اللّباب في علوم الكتاب - ج ٦

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ٦

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٦٣٢

من اليهود إلى مكّة بعد وقعة أحد ؛ ليحالفوا قريشا ، على محاربة الرّسول ـ عليه الصّلاة والسلام ـ وينقضوا العهد الذي كان بينهم وبين النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ فنزل كعب على أبي سفيان ؛ فأحسن مثواه ، ونزلت اليهود في دور قريش ، فقال أهل «مكة» : إنكم (١) أهل كتاب ، ومحمّد صاحب كتاب ، ولا نأمن أن يكون هذا مكرا منكم ، فإن أردت أن نخرج معك ، فاسجد لهذين الصّنمين وآمنوا بهما ، ففعلوا ذلك ؛ فذلك قوله تعالى : (يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ)(٢).

ثم قال كعب لأهل مكّة : ليجىء منكم [الآن](٣) ثلاثون ومنّا ثلاثون فنلزق أكبادنا بالكعبة ؛ فنعاهد ربّ هذا البيت ، لنجهدنّ على قتال محمّد ؛ ففعلوا ، ثمّ قال أبو سفيان لكعب : إنّك امرؤ تقرأ الكتاب ، وتعلم ، ونحن أمّيّون ، لا نعلم ، فأيّنا أهدى طريقا : نحن أم (٤) محمّد؟.

فقال كعب لأبي سفيان : اعرضوا عليّ دينكم ، فقال أبو سفيان : نحن ننحر للحجيج الكوماء (٥) ، ونسقيهم [الماء](٦) ونقري الضّيف ، ونقلّ العاني ، ونصل الرّحم ، ونعمّر بيت ربّنا ، ونطوف به ، ونحن أهل الحرم ، ومحمد فارق دين آبائه ، وقطع الرّحم ، وفارق الحرم ، وديننا القديم ، ودين محمد الحديث ، فقال كعب : أنتم والله أهدى سبيلا ممّا عليه محمّد ؛ فنزلت هذه الآية.

قوله : (يُؤْمِنُونَ) فيه وجهان :

أحدهما : أنه حال إمّا من : «الذين» وإمّا من واو «أوتوا» ، و «بالجبت» متعلّق به ، و «يقولون» عطف عليه ، و «الذين» متعلّق ب «يقولون» ، واللام ؛ إمّا للتبليغ ، وإمّا للعلة ؛ كنظائرها ، و (هؤُلاءِ أَهْدى) مبتدأ وخبر في محل نصب (٧) بالقول و «سبيلا» تمييز.

والثّاني : أنّ «يؤمنون» مستأنف ، وكأنّه تعجّب من حالهم ؛ إذ كان ينبغي لمن أوتي نصيبا من الكتاب ؛ ألّا يفعل شيئا ممّا ذكر ، فيكون جوابا لسؤال مقدّر ؛ كأنّه قيل : ألا تعجب من حال الذين أوتوا نصيبا من الكتاب؟ فقيل : وما حالهم؟. فقال : يؤمنون [ويقولون ، وهذان](٨) منافيان لحالهم.

والجبت : حكى القفّال ، وغيره ، عن بعض أهل اللّغة : هو الجبس ، بالسّين المهملة ، أبدلت تاء ، كالنّات ، والأكيات ، وست ؛ في النّاس ، والأكياس ، وسدس ، قال [الرجز المشطور]

__________________

(١) في ب : ألكم.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٨ / ٤٦٨) عن عكرمة وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٣٠٦) وزاد نسبته إلى عبد الرزاق.

(٣) سقط في أ.

(٤) في ب : أو.

(٥) في ب : الكرماء.

(٦) سقط في ب.

(٧) في أ : وخبره في محل نصب.

(٨) سقط في أ.

٤٢١

١٨٠٩ ـ ... شرار النّات

ليسوا بأجواد ولا أكيات (١)

والجبس : هو الذي لا خير عنده.

يقال رجل جبس ، وجبت ، أي : رذل ، قيل : وإنما ادّعى قلب السّين تاء ؛ لأنّ مادة (ج ب ت) مهملة. قال (٢) قطرب : وغيره يجعلها (٣) مادّة مستقلّة ، وقيل : الجبت : السّاحر بلغة الحبشة ، والطّاغوت : الكاهن ، قاله سعيد بن جبير ، وأبو العالية (٤) ، وقال عكرمة : هما صنمان (٥) ، وقال أبو عبيدة : هما كلّ معبود يعبد من دون الله.

وقال عمر : الجبت : السّحر ، والطاغوت : الشّيطان ؛ وهو قول الشّعبيّ ، ومجاهد (٦) ، وقال محمد بن سيرين ، ومكحول : الجبت : الكاهن ، والطّاغوت : السّاحر (٧) ، وروي عن عكرمة : الجبت ـ بلسان الحبشة ـ : شيطان (٨) ، وقال الضّحّاك : الجبت : حييّ بن أخطب ، والطّاغوت : كعب بن الأشرف (٩) ، وقيل : الجبت كلّ ما حرّم الله ، والطاغوت : كلّ ما يطغي الإنسان.

وروى قبيصة : أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : العيافة ، والطّرق ، والطّيرة : من الجبت (١٠).

الطّرق : الزّجر ، والعيافة (١١) : الحط.

قوله تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً)(٥٢)

بيّن أنّ عليهم اللّعن من الله ، وهو الخذلان ، والإبعاد ، لقوله : (مَلْعُونِينَ أَيْنَما

__________________

(١) تقدم.

(٢) في ب : قال.

(٣) في ب : فجعلناه.

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٨ / ٤٦٣) عن سعيد بن جبير وأبي العالية وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٣٠٧) عن عكرمة وعزاه لعبد بن حميد. ومعالم التنزيل ١ / ٤٤١.

(٥) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٨ / ٤٦٩) عن عكرمة.

(٦) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٨ / ٤٦٢) عن عمر والشعبي ومجاهد وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٣٠٧) وزاد نسبته للفريابي وسعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي حاتم.

وذكره أيضا (٢ / ٣٠٧) عن مجاهد وزاد نسبته لعبد بن حميد.

(٧) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٨ / ٤٦٤) عن سعيد بن جبير ومحمد بن سيرين.

(٨) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٣٠٧) عن ابن عباس وعزاه لعبد بن حميد وابن أبي حاتم.

(٩) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٨ / ٤٦٥) عن ابن عباس والضحاك.

(١٠) أخرجه أحمد (٥ / ٦٠) وأبو داود كتاب الطب ب ٢٣ والبيهقي (٨ / ١٣٩) وعبد الرزاق (١٩٥٠٢) وابن حبان (١٤٢٦ ـ موارد) وابن أبي شيبة (٩ / ٤٣) والطبراني (١٨ / ٣٦٩) وابن سعد (٧ / ٢٣) والطحاوي «شرح معاني الآثار» (٤ / ٣١٣) والخطيب (١٠ / ٤٢٥) عن قطن بن قبيصة بن مخارق عن أبيه مرفوعا.

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٣٠٨) وزاد نسبته إلى عبد بن حميد وابن أبي حاتم.

(١١) العيافة : زجر الطير ، والتفاؤل بأسمائها وأصواتها وممرّها ، وهو من عادة العرب كثيرا.

٤٢٢

ثُقِفُوا) [الأحزاب : ٦١] وإنّما استحقّوا هذا اللّعن ، لتفضيلهم عبدة الأوثان على المؤمنين بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قوله تعالى : (أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً (٥٣) أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً (٥٤) فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً)(٥٥)

لمّا وصف [تعالى](١) اليهود بالجهل في الآية المتقدمة ؛ لتفضيلهم عبادة الأوثان على عبادة الله تعالى ، وصفهم في هذه الآية بالبخل والحسد ، وهذا على سبيل الإنكار.

والبخل : ألّا يدفع إلى أحد شيئا مما أوتي من النعمة ، [والحسد : أن يتمنّى ألّا يعطي الله غيره شيئا من النّعم](٢) فها يشتركان في إرادة منع النعمة من الغير ، وإنما قدّم وصف الجهل على وصف البخل ، والحسد ؛ لأن الجهل سببها ؛ وذلك لأنّ البخيل ، والحاسد يجهلان أنّ الله تعالى هو الذي أعطى هذا ، ومنع هذا.

