اللّباب في علوم الكتاب - ج ٦

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ٦

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٦٣٢

ما بعد [نعم](١) و «بئس» على الحال.

والقرين : المصاحب [الملازم](٢) وهو فعيل بمعنى مفاعل : كالخليط والجليس ، والقرن : الحبل (٣) ؛ لأنه يقرن به بين البعيرين قال : [البسيط]

١٧٩٦ ـ ............

وابن اللّبون إذا ما لزّ في قرن (٤)

قوله تعالى : (وَما ذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللهُ وَكانَ اللهُ بِهِمْ عَلِيماً)(٣٩)

قوله : (وَما ذا عَلَيْهِمْ).

قد تقدم الكلام على نظيرتها ، و (ما ذا عَلَيْهِمْ) استفهام بمعنى الانكار.

قال القرطبي : «ما» : في موضع رفع بالابتداء ، و «ذا» خبره ، و «ذا» بمعنى الّذي ، وهذا يحتمل أن يكون الكلام قد تمّ هنا ، ويجوز أن يكون «وماذا» اسما واحدا ، ويكون المعنى أي : وأيّ شيء عليهم في الإيمان بالله ، أو ماذا عليهم من الوبال والعذاب يوم القيامة.

ثم استأنف بقوله : (لَوْ آمَنُوا) ويكون جوابها محذوفا ، أي : حصلت لهم السّعادة ، ويحتمل أن يكون [تمام] الكلام ب «لو» وما بعدها ، وذلك على جعل «لو» مصدريّة عند من يثبت لها ذلك ، أي : وما ذا عليهم في الإيمان ، ولا جواب لها حينئذ ، وأجاز ابن عطيّة (٥) أن يكون (وَما ذا عَلَيْهِمْ) جوابا ل «لو» ، فإن أراد من جهة المعنى فمسلّم (٦) وإن أراد من جهة الصّناعة ففاسد ؛ لأن الجواب الصّناعي لا يتقدّم عند البصريّين ، وأيضا فالاستفهام لا يجاب ب «لو» ، وأجاز أبو البقاء (٧) في «لو» أن تكون بمعنى «إن» الشّرطيّة ؛ كما جاء في قوله : (وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ) [البقرة : ٢٢١] أي : وأيّ شيء عليهم إن آمنوا.

قال الجبائي (٨) : ولو كانوا غير قادرين ، لم يجز أن يقول الله ذلك ؛ كما لا يقال لمن هو في النّار معذّب : ماذا عليهم لو خرجوا منها ، وصاروا إلى الجنّة ، وكما لا يقال للجائع الذي لا يقدر على الطّعام : ماذا عليه لو أكل.

[وقال الكعبي](٩) لا يجوز أن يمنعه القدرة ، ثم يقول : ماذا عليه لو آمن ؛ كما [لا]

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) سقط في أ.

(٣) في أ : الحبال.

(٤) هذا صدر بيت لجرير وعجزه :

لم يستطع صولة البزل القناعيس

ينظر ديوانه (٣٢٣) والكتاب ١ / ٢٩٥ وشرح المفصل لابن يعيش ١ / ٣٥ واللسان (لزز) والدر المصون ٢ / ٢٢٧ ، ٣٦٣.

(٥) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٥٣.

(٦) في أ : المسلم.

(٧) ينظر : الإملاء ١ / ١٨٠.

(٨) ينظر : تفسير الرازي ١٠ / ٨١.

(٩) ينظر : السابق.

٣٨١

يقال لمن به مرض : ماذا عليه لو كان صحيحا ، ولا يقال للمرأة : ماذا عليها لو كانت رجلا ، وللقبيح : ماذا عليه لو كان جميلا كما لا يحسن هذا القول من العاقل ، كذلك لا يحسن من الله ـ تعالى ـ.

وقال القاضي عبد الجبّار (١) : لا يجوز أن يأمر العاقل وكيله بالتّصرّف في الصّفقة (٢) ، ويحبسه بحيث لا يتمكّن من مفارقة الحبس ، ثم يقول له : ماذا عليك لو تصرّفت ، وإذا كان من يذكر مثل هذا الكلام [سفيها](٣) دل ذلك على أنّه على الله ـ تعالى ـ غير جائز واعلم أن ممّا تمسّك به المعتزلة من المدح والذّمّ والثّواب والعقاب ، معارضتهم بمسألة العلم والدّاعي.

قال ابن الخطيب (٤) : قد يحسن منه ما من غيره ؛ لأن الملك ملكه.

ثم قال : (وَكانَ اللهُ بِهِمْ عَلِيماً) أي : عليم ببواطن الأمور كما هو عليم بظاهرها ، وهذا كالرّدع للمكلّف عن القبائح من أفعال القلوب ؛ مثل النّفاق والرّياء والسّمعة.

قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً)(٤٠)

لمّا بيّن أنه عليم ببواطنهم وظواهرهم ، بيّن أنّه كما علمها ، لا يظلم مثقال ذرّة منها.

قوله : (مِثْقالَ ذَرَّةٍ) فيها وجهان :

أحدهما : أنه منصوب على أنه نعت لمصدر محذوف ، أي : لا يظلم أحدا ظلما وزن ذرّة (٥) ، فحذف المفعول والمصدر ، وأقام نعته مقامه ، ولمّا ذكر أبو البقاء (٦) هذا الوجه ، قدّر قبله مضافا محذوفا ، قال تقديره : ظلما قدر مثقال ذرّة ، فحذف المصدر وصفته ، وأقام المضاف إليه مقامه ، ولا حاجة إلى ذلك ؛ لأن المثقال نفسه هو قدر من الأقدار ، جعل معيارا لهذا القدر المخصوص.

والثاني : أنه منصوب على أنه مفعول ثان ل «يظلم» ، والأوّل محذوف ؛ كأنهم ضمّنوا «يظلم» معنى «يغصب» أو «ينقص» فعدّوه (٧) لاثنين ، والأصل أن الله لا يظلم أحدا مثقال ذرّة.

والمثقال مفعال من الثّقل ، يقال : هذا على مثال هذا ، أي : وزنه ، ومعنى الآية : أنه ـ تعالى ـ لا يظلم أحدا (٨) لا قليلا ولا كثيرا ، وإنما أخرجه على أصغر ما يتعارفه النّاس ؛

__________________

(١) ينظر : السابق.

(٢) في أ : النفقة وفي الرازي الضيعة.

(٣) سقط في أ.

(٤) ينظر : تفسير الرازي ١٠ / ٨٢.

(٥) في أ : الذرة.

(٦) ينظر : الإملاء ١ / ١٨٠.

(٧) في أ : فعله.

(٨) في أ : مثقال ذرة.

٣٨٢

ويؤيّده قوله ـ تعالى ـ : (إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً) [يونس : ٤٤] والذّرّة : قال أهل اللّغة (١) : هي النّملة الحمراء ، وقيل : رأسها (٢) ، وقيل : الذّرّة جزء من أجزاء الهباء في الكوة ، ولا يكون لها وزن.

وروي أن ابن عبّاس أدخل يده في التّراب ، ثم رفعها ، ثم نفخ فيها ، ثم قال : كل واحد من هذه الأشياء (٣).

والأول هو المشهور ؛ لأن النّملة يضرب بها المثل في القلّة ، وأصغر ما يكون إذا مرّ عليها حول ، وقالوا : لأنّها حينئذ تصغر جدّا.

قال حسّان : [الخفيف]

١٧٩٧ ـ لو يدبّ الحوليّ من ولد الذّر

ر عليها لأندبتها الكلوم (٤)

وقال امرؤ القيس : [الطويل]

١٧٩٨ ـ من القاصرات الطّرف لو دبّ محول

من الذّرّ فوق الإتب منها لأثّرا (٥)

فصل

روى مسلم عن أنس ؛ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا يظلم الله مؤمنا حسنة ، يعطى بها [في الدّنيا](٦) ويجزى بها في الآخرة ، وأما الكافر فيعطى حسنات ما عامل الله بها في الدّنيا ، حتى إذا مضى إلى الآخرة ، لم يكن له حسنة يجزى عليها» (٧).

