اللّباب في علوم الكتاب - ج ٦

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ٦

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٦٣٢

بصير بكلّ المبصرات يبصر ذلك ، وهذا أعظم أسباب الوعد للمطيع ، وأعظم أسباب الوعيد للعاصي. وإليه الإشارة بقوله ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ «اعبد الله كأنّك تراه فإن لم تكن تراه فإنّه يراك».

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً)(٥٩)

اعلم أنّه تعالى لما أمر الولاة بالعدل ؛ أمر الرعية بطاعة الولاة.

قال ابن عبّاس وجابر : أولو الأمر : [هم](١) الفقهاء ، والعلماء الّذين يعلّمون النّاس دينهم(٢).

وهو قول الحسن ، والضّحاك ومجاهد. لقوله تعالى (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى)(٣)(أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ).

وقال أبو هريرة : هم الأمراء والولاة (٤) ، وقال عليّ بن أبي طالب : حقّ على الإمام أن يحكم بما أنزل الله ، ويؤدّي الأمانة ، فإذا فعل ذلك ؛ حقّ على الرّعيّة أن يسمعوا ، ويطيعوا (٥).

وروى أبو هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من أطاعني ؛ فقد أطاع الله ، ومن يعصني ، فقد عصى الله ، ومن يطع الأمير ؛ فقد أطاعني ومن يعصي الأمير ، فقد عصاني» (٦) وقال عليه الصّلاة والسلام «السّمع والطّاعة على المرء المسلم فيما أحبّ وكره ما لم يؤمر بمعصية فإذا أمر بمعصية ، فلا سمع ولا طاعة» (٧).

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٨ / ٤٩٩ ، ٥٠٠ ، ٥٠١) عن ابن عباس وجابر والحسن ومجاهد وأبي العالية.

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٣١٥) عن جابر وزاد نسبته لابن أبي شيبة وعبد بن حميد والحكيم الترمذي في «نوادر الأصول» وابن المنذر وابن أبي حاتم.

وذكره أيضا (٢ / ٣١٥) عن مجاهد وزاد نسبته لسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن أبي حاتم وابن أبي شيبة وابن المنذر.

(٣) سقط في ب.

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٨ / ٤٩٧) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٣١٥) وزاد نسبته لسعيد بن منصور وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم. وذكره ابن حجر في «الفتح» (٨ / ١٩١) وقال : أخرجه الطبري بإسناد صحيح.

(٥) ذكره الفخر الرازي في «التفسير الكبير» (١٠ / ١١٥) عن علي بن أبي طالب.

(٦) أخرجه البخاري (٦ / ١٣٥) كتاب الجهاد والسير باب يقاتل من وراء الإمام ويتقى به (٢٩٥٧) ومسلم (٣ / ١٤٦٦) كتاب الإمارة باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية (٣٢ ـ ١٨٣٥) من حديث أبي هريرة.

(٧) أخرجه البخاري (١٣ / ١٢١) كتاب الأحكام : باب السمع والطاعة (٧١٤٤) ومسلم (٣ / ١٤٦٩) كتاب ـ

٤٤١

وروى عبادة بن الصّامت قال : بايعنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على السّمع والطّاعة في اليسر ، والعسر(١) ، والمنشط ، والمكره ، وألّا ننازع الأمر أهله ، وأن نقوم ، أو نقول بالحقّ ، حيث ما كنّا ، لا نخاف في الله لومة لائم (٢).

وعن أنس : أنّ النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لأبي ذر : «اسمع ، وأطع ولو لعبد حبشيّ كأنّ رأسه زبيبة» (٣).

وروى أبو أمامة قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يخطب في حجة الوداع فقال : «اتّقوا الله ، وصلّوا خمسكم ، وصوموا شهركم ، وأدّوا زكاة أموالكم ، وأطيعوا إذا أمركم ؛ تدخلوا جنّة ربّكم» (٤).

وقال سعيد بن جبير عن ابن عبّاس المراد أمراء السّرايا (٥) قال : نزلت هذه الآية في عبيد الله بن أبي حذافة بن قيس بن عديّ السّهميّ إذ بعثه النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم [في سرية ، وعن ابن عباس أنّها نزلت في خالد بن الوليد بعثه](٦) النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على سريّة ، وفيها عمّار بن

__________________

ـ الإمارة باب وجوب طاعة الأمراء (٣٨ ـ ١٨٣٩) وأحمد (٤٦٦٨ ـ شاكر) والبغوي في «شرح السنة» (٥ / ٢٩٩) والطبري في «تفسيره» من حديث عبد الله بن عمر.

(١) في ب : العسر واليسر.

(٢) أخرجه مالك في «الموطأ» (٢ / ٤٤٥) باب الترغيب في الجهاد والبخاري (١٣ / ١٩٢) كتاب الأحكام : باب كيف يبايع الإمام الناس (٧١٩٩ ، ٧٢٠٠) ومسلم (٣ / ١٤٧٠) كتاب الإمارة باب وجوب طاعة الأمراء (٤١ / ١٧٠٩) من حديث عبادة بن الصامت.

(٣) أخرجه البخاري (١٣ / ١٣٠) كتاب الأحكام : باب السمع والطاعة للإمام (٧١٤٢) ومسلم (٣ / ١٤٦٧) كتاب الإمارة باب وجوب طاعة الأمراء (٣٦ (١٨٨٧) من حديث أنس. وله شاهد من حديث العرباض بن سارية : أخرجه أبو داود (٤٦٠٧) والترمذي (٢ / ١١٢ ـ ١١٣) والدارمي (١ / ٤٤ ـ ٥٥) وابن ماجه (٤٣ ، ٤٤) وابن حبان (١ / ٤) وأحمد (٤ / ١٢٦) والحاكم (١ / ٩٥ ـ ٩٧) وابن عبد البر في «جامع بيان العلم» (٢ / ١٨١ ـ ١٨٢) عن العرباض بن سارية مرفوعا.

وقال الترمذي : حديث حسن صحيح.

وقال الحاكم : صحيح ليس له علة.

وقال ابن عبد البر : حديث ثابت.

(٤) أخرجه الترمذي (٢ / ٥١٦) أبواب الصلاة باب ما ذكر في فضل الصلاة (٦١٦) وأحمد (٥ / ٢٥١) والحاكم (١ / ٩) والبغوي في شرح السنة (١ / ٦٨) من طريق سليم بن عامر قال سمعت أبا أمامة يقول : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ... فذكره.

وقال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح.

وقال الحاكم : هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولا نعرف له علة ولم يخرجاه ووافقه الذهبي وقال البغوي : هذا حديث حسن.

(٥) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٣١٥) عن أبي هريرة وعزاه لسعيد بن منصور وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه.

(٦) سقط في أ.

٤٤٢

ياسر (١) فجرى بينهما اختلاف في شيء ، فنزلت هذه الآية (٢).

[و](٣) قال عكرمة : أولو الأمر أبو بكر وعمر ؛ لقوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ [اقتدوا](٤) باللذين من بعدي أبي بكر وعمر (٥) ، وقيل : هم الخلفاء الرّاشدون (٦).

وقال عطاء : هم المهاجرون والأنصار ، والتّابعون لهم بإحسان (٧) ؛ لقوله ـ تعالى ـ : (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ) [التوبة : ١٠٠] الآية ، ولقوله ـ عليه‌السلام ـ : «مثل أصحابي في أمّتي كالملح في الطّعام ، لا يصلح الطّعام إلا بالملح» (٨) ، قال الحسن (٩) : قد [ذهب](١٠) ملحنا ، فكيف نصلح.

ونقل عن الرّوافض أنّ المراد بأولي الأمر : الأئمّة المعصومون.

فإن قيل : طاعة الرّسول هي طاعة الله ، فالمعنى (١١) العطف.

فالجواب : قال القاضي (١٢) : الفائدة في ذلك بيان الدّلالتين ، فالكتاب يدلّ على أمر الله ، ثم يعلم منه أمر الرّسول لا محالة ، والسّنّة تدلّ على أمر الرّسول ، ثم يعلم منه أمر الله لا محالة ، فدلّ قوله : (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) على وجوب متابعة الكتاب والسّنّة.

