخلق الله ، وعند هذا حملوا قوله : (مَنْ أَضَلَّ اللهُ) (٥) على وجوه :

أحدها : المراد أنّ الله حكم بضلالهم وكفرهم ؛ كما يقال : فلان يكفر فلانا ويضلّله ، بمعنى : أنه حكم به وأخبر (٦) عنه.

وثانيها : أن المعنى : أتريدون أن تهدوا إلى الجنّة من أضلّه الله عن طريق الجنّة ؛ وذلك لأنّه ـ تعالى ـ يضلّ الكفّار يوم القيامة عن الاهتداء إلى طريق الجنّة.

وثالثها : أن يفسّر الإضلال بمعنى الألطاف ، وقد تقدّم ضعف هذه الوجوه ، ثمّ نقول : هب أنّها صحيحة ، ولكنّه ـ تعالى ـ أخبر عن كفرهم وضلالهم ، وأنّهم لا يدخلون الجنّة ، فقد توجّه الإشكال ؛ لأن انقلاب علم الله ـ تعالى ـ جهلا محال ، والمفضي إلى المحال محال ، ويدل على أنّ المراد أنه ـ تعالى ـ أضلّهم عن الدّين ـ قوله ـ تعالى ـ : (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً) والمعنى : أنه ـ تعالى ـ لمّا أضلّهم عن الإيمان امتنع أن يجد المخلوق سبيلا إلى إدخاله في الإيمان.

__________________

(١) ينظر : البحر المحيط ٣ / ٣٢٦ ، والدر المصون ٢ / ٤٠٨.

(٢) ينظر : السابق.

(٣) ينظر : الإملاء ١ / ١٩٠.

(٤) سقط في ب.

(٥) سقط في أ.

(٦) في أ : والخبر.

٥٤٧

قوله ـ تعالى ـ : (وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا) الآية.

يجوز في «لو» وجهان :

أحدهما : أن تكون مصدريّة.

والثاني : أنها على بابها من كونها حرفا لما كان سيقع لوقوع غيره.

فعلى الأوّل : تتقدّر مع ما بعدها بمصدر ، وذلك المصدر في محل المفعول ل «ودوا» وحينئذ فلا جواب لها ، والتقدير : ودّوا كفركم.

وعلى الثاني : يكون مفعول «ودّ» محذوفا ، وجواب «لو» أيضا محذوف ؛ لدلالة المعنى عليهما ، والتقدير : ودّوا كفركم ، لو تكفرون كما كفروا لسرّوا بذلك.

و (كَما كَفَرُوا) : نعت لمصدر محذوف ، تقديره : كفرا مثل كفرهم ، أو حال من ضمير ذلك المصدر كما هو مذهب سيبويه (١).

و «فتكونوا» : عطف على «تكفرون» والتقدير : ودّوا كفركم ، وكونكم مستوين معهم في شرعهم ؛ كقوله : (وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ) [القلم : ٩] ، أي : ودّوا لو تدهنون ، والفاء عاطفة.

قال الزّمخشريّ (٢) : «ولو نصب على جواب التّمنّي ؛ لجاز» قال أبو حيّان (٣) : فيه نظر : من حيث إن النّصب في جواب التّمنّي إذا كان التّمنّي بلفظ الفعل ، يحتاج إلى سماع من العرب ، بل لو جاء ، لم تتحقّق فيه الجوابية ؛ لأنّ «ودّ» التي بمعنى التمني ، متعلّقها المصادر لا الذّوات ، فإذا نصب الفعل بعد الفاء ، لم يتعيّن أن تكون فاء جواب ؛ لاحتمال أن يكون من باب عطف المصدر المقدّر على المصدر الملفوظ به ، فيكون من باب : [الوافر]

١٨٦٠ ـ للبس عباءة وتقرّ عيني

 .............. (٤)

يعني : كأنّ المصدر المفعول ب «يود» ملفوظ به ، والمصدر المقدّر ب «أن» والفعل ، وإلّا فالمصدر المحذوف ليس ملفوظا به ، إلا بهذا التّأويل المذكور ، بل المنقول أنّ الفعل ينتصب على جواب التّمنّي ، إذا كان بالحرف ، نحو : «ليت» ، و «لو» ، و «ألا» إذا أشربتا معنى التّمنّي.

وفيما قاله أبو حيّان نظر ؛ لأن الزّمخشريّ لم يعن ب «التمني» المفهوم من فعل الودادة ، بل المفهوم من لفظ «لو» المشعرة بالتمني ، وقد جاء النّصب في جوابها ؛ كقوله : (فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَكُونَ) [الشعراء : ١٠٢] ، وقد قدّمت تحقيق هذه المسألة ، فظهر قول

__________________

(١) ينظر : الكتاب ١ / ١١٦.

(٢) ينظر : الكشاف ١ / ٥٤٦.

(٣) ينظر : البحر المحيط ٣ / ٣٢٧.

(٤) تقدم برقم ٧٦٢.

٥٤٨

الزّمخشري من غير توقّف ، و «سواء» : خبر «تكونون» وهو في الأصل مصدر واقع موقع اسم الفاعل ، بمعنى مستوين ؛ ولذلك وحّد ، نحو : «رجال عدل».

لمّا استعظم قولهم : (أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللهُ) على سبيل الإنكار عقب ذكر الاستبعاد (١) ، بأن قال : إنّهم بلغوا في الكفر إلى أنّهم (٢) يتمنّون أن تصيروا أيّها المسلمون كفّارا ، فلما بلغوا في تعصّبهم (٣) في الكفر إلى هذا الحدّ ، فكيف تطمعون في إيمانهم.

ثم قال : (فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ حَتَّى يُهاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) معكم.

