اللّباب في علوم الكتاب - ج ٦

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ٦

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٦٣٢

الرَّضاعَةِ وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وَرَبائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلاَّ ما قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً)(٢٣) (١)

(١) أمهات جمع أمّ والهاء (٢) زائدة في الجمع ، فرقا بين العقلاء وغيرهم ، يقال في العقلاء أمّهات ، وفي غيرهم أمات كقوله :

١٧٧٣ ـ وأمّات أطلاء صغار (٣)

هذا هو المشهور ، وقد يقال : «أمّات» في العقلاء و «أمهات» في غيرهم ، وقد جمع الشّاعر بين الاستعمالين في العقلاء فقال : [المتقارب]

١٧٧٤ ـ إذا الأمّهات قبحن الوجوه

فرجت الظّلام بأمّاتكا (٤)

وقد سمع «أمهة» في «أم» بزيادة هاء بعدها تاء تأنيث ، قال : [الرجز]

١٧٧٥ ـ أمّهتي خندف والياس أبي (٥)

فعلى هذا يجوز أن تكون أمّهات جمع «أمهة» المزيد (٦) فيها الهاء ، والهاء قد أتت زائدة في مواضع قالوا : هبلع ، وهجزع من البلع والجزع.

قوله : (وَبَناتُكُمْ) عطف على (أُمَّهاتُكُمْ) وبنات جمع بنت ، وبنت : تأنيث ابن ، وتقدّم الكلام عليه وعلى (٧) اشتقاقه ووزنه في البقرة في قوله : (يا بَنِي إِسْرائِيلَ) [البقرة : ٤٠] إلا أنّ أبا البقاء (٨) حكى [عن](٩) الفرّاء أنّ «بنات» ليس جمعا ل «بنت» ، يعني : بكسر الباء بل جمع «بنة» يعني : بفتحها قال : وكسرت الباء تنبيها على المحذوف.

قال شهاب الدّين : هذا إنّما يجيء على اعتقاد أنّ لامها ياء ، وقد تقدّم الخلاف في ذلك ، وأنّ الصّحيح أنّها واو ، وحكى عن غيره أن أصلها : «بنوة» وعلى ذلك جاء جمعها ومذكرها ، وهو بنون ، قال : وهو مذهب البصريين.

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) في أ : فإنها.

(٣) ينظر : الدر المصون ٢ / ٣٤٠.

(٤) البيت لمروان بن الحكم ينظر المقتضب ٣ / ١٦٩ وشرح المفصل لابن يعيش ١٠ / ٣ والهمع ١ / ٢٣ والدرر ١ / ٦ وشواهد الشافية ٣٠٨ واللسان (أمم) ورصف المباني ص ٤٠١ وسر صناعة الإعراب ٢ / ٥٦٤ والدر المصون ٣ / ٣٤١.

(٥) البيت لقصي بن كلاب. ينظر المحتسب ٢ / ٢٣٤ والخزانة ٣ / ٣٠٦ وشرح المفصل لابن يعيش ١٠ / ٣ والدرر ١ / ٥ والهمع ١ / ٢٣ والدر المصون ٢ / ٣٤١.

(٦) في ب : ألم تر.

(٧) في ب : قال.

(٨) ينظر : الإملاء ١ / ١٧٤.

(٩) سقط في ب.

٢٨١

قال شهاب الدّين (١) : لا خلاف بين القولين في التّحقيق ؛ لأنّ من قال بنات جمع «بنة» ، بفتح الباء ، لا بدّ وأن يعتقد أنّ أصلها «بنوة» ، حذفت لامها وعوّض عنها تاء التأنيث ، والّذي قال: بنات جمع «بنوة» لفظ بالأصل فلا خلاف.

واعلم أنّ تاء «بنت» و «أخت» تاء تعويض عن اللام المحذوفة ، كما تقدّم تقريره ، وليست للتّأنيث ؛ لوجهين :

أحدهما : أنّ تاء التّأنيث يلزم فتح ما قبلها لفظا أو تقديرا : نحو : تمرة وفتاة ، وهذه ساكن ما قبلها.

والثّاني : أنّ تاء التأنيث تبدل في الوقف هاء ، وهذه لا تبدل ، بل تقرّ على حالها.

قال أبو البقاء (٢) : «فإن قيل : لم ردّ المحذوف في «أخوات» ولم يردّ في «بنات»؟ قيل : [حمل](٣) كلّ واحد من الجمعين على مذكّره ، فمذكر «بنات» لم يردّ إليه المحذوف بل قالوا فيه «بنون» ، ومذكر «أخوات» ردّ فيه محذوفه قالوا في جمع أخ : إخوة وإخوان».

قال شهاب الدّين (٤) : وهذا الذي قاله ليس بشيء ؛ لأنّه أخذ جمع التّكسير وهو إخوة وإخوان مقابلا ل «أخوات» جمع التّصحيح ، فقال (٥) : ردّ في أخوات كما ردّ في إخوة ، وهذا أيضا موجود في بنات ؛ لأنّ مذكّره في التّكسير ردّ إليه المحذوف قالوا : ابن وأبناء ، ولمّا جمعوا أخا جمع السّلامة قالوا فيه «أخون» بالحذف ، فردّوا في تكسير ابن وأخ محذوفهما ، ولم يردّوا في تصحيحهما ، [فبان](٦) فساد ما قال.

فصل

فصل اعلم أنّ الله تعالى نصّ على تحريم أربعة عشر صنفا من النّسوان ، سبعة من جهة النّسب ، وهنّ الأمّهات [والبنات ، والأخوات ، والعمات ، والخالات ، وبنات الأخ وبنات الأخت ، وسبعة من غير النسب ، وهن الأمهات المرضعات](٧) والأخوات من الرّضاعة وأمهات النّساء ، وبنات النّساء المدخول بأمّهاتهنّ ، وأزواج الأبناء ، وأزواج الآباء ، وقد ذكروا في الآية المتقدمة ، والجمع بين الأختين.

فصل

قال الكرخيّ (٨) : هذه الآية مجملة ؛ لأنّه أضيف التّحريم فيها إلى الأمّهات

__________________

(١) ينظر : الدر المصون ٢ / ٣٤١.

(٢) ينظر : الإملاء ١ / ١٧٤.

(٣) سقط في ب.

(٤) ينظر : الدر المصون ٢ / ٣٤١.

(٥) في ب : فقالوا.

(٦) سقط في ب.

(٧) سقط في أ.

(٨) ينظر : تفسير الرازي ١٠ / ٢١.

٢٨٢

والبنات ، والتحريم لا يمكن إضافته إلى الأعيان ، وإنّما يضاف إلى الأفعال ، وذلك الفعل غير مذكور في الآية فليس إضافة هذا التحريم إلى بعض الأفعال التي لا يمكن إيقاعها في ذوات الأمهات والبنات أولى من بعض ، فصارت الآية مجملة على هذا الوجه.

قال ابن الخطيب (١) : والجواب من وجهين :

الأول : أنّ تقديم قوله (وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ) يدل على أنّ المراد من قوله : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ) تحريم (٢) نكاحهن.

الثاني : أنّ من المعلوم بالضّرورة من دين محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنّ المراد منه تحريم نكاحهنّ ، والأصل فيه أن الحرمة والإباحة إذا أضيفتا إلى الأعيان فالمراد تحريم الفعل المطلوب منها في العرف فإذا قيل (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ) فهم كل أحد أنّ المراد تحريم نكاحهن ، ولما قال عليه‌السلام «لا يحل دم امرىء مسلم إلّا بإحدى ثلاث» (٣) فهم كل أحد أنّ المراد لا يحلّ إراقة دمه وإذا كان ذلك معلوما بالضّرورة ، كان إلقاء الشّبهات فيها جاريا مجرى القدح في البديهيّات وشبه السّفسطائيّة.

بلى عندي فيه بحث من وجوه أخرى (٤) :

أحدها : أن قوله : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ) مذكور على ما لم يسمّ فاعله ، فليس فيه تصريح بأنّ فاعل هذا التحريم هو الله تعالى ، وما لم يثبت ذلك لم تفد الآية شيئا آخر ، ولا سبيل إليه إلا بإجماع ، فهذه الآية وحدها لا تفيد شيئا ، بل لا بد معها من الإجماع على هذه المقدمة.

وثانيها : أنّ قوله تعالى (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ) [ليس](٥) نصا في ثبوت التحريم على سبيل التأبيد فإنّ القدر المذكور في الآية يمكن تقسيمه إلى المؤقّت ، فإنّه يقال تارة (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ) مؤقتا (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ) (٦) مؤبدا ، وإذا كان ذلك صالحا للتّقسيم لم يكن نصا في التّأبيد فإذن لا يستفاد التأبيد إلّا من دليل منفصل.

وثالثها : أنّ قوله : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ) إخبار عن ثبوت هذا التحريم في الماضي ، وظاهر اللفظ غير متناول للحاضر والمستقبل ، فلا يعرف ذلك إلّا بدليل منفصل.