واعلم أنّه تعالى جعل بخلهم كالمانع من حصول الملك لهم ، وهذا يدلّ على أنّ الملك والبخل لا يجتمعان ؛ وذلك لأنّ الانقياد (٣) [للغير مكروه لذاته ، وإنما يحمل الإنسان على الانقياد للغير](٤) بالإحسان الحسن (٥) ؛ كما قيل : «بالبر يستعبد الحر» ، فمتى لم يوجد الإحسان ، لم يوجد الانقياد (٦) ، ثمّ قد يكون الملك على الظّاهر فقط ؛ وهو ملك الملوك ، وقد يكون الملك على الباطن فقط ؛ وهو ملك العلماء وقد يكون الملك عليهما ؛ وهو ملك الأنبياء ، فوجب في الأنبياء أن يكونوا في غاية (٧) الجود ، والكرم ، والرّحمة ، والشّفقة ؛ حتّى يحصل الانقياد بالباطن والظّاهر ، وكمال هذه الصفات كان حاصلا لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

و «أم» منقطعة ؛ لفوات شرط الاتّصال ، كما تقدم أوّل البقرة فتقدر ب «بل» ، والهمزة التي يراد بها الإنكار ، وكذلك هو في قوله : (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ) وقال بعضهم (٨) : الميم صلة ، وتقديره : ألهم ؛ لأنّ حرف «أم» إذا لم يسبقه استفهام ، كانت الميم صلة فيه ، وقيل : «أم» هنا متصلة ، وقد سبقه ـ هاهنا ـ استفهام على سبيل المعنى ؛ لأنّه لمّا حكى قولهم للمشركين بأنّهم أهدى سبيلا من المؤمنين عطف عليه قوله (أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ) فكأنّه قال : أمن ذلك يتعجّب؟ أم من كونهم لهم نصيب من الملك ؛ مع أنّه لو كان لهم ملك ، لبخلوا بأقلّ القليل؟.

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) سقط في ب.

(٣) في ب : الانقياد والمعين الإحسان له.

(٤) سقط في ب.

(٥) في ب : فإحسان المحسن.

(٦) في ب : فمتى لم يوجد الإحسان لم يوجد الانقياد.

(٧) في أ : نهاية.

(٨) ينظر : تفسير الرازي ١٠ / ١٠٥.

٤٢٣

فصل في معنى «الملك»

اختلفوا في هذا (الْمُلْكِ ،) فقيل : إنّ اليهود كانوا يقولون : نحن أولى بالملك ، والنّبوة ؛ فكيف نتبع العرب؟ فأبطل الله ذلك ، بهذه الآية.

وقيل : كانوا يزعمون أنّ الملك يعود إليهم ، في آخر الزمان ، فيخرج من اليهود من يجدّد ملكهم ؛ فكذّبهم الله [تعالى](١) بهذه الآية.

وقيل [المراد](٢) بالملك (٣) ـ هاهنا ـ التّمليك ، يعنى : أنّهم إنّما يقدرون على دفع نبوّتك ؛ لو كان التمليك إليهم ، [و](٤) لو كان التمليك إليهم ؛ لبخلوا بالنّقير ، والقطمير. فكيف يقدرون على النّفي (٥) والإثبات.

قال أبو بكر الأصمّ (٦) : كانوا أصحاب بساتين وأموال ، وكانوا في عزة ، ومنعة ، وكانوا يبخلون على الفقراء بأقل القليل ؛ فنزلت هذه الآية.

قوله : «فإذن» حرف جواب ، [وجزاء](٧) ونونها أصلية ، قال مكي [وحذاق النحويّين على كتب نونها نونا](٨) وأجاز الفرّاء أن تكتب ألفا ، وما قاله الفرّاء هو قياس (٩) الخطّ ؛ لأنه مبنيّ على الوقف [والوقف على نونها بالألف ، وهي حرف ينصب المضارع بشروط تقدّمت](١٠) ، ولكن إذا وقعت بعد عاطف ، فالأحسن الإهمال وقد قرأ ابن (١١) مسعود ، وابن عبّاس ـ هنا ـ بإعمالها ، فحذف النّون من قوله : (لا يُؤْتُونَ).

وقال أبو البقاء (١٢) : ولم يعمل ـ هنا ـ من أجل حرف العطف وهو الفاء ، ويجوز في غير القرآن ، أن يعمل مع الفاء ، وليس المبطل لا ؛ لأنّ «لا» يتخطّاها العامل ، فظاهر هذه العبارة : أنّ المانع حرف العطف ، وليس كذلك ، بل المانع التلاوة ، ولذلك قال آخرا : ويجوز في غير القرآن.

قال سيبويه (١٣) : «إذن» في أصل الأفعال بمنزلة «أظن» في عوامل الأسماء ، وتقريره : أنّ الظنّ إذا وقع أوّل الكلام ـ نصب ، لا غير ؛ كقولك : أظنّ زيدا قائما ، وإن توسّط جاز إلغاؤه ، وإعماله تقول : زيد ظننت منطلق ، ومنطلقا ، وإن تأخّر ، ألغي.

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) سقط في ب.

(٣) في ب : إن الملك.

(٤) سقط في ب.

(٥) في ب : فكيف يقدرون رفع بنوتك على النفي.

(٦) ينظر : تفسير الرازي ١٠ / ١٠٥.

(٧) سقط في ب.

(٨) سقط في أ.

(٩) في ب : القياس.

(١٠) سقط في أ.

(١١) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٦٧ ، والبحر المحيط ٣ / ٢٨٤ ، والدر المصون ٢ / ٧ ، ٣.

(١٢) ينظر : الإملاء ١ / ١٨٣.

(١٣) ينظر : تفسير الرازي ١٠ / ١٠٥.

٤٢٤

والسبب في ذلك ؛ أن «ظن» وأخواتها ، نحو : علم ، وحسب ، ضعيفة في العمل ؛ لأنها لا تؤثّر في مفعولاتها ، فإذا تقدّمت دلّ تقدمها على شدّة العناية ، فقوي على التّأثير ، وإذا تأخرت ، دلّ على عدم العناية فلغى ، [وإن توسّطت ، لا يكون في محلّ العناية من كلّ الوجوه ، ولا في محلّ الإهمال من كل الوجوه ، فلا جرم أوجب توسّطها الإعمال](١) ، والإعمال (٢) في حال التوسط أحسن (٣) والإلغاء حال التأخّر ، أحسن ، وإذا عرفت [ذلك](٤) فنقول : «إذن» على هذا الترتيب ، [فإن تقدّمت نصبت الفعل ، وإن توسّطت ، أو تأخرت جاز الإلغاء](٥).

والنّقير : قال أهل اللغة (٦) : النّقير : نقطة في ظهر النواة ، ومنها تنبت النخلة ، وقال أبو العالية (٧) : هو نقد الرجل الشّيء بطرف إصبعه ، كما ينقر الدّرهم ، وأصله : أنّه فعل من النّقر ، يقال للخشب الذي ينقر فيه : إنّه نقير ؛ لأنه ينقر ، والنّقر : ضرب الحجر وغيره بالمنقار ، يقال : فلان كريم النّقير ، أي : الأصل ، والمنقار : حديدة كالفأس تقطع بها الحجارة ، ومنه : منقار الطائر ؛ لأنه ينقر به ، وذكر النّقير هنا تمثيل ، والغرض منه ، أنّهم يبخلون بأقلّ القليل.

قوله : (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ).

قال قتادة : المراد أنّ اليهود يحسدون العرب على النّبوة ، وما أكرمهم الله تعالى بمحمّد ـ عليه الصلاة والسلام (٨) ـ.

وقال ابن عبّاس ، والحسن ، ومجاهد [وجماعة](٩) : المراد ب «الناس» رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حسدوه على ما أحلّ الله له من النّساء ، وقالوا : «ما له هم إلا النكاح» (١٠) وهو المراد بقوله : (عَلى ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) ، وقيل : حسدوه على النّبوة ، والشّرف في الدين والدنيا ، وهذا أقرب ، وأولى.