قال عكرمة : هي هجرة أخرى (٤) والهجرة على ثلاثة أوجه :

هجرة المؤمنين في أوّل الإسلام ، وهي قوله : (لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ) [الحشر : ٨] وقوله : (وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ) [النساء : ١٠٠] ونحوهما.

وهجرة المؤمنين (٥) وهي الخروج في سبيل الله مع رسول الله صابرا محتسبا ، كما حكى ههنا ، منع من موالاتهم حتّى يهاجروا في سبيل الله.

وهجرة سائر المؤمنين : وهي ما قال النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «المهاجر من هجر ما نهى الله عنه» (٦).

قال أبو بكر الرّازي (٧) : التقدير : حتى يسلموا ويهاجروا ؛ لأن الهجرة في سبيل الله لا تكون إلا بعد الإسلام ، فدلّت الآية على إيجاب الهجرة بعد الإسلام ، وأنّهم وإن أسلموا لم يكن بيننا وبينهم موالاة إلا بعد الهجرة ؛ لقوله ـ [تعالى](٨) ـ : (ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا) [الأنفال : ٧٢] وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أنا بريء من كل مسلم أقام بين أظهر المشركين» وهذا التّكليف إنّما كان لازما حيث كانت الهجرة واجبة مفروضة ، فلمّا فتحت مكّة ، نسخ ذلك ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم فتح مكة : «لا هجرة [واجبة مفروضة](٩) بعد الفتح ، ولكن جهاد ونيّة» (١٠).

وروي عن الحسن : أن حكم الآية ثابت [في كلّ](١١) من أقام في دار الحرب (١٢).

__________________

(١) في أ : الابتعاد.

(٢) في أ : بأنهم.

(٣) في أ : بغضهم.

(٤) في أ : الحزي.

(٥) في أ : المنافقين.

(٦) تقدم.

(٧) ينظر : تفسير الرازي ١٠ / ١٧٦.

(٨) سقط في أ.

(٩) سقط في ب.

(١٠) أخرجه البخاري ٦ / ٤٥ في الجهاد : باب وجوب النفير (٢٨٢٥) ، ومسلم ٢ / ٩٨٦ كتاب الحج باب تحريم مكة (٤٤٥ ـ ١٣٥٣).

(١١) سقط في ب.

(١٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٩ / ٢٥) عن الحسن.

٥٤٩

قال ابن الخطيب (١) : الهجرة تحصل تارة بالانتقال من دار الكفر إلى دار الإسلام ، وأخرى تحصل بالانتقال عن أعمال الكفّار إلى أعمال المسلمين ، قال ـ عليه الصلاة والسلام ـ : «المهاجر من هجر ما نهى الله عنه» وقال المحقّقون (٢) : الهجرة في سبيل الله عبارة عن الهجرة عن (٣) ترك منهيّاته وفعل مأموراته ، والآية عامّة في الكلّ ، وقيّد الهجرة بكونها في سبيل الله ؛ لأنه ربّما كانت الهجرة لغرض من أغراض الدّنيا فلا تكون معتبرة.

قال القرطبي (٤) : والهجرة أنواع : منها الهجرة إلى المدينة ؛ لنصرة النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الغزوات ، وكانت هذه واجبة أوّل الإسلام ، حتى قال : «لا هجرة بعد الفتح» وكذلك هجرة المنافقين مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم [وهجرة من أسلم في دار الحرب فإنها واجبة ، وهجرة المسلم ما حرّم الله عليه](٥) كما قال ـ عليه‌السلام ـ : «والمهاجر من هجر ما حرّم الله عليه» وهاتان الهجرتان ثابتتان الآن ، وهجرة أهل المعاصي ؛ ليرجعوا عمّا هم عليه تأديبا لهم ، فلا يكلّمون ولا يخاطبون ولا يخالطون حتى يتوبوا ؛ كما فعل النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع كعب وصاحبيه.

قوله : (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) أي : فإن أعرضوا عن التّوحيد والهجرة «فخذوهم» إذا قدرتم عليهم أسارى ، ومنه يقال للأسير : أخيذ ، (وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) في الحلّ والحرم (وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ) في هذه الحال «وليا» يتولى شيئا من مهماتكم (وَلا نَصِيراً) لينصركم على أعدائكم ، ثم استثنى منهم وهو قوله : (إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقاتِلُوكُمْ أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شاءَ اللهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَما جَعَلَ اللهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً).

قوله : (إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ :) في هذه الاستثناء قولان :

أظهرهما : أنه استثناء متّصل ، والمستثنى منه قوله : (فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ) في الأخذ والقتل لا في الموالاة ؛ لأن موالاة الكفّار والمنافقين لا يجوز بحال.

والمستثنون على هذا قوم كفار ، ومعنى الوصلة هنا الوصلة بالمعاهدة والمهادنة. وقال أبو عبيد : «هو اتّصال النّسب» ، وغلّطه النّحّاس بأن النّسب كان ثابتا بين النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم والصّحابة ، وبين المشركين ، ومع ذلك لم يمنعهم ذلك من قتالهم.

وقال ابن عبّاس : يريد : ويلجئون إلى قوم (بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ) أي : عهد ، وهم الأسلميّون ، وذلك أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وادع هلال بن عويمر (٦) الأسلميّ عند خروجه إلى مكّة ، على ألّا يعينه ولا يعين عليه ، ومن وصل إلى هلال من قومه وغيرهم ولجأ إليه ، فلهم من الجواز مثل ما لهلال.

وقال الضّحّاك عن ابن عبّاس : أراد بالقوم الّذين بينكم وبينهم ميثاق : بني بكر بن

__________________

(١) ينظر : تفسير الرازي ١٠ / ١٧٦.

(٢) ينظر : السابق.

(٣) في ب : من.

(٤) ينظر : تفسير القرطبي ٥ / ١٩٨.