فصل : دليل أهل السنة على خروج المؤمنين من النار

واحتج أهل السّنّة بهذه الآية ، على أنّ المؤمنين يخرجون من النّار إلى الجنّة ؛ قالوا : لأن ثواب الإيمان والمداومة على التّوحيد ، والإقرار بالعبوديّة مائة سنة ، أعظم ثوابا من عقاب شرب جرعة من الخمر ، فإذا حضر هذا الشّارب القيامة وأسقط [عنه](٨) قدر عقاب هذه المعصية من ذلك الثّواب العظيم ، فضل له من الثّواب قدر عظيم ، فإذا

__________________

(١) ينظر : الرازي ١٠ / ٨٢.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٨ / ٣٦٠) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٢٩٠) وزاد نسبته لعبد بن حميد.

(٣) ذكره الرازي في تفسيره ١٠ / ٨٢.

(٤) ينظر البيت في ديوانه ٢٢٣ والبحر المحيط ٣ / ٢٦١ ، والدر المصون ٢ / ٢٦٥.

(٥) ينظر البيت في ديوانه (٦٥) : والبحر المحيط ٣ / ٢١٦ ، والدر المصون ٢ / ٣٦٥.

(٦) سقط في ب.

(٧) أخرجه مسلم (٢ / ٣٤٤ ـ ٣٤٥) وأحمد (٣ / ١٢٣ ، ١٢٥ ، ٢٨٣) والطيالسي (١١ ـ ٢) والطبري في «تفسيره» (٨ / ٢٦١) عن أنس بن مالك مرفوعا.

(٨) سقط في أ.

٣٨٣

دخل النار بسبب ذلك القدر من العقاب ، فلو بقي هناك ، لكان ذلك ظلما ، فوجب القطع بأنه يخرج إلى الجنّة.

وقوله : (وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً) حذفت النّون تخفيفا ؛ لكثرة الاستعمال ، وهذه قاعدة كلّية ، وهو أنه يجوز حذف نون «تكون» مجزومة ، بشرط ألّا يليها ضمير متّصل ؛ نحو لم يكنه ، وألّا تحرّك النّون لالتقاء الساكنين ، نحو : (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا) [البينة : ١] خلافا ليونس ؛ فإنه أجاز ذلك مستدلا بقوله : [الطويل]

١٧٩٩ ـ فإن لم تك المرآة أبدت وسامة

فقد أبدت [المرآة](١) جبهة ضيغم (٢)

وهذا عند سيبويه (٣) ضرورة ، وإنما حذفت النّون لغنّتها وسكونها ، فأشبهت الواو ، وهذا بخلاف سائر الأفعال ، نحو : لم يضنّ ، ولم يهن ؛ لكثرة استعمال «كان» ، وكان ينبغي أن تعود الواو عند حذف هذه النّون ؛ لأنها إنّما حذفت لالتقاء الساكنين ، وقد زال (٤) ثانيهما وهو النّون ، إلا أنّها كالملفوظ بها.

واعلم أن النّون السّاكنة ، إذا وقعت طرفا تشبه حروف اللّين ، وحروف اللّين إذا وقعت طرفا سقطت للجزم ، وقد جاء القرآن بالحذف والاثبات :

أما الحذف : فهذه الآية.

[وأما الإثبات](٥) فكقوله : (إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً) [النساء : ١٣].

وقرأ الجمهور (حَسَنَةً) نصبا على خبر كان النّاقصة ، واسمها مستتر فيها يعود على مثقال ، وإنّما أنّث ضميره حملا على المعنى ؛ لأنه بمعنى : وإن تكن زنة ذرّة حسنة ، أو لإضافته إلى مؤنّث ، فاكتسب منه التّأنيث.

وقرأ ابن كثير ونافع : «حسنة» رفعا على أنّها التّامّة ، أي : وإن تقع أو توجد حسنة وقرأ ابن كثير (٦) وابن عامر «يضعفها» بالتضعيف ، والباقون : «يضاعفها» قال أبو عبيدة (٧) ضاعفه يقتضي مرارا كثيرة ، وضعّف يقتضي مرّتين ، وهذا عكس كلام العرب ، لأن

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) البيت للخنجر بن صخر الأسدي ينظر خزانة الأدب ٩ / ٣٠٤ ، والدرر ٢ / ٩٦ ، وسر صناعة الإعراب ٢ / ٥٤٢ ، وشرح التصريح ١ / ١٩٦ ، ولسان العرب (كون) ، والمقاصد النحوية ٢ / ٦٣ ، وأوضح المسالك ١ / ٢٦٩ ، وتخليص الشواهد ص ٢٦٨ ، وشرح الأشموني ١ / ١٢٠ ، والدر المصون ٢ / ٣٦٤.

(٣) ينظر : الكتاب ٢ / ٢٧٩.

(٤) في أ : وقد ترك.

(٥) سقط في أ.

(٦) ينظر : السبعة ٢٣٣ ، والحجة ٣ / ١٦١ ، وحجة القراءات ٢٠٣ ، والعنوان ٨٤ ، وإعراب القراءات ١ / ١٣٤ ، وإتحاف ١ / ٥١٢.

(٧) ينظر : المجاز ١ / ١٢٧.

٣٨٤

المضاعفة تقتضي زيادة المثل ، فإذا شدّدت ، دلّت البنية على التكثير ، فيقتضي ذلك تكرير المضاعفة ، بحسب ما يكون من العدد.

وقال الفارسيّ (١) : فيها لغتان بمعنى يدلّ عليه (٢) قوله : (يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً) [البقرة : ٢٤٥] وقد تقدّم ذلك ، وقرأ ابن هرمز (٣) : «نضاعفها» [بالنون ، وقرىء «يضعفها»](٤) بالتّخفيف من أضعفه (٥) مثل أكرم.

فصل

قال أبو عثمان النّهدي : بلغني عن أبي هريرة ؛ أنه قال : إن الله يعطي عبده المؤمن بالحسنة الواحدة ألف ألف حسنة ، فقدّر الله أن ذهبت إلى مكّة حاجّا أو معتمرا فلقيته فقلت : بلغني أنك تقول إن الله يعطي عبده المؤمن بالحسنة ألف ألف حسنة ، قال أبو هريرة : لم أقل ذلك ، ولكن قلت : إن الحسنة تضاعف بألفي ألفي ضعف ، ثم تلا هذه الآية (٦) ؛ وقال : قال الله ـ تعالى : (وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً) لمن يقدر قدره.

قوله : (مِنْ لَدُنْهُ) فيه وجهان :

أحدهما : أنه متعلّق ب «يؤت» و «من» للابتداء مجازا.

والثاني : متعلّق بمحذوف على أنه حال من «أجرا» ، فإنه صفة نكرة في الأصل ، قدّم عليها فانتصب حالا.

و «لدن» بمعنى عند ، إلا أن «لدن» (٧) أكثر تمكينا ؛ يقول الرّجل : عندي مال ، إذا كان [ماله](٨) ببلد آخر ، ولا يقال : لديّ مال في حال ، ولا لديّ إلّا لما كان حاضرا.

قوله تعالى : (فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً) (٤١)

«فكيف» فيها ثلاثة أقوال :

أحدها : أنّها في محلّ رفع خبرا لمبتدأ محذوف ، أي : فكيف [تكون](٩) حالهم أو صنعهم ، والعامل في «إذا» هو هذا المقدّر.

__________________

(١) ينظر : الحجة : ٣ / ١٦١.

(٢) في أ : قلبه.

(٣) ينظر : الدر المصون ٢ / ٣٦٤ ، وفي أ : هرم.

(٤) سقط في أ.

(٥) في أ : أضاعفه.

(٦) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٨ / ٣٦٦) وأحمد (٩٧٣٢ ـ شاكر) وابن أبي حاتم كما في «تفسير ابن كثير» وابن أبي شيبة كما في «الدر المنثور» (٢ / ٢٩٠) عن أبي عثمان النهدي عن أبي هريرة.

(٧) في أ : عند.

(٨) سقط في ب.

(٩) سقط في أ.

٣٨٥

والثاني : أنها في محلّ نصب بفعل محذوف ، أي : فكيف تكونون أو تصنعون ، ويجري فيها الوجهان : النّصب على التّشبيه بالحال ؛ كما هو مذهب سيبويه ، أو على التّشبيه بالظّرفيّة ؛ كما هو مذهب الأخفش ، وهو العامل في «إذا» أيضا.

والثالث : حكاه ابن عطيّة (١) عن مكّي أنها معمولة ل (جِئْنا ،) وهذا غلط فاحش.

قوله (مِنْ كُلِ) فيه وجهان :

أحدهما : أنه متعلّق ب (جِئْنا).

والثاني : [أنه متعلّق](٢) بمحذوف على أنّه حال من (شَهِيداً ،) وذلك على رأي من يجوّز تقديم حال المجرور بالحرف عليه ، كما تقدّم ، والمشهود محذوف ، أي : شهيد على أمّته.