فصل في معنى «الطّاعة»

قالت المعتزلة : الطّاعة موافقة الإرادة ، وقال أهل السّنّة : الطّاعة موافقة الأمر لا

__________________

(١) أخرجه البخاري كتاب التفسير : تفسير سورة النساء ومسلم كتاب الإمارة باب وجوب طاعة الأمراء (٣١) والترمذي (٤ / ١٦٥) كتاب الجهاد : باب ما جاء في الرجل يبعث وحده سرية (١٦٧٢) والبيهقي في «دلائل النبوة» (٤ / ٣١١) عن ابن عباس.

وقال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح غريب.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٨ / ٤٩٨ ـ ٤٩٩) عن السدي وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٣١٤) وزاد نسبته لابن أبي حاتم.

(٣) سقط في ب.

(٤) سقط في أ.

(٥) تقدم.

(٦) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٣١٦) وعزاه لعبد بن حميد عن الكلبي.

(٧) أخرجه ابن أبي حاتم عن الضحاك كما في «الدر المنثور» (٢ / ٣١٥) وذكره الطبري في «تفسيره» (٨ / ٥٠١) وقال : وقال آخرون : هم أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(٨) أخرجه البزار (٢٧٧١ ـ كشف) وأبو يعلى (٥ / ١٥١) رقم (٢٧٦٢) وابن المبارك في «الزهد» ص (٣٠٠).

وذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (١٠ / ١٨) وقال : رواه أبو يعلى والبزار بنحوه وفيه إسماعيل بن مسلم المكي وهو ضعيف.

والحديث ذكره الحافظ ابن حجر في «المطالب العالية» (٤٢٠٧).

(٩) ينظر البغوي ١ / ٤٤٦.

(١٠) سقط في أ.

(١١) في ب : فما معنى.

(١٢) ينظر : تفسير الرازي ١٠ / ١١٥.

٤٤٣

موافقة الإرادة ؛ لأنّ الله قد يأمر ولا يريد ؛ كما أمر أبا لهب بالإيمان مع أنّه لم يرده منه ، إذ لو أراده لوقع لا محالة.

فصل

استدلّوا بقوله ـ تعالى ـ : (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) على أن الأمر للوجوب ، [واعترض عليه المتكلّمون ؛ فقالوا : هذه الآية لا تدلّ على الوجوب إلا إذا ثبت أن الأمر للوجوب](١) ، وهذا يقتضي افتقار الدّليل إلى المدلول.

وأجيب بوجهين :

الأوّل : أن الأمر الوارد في الوقائع المخصوصة دالّ على النّدبيّة ، فقوله : (أَطِيعُوا اللهَ) لو اقتضى النّدب ، لم يبق لهذه الآية فائدة.

الثاني : أنه ختم الآية بقوله : (إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) وهذا وعيد.

قوله : «منكم» في محلّ نصب على الحال من (أُولِي الْأَمْرِ) فيتعلّق بمحذوف ، أي : وأولي الأمر كائنين منكم ، و «من» تبعيضية.

قوله : (فَإِنْ تَنازَعْتُمْ) [اختلفتم](٢) ، (فِي شَيْءٍ) [أي :](٣) من أمر دينكم ، والتّنازع : اختلاف الآراء.

قال الزّجّاج : اشتقاق المنازعة من النّزع الّذي هو الجذب ، والمنازعة : عبارة عن مجاذبة كلّ واحد من الخصمين ، يجذب بحجّة صحيحة (٤).

قوله : (فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ) [أي : إلى الكتاب والسّنّة](٥).

وقيل : الرّدّ إلى الله والرّسول ؛ أن يقول لما لا يعلم : «الله ورسوله أعلم».

فصل في دلالة الآية على حجية القياس

دلت هذه الآية على أنّ القياس حجّة ؛ لأن قوله : (فَإِنْ تَنازَعْتُمْ) إمّا أن يكون المراد منه «فإن اختلفتم في شيء» أي : حكم (٦) منصوص عليه [في الكتاب أو السّنّة أو الإجماع](٧) ، [أو يكون المراد : «فإن اختلفتم في شيء» حكمه غير منصوص عليه في شيء من هذه الثّلاثة](٨).

والأوّل باطل ؛ لأنّ الطّاعة واجبة ، لقوله : (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) فيصير قوله : (فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ) إعادة لعين ما مضى ، وذلك غير

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) سقط في ب.

(٣) سقط في أ.

(٤) في ب : مصححة.

(٥) سقط في ب.

(٦) في ب : حكمة غير.

(٧) في ب : هذه الثلاثة.

(٨) سقط في ب.

٤٤٤

جائز ، فيتعيّن أن يكون المراد : (فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ) حكمه غير مذكور في الكتاب والسّنّة والإجماع ، فيجب أن يردّ حكمه إلى الأحكام المنصوصة المشابهة له (١) ، وذلك هو القياس.

فإن قيل : لم لا يجوز أن يكون المراد بقوله : (فَرُدُّوهُ) أي : فوّضوا حكمه إلى الله ولا تتعرّضوا له ، أو يكون المراد : ردّوا غير المنصوص إلى المنصوص ؛ في أنّه لا يحكم فيه إلا بالنّصّ ، أو فردّوا هذه الأحكام إلى البراءة الأصليّة.

والجواب (٢) عن الأوّل والثّاني : أنه ـ تعالى ـ جعل الوقائع قسمين (٣) : منها ما هو منصوص عليه ، ومنها ما لا يكون كذلك ، ثم أمر في القسم الأوّل بالطّاعة والانقياد ، وأمر في الثّاني بردّه إلى الله وإلى الرّسول ، ولا يجوز أن يكون المراد بهذا الرّدّ السكوت ؛ لأن الواقعة ربّما كانت لا يحلّ السّكوت فيها ، بل لا بدّ من قطع الخصومة فيها ، إما بنفي أو إثبات ، فامتنع حمل الرّدّ إلى (٤) الله على السّكوت.

وأما الثالث : فإنّ البراءة الأصليّة معلومة بحكم العقل ، فالرّدّ إليها ليس ردّا إلى الله ، وإذا رددنا حكم الواقعة إلى الأحكام المنصوص عليها ، كان ذلك ردّا إلى أحكام الله ـ تعالى ـ.

فصل في تقديم الكتاب والسنة على القياس

دلّت هذه الآية على أنّ الكتاب والسّنّة مقدّمان على القياس مطلقا ، فلا نترك العمل بهما بسبب القياس ، ولا يجوز تخصيصها بالقياس ألبتّة ، سواء كان القياس جليّا أو خفيّا ، وسواء كان ذلك النّصّ مخصوصا قبل ذلك أم لا ؛ لأن الله ـ تعالى ـ أمر بطاعة الكتاب والسّنّة في قوله : (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) سواء حصل قياس يعارضهما أو يخصّصهما ، أو لم يوجد ؛ ولأن قوله : (فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ) صريح بأنه لا يجوز العدول إلى القياس ، إلّا عند فقدان الأصول الثلاثة ، وأيضا فإنّه أخّر ذلك القياس عن ذكر الأصول الثّلاثة ، وذلك يدلّ على أنّ العمل به مؤخّر عن الأصول الثلاثة ؛ ولأن النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم اعتبر هذا التّرتيب في قصّة معاذ ، وأخر الاجتهاد عن الكتاب والسّنّة ، وعلّق جوازه على عدم وجدانهما ، ولمّا عارض إبليس عموم الأمر بالسّجود بقياسه في قوله (٥) : (خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) فخصّ العموم بالقياس ، وقدّمه على النّصّ ، فصار بهذا السّبب ملعونا ، وأيضا فإن القرآن مقطوع بمتنه ، والقياس مظنون من جميع الجهات ، والمقطوع راجح على المظنون ، وأيضا العمل بالظّنّ من صفات الكفّار في قولهم : (ما أَشْرَكْنا وَلا

__________________

(١) في ب : المنصوبة له.

(٢) في ب : فالجواب.

(٣) في ب : فيهن.

(٤) في ب : على.

(٥) في ب : «بقوله».

٤٤٥

آباؤُنا) [الأنعام : ١٤٨]. ثم قال (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَ) [النجم : ٢٣] وقال ـ عليه‌السلام ـ : «إذا روي عنّي حديث ، فاعرضوه على كتاب الله ، فإن وافقه فاقبلوه ، وإلا فردّوه» (١) فهذه النّصوص تقتضي ، أن لا يجوز العمل بالقياس البتّة ، وإنما عملنا بالقياس فيما لا نصّ فيه ، ولا دلالة دلّت على وجوب العمل بالقياس ، جمعا بينها وبين هذه الأدلّة. انتهى.