(٥) سقط في أ.

(٦) في ب : عمير.

٥٥٠

زيد بن مناة ، وكانوا في الصّلح والهدنة ، وقال مقاتل : هم خزاعة.

والقول الثاني : أنه منقطع ـ وهو قول أبي مسلم الأصفهانيّ ، واختيار الرّاغب ـ.

قال أبو مسلم : «لمّا أوجب الله الهجرة على كلّ من أسلم ، استثنى من له عذر فقال : (إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ) وهم قوم قصدوا الهجرة إلى الرّسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ ونصرته ، وكان [بينهم وبينه في الطّريق كفّار يخافونهم ، فعهدوا إلى كفّار كان] بينهم وبين المسلمين عهد ، فأقاموا عندهم إلى أن يمكنهم الخلاص ، واستثنى بعد ذلك من صار إلى الرّسول وأصحابه ؛ لأنه يخاف الله فيه ، ولا يقاتل الكفّار أيضا لأنهم أقاربه ؛ أو لأنه يخاف على أولاده الذين هم في أيديهم» ، فعلى هذا القول يكون استثناء منقطعا ؛ لأن هؤلاء المستثنين لم يدخلوا تحت قوله : (فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ) والمستثنون على هذا مؤمنون.

قوله : (بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ) يجوز أن يكون جملة من مبتدأ وخبر في محلّ جرّ صفة ل «قوم» ، ويجوز أن يكون «بينكم» وحده صفة ل «قوم» ، فيكون في محلّ جرّ ويتعلّق بمحذوف ، و «ميثاق» على هذا رفع بالفاعليّة ؛ لأنّ الظّرف اعتمد على موصوف ، وهذا الوجه أقرب ؛ لأنّ الوصف بالمفرد أصل للوصف بالجملة.

قوله : (أَوْ جاؤُكُمْ) فيه وجهان :

أظهرهما : أنه عطف على الصّلة ؛ كأنه قيل : أو إلا الذين جاءوكم حصرت صدورهم ، فيكون التقدير : «إلا الذين يصلون بالمعاهدين ، أو الذين حصرت صدورهم فليقاتلوكم» فيكون المستثنى صنفين من النّاس : أحدهما واصل إلى قوم معاهدين ، والآخر من جاء غير مقاتل للمسلمين ولا لقومه.

والثاني : أنه عطف على صفة «قوم» وهي قوله : (بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ ،) فيكون المستثنى صنفا واحدا يختلف باختلاف من يصل إليه من معاهد وكافر ، واختار الأول الزّمخشري وابن عطيّة.

قال الزّمخشريّ : «الوجه العطف على الصّلة ؛ لقوله : (فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ) بعد قوله : (فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ) فقرّر أنّ كفّهم عن القتال أحد سببي استحقاقهم لنفي التعرّض لهم ، وترك الإيقاع بهم ، فإن قلت : كلّ واحد من الاتّصالين له تأثير في صحة الاستثناء ، واستحقاق ترك التّعرض للاتصال بالمعاهدين والاتصال بالكافّين ، فهلا جوّزت أن يكون العطف على صفة «قوم» ، ويكون قوله : (فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ) تقريرا لحكم اتّصالهم بالكافّين واختلاطهم بهم ، وجريهم على سننهم؟ قلت : هو جائز ، ولكن الأوّل أظهر وأجرى على أسلوب الكلام». انتهى.

وإنما كان أظهر لوجهين :

٥٥١

أحدهما : من جهة الصّناعة ، والثاني : من جهة المعنى.

أمّا الأوّل : فلأنّ عطفه على الصّلة لكون النّسبة فيه إسنادية ، وذلك أن المستثنى محدّث عنه محكوم له ، بخلاف حكم المستثنى منه ، فإذا قدّرت العطف على الصّلة ، كان محدّثا عنه بما عطفته ، بخلاف ما إذا عطفته على الصّفة ، فإنه يكون تقييدا في «قوم» الذين هم قيد في الصّلة المحدّث عن صاحبها ، ومتى دار الأمر بين أن تكون النّسبة إسناديّة وبين أن تكون تقييدية ، كان جعلها إسنادية أولى لاستقلالها.

والثاني من جهة المعنى : وذلك أنّ العطف على الصّلة يؤدّي إلى أنّ سبب ترك التّعرّض لهم تركهم القتال ونهيهم عنه ، وهذا سبب قريب ، والعطف على الصّفة يؤدي إلى أنّ سبب ترك التعرّض لهم ، وصولهم إلى قوم كافّين عن القتال ، وهذا سبب بعيد ، وإذا دار الأمر بين سبب قريب وآخر بعيد ، فاعتبار القريب أولى.

والجمهور على إثبات «أو» ، وفي مصحف أبيّ (١) : «جاءوكم» من غير «أو» ، وخرّجها الزّمخشريّ على أحد أربعة أوجه : إمّا البيان ل «يصلون» ، أو البدل منه ، أو الصّفة لقوم بعد صفة ، أو الاستئناف.

قال أبو حيان (٢) : «وهي وجوه محتملة وفي بعضها ضعف ، وهو البيان والبدل ؛ لأن البيان لا يكون في الأفعال ؛ ولأن البدل لا يتأتّى لكونه ليس إيّاه ، ولا بعضه ، ولا مشتملا عليه». انتهى ، ويحتاج الجواب عنه [إلى] تأمّل ونظر.

قوله : (حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ) فيه سبعة أوجه :

أحدها : أنه لا محلّ لهذه الجملة ، بل جيء بها للدّعاء عليهم بضيق صدورهم عن القتال ، وهذا منقول عن المبرّد ، إلّا أنّ الفارسيّ ردّ عليه بأنا مأمورون بأن ندعو على الكفّار بإلقاء العداوة بينهم ، فنقول : «اللهم أوقع العداوة بين الكفّار» لكن يكون قوله : (أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ) نفيا لما اقتضاه دعاء المسلمين عليهم.