فصل : معنى (فَكَيْفَ إِذا جِئْنا)

من عادة العرب أنّهم يقولون في الشّيء الذي يتوقّعونه : كيف بك إذا كان كذا وكذا ، ومعنى الكلام : كيف يرون [يوم](٣) القيامة ، إذا استشهد الله على كلّ أمّة برسولها يشهد عليهم (٤) بما عملوا ، (وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً) أي : شاهدا على جميع الأمم.

روى أبو مسعود ؛ قال : قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اقرأ عليّ». فقلت : يا رسول الله ، أقرأ عليك ، وعليك أنزل؟ قال «نعم ، أحبّ أن أسمعه من غيري» ، فقرأت سورة النّساء حتى أتيت إلى هذه الآية ، قال : حسبك الآن ، فالتفتّ إليه فإذا عيناه تذرفان (٥).

قوله (وَجِئْنا بِكَ) في هذه الجملة ثلاثة أوجه :

أظهرها (٦) : أنها في محلّ جرّ عطفا على (جِئْنا) الأولى (٧) ، أي : فكيف تصنعون في وقت المجيئين.

والثاني : أنها في محلّ نصب على الحال و «قد» مرادة معها ، والعامل فيها (جِئْنا) [الأولى ، أي : جئنا](٨) من كلّ أمّة بشهيد وقد جئنا ؛ وفيه نظر.

__________________

(١) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٥٥.

(٢) سقط في أ.

(٣) سقط في أ.

(٤) في ب : عليهم.

(٥) أخرجه البخاري (٨ / ٢٥٠) كتاب التفسير (٤٥٨٢) وفضائل القرآن (٥٠٤٩ ، ٥٠٥٠) ومسلم كتاب صلاة المسافرين (٢٤٧ ـ ٨٠٠) ، (٢٤٨ / ٨٠٠) عن عبد الله بن مسعود.

وأخرجه الحاكم (٣ / ٣١٩) عن عمرو بن حريث مطولا.

وقال الحاكم : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.

(٦) في أ : أحدهما.

(٧) في أ : الأول.

(٨) سقط في أ.

٣٨٦

الثالث : أنها مستأنفة فلا محلّ لها قال أبو البقاء (١) ويجوز أن تكون مستأنفة ، ويكون الماضي بمعنى المستقبل انتهى.

وإنما احتاج [إلى ذلك](٢) ؛ لأن المجيء بعد لم (٣) يقع فادّعى ذلك ، والله أعلم.

قوله : (عَلى هؤُلاءِ) متعلّق ب (شَهِيداً)(٤) و «على» على بابها ، وقيل : بمعنى اللام ، وفيه بعد [وأجيز أن يكون «على» متعلّقة بمحذوف على أنّها حال من (شَهِيداً) وفيه بعد](٥) ، و (شَهِيداً) حال من الكاف في «بك».

قوله تعالى : (يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثاً)(٤٢)

قوله : (يَوْمَئِذٍ) فيه ثلاثة أوجه :

أحدها : أنه معمول ل (يَوَدُّ)(٦) أي : يودّ الذين كفروا يوم إذ جئنا (٧).

والثاني : أنه معمول ل (شَهِيداً ،) قاله أبو البقاء (٨) ؛ قال : وعلى هذا يكون «يود» صفة ل «يوم» ، والعائد محذوف ، تقديره : فيه ، وقد ذكر ذلك في قوله : (وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي) [البقرة : ٤٨] ، وفيما قاله نظر.

والثّالث : أن «يوم» مبنيّ ؛ لإضافته إلى «إذ» قاله الحوفيّ ؛ قال : لأنّ الظرف إذا أضيف إلى غير متمكّن ، جاز بناؤه معه ، و «إذ» هنا اسم ؛ لأن الظروف إذا أضيف إليها ، خرجت إلى معنى الاسميّة ، من أجل تخصيص المضاف إليها ، كما تخصّص الأسماء مع استحقاقها الجرّ ، والجرّ ليس من علامات الظّروف ، والتّنوين في «إذ» تنوين عوض على الصّحيح ، فقيل : عوض من الجملة الأولى ، في قوله : (جِئْنا مِنْ كُلِ) أي : يومئذ جئنا من كلّ أمّة بشهيد ، وجئنا بك على هؤلاء شهيدا ، و «الرسول» على هذا اسم جنس ، وقيل : عوض عن الجملة الأخيرة وهي (وَجِئْنا بِكَ ،) ويكون المراد ب «الرسول» : محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكأن النّظم وعصوك ، ولكن أبرز ظاهرا بصفة الرّسالة تنويها بقدره وشرفه.

وقوله : (وَعَصَوُا) فيه ثلاثة أوجه :

أحدها : أنها جملة معطوفة على (كَفَرُوا) فتكون صلة ، فيكونون جامعين بين كفر ومعصية ؛ لأن العطف يقتضي المغايرة ، وإذا كان ذلك ، فيجمل عصيان الرّسول على

__________________

(١) ينظر : الإملاء ١ / ١٨١.

(٢) سقط في أ.

(٣) في أ : بعده.

(٤) في أ : بشهيد.

(٥) سقط في ب.

(٦) في أ : ليود.

(٧) في أ : يومئذ حينا.

(٨) ينظر : الإملاء ١ / ١٨١.

٣٨٧

المعاصي المغايرة للكفر ، وإذا ثبت ذلك ، فالآية دالّة على أن الكفّار مخاطبون بفروع الإسلام (١).

وقيل : هي صلة لموصول آخر ، فيكون طائفتين ، وقيل : إنها في محلّ نصب على الحال من (كَفَرُوا ،) و «قد» مرادة (٢) ، أي : وقد عصوا.

وقرأ يحيى وأبو السّمال (٣) : «وعصوا الرسول» بكسر الواو على الأصل.

قوله : (لَوْ تُسَوَّى) إن قيل إن «لو» على بابها كما هو قول الجمهور ، فمفعول (يَوَدُّ) محذوف ، أي : يودّ الّذين كفروا تسوية الأرض بهم ، ويدل عليه (لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ ،) وجوابها حينئذ محذوف ، أي : لسرّوا بذلك (٤).

وإن قيل : إنها مصدريّة ، كانت هي وما بعدها في محلّ مفعول (يَوَدُّ) ، ولا جواب

__________________

(١) الشريعة لها أصول ولها فروع ، فأصولها : الإيمان بالله تعالى ، وملائكته ، وكتبه ، ورسله ، واليوم الآخر ، والقضاء كله خيره وشره ، وفروعها : التكاليف التي شرعها الله لعباده ؛ من صلاة وصوم ، وحج ، وزكاة ، وبيع ، ورهن ، وإجارة ، وحدود ، وقصاص ، وكفارات ، وقد اتفق العلماء على أن الكفار مخاطبون بأصول الشريعة ، وأن تركهم لهذه الأصول يوجب تخليدهم في النار. واتفقوا كذلك على أنهم مخاطبون بالمعاملات ؛ كالبيع ، والشراء ، والرهن ، والإجارة ؛ وبالعقوبات ، كالحدود ، والقصاص ، وقالوا في توجيه ذلك : إن المعاملات بها الحياة الدنيا ، فالكفار بها أنسب ؛ لأنهم آثروا الحياة الدنيا على الآخرة ، وأما العقوبات : فقد قصد بها الزجر عن ارتكاب أسبابها ، والكفار أحق بالزجر وأولى به من المؤمنين.

واختلفوا في مخاطبتهم بما عدا ذلك من فروع الشريعة ، كالصلاة ، والصوم ، والحج ، والزكاة من كل ما يعتبر الإيمان شرطا في صحته على أقوال ثلاثة :

القول الأول : أنهم مخاطبون بفروع الشريعة أداء واعتقادا ، وهو مختار جمهور العلماء ومنهم : الأئمة الثلاثة مالك ، والشافعي ، وأحمد ، وهو المعروف من علماء الحنفية العراقيين.

القول الثاني : ليسوا مخاطبين بها لا أداء ولا اعتقادا ، وهو لعلماء الحنفية السمرقنديين ؛ كالسرخسي ، وفخر الإسلام ، واختار هذا القول أبو حامد الإسفرايني من الشافعية.

القول الثالث : هم مخاطبون بالنواهي وليسوا مخاطبين بالأوامر ، وقد حكاه البيضاوي دون أن ينسبه إلى قائله.