فصل في دلالة الآية على أكثر علم الأصول

دلّت هذه الآية على أكثر أصول الفقه ؛ لأن أصول الشّريعة هي الكتاب والسّنّة والإجماع والقياس ، فقوله : [تعالى](٢)(أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) إشارة للكتاب والسّنّة ، وقوله : (وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) يدل على الاجماع ؛ لأنه ـ تعالى ـ أوجب طاعة أولي الأمر ، وذلك يستلزم عصمتهم عن (٣) الخطأ ، وإلّا لوجب طاعته عند كونه مخطئا ، واتّباع (٤) الخطأ منهيّ عنه ، فيجتمع الأمر والنّهي [وهو محال](٥) ؛ فثبتت العصمة لأولي الأمر ، فأولو الأمر إمّا أن يكونوا جميع الأمراء ، أو بعضهم ، ولا يمكن أن يكونوا بعضهم ؛ لأن الأمر بطاعتهم مشروط بمعرفتهم ، والقدرة على (٦) الاستفادة منهم ، ونحن عاجزون قطعا عن معرفة الإمام المعصوم والوصول إليه ؛ فوجب أن يكون المراد من (أُولِي الْأَمْرِ) أولي الحلّ والعقد من هذه [الأمّة](٧) وهو الإجماع.

فإن قيل : المراد ب (أُولِي الْأَمْرِ) الخلفاء الرّاشدون ، أو أمراء السّرايا أو العلماء المفتون في الأحكام الشّرعيّة ، أو (٨) الأئمّة المعصومون عند الرّوافض (٩) ، فالقول الذي اخترتموه خارج عن أقوال الأمّة فيكون باطلا ، أو تحمل الآية على الأمراء والسّلاطين ؛ لنفوذ أمرهم (١٠) في الخلق ، بخلاف أهل الإجماع ؛ ولقوله ـ عليه‌السلام ـ : «من أطاعني فقد أطاع الله ، [ومن أطاع أميري فقد أطاعني](١١) ، ومن عصاني فقد عصى الله ، ومن عصى أميري فقد عصاني» (١٢).

__________________

(١) تقدم.

(٢) سقط في أ.

(٣) في ب : من.

(٤) في ب : وأطباع.

(٥) سقط في ب.

(٦) في ب : في.

(٧) سقط في أ.

(٨) في ب : و.

(٩) في ب : الروافد.

(١٠) في ب : أوامرهم.

(١١) سقط في ب.

(١٢) أخرجه البخاري (٦ / ١٣٥) كتاب الجهاد والسير : باب يقاتل من رواء الإمام ويتقى به حديث (٢٩٥٧) ومسلم (٣ / ١٤٦٦) كتاب الإمارة : باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية حديث (٣٢ / ١٨٣٥) من حديث أبي هريرة.

٤٤٦

فالجواب عن الأوّل : أنّ جماعة من الصّحابة والتّابعين حملوا (أُولِي الْأَمْرِ) على العلماء ، فليس قولنا خارجا عنهم.

وعن الثّاني : أن الوجوه التي ذكروها ضعيفة ، لا تعارض بالبرهان القاطع الّذي ذكرناه مع أنّها معارضة (١) بوجوه :

الأوّل : أنّ طاعة الأمراء إنّما تجب فيما علم بالدّليل أنّه حقّ ، وذلك الدّليل هو الكتاب والسّنّة ؛ ليكون (٢) هذا داخلا في طاعة الله [ورسوله](٣) كما أنّ طاعة الوالدين والزّوج ، والأستاذ داخل في ذلك ، وإذا حملناه على الإجماع ، لم يدخل في (٤) ذلك ؛ لأنّه ربما ثبت بالإجماع حكم ولا دليل في الكتاب والسّنّة عليه فكان أولى.

الثاني : أنّ طاعة الأمراء إنما تجب إذا كانوا على الحقّ فطاعتهم مشروعة (٥) بالاستقامة.

الثالث : قوله : (فَإِنْ تَنازَعْتُمْ) يشعر بإجماع تقدّم ، وحدث بعده التّنازع.

الرابع : أنّ طاعة [أهل](٦) الإجماع واجبة قطعا ، [وأمّا طاعة](٧) الأمراء والسّلاطين فغير واجبة قطعا ، بل الأكثر تكون محرّمة ؛ لأنهم لا يأمرون إلّا بالظّلم ، وفي الأقل تكون واجبة [لهذا كان حمل الآية على الإجماع أولى](٨).

الخامس : أوامر السّلاطين موقوفة على فتاوى العلماء ؛ فالعلماء في الحقيقة أمراء ، فحمل أولي الأمر عليهم أولى ، وأمّا حمل الرّوافض الآية على الإمام المعصوم ، فيقيّد بما ذكر من أنّ طاعتهم تتوقّف على معرفتهم ، والقدرة على الوصول إليهم ، فوجوبها قبل ذلك تكليف ما لا يطاق ، وأيضا فطاعتهم مشروطة وظاهر قوله : (أَطِيعُوا) يقتضي الإطلاق ، وأيضا فقوله : (فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ) لو كان المراد منه الإمام المعصوم ، لقيل : فردّوه إلى الإمام.

فصل : من المعتبر في الإجماع؟

إذا ثبت أن الإجماع حجّة ، فاعلم : أن المعتبر إجماعهم هم الذين يمكنهم استنباط الأحكام الشّرعيّة من الكتاب والسّنّة ، و [هم](٩) المسمّون بأهل الحلّ والعقد ، فهم الّذين يمتثل أمرهم ونهيهم بخلاف المتكلّم ، والمقرىء والمحدّث والعوامّ الذين لا يمكنهم الاستنباط.

__________________

(١) في ب : معارض.

(٢) في ب : يكون.

(٣) سقط في ب.

(٤) في ب : فيه.

(٥) في ب : مشروطة.

(٦) سقط في أ.

(٧) سقط في أ.

(٨) سقط في أ.

(٩) سقط في ب.

٤٤٧

فصل : لا عبرة في الإجماع بالفرق الضالة

دلّت الآية على أنّ العبرة بإجماع المؤمنين ، فأمّا من يشكّ في إيمانه من سائر الفرق فلا عبرة بهم.

فصل : حصر الأدلة في أربعة

دلّت [هذه](١) الآية على أنّ ما سوى هذه الأصول الأربعة ، أعني : الكتاب والسّنّة والإجماع والقياس باطل ؛ لأنه ـ تعالى ـ جعل الوقائع قسمين :

أحدهما : منصوص عليه فأمر فيه بالطّاعة ، بقوله [ـ تعالى ـ](٢) : (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْر).

والثاني : غير منصوص عليه [وأمر فيه بالاجتهاد بقوله ـ تعالى ـ : (فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ)](٣) ، ولم يزد على ذلك ؛ فدلّ على أنه ليس للمكلّف أن يتمسّك بشيء سوى هذه الأربعة ، فالقول بالاستحسان (٤) الذي تقول به الحنفيّة ،

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) سقط في أ.

(٣) سقط في أ.

(٤) جرى لفظ الاستحسان في عبارات بعض الأئمة على وجه يتوهم منه أن الاستحسان أصل من الأصول التي يرجع إليها في استنباط الأحكام ، وتعرض له علماء الأصول عند بحث الأدلة ، ونسبوا الأخذ به إلى بعض الأئمة ، ونقلوا إنكاره عن آخرين.

واستند الحنفية إلى الاستحسان في تقرير كثير من الأحكام ، ويعارضون به القياس ، فيقولون في بعض الأحكام : هذا ما يقتضيه الاستحسان وذاك ما يقتضيه القياس.

وعبر الإمام الشافعي بالاستحسان في أحكام بعض الحوادث ؛ فقال : أستحسن أن تكون المتعة ثلاثين ، وقال : أستحسن أن يؤجل الشفيع ثلاثا.