وقد أجاب عن هذا الردّ بعض النّاس ؛ فقال ابن عطيّة : «يخرّج قول المبرّد على أن الدّعاء عليهم بألّا يقاتلوا المسلمين تعجيز لهم ، والدعاء عليهم بألّا يقاتلوا قومهم تحقير لهم ، أي : هم أقلّ وأحقر ومستغنى عنهم ، كما تقول إذا أردت هذا المعنى : «لا جعل الله فلانا عليّ ولا معي» بمعنى : أستغني عنه وأستقلّ دونه».

وأجاب غيره بأنّه يجوز أن يكون سؤالا لقومهم ، على أنّ قوله : «قومهم» قد يحتمل أن يعبّر به عمّن ليسوا منهم ، [بل عن معاديهم».

الثاني : أنّ «حصرت» حال من فاعل «جاءوكم» ، وإذا وقعت الحال فعلا ماضيا

__________________

(١) ينظر : البحر المحيط ٣ / ٣٣٠ ، الدر المصون ٢ / ٤١٠.

(٢) ينظر : البحر المحيط ٣ / ٣٢٩ ـ ٣٣٠.

٥٥٢

ففيها] خلاف : هل يحتاج إلى اقترانه ب «قد» أم لا؟ والراجح عدم الاحتياج ؛ لكثرة ما جاء منه ، فعلى هذا لا تضمر «قد» قبل «حصرت» ، ومن اشترط ذلك ، قدّرها هنا.

والثالث : أنّ «حصرت» صفة لحال محذوفة ، تقديره : أو جاءوكم قوما حصرت صدورهم ورجالا حصرت صدورهم ، فنصب لأنّه صفة موصوف منصوب على الحال ، إلّا أنه حذف الموصوف المنتصب على الحال ، وأقيمت صفته مقامه وسمّاها أبو البقاء (١) حالا موطّئة ، وهذا الوجه يعزى للمبرّد أيضا.

الرابع : أن يكون في محلّ جرّ صفة لقوم بعد صفة ، و (أَوْ جاؤُكُمْ) معترض.

قال أبو البقاء : يدلّ عليه قراءة من أسقط «أو» وهو أبيّ ، كذا نقله عنه أبو حيّان والذي في إعرابه إسقاط (أَوْ جاؤُكُمْ) جميعه ، وهذا نصّه (٢) قال : «أحدهما : هو جرّ صفة لقوم ، وما بينهما صفة أيضا ، و «جاءوكم» معترض ، وقد قرأ بعض الصّحابة : «بينكم وبينهم ميثاق حصرت صدورهم» ، بحذف (أَوْ جاؤُكُمْ) هذا نصّه ، وهو أوفق لهذا الوجه.

الخامس : أن يكون بدلا من «جاءوكم» بدل اشتمال ؛ لأن المجيء مشتمل على الحصر وغيره ، نقله أبو حيان عن أبي البقاء أيضا.

السادس : أنه خبر بعد خبر ، وهذه عبارة الزّجّاج (٣) ، يعني : أنها جملة مستأنفة ، أخبر بها عن ضيق صدور هؤلاء عن القتال بعد الإخبار عنهم بما تقدّم.

قال ابن عطية بعد حكاية قول الزّجّاج : «يفرّق بين الحال وبين خبر مستأنف في قولك : «جاء زيد ركب الفرس» أنك إذا أردت الحال بقولك : «ركب الفرس» قدّرت «قد» ، وإن أردت خبرا بعد خبر ، لم تحتج إلى تقديرها».

السّابع : أنه جواب شرط مقدّر ، تقديره : إن جاءوكم حصرت [صدورهم] ، وهو رأي الجرجانيّ ، وفيه ضعف ؛ لعدم الدّلالة على ذلك.

وقرأ الجمهور : «حصرت» فعلا ماضيا ، وقرأ الحسن ، وقتادة (٤) ، ويعقوب : «حصرة» نصبا على الحال بوزن «نبقة» ، وهي تؤيّد كون «حصرت» حالا (٥) ، ونقلها المهدوي عن

__________________

(١) ينظر : الإملاء ١ / ١٩٠.

(٢) ينظر : الإملاء ١ / ١٨٩.

(٣) ينظر : معاني القرآن ٢ / ٩٦.

(٤) وهي قراءة مصحف أبيّ.

ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٩٠ ، والبحر المحيط ٣ / ٣٢٩ ، ٣٣٠ وفيه إسقاط «أو» فقط على أنها قراءة أبي.

وينظر : الدر المصون ٢ / ٤١١.

(٥) احتج الكوفيون بهذه الآية : أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ على جواز وقوع الفعل الماضي حالا ، واحتجاجهم بتلك الآية مردود من أربعة أوجه :

الوجه الأول : أن تكون صفة ل «قوم» ، المجرور في أول الآية ، وهو قوله تعالى : (إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ)

والوجه الثاني : أن تكون صفة ل «قوم» مقدر ، ويكون التقدير فيه : «أو جاؤوكم قوما حصرت ـ

٥٥٣

عاصم في رواية حفص ، وروي عن الحسن (١) أيضا : «حصرات» و «حاصرات».

وهاتان القراءتان تحتملان أن تكون «حصرات» و «حاصرات» نصبا على الحال ، أو جرّا على الصّفة ل «قوم» ؛ لأنّ جمع المؤنّث السّالم يستوي جرّه ونصبه ، إلا أنّ فيهما ضعفا ؛ من حيث إنّ الوصف الرّافع لظاهر الفصيح فيه أن يوحد كالفعل ، أو يجمع جمع تكسير ويقلّ جمعه تصحيحا ، تقول : مررت بقوم ذاهب جواريهم ، أو قيام جواريهم ، ويقلّ : «قائمات جواريهم».