ينظر : البحر المحيط للزركشي ٣ / ٣٦ ، التمهيد للإسنوي ص ٣٦٤ ، ونهاية السول له ١ / ٣٦٩ ، زوائد الأصول ص ١٧٩ ، منهاج العقول للبدخشي ١ / ٢٠٣ ، التحصيل من المحصول للأرموي ١ / ٣٢١ المنخول للغزالي ص / ٣١ ، الإبهاج لابن السبكي ١ / ١٧٧ ، الآيات البينات لابن قاسم العبادي ١ / ٢٨٥ ، تخريج الفروع على الأصول للزنجاني ص / ٩٨ ، كشف الأسرار للنسفي ١ / ١٣٧ ، شرح التلويح على التوضيح لسعد الدين مسعود بن عمر التفتازاني ١ / ٢١٣ ، نسمات الأسحار لابن عابدين ص / ٦٠ ، ميزان الأصول للسمرقندي ١ / ٣٠٤ ، البرهان في أصول الفقه ١ / ١٠٧ ، أصول الفقه لمحمد أبو النور زهير ١ / ١٨٤.

(٢) في أ : يراد به.

(٣) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٥٦ ، والبحر المحيط ٣ / ٢٦٣ ، والدر المصون ٢ / ٣٦٦.

(٤) في أ : لفروا.

٣٨٨

لها حينئذ ، وقد تقدّم تحقيق ذلك في (يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ) البقرة : ٩٦].

قال أبو البقاء (١) : (وَعَصَوُا الرَّسُولَ) في موضع الحال ، و «قد» مرادة ، وهي معترضة بين «يود» وبين مفعولها ، وهي (لَوْ تُسَوَّى) و «لو» بمعنى أن المصدريّة انتهى.

وفي جعل الجملة الحاليّة معترضة بين المفعول وعامله نظر لا يخفى ؛ لأنها من جملة متعلّقات العامل الذي هو صلة للموصول ؛ وهذا نظير قولك : ضرب الذين جاءوا مسرعين زيدا ، فكما لا يقال : إن مسرعين معترض به ، فكذلك هذه الجملة.

وقرأ أبو عمرو وابن كثير وعاصم (٢) : تسوّى [بضم التّاء ، وتخفيف السّين مبنيا للمفعول ، وقرأ حمزة (٣) والكسائي : «تسوّى»](٤) بفتح التّاء والتّخفيف ، ونافع وابن عامر : بالتّثقيل (٥).

فأما القراءة الأولى ، فمعناها : أنّهم يودّون أن الله ـ سبحانه وتعالى ـ يسوّي بهم الأرض : إمّا على أن الأرض تنشقّ وتبتلعهم (٦) ، وتكون الباء بمعنى «على» ، وإما على أنّهم يودّون أن لو صاروا ترابا كالبهائم ، والأصل يودّون أن الله ـ تعالى ـ يسوّي بهم (٧) الأرض ، فقلبت إلى هذا ؛ كقولهم : أدخلت القلنسوة في رأسي ، وإمّا على أنّهم يودّون لو يدفنون فيها ، وهو كالقول الأوّل. وقيل : لو تعدل بهم الأرض ، أي : يؤخذ ما عليها منهم فدية.

وأما القراءة الثانية : فأصلها «تتسوى» [بتاءين](٨) ، فحذفت إحداهما ، وأدغمت في السّين لقربها منها.

وفي الثّالثة حذفت إحداهما ، ومعنى القراءتين ظاهر ممّا تقدّم ؛ فإن الأقوال الجارية في القراءة الأولى ، جارية في القراءتين الأخيرتين غاية (٩) ما في الباب أنه نسب (١٠) الفعل إلى الأرض ظاهرا.

قوله : (وَلا يَكْتُمُونَ اللهَ) فيه ستة أوجه (١١) : وذلك أن هذه الواو تحتمل أن تكون للعطف ، وأن تكون للحال.

__________________

(١) ينظر : الإملاء ١ / ١٨١.

(٢) ينظر : السبعة ٢٣٤ ، والحجة ٣ / ١٦١ ، ١٦٢ ، وحجة القراءات ٢٠٣ ، ٢٠٤ ، وإعراب القراءات ١ / ١٣٤ ، والعنوان ٨٤ ، وشرح شعلة ٣٤٠ ، وشرح الطيبة ٤ / ٢٠٧ ، وإتحاف ١ / ٥١٢.

(٣) ينظر القراءة السابقة.

(٤) سقط في ب.

(٥) في أ : بالنقل.

(٦) في أ : وتبلعهم.

(٧) في أ : يسويهم.

(٨) سقط في ب.

(٩) في أ : عامة.

(١٠) في أ : أن نسبت.

(١١) في ب : فيه سبعة أوجه.

٣٨٩

فإن كانت للعطف ، احتمل أن تكون من عطف (١) المفردات ، [وأن تكون من عطف الجمل ، إذا تقرر هذا] ، فقوله : (وَلا يَكْتُمُونَ اللهَ) يجوز أن يكون عطفا (٢) على مفعول (يَوَدُّ) أي : يودّون تسوية الأرض بهم ، وانتفاء كتمان الحديث ، و «لو» على هذا مصدريّة ، ويبعد جعلها حرفا لما كان سيقع لوقوع غيره ، ويكون و (لا يَكْتُمُونَ) عطفا على مفعول «يود» المحذوف ، فهذان وجهان (٣) على تقدير كونه من عطف المفردات.

ويجوز أن يكون عطفا على جملة «يود» أخبر ـ تعالى ـ عنهم بخبرين :

أحدهما : الودادة لكذا.

والثاني : أنهم (٤) لا يقدرون على الكتم في مواطن دون [مواطن](٥) ، و «لو» على هذا مصدريّة ، ويجوز أن تكون [لو](٦) حرفا لما كان سيقع لوقوع غيره ، وجوابها محذوف ، ومفعول «يود» أيضا محذوف ، ويكون (وَلا يَكْتُمُونَ) عطفا على «يود» وما في حيزها ، ويكون ـ تعالى ـ قد أخبر عنهم بثلاث (٧) [جمل](٨) : الودادة ، وجملة الشرط ب «لو» ، وانتفاء الكتمان ، فهذان أيضا وجهان على تقدير كونه من عطف الجمل ، وإن كانت للحال ، جاز أن تكون حالا من الضمير في «بهم» ، والعامل فيها «تسوى» ، ويجوز في «لو» حينئذ أن تكون (٩) مصدريّة ، وأن تكون امتناعيّة ، والتقدير : يريدون تسوية الأرض بهم غير كاتمين ، أو لو تسوّى بهم غير كاتمين لكان ذلك بغيتهم (١٠) ، ويجوز أن تكون حالا من (الَّذِينَ كَفَرُوا) ، والعامل فيها «يود» ويكون الحال قيدا (١١) في الودادة ، و «لو» على هذا مصدريّة في [محل](١٢) مفعول الودادة ، والمعنى [يومئذ](١٣) يودّ الذين كفروا تسوية الأرض بهم غير كاتمين الله حديثا ، ويبعد أن تكون «لو» على هذا الوجه امتناعيّة ، للزوم الفصل بين الحال وعاملها بالجملة ، و «يكتمون» يتعدى لاثنين ، والظّاهر أنه يصل إلى أحدهما بالحرف ، والأصل : ولا يكتمون من الله حديثا.

فصل

قال عطاء (١٤) : ودّوا لو تسوّى بهم الأرض ، وأنهم لم يكونوا كتموا أمر محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا نعته ، وقال آخرون : بل هو كلام مستأنف ، يعني : ولا يكتمون الله حديثا ؛ لأن جوارحهم تشهد عليهم.

__________________

(١) في ب : وضع.

(٢) في ب : معطوفا.

(٣) في ب : الوجهان.

(٤) في أ : لأنهم.

(٥) سقط في أ.

(٦) سقط في أ.

(٧) في ب : بثلاثة.

(٨) سقط في ب.

(٩) في أ : يكون.

(١٠) في أ : لكان بغيتهم.

(١١) في أ : فيه.

(١٢) سقط في أ.

(١٣) سقط في أ.

(١٤) ينظر معالم التنزيه ١ / ٤٣٠.