وقيل : المراد ب (النَّاسَ) محمد وأصحابه ، ولمّا بيّن [الله](١١) تعالى أنّ كثرة نعم الله [عليه](١٢) صار سببا لحسد هؤلاء اليهود ، بيّن ما يدفع ذلك الحسد ، [فقال](١٣)

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) في أ : والإهمال.

(٣) في ب : حسن.

(٤) سقط في أ.

(٥) سقط في ب.

(٦) ينظر : تفسير الرازي ١٠ / ١٠٦.

(٧) ينظر : تفسير القرطبي ٥ / ١٦٢ والبغوي ١ / ٤٤٢.

(٨) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٨ / ٤٧٨) عن قتادة. والبغوي ١ / ٤٤٢.

(٩) سقط في ب.

(١٠) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٨ / ٤٧٨) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٣٠٩) وزاد نسبته لابن أبي حاتم من طريق العوفي عن ابن عباس. والبغوي ١ / ٤٤٢.

(١١) سقط في ب.

(١٢) سقط في ب.

(١٣) سقط في ب.

٤٢٥

(فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً ،) أي أنّه جعل في أولاد [إبراهيم](١) جماعة كثيرين ، جمعوا بين النبوة ، والملك والحكمة ، وأنتم لا تعجبون (٢) من ذلك ، ولا تحسدونهم ، فلم تتعجّبون من حال محمد ولم تحسدونه؟ والمراد ب (آلَ إِبْراهِيمَ) داود ، وسليمان ـ عليهما‌السلام ـ ، وب (الْكِتابَ) ما أنزل عليهم وب (الْحِكْمَةَ) النبوة.

فمن فسّر (الفضل) : بكثرة النساء ، والملك العظيم ، والمعنى : أنّ داود وسليمان أوتيا ملكا عظيما ، وكان لسليمان صلوات الله وسلامه عليه ألف امرأة : ثلاثمائة مهريّة ، وسبعمائة سرّيّة ، وكان لداود ـ عليه‌السلام ـ مائة امرأة ، ولم يكن لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلّا تسع نسوة ، فلمّا قال لهم ذلك ، سكتوا.

وقوله : (فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ) ، الضمير في به عائد على «إبراهيم» أو على «القرآن» أو على الرّسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ ، أو على ما أوتيه إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ فإن عاد إلى محمد ، فالمراد بالذين آمنوا به ، الذين أوتو الكتاب ؛ آمن بعضهم كعبد الله بن سلام ، وأصحابه ، وبقي بعضهم على الكفر والإنكار ، وكذلك إن عاد إلى ما أوتيه إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ قال السديّ (٣) : الهاء في «به» ، و «عنه» راجعة إلى إبراهيم ، وذلك أنّه زرع ذات سنة ، وزرع الناس [في تلك السّنة](٤) فهلك زرع الناس ، وزكا زرع إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ فاحتاج الناس إليه ، فكان يقول : «من آمن بي أعطيته» فمن آمن ، أعطاه منه ، [ومن لم يؤمن ، منعه منه](٥) ، وإن عاد إلى القرآن ، فالمعنى : أنّ الأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ وأتباعهم معهم ، صدّقوا بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبما جاء به ، وقال آخرون (٦) : المراد [أنّ](٧) أولئك الأنبياء مع ما خصّوا به من النّبوة ، والملك ، جرت عادة أممهم : أن آمن بعضهم ، وكفر بعضهم ، فلا تتعجّب يا محمد ، من أمتك ، فإنّ أحوال جميع الأمم هكذا ، وذلك تسلية له ـ عليه‌السلام ـ.

قوله : (وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ) قرأ الجمهور «صدّ» بفتح الصّاد ، وقرأ ابن مسعود ، وابن عباس ، وعكرمة (٨) : «صدّ» بضمها ، وقرأ أبو رجاء (٩) ، وأبو الجوزاء : بكسرها ،

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) في ب : تتعجبون.

(٣) ينظر : تفسير البغوي ١ / ٤٤.

(٤) سقط في أ.

(٥) سقط في ب.

(٦) ينظر : تفسير الرازي ١٠ / ١٠٧.

(٧) سقط في ب.

(٨) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٦٨ ، والبحر المحيط ٣ / ٢٨٥ ، ونسبها أيضا إلى ابن جبير وابن يعمر والجحدري ، وينظر : الدر المصون ٢ / ٣٧٧.

(٩) وقرأ بها أبي.

ينظر : البحر المحيط ٣ / ٣٨٥ ، والدر المصون ٢ / ٣٧٧.

٤٢٦

وكلتا القراءتين على البناء للمفعول ، إلا أنّ المضاعف الثّلاثيّ ، كالمعتلّ العين منه ، فيجوز في أوله ثلاث لغات : إخلاص الضّمّ ، وإخلاص الكسر ، والإشمام.

قوله : (وَكَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً ،) أي : كفى بجهنّم [في](١) عذاب الكفّار سعيرا والسّعير : الوقود ، وهو تمييز ، فإن كان بمعنى التهاب واحتراق ، فلا بدّ من حذف مضاف ، أي : كفى بسعير جهنّم سعيرا ؛ لأنّ توقّدها ، والتهابها ليس إيّاها ، وإن كان بمعنى : مسعّر (٢) ، فلا يحتاج إلى حذف.

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ ناراً كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ إِنَّ اللهَ كانَ عَزِيزاً حَكِيماً)(٥٦)

قرأ الجمهور : «نصليهم» بضمّ النون من أصلى ، وحميد (٣) : بفتحها من صليت ثلاثيّا.

قال القرطبيّ (٤) : ونصب : «نارا» على هذه القراءة ، بنزع الخافض ، تقديره : بنار. وقرأ سلّام ، ويعقوب : «نصليهم» بضمّ الهاء ، وهي لغة الحجاز ، وقد تقدّم تقريره.

وقال سيبويه : «سوف» [كلمة](٥) تذكر للتّهديد ، والوعيد : يقال : سوف أفعل ، وينوب عنها حرف السين ؛ كقوله : (سَأُصْلِيهِ سَقَرَ) [المدثر : ٢٦] وقد يرد «سوف» و «السّين» : في الوعد أيضا ؛ قال تعالى : (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى) [الضحى : ٥] ، وقال : (سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي) [مريم : ٤٧] ، وقال : (سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي) [يوسف : ٩٨] ، قيل : أخّره إلى وقت السّحر ؛ تحقيقا للدعاء ، وبالجملة ، فالسّين ، وسوف : مخصوصتان بالاستقبال.

فصل في معنى قوله «بآياتنا»

يدخل في الآيات كلّ ما يدلّ على ذات الله تعالى وصفاته ، وأفعاله ، [وأسمائه](٦) ، والملائكة ، والكتب ، والرسل ؛ وكفرهم قد يكون بالجحد ، وقد يكون بعدم النّظر فيها ، وقد يكون بإلقاء الشكوك والشّبهات فيها ، وقد يكون بإنكارها ؛ عنادا ، أو حسدا.

وقوله : «نصليهم» (٧) أي : ندخلهم النار ، لكن قوله : (نُصْلِيهِمْ) فيه زيادة على ذلك ، فإنّه بمنزلة شويته بالنار ، يقال شاة مصليّة ، أي : مشويّة.

قوله : (كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ ، كُلَّما :) ظرف زمان ، والعامل فيها (بَدَّلْناهُمْ) ،

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) في ب : سعر.

(٣) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٦٩ ، والبحر المحيط ٣ / ٢٨٥ ، والدر المصون ٢ / ٣٧٧.

(٤) ينظر : تفسير القرطبي ٥ / ١٦٤.

(٥) سقط في ب.

(٦) سقط في ب.

(٧) في ب : سنصليهم.

٤٢٧

والجملة في محلّ نصب على الحال ، من الضمير المنصوب في (نُصْلِيهِمْ ،) ويجوز أن يكون صفة ل «نارا» ، والعائد محذوف ، وليس بالقويّ ، و «ليذوقوا» متعلّق ب «بدلناهم».

قال القرطبيّ (١) : يقال : نضج الشّيء نضجا ونضجا ، وفلان نضيج الرّأي أي : محكمه.

فصل في معنى قوله (كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ)

(كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ) أي : (٢) كلما احترقت جلودهم ، بدلناهم جلودا غير الجلود المحترقة (٣).