ورابعها : أنّ هذه ظاهر قوله (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ) (٧) يقتضي أنّه قد حرّم على

__________________

(١) ينظر : تفسير الرازي ١٠ / ٢١.

(٢) في ب : المراد تحريم.

(٣) أخرجه البخاري (١٢ / ٢٠٩) كتاب الديات : باب قول الله تعالى : أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ حديث (٦٨٧٨) ومسلم (٣ / ١٣٠٢) كتاب القسامة : باب ما يباح به دم المسلم.

(٤) في ب : آخر.

(٥) سقط في أ.

(٦) سقط في ب.

(٧) سقط في ب.

٢٨٣

كلّ أحد جميع أمّهاتهم ، وجميع بناتهم ، ومعلوم أنّه ليس كذلك ، بل المقصود أنه تعالى قابل الجمع بالجمع ، فيقتضي مقابلة الفرد بالفرد ، فهذا يقتضي أن الله تعالى قدّ حرّم على كلّ أحد أمّه خاصة ، وأخته (١) خاصة ، وهذا فيه نوع عدول عن الظاهر.

خامسها : أنّ قوله : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ) يشعر ظاهره بسبق الحل ، إذ لو كان أبدا موصوفا بالحرمة ، لكان قوله (حُرِّمَتْ) تحريما لما هو في نفسه حرام ، فيكون ذلك إيجاد الموجود ، وهو محال ؛ فثبت أنّ المراد من قوله : (حُرِّمَتْ) ليس تجديد التحريم ، حتى يلزم الإشكال ، بل المراد الإخبار عن حصول التحريم فثبت بهذه الوجوه أن ظاهر الآية وحده غير كاف في ثبوت المطلوب.

فصل [حرمة الأمهات ثابتة من زمن آدم]

حرمة الأمهات والبنات كانت ثابتة من زمن آدم ـ عليه‌السلام ـ إلى زماننا ولم يثبت حل نكاحهن في شيء من الأديان الإلهيّة إلا ما نقل عن زرادشت رسول المجوس أنّه قال بحله ، وأكثر المسلمين اتفقوا على أنّه كان كذابا ، وأما نكاح الأخوات فقد نقل : أنّه كان مباحا في زمن آدم عليه‌السلام ، وإنّما أباحه الله للضرورة ، وأنكر بعضهم ذلك ، وقال : إنّه تعالى كان يبعث الجواري من الجنّة ليتزوّج بهنّ أبناء آدم عليه‌السلام ، ويبعث أيضا لبنات آدم من يتزوج بهن من الحور ، وهذا بعيد ؛ لأنّه إذا كان زوجات أبنائه وأزواج بناته من الجنة فحينئذ لا يكون هذا النسل من أولاد آدم فقط ، وذلك باطل بالإجماع.

فصل [سبب التحريم]

ذكر العلماء أنّ سبب التحريم منه أنّ الوطء إذلال وإهانة ، فإنّ الإنسان يستحي من ذكره ، ولا يقدم عليه إلّا في الموضع الخالي ، وأكثر أنواع الشتم لا يكون إلا بذكره ، وإذا كان الأمر كذلك ؛ وجب صون الأمّهات [عنه ؛ لأنّ إنعام الأم](٢) على الولد أعظم وجوه الإنعام ؛ فوجب صونها عن هذا الإذلال ، والبنت بمنزلة جزء من الإنسان وبعض منه ، قال عليه‌السلام : «فاطمة بضعة منّي» فيجب صونها عن هذا الإذلال ، وكذا القول في البقية.

فصل

كلّ امرأة يرجع نسبك إليها بالولادة من جهة أبيك أو من جهة أمّك بدرجة أو درجات سواء رجعت إليها بذكور ، أو بإناث فهي أمّك ، ثمّ هنا بحث ، وهو أنّ لفظ الأم إن كان حقيقة في الأم الأصلية وفي الجدات ، فإمّا أن يكون لفظ الأمّ متواطئا أو مشتركا فإن كان متواطئا أعني أن يكون موضوعا بإزاء قدر مشترك بين الأمّ الأصليّة ، وبين سائر

__________________

(١) في ب : وبنته.

(٢) سقط في أ.

٢٨٤

الجدّات ، فتكون الآية نصا في تحريم الأمّ الأصليّة وفي الجدّات ، وأمّا إن كان لفظ «الأمّ» مشتركا في الأم الأصليّة وفي الجدّات فهذا تفريع على أنّ اللّفظ المشترك بين أمرين هل يجوز استعماله فيهما معا أم لا؟ فمن جوّزه حمل اللّفظ هنا على الكلّ ، [وحينئذ يكون تحريم الجدات منصوصا عليه ، ومنهم](١) من لم يجوزه ، والقائلون بذلك لهم طريقان في هذا الوضع :

أحدهما : أنّ لفظ الأمّ إن أريد به ههنا الأم الأصليّة فتحريم نكاحها هنا مستفاد بالنصّ ، وأمّا تحريم نكاح الجدّات فمستفاد من الإجماع (٢).

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) هو لغة يطلق بمعنيين : أحدهما : العزم على الشيء والإمضاء ، ومنه قوله تعالى : فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ [سورة يونس : ٧١] أي : اعزموا ، وقوله عليه‌السلام : لا صيام لمن لم يجمع الصيام من الليل ، ونقض ابن العارض المعتزلي هذا بأن إجماع الأمة يتعدى ب (على) ، والإجماع بمعنى العزيمة وقطع الرؤية لا يتعدى ب (على).

وحكى ابن فارس في «المقاييس» أجمعت على الأمر ، إجماعا وأجمعته ، نعم ، تعديته بنفسه أفصح.

والثاني : الاتفاق ، ومنه أجمع القوم : إذا صاروا ذوي جمع. قال الفارسي : كما يقال : ألبن وأتمر ، إذا صار ذا لبن وتمر.

وحكى عبد الوهاب في «الملخص» عن قوم : منع كونه بمعنى الإجماع كما ظنه ظانون لتغايرهما ؛ إذ يصح من الواحد أن يقول : أجمعت رأيي على كذا ، أي عزمت عليه ، ولا يصح الإجماع إلا من اثنين ، والصحيح هو الأول. ثم قال الغزالي : هو مشترك بينهما. وقال القاضي : العزم يرجع إلى الاتفاق ؛ لأن من اتفق على شيء فقد عزم عليه. وقال ابن برهان وابن السّمعاني : الأول أشبه باللغة ، والثاني أشبه بالشرع. قالا : وتظهر فائدتهما في أن الإجماع من الواحد هل يصح؟ فعلى المعنى الأول ـ لا يصح إلا من جماعة ، وعلى المعنى الثاني ـ يصح الإجماع من الواحد.

وأما في الاصطلاح : فهو اتفاق مجتهدي أمة محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بعد وفاته في حادثة على أمر من الأمور في عصر من الأعصار.

فخرج اتفاق العوام ، فلا عبرة بوفاقهم ولا خلافهم ، ويخرج أيضا ، اتفاق بعض المجتهدين. وبالإضافة إلى «أمة محمد» خرج اتفاق الأمم السابقة. وإن قيل : بأنه حجة على رأي ، لكن الكلام في الإجماع الذي هو حجة.

وقولنا : «بعد وفاته» قيد لا بد منه على رأيهم ، فإن الإجماع لا ينعقد في زمانه ـ عليه‌السلام ـ كما سنذكره.

وخرج بالحادثة انقعاد الإجماع على الحكم الثابت بالنص والعمل به ، وقولنا : «على أمر من الأمور» يتناول الشرعيات والعقليات والعرفيات واللغويات.

وقولنا : «في عصر من الأعصار» ، ليرفع وهم من يتوهم أن المراد بالمجتهدين من يوجد إلى يوم القيامة. وهذا التوهم باطل : فإنه يؤدي إلى عدم تصور الإجماع ، والمراد بالعصر هنا : من كان من أهل الاجتهاد في الوقت الذي حدثت فيه المسألة ، وظهر الكلام فيها ـ فهو من أهل ذلك العصر ، ومن بلغ هذا بعد حدوثها فليس من أهل ذلك العصر.

هكذا ذكره الإمام أبو محمد القاسم الزجاج في كتابه : «البيان عن أصول الفقه».

ينظر : البرهان لإمام الحرمين ١ / ٦٧٠ ، البحر المحيط للزركشي ٤ / ٤٣٥ ، الإحكام في أصول الأحكام ـ

٢٨٥

الثاني : أنّه تعالى تكلم بهذه الآية مرّتين ، يريد في كلّ مرّة مفهوما آخر.