٣٩٠

قال سعيد بن جبير : قال رجل لابن عبّاس : إني أجد في القرآن أشياء تختلف عليّ ، قال : هات ما اختلف عليك ، قال : قال تعالى : (فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ) [المؤمنون : ١٠١](وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ) [الصافات : ٢٧] وقال : (وَلا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثاً ،) و (قالُوا وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) [الأنعام : ٢٣] فقد كتموا ، وقال : (أَمِ السَّماءُ بَناها) إلى قوله : (وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها)(١) [النازعات : ٣٠] ، فذكر خلق السّماء قبل خلق الأرض ، ثم قال (أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ) [فصلت : ٩] إلى «طائعين». فذكر في هذه الآية خلق الأرض قبل خلق السّماء ، وقال : («وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) و (عَزِيزاً حَكِيماً) ، فكأنه (٢) كان ثم مضى.

فقال ابن عباس : فلا أنساب بينهم في النّفخة الأولى ، وقال ـ تعالى ـ : (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ) (٣) فلا أنساب عند ذلك ولا يتساءلون ، ثم في النّفخة الأخيرة أقبل بعضهم على بعض يتساءلون.

وأما في قوله : ما كنا مشركين و (لا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثاً) فإن الله يغفر لأهل الإخلاص ذنوبهم فيقول (٤) المشركون : تعالوا نقل : ما كنا مشركين ، فيختم (٥) على أفواههم ، وتنطق أيديهم وأرجلهم ، فعند ذلك عرفوا أنّ الله لا يكتم حديثا ، وعنده (يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ).

وخلق الله الأرض في يومين ثم خلق السّماء ، ثم استوى إلى السّماء فسوّاهن في يومين آخرين ، ثم دحى الأرض ، ودحيها أن أخرج منها الماء والمرعى ، وخلق الجبال والآكام ، وما بينهما في يومين آخرين ؛ فقال «خلق الأرض في يومين [ثم دحى الأرض في يومين ؛ فخلقت الأرض وما فيها من شيء في أربعة أيام ، وخلقت السّماوات في يومين](٦)(وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) أي : لم يزل كذلك ، فلا يختلف عليك القرآن ؛ فإن كلّا من عند الله (٧).

وقال الحسن : إنها مواطن : ففي موطن لا يتكلّمون ، ولا تسمع إلا همسا ، وفي موطن [يعترفون على أنفسهم فهو قوله : (فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ)](٨) [الملك : ١١] ، [وفي موطن يتكلّمون ويكذبون ، ويقولون : (وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) [الأنعام : ٢٣] ، و (ما كُنَّا

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) في ب : فكما.

(٣) سقط في أ.

(٤) في أ : فقال.

(٥) في أ : فختم.

(٦) سقط في أ.

(٧) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٨ / ٣٧٣ ـ ٣٧٤) والحاكم (٢ / ٢٧٧) وصححه.

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٢٩٢) وزاد نسبته لعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه والبيهقي في الأسماء والصفات.

(٨) سقط في أ.

٣٩١

نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ)(١) [النحل : ٢٨] ، وفي مواطن لا يتساءلون الرّجعة ، [وفي موطن يتساءلون الرجعة](٢) وآخر تلك المواطن ، أن يختم على أفواههم ، وتتكلّم جوارحهم ، وهو قوله : (وَلا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثاً).

وقال آخرون : [قولهم](٣) : (وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) أي : على حسب ما توهّمنا في أنفسنا ، بل كنّا مصيبين في ظنوننا حتى تحقّقنا الآن.

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلاَّ عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً) (٤٣)

](٤) وجه اتّصال هذه الآية بما قبلها : أنه ـ تعالى ـ لما قال : (وَاعْبُدُوا اللهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً) ذكر بعد الإيمان الصّلاة التي هي رأس العبادات ، ولذلك يقتل تاركها ، ولا يسقط فرضها (٥).

قال ابن عباس : نزلت في جماعة من أكابر الصّحابة ، قبل تحريم الخمر ، كانوا يشربونها ثم يأتون المسجد للصّلاة مع النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنهوا لهذه الآية (٦).

وقال جماعة من المفسّرين (٧) : إن عبد الرّحمن بن عوف صنع طعاما وشرابا ـ حين كانت الخمر مباحة ـ ودعا من أكابر الصّحابة ، فأكلوا وشربوا ، فلما ثملوا (٨) ، جاء وقت صلاة المغرب ، فقدموا أحدهم ليصلّي بهم ، فقرأ : «قل يا أيها الكافرون أعبد ما تعبدون» ، وحذف (٩) «لا» هكذا ، إلى أخر السّورة ، فأنزل الله ـ تعالى ـ هذه الآية ، فكانوا يجتنبون السّكر أوقات الصّلوات ، فإذا صلّوا العشاء ، [شربوها](١٠) ، فلا يصبحون إلا وقد ذهب عنهم السّكر ، حتى نزل تحريم الخمر على الإطلاق في سورة المائدة.

وعن عمر [بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ](١١) ؛ أنه لما بلغه ذلك قال : «اللهم إنّ الخمر تضر بالعقول والأموال ، فأنزل فيها أمرك» قال : فصبّحهم الوحي بآية المائدة.

قوله : (لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ) فيه وجهان :

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) سقط في أ.

(٣) سقط في ب.

(٤) سقط في ب.

(٥) في أ : في حقها.

(٦) ينظر : تفسير الرازي ١٠ / ٨٧ وقد تقدم.

(٧) ينظر : معالم التنزيل ١ / ٤٣١ والقرطبي ٥ / ١٣١ والرازي ١٠ / ٨٧.

(٨) في أ : تخلو.

(٩) في أ : يحذف.

(١٠) سقط في ب.

(١١) سقط في أ.

٣٩٢

أحدهما : أن في الكلام حذف مضاف ، تقديره : مواضع الصّلاة والمراد بمواضعها المساجد ، ويؤيّده قوله بعد ذلك : (إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ) في أحد التّأويلين.

والثاني : أنه لا حذف ، والنّهي عن قربان نفس الصّلاة في هذه الحالة.

فصل

قال بعضهم : إن هذا يكون من باب إطلاق اسم الحال على المحلّ ، وعلى (١) الأوّل : لمنع السّكران [والجنب](٢) من المسجد إلا عابري سبيل ، فيجوز للجنب العبور (٣) في المسجد.

وعلى الثاني : أنه نهي للجنب (٤) عن الصّلاة ، إلا إذا كان عابر سبيل وهو المسافر عند العجز عن الماء.

ورجح أصحاب الشّافعي الأول ؛ بأن القرب والبعد حقيقة في المسجد ، مجاز في الصّلاة ، والحقيقة أولى من المجاز ؛ لأن الاستثناء يصحّ عليه ، ولا يصحّ على الثّاني ؛ لأن غير العابري (٥) سبيل والعاجز عن الماء (٦) كالمريض يجوز له الصّلاة بالتّيمّم ، ولأن الجنب المسافر لا يجوز له قربان الصّلاة إذا كان واجدا للماء ، وإذا لم يكن واجدا للماء لم يجز له الصّلاة إلا بشرط التّيمّم ، فيحتاج إلى إضمارها ، وعلى الأوّل لا يحتاج إلى إضمار ، ولأنه ـ تعالى ـ ذكر حكم السّفر وعدم الماء ، والتّيمّم عقيبها ، وقد استحب القرّاء الوقوف عند قوله ـ تعالى ـ : (حَتَّى تَغْتَسِلُوا) ثم يستأنف (وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى) لأنه حكم آخر.

ورجّح الثّاني : بأن قوله : (حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ) يناسب نفس الصّلاة ، لأن المسجد ليس فيه قول مشروع يمنع الشكر ، وأيضا سبب النّزول يرجّحه.

قوله : (وَأَنْتُمْ سُكارى) مبتدأ وخبر في محلّ نصب على الحال من فاعل «تقربوا» ، وقرأ الجمهور «سكارى» بضم السّين وألف بعد الكاف ، وفيه قولان :

أصحهما : أنه جمع تكسير نصّ عليه سيبويه (٧) : قال : وقد يكسّرون بعض هذا على «فعالى» ؛ وذلك كقول بعضهم (٨) سكارى وعجالى.

والثاني (٩) : أنه اسم جمع ، وزعم ابن الباذش أنه مذهب سيبويه ؛ قال : وهو القياس ؛ لأنه لم يأت من أبنية الجمع شيء على هذا الوزن ، وذكر السّيرافي الخلاف ، ورجّح كونه تكسيرا.

__________________

(١) في أ : فعلى.

(٢) سقط في أ.

(٣) في أ : الطهر.

(٤) في ب : الجنب.

(٥) في أ : عابري.

(٦) في أ : إذا كان عجز عن الماء.