وقرىء (٢) : «حصرة» بالرفع على أنه خبر مقدّم ، و «صدورهم» مبتدأ ، والجملة حال أيضا. وقال أبو البقاء (٣) : «وإن كان قد قرىء : «حصرة» بالرّفع ، فعلى أنّه خبر ، و «صدورهم» : مبتدأ ، والجملة حال».

قوله : (أَنْ يُقاتِلُوكُمْ) أصله : عن أن ، فلمّا حذف حرف الجرّ ، جرى الخلاف المشهور : أهي في محلّ جرّ أو نصب؟ والحصر : الضّيق ، وأصله في المكان ، ثم توسّع فيه [فأطلق على حصر القول : وهو الضيق في الكلام على المتكلّم والحصر : المكتوم] قال : [الكامل]

١٨٦١ ـ ولقد تسقّطني الوشاة فصادفوا

حصرا بسرّك يا أميم ضنينا (٤)

فصل

اختلفوا في الّذين استثناهم الله ـ تعالى ـ :

فقال الجمهور (٥) [هم](٦) من الكفّار والمعنى : أنه ـ تعالى ـ أوجب قتل الكافر ، إلّا إذا كان معاهدا أو كان تاركا للقتال ، فإنّه لا يجوز قتلهم ، وعلى هذا التّقدير فالقول بالنّسخ لازم ؛ لأنّ الكافر وإن ترك القتال ؛ فإنه يجوز قتله.

وقال أبو مسلم الأصفهاني (٧) : هم قوم من المؤمنين ، وذكر ما تقدّم عنه في كون الاستثناء منقطعا.

__________________

ـ صدورهم» ، والماضي إذا وقع صفة لموصوف محذوف ، جاز أن يقع حالا بالإجماع.

والوجه الثالث : أن يكون خبرا بعد خبر كأنه قال : أو جاؤوكم ، ثم أخبر ، فقال : حصرت صدورهم.

والوجه الرابع : أن يكون محمولا على الدعاء لا على الحال ؛ كأنه قال : ضيق الله صدورهم كما يقال : اءني فلان وسع الله رزقه ، وأحسن إليّ غفر الله له ، وسرق قطع الله يده وما أشبه ذلك ، فاللفظ في ذلك كله لفظ الماضي ، ومعناه الدعاء ، وهذا كثير في كلامهم ؛ وسيأتي تفصيل عرض مذاهب النحويين في ذلك عند قوله تعالى : (وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ).

(١) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٩٠ ، والبحر المحيط ٣ / ٣٣٠ ، والدر المصون ٢ / ٤١١ ، وإتحاف ١ / ٥١٨.

(٢) ينظر : البحر المحيط ٣ / ٣٣٠ ، والدر المصون ٢ / ٤١٢.

(٣) ينظر : الإملاء ١ / ١٩٠.

(٤) تقدم.

(٥) ينظر : تفسير الرازي ١٠ / ١٧٨.

(٦) سقط في ب.

(٧) ينظر : تفسير الرازي ١٠ / ١٧٨.

٥٥٤

قوله : (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ) التّسليط في اللغة (١) مأخوذ من السّلاطة ؛ وهي الحدّة ، والمقصود : أنّ الله تعالى منّ على المسلمين بكفّ بأس المعاهدين.

قال [بعض](٢) المفسّرين : معنى الآية : أن القوم الّذين جاءوكم بنو مدلج ، كانوا عاهدوا ألّا يقاتلوا المسلمين ، وعاهدوا قريشا ألّا يقاتلوهم وحصرت : ضاقت صدورهم ، (أَنْ يُقاتِلُوكُمْ) أي : عن قتالكم للعهد الذي بينكم ، (أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ) يعني : من أمن منهم ، ويجوز أن يكون معناه : أنّهم لا يقاتلونكم مع قومهم ، ولا يقاتلون قومهم معكم ، يعني : قريشا قد ضاقت صدورهم لذلك.

وقال بعضهم : «أو» بمعنى الواو ؛ كأنه قال : إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق ، جاءوكم حصرت صدورهم عن قتالكم والقتال معكم وهم ـ قوم هلال ـ الأسلميّون وبنو بكر ، نهى الله ـ سبحانه ـ عن قتل هؤلاء المرتدّين إذا اتّصلوا بأهل عهد للمؤمنين ؛ لأن من انضمّ إلى قوم ذوي عهد فله حكمهم في حقن الدّم.

فصل

المعنى : أن ضيق صدورهم عن قتالكم ؛ إنّما هو لأن الله ـ تعالى ـ قذف الرّعب في قلوبهم ، ولو أنه ـ تعالى ـ قوّى قلوبهم على قتال المسلمين ، لتسلّطوا عليهم ، وهذا يدلّ على أنّه لا يصحّ من الله تسليط الكافر على المؤمن (٣) وتقويته [عليه](٤).

وأجاب المعتزلة بوجهين :

الأول : قال الجبّائي : قد بينّا أنّ الّذين استثناهم الله ـ تعالى ـ قوم مؤمنون لا كافرون ، وعلى هذا فمعنى الآية : ولو شاء الله لسلّطهم عليكم بتقوية [قلوبهم](٥) ليدفعوا عن أنفسهم ، إن أقدمتم على مقاتلتهم على سبيل الظّلم.

الثّاني : قال الكلبي : إنه ـ تعالى ـ أخبر أنّه لو شاء لفعل ، وهذا لا يفيد إلّا أنه ـ تعالى ـ قادر على الظّلم ، وهذا مذهبنا ، إلا أنّا نقول : إنه ـ تعالى ـ لا يفعل الظّلم.