وإن كان لفظ «الأمّ» حقيقة في الأمّ الأصليّة ، مجازا في الجدّات ، فقد ثبت أنّه لا يجوز استعمال اللّفظ الواحد دفعة واحدة في حقيقته ومجازه معا ، وحينئذ يرجع الطريقان المذكوران [للأول](١) ، وكلّ أنثى (٢) رجع نسبها إليك بالولادة بدرجة أو بدرجات ، بإناث ، أو بذكور ، فهي بنتك ، وهل بنت الابن وبنت البنت تسمّى هنا حقيقة أو مجازا؟

فيه البحث كما في الأمّ.

فصل هل زواج الرجل بأمه يوجب الحد

قال الشّافعيّ : إذا تزوّج الرّجل بأمّه ودخل بها ، لزمه الحدّ.

وقال أبو حنيفة : لا يلزم ، حجة الشّافعيّ أنّ وجود هذا النكاح وعدمه سواء ، فكان هذا الوطء زنا ، فيلزمه الحدّ ، وإنّما قلنا : إنّ وجوده وعدمه سواء ؛ لأنّه تعالى قال (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ) وقد علم من دين محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنّ المراد من هذه الآية تحريم نكاحها ، وإذا ثبت ذلك فنقول : الموجود ليس إلا صيغة الإيجاب والقبول ، فلو حصل هذا الانعقاد ، لكان هذا الانعقاد إمّا أن يقال : إنّه حصل في الحقيقة أو في حكم الشّرع ، والأوّل باطل ؛ لأنّ صيغة الإيجاب والقبول كلام وهو عرض لا يبقى ، والقبول لا يوجد إلا بعد الإيجاب ، وحصول الانعقاد بين الموجود والمعدوم محال.

والثّاني باطل ؛ لأنّ الله ـ تعالى ـ بيّن في هذه الآية بطلان هذا العقد [قطعا](٣) ، وإذا كان هذا العقد باطلا قطعا في حكم الشّرع ، فكيف يمكن القول بأنّه منعقد شرعا؟ فثبت أنّ وجود هذا العقد وعدمه بمثابة واحدة.

__________________

ـ للآمدي ١ / ١٧٩ ، سلاسل الذهب للزركشي ص ٣٣٧ ، التمهيد للإسنوي ص ٤٥١ ، نهاية السول له ٣ / ٢٣٧ ، زوائد الأصول له ص ٣٦٢ ، منهاج العقول للبدخشي ٢ / ٣٧٧ ، غاية الوصول للشيخ زكريا الأنصاري ص ٢٠٩ ، التحصيل من المحصول للأرموي ٢ / ٣٧ ؛ المنخول للغزالي ص ٣٠٣ ، المستصفى له ١ / ١٧٣ ، حاشية البناني ٢ / ١٧٦ ، الإبهاج لابن السبكي ٢ / ٣٤٩ ، الآيات البينات لابن قاسم العبادي ٣ / ٢٨٧ ، حاشية العطار على جمع الجوامع ٢ / ٢٠٩ ، المعتمد لأبي الحسين ٢ / ٣ ، إحكام الفصول في أحكام الأصول للباجي ص ٤٣٥ ، التحرير لابن الهمام ص ٣٩٩ ، تيسير التحرير لأمير بادشاه ٣ / ٢٢٤ ، التقرير والتحبير لابن أمير الحاج ٣ / ١٨٠ ، حاشية التفتازاني والشريف على مختصر المنتهى ٢ / ٣٤ ، شرح التلويح على التوضيح لسعد الدين مسعود بن عمر التفتازاني ٢ / ٤١ ، حاشية نسمات الأسحار لابن عابدين ص ٢٠٩ ، شرح المنار لابن ملك ص ٩٩ ، الوجيز للكراماستي ص ٦١ ، تقريب الوصول لابن جزيّ ص ١٢٩ ، إرشاد الفحول للشوكاني ص ٧١ ، شرح مختصر المنار للكوراني ص ٩٩ ، نشر البنود للشنقيطي ٢ / ٧٤ ، شرح الكوكب المنير للفتوحي ص ٢٢٥.

(١) سقط في أ.

(٢) في أ : التي.

(٣) سقط في ب.

٢٨٦

فصل [حكم نكاح البنت من الزنا](١)

قال الشّافعيّ ـ رضي الله عنه ـ : البنت المخلوقة من ماء الزنا لا تحرم على الزاني.

__________________

(١) اختلف الفقهاء في البنت من الزنا هل تحرم على أبيها أو لا تحرم؟

فذهب جمهور الفقهاء منهم الأئمة الثلاثة مالك وأبو حنيفة وأحمد إلى القول بأنه يحرم على الرجل أن يتزوج ابنته المتخلقة من مائه ، وقالوا : إن نكاح البنت من الزنا من الأنكحة الفاسدة ؛ لأنهم يشترطون في صحة النكاح ألّا تكون المرأة متخلقة من ماء الزوج ، مع قطع النظر عن كونها من نكاح أو زنا.

وذهب الشافعية : إلى القول بأن بنت الزنا لا تحرم على أبيها ، وأنه إذا عقد عليها ، كان النكاح صحيحا ، وإن قالوا بكراهة نكاحها ؛ للخروج من الخلاف ، ونص عبارته في الأم : «وأكره له في الورع أن ينكح بنات الذي ولده من الزنا ، فإن نكح لم أفسخه ؛ لأنه ليس ابنا في حكم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم» واختلف أصحابه في سبب الكراهة على وجهين : فقال أبو إسحاق المروزي : لجواز أن تكون مخلوقة من مائه ، وعلى هذا لو تحقق خلقها من مائة ، حرمت ، وهذا غير ظاهر ؛ لأن الفرض أنها بنته من الزنا. وقال أبو حامد : يكره للخلاف ؛ كما كره القصر في أقل من ثلاث مراحل ، وهذا هو الظاهر يرشد إليه قول الإمام : «وأكره له في الورع». وعلى هذا لو تحقق خلقها من مائه بأن حبست عن الوطء إلى أن ولدت لم تحرم.

قال شهاب الدين الرملي : والمخلوقة من ماء زناه تحل له ؛ لأنها أجنبية عنه ؛ إذ لا يثبت لها توارث ولا غيره من أحكام النسب ، وإن أخبره صادق كعيسى صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقت نزوله بأنها من مائه ؛ لأن الشرع قطع نسبها عنه ، فلا نظر ؛ لكونها من ماء سفاح ، نعم ، يكره له نكاحها خروجا من الخلاف.

واستدل الشافعية بما يأتي :

أولا : قالوا إن بنت الزنا أجنبية عن الزاني ؛ إذ لو كانت بنتا للزاني ، لثبت لها الميراث وغيره من أحكام النسب من ثبوت الولاية عليها ، ووجوب حضانتها ونفقتها ، فلما لم يثبت شيء من ذلك ـ علمنا انتفاء البنتية وأنها أجنبية ، فلا تدخل في آية التحريم ، وتبقى داخلة في قوله تعالى : (وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ).

ثانيا : تمسكوا بقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الولد للفراش وللعاهر الحجر» درجة الدلالة من هذا الحديث أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أخبر أن الولد للفراش ، وهذا يقتضي حصر النسب في الفراش فلو كانت بنت الزنا بنتا للزاني ، لبطل الحصر ، وهو منتف لوقوعه في خبر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قال الماوردي : وإنما جاز له أن يتزوجها لثلاثة أمور :

«أحدها» لانتفاء نسبها عنه ، كالأجانب.

«وثانيها» لانتفاء أحكام النسب بينهما من الميراث والنفقة والقصاص.

وثالثها : «لإباحتها لأخيه» ، ولو حرمت عليه لأنه الأب لحرمت على أخيه ، لأنه العم.

وقد نوقش دليل الشافعية الأول : بأن قولكم : إن بنت الزنا أجنبية عن الزاني غير صحيح ، فإنها مخلوقة من مائه ؛ فهي كالبنت في النكاح ؛ إذ لا معنى لكونها بنته ، إلا لأنها مخلوقة من مائه ، وقولكم : لو كانت بنته ، لثبت لها الميراث وغيره لا يفيد ، فإن تخلّف بعض الأحكام لا ينفي كونها بنتا له ؛ ومما يؤيد ذلك : أنه إذا كان ولده كافرا لا يرثه ومع ذلك لا يمكن أن يقال : إنه أجنبي عنه ، فكذلك الحال في البنت من الزنا.