(٧) ينظر : الكتاب ٢ / ٢١٢.

(٨) في أ : بعض.

(٩) في أ : والثالث.

٣٩٣

وقرأ الأعمش (١) «سكرى» بضم السّين وسكون الكاف ، وتوجيهها أنّها صفة على «فعلى» ؛ كحبلى ، وقعت صفة لجماعة ، أي : وأنتم جماعة سكرى ، وحكى جناح بن حبيش كسلى وكسلى ، بضم الكاف وفتحها ؛ قاله الزمخشري (٢).

وقرأ النّخعي (٣) «سكرى» بفتح السّين وسكون (٤) الكاف ، وهذه تحتمل وجهين :

أحدهما : ما تقدّم في القراءة قبلها ، وهو أنّها صفة مفردة على «فعلى» ؛ كامرأة سكرى ، وصف بها الجماعة.

والثّاني : أنّها جمع تكسير ؛ كجرحى ، وموتى ، وهلكى ، وإنما جمع سكران على «فعلى» حملا على هذه ؛ لما فيه من الآفة اللّاحقة للفعل ، وقد تقدّم شيء من هذا في قوله : (وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى) [البقرة : ٨٥].

وقرىء (٥) «سكارى» بفتح السين والألف ، وهذا جمع تكسير ، نحو : ندمان وندامى ، وعطشان ، وعطاشى ، والسّكر : لغة السّدّ (٦) ، ومنه قيل لما يعرض للمرء من شرب المسكر ، لأنّه يسد ما بين المرء وعقله ، وأكثر ما يقال السّكر لإزالة العقل [بالمسكر](٧) وهو المراد بالآية في قول عامّة المفسّرين ، وقد يقال ذلك لإزالته بغضب ونحوه ، من عشق وغيره قال : [الكامل]

٨٠٠ ـ سكران سكر هوى وسكر مدامة

أنّى يفيق فتى به سكران (٨)

و «السكر» بالفتح وسكون الكاف : حبس الماء ، وبكسر السّين : نفس الموضع المسدود ، وأما «السّكر» بفتحهما فما يسكر به من المشروب ، ومنه : (سَكَراً)(٩)(وَرِزْقاً حَسَناً) [النحل : ٦٧] وقيل السّكر : بضم السين وسكون الكاف [السّدّ](١٠) أي : الحاجز بين الشّيئين ، قال : [الهزج]

١٨٠١ ـ فما زلنا على السّكر

نداوي السّكر بالسّكر (١١)

والحاصل : أنّ أصل المادة الدّلالة على الانسداد (١٢) ، ومنه : سكرت عين البازي ، إذا خالطها نوم ، وسكر النّهر ؛ إذا لم يجر ، وسكرته (١٣) أنا ، وقال ـ تعالى ـ : (إِنَّما

__________________

(١) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٥٦ ، والبحر المحيط ٣ / ٢٦٦ ، والدر المصون ٢ / ٣٦٨ ، والتخريجات النحوية ١٣٠ ، ٢٠٨.

(٢) ينظر : الكشاف ١ / ٥١٤.

(٣) ينظر : السابق.

(٤) في أ : وستكون.

(٥) ينظر : القراءة السابقة.

(٦) في أ : السكر.

(٧) سقط في أ.

(٨) ينظر البيت في مفردات الراغب (٢٤٢) والدر المصون ٢ / ٣٦٨.

(٩) في أ : سكر.

(١٠) سقط في أ.

(١١) ينظر البيت في البحر المحيط ٣ / ٢٦١ ، والدر المصون ٢ / ٣٦٩.

(١٢) في ب : الإفكار.

(١٣) في أ : وسكونه.

٣٩٤

سُكِّرَتْ أَبْصارُنا) [الحجر : ١٥] ، أي : غشيت ، والسّكر من الشراب ، هو أن ينقطع عما عليه من النّفاذ حال الصّحو ، فلا ينفذ رأيه كنفاذه حال الصّحو ، وقال الضحّاك : أراد به سكر النّوم (١) نهى عن الصّلاة عند غلبة النّوم ، قال ـ عليه الصلاة والسلام ـ : «إذا نعس أحدكم وهو يصلّي ، فليرقد حتّى يذهب عنه النّوم ؛ فإنّ أحدكم إذا صلّى وهو ينعس ، لعله (٢) يذهب يستغفر فيسب نفسه»(٣).

والصحيح الأوّل ؛ لأن السكر حقيقة هو من شرب الخمر ، فأمّا السّكر (٤) من الغضب أو العشق أو النّوم فمجاز ، إنما استعمل مقيّدا ؛ قال ـ تعالى ـ : (وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ) [ق : ٩] ، (وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى) [الحج : ٢] قال الفرزدق : [الطويل]

١٨٠٢ ـ من السّير والإسآد حتّى كأنّما

سقاه الكرى في منزلة خمرا (٥)

ولأن عند النّوم تمتلىء (٦) مجاري الرّوح من الأبخرة الغليظة ، فلا ينفذ الروح للباصر.

قوله ـ تعالى ـ : (حَتَّى تَعْلَمُوا) «حتى» جارّة بمعنى إلى ، فهي متعلّقة بفعل النّهي ، والفعل بعدها منصوب بإضمار «أن» وتقدّم تحقيقه ، وقال بعضهم : إن حتّى هنا (٧) بمعنى [«كي»](٨) فهي «تعليليّة» (٩) ، والمعنى : كي تعلموا ما تقولون.

و «ما» يجوز فيها ثلاثة أوجه : أن تكون بمعنى الّذي ، أو نكرة موصوفة ، والعائد على هذين القولين محذوف ، أي : يقولونه ، أو مصدرية ، فلا حذف إلا على رأي ابن السّرّاج ومن تبعه.

فصل قول البعض بنسخ الآية

قال بعضهم : هذه الآية منسوخة بآية المائدة.

قال ابن الخطيب (١٠) : والّذي يمكن النّسخ فيه ، أنّه ـ تعالى ـ نهى عن قربان الصّلاة حال السّكر ممدودا إلى غاية أن يصير بحيث يعلم ما يقول ، والحكم الممدود إلى غاية ، يقتضي انتهاء (١١) ذلك الحكم عند تلك الغاية ، وهذا يقتضي جواز قربان الصّلاة مع

__________________

(١) في أ : القوم.

(٢) في أ : لعل.

(٣) أخرجه مالك في «الموطأ» (١ / ١١٨) كتاب صلاة الليل باب ما جاء في صلاة الليل (٣) والبخاري (١ / ٣١٥) كتاب الوضوء : باب الوضوء من النوم (٢١٢) ومسلم (١ / ٤٥٢ ـ ٥٤٣) كتاب صلاة المسافرين : باب أمر من نعس في صلاته ... (٢٢٢ / ٧٨٦) من حديث عائشة رضي الله عنها.

(٤) في ب : فالسكر.

(٥) ينظر : الرازي ١٠ / ٨٨.

(٦) في ب : تستملىء.

(٧) في أ : هذا.

(٨) سقط في أ.

(٩) بياض في ب.

(١٠) ينظر : تفسير الرازي ١٠ / ٨٩.

(١١) في أ : يقتضي منها.

٣٩٥

السّكر الذي يعلم منه ما يقول ، ومعلوم أنّ الله ـ تعالى ـ لما حرّم الخمر بآية المائدة ، فقد رفع هذا الجواز ، فثبت أن آية المائدة ناسخة لبعض مدلولات هذه الآية.

والجواب : أن هذا نهي عن قربان الصّلاة حال السّكر ، وتخصيص الشيء بالذّكر لا يدلّ على نفي الحكم عما عداه ، إلا على سبيل الظّنّ الضّعيف ، ومثل هذا لا يكون نسخا.

فصل : التكليف بما لا يطاق

قال بعضهم : هذه الآية تدلّ على جواز التّكليف بما لا يطاق (١) ؛ لأنه ـ تعالى ـ قال : (لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى) ، وهذه جملة حاليّة ، فكأنه ـ تعالى ـ قال للسّكران : لا تصلّ وأنت سكران ، وهذا خطاب للسكران (٢).

والجواب عنه : بأن هذا ليس خطابا للسّكران ، بل هو خطاب للّذين آمنوا ؛ فكأنه قال : يأيّها الذين آمنوا لا تسكروا ، فقد نهى عن السّكر (٣) ؛ ونظيره قوله ـ تعالى ـ : (وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران : ١٠٢] وهو ليس (٤) نهيا عن الموت ، وإنما هو أمر بالمداومة على الإسلام ، حتى يأتيه الموت وهو في تلك الحال.