قال ابن عبّاس : يبدّلون جلودا بيضا ، كأمثال القراطيس (٤). روي أنّ هذه الآية قرئت عند عمر ـ رضي الله عنه ـ فقال عمر للقارىء : أعدها ، فأعادها ، وكان عنده معاذ ابن جبل ، فقال معاذ بن جبل ـ رضي الله عنه ـ عندي تفسيرها : تبدّل في الساعة مائة مرّة ، فقال عمر : هكذا سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٥).

قال الحسن : تأكلهم النار كلّ يوم سبعين ألف مرّة ، كلّما أكلتهم ، قيل لهم : عودوا ، فيعودون كما كانوا (٦).

روى أبو هريرة ـ رضي الله عنه ـ عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ما بين منكبي الكافر مسيرة ثلاثة أيّام ، للرّاكب المسرع» (٧).

وعن أبي هريرة ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ضرس الكافر ، أو ناب الكافر ، مثل أحد وغلظ [جلده](٨) مسيرة ثلاثة أيّام» (٩).

فإن قيل : إنّه تعالى قادر على إبقائهم أحياء في النّار أبد الآباد فلم لم يبق أبدانهم

__________________

(١) ينظر : تفسير القرطبي ٥ / ١٦٤.

(٢) سقط في أ.

(٣) في ب : الحرقة.

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٨ / ٤٨٤) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٣١٠) وزاد نسبته لابن أبي حاتم من طريق ثوير عن ابن عمر. والبغوي ١ / ٤٤٢.

(٥) أخرجه الطبري في «الأوسط» كما في «مجمع الزوائد» (٧ / ٩). وقال الهيثمي : وفيه نافع مولى يوسف السلمي وهو متروك.

والأثر ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٣١٠) وقال : أخرجه الطبراني في الأوسط وابن أبي حاتم وابن مردويه بسند ضعيف من طريق نافع عن ابن عمر.

(٦) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٣١١) وعزاه لابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن أبي حاتم عن الحسن.

(٧) أخرجه البخاري (١١ / ٤٢٣) كتاب الرقاق باب صفة الجنة والنار (٦٥٥١) ومسلم (٤ / ٢١٨٩) كتاب الجنة : باب النار يدخلها الجبارون (٤٥ ـ ٢٨٤٢) عن أبي هريرة. والبغوي ١ / ٤٤٣.

(٨) سقط في أ.

(٩) أخرجه مسلم (٤ / ٢١٨٩) كتاب الجنة باب النار يدخلها الجبارون (٤٤ ـ ٢٥٨١) والترمذي (٤ / ٦٠٦) كتاب صفة جهنم : باب ما جاء في عظم أهل النار (٢٥٧٨) من حديث أبي هريرة.

وقال الترمذي : حسن صحيح.

٤٢٨

في النّار مصونة عن النضج ، مع إيصال الألم الشديد إليها ، من غير تبديل لها؟ فالجواب : أنّه لا يسأل عما يفعل ، بل نقول : إنّه قادر على أن يوصل إلى أبدانهم آلاما عظيمة ، من غير إدخال النّار ، مع أنه تعالى أدخلهم النّار ، فإن قيل : كيف يعذّب جلودا لم تكن في الدنيا ، ولم تعصه؟ فالجواب من وجوه :

الأوّل : أنه يعاد الجلد الأول في كلّ مرّة ، وإنّما قال غيرها ؛ لتبدل صفتها ، كما تقول : صنعت من خاتمي خاتما غيره ، فالخاتم الثّاني هو الأول ؛ إلّا أنّ الصناعة ، والصّفة تبدّلت.

الثاني : المعذّب هو الإنسان في الجلد ، لا الجلد ، بل الجلد كالشّيء الملتصق به ، الزّائد (١) على ذاته ، فإذا جدّد الجلد ، صار ذلك الجلد الجديد سببا لوصول العذاب إليه ، فالمعذب ليس إلّا العاصي ؛ يدلّ عليه قوله تعالى : (لِيَذُوقُوا الْعَذابَ) ولم يقل : ليذوق.

الثالث : قال السّدّيّ (٢) : يبدّل الجلد جلدا غيره من لحم الكافر.

الرابع : قال عبد العزيز بن يحيى (٣) : إنّ الله ـ تعالى ـ يلبس أهل النّار جلودا لا تألّم ، بل هي تؤلمهم : وهي السّرابيل فكلّما [احترق](٤) جلد بدّلهم جلدا غيره. طعن القاضي (٥) في هذا فقال : إنه ترك للظّاهر ، وأيضا السّرابيل من القطران لا توصف بالنّضج ، وإنما توصف بالاحتراق.

الخامس : يمكن أن يكون هذا استعارة عن الدّوام ، وعدم الانقطاع ؛ يقال للموصوف بالدّوام : كلّما انتهى فقد ابتدأ ، وكلّما وصل [إلى آخره](٦) فقد ابتدأ من أوله ، فكذلك قوله : (كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها) يعني : أنهم كلّما ظنّوا أنهم نضجوا واحترقوا وانتهوا إلى الهلاك ، أعطيناهم قوّة جديدة من الحياة ؛ بحيث ظنّوا أنّهم الآن وجدوا ، فيكون المقصود بيان دوام العذاب.

فإن قيل : قوله : (لِيَذُوقُوا الْعَذابَ) إنما يقال : فلان ذاق الشّيء ، إذا أدرك شيئا قليلا منه ، والله تعالى قد وصفهم بأنهم كانوا في أشدّ العذاب ، فكيف يحسن أن يذكر بعد ذلك أنّهم ذاقوا العذاب؟.

فالجواب : المقصود من ذكر الذّوق ، الإخبار بأنّ إحساسهم بذلك العذاب ، في كلّ حال ، يكون كإحساس الذّائق بالمذوق من حيث إنه لا يدخل فيه نقصان ، ولا زوال ، بسبب ذلك الاحتراق.

ثمّ قال تعالى : (إِنَّ اللهَ كانَ عَزِيزاً حَكِيماً ،) فالعزيز : القادر الغالب ، والحكيم :

__________________

(١) في ب : الرابد.

(٢) ينظر : تفسير البغوي ١ / ٤٤٣ والرازي ١٠ / ١٠٩.

(٣) ينظر : تفسير البغوي ١ / ٤٤٣.

(٤) سقط في أ.

(٥) ينظر : تفسير الرازي ١٠ / ١٠٩.

(٦) سقط في أ.

٤٢٩

الذي لا يفعل إلّا الصّواب ، وما تقتضيه الحكمة ؛ لأنّه قد يقع في القلب تعجّب من كون الكريم الرّحيم يعذّب هذا الشخص الضّعيف إلى هذا الحدّ العظيم أبد الآباد.

فقيل : ليس هذا [بعجب] ؛ لأنه القادر الغالب ، فكما أنه رحيم فهو أيضا حكيم ، والحكمة تقتضي ذلك.

قوله تعالى : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً)(٥٧)

قوله تعالى : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً لَهُمْ فِيها)(١)(أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلاً).

اعلم أنّ الوعد والوعيد متلازمان في الذّكر غالبا ، فإنّ عادة القرآن إذا ذكر الوعيد أن يذكر معه الوعد.

قوله : (وَالَّذِينَ آمَنُوا) فيه ثلاثة أوجه :

أظهرها : أنه مبتدأ ، وخبره (سَنُدْخِلُهُمْ).

والثاني : أنّه في محلّ نصب ؛ عطفا على اسم «إنّ» وهو (الَّذِينَ كَفَرُوا ،) والخبر أيضا : (سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ) ويصير هذا نظير قولك : إنّ زيدا قائم وعمرا قاعد ، فعطفت المنصوب على المنصوب ، والمرفوع على المرفوع.

والثالث : أن يكون في محلّ رفع (٢) ؛ عطفا على موضع اسم «إنّ» ؛ لأن محلّه الرفع ، قاله أبو البقاء ؛ وفيه نظر ، من حيث الصناعة اللّفظيّة ، حيث يقال : (وَالَّذِينَ آمَنُوا) في موضع نصب ؛ عطفا على (الَّذِينَ كَفَرُوا ،) وأتى بجملة الوعيد مؤكّدة ب «إن» ؛ تنبيها على شدّة ذلك ، وبجملة الوعد حاليّة منه ؛ لتحققها وأنه لا إنكار لذلك ، وأتى فيها بحرف التّنفيس القريب المدّة (٣) تنبيها على قرب الوعد.