وأنكر قوم أن يكون الاستحسان دليلا شرعيا ، وشنّعوا على القائلين به ؛ ظنا منهم أن استحسان هؤلاء الأئمة من قبيل الرجوع إلى الرأي ، دون رعاية دليل شرعي ثابت ، والرجوع إلى الرأي المحض في تقرير الأحكام الشرعية لا يقول به عامي مسلم ، فضلا عن إمام بلغ رتبة الاجتهاد أو الترجيح ، ومن هنا تصدّى علماء الأصول من المالكية والحنفية لتفسير الاستحسان الوارد في عبارات أئمتهم. وبينوا أنه عائد إلى أدلة متفق عليها ، أو أدلة معروفة في مذهب المعبر به ، وحملوا قول الإمام الشافعي : «من استحسن فقد شرع» على معنى الاستحسان الذي لا يقوم على رعاية دليل شرعي ، وكذلك الأثر الذي يسوقه بعض المحتجين لصحة القول بالاستحسان وهو : «وما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن» إنما يحمل على أن المراد بالمسلمين ذوو الكفاية لاستنباط الأحكام ، فيكون دليل الاحتجاج بالإجماع.

أما المالكية فيقول محققوهم ؛ كأبي الوليد الباجي : الاستحسان هو الأخذ بأقوى الدليلين ؛ وكذلك قال ابن خويزمنداد : معنى الاستحسان عندنا القول بأقوى الدليلين ، ويضاهي هذا قول الحفيد ابن رشد : الاستحسان عند مالك هو الجمع بين الأدلة المتعارضة ، ومعنى هذا : أن الاستحسان في مذهب مالك ليس بدليل مستقل ، وإنما هو ترجيح أحد الدليلين على الآخر ؛ كأن يتعارض في حادثة جزئية قياسان أو يعارض أصلا من الأصول عرف ، أو مصلحة مرسلة ، أو سد ذريعة ، فينظر المجتهد ويرجح أحد القياسين ـ

٤٤٨

والقول بالاستصحاب (١) الذي تقول به المالكيّة قول باطل لهذه الآية.

فصل : في الاقتداء بقول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفعله

المنقول عن النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم إن كان قولا ، وجب طاعته ؛ لقوله ـ تعالى ـ : (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) وإن كان فعلا ، وجب الاقتداء به إلّا ما خصّه الدّليل ؛ لقوله ـ تعالى ـ : (وَاتَّبِعُوهُ) [الأعراف : ١٥٨] ، والمتابعة عبارة عن الإتيان (٢) بمثل فعل الغير ؛ لأجل أنّ ذلك الغير فعله.

__________________

ـ على الآخر ، أو يرجح قاعدة العرف أو المصالح المرسلة ، أو سد الذريعة على ذلك الأصل المعارض.

ينظر : البحر المحيط للزركشي ٦ / ٨٧ ، الإحكام في أصول الأحكام للآمدي ٤ / ١٣٦ ، نهاية السول للإسنوي ٤ / ٣٩٨ ، منهاج العقول للبدخشي ٣ / ١٧٨ ، غاية الوصول للشيخ زكريا الأنصاري ١٣٩ ، التحصيل من المحصول للأرموي ٢ / ٣١٨ ، المنخول للغزالي ٣٧٤ ، حاشية البناني ٢ / ٣٥٣ ، الإبهاج لابن السبكي ٣ / ١٨٨ ، الآيات البينات لابن قاسم العبادي ٤ / ١٩٣ ، حاشية العطار على جمع الجوامع ٢ / ٣٩٤ ، المعتمد لأبي الحسين ٢ / ٢٩٥ ، أحكام الفصول في أحكام الأصول للباجي ٦٨٧ ، الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم ٦ / ١٩٢ ، كشف الأسرار للنسفي ٢ / ٢٩٠ ، حاشية التفتازاني والشريف على مختصر المنتهى ٢ / ٢٨٨ ، شرح التلويح على التوضيح لسعد الدين مسعود بن عمر التفتازاني ٢ / ٨٣ ، نسمات الأسحار لابن عابدين ٢٢٤ ، تقريب الوصول لابن جزي ١٤٦ ، إرشاد الفحول للشوكاني ٢٤٠.

وينظر منتهى السول والأمل (٢٠٧) الوصول لابن برهان ٢ / ٣٢٠ أحكام الفصول ٦٨ الحدود ٦٥ شرح تنقيح الفصول ٤٥.

(١) الاستصحاب : أصل من أصول الشريعة التي تجعل العلماء في فسحة ، وتخلصهم من مواقف الحيرة ، وهو أصل متفق على العمل به في الجملة وإن اختلفوا في بعض ضروبه ، قال القرطبي : «القول بالاستصحاب لازم لكل أحد ؛ لأنه أصل تنبني عليه النبوة والشريعة ، فإن لم نقل باستمرار حال تلك الأدلة ، لم يحصل العلم بشيء من تلك الأمور».

واستمرار حال أدلة النبوة والشريعة من الاستصحاب الذي لا يختلف العقلاء في صحته ، ولا يتطرق إليه الريب في حال. ينظر رسائل الإصلاح ص ٤٣ ، ٤٤ ، البحر المحيط للزركشي ٦ / ١٦ ، البرهان لإمام الحرمين ٢ / ١٣٥ ، سلاسل الذهب للزركشي ٤٢٥ الإحكام في أصول الأحكام للآمدي ٤ / ١١١ ، التمهيد للإسنوي ٤٨٩ ، نهاية السول له ٤ / ٣٥٨ ، منهاج العقول للبدخشي ٣ / ١٧٧ ، غاية الوصول للشيخ زكريا الأنصاري ١٣٨ ، التحصيل من المحصول للأرموي ٢ / ٣١٥ ، المنخول للغزالي ٣٧٢ ، حاشية البناني ٢ / ٣٤٧ ، الإبهاج لابن السيبكي ٣ / ١٦٨ ، الآيات البينات لابن قاسم العبادي ٤ / ١٨٥ ، تخريج الفروع على الأصول للزنجاني ١٧٢ ، حاشية العطار على جمع الجوامع ٢ / ٣٨٨ ، المعتمد لأبي الحسين ٢ / ٣٢٥ ، إحكام الفصول من أحكام الأصول للباجي ٦٩٤ ، الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم ٥ / ٥ ، أعلام الموقعين لابن القيم ١ / ٢٥٥ ، حاشية التفتازاني والشريف على مختصر المنتهى ٢ / ٢٨٤ ، تقريب الوصول لابن جزي ١٤٦ ـ المسوّدة ص (٤٨٨) ، روضة الناظر ص (٧٩) ، الكافية في الجدل ص (٣٨٢) ، الترياق النافع ٢ / ١٦٢ ، المدخل إلى مذهب أحمد ص (١٣٣).

وينظر شرح اللمع ٢ / ٩٨٦ والوصول لابن برهان ٢ / ٣١٧ شرح تنقيح الفصول (٤٤٧) منتهى السول والأمل (٢٠٣) كشف الأسرار ٣ / ٣٧٧.

(٢) في ب : الإيمان.

٤٤٩

فصل : الأمر في الشرع يدل على التكرار

ظاهر الأمر في عرف الشّرع يدل على التّكرار لوجوه :

الأول : أن قوله : (أَطِيعُوا اللهَ) يصحّ منه استثناء أيّ وقت كان ، وحكم الاستثناء إخراج ما لولاه لدخل ؛ فوجب أن يكون قوله : (أَطِيعُوا اللهَ) متناولا لكلّ الأوقات ، وذلك يقتضي التّكرار.

والقول الثاني : لو لم يفد ذلك ، لصارت الآية مجملة ؛ لأن الوقت المخصوص والكيفيّة المخصوصة غير مذكورة ، فإذا حملناه على العموم كانت مبيّنة ، وهو أولى من الإجمال ، أقصى ما في الباب أنّه يدخل التّخصيص ، والتّخصيص خير من الإجمال.

الثالث : أنه أضاف لفظ الطّاعة إلى لفظ الله ، [وهذا](١) يقتضي أن منشأ وجوب الطّاعة هو العبوديّة والرّبوبيّة ، وذلك يقتضي دوام وجوب الطّاعة على المكلّفين إلى يوم القيامة.