قوله : (وَلا جُنُباً)(٥) نصب على أنه معطوف على الحال قبله ، وهو قوله : (وَأَنْتُمْ سُكارى) عطف المفرد على الجملة لمّا كانت في تأويله ، وأعاد معها «لا» تنبيها على أنّ النّهي عن قربان الصّلاة مع كل واحد من هذين الحالين على انفرادهما ، فالنّهي عنها مع

__________________

(١) اختلف قول أبي الحسن الأشعري في جواز التكليف بما لا يطاق نفيا وإثباتا ، وذلك كالجمع بين الضدّين ، وقلب الأجناس ، وإيجاد القديم وإعدامه ونحوه وميله في أكثر أقواله إلى الجواز ، وهو لازم على أصله في اعتقاد وجوب مقارنة القدرة الحادثة للمقدور بها ، مع تقدّم التكليف بالفعل على الفعل ، وأن القدرة الحادثة غير مؤثرة في مقدروها ، بل مقدورها مخلوق لله تعالى.

ولا يخفى أن التكليف بفعل الغير حالة عدم القدرة عليه تكليف بما لا يطاق.

وهذا هو مذهب أكثر أصحابه وبعض معتزلة بغداد ؛ حيث قالوا بجواز تكليف العبد بفعل في وقت علم الله تعالى أنه يكون ممنوعا عنه ، والبكرية ؛ حيث زعموا أنّ الختم والطبع على الأفئدة مانعان من الإيمان مع التكليف به ، غير أن من قال بجواز ذلك من أصحابه اختلفوا في وقوعه نفيا وإثباتا ، ووافقه على القول بالنفي بعض الأصحاب ، وهو مذهب البصريين من المعتزلة ، وأكثر البغداديين ، وأجمع الكلّ على جواز التكليف بما علم الله أنه لا يكون عقلا ، وعلى وقوعه شرعا ، كالتكليف بالإيمان لمن علم الله أنه لا يؤمن ؛ كأبي جهل خلافا لبعض الثنوية. والمختار إنما هو امتناع التكليف بالمستحيل لذاته ؛ كالجمع بين الضدّين ونحوه.

وجوازه في المستحيل باعتبار غيره وإليه ميل الغزالي ـ رحمه‌الله ـ.

وانظر تفصيل ذلك في الأحكام للآمدي ١ / ١٢٤ ، تفسير الطبري ١ / ٣٦٣.

(٢) في أ : السكران.

(٣) في ب : المسكر.

(٤) في أ : فليس.

(٥) سقط في ب.

٣٩٦

اجتماع الحالين آكد وأولى ، والجنب مشتقّ (١) من الجنابة وهو البعد ؛ قال : [الطويل]

١٨٠٣ ـ فلا تحرمنّي نائلا عن جنابة

فإنّي امرؤ وسط القباب غريب (٢)

وسمي الرّجل جنبا ؛ لبعده عن الطّهارة ؛ أو لأنّه ضاجع بجنبه ومسّ به ، والمشهور أنه يستعمل بلفظ واحد كالمفرد والمثنّى والمجموع ، والمذكّر والمؤنّث ، ومنه الآية الكريمة.

قال الزمخشري : لجريانه مجرى المصدر (٣) الذي هو الإجناب ، ومن العرب من يثنّيه فيقول جنبان ويجمعه جمع سلامة (٤) فيقول : جنبون (٥) ، وتكسيرا فيقول : أجناب ، ومثله في ذلك شلل ، وقد تقدّم تحقيق ذلك.

قوله : (إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ) فيه وجهان :

أحدهما : أنه منصوب على الحال فهو استثناء مفرّغ ، والعامل فيها فعل النّهي ، والتّقدير : «لا تقربوا الصلاة في حال [الجنابة إلا في حال السفر](٦) أو عبور المسجد (٧) على حسب القولين.

وقال الزّمخشريّ : (إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ) استثناء من عامّة أحوال المخاطبين ، وانتصابه على الحال.

فإن قلت : كيف جمع بين هذه الحال ، والحال التي قبلها.

قلت : كأنه قيل : لا تقربوا الصّلاة في حال الجنابة : إلا ومعكم حال أخرى تعتذرون (٨) فيها : السّفر وعبور السّبيل عبارة عنه.

والثّاني : أنه منصوب على أنه صفة لقوله «جنبا» وصفه ب «إلّا» بمعنى «غير» ، فظهر الإعراب فيما بعدها ، وسيأتي لهذا مزيد بيان عند قوله ـ تعالى ـ : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) [الأنبياء : ٢٢] كأن قيل : «لا تقربوها جنبا غير عابري سبيل» ، أي : جنبا مقيمين غير معذورين ، وهذا (٩) معنى واضح على تفسير العبور بالسّفر ، وهذا قول عليّ وابن عبّاس ، وسعيد بن جبير ، ومجاهد قالوا : معناه إلّا أن تكونوا (١٠) مسافرين ولا تجدون الماء فتيمّموا ؛ منع الجنب من الصّلاة [حتى يغتسل ، إلا أن يكون في سفر ولا يجدها فيصلّي بالتيمم وأمّا من قدّر مواضع الصّلاة](١١) فالمعنى عنده : لا تقربوا المساجد

__________________

(١) في أ : مشتقا.

(٢) تقدم برقم ١٧٩٤.

(٣) في أ : الصدر.

(٤) في أ : سلامته.

(٥) في ب : جنوب.

(٦) سقط في أ.

(٧) في أ : المساجد.

(٨) في أ : تقدرون.

(٩) في ب : وهاهنا.

(١٠) في أ : يكونوا.

(١١) سقط في أ.

٣٩٧

جنبا إلا مجتازين ؛ لكونه لا ممرّ (١) سواه ، وهو قول عبد الله بن مسعود ، وسعيد بن المسيّب ، والحسن ، وعكرمة ، والنّخعي ، والزّهري ، وذلك أن قوما من الأنصار ، كانت أبوابهم في المسجد ، فتصيبهم الجنابة ولا ماء عندهم ، ولا ممرّ لهم إلّا في المسجد ، فرخّص لهم في العبور ، قالوا : والمراد من الصّلاة هنا : موضع الصّلاة ؛ لقوله ـ تعالى ـ : (وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ) [الحج : ٤٠] والمعنى : لا تقربوا المسجد وأنتم جنب ، إلا مجتازين فيه للخروج منه ، مثل أن ينام في المسجد ، فيجنب أو تصيبه جنابة والماء في المسجد ، والعبور الجواز ؛ ومنه : «ناقة عبر الهواجر» قال : [الكامل]

١٨٠٤ ـ عيرانة سبح اليدين شملّة

عبر الهواجر كالهزفّ الخاضب (٢)

وقوله : (حَتَّى تَغْتَسِلُوا) ؛ كقوله : (حَتَّى تَعْلَمُوا) فهي متعلّقة بفعل النّهي.

فصل : حكم عبور المسجد للجنب

اختلفوا في عبور المسجد للجنب ، فأباح الحسن ومالك والشّافعيّ المرور فيه على الإطلاق ، وهو قول أصحاب الرأي ، وقال بعضهم : يتيمّم (٣) للمرور فيه ، وأما المكث فلا يجوز عند أكثر العلماء ؛ لقول النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «وجّهوا [هذه البيوت عن المسجد](٤) فإنّي لا أحلّ المسجد لحائض ولا جنب» (٥) وجوّز أحمد المكث فيه ، وضعّف الحديث ؛ لأن راويه مجهول.

قوله : (وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى) جمع مريض ، وأراد به مرضا يضرّه أساس الماء كالجدري والقروح العظيمة ، أو كان على موضع طهارته جراح (٦) يخاف من استعمال الماء التّلف ، أو زيادة المرض ، فإنه يصلّي بالتّيمّم وإن كان موجودا ، وإن كان بعض أعضاء طهارته صحيحا والبعض جريحا ، غسل الصّحيح ، وتيمّم عن الجريح ؛ لما روى جابر ؛ قال : خرجنا في سفر ، فأصاب رجلا منا حجر ، فشجّه في رأسه فاحتلم ، فسأل أصحابه هل تجدون رخصة في التّيمّم؟ قالوا : ما نجد لك رخصة في التّيمّم ، وأنت تقدر على الماء ، فاغتسل فمات ، فلمّا قدمنا على النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أخبرناه (٧) بذلك ، فقال : قتلوه قتلهم الله ألا سألوا إذ لم يعلموا ، فإنما شفاء العيّ السّؤال ، إنما كان يكفيه أن يتيمم ، ويعصر أو يعصب ـ شك الراوي ـ على جرحه

__________________

(١) في أ : فهو.