قوله : «فلقاتلوكم» اللام جواب «لو» على التّكرير أو البدليّة ، تقديره : ولو شاء الله لسلّطهم عليكم ، ولو شاء الله لقاتلوكم.

وقال ابن عطيّة : هي لام المحاذاة والازدواج بمثابة الأولى ، لو لم تكن الأولى كنت تقول : «لقاتلوكم». وهي تسمية غريبة ، وقد سبقه إليها مكّي ، والجمهور على :

__________________

(١) في ب : المغني.

(٢) سقط في ب.

(٣) في ب : الكافرين على المؤمنين.

(٤) سقط في أ.

(٥) سقط في ب.

٥٥٥

(فَلَقاتَلُوكُمْ) من المفاعلة. ومجاهد (١) ، وجماعة : «فلقتّلوكم» ثلاثيا ، والحسن والجحدري (٢) : «فلقتّلوكم» بالتّشديد.

قوله : (فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ) أي : فإن لم يتعرضوا لكم لقتالكم ، وألقوا إليكم السّلم ، أي : الانقياد والاستسلام وقرأ الجحدري (٣) : «السّلم» بفتح السّين وسكون اللام ، وقرأ الحسن بكسر السّين وسكون اللام (فَما جَعَلَ اللهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً) أي : طريقا بالقتل والقتال.

[قوله : (لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً) «لكم» متعلّق ب «جعل» ، و «سبيلا» مفعول «جعل» ، و «عليهم» حال من «سبيلا» ؛ لأنه في الأصل صفة نكرة قدّم عليها ، ويجوز أن تكون «جعل» بمعنى «صير» ، فيكون «سبيلا» مفعولا أوّل ، و «عليهم» مفعول ثان قدّم].

قال بعضهم : هذه الآية منسوخة بآية السّيف ، وهي قوله : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ) [التوبة : ٥] ، وقال آخرون : إنّها غير منسوخة ، أمّا الّذين حملوا الاستثناء على المسلمين ، فهو ظاهر على قولهم ، وأمّا الذين حملوه على الكافرين ؛ فقال الأصمّ (٤) : إذا حملنا الآية على المعاهدين ، فكيف يمكن أن يقال إنها منسوخة.

قوله تعالى : (سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّما رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيها فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولئِكُمْ جَعَلْنا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطاناً مُبِيناً)(٩١)

(٥) السّين في «ستجدون» للاستقبال على أصلها ، قالوا : وليست (٦) هنا للاستقبال ، بل للدّلالة على الاستمرار ، وليس بظاهر.

قال الكلبي عن أبي صالح ، عن ابن عبّاس : هم أسد وغطفان (٧) كانوا حاضري المدينة ، تكلّموا بالإسلام رياء ، وهم غير مسلمين ، فكان الرّجل منهم يقول له قومه : بماذا أسلمت؟ فيقول : آمنت بربّ القرد ، وبرب العقرب والخنفساء ، وإذا لقوا أصحاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قالوا : إنّا على دينكم ، يريدون بذلك الأمن في الفريقين ، وقال الضّحّاك عن ابن عبّاس : هم بنو عبد الدّار ، كانوا بهذه الصّفة.

(يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ) فلا تتعرّضوا لهم ، (وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ) فلا يتعرّضوا لهم ، (كُلَّما

__________________

(١) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٩٠ ، والبحر المحيط ٣ / ٣٣١ ، والدر المصون ٢ / ٤١٢.

(٢) ينظر : المصادر السابقة.

(٣) ينظر : المصادر السابقة.

(٤) ينظر : تفسير الرازي ١٠ / ١٧٩.

(٥) سقط في ب.

(٦) في أ : وليت.

(٧) ذكره الفخر الرازي في «التفسير الكبير» (١٠ / ١٧٩) عن ابن عباس.

٥٥٦

رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ) دعوا إلى الشّرك ، (أُرْكِسُوا فِيها) أي : رجعوا ، وعادوا إلى الشّرك.

وقرأ عبد الله (١) : «ركسوا فيها» ثلاثيّا مخفّفا ، ونقل ابن جنيّ عنه : «ركّسوا» بالتّشديد. وقرأ ابن وثاب والأعمش (٢) : «ردوا» بكسر الرّاء ؛ لأن الأصل : «رددوا» فأدغم ، وقلبت (٣) الكسرة على الرّاء (٤) ، وقوله : (إِلَى الْفِتْنَةِ) إلى الكفر (أُرْكِسُوا فِيها فَإِنْ لَمْ (٥) يَعْتَزِلُوكُمْ) : أي : فإن لم يكفّوا عن قتالكم حتّى تسيروا إلى مكّة : (وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ) أي : المفاداة والصّلح ، (وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ) ولم يقبضوا أيديهم من قتالكم ، «فخذوهم» ، أسرى (وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ) أي : وجدتموهم ، (وَأُولئِكُمْ) أي : أهل هذه الصّفة (جَعَلْنا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطاناً مُبِيناً) أي : حجّة بيّنة ظاهرة بالقتل والقتال ، وهذه الآية تدلّ على أنّهم إذا اعتزلوا قتالنا وطلبوا الصّلح منّا ، وكفوا أيديهم عن إيذائنا ، لم يجز لنا قتالهم ، ونظيره قوله تعالى : (لا يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ) [الممتحنة : ٨] ، وقوله : (وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ) [البقرة : ١٩٠].

قوله تعالى : (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ إِلاَّ أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللهِ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً)(٩٢)

(٥) كما رغّب في مقاتلة الكفّار ، ذكر بعدها ما يتعلّق بالمحاربة ، ولا شكّ أنّه قد يتّفق أن يرمي (٦) الرّجل رجلا يظنّه كافرا حربيّا فيقتله ، ثم يتبين (٧) أنّه مسلم ، فذكر الله ـ تعالى ـ حكم هذه الواقعة.