ويقال لهم في الدليل الثاني : إن قولكم : إن الحديث يقتضي حصر النسب في الفراش مسلم ، ولكن نقول لكم : إن النسب الذي اقتضى الحديث حصره في الفراش هو النسب الشرعي الذي تترتب عليه ـ

٢٨٧

وقال أبو حنيفة وأحمد : تحرم. حجّة الشّافعيّ أنّها ليست بنتا فلا تحرم ، وإنما قلنا : ليست بنتا لوجوه :

أحدها : أنّ أبا حنيفة ـ رضي الله عنه ـ إمّا أن يثبت كونها بنتا له بناء على الحقيقة ، وهي كونها مخلوقة من مائه أو [بناء](١) على حكم الشّرع بثبوت هذا النّسب ، والأوّل باطل على مذهبه طردا أو عكسا ، وأمّا الطرد فهو أنّه إذا اشترى جارية بكرا ، وافتضها وحبسها في داره ، وأتت بولد فهذا الولد معلوم أنّه مخلوق من مائه ، مع أن أبا حنيفة قال : لا يثبت ولدها إلا عند الاستلحاق ، ولو كان النّسب هو كون الولد مخلوقا من مائه ، لما توقّف [أبو حنيفة في](٢) ثبوت هذا النسب على الاستلحاق.

وأمّا العكس فهو أنّ المشرقي إذا تزوّج بالمغربية ، وحصل هناك ولد فأبو حنيفة أثبت النسب ههنا مع القطع بأنّه غير مخلوق من مائه ، فثبت أنّ القول بجعله

__________________

ـ أحكام الشرع من التوارث وغيره ؛ وهذا لا يدل على نفي السبب الحقيقي في غير الفراش ، يؤيد ذلك : أنه يحرم على الرجل أن يتزوج بنته من الرضاعة ، ومع ذلك فهي ليست من الفراش في شيء.

وأما الجمهور فقد استدلوا على حرمة نكاح البنت من الزنا بالكتاب والمعقول.

أما الكتاب ؛ فقوله تعالى : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ) الآية ، ووجه الدلالة من هذه الآية الكريمة : أنها نصت على تحريم كل بنت مضافة إلى المخاطبين ، ومما لا شك فيه أن بنت الزنا بنته ؛ لأنها أنثى مخلوقة من مائه ، وهذه حقيقة لا تختلف بالحل والحرمة ؛ ومما يدل على ذلك قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في شأن امرأة هلال بن أمية «انظروه» يعني : ولدها «فإن جاءت به على صفة كذا فهو لشريك ابن سحماء» يعني : الزاني.

وأما المعقول : فقد قالوا : إن هذه البنت مخلوقة من مائه ، فهي بضعة منه ، فلا تحل له كما لا تحل له ابنته من النكاح.

والذي يتبين لنا بعد بيان الأدلة ومناقشة أدلة الشافعية : أن مذهب الجمهور هو المذهب الراجح الذي يجب المصير إليه ، نزولا على موجب الأدلة ، لا سيما أننا نجد الشريعة الإسلامية تحرّم البنت من الرضاع ، وذلك تحاشيا عن أن يستفرش الإنسان نفسه ويستمتع بجزئه ، والمعنى الذي أوجب الشارع به تحريم البنت من الرضاع موجود في البنت من الزنا ، بل الظاهر أن البنت من الزنا أولى ، بالتحريم من البنت في الرضاع ؛ وذلك لأن حقيقة الجزئية ثابتة فيها قطعا ؛ لأنها مخلوقة من مائه ـ أما البنت من الرضاع : فإنها حرمت لشبهة الجزئية ؛ فإذا أثبت التحريم مع شبهة الجزئية ، فثبوته معها لجزئية المحققة أولى خصوصا أن الشافعية قد وافقوا غيرهم في القول بأنه يحرم على المرأة أن تتزوّج بولدها من الزنا ؛ وعللوا ذلك بأنه بعضها ، وانفصل منها إنسانا ، بخلاف البنت من الزنا ؛ لأنها انفصلت منه منيا ، فإن تعليلهم هذا لا يفيدهم سوى أن البعضية في ابن المرأة من الزنا أظهر منها في البنت من الزنا ، ولكنه لا يفيد نفي البعضية عن البنت من الزنا ، فقد اعترفوا بأنها مخلوقة من مائه ، فإنكار وجود الجزئية في مسألة دون مسألة لا يصح.

ينظر : حلية العلماء ٦ / ٣٧٩ ، قليوبي على المحلى ٣ / ٢٤١ ، حواشي التحفة ٧ / ٢٩٩ ، نهاية المحتاج ٦ / ٢٦٦ ، طريقة الخلاف للسمرقندي ص ٨٧ ، بداية المجتهد ٢ / ٢٨ ، حاشية الجمل على المنهج ٤ / ٧٧ ، الشرقاوي على التحرير ٢ / ٢١٠.

(١) سقط في أ.

(٢) سقط في أ.

٢٨٨

التّخليق (١) من مائه سببا للنّسب باطل ، طردا أو عكسا على قول أبي حنيفة ، وأمّا إذا قلنا : إنّ النّسب إنّما يثبت بحكم الشرع فههنا أجمع المسلمون أنّه لا نسب لولد الزّنى من الزّاني ، ولو انتسب إلى الزّاني لوجب على القاضي منعه من ذلك الانتساب ، فثبت أنّ انتسابها إليه غير ممكن ، لا على الحقيقة ، ولا على حكم الشرع.

وثانيها : قوله عليه‌السلام : «الولد للفراش وللعاهر الحجر» (٢) فحصر النسب في الفراش.

وثالثها : أنّه لا ولاية له عليها ، ولا يرثها ولا ترثه ، ولا يجب لها عليه نفقة ولا حضانة ، ولا يحلّ له الخلوة بها ، ولمّا لم يثبت شيء من ذلك علمنا انتفاء النّسب بينهما ، وإذا انتفى النّسب بينهما حلّ التّزوّج بها.

قوله (وَأَخَواتُكُمْ) ويدخل فيه الأخوات للأبوين والأب وللأم.

قوله (وَعَمَّاتُكُمْ وَخالاتُكُمْ).

قال الواحديّ (٣) : كلّ ذكر رجع نسبك إليه فأخته عمّتك ، وقد تكون العمة من جهة الأم ، وهي أخت أبي أمّك ، وكل أنثى رجع نسبك إليها بالولادة فأختها خالتك ، وقد تكون الخالة من جهة الأب ، وهي أخت أمّ أبيك ، فألف «خالة» و «خال» منقلبة عن واو بدليل جمعه على «أخوال» قال تعالى : وبنات أخواتكم (٤) وقوله وبنات الأخ والأخت ، والقول فيهنّ كالقول في بنات الصلب.

قال المفسّرون (٥) كلّ امرأة حرم الله نكاحها ابتداء فهنّ المذكورات في الآية الأولى وكلّ امرأة كانت حلالا ثمّ طرأ تحريمها فهن اللاتي (٦) ذكرن في باقي الآية.

قوله (وَأُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ).

قال الواحديّ (٧) : سمّاهن أمهات لأجل الحرمة ، كما أنّه تعالى سمّى أزواج النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمهات المؤمنين [في قوله :](وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ) [الأحزاب : ٦].

قوله : (مِنَ الرَّضاعَةِ) في موضع نصب على الحال ، يتعلق بمحذوف تقديره : وأخواتكم كائنات من الرضاعة.

وقرأ أبو حيوة (٨) من الرّضاعة بكسر الرّاء.

__________________

(١) في أ : الخلق.

(٢) تقدم.

(٣) ينظر : تفسير الرازي ١٠ / ٢٤.

(٤) في أ : وبيوت أخوالكم.

(٥) ينظر : تفسير الرازي ١٠ / ٢٥.

(٦) في أ : اللواتي.

(٧) ينظر : تفسير الرازي ١٠ / ٢٥.

(٨) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٣٢ ، والبحر المحيط ٣ / ٢١٩ ، والدر المصون ٢ / ٣٤٢.

٢٨٩

فصل : [حرمة الأمهات والأخوات من الرضاعة]

نصّ في هذه الآية على حرمة الأمّهات والأخوات من الرّضاعة كما يحرمن من النّسب ، وقد نبّه الله تعالى في الآية على ذلك بتسميته المرضعة أما والمرضعة أختا فأجرى الرّضاع مجرى النّسب (١) ، [وذلك لأنّه تعالى حرم بسبب النّسب] سبعا اثنان بطريق الولادة وهما الأمهات والبنات ، وخمس بطريق الأخوة ؛ وهنّ : الأخوات والعمات والخالات وبنات الأخ ، وبنات الأخت ، ثمّ لما شرع في أحوال الرّضاعة ذكر من كل واحد من هذين القسمين صورة واحدة تنبيها بها على الباقي ، فذكر من قسم قرابة الولادة الأمّهات ، ومن قسم قرابة الأخوة الأخوات ، ونبّه بذكر هذين المثالين من هذين القسمين على أنّ الحال في باب الرضاع ، كما هو في باب النّسب ، ثمّ إنّه عليه الصلاة والسلام أكّد ذلك البيان بقوله «يحرم من الرضاع ما يحرم بالنسب».