فصل في أن الإيمان غير العمل

دلت هذه الآية ، على أنّ الإيمان غير العمل ؛ لأنه تعالى عطف العمل على الإيمان ، والمعطوف مغاير للمعطوف عليه.

قال القاضي (٤) : متى ذكر لفظ الإيمان وحده ، دخل فيه العمل ، ومتى ذكر معه العمل ، كان الإيمان هو التّصديق ، وهذا بعيد ؛ لأنّ الأصل عدم الاشتراك ، وعدم التغيير (٥) ، ولو لا أنّ الأمر كذلك ، لخرج القرآن عن كونه مفيدا ، فلعلّ هذه الألفاظ التي

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) في ب : نصب.

(٣) سقط في ب.

(٤) ينظر : تفسير الرازي ١٠ / ١١٠.

(٥) في ب : التعيين.

٤٣٠

تسمعها في القرآن ، يكون لكلّ واحد منها معنى سوى ما نعلم ، ويكون مراد الله [تعالى](١) ذلك المعنى.

قوله : «سندخلهم» ، قرأ النّخعيّ (٢) : سيدخلهم ، وكذلك : «ويدخلهم ظلا» بياء الغيبة ؛ ردّا على قوله : (إِنَّ اللهَ كانَ عَزِيزاً) ، والجمهور بالنون ردّا على قوله : (سَوْفَ نُصْلِيهِمْ) ، وتقدّم الكلام على قوله : (جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ).

وقوله : (خالِدِينَ) يجوز فيه ثلاثة أوجه :

أحدها : أنه حال من الضمير المنصوب في (سَنُدْخِلُهُمْ).

والثّاني : وأجازه أبو البقاء (٣) : أن يكون حالا من (جَنَّاتٍ)(٤).

[قال : لأن فيها ضميرا لكلّ واحد منهما ، يعني : أنه يجوز أن يكون حالا من](٥) مفعول (سَنُدْخِلُهُمْ) كما تقدّم ، أو «من جنات» ؛ لأنّ في الحال ضميرين :

أحدهما : المستتر في (خالِدِينَ) العائد على (الَّذِينَ آمَنُوا).

والآخر : مجرور ب «في» العائد على (جَنَّاتٍ) فصح أن يجعل حالا من كلّ واحد ؛ لوجود الرّابط ، وهو الضمير ، وهذا الذي قاله فيه نظر من وجهين :

أحدهما : أنه يصير المعنى : أنّ الجنات خالدات في أنفسها ؛ لأنّ الضّمير في فيها عائد عليها. فكأنه قيل : جنات خالدات في الجنّات أنفسها.

والثّاني : أنّ هذا الجمع شرطه العقل ، ولد أريد ذلك ، لقيل : خالدات.

والثالث : أن يكون صفة ل (جَنَّاتٍ) أيضا. قال أبو البقاء : على رأي الكوفيّين يعني أنّه جرت الصّفة على غير من هي له في المعنى ، ولم يبرز الضّمير ، وهذا مذهب الكوفيّين ، وهو أنّه إذا جرت على غير من هي له ، وأمن اللّبس ، لم يجب بروز الضمير كهذه الآية.

ومذهب البصريّين : وجوب (٦) بروزه مطلقا ، فكان ينبغي أن يقال على مذهبهم : «خالدين هم فيها» ، ولمّا لم يقل كذلك ، دلّ على فساد هذا القول ، وقد تقدّم تحقيق ذلك.

[فإن قلت :](٧) فلتكن المسألة الأولى كذلك ، أعني : أنّك إذا جعلت (خالِدِينَ)

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) وقرأ بها ابن وثاب.

ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٦٩ ، والبحر المحيط ٣ / ٢٨٧ ، والدر المصون ٢ / ٣٧٨.

(٣) ينظر : الإملاء ١ / ١٨٤.

(٤) في ب : مفعول سندخلهم.

(٥) سقط في ب.

(٦) في ب : يجب.

(٧) سقط في أ.

٤٣١

حالا من (جَنَّاتٍ ،) فيكون حالا منها لفظا ، وهي لغيرها معنى ، ولم يبرز الضّمير على رأي الكوفيّين ، ويصحّ قول أبي البقاء.

فالجواب : أنّ هذا ، لو قيل به لكان جيّدا ، ولكن لا يدفع الرّدّ عن أبي البقاء ، فإنّه خصّص مذهب الكوفيين بوجه الصّفة ، دون الحال.

فصل

ذكر الخلود والتّأبيد : فيه ردّ على جهم (١) بن صفوان ، حيث يقول : إنّ نعيم الجنّة وعذاب الآخرة (٢) ينقطعان ، وأيضا فذكره الخلود مع التّأبيد ؛ يدلّ على أنّ الخلود غير التّأبيد وإلا لزم التكرار ، وهو غير جائز ؛ فدلّ على أنّ الخلود ليس عبارة عن التّأبيد ، بل هو عبارة عن طول المكث من غير بيان أنّه منقطع ، أو غير منقطع ، وإذا ثبت هذا بطل استدلال المعتزلة بقوله تعالى : (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها) [النساء : ٩٣] على أنّ صاحب الكبيرة يبقى في النّار أبدا ، لأنّ هذه الآية دلّت على أنّ الخلود طول المكث لا التّأبيد.

قوله : (لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ) (٣) مبتدأ وخبر ، ومحلّ هذه الجملة ، إمّا النّصب أو الرّفع.

فالنّصب إمّا على الحال من (جَنَّاتٍ ،) أو من الضّمير في (سَنُدْخِلُهُمْ) وإما على كونها صفة ل (جَنَّاتٍ) بعد صفة.

والرّفع على أنّه خبر بعد خبر.

فصل

المراد : طهارتهنّ من الحيض والنّفاس ، وجميع أقذار الدّنيا ، كما تقدّم في سورة البقرة.

وقوله (وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلاً).

قال الواحديّ (٤) : الظّليل ليس ينبىء (٥) عن الفعل ، حتى يقال : إنّه بمعنى : فاعل ، أو مفعول ، بل هو مبالغة في نعت الظّلّ ، مثل قولهم : «ليل أليل».

قال المفسرون : الظّليل : الكثيف الّذي لا تنسخه الشّمس ، ولا يؤذيهم برد ، ولا حرّ.

قال ابن الخطيب (٦) : واعلم أنّ بلاد العرب كانت في غاية الحرارة ، وكان الظّلّ عندهم من أعظم أسباب الرّاحة ، ولهذا المعنى ؛ جعلوه (٧) كناية عن الرّاحة.

__________________

(١) في ب : جهيم.

(٢) في ب : النار.

(٣) سقط في أ.

(٤) ينظر : تفسير الرازي ١٠ / ١١٠.

(٥) في ب : بمعنى من.

(٦) ينظر : تفسير الرازي ١٠ / ١١٠.

(٧) في ب : جعلوا.

٤٣٢

قال عليه الصّلاة والسلام : «السّلطان ظلّ الله في الأرض» (١).

وإذا كان الظّل عبارة عن الرّاحة ؛ كان كناية عن المبالغة العظيمة في الراحة ، وبهذا يندفع سؤال من يقول : إذا لم يكن في الجنّة شمس تؤذي بحرّها ، فما فائدة وصفها بالظّلّ الظّليل؟.

وأيضا نرى (٢) في الدّنيا أنّ المواضع الّتي يدوم الظّلّ فيها ، ولا يصل نور الشّمس إليها ، يكون هواؤها فاسدا مؤذيا فما معنى وصف الجنّة بذلك ، فعلى هذا الوجه الّذي لخّصناه تندفع هذه الشّبهات.

قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً)(٥٨)

لما شرح أحوال الكفّار ، وشرح وعيدهم ؛ عاد إلى التّكليف ، وأيضا لمّا حكى عن أهل الكتاب أنّهم كتموا الحقّ ، حيث قالوا للذين كفروا (هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً) أمر المؤمنين في هذه الآية بأداء الأمانات في جميع الأمور ، سواء كانت دينيّة ، أو دنيويّة.