فصل

قال ـ [تعالى](٢) ـ : (أَطِيعُوا اللهَ) فأفرده بالذّكر [ثم](٣) قال : (وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ) وهذا تعليم من الله لنا الأدب ، ولذلك روي أن رجلا قال بحضرة الرّسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ : «من أطاع الله والرّسول فقد رشد ومن يعصهما فقد غوى» ، فقال ـ عليه‌السلام ـ :

«بئس الخطيب أنت هلا قلت : من عصى الله وعصى رسوله» (٤). أو لفظ هذا معناه ؛ وذلك لأنّ الجمع بينهما في اللّفظ يوهم نوع مناسبة ومجانسة ، والله ـ تعالى ـ منزّه عن ذلك.

فصل : في فروع تتعلق بالإجماع

دلّ قوله ـ تعالى ـ : (وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) على أن الإجماع حجّة ، وههنا فروع :

الأوّل : أن الإجماع لا ينعقد إلا بقول العلماء ، الذين يمكنهم استنباط أحكام الله ـ تعالى ـ من نصوص الكتاب والسّنّة ، وهؤلاء هم المسمّون بأهل (٥) الحلّ والعقد.

الثاني : اختلفوا في الإجماع الحاصل عقيب الخلاف ، هل هو حجّة أم لا ، وهذه

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) سقط في أ.

(٣) سقط في أ.

(٤) أخرجه مسلم كتاب الجمعة (٤٨) وأبو داود كتاب الجمعة ب ٢٣ وأحمد (٤ / ٣٥٦ ، ٣٧٩) والبيهقي (١ / ٨٦) والطحاوي في «مشكل الآثار» (٤ / ٢٩٦) من حديث عدي بن حاتم.

(٥) في ب : أهل.

٤٥٠

الآية تدلّ على أنّه حجّة ، لأنّه قول جميع أهل الحلّ والعقد من الأمّة ، فيدخل في الآية سواء وجد قبله خلاف ، أم لا.

الثالث : اختلفوا في انقراض أهل العصر ، هل هو شرط أم لا ، وهذه الآية تدلّ على أنّه ليس بشرط ؛ لأنّها تدلّ على وجوب طاعة المجمعين ، سواء انقرض [أهل](١) العصر أم لم ينقرض.

الرابع : دلّت الآية على أن العبرة بإجماع المؤمنين ؛ لقوله ـ [تعالى](٢) ـ («يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا)(٣) ثم قال : (وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ).

قوله : (إِنْ كُنْتُمْ) شرط ، جوابه محذوف عند جمهور البصريّين ، أي : فردّوه إلى الله ، وهو متقدّم عند غيرهم.

وهذا الوعيد يحتمل أن يكون مخصوصا بقوله : (فَرُدُّوهُ ،) ويحتمل أن يكون عائدا إلى قوله : (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ).

فصل (٤)

ظاهر قوله : (إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) يقتضي أنّ من لم يطع الله والرّسول لا يكون مؤمنا ، فيخرج المذنب عن الإيمان ، لكنّه محمول على التّهديد ، وقوله : (ذلِكَ خَيْرٌ) أي : الّذي أصدقكم في هذه الآيات من الأحكام ، والطّاعة ، والرّدّ إلى الله والرّسول خير لكم ، (وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) ، أي : مآلا ؛ لأن التّأويل عبارة عن الشّيء ومرجعه وعاقبته و (تَأْوِيلاً) نصب على التّمييز.

فصل

قال أبو العبّاس المقري : ورد التّأويل في القرآن على أربعة أوجه (٥) :

الأوّل : بمعنى العاقبة كهذه الآية.

الثاني : بمعنى المنتهى ؛ قال ـ تعالى ـ : (فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ) [آل عمران : ٧] أي : ما يعلم منتهى (٦) تأويله إلا الله.

الثالث : بمعنى تعبير الرّؤيا ؛ قال ـ تعالى ـ : (أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ)(٧) [يوسف : ٤٥] أي : بعبارته ؛ ومثله : (وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ) [يوسف : ٦] أي : تعبير الرّؤيا.

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) سقط في أ.

(٣) سقط في أ.

(٤) هذا الفصل سقط في ب.

(٥) في ب : بأداء معان أربعة.

(٦) في ب : معنى.

(٧) سقط في ب.

٤٥١

الرابع : بمعنى التّحقيق ؛ قال ـ تعالى ـ : (هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ) [يوسف : ١٠٠] أي : تحقيق رؤياي ؛ ومثل الوجه الأوّل : (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ) [الأعراف :] أي : عاقبته ، [ومثله : (بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ) [يونس : ٣٩] أي : عاقبته](١).

قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً)(٦٠)

لما أوجب الطّاعة على جميع المكلّفين في الآية الأولى ، ذكر في هذه الآية أن المنافقين والذين في قلوبهم مرض لا يطيعون الرّسول ، ولا يرضون بحكمه ، وإنما يريدون حكم غيره ، و «الزّعم» بفتح الزّاي وضمها وكسرها مصدر زعم ، وهو قول يقترن (٢) به اعتقاد ظنّيّ ؛ قال : [الطويل]

١٨١٤ ـ فإن تزعميني كنت أجهل فيكم (٣)

فإنّي شريت الحلم بعدك بالجهل (٤)

قال ابن دريد : أكثر ما يقع على الباطل ، وقال ـ عليه الصلاة والسلام ـ : «بئس مطيّة الرّجل زعموا».

وقال الأعشى : [المتقارب]

١٨١٥ ـ ونبّئت قيسا ولم أبل(٥)

كما زعموا خير أهل اليمن (٦)

فقال الممدوح : وما هو إلا الزّعم ، وحرمه ولم يعطه شيئا ، وذكر صاحب العين أنّها تقع غالبا [على «أنّ»](٧) وقد تقع في الشّعر على الاسم ، وأنشد بيت أبي ذؤيب ، وقول الآخر : [الخفيف]

١٨١٦ ـ زعمتني شيخا ولست بشيخ

إنّما الشّيخ من يدبّ دبيبا (٨)

قيل : ولا يستعمل في الأكثر إلا في القول الذي لا يتحقّق.

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) في ب : مقترن.

(٣) في ب : بعدكم.

(٤) تقدم برقم ٤٣٥.

(٥) في ب : أنله.

(٦) ينظر البيت في ديوانه ص ٧٥ ، وتخليص الشواهد ص ٤٦٧ ، والدرر ٢ / ٢٧٨ ، وشرح التصريح ١ / ٢٦٥ ، ومجالس ثعلب ٢ / ٤١٤ ، والمقاصد النحوية ٢ / ٤٤٠ ، وشرح الأشموني ١ / ١٦٧ ، وشرح ابن عقيل ص ٢٣٤ ، وشرح عمدة الحافظ ص ٢٥١ ، وهمع الهوامع ١ / ١٥٩ والدر المصون ٢ / ٣٨١.

(٧) سقط في أ.

(٨) البيت لأبي أمية أوس الحنفي ينظر شرح شواهد المغني ص ٩٢٢ ، والمقاصد النحوية ٢ / ٣٩٧ ، وشرح التصريح ١ / ٢٤٤٨ ، وأوضح المسالك ٢ / ٣٨ وتخليص الشواهد ٤٢٨ ، وشرح الأشموني ١ / ١٥٦ ، وشرح قطر الندى ص ١٧٢. والدر المصون ٢ / ٣٨١.

٤٥٢

قال الليث : أهل العربيّة يقولون : زعم فلان ؛ إذا شكّوا فيه فلم يعرفوا أكذب أم صدق ؛ وكذلك تفسير قوله : (هذا لِلَّهِ)(١)(بِزَعْمِهِمْ) [الأنعام : ١٣٦] أي : بقولهم الكذب.

قال الأصمعيّ : الزّعوم من الغنم الذي لا يعرف أبها شحم أم لا (٢) وقال ابن الأعرابيّ : الزّعم قد يستعمل في الحقّ ، وأنشد لأميّة بن أبي الصّلت : [المتقارب]

١٨١٧ ـ وإنّي أدين لكم أنّه

سيجزيكم ربّكم ما زعم (٣)

وزعم [تكون](٤) بمعنى : ظنّ وأخواتها ، فيتعدّى لاثنين في هذه الآية ، و «أنّ» سادّة مسدّ مفعوليها ، وتكون بمعنى : «كفل» فتتعدى لواحد ؛ ومنه : (وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ) [يوسف : ٧٢] ، وبمعنى رأس ، وكذب وسمن ، وهزل ، فلا تتعدّى ، وقرأ الجمهور : (أُنْزِلَ)(٥)(إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ) مبنيا للمفعول ، وقرئا (٦) مبنيّين للفاعل ، وهو الله ـ تعالى ـ.