فصل : [من هي الأم من الرضاع؟]

الأمّ من الرّضاع هي المرضعة ، وكذلك كلّ امرأة انتسبت إليها بالأمومة إمّا من جهة النّسب ، أو من جهة الرضاع ، وكذلك القول في الأب وإذا عرفت الأم والأب عرفت البنت أيضا بذلك الطريق. وأمّا الأخوات (٢) فالأخت للأبوين هي الصغيرة الأجنبية (٣) التي أرضعتها أمك بلبن أبيك سواء أرضعتها معك ، أو مع ولد قبلك أو بعدك ، والأخت للأب : هي الّتي أرضعتها زوجة أبيك بلبن أبيك ، والأخت للأمّ : هي التي أرضعتها أمك بلبن رجل آخر ، وكذلك تعرف العمّات والخالات ، وبنات الأخ وبنات الأخت.

فصل : [شرطا حرمة الرضاع]

إنّما تثبت حرمة الرضاعة بشرطين :

أحدهما : أن يكون قبل استكمال المولود حولين ، لقوله تعالى (وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ) [البقرة : ٢٣٣] وقالت أمّ سلمة : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لا يحرم من الرضاع إلا ما فتق الأمعاء» (٤) وعن ابن مسعود عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «لا رضاع إلّا ما أنشز العظم وأنبت اللّحم» (٥) وإنّما يكون هذا في حال الصغر [لا في حال الكبر](٦).

وعند أبي حنيفة مدة الرضاع ثلاثون شهرا ؛ لقوله تعالى (وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً) [الأحقاف : ١٥] [وهو عند الأكثرين لأقلّ هذه الحمل وأكثر مدة الرضاع ، وأقلّ مدة الحمل ستة أشهر](٧).

__________________

(١) في أ : التسمية.

(٢) في أ : البنت والأخت.

(٣) في أ : الأصلية.

(٤) تقدم.

(٥) تقدم.

(٦) سقط في ب.

(٧) سقط في ب.

٢٩٠

الشّرط الثّاني : أن توجد خمس رضعات متفرّقات ، يروى ذلك عن عائشة ، وبه قال عبد الله بن الزّبير ؛ وإليه ذهب الشّافعيّ وأحمد ، قالت عائشة رضي الله عنها : أنزل في القرآن عشر رضعات يحرمن فنسخ من ذلك خمس ، وصار إلى خمس رضعات معلومات يحرمن وتوفي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والأمر على ذلك.

وقال عليه الصلاة والسلام «لا تحرّم المصّة من الرّضاع ولا المصّتان» [وذهب ابن عباس وابن عمر إلى أن قليله وكثيره محرم ، وبه قال سعيد بن المسيب](١) وإليه ذهب سفيان الثّوريّ ومالك والأوزاعيّ ، وعبد الله بن المبارك وأصحاب الرأي.

قوله تعالى : (وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ) فيدخل فيه أمها الأصلية وجميع جدّاتها من قبل الأب والأم كما بينا في النّسب (٢) ومذهب أكثر الصحابة (٣) والتّابعين أنّ أمّ الزّوجة تحرم على زوج بنتها سواء دخل بالبنت أو لم يدخل ، وذهب بعض الصّحابة إلى أنّ أمّ المرأة لا تحرم إلا بالدّخول بالبنت ، كما أنّ الرّببية لا تحرم إلّا بالدّخول بأمّها ، وهو قول علي وزيد وابن عمر وابن الزبير وجابر ، وأظهر الروايات عن ابن عبّاس (٤) والسّبب في هذه الاستعارة أن من ربي طفلا أجلسه في حجره فصار الحجر عبارة عن التّربية كما يقال : فلان في حضانة فلان ، وأصله من الحضن : الّذي هو الإبط ، وقال أبو عبيدة (٥) : (فِي حُجُورِكُمْ) أي : في بيوتكم.

قوله : (وَرَبائِبُكُمُ) الرّبائب : جمع ربيبة ، وهي : بنت الزوج أو الزوجة ، والمذكر : ربيب. سميا بذلك ؛ لأن أحد الزوجين يربّيه كما يربّي ابنه.

قوله : (اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ) لا مفهوم له لخروجه مخرج الغالب ، والحجور : جمع حجر بفتح الحاء ، وكسرها ، وهو مقدّم ثوب الإنسان ثمّ استعملت اللّفظة في الحفظ والسّتر.

وروى قتادة عن سعيد بن المسيّب أنّ زيد بن ثابت قال : إذا طلق الرّجل امرأته قبل الدّخول [بها](٦) تزوّج بأمّها ، وإذا ماتت لم يتزوّج بأمّها ، والفرق بينهما أنّ الطّلاق قبل الدّخول لم يتعلق به شيء ؛ لأنّه لا يجب عليها عدّة ، والموت في حكم الدّخول في وجوب العدة.

قوله : (مِنْ نِسائِكُمُ) فيه وجهان :

أحدهما : أنّه حال من ربائبكم تقديره : وربائبكم كائنات من نسائكم.

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) في أ : فيه.

(٣) في أ : أصحاب الرأي.

(٤) ينظر : تفسير الرازي ١٠ / ٢٦.

(٥) ينظر : تفسير الرازي ١٠ / ٢٨.

(٦) سقط في ب.

٢٩١

والثاني : أنّه حال من الضّمير المستكن في قوله : (فِي حُجُورِكُمْ) لأنه لما وقع صلة تحمّل ضميرا أي : اللاتي استقررن في حجوركم.

فصل

قوله : (اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَ) صفة لنسائكم المجرور ب «من» اشترط في تحريم الرّبيبة أنّ يدخل بأمها ، ولا جائز أن تكون صفة ل «نسائكم» الأولى والثانية لوجهين :

أحدهما : من جهة الصّناعة ، وهو أنّ نسائكم الأولى مجرورة بالإضافة ، والثّانية مجرورة بمن فقد احتمل العاملان ، وإذا اختلفا امتنع النعت لا تقول : رأيت زيدا ، ومررت بعمرو العاقلين ، على أن يكون العاقلين صفة لهما.

والثّاني : من جهة المعنى ، وهو أن أم المرأة تحرم بمجرد العقد على البنت دخل بها أو لم يدخل بها عند الجمهور ، والرّبيبة لا تحرم إلا بالدّخول على أمّها ، وفي كلام الزمخشريّ ما يلزم منه أنّه يجوز أن يكون هذا الوصف راجعا إلى الأولى في المعنى ، فإنه قال : من نسائكم متعلق ب (رَبائِبُكُمُ) ومعناه : أنّ الرّبيبة من المرأة المدخول بها محرّمة على الرّجل حلال له إذا لم يدخل بها.

فإن قلت : هل يصحّ أن يتعلّق بقوله (وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ) قلت : لا يخلو إمّا أن يتعلّق بهن ، وبالرّبائب فتكون حرمتهنّ ، وحرمة الرّبائب غير مبهمتين جميعا ، وإمّا أن يتعلّق بهنّ دون الرّبائب ، فتكون حرمتهنّ غير مبهمة وحرمة الرّبائب مبهمة ، فلا يجوز الأوّل ؛ لأن معنى «من» مع أحد المتعلّقين خلاف معناها مع الآخر ، ألا ترى أنّك إذا قلت : وأمهات نسائكم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن ، فقد جعلت «من» لبيان النّساء ، وتمييزا للمدخول بهنّ [من غير المدخول بهن](١) وإذا قلت : وربائبكم من نسائكم التي دخلتم بهن ، فإنّك جاعل «من» لابتداء الغاية ، كما تقول بنات رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم [من خديجة](٢) ، وليس بصحيح أن يعنى بالكلمة الواحدة في خطاب واحد معنيين مختلفين ، ولا يجوز الثّاني ؛ لأن الذي يليه هو الذي يستوجب التعليق [به](٣) ، ما لم يعرض أمر لا يردّ إلّا أن تقول أعلّقه بالنّساء والرّبائب ، وأجعل «من» للاتصال كقوله تعالى (الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ) [التوبة : ٦٧] وقال : [الوافر]

١٧٧٦ ـ ............

فإني لست منك ولست مني (٤)

وقوله : «ما أنا من الدّد ولا الدّد منّي» (٥). وأمهات النّساء متصلات بالنّساء ؛ لأنّهنّ

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) سقط في ب.

(٣) سقط في ب.

(٤) تقدم.

(٥) أخرجه البيهقي (١٠ / ٢١٧) والطبراني (١٩ / ٣٤٤) والعقيلي (٤ / ٤٢٧) وابن عدي (٧ / ٢٦٩٨) عن انس بن مالك مرفوعا. ـ

٢٩٢

أمهاتهن كما أنّ الرّبائب متّصلات بأمهاتهنّ ؛ لأنّهنّ بناتهنّ ، هذا وقد اتفقوا على أنّ التحريم لأمهات النساء مبهم ، انتهى.