قوله ـ تعالى ـ : (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ).

قد تقدّم الكلام في نظير هذا التّركيب عند قوله ـ تعالى ـ : (ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلَّا خائِفِينَ) [البقرة : ١١٤]. وقوله : (إِلَّا خَطَأً) فيه أربعة أوجه :

أحدها : أنه استثناء منقطع ـ وهو قول الجمهور ـ إن أريد بالنّفي معناه ، ولا يجوز أن يكون متّصلا ، إذ يصير المعنى : إلا خطأ فله قتله.

والثاني : أنه متصل إن أريد بالنّفي التحريم ، ويصير المعنى : إلا خطأ بأن عرفه أنّه كافر فقتله ، ثم كشف الغيب أنه كان مؤمنا.

__________________

(١) تقدمت.

(٢) ينظر : البحر المحيط ٣ / ٣٣٢.

(٣) في أ : ونقلت.

(٤) في أ : الياء.

(٥) سقط في ب.

(٦) في ب : يرى.

(٧) في أ : بين.

٥٥٧

الثالث : أنه استثناء مفرّغ ، ثم في نصبه ثلاثة احتمالات :

الأوّل : أنه مفعول له ، أي : ما ينبغي له أن يقتله [لعلّة من الأحوال ، إلا للخطأ وحده.

الثاني : أنه حال ، أي : ما ينبغي له أن يقتله] في حال من الأحوال ، إلا في حال الخطأ.

الثالث : أنه نعت مصدر محذوف ، أي : إلا قتلا خطأ ، ذكر هذه الاحتمالات الزّمخشريّ.

الرابع من الأوجه : أن تكون «إلا» بمعنى «ولا» والتقدير : وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا عمدا ولا خطأ ، ذكره بعض أهل العلم ، حكى أبو عبيدة عن يونس قال : سألت رؤبة بن العجّاج عن هذه الآية ، فقال : «ليس له أن يقتله عمدا ولا خطأ» فأقام «إلّا» مقام الواو ؛ وهو كقول الشّاعر : [الوافر]

١٨٦٢ ـ وكلّ أخ مفارقه أخوه

لعمر أبيك إلّا الفرقدان (١)

إلا أن الفرّاء ردّ هذا القول ؛ بأن مثل ذلك لا يجوز ، إلا إذا تقدّمه استثناء آخر ، فيكون الثّاني عطفا عليه ؛ كقوله : [البسيط]

١٨٦٣ ـ ما بالمدينة دار غير واحدة

دار الخليفة إلّا دار مروانا (٢)

وهذا رأي الفراء (٣) ، وأمّا غيره ، فيزعم أنّ «إلا» تكون عاطفة بمعنى الواو من غير شرط ، وقد تقدّم تحقيق هذا في قوله : (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا) [البقرة : ١٥٠].

وقرأ الجمهور : «خطأ» مهموزا بوزن «نبأ» ، والزهري (٤) : «خطا» بوزن «عصا» ، وفيها تخريجان :

أحدهما : أنه حذف لام الكلمة تخفيفا ، كما حذفوا لام دم ، ويد وأخ وبابها.

والثاني : أنه خفّف الهمزة بإبدالها ألفا ، فالتقت مع التّنوين ؛ فحذفت لالتقاء السّاكنين ، كما يفعل ذلك بسائر المقصور ، والحسن قرأ (٥) : «خطاء» بوزن «سماء».

فصل

ذكر المفسّرون في سبب النّزول وجوها :

أحدها : روى عروة بن الزّبير : أن حذيفة بن اليمان قاتل مع النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم أحد فأخطأ المسلمون ، وظنّو أن أباه اليمان واحدا من الكفّار ، فضربوه بأسيافهم ، وحذيفة

__________________

(١) تقدم برقم ٦٢٤.

(٢) تقدم برقم ٨٤٤.

(٣) ينظر : معاني القرآن ١ / ٩٠.

(٤) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٩٢ ، والبحر المحيط ٣ / ٣٣٤ ، والدر المصون ٢ / ٤١٣.

(٥) وبها قرأ الأعمش. ينظر السابقة ، والتخريجات النحوية ١٠٥.

٥٥٨

يقول : إنّه أبي ، فلم يفهموا قوله إلا بعد أن قتلوه ، فقال حذيفة : يغفر الله لكم وهو أرحم الرّاحمين ، فلما سمع النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذلك ، ازداد وقع حذيفة عنده ، فنزلت هذه الآية (١).

وثانيها : أن أبا الدّرداء كان في سريّة ، فعدل إلى شعب لحاجة [فوجد](٢) رجلا في غنم له ، فحمل [عليه](٣) بالسّيف ، فقال الرّجل لا إله إلا الله ، فقتله وساق غنمه ، ثم وجد في نفسه شيئا ، فذكر الواقعة للرّسول ـ عليه الصّلاة والسلام ـ فقال النّبيّ ـ عليه الصلاة والسلام ـ : «هلّا شققت عن قلبه» وندم أبو الدّرداء ، فنزلت الآية (٤).