(٢) ينظر البيت في القرطبي ٥ / ١٣٤ ، والبحر ٣ / ٢٦٧ والدر المصون ٢ / ٣٧٠.

(٣) في أ : تيمم.

(٤) بياض في ب.

(٥) أخرجه أبو داود (١ / ١٥٧) كتاب الطهارة باب في الجنب يدخل المسجد (٢٣٢) والبخاري في «التاريخ الكبير» (١ / ٢ / ٦٧ ـ ٦٨) من طريق أفلت بن خليفة حدثني جسرة بنت دجاجة قالت سمعت عائشة تقول : جاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ووجوه بيوت أصحابه شارعة في المسجد فقال ... فذكره.

وقال البخاري : وجسرة عندها عجائب.

(٦) في أ : جراح.

(٧) في أ : أخبر.

٣٩٨

خرقة ، ثم يمسح عليها ويغسل سائر جسده. ولم يجوّز أصحاب الرّأي الجمع بين التّيمّم والغسل ، وقالوا : إن كان أكثر أعضائه صحيحا ، غسل الصّحيح وكفاه ، وإن كان الأكثر جريحا ، اقتصر على التّيمّم ، والحديث حجّة عليهم (١).

قوله : (أَوْ عَلى سَفَرٍ) في محلّ نصب (٢) عطفا على خبر كان ، وهو المرضى ؛ وكذلك قوله: (أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ) (أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ) ، وفيه (٣) دليل على مجيء [خبر](٤) كان فعلا ماضيا من غير «قد» ، وادّعاء حذفها تكلّف لا حاجة إليه ؛ كذا استدلّ به أبو حيان ، ولا دليل فيه ؛ لاحتمال أن يكون «أو جاء» عطفا على «كنتم» تقديره : وإن جاء أحد ، وإليه ذهب أبو البقاء (٥) ، وهو أظهر من الأوّل والله أعلم.

فصل

أراد مطلق السّفر طويلا كان أو قصيرا ، إذا عدم الماء فإنه يصلّي بالتّيمّم ، ولا إعادة عليه ؛ لما روي عن أبي ذرّ ؛ قال : قال النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنّ الصّعيد الطّيّب وضوء المسلم ، وإن لم يجد الماء عشر سنين ، فإذا وجد الماء ، فليمسّه بشرته (٦) فإن لم يكن مريضا ولا في سفر ، ولكنه عدم الماء في موضع لا يعدم فيه الماء غالبا : كقرية انقطع ماؤها فقال بعضهم يصلّي بالتّيمّم ، ويعيد إذا قدر على الماء ، وقال آخرون: لا إعادة [عليه](٧) وهو قول الأوزاعي ومالك ، وقال أبو حنيفة : يؤخّر الصّلاة حتى يجد الماء. وقوله : (أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ) أراد به : إذا أحدث ، وقوله : (أَوْ جاءَ أَحَدٌ) يدل على الانتقال من مكان الغائط والانتقال عنه.

و «منكم» في محلّ رفع ؛ لأنه صفة لأحد فيتعلّق بمحذوف ، و (مِنَ الْغائِطِ) متعلّق ب «جاء» فهو مفعوله ، وقرأ الجمهور : «الغائط» بزنة «فاعل» وهو المكان المطمئن من الأرض [وجمعه الغيطان ثم عبّر عن الحدث كناية ؛ للاستحياء من ذكره ، وفرّقت](٨) العرب بين الفعلين منه ، فقالت : غاط في الأرض ، أي : ذهب وأبعد إلى مكان لا يراه فيه إلا من وقف عليه ، وتغوّط : إذا أحدث (٩).

__________________

(١) في أ : عليه.

(٢) في أ : رفع.

(٣) في أ : وفي.

(٤) سقط في أ.

(٥) ينظر : الإملاء ١ / ١٨٢.

(٦) أخرجه أبو داود (١ / ٦٠ ـ ٦١) كتاب الطهارة : باب الجنب يتيمم (٣٣٢ ، ٣٣٣) والترمذي (١ / ٢١١ ـ ٢١٢) أبواب الطهارة : باب ما جاء في التيمم للجنب إذا لم يجد الماء (١٢٤) والنسائي (١ / ١٧٦ ـ ١٧٧) والبيهقي (١ / ٢٢٠) من حديث أبي ذر.

وانظر نصب الراية (١ / ٧٧ ـ ٧٨).

(٧) سقط في أ.

(٨) سقط في أ.

(٩) في أ : حدث.

٣٩٩

وقرأ ابن (١) مسعود : «من الغيط» وفيه قولان :

أحدهما : وإليه ذهب ابن جني (٢) : أنه مخفّف من «فيعل» ؛ كهين ، وميت [في هيّن وميّت](٣).

والثاني : أنه مصدر على وزن «فعل» قالوا : غاط يغيط غيطا ، وغاط يغوط غوطا.

وقال أبو البقاء (٤) : هو مصدر «يغوط» فكان القياس «غوطا» فقلبت الواو ياء ، و [إن](٥) سكّنت وانفتح ما قبلها لخفّتها كأنه لم يطّلع على أنّ فيه لغة أخرى من ذوات الياء حتى ادّعى ذلك.

قوله : (أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ) قرأ الأخوان (٦) هنا ، وفي المائدة : «لمستم» ، والباقون : «لامستم» ، [فقيل](٧) فاعل بمعنى فعل ، وقيل لمس : جامع ، ولامس : لما دون الجماع.

قال ابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة : كنّي باللّمس عن الجماع (٨) ؛ لأن اللّمس يوصل (٩) إلى الجماع ، ولأن اللّمس والمسّ (١٠) وردا في القرآن كناية عن الجماع [في](١١) قوله : (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا) [المجادلة : ٣] ، و (مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَ) [البقرة : ٢٣٧] ولأن الحدث الأصغر مذكور في قوله : (أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ) فلو حمل

__________________

(١) وقرأ بها قتادة والزهري.

ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٥٨ ، والبحر المحيط ٣ / ٢٦٩ ، والدر المصون ٢ / ٣٧٠.

(٢) ينظر : المحتسب ١ / ١٩٠.

(٣) سقط في أ.

(٤) ينظر : الإملاء ١ / ١٨١.

(٥) سقط في ب.

(٦) ينظر : السبعة ٢٣٤ ، والحجة ٣ / ١٦٣ ، وحجة القراءات ٢٠٤ ، ٢٠٥ ، والعنوان ٨٤ ، وإعراب القراءات ١ / ١٣٤ ، وشرح شعلة ٣٤٠ ، وشرح الطيبة ٤ / ٢٠٧ ، وإتحاف ١ / ٥١٣.

(٧) سقط في ب.

(٨) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٨ / ٣٨٩ ، ٣٩٠ ، ٣٩١ ، ٣٩٢) عن ابن عباس وقتادة والحسن ومجاهد.

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٢٩٧) عن ابن عباس وزاد نسبته لسعيد بن منصور وابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم من طرق عنه وأخرجه الطبري (٨ / ٣٩٢) عن علي بن أبي طالب.

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٢٩٧) وزاد نسبته لابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر.

(٩) في أ : يفصل.

(١٠) واللمس والمسّ : إدراك بظاهر البشرة ، وغلب في عبارة الفقهاء اللّمس بين الرجل والمرأة ، والمسّ في الذّكر بباطن الكفّ ؛ كقولهم : الوضوء من اللمس والمسّ ، ومن اللمس بمعنى مسّ البشرة قوله تعالى : فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ. وقد يعبّر به عن الوصول إلى الشيء ، ومنه قوله تعالى : وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ. وفي الحديث : «نهى عن الملامسة» فيه تفسيران : أحدهما أنه كان يقول : إذا لمست ثوبك أو لمست ثوبي فقد وجب البيع. والثاني أن يلمس المتاع من وراء ثوب ولا ينظر إليه ثم يوقع البيع عليه ، وهذا أحد أنواع بياعات الجاهلية ؛ كالمنابذة وبيع الحصاة ونحوها ، نهى الشارع عنها للغرر.

واللّماسة والمماسة : المقاربة.

ينظر : عمدة الحفاظ ٤ / ٤٧ ، النهاية ٤ / ٢٦٩.

(١١) سقط في ب.

٤٠٠