اللّباب في علوم الكتاب - ج ٦

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ٦

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٦٣٢

الياء اسم فاعل ، والباقون بفتحها اسم مفعول ، وتقدّم وجه ذلك.

فصل

قال ابن مسعود وقتادة : الفاحشة هي النّشوز ، وإيذاء الزّوج (١) ، والمعنى إذا كان سوء العشرة من جهتهن فقد عذرتم في طلب الخلع ويؤيّده قول أبيّ بن كعب : إلّا أن يفحشن عليكم (٢).

وقال الحسن ، وأبو قلابة والسّدّيّ : هي (٣) الزنى والمعنى : إذا نشزت المرأة ، أو زنت حلّ للزّوج أن يسألها الخلع.

وقال عطاء : كان الرّجل إذا أصابت امرأته فاحشة أخذ منها ما ساق إليها وأخرجها فنسخ الله ذلك (٤).

قوله (وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ).

قال الزّجّاج (٥) : وهو النصفة في المبيت والنفقة والإجمال في القول.

وقيل : أن يتصنّع لها كما تتصنع له.

[قوله :](٦)(بِالْمَعْرُوفِ) لها (٧) وجهان :

أظهرهما : أنّها باء الحال ، أي : من الفاعل مصاحبين لهن بالمعروف ، أو من المفعول أي مصحوبات بالمعروف.

والثّاني : أنها باء التعدية.

قال أبو البقاء (٨) : بالمعروف مفعول ، أو حال.

فصل

قال القرطبيّ (٩) : استدل علماؤنا بقوله تعالى : (وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) أنّ المرأة (١٠)

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٨ / ١١٦ ـ ١١٧) عن ابن مسعود وابن عباس وقتادة والضحاك.

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٢٣٥) عن قتادة وعزاه لعبد بن حميد.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٨ / ١١٦) عن مقسم.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٨ / ١١٥ ـ ١١٦) عن الحسن والسدي وأبي قلابة وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٢٣٦) عن أبي قلابة وابن سيرين وعزاه لابن المنذر.

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٨ / ١١٧) عن عطاء وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٢٣٦) وزاد نسبته لعبد الرزاق وابن المنذر.

(٥) ينظر : تفسير الرازي ١٠ / ١١.

(٦) سقط في ب.

(٧) في ب : فيها.

(٨) ينظر : الإملاء ١ / ١٧٢.

(٩) ينظر : القرطبي ٥ / ٦٥.

(١٠) في ب : على أن المرأة.

٢٦١

إذا لم يكفيها خادم واحد أنّ عليه أن يكفيها قدر كفايتها كابنة الخليفة والملك وشبههما ممن لا يكفيها خادم واحد ، وأنّ ذلك هو المعاشرة بالمعروف.

وقال الشّافعيّ وأبو حنيفة : لا يلزمه إلا خادم واحد ، وذلك يكفيها خدمة نفسها وليس في العالم امرأة إلا ويكفيها خادم واحد ، وهذا كالمقاتل تكون له أفراس فلا يسهم له إلّا بفرس واحد ؛ لأنه لا يقاتل إلا على فرس واحد ، قال علماؤنا : وهنا التشبيه غلط ؛ لأن مثل بنات الملوك اللائي لهن خدمة كثيرة لا يكفيها خادم واحد ، لأن إصلاح شأنها ومطبخها ، وغسيل ثيابها لا يكفيها خادم واحد يقوم بذلك.

قوله : (فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسى) (١) أي إن كرهتم عشرتهن بالمعروف وآثرتم فراقهن.

قوله : (فَعَسى) الفاء جواب الشرط ، وإنّما اقترنت بها عسى ؛ لأنها جامدة.

قال الزّمخشريّ (٢) : فإن قلت من أي وجه صح أن يكون فعسى جزاء للشرط؟

قلت : من حيث المعنى فإن كرهتموهن فاصبروا عليهن مع الكراهة ، فلعلّ لكم فيما تكرهون خيرا كثيرا ليس فيما تحبون.

ولهذا قال قتادة : فإنه فسر الخير الكثير بودّ يحصل فتنقلب الكراهة محبة ، والنفرة رغبة.

وقيل : ولد صالح (٣).

وقرىء (٤) ويجعل برفع اللام.

قال الزّمخشريّ على أنه حال يعني : ويكون خبر المبتدأ محذوف لئلا يلزم دخول الواو على مضارع مثبت ، و «عسى» هنا تامة ؛ لأنها رفعت أنّ وما بعدها ، والتقدير : فقد قربت كراهيتكم فاستغنت عن تقدير خبر ، والضمير في «فيه» يعود على شيء ، أي : في ذلك الشيء المكروه.