فصل : سبب نزول الآية

روي في سبب النّزول وجوه :

أحدها : قال الشّعبي (٧) : كان بين رجل من اليهود ورجل من المنافقين خصومة ، فقال اليهوديّ : نتحاكم إلى محمّد ؛ لأنه عرف أنّه لا يأخذ الرّشوة ، ولا يميل في الحكم ، وقال المنافق : نتحاكم إلى اليهود ؛ لعلمه أنّهم يأخذون الرّشوة ويميلون في الحكم ، فاتّفقا على أن يأتيا كاهنا في جهينة ، فيتحاكما إليه ، فنزلت هذه الآية (٨).

قال جابر : كانت الطّواغيت التي يتحاكمون إليها واحد في جهينة ، وواحد في أسلم ، وفي كلّ حيّ واحد كهّان (٩).

__________________

(١) في ب : الله.

(٢) ينظر : اللسان (زعم).

(٣) ينظر ديوان أمية بن أبي الصلت ص ٧١ ، وهو برواية :

وإني أدين لكم أنه

سينجزكم ربكم ما زعم

ورواية اللسان (زعم) :

وإنّي أذين لكم أنه

سينجزكم ربكم ما زعم

وينظر : تهذيب اللغة ٢ / ١٥٦ ، والفخر الرازي ١٠ / ١٢٢.

(٤) سقط في أ.

(٥) في ب : وما أنزل.

(٦) ينظر : البحر المحيط ٣ / ٢٩٢ ، والدر المصون ٢ / ٣٨١.

(٧) ينظر : تفسير البغوي ١ / ٤٤٦.

(٨) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٨ / ٥٠٨) عن عامر الشعبي وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٣١٩) وزاد نسبته إلى ابن المنذر.

(٩) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٣٢٠ ـ ٣٢١) عن جابر بن عبد الله وعزاه لابن أبي حاتم عن وهب بن منبه عنه. والبغوي ١ / ٤٤٦.

٤٥٣

وروى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عبّاس : نزلت في رجل من المنافقين يقال له : بشر ، كان بينه وبين يهوديّ خصومة ، فقال اليهوديّ : ننطلق إلى محمّد ، وقال المنافق : بل إلى كعب بن الأشرف ، وهو الذي سمّاه الله طاغوتا ، فأبى اليهوديّ أن يخاصمه إلّا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلما رأى المنافق ذلك ، أتى معه إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقضى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لليهوديّ ، فلما خرجا من عنده ، قال المنافق : لا أرضى [بهذا الحكم](١) فانطلق بنا إلى أبي بكر ، فحكم (٢) لليهوديّ ، فلم يرض ، ذكره الزّجّاج.

فلزمه المنافق وقال : انطلق بنا إلى عمر ، فصار إلى عمر ، فقال اليهوديّ [لعمر](٣) اختصمت أنا وهذا إلى محمّد ، فقضى [لي](٤) عليه ، فلم يرض بقضائه ، وزعم أنه يخاصم إليك ، فقال عمر : [للمنافق](٥) أكذلك؟ قال : نعم ؛ فقال لهما : رويدكما حتى أخرج إليكما. فدخل عمر البيت وأخذ السّيف واشتمل عليه ، ثم خرج ، فضرب به المنافق حتّى برد ، وقال : هكذا أقضي بين من لم يرض بقضاء الله ورسوله ، فنزلت هذه الآية (٦).

وقال جبريل ـ عليه‌السلام ـ : إن عمر فرّق بين الحقّ والباطل ، فسمّي الفاروق (٧).

وقال السّدّي : كان ناس من اليهود [قد] أسلموا ونافق بعضهم ، وكانت قريظة والنّضير في الجاهليّة ، إذا قتل رجل من بني قريظة [رجلا من بني النّضير قتل به ، أو أخذ ديته مئة وسق من تمر ، وإذا قتل رجل من بني النضير رجلا من قريظة ، لم يقتل به](٨) وأعطى ديته ستّين وسقا ، وكانت النّضير وهم حلفاء الأوس أشرف وأكثر من قريظة ، وهم حلفاء الخزرج ، فلمّا جاء الإسلام ، وهاجر النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى المدينة قتل رجل من النّضير (٩) رجلا من قريظة (١٠) ، فاختصموا في ذلك ، فقال بنو النّضير : كنّا وأنتم قد اصطلحنا على أن نقتل منكم ولا تقتلون منّا ، وديتكم ستّون وسقا ، وديتنا مئة وسق ، فنحن نعطيكم ذلك.

فقالت الخزرج : هذا شيء كنتم فعلتموه في الجاهليّة ؛ لكثرتكم وقلّتنا فقهرتمونا ، ونحن وأنتم اليوم إخوة ، وديننا ودينكم واحد ، فلا فضل لكم علينا ، فقال المنافقون منهم : انطلقوا بنا إلى أبي بردة الكاهن الأسلميّ ، وقال المسلمون من الفريقين : لا بل

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) في ب : فأتوا أبا بكر.

(٣) سقط في أ.

(٤) سقط في ب.

(٥) سقط في أ.

(٦) ينظر : تفسير البغوي ١ / ٤٤٦.

(٧) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٣٢٠) وعزاه للثعلبي عن ابن عباس وأورده القرطبي في «تفسيره» (٥ / ١٧٠) من رواية الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس. والبغوي ١ / ٤٤٦.

(٨) سقط في أ.

(٩) في ب : بني النضير.

(١٠) في ب : بني قريظة.

٤٥٤

إلى النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأبى المنافقون فانطلقوا إلى أبي بردة ليحكم (١) بينهم ، فقال : أعطوا اللّقمة ، يعني : الخطر ، فقالوا : لك عشرة أوسق ، فقال : لا بل مئة وسق ديتي ، فأبوا أن يعطوه فوق عشرة أوسق ، فأبى أن يحكم بينهم ، فأنزل الله ـ تعالى ـ آيتي القصاص ، فدعا النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم الكاهن إلى الإسلام فأسلم ، وعلى هذه الرّواية فالطّاغوت هو الكاهن (٢).

وقال الحسن : إن رجلا من المسلمين كان له على رجل من المنافقين حقّ ، فدعاه المنافق إلى وثن كان أهل الجاهليّة يتحاكمون إليه ، ورجل قائم يترجّم الأباطيل عن الوثن ، فالمراد بالطّاغوت ؛ هو ذلك الرّجل (٣) ، وقيل : كانوا يتحاكمون إلى الأوثان ، وكان طريقهم [أنّهم] يضربون القداح بحضرة الوثن ، فما خرج على القداح حكموا به ، وعلى هذا فالطّاغوت الوثن (٤).

قال أبو مسلم (٥) : ظاهر الآية يدلّ على أنه كان المخاصم منافقا (٦) من أهل الكتاب ، كان يظهر الإسلام على سبيل النّفاق ، لأن قوله ـ تعالى ـ : (يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ) إنما يليق بمثل هذا المنافق.

قوله : (يُرِيدُونَ) حال من فاعل [(يَزْعُمُونَ) أو من (الَّذِينَ يَزْعُمُونَ).

وقوله : (وَقَدْ أُمِرُوا) حال من فاعل](٧)(يُرِيدُونَ) فهما حالان متداخلان ، (أَنْ يَكْفُرُوا) في محلّ نصب فقط إن قدّرت تعدية «أمر» إلى الثّاني بنفسه ، وإلا ففيها الخلاف المشهور ، والضّمير في [به] عائد على الطّاغوت ، وقد تقدّم أنه يذكّر ويؤنّث ، والكلام عليه في البقرة (٨).

وقرأ عبّاس بن الفضل (٩) : «أن يكفروا بهن» ، بضمير جمع التّأنيث.

فصل

قال القاضي (١٠) : يجب أن يكون التحاكم إلى الطّاغوت كالكفر ، وعدم الرّضى [بحكم](١١) محمّد ـ عليه‌السلام ـ كفر ؛ لوجوه :

__________________

(١) في ب : فحلم.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٨ / ٥٠٩ ـ ٥١٠) عن السدي وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٣١٩ ـ ٣٢٠) وزاد نسبته لابن أبي حاتم. والبغوي ١ / ٤٤٦ ، ٤٤٧.