ثمّ قال : إلا ما روي عن عليّ ، وابن عبّاس ، وزيد بن عمر ، وابن الزّبير أنّهم قرؤوا «وأمهات نسائكم اللاتي دخلتم بهن» ، وكان ابن عبّاس يقول : والله ما أنزل إلّا هكذا ، فقوله أعلّقه بالنّساء والرّبائب إلى آخره ، يقتضي أنّ القيد الذي في الربائب ، وهو الدّخول في أمّهات نسائكم كما تقدّم حكايته عن عليّ وابن عباس. قال أبو حيّان (١) : ولا نعلم أحدا أثبت ل «من» معنى الاتصال ، وأمّا الآية والبيت والحديث فمؤّول.

فصل

روي عن علي ـ رضي الله عنه ـ أنّه قال : الرّبيبة إذا لم تكن في حجر الزّوج ؛ وكان في بلد آخر ثمّ فارق الأمّ بعد الدّخول فإنّه يجوز له أن يتزوّج الربيبة ، واحتجّ على ذلك بقوله (اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ)(٢) شرط في تحريمها كونها ربيبة في حجره فإذا لم تكن في تربيته ، ولا في حجره فقد فات الشّرطان. وأمّا سائر العلماء فإنّهم قالوا : إذا دخل بالأم حرمت بنتها عليه سواء كانت في تربيتها أو لم تكن لقوله تعالى (فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ) علّق رفع الجناح بمجرّد عدم الدّخول ، وهذا يقتضي أنّ المقتضي لحصول الجناح هو مجرّد الدّخول ، وإنّما ذكر التّربية والحجر حملا على الأعمّ الأغلب لا أن تفيد شرطا في التحريم.

قوله : (وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ) الحلائل جمع حليلة ، وهي الزوجة سميت بذلك ؛ لأنها تحل مع زوجها حيث كان فهي فعيلة بمعنى فاعلة ، والزوج حليل كذلك قال الشاعر : [الكامل]

١٧٧٨ ـ أغشى فتاة الحيّ عند حليلها

وإذا غزا في الجيش لا أغشاها (٣)

__________________

ـ والدّد : اللهو واللّعب ، وهي محذوفة اللام وقد استعملت متمّمة : ددا كندى ، وددن كبدن ، ولا يخلو المحذوف أن يكون ياء ، كقولهم يد في يدي ، أو نونا كقولهم لد في لدن ، ومعنى تنكير الدّد في الجملة الأولى : الشّياع والاستغراق ، وأن لا يبقى شيء منه إلا وهو منزّه عنه ، أي : ما أنا في شيء من اللهو واللّعب. وتعريفه في الجملة الثانية ؛ لأنه صار معهودا بالذكر ؛ كأنه قال : ولا ذلك النوع مني ، وإنما لم يقل ولا هو مني ؛ لأنّ الصريح آكد وأبلغ. وقيل اللام في الدّد لاستغراق جنس اللّعب. أي ولا جنس اللّعب مني ، سواء كان الذي قلته أو غيره من أنواع اللّعب واللهو. واختار الزمخشري الأوّل ، وقال : ليس يحسن أن تكون لتعريف الجنس لأن الكلام يتفكّك ويخرج عن التئامه. والكلام جملتان ، وفي الموضعين مضاف محذوف تقديره : ما أنا من أهل دد ولا الدّد من أشغالي. ينظر النهاية ٢ / ١٠٩.

(١) ينظر : البحر المحيط ٣ / ٢٢٠.

(٢) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٢٤٣) وعزاه لعبد الزراق وابن أبي حاتم بسند صحيح.

(٣) البيت لعنترة. ينظر ديوانه (٣٠٨) ، والبحر ٣ / ٢٠٣ ، والدر المصون ٢ / ٣٤٣.

٢٩٣

وقيل : إنه لشدّة اتّصال كل واحد منهما بالآخر كأنّهما يحلان في ثواب واحد وفي لحاف واحد ، وفي منزل واحد ، وعلى هذا فالجارية كذلك فلا يجوز للأب أن يتزوّج بجارية ابنه.

وقيل : لأنّ كل واحد منهما كأنّه حالّ في قلب صاحبه وفي روحه لشدّة ما بينهما من المحبّة والألفة. وقيل اشتقاقها من لفظ الحلال إذ كلّ واحد منهما حلال لصاحبه.

فالحليلة تكون بمعنى المحلّة أي المحللة (١) ، والجارية كذلك ؛ فوجب كونها حليلة ، ففعيل بمعنى : مفعول ، أي : محلّلة ، وهو محلل لها ، إلّا أنّ هذا يضعفه دخول تاء التّأنيث اللهمّ إلّا أن يقال : إنّه جرى مجرى الجوامد كالنّطيحة ، والذّبيحة.

وقيل : مأخوذ من الحلول ، فالحليلة : عبارة عن الشّيء الّذي يكون محلّ الحلول ، والجارية موضع حلول السّيّد فكانت حليلة له.

وقيل : هما من لفظ «الحلّ» ضد العقد ؛ لأنّ كلّا منهما يحل إزار صاحبه.

و (الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ) صفة مبينة ؛ لأنّ الابن قد يطلق على المتبنى به ، وليست امرأته حرام على من تبنّى ، فإنّ النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم نكح زينب بنت جحش الأسديّة ، وهي بنت أميمة بنت عبد المطلب (٢) فكانت زينب ابنة عمّة النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكان زوجها زيد بن حارثة وكان زيد تبناه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال المشركون إنّه تزوج امرأة ابنه فأنزل الله تعالى : (وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ) [الأحزاب : ٤] وقال (لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ) [الأحزاب : ٣٧] ، وأمّا الابن من الرّضاع فإنّه وإن كان حكمه حكم ابن الصّلب في ذلك فمبين بالسّنّة ، فلا يرد على الآية الكريمة.

وأصلاب : جمع صلب ، وهو الظّهر ، سمّي بذلك لقوّته اشتقاقا من الصّلابة ، وأفصح لغتيه «صلب» بضمّ الفاء وسكون العين ، وهي لغة الحجاز ، وبنو تميم وأسد يقولون «صلبا» بفتحها حكى ذلك الفرّاء عنهم في كتاب «لغات القرآن» وأنشد عن بعضهم : [الرجز]

١٧٧٩ ـ في صلب مثل العنان المؤدم (٣)

وحكى عنهم : إذ أقوم أشتكي صلبي ، وصلب بضم الصّاد واللام وصالب ومنه قول العبّاس رضي الله عنه ينقل من صالب إلى رحم.

فصل [الخلاف في حل جارية الابن للأب]

قال الشّافعيّ ـ رحمه‌الله تعالى ـ لا يجوز للأب أن يتزوج جارية ابنه وقال أبو

__________________

(١) في أ : المحلة.

(٢) في أ : الملك.

(٣) البيت للعجاج ـ ينظر ديوانه ١ / ٤٠٥ وإصلاح المنطق (٢٩) والدر المصون ٢ / ٣٤٣ والبحر المحيط ٣ / ٢٠٣.

٢٩٤

حنيفة : يجوز استدلّ الشافعيّ بما تقدّم من الاشتقاق فمن قال : إنّه ليس كذلك فهو شهادة على النّفي ب «لا» فلا يلتفت إليه (١). انتهى.

فصل [حرمة حليلة الابن بالعقد]

اتّفقوا على أنّ حرمة حليلة الابن تحصل بنفس العقد كما تحصل حرمة حليلة الأب بنفس العقد ، لأنّ عموم الآية يقتضي ذلك سواء كان مدخولا بها أو لم يكن.

سئل ابن عبّاس عن قوله (وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ) أنّه تعالى لم يبين أنّ هذا الحكم مخصوص بما إذا دخل الابن بها أو غير مخصوص ، فقال ابن عبّاس : أبهموا ما أبهمه الله ، فليس المراد من هذا الإبهام كونها مجملة مشتبهة ، بل المراد من هذا الإبهام التأبيد ، ألا ترى أنّه قال في السّبعة المحرمة من النّسب إنّها من المبهمات [أي] اللّواتي تثبت حرمتهن على سبيل التّأبيد فكذا هنا.

فصل [هل يحرم النكاح باللواط؟]

[قال القرطبي](٢) : اختلفوا في اللائط فقال مالك والشّافعيّ وأبو حنيفة وأصحابهم لا يحرم النّكاح باللواط ، وقال الثّوريّ : إذا لعب بالصّبيّ حرمت عليه أمّه وقال الإمام أحمد : إذا تلوّط بابن امرأته أو أخيها ، أو أبيها حرمت عليه امرأته وقال الأوزاعيّ : إذا لاط بغلام وولد للمفجور به بنت لم يجز للفاجر أن يتزوّجها ، لأنّها بنت من قد دخل به.

فصل

اتّفقوا (٣) على أنّ هذه الآية تقتضي تحريم حليلة ولد الولد على الجدّ ، وهذا يدلّ على أنّ ولد الولد يطلق عليه أنّه من صلب الجدّ ، وكذلك ولد الولد منسوب إلى الجدّ بالولادة.