قوله (أَنْ تُؤَدُّوا) منصوب المحلّ ، إمّا على إسقاط حرف الجرّ ؛ لأن حذفه يطّرد مع «أن» ، إذا أمن اللّبس ؛ لطولهما بالصّلة ، وإما لأنّ «أمر» يتعدى إلى الثّاني بنفسه ، نحو : أمرتك الخير ، فعلى الأوّل يجري [الخلاف في محلّها ، أهي في محلّ نصب ، أم جر ، وعلى الثّاني هي في محلّ نصب فقط ، وقرىء «الأمانة»](٣).

فصل : فيمن نزلت الآية؟

نزلت في عثمان بن طلحة بن أبي طلحة الحجبي من بني عبد الدّار ، وكان سادن الكعبة ، فلمّا دخل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مكّة يوم الفتح أغلق عثمان بن طلحة باب الكعبة ، وصعد السّطح ، فطلب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المفتاح فقيل : إنّه مع عثمان ، فطلبه (٤) منه فأبى ، وقال : لو علمت أنّه رسول الله [صلى‌الله‌عليه‌وسلم](٥) لم أمنعه المفتاح ، فلوى عليّ بن أبي طالب يده ، وأخذ

__________________

(١) أخرجه البزار (١٥٩٠ ـ كشف) والقضاعي في «مسند الشهاب» (٣٠٤) من حديث عبد الله بن عمر.

وأورده الهيثمي في «مجمع الزوائد» (٥ / ١٩٦) وقال : رواه البزار وفيه سعيد بن سنان أبو مهدي وهو متروك.

والحديث له لفظ آخر وهو : الإمام ظل الله في الأرض.

أخرجه أحمد (٥ / ٤٢) وابن أبي عاصم (١٠١٧ ، ١٠١٨ ، ١٠٢٤) عن أبي بكرة رضي الله عنه مرفوعا.

(٢) في ب : يرى.

(٣) سقط في أ.

(٤) في ب : فطلب.

(٥) سقط في ب.

٤٣٣

منه المفتاح ، وفتح الباب ، ودخل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم البيت ، وصلّى فيه ركعتين ، فلمّا خرج سأله العبّاس [المفتاح](١) أن يعطيه ، ويجمع له بين السّقاية ، والسّدانة (٢) ، فأنزل الله ـ تعالى ـ هذه الآية ، فأمر النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم عليّا أن يردّ المفتاح إلى عثمان ، ويعتذر إليه ، ففعل ذلك عليّ ، فقال عثمان : أكرهت ، وآذيت ، ثم جئت ترفق ، فقال : لقد أنزل الله في شأنك ، وقرأ عليه الآية ، فقال عثمان : أشهد [ألّا إله إلّا الله و](٣) أنّ محمّدا رسول الله ، وأسلم ، وكان المفتاح معه ، فلما مات دفعه إلى أخيه شيبة ، فالمفتاح والسّدانة في أولادهم إلى يوم القيامة (٤).

وقيل (٥) : المراد من الآية جميع الأمانات.

واعلم أنّ معاملة الإنسان إما أن تكون مع ربّه ، أو مع العباد ، أو مع نفسه. فمعاملة الرّبّ فهو : فعل المأمورات ، وترك المنهيّات.

قال ابن مسعود : الأمانة في كلّ شيء لازمة ؛ في الوضوء ، والجنابة ، والصّلاة ، والزّكاة ، والصّوم.

[قال أبو نعيم الحافظ في «الحلية» (٦) : وممّن قال إنّ الآية عامّة في الجميع : البراء ابن عازب ، وابن مسعود ، وابن عبّاس ، وأبيّ بن كعب.

قالوا : الأمانة في كلّ شيء لازمة ، في الوضوء ، والجنابة ، والصّلاة ، والزكاة ، والصّوم ، والكيل ، والوزن ، والودائع.

قال ابن عبّاس : لم يرخص الله لمعسر ، ولا لمؤمن أن يمسك الأمانة](٧)(٨).

وقال ابن عمر : «إنّه ـ تعالى ـ خلق فرج الإنسان ، قال : «هذا أمانة [خبّأتها](٩) عندك ، فاحفظها إلّا بحقّها» (١٠).

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) في ب : السدانة والسقاية.

(٣) سقط في ب.

(٤) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٣١٢) وعزاه لابن مردويه من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس.

وأخرجه الطبري في «تفسيره» (٨ / ٤٩١) مختصرا وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٣١٢) وزاد نسبته لابن المنذر. والبغوي ١٠ / ٤٤٤.

(٥) ينظر : تفسير البغوي ١٠ / ٤٤٤.

(٦) ينظر : تفسير القرطبي ٥ / ١٦٦.

(٧) سقط في ب.

(٨) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٨ / ٤٩٣) عن ابن عباس. والمحرر ١ / ٧٠.

(٩) سقط في ب.

(١٠) ذكره الفخر الرازي في «التفسير الكبير» (١٠ / ١١١) عن ابن عمر.

٤٣٤

فأمانة (١) اللّسان ألّا يستعمله في الكذب ، والغيبة ، والنّميمة ، والكفر ، والبدعة ، والفحش ، وغيرها.

وأمانة العين ألّا يستعملها في النّظر الحرام ، وأمانة السّمع ألّا يستعمله في سماع الملاهي ، والمناهي ، وسماع الفحش ، والأكاذيب ، وغيرها.

وكذا جميع الأعضاء ، وأمّا الأمانة مع سائر الخلق فلردّ (٢) الودائع ، وترك التّطفيف في الكيل ، والوزن ، وعدل الأمراء في الرّعيّة ، وعدل العلماء في العوام : بأن يرشدوهم إلى الاعتقادات ، والأعمال الّتي تنفعهم في دنياهم وأخراهم ، ولا يحملوهم على التّعصّبات الباطلة ، وأمانة الزّوجة للزّوج في حفظ فرجها ، وألا تلحق به ولدا من غيره ، وفي إخبارها عن انقضاء عدّتها ، ونهي اليهود عن كتمان أمر (٣) محمد ـ عليه الصّلاة والسلام ـ وأما أمانته مع نفسه (٤) ، فهو ألا يختار [لنفسه](٥) إلّا الأنفع ، والأصلح ، في الدّين والدّنيا ، وألا يقدم بسبب الشّهوة ، والغضب على ما يضرّه في الآخرة قال أنس ـ رضي الله عنه ـ : قلّ ما خطبنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلا قال «لا إيمان لمن لا أمانة له ، ولا دين لمن لا عهد له» (٦) ، وقال تعالى (لا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ) [الأنفال : ٢٧] ، وقد عظّم الله أمر الأمانة فقال : (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ) [الأحزاب : ٧٢].

[ويروى أنّ الله ـ تعالى ـ خلق الدّنيا كالبستان ، وزينها بخمسة أشياء :

علم العلماء ، وعدل الأمراء ، وعبادة العلماء ، ونصيحة المستشار ، ودفع الخيانة](٧).

فصل في الخلاف في ضمان الوديعة

الأكثرون على أنّ الوديعة غير مضمونة عند عدم التّفريط ، وعن بعض السّلف أنّها مضمونة.

__________________

(١) في ب وأمانة.

(٢) في ب : فكرر.

(٣) في ب : صفة.

(٤) في ب : لنفسه.

(٥) سقط في ب.

(٦) أخرجه أحمد (٣ / ١٥٤) والبيهقي (٦ / ٢٨٨) والبزار (١٠٠ ـ كشف) وابن حبان (١٩٤٠ ـ موارد) والبغوي في «شرح السنة» (١ / ١٠٠) وأبو يعلى (٥ / ٣٤٧) عن أنس.

وقال البغوي : هذا حديث حسن.

وأورده الهيثمي في «مجمع الزوائد» (١ / ٩٦) وقال : رواه أحمد وأبو يعلى والبزار والطبراني في «الأوسط» وفيه أبو هلال وثقه ابن معين وغيره وضعفه النسائي وغيره.

ويشهد له حديث ابن عباس :

أخرجه أبو يعلى (٤ / ٣٤٣) والطبراني في «الكبير» كما في «مجمع الزوائد» (١ / ١٧٢) ومسدد كما في «المطالب العالية» (٢٩٠٨).