(٣) ذكره الرازي في «التفسير الكبير» (١٠ / ١٢٤).

(٤) انظر : المصدر السابق.

(٥) ينظر : تفسير الرازي ١٠ / ١٢٤.

(٦) في ب : مخاصما.

(٧) سقط في ب.

(٨) آية : ٢٥٦.

(٩) ينظر : البحر المحيط ٣ / ٢٩٢ ، وفيه القراءة «بها» ، والدر المصون ٢ / ٣٨٢. وفيه أن القراءة «بهن».

(١٠) ينظر : تفسير الرازي ١٠ / ١٢٤.

(١١) سقط في ب.

٤٥٥

أحدها : قوله : (يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ) فجعل التّحاكم [إلى الطّاغوت](١) مقابلا للكفر به ، وهذا يقتضي أن التّحاكم إلى الطّاغوت كفر بالله ، كما أن الكفر بالطّاغوت إيمان بالله.

ثانيها : قوله ـ [تعالى](٢) ـ : (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) [النساء : ٦٥] وهذا نصّ في تكفير من لم يرض بحكم الرّسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ.

وثالثها : قوله ـ تعالى ـ : (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) [النور : ٦٣] وهذه الآيات تدلّ على أنّ من ردّ شيئا من أوامر الله والرّسول فهو خارج عن الإسلام ، سواء ردّه من جهة الشّرك أو من جهة التّمرّد ، وذلك يوجب صحّة ما ذهبت إليه الصّحابة ـ رضي الله عنهم ـ من الحكم بارتداد مانعي الزّكاة ، وقتلهم ، وسبي ذراريهم.

قوله : (أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً) في (ضَلالاً) ثلاثة أقوال :

أحدها : أنه مصدر على غير المصدر (٣) ، نحو : (أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً) [نوح : ١٧] ، والأصل «إضلالا» و «إنباتا» فهو [اسم](٤) مصدر لا مصدر.

والثاني : أنه مصدر لمطاوع (٥) (أضل) أي : أضلّهم فضلّوا ضلالا.

والثالث : أن يكون من وضع أحد المصدرين موضع الآخر.

فصل

قالت المعتزلة (٦) : قوله ـ تعالى ـ : (وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً) يدلّ على أن كفر الكافر ليس بخلق [الله ـ تعالى ـ](٧) ولا بإرادته ؛ لأنه لو خلق الكفر في الكافر وأراده منه ، فأيّ تأثير للشّيطان فيه ، وأيضا فإنّه ذمّ للشيطان ؛ بسبب أنّه يريد هذه الضّلالة ، فلو كان ـ تعالى ـ مريدا لها ، لكان هو بالذّمّ أولى ، لأن [كلّ](٨) من عاب شيئا ثم فعله ، كان بالذّمّ أولى به ؛ قال ـ تعالى ـ : (كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ) [الصف : ٣] وأيضا فإنّه تعجّب من تحاكمهم إلى الطّاغوت ، مع أنّهم أمروا أن يكفروا به ، ولو كان ذلك التّحاكم بخلق الله ، لما بقي التّعجّب ، فإنه يقال : إنك خلقت ذلك الفعل فيهم ، وأردته منهم ، بل التّعجّب من هذا التّعجّب [هو](٩) أولى. وجوابهم المعارضة بالعلم والدّاعي.

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) سقط في أ.

(٣) في ب : الصدر.

(٤) سقط في أ.

(٥) في ب : مطاوع.

(٦) ينظر : تفسير الرازي ١٠ / ١٢٤.

(٧) سقط في أ.

(٨) سقط في أ.

(٩) سقط في ب.

٤٥٦

قوله تعالى : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً)(٦١)

لما بين ـ [تعالى](١) ـ رغبتهم في التّحاكم إلى الطّاغوت [بين](٢) نفرتهم عن التّحاكم إلى الرّسول ، وقد تقدّم الكلام على (تَعالَوْا) في آل عمران.

قوله : (رَأَيْتَ) فيها وجهان :

أحدهما : [أنها من رؤية البصر ، أي : مجاهرة وتصريحا](٣).

[والثاني :](٤) أنّها من رؤية القلب ، أي علمت ؛ ف (يَصُدُّونَ) في محلّ نصب على الحال على القول الأوّل ، وفي محلّ المفعول الثّاني على الثّاني.

وقوله : (صُدُوداً) فيه (٥) وجهان :

أحدهما : أنه اسم مصدر ، والمصدر إنما هو الصّدّ ، وهذا اختيار ابن عطيّة (٦) ، وعزاه مكّي للخليل بن أحمد.

والثّاني : أنه مصدر بنفسه ؛ يقال : صدّ صدّا وصدودا ، وقال بعضهم : الصّدود مصدر صدّ اللازم ، والصّدّ مصدر صدّ المتعدّي ، نحو : (فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ) [النمل : ٢٤] والفعل هنا متعد بالحرف لا بنفسه ، فلذلك جاء مصدره على «فعول» ؛ لأن «فعولا» غالبا اللازم ، وهذا فيه نظر ؛ إذا لقائل أن يقول : هو هنا متعدّ ، غاية ما فيه أنه حذف المفعول ، أي : يصدّون غيرهم ، أو المتحاكمين عنك صدودا ، وأما «فعول» فجاء في المتعدّي ، نحو : لزمه لزوما ، وفتنه فتونا.

ومعنى الآية : يعرضون عنك ، وذكر المصدر للتّأكيد والمبالغة ؛ كأنه قال (٧) : صدودا أيّ صدود.

قوله تعالى : (فَكَيْفَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جاؤُكَ يَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنْ أَرَدْنا إِلاَّ إِحْساناً وَتَوْفِيقاً (٦٢) أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً)(٦٣)

في اتّصال هذه الآية بما قبلها وجهان :

الأوّل : أنه اعتراض ، وما قبل الآية متّصل بما بعدها ، والتّقدير : وإذا قيل لهم : تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرّسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا ، ثمّ جاءوك

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) سقط في أ.

(٣) سقط في ب.

(٤) سقط في ب.

(٥) في ب : فيها.

(٦) ينظر : المحرر الوجير ٢ / ٧٣.

(٧) في ب : قيل.

٤٥٧

يحلفون بالله إن أردنا إلّا إحسانا وتوفيقا ، يعني : أنّهم في أوّل الأمر يصدّون عنك ، ثم بعد ذلك يجيئونك ، ويحلفون بالله كذبا أنّهم ما أرادوا بذلك إلا الإحسان والتّوفيق ، وشرط الاعتراض أن يكون له تعلّق بذلك الكلام من بعض الوجوه ؛ كقوله : [السريع]

١٨١٨ ـ إنّ الثّمانين وبلّغتها

قد أخوجت سمعي إلى ترجمان (١)

فقوله : «وبلّغتها» [كلام](٢) أجنبيّ اعترض به ، لكنه دعاء للمخاطب (٣) ، وتلطّف في القول معه ، وكذلك الآية ؛ لأن أوّل الآية وآخرها في شرح قبائح المنافقين وكيدهم ومكرهم ، فإنه ـ تعالى ـ حكى عنهم أنّهم يتحاكمون إلى الطّاغوت ، مع أنّهم أمروا بالكفر به ، ويصدّون عن الرّسول ، مع أنّهم أمروا بطاعته ، فذكر هنا ما يدلّ على شدّة الأهوال عليهم ؛ بسبب هذه الأعمال القبيحة في الدّنيا والآخرة ، فقال : (فَكَيْفَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) أي : فكيف حال تلك الشّدّة وحال تلك المصيبة ، قاله الحسن البصريّ ، وهو اختيار الواحديّ (٤).

الثاني : أنه ـ تعالى ـ لما حكى عنهم تحاكمهم إلى الطّاغوت ، وفرارهم من الرّسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ دلّ ذلك على شدّة نفرتهم من الحضور عند رسول الله والقرب منه ، فلمّا ذكر ذلك ، قال : (فَكَيْفَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) يعني : إذا كانت نفرتهم من الحضور عند الرسول في أوقات السّلامة هكذا ، فكيف يكون حالهم في النّفرة في شدّة الغمّ والحزن ، إذا أتوا بجناية خافوا بسببها منك ، ثم جاءوك شاءوا أم (٥) أبوا ، ويحلفون بالله كذبا ما أردنا بتلك الجناية إلّا الخير والمصلحة ، والغرض من هذا الكلام : بيان أنّ نفرتهم عن الرّسول لا غاية لها سواء غابوا أم حضروا ، ثم إنه ـ تعالى ـ أكّد هذا المعنى بقوله : (أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ) ومعناه : أنّ من أراد المبالغة في شيء ، قال : هذا شيء لا يعلمه إلا الله يعني : لكثرته وقوّته لا يقدر أحد على معرفته إلا الله ـ [تعالى](٦) ـ.