قوله (وَأَنْ تَجْمَعُوا) في محلّ رفع عطف على مرفوع (حُرِّمَتْ) أي : وحرم عليكم الجمع بين الأختين ، والمراد الجمع بينهما في النّكاح.

أما في الملك فجائز اتفاقا ، وأمّا الوطء بملك اليمين ففيه خلاف.

قوله (إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ) استثناء منقطع فهو منصوب المحلّ كما تقدّم في نظيره ، أي : لكن ما مضى في الجاهليّة فإنّ الله يغفره ، وقيل : المعنى إلّا ما عقد عليه قبل الإسلام ، فإنّه بعد الإسلام يبقى النّكاح على صحّته ، ولكن يختار واحدة منهما ويفارق الأخرى ، وتقدّم قريب من هذا المعنى في (ما قَدْ سَلَفَ) الأوّل ، ويكون الاستثناء عليه متصلا ، وهنا لا يتأتى الاتصال عليه ألبتّة لفساد المعنى.

__________________

(١) ينظر : تفسير الرازي ١٠ / ٢٩.

(٢) ينظر : تفسير القرطبي ٥ / ٧٦ ، ٧٧.

(٣) ينظر : تفسير الرازي ١٠ / ٣٠.

٢٩٥

وقال عطاء والسّدّيّ : إلا ما قد سلف ، إلا ما كان من يعقوب عليه‌السلام فإنه جمع بين ليّا أمّ يهوذا ، وراحيل أمّ يوسف عليهما‌السلام (١) وكانتا أختين (إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً).

فصل

لا يجوز أن يجمع بين أختين في عقد النكاح ، ولا في عقدين ، ويجوز أن يجمع بينهما بالملك ، فإذا وطىء إحداهما لم تبح له الأخرى حتّى تحرم الموطوءة بتزويج ، أو إخراج عن ملكه ويعلم أنّها غير حامل.

قال القرطبيّ (٢) : وشذّ أهل الظّاهر فقالوا : يجوز الجمع بين الأختين بملك اليمين في الوطء ، كما يجوز الجمع بينهما في الملك ، واحتجوا بما روي عن عثمان في الأختين بملك [اليمين في الوطء](٣) ، قال : حرمتهما آية وأحلتهما آية فلا (٤) آمرك ولا أنهاك فخرج السّائل فلقي رجلا من أصحاب النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال معمر أحسبه قال عليّ قال ما سألت (٥) عنه عثمان فأخبره بما سأله وبما أفتاه فقال له : لكنّي أنهاك ، ولو كان لي عليك سبيل ثم فعلت لجعلتك نكالا.

فصل

ويحرم الجمع بين المرأة وعمتها وبينها وبين خالتها لقوله عليه الصلاة والسلام : «لا يجمع بين المرأة وعمّتها ولا بينها وبين خالتها». ولا يجوز للحرّ أن يجمع بين أكثر من أربع نسوة ، ولا للعبد أن يجمع إلّا بين اثنتين فإن جمع بين من لا يجوز الجمع بينه في عقد واحد فسد وإن كان في عقدين لم يصحّ الثّاني منهما والله أعلم.

قوله تعالى : (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلاَّ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ كِتابَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً)(٢٤)

قوله تعالى (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما مَلَكَتْ) قرأ (٦) الجمهور (وَالْمُحْصَناتُ) بفتح الصاد سواء كانت معرفة بأل أم نكرة والكسائي بكسرها (٧) في الجميع إلّا في قوله

__________________

(١) ذكره البغوي في تفسيره ١ / ٤١٢.

(٢) ينظر : تفسير القرطبي ٥ / ٧٧.

(٣) سقط في أ.

(٤) في أ : لا.

(٥) في أ : ما سألته.

(٦) انظر : السبعة ٢٣٠ ، والحجة ٣ / ١٤٦ ـ ١٤٧ ، وإعراب القراءات ١ / ١٣١ ، وحجة القراءات ١٩٦ ، ١٩٧ ، وشرح الطيبة ٤ / ٢٠١ ، وشرح شعلة ٣٣٧ ، والعنوان ٨٤ ، وإتحاف ١ / ٥٠٨.

(٧) في أ : يلبسوها.

٢٩٦

(وَالْمُحْصَناتُ) في هذه الآية فإنّه وافق الجمهور فأما الفتح ففيه وجهان (١) :

أشهرهما (٢) : أنّه أسند الإحصان إلى غيرهن ، وهو إما الأزواج أو الأولياء ، فإنّ الزّوج يحصن امرأته أي يعفها ، والولي يحصنها بالتّزويج أيضا والله يحصنها بذلك.

والثّاني : أنّ هذا المفتوح الصاد بمنزلة المكسور منها (٣) ، يعني : أنه اسم فاعل ، وإنّما شذ فتح عين اسم الفاعل في ثلاثة ألفاظ أحصن ، فهو محصن ، وألقح فهو ملقح ، وأسهب فهو مسهب ، وأمّا الكسر فإنّه أسند الإحصان إليهن ؛ لأنّهنّ يحصن أنفسهن بعفافهن ، أو يحصن فروجهن بالحفظ ، أو يحصن أزواجهن ، وأمّا استثناء الكسائي الآية التي (٤) هنا قال : لأن المراد بهن المزوّجات ، [فالمعنى أنّ أزواجهن أحصنوهن فهنّ مفعولات ، وهذا على أحد الأقوال في المحصنات هنا منهنّ على أنّه قد قرىء شاذا بالكسر في هذا أيضا قال : وإن أريد بهن المزوّجات] ؛ لأنّ المراد أحصن أزواجهن ، أو فروجهن وهو ظاهر.

وقرأ يزيد بن (٥) قطيب : «والمحصنات» بضمّ الصّاد كأنّه لم يعتد بالساكن فأتبع الصّاد للميم كقولهم : «منتن» ، وأصل هذه المادة الدّلالة على المنع ومنه الحصن ؛ لأنّه يمنع به ، و «حصان» بالكسر للفرس من ذلك ، ومدينة حصينة ودرع حصينة أي : مانعة صاحبها من الجراح ، قال تعالى (وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ)(٦) [الأنبياء : ٨٠] أي : لتمنعكم ، والحصان : بالفتح المرأة العفيفة ؛ لمنعها فرجها من الفساد ، قال تعالى : (الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيهِ) [التحريم : ١٢] ، ويقال : أحصنت المرأة وحصنت ، ومصدر حصنت : «حصن» عن سيبويه ، و «حصانة» عن الكسائيّ ، وأبي عبيدة ، واسم الفاعل من أحصنت (٧) محصنة ، ومن حصنت حاصن ، قال الشاعر : [الرجز]

١٧٨٠ ـ حاصن من حاصنات ملس

من الأذى ومن قراف الوقس (٨)

ويقال لها «حصان» كما تقدم [بفتح الحاء](٩) قال [حسّان](١٠) يصف عائشة رضي الله عنها : [الطويل]

١٧٨١ ـ حصان رزان ما تزنّ بريبة

وتصبح غرثى من لحوم الغوافل (١١)

__________________

(١) في أ : لغتان.

(٢) في أ : أحدهما.

(٣) في أ : لمكسورها.

(٤) في أ : الذي.

(٥) انظر : المحرر الوجيز ٢ / ٣٥ ، والبحر المحيط ٣ / ٢٢٢ ، والدر المصون ٢ / ٣٤٤.

(٦) في أ : فيحصنكم.

(٧) في أ : حصينا.

(٨) البيت للعجاج ينظر ديوانه ٢ / ٢٠٩ والبحر ٣ / ٢٠٣. والطبري (٨ / ١٦٥) والدر المصون ٢ / ٣٤٤.

(٩) سقط في أ.

(١٠) سقط في أ.

(١١) ينظر البيت في ديوانه ص ٢٢٨ ، والإنصاف ٢ / ٧٥٩ ، ولسان العرب (حصن) ، وإصلاح المنطق ص ٢٨٠ ، والدر المصون ٢ / ٣٤٤.

٢٩٧

فصل [معنى الإحصان]

والإحصان ورد في القرآن [بإزاء](١) أربعة معان : التّزوج كهذه (٢) الآية لأنّه (٣) عطف المحصنات على المحرّمات ، فلا بدّ وأن يكون الإحصان سببا للحرمة ، ومعلوم أن الحرية والعفاف ، والإسلام لا تأثير لها (٤) في ذلك ، والمرأة المزوّجة (٥) محرمة على الغير.

الثّاني : العفّة قال تعالى : (مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ) [النساء : ٢٥] وقوله (مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ) [المائدة : ٥](وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها) [الأنبياء : ٩١] أي : أعفّته.

الثالث : الحرية في قوله : (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ) [النور : ٤] يعني الحرائر ؛ لأنّه لو قذف غير حرّة لم يجلد ثمانين جلدة. وكذا قوله (فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ) [النساء : ٢٥] وقوله : (وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ) [النساء : ٢٥].