وقال الهيثمي : وفيه حسين بن قيس الملقب بحنش وهو متروك الحديث.

(٧) سقط في ب.

٤٣٥

روى الشّعبيّ عن أنس قال : استحملني رجل بضاعة ، فضاعت من بين ثيابي. فضمنني عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ (١).

وعن أنس قال : كان لإنسان عندي وديعة ستّة آلاف درهم ، فذهبت فقال عمر : «ذهب لك معها شيء»؟ [قلت : لا](٢) فألزمني الضّمان (٣).

وحجة الجمهور ما روى عمرو بن شعيب عن أبيه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لا ضمان على داع ، ولا [على](٤) مؤتمن» (٥) ، وأما فعل عمر ـ رضي الله عنه ـ [فهو](٦) محمول على أنّ المودع اعترف بفعل يوجب الضمان.

فصل في الخلاف في ضمان العارية

قال الشافعيّ وأحمد : العارية مضمونة بعد الهلاك لقوله تعالى (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها) (٧) والأمر للوجوب ، وقوله ـ عليه الصلاة والسلام : «على اليد ما أخذت حتّى تؤديه» (٨) وخصت منه الوديعة ، فيبقى العامّ بعد التّخصيص (٩) حجة ، وأيضا فإنّا أجمعنا على أنّ المستام مضمون ، وأنّ المودع غيره مضمون والعارية وقعت في البين ، ومشابهتها للمستام أكثر ؛ لأنّ كلا منهما أخذه الأجنبي لغرض نفسه ، والوديعة أخذها لغرض المالك ، فظهر الفرق بين العارية والوديعة.

وقال أبو حنيفة : [العارية](١٠) ليست مضمونة كقوله عليه‌السلام «لا ضمان على مؤتمن» وجوابه أنّه مخصوص بالمستام ، فكذا في العارية ، ودليلنا ظاهر القرآن.

قوله : (وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ) [فيكون](١١) قوله (أَنْ تَحْكُمُوا)

__________________

(١) أخرجه البيهقي في «سننه» (٦ / ٢٨٩) من طريق النضر بن أنس عن أنس بن مالك أن عمر بن الخطاب ضمنه وديعة سرقت منه.

(٢) سقط في ب.

(٣) انظر مصدر تخريج الحديث السابق.

(٤) سقط في أ.

(٥) أخرجه الدارقطني (٣ / ٤١) والبيهقي ٦ / ٢٨٩) من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعا.

(٦) سقط في ب.

(٧) سقط في ب.

(٨) أخرجه أبو داود (٣ / ٢٩٦) كتاب البيوع باب في تضمين العارية (٣٥٦١) والترمذي (٣ / ٥٦٦) في البيوع باب ما جاء في أن العارية مؤداة (١٢٦٦) وابن ماجه (٢ / ٨٠٢) كتاب الصدقات : باب العارية (٢٤٠٠) وأحمد (٥ / ٨ ، ١٢ ، ١٣) والحاكم (٢ / ٤٧) والبيهقي (٦ / ٩٠) والطبراني في «الكبير» (٧ / ٢٥٢) وابن أبي شيبة (٦ / ١٤٦) وابن الجارود في «المنتقى» (١٠٢٤) من طريق الحسن عن سمرة مرفوعا.

وقال الترمذي : حديث حسن صحيح.

وقال الحاكم : صحيح الإسناد على شرط البخاري.

(٩) في ب : الخاص.

(١٠) سقط في أ.

(١١) سقط في ب.

٤٣٦

معطوف على (أَنْ تُؤَدُّوا ،) أي : يأمركم بتأدية الأمانات والحكم بالعدل ، فيكون قد فصل بين حرف العطف ، والمعطوف بالظّرف. وهي مسألة خلاف ذهب الفارسيّ إلى منعها إلّا في الشّعر.

وذهب غيره إلى جوازها مطلقا ، ولنصحّح محلّ الخلاف أولا : فنقول : إن حرف العطف إذا كان على حرف واحد كالواو ، والفاء هل (١) يجوز أن يفصل بينه ، وبين ما عطفه بالظّرف وشبهه أم لا؟.

فذهب الفارسيّ إلى منعه مستدلا بأنّه إذا كان على حرف واحد ، فقد ضعف ، فلا يتوسّط بينه ، وبين ما عطفه شيء إلّا في ضرورة كقوله : [المنسرح]

١٨١٠ ـ يوما تراها كشبه أردية ال

عصب ويوما أديمها نغلا (٢)

تقديره : وترى أديمها نغلا يوما ، [ففصل ب «يوما»](٣) ، وذهب غيره إلى جوازه مستدلا

بقوله : (رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً) [البقرة : ٢٠١] ، (فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ) [هود : ٧١] ، (وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا (٤) فَأَغْشَيْناهُمْ)(٥) [يس : ٩](اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَ) [الطلاق : ١٢]. (أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ) [الآية](٦) ، وقال صاحب هذا القول : إنّ المعطوف عليه إذا كان مجرورا بحرف ، أعيد ذلك الحرف المعطوف نحو : امرر (٧) بزيد وغدا بعمرو ، وهذه الشّواهد لا دليل فيها (٨).

أمّا (فِي الدُّنْيا حَسَنَةً ، وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً) ، وقوله (وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ) [يس: ٩] ، فلأنه (٩) عطف شيئين على شيئين : عطف الآخرة على الدّنيا بإعادة الخافض وعطف حسنة الثانية على حسنة الأولى ، وكذلك عطف (مِنْ خَلْفِهِمْ) على (مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ) و «سدّا» على «سدّا» ، وكذلك البيت عطف فيه «أديمها» على المفعول الأوّل ل «تراها» ، و «نغلا» على الثاني وهو كشبه (١٠) و «يوما» الثّاني على «يوما» الأوّل ، فلا فصل فيه حينئذ ، [وحينئذ](١١) يقال : [ينبغي](١٢) لأبي عليّ أن يمنع مطلقا ، ولا يستثني الضّرورة ، فإن (١٣) ما استشهده به مؤوّل (١٤) على ما ذكرناه.

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) في ب : والفاعل.

(٣) تقدم برقم ٧٨٦.

(٤) سقط في ب.

(٥) سقط في أ.

(٦) سقط في ب.

(٧) سقط في ب.

(٨) في ب : أمس.

(٩) في ب : لها.

(١٠) في ب : فأنه.

(١١) في ب : شبيه.

(١٢) سقط في أ.

(١٣) سقط في أ.

(١٤) في أ : قال.

٤٣٧

فإن قيل : إنّما لم يجعله أبو عليّ من ذلك ؛ لأنّه يؤدّي إلى تخصيص الظّرف الثّاني بما وقع في الأوّل ، وهو أنّه تراها كشبه أردية العصب في اليوم الأوّل والثاني ؛ لأنّ حكم [المعطوف حكم](١) المعطوف عليه ، فهو نظير قولك : ضربت زيدا يوم الجمعة ، ويوم السّبت ، ف «يوم» السّبت مقيّد بضرب [زيد كما يقيّد به يوم الجمعة ، لكن الغرض أنّ اليوم الثّاني في البيت مقيّد بقيد آخر](٢) وهو رؤية أديمها نغلا.

فالجواب : أنه (٣) لو تركنا [و](٤) الظّاهر من غير تقييد (٥) الظّرف الثّاني بمعنى آخر كان الحكم كما ذكرت [لأن الظاهر كما ذكرت](٦) في مثالك : ضربت زيدا يوم الجمعة [وعمرا](٧) يوم السّبت [أما إذا قيّدته بشيء آخر ، فقد تركت ذلك الظّاهر لهذا النص ، ألا تراك تقول : ضربت زيدا يوم الجمعة ، وعمرا يوم السّبت](٨) ، فكذلك هذا ، وهو موضع يحتاج لتأمّل.