قوله : (فَكَيْفَ) يجوز فيها وجهان :

أحدهما : أنّها في محلّ نصب ، وهو قول الزّجّاج ؛ قال : تقديره : فكيف تراهم؟

والثاني : أنها في محلّ رفع خبر لمبتدأ محذوف ، أي : فكيف صنيعهم (٧) في وقت إصابة المصيبة إيّاهم ؛ وإذا معمولة لذلك المقدّر بعد كيف ، والباء في «بها» للسّببيّة ،

__________________

(١) البيت لعوف بن محلم في الدرر ٤ / ٣١ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٨٢١ ، وطبقات الشعراء ص ١٨٧ ، ومعاهد التنصيص ١ / ٣٦٩ ، وشرح شذور الذهب ص ٥٩ ، ومغني اللبيب ٢ / ٣٨٨ ، ٣٩٦ ، وهمع الهوامع ١ / ٢٤٨.

(٢) سقط في أ.

(٣) في ب : دعاء للمخاطبين.

(٤) ينظر : تفسير الرازي ١٠ / ١٢٦.

(٥) في ب : أو.

(٦) سقط في أ.

(٧) في ب : حالهم.

٤٥٨

و «ما» يجوز أن تكون مصدريّة أو اسميّة ، والعائد محذوف.

فصل في المقصود بالمصيبة في الآية

قال الزّجّاج (١) : [المراد](٢) بالمصيبة : قتل صاحبهم الّذي أقرّ أنّه لا يرضى بحكم الرّسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ ، جاءوا إلى النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وطالبوا عمر به ، وحلفوا أنّهم ما أرادوا بالذّهاب إلى غير الرّسول إلا الخير والمصلحة.

وقال الجبّائيّ (٣) : المراد ب «المصيبة» هنا : ما أمر الله ـ تعالى ـ نبيّه من أنّه لا يستصحبهم في الغزوات ، وأنّه يخصّهم بمزيد الإذلال والطّرد عن حضرته ، وهو قوله ـ تعالى ـ : (لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) [الأحزاب : ٦٠] ، إلى قوله : (وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً) [الأحزاب : ٦١] ، وقوله : (لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً) [التوبة : ٨٣] ، وهذا يوجب لهم الذّلّ العظيم ، وإنما أصابهم ذلك لأجل نفاقهم.

وقوله : (ثُمَّ جاؤُكَ) أي : وقت المصيبة يحلفون ويعتذرون ، وأنّا ما أردنا بما كان منّا إلا الإصلاح ، وكانوا كاذبين ؛ لأنّهم أضمروا خلاف ما أظهروه.

وقال أبو مسلم (٤) : إنه ـ تعالى ـ لمّا أخبر عن المنافقين ، ورغبتهم في حكم الطّاغوت ، وكراهتهم في حكم الرّسول ـ عليه الصلاة والسلام (٥) ـ أنه سيصيبهم مصائب (٦) تلجئهم إليه وإلى أن يظهروا الإيمان له ، ويحلفون أنّ مرادهم الإحسان والتّوفيق ، قال : ومن عادة العرب عند التّبشير والإنذار أن يقولوا : كيف أنت إذا كان كذا وكذا ؛ ومثله قوله ـ تعالى ـ : (فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ) [النساء : ٤١] وقوله : (فَكَيْفَ إِذا جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ) [آل عمران : ٢٥] ، ثم أمره ـ تعالى ـ إذا كان منهم ذلك ، أن يعرض عنهم ويعظهم.

وقال غيره : المراد ب «المصيبة» : كلّ مصيبة تصيب المنافقين في الدّنيا والآخرة.

قال القرطبيّ (٧) : وقيل : إن قوله ـ تعالى ـ : (فَكَيْفَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) نزل في شأن الذين بنوا مسجد الضّرار ، فلما أظهر الله ـ تعالى ـ نفاقهم ، وأمرهم بهدم المسجد ـ حلفوا للرّسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم دفاعا عن أنفسهم : ما أردنا ببناء (٨) المسجد إلّا طاعة الله وموافقة الكتاب.

قوله : «يحلفون» حال من فاعل جاءوك ، و «إن» نافية ، أي : ما أردنا و «إحسانا» مفعول به ، أو استثناء على حسب القولين في المسألة.

__________________

(١) ينظر : تفسير الرازي ١٠ / ١٢٦.

(٢) سقط في ب.

(٣) ينظر : تفسير الرازي ١٠ / ١٢٦.

(٤) ينظر : تفسير الرازي ١٠ / ١٢٧.

(٥) في ب : بشر الرسول عليه الصلاة والسلام.

(٦) في ب : مصاب.

(٧) ينظر : تفسير القرطبي ٥ / ١٧١.

(٨) في ب : أنهم ما أرادوا ببناء.

٤٥٩

فصل في تفسير الإحسان

والمراد ب «الإحسان» قيل : ما أردنا بالتّحاكم إلى غير الرّسول إلّا الإحسان إلى خصومنا ، واستدامة الاتّفاق والائتلاف بيننا.

وقيل : ما أردنا بالتّحاكم إلى عمر ، إلا أنّه يحسن إلى صاحبنا بالحكم والعدل ، والتّوفيق بينه وبين خصمه ، وما خطر ببالنا أنّه يحكم له بما حكم. وقيل : ما أردنا بالتّحاكم إلى غيرك ، إلا أنّك لا تحكم إلّا بالحقّ ، وغيرك يوفّق بين الخصمين ، ويأمر كلّ واحد بما ذكرنا (١) ويقرب مراده من مراد صاحبه حتى تحصل الموافقة بينهما.

وقال الكلبي (٢) : (إِلَّا إِحْساناً) في القول «وتوفيقا» صوابا.

وقال ابن كيسان (٣) : حقّا وعدلا ؛ نظيره : (وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلَّا الْحُسْنى) [التوبة : ١٠٧] وقيل : هو تقريب الأمر من الحقّ ، لا القضاء على أمر الحكم.

ثم قال : (أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ) أي : من النّفاق والغيظ والعداوة.

ثم قال : «فأعرض عنهم» وهذا يفيد أمرين :

الأوّل : أن لا يقبل منهم العذر ويصبر على سخطه ، فإن من لا يقبل العذر فقد يوصف بأنه معرض عنه ، غير ملتفت إليه.

الثاني : أن هذا يجري مجرى قوله : اكتف بالإعراض ولا تهتك سترهم ، ولا تظهر لهم علمك بما في بواطنهم ، فإنّ من هتك ستر عدوّه وأظهر علمه بما في قلبه ، فربما يجرّئه على ألّا يبالي بإظهار العداوة ، فيزداد الشّرّ ، وإذا تركه على حاله ، بقي في خوف ووجل فيقلّ الشّرّ.

ثم قال : «وعظهم» أي : ازجرهم عن النّفاق والمكر والمكيدة والحسد والكذب ، وخوّفهم بعقاب الله ـ تعالى ـ في الآخرة ، كما قال ـ تعالى ـ : (ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ) [النحل : ١٢٥].

ثم قال ـ تعالى ـ : (وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً).

قوله تعالى : (فِي أَنْفُسِهِمْ) فيه أوجه :

الأول : أن يتعلّق ب «قل» ، وفيه معنيان :

الأوّل : قل لهم خاليا لا يكون معهم أحد ؛ لأن ذلك أدعى إلى قبول النصيحة.

الثاني : قل لهم في معنى أنفسهم المنطوية على النفاق قولا يبلغ بهم ما يزجرهم عن العود إلى النفاق.

__________________

(١) في ب : منهما بالإحسان إلى الآخر بما ذكرنا.

(٢) ينظر : تفسير البغوي ١ / ٤٤٧.

(٣) ينظر : السابق.

٤٦٠