الرّابع : الإسلام قال تعالى : (فَإِذا أُحْصِنَ) قيل في تفسيره فإذا أسلمن ، وهذا يقع معرفته في الاستثناء الواقع بعده ، وهو قول بعض العلماء ، فإن أريد به هنا التّزوج كان المعنى : وحرمت عليكم المحصنات أي المتزوجات (٦) ، قال أبو سعيد الخدريّ نزلت في نساء كنّ يهاجرن إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولهنّ أزواج فيتزوّجن بعض المسلمين ، ثم يقدم (٧) أزواجهن مهاجرين فنهى الله عن نكاحهن [ثم استثنى](٨) فقال : (إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) يعني بالسّبي ، [ولهن أزواج في دار الحرب يحل لمالكهن وطؤهنّ بعد الاستبراء ؛ لأنّ بالسّبي] يرتفع (٩) النّكاح بينها وبين زوجها.

قال أبو سعيد الخدريّ : بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم حنين جيشا إلى أوطاس فأصابوا سبايا لهنّ أزواج من المشركين فكرهوا غشيانهن (١٠) وتحرجوا ، فأنزل الله هذه الآية (١١).

وقال عطاء : يريد (١٢) أن تكون أمته في نكاح عبده يجوز أن ينزعها منه.

وقال ابن مسعود : أراد أن يبيع الجارية المزوّجة فتقع الفرقة بينها وبين زوجها ،

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) في أ : بهذه.

(٣) في أ : فإنه.

(٤) في أ : له.

(٥) في أ : الزوجة.

(٦) في أ : المزوجات.

(٧) في أ : قدم.

(٨) سقط في أ.

(٩) في أ : يمتنع.

(١٠) في أ : إغشائهن.

(١١) أخرجه مسلم (١ / ٤١٧) والترمذي (٤ / ٨٦) والنسائي (٢ / ٨٥) وأبو داود (٢١٥٥) والطيالسي (٢٢٣٩) وأحمد (٣ / ٨٤) والبيهقي (٧ / ١٦٧) وذكره السوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٢٤٦) وزاد نسبته للفريابي وابن أبي شيبة وأبي يعلى والطحاوي وابن حبان وابن أبي حاتم عن أبي سعيد الخدري.

(١٢) في أ : أراد.

٢٩٨

ويكون بيعها طلاقا فيحل للمشتري وطؤها وهذا قول أبيّ بن كعب وابن مسعود ، وابن عبّاس ، وجابر ، وأنس ـ رضي الله عنهم ـ وقال علي ، وعمر ، وعبد الرحمن بن عوف : إنّ الأمة المزوجة إذا بيعت لا يقع عليها الطّلاق ، وعليه إجماع الفقهاء اليوم ؛ لأنّ عائشة ـ رضي الله عنها ـ لما اشترت بريرة وأعتقتها خيرها النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكانت متزوجة (١) فلو وقع الطلاق بالبيع لما كان في ذلك فائدة ، وحجة الأوّلين ما روي في قصة بريرة أنّه عليه الصلاة والسّلام قال : «بيع الأمة طلاقها» قالوا : فإذا ملكت الأمة حلّ وطؤها سواء ملكت بشراء ، أو هبة أو إرث ويدل على أنّ مجرّد السّبي يحلّ الأمة قول الفرزدق : [الطويل]

١٧٨٢ ـ وذات حليل أنكحتها رماحنا

حلال لمن يبني بها لم تطلّق (٢)

يعني : أنّ مجرد سبائها أحلّها بعد الاستبراء ، وإن أريد به الإسلام ، أو العفّة فالمعنى : أنّ المسلمات العفيفات حرام كلهنّ ، [يعني](٣) : فلا يزنى بهن إلا ما ملك منهنّ بتزويج نكاح جديد بعد وقوع البينونة بينهن وبين أزواجهم أو ما ملكت يمين إن كانت المرأة مملوكة ، فيكون المراد بما ملكت أيمانكم (٤) التّسلط عليهن ، وهو قدر مشترك ، وعلى هذه الأوجه الثّلاثة يكون الاستثناء متصلا ، وإذا أريد الحرائر ، فالمراد إلا بما ملكت [أيمانكم](٥) بملك اليمين ويدل عليه قوله بعد ذلك (وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) فكان المراد [بالمحصنات هنا هو المراد](٦) هناك ، وعلى هذا ففي قوله (إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) وجهان :

الأوّل : أنّ المراد منه إلّا العقد الذي جعله الله تعالى ملكا لكم وهو الأربع.

والثّاني : أنّ الحرائر محرمات عليكم إلا ما أثبت الله لكم ملكا عليهنّ بحضور الولي والشّهود والشّروط المعتبرة في النّكاح ، وعلى هذا [فإنّ](٧) الاستثناء منقطع.

[قوله (مِنَ])(٨)(النِّساءِ) في محلّ نصب على الحال كنظيره المتقدّم.

وقال مكّيّ : فائدة [قوله](مِنَ النِّساءِ) أنّ المحصنات يقع على الأنفس فقوله : (مِنَ النِّساءِ) يرفع ذلك الاحتمال ، والدّليل على أنّه يراد ب «المحصنات» الأنفس قوله (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ). فلو أريد به النّساء خاصّة لما حدّ من قذف رجلا بنصّ القرآن ، وقد أجمعوا على أنّ حدّه بهذا النّص. انتهى.

قال شهاب الدّين : وهذا كلام عجيب ؛ لأنّه بعد تسليم ما قاله في آية النّور كيف يتوهّم ذلك هنا أحد من النّاس.

__________________

(١) في أ : مزوجة.

(٢) تقدم.

(٣) سقط في ب.

(٤) في أ : أيمانهن.

(٥) سقط في ب.

(٦) سقط في أ.

(٧) سقط في ب.

(٨) سقط في أ.

٢٩٩

فصل [في سبي أحد الزوجين]

اتّفقوا على أنّه إذا سبي أحد الزّوجين قبل الآخر وأخرج إلى دار الإسلام وقعت الفرقة بينهما ، فإن سبيا معا ، قال الشّافعيّ : تزول الزّوجيّة ويستبرئها المالك.

وقال أبو حنيفة لا تزول الزّوجيّة.

واستدلّ الشافعيّ بقوله (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ) فيقتضي تحريم ذوات الأزواج ثم قال (إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) يقتضي أن عند طريان الملك ترتفع (١) الحرمة ويحصل الحل.

قال أبو بكر الرّازيّ (٢) : إن حصلت الفرقة بمجرد طريان الملك فوجب أن تقع الفرقة بشراء الأمة واتهابها [وإرثها](٣) وليس ذلك واجب ، فإنّ العام بعد التّخصيص حجة في الباقي ، وأيضا فالحاصل عن السّبي إحداث الملك ، وعند البيع نقل الملك من شخص إلى شخص ، فكان الأوّل أقوى.

قوله [(كِتابَ اللهِ)](٤) في نصبه ثلاثة أوجه :

أظهرها : أنّه منصوب على أنّه مصدر مؤكّد بمضمون الجملة المتقدّمة قبله ، وهي قوله (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ) (٥) ونصبه بفعل مقدر [تقديره](٦) كتب الله ذلك عليكم كتابا ، والمعنى : كتب الله عليكم تحريم ما تقدّم ذكره من المحرمات كتابا من الله ، ومجيء المصدر عن غير لفظ الفعل كثير. قال تعالى (وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ صُنْعَ اللهِ) [النمل : ٨٨] ، وأبعد عبيدة السلماني في جعله هذا المصدر مؤكدا لمضمون الجملة من قوله تعالى (فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ)(٧).

الثاني : أنه منصوب على الإغراء ب «عليكم» والتقدير : عليكم كتاب الله ، أي : الزموه كقوله تعالى (عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَ) [المائدة : ١٠٥] وهذا رأي الكسائيّ ومن تابعه أجازوا تقديم المنصوب في باب الإغراء مستدلّين بهذه الآية ، وبقول الشّاعر (٨) : [الرجز]

١٧٨٣ ـ يأيّها المائح دلوي دونكا

إنّي رأيت النّاس يحمدونكا (٩)

ف «دلوي» منصوب بدونك وقد تقدّم ، والبصريون يمنعون ذلك ، قالوا : لأنّ العامل

__________________

(١) في أ : تقع.

(٢) ينظر : تفسير الرازي ١٠ / ٣٤ ، ٣٥.

(٣) سقط في أ.

(٤) سقط في أ.

(٥) سقط في ب.

(٦) سقط في ب.

(٧) سقط في ب.

(٨) في أ : وتقول الأئمة.

(٩) البيت لجارية بن مازن ينظر الدرر ٢ / ١٣٨ وشرح المفصل لابن يعيش ١ / ١١٧ وأوضح المسالك ٣ / ١٢١ والإنصاف ٢٢٨ والدر المصون ٢ / ٣٤٥.

٣٠٠