ثالثها :؟؟؟ عيّاش بن أبي ربيعة المخزوميّ ، وكان أخا لأبي جهل من أمّه : أتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمكة قبل الهجرة فأسلم ثم خاف أن يظهر إسلامه لأهله فخرج هاربا إلى المدينة ، وتحصّن في أطم من آطامها ، فجزعت أمه لذلك جزعا شديدا وقالت لابنها الحارث وأبي جهل بن هشام وهما أخواه لأمه : والله لا يظلني سقف ولا أذوق طعاما ولا شرابا حتى تأتوني به ، فخرجا في طلبه وخرج معهما الحارث بن زيد بن أبي أنيسة حتى أتوا المدينة ، فأتوا عياشا وهو في الأطم ، قالا له : انزل فإنّ أمك لم يؤوها سقف بيت بعدك ، وقد حلفت ألّا تأكل طعاما ولا تشرب شرابا حتى ترجع إليها ولك عهد الله علينا أن لا نكرهك على شيء ولا نحول بينك وبين دينك ، فلما ذكروا له جزع أمه وأوثقوا له بالله نزل إليهم فأخرجوه من المدينة ثم أوثقوه بنسعة فجلده كل منهم مائة جلدة ، ثم قدموا به على أمّه فلما أتاها قالت : والله لا أحلّك من وثاقك حتى تكفر بالذي آمنت به ، ثم تركوه موثقا مطروحا في الشمس ما شاء الله فأعطاهم الذي أرادوا فأتاه الحارث بن زيد فقال : يا عياش أهذا الذي كنت عليه فو الله لئن كان هدى لقد تركت الهدى ، ولئن كان ضلالة لقد كنت عليها ، فغضب عياش من مقالته ، وقال : والله لا ألقاك خاليا أبدا إلا قتلتك ، ثم إن عياشا أسلم بعد ذلك وهاجر ثم أسلم الحارث بن زيد بعده وهاجر إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وليس عياش حاضرا يومئذ ولم يشعر بإسلامه فبينما عياش يسير بظهر قباء إذ لقي الحارث فقتله ، فقال الناس : ويحك أي شيء قد صنعت؟! إنه قد أسلم ، فرجع عياش لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال : يا رسول الله قد كان من أمري وأمر الحارث ما قد علمت ، وإني لم أشعر بإسلامه حتى قتلته فنزلت الآية(٥).

فصل تفسير قوله ـ تعالى ـ : (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ)

قوله : (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ) (٦) قيل : معناه : ما كان له فيما أتاه من ربّه وعهد

__________________

(١) ينظر : تفسير الرازي (١٠ / ١٨٠).

(٢) سقط في أ.

(٣) سقط في أ.

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٩ / ٣٤) عن ابن زيد وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٢٤٥) وعزاه للطبري وحده.

(٥) ذكره البغوي في تفسيره ١ / ٤٦٢.

(٦) سقط في أ.

٥٥٩

إليه ، وقيل : ما كان له في شيء من الأزمنة ذلك ، والمقصود : بيان أنّ حرمة القتل كانت ثابتة من أوّل زمان التّكليف.

وقوله : «إلا خطأ» فعلى القول بأنّه متّصل ؛ ذكروا وجوها :

أحدها : أن هذا الاستثناء معناه : أن الإنسان يؤاخذ على القتل ، إلا إذا كان القتل قتل خطأ ، فإنّه لا يؤاخذ به.

وثانيها : أنه استثناء صحيح على ظاهر اللّفظ ، والمعنى : ليس لمؤمن أن يقتل مؤمنا ألبتّة إلا عند الخطأ ، وهو ما إذا رأى عليه شعار الكفّار ، أو وجده في عسكرهم فظنه مشركا. فحينئذ يجوز قتله.

ثالثها : أن في الكلام تقديما وتأخيرا ، والتقدير : وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ ؛ كقوله ـ [تعالى](١) ـ : (ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ) [مريم : ٣٥] أي : وما كان الله ليتّخذ من ولد ؛ لأنّه ـ تعالى ـ لا يحرّم عليه شيء ، إنّما ينفى عنه ما لا يليق به.

قال القرطبي (٢) : قوله : (وَما كانَ) ليس على النّفي ، وإنّما هو على التّحريم والنّهي ؛ كقوله: (وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ) [الأحزاب : ٥٣] ولو كانت على النّفي ، لما وجد مؤمن قتل مؤمنا [قط](٣) ؛ لأن ما نفاه الله لا يجوز وجوده ؛ كقوله (ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها) [النمل : ٦٠] ، معناه : ما كنتم لتنبتوا ؛ لأنه ـ تعالى ـ لم يحرّم عليهم أن ينبتوا الشجر ، إنما نفى عنهم أن يمكنهم إنباتها ، فإنه ـ تعالى ـ هو القادر على إنبات الشّجر.

ورابعها : أن وجه الإشكال (٤) في اتّصال هذا الاستثناء أن يقال : الاستثناء من النّفي إثبات ، وهذا يقتضي الإطلاق في قتل المؤمن في بعض الأحوال ، وذلك محال ؛ لأن ذلك الإشكال إنّما يلزم إذا سلّمنا أنّ الاستثناء من النّفي إثبات ، وذلك مختلف فيه بين الأصوليّين ، والصّحيح أنّه لا يقتضيه ؛ لأن الاستثناء يقتضي نفي الحكم عن المستثنى ، لا صرف المحكوم به عنه ، وإذا كان تأثير الاستثناء في صرف الحكم فقط ، بقي المستثنى غير محكوم عليه ، لا بالنّفي ولا بالإثبات ، وحينئذ يندفع الإشكال ، وممّا يدلّ على أنّ الاستثناء في المنفيّ ليس بإثبات ، قوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ : «لا صلاة إلّا بطهور (٥) ولا نكاح إلّا بوليّ» ويقال : لا ملك إلا بالرّجال ، ولا رجال إلّا بالمال ، والاستثناء في هذه الصور لا يفيد أن يكون الحكم المستثنى من النّفي إثباتا.

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) ينظر : تفسير القرطبي ٥ / ٢٠١.

(٣) سقط في ب.

(٤) في ب : الإمكان.

(٥) أخرجه بهذا اللفظ ابن عبد البر في «التمهيد» (٨ / ٢١٥).

٥٦٠