وأما (فَبَشَّرْناها (٩) بِإِسْحاقَ) ، فيعقوب ليس مجرورا عطفا على إسحاق ، بل منصوبا بإضمار فعل أي : ووهبنا لها (١٠) يعقوب ، ويدلّ عليه قراءة الرّفع ، فإنّها مؤذنة بانقطاعه من البشارة [به](١١) ، كيف وقد تقدّم أنّ هذا القائل يقول : إنّه متى كان المعطوف عليه مجرورا ، أعيد مع المعطوف الجار. [و](١٢) أما «أن يؤدوا الأمانات» (١٣) ، فلا دلالة فيها أيضا ؛ لأن «إذا» ظرف لا بدّ له من عامل ، وعامله إما (أَنْ تَحْكُمُوا) وهو الظّاهر من حيث المعنى ، وإما (يَأْمُرُكُمْ) فالأوّل ممتنع ، وإن كان المعنى عليه ؛ لأنّ ما في حيز الموصول لا يتقدّم عليه عند البصريين ، وأمّا الكوفيّون فيجوّزون ذلك ، ومنه الآية عندهم ، واستدلّوا بقوله : [الرجز]

١٨١١ ـ ............

كان جزائي بالعصا أن أجلدا (١٤)

وقد جاء ذلك في المفعول الصّريح في قوله : [الكامل]

١٨١٢ ـ ..............

وشفاء غيّك خابرا أن تسألي (١٥)

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) سقط في أ.

(٣) في ب : أنا.

(٤) سقط في ب.

(٥) في ب : يفسد.

(٦) سقط في أ.

(٧) سقط في ب.

(٨) سقط في أ.

(٩) في ب : فبشرنا.

(١٠) في ب : له.

(١١) سقط في أ.

(١٢) سقط في ب.

(١٣) في ب : لأن تردوا الأمانات.

(١٤) تقدم برقم ٧٩٤.

(١٥) عجز بيت وصدره :

هلا سألت وخير قوم عندهم

والبيت لامرأة من بني سليم. ينظر : الحماسة البصرية ٢ / ٢٧ ، ولها أو لربيعة بن مقروم. ينظر : خزانة الأدب ٨ / ٤٣٣ ، ٤٣٥ ، ولسان العرب (خير).

٤٣٨

فكيف بالظرف وشبهه.

والثاني ممتنع أيضا ؛ لأنّ الأمر ليس واقعا وقت الحكم ، كذا قاله أبو حيّان (١) وفيه نظر وإذا بطل هذا ، فالعامل فيه مقدّر يفسّره ما بعده تقديره : «وأن تحكموا إذا حكمتم» ، و «أن تحكموا» الأخيرة دالة على الأولى.

قوله «بالعدل» يجوز فيه وجهان :

أحدهما : أن يتعلّق ب «تحكموا» ، فتكون الباء للتّعدية ، والثانية : أن يتعلّق بمحذوف على أنّه حال من فاعل تحكموا ، فتكون الباء للمصاحبة ، أي : ملتبسين بالعدل مصاحبين له.

والمعنيان متقاربان.

فصل

اعلم أن الأمانة عبارة عن أداء ما وجب عليك لغيرك ، والحكم بالحق عما إذا وجب لإنسان على غيره حق ، فأمر من وجب عليه ذلك الحقّ بأن يدفعه إلى من له ذلك الحق.

ولما كان التّرتيب الصّحيح أن يبدأ الإنسان بنفسه في جلب المنافع ، ودفع المضار ، ثم يشتغل بغيره ، لا جرم أمر تعالى بأداء الأمانة أوّلا ، ثم ذكر بعد الأمر الحكم بالحقّ ، وهذا من اللّطائف المودعة في ترتيب القرآن.

فصل في وجوب حكم الإمام بالعدل

أجمعوا على أنّه يجب على الحاكم أن يحكم بالعدل ، لهذه الآية ، ولقوله تعالى (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ) [النحل : ٩٠] وقوله (وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا) [الأنعام : ١٥٢] وقوله (يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِ) [ص : ٢٦] ، وقال ـ عليه الصلاة والسلام : «لا تزال هذه الأمّة بخير ما إذا قالت صدقت ، وإذا حكمت عدلت وإذا استرحمت رحمت» وقال عليه الصّلاة والسلام «المقسطون عند الله على منابر من نور عن يمين الرّحمن ، وكلتا يديه يمين ؛ هم الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم ما ولّوا». وقال عليه الصّلاة والسلام «إنّ أحبّ النّاس إلى الله يوم القيامة ، وأقربهم منه مجلسا إمام عادل وإنّ أبغض النّاس إلى الله يوم القيامة وأشدّهم عذابا إمام جائر». وقال عليه الصّلاة والسلام «ينادي مناد يوم القيامة أين الظّلمة ، فيجمعون عليه فيلقون في النّار».

يحقق ذلك قوله تعالى (احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ) [الصافات : ٢٢] وقوله (وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ) [إبراهيم : ٤٢].

__________________

(١) ينظر : البحر المحيط ٣ / ٢٨٩.

٤٣٩

فصل فيما يجب على القاضي نحو الخصمين

يجب على القاضي أن يسوّي بين الخصمين في الدّخول عليه ، والجلوس بين يديه ، والإقبال عليهما ، والاستماع منهما ، والحكم بينهما ، وينبغي ألا يلقّن أحدهما حجّة ، ولا شاهدا شهادته ، ولا يلقّن المدّعي الدّعوى ، والاستخلاف ، ولا يلقن المدّعى عليه الإقرار ، ولا الإنكار ، ولا يضيف أحد الخصمين دون الآخر ، ولا يجيب هو إضافة أحدهما ، ولا إلى إضافتهما ما داما متخاصمين ، وعليه التّسوية بينهما في الأفعال دون القلب ؛ لأنّه لا يمكن أن يتحرّز من ميل قلبه.

قوله : (إِنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ) قد تقدّم الكلام على ما المتصلة ب «نعم» ، و «بئس» إلا أنّ ابن عطيّة نقل هنا نقلا لا يبعد من وهم!.

قال (١) : و «ما» المردفة على نعم ، وبئس إنّما هي المهيئة لاتّصال الفعل كما هي في ربّما ، ومما في قوله : وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مما يحرك شفتيه وكقول الشّاعر : [الطويل]

١٨١٣ ـ وإنّا لممّا نضرب الكبش ضربة

على رأسه تلقي اللّسان من الفم (٢)

وفي هذا بمنزلة ربّما ، ومنزلتها مخالفة في المعنى ؛ لأنّ ربّما للتّعليل ، ومما للتّكثير ومع إنما هي موطّئة ، فهي بمعنى الّذي ، وما وطّأت إلّا وهي اسم. ولكن المقصد إنما هو لما يليها من المعنى الذي في الفعل.

قال أبو حيّان (٣) وهذا متهافت ؛ لأنه من حيث جعلها موطّئة مهيّئة ، لا تكون أسماء ، ومن حيث جعلها بمعنى الّذي يلزم أن يكون اسما ، فتدافعا.

فصل : في معنى قوله «نعما يعظكم»

المعنى : نعم شيئا يعظكم به ، أو نعم الشّيء الذي يعظكم به.

والمخصوص بالمدح محذوف ، أي : نعم ما يعظكم به ذلك ، وهو المأمور به : من أداء الأمانات والحكم بالعدل ، أي : بالقسط ، ثم قال : (إِنَّ اللهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً)، أي : إذا حكمت بالعدل ، فهو يسمع ذلك ، لأنّه سميع لكلّ المسموعات ، وإن أدّيت الأمانة ، فهو

__________________

(١) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٧٠ ، البحر المحيط ٣ / ٢٨٩.

(٢) البيت لأبي حية النميري ينظر خزانة الأدب ١٠ / ٢١٥ ، ٢١٦ ، ٢١٧ ، والدرر ٤ / ١٨١ ، وشرح شواهد المغني ص ٧٢ ، ٧٣٨ ، والكتاب ٣ / ١٥٦ ، ومغني اللبيب ص ٣١١ ، والأزهية ص ٩١ ، والأشباه والنظائر ٣ / ٢٦٠ ، والجنى الداني ص ٣١٥ ، وشرح شواهد الإيضاح ص ٢١٩ ، ٥١٣ ، والمقتضب ٤ / ١٧٤ ، وهمع الهوامع ٢ / ٣٥ ، ٣٨ ، والدر المصون ٢ / ٣٨١ ، والبحر المحيط ٣ / ٢٩٠ ، والتصريح ٢ / ١٠.

(٣) ينظر : البحر المحيط ٣ / ٢٩٠.

٤٤٠