وقيل : يعود على الكره (٥) المدلول عليه بالفعل ، والمعنى (فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَ) ورغبتم في مفارقتهن ، فربما جعل الله في تلك المفارقة لهن خيرا كثيرا ، وذلك بأن تتزوج غيره خيرا منه.

ونظيره قوله : (وَإِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ) [النساء : ١٣٠] وهذا قول

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) ينظر : الكشاف ١ / ٤٩١.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٨ / ١٢٢) عن السدي وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٢٣٦) وزاد نسبته لابن أبي حاتم وذكره أبو حيان في «البحر المحيط» (٣ / ٢١٤) عن ابن عباس والسدي.

(٤) قرأ بها عيسى بن عمر.

انظر : الشواذ ٢٥ ، والدر المصون ٢ / ٣٣٦.

(٥) في ب : المكروه.

٢٦٢

الأصمّ (١) ، قال القاضي (٢) : وهذا بعيد ؛ لأنه تعالى حث بما ذكر على استمرار الصحبة فكيف يريد المفارقة.

وقيل : الضمير يعود على الصبر ، وإن لم يجر له ذكر.

قوله تعالى : (وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (٢٠) وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً)(٢١)

لما أذن في مضارة الزوجات إذا أتين بفاحشة مبينة بين في هذه الآية تحريم المضارة في غير حال الإتيان بالفاحشة ؛ وذلك لأن الرجل كان إذا مال إلى التّزوّج بامرأة أخرى ، رمى زوجته بنفسه بالفاحشة حتى يلجئها إلى الافتداء منه بما أعطاها ليصرفه في تزوج المرأة التي يريدها ، فقال تعالى (وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ). قوله : (مَكانَ زَوْجٍ) ظرف منصوب بالاستبدال ، والمراد بالزوج هنا الجمع ، أي : فإن أردتم استبدال أزواج مكان أزواج وجاز ذلك [لدلالة](٣) جمع (٤) المستبدلين ، إذ لا يتوهم اشتراك المخاطبين في زوج واحد مكان زوج واحد ، ولإرادة معنى الجمع عاد الضمير من قوله (إِحْداهُنَ) على «زوج» جمعا ، [و](٥) التي نهي عن الأخذ منها في المستبدل مكانها ؛ لأنها آخذة منه بدليل قوله تعالى (وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ) وهذا إنّما هو في القديمة لا في المستحدثة ، وقال : (إِحْداهُنَ) ليدل على أنه قوله (وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً)(٦) المراد منه : وآتى كل واحد منكم إحداهن أي : إحدى الأزواج [ولم يقل : «آتيتموهن قنطارا» لئلا يتوهم أن جميع المخاطبين آتوا الأزواج](٧) قنطارا ، والمراد آتى كل واحد زوجته قنطارا ، فدلّ [على](٨) لفظ «إحداهن». على أنّ الضمير في آتيتم المراد منه كل واحد واحد ، كما دلّ لفظ (وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ) على أن المراد استبدال أزواج مكان أزواج فأريد بالمفرد هنا الجمع ، لدلالة (وَإِنْ أَرَدْتُمُ)(٩) ، وأريد بقوله : «وآتيتم كل واحد واحد» لدلالة إحداهن ـ وهي مفردة ـ على ذلك ، ولا يدلّ على هذا المعنى البليغ بأوجز ، ولا أفصح من هذا التركيب ، وقد تقدم معنى القنطار واشتقاقه في «آل عمران» ، والضمير في «منه» عائد على قنطار.

وقرأ ابن محيصن «آتيتم إحداهن» بوصل ألف احدى ، كما قرأ «إنها لإحدى الكبر» ، حذف الهمزة تحقيقا كقوله : [الرجز]

__________________

(١) ينظر : تفسير الرازي ١٠ / ١١.

(٢) ينظر : السابق.

(٣) سقط في ب.

(٤) في ب : جميع.

(٥) سقط في ب.

(٦) سقط في ب.

(٧) سقط في أ.

(٨) سقط في ب.

(٩) في أ : ما قبله عليه.

٢٦٣

١٧٧١ ـ إن لم أقاتل فالبسوني برقعا (١)

وقد طول أبو البقاء هنا ، ولم يأت بطائل فقال : وفي قوله (وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً) إشكالان :

أحدهما : أنه جمع الضمير والمتقدم زوجان.

والثاني : أن التي يريد أن يستبدل بها هي التي تكون قد أعطاها مالا ، فنهاه عن أخذه ، فأمّا التي يريد أن يستحدث بها فلم يكن أعطاها شيئا حتّى ينهى عن أخذه ، ويتأيد ذلك بقوله (وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ).

والجواب عن الأول : أنّ المراد بالزوج الجمع ؛ لأن الخطاب لجماعة الرجال ، وكل منهم [قد](٢) يريد الاستبدال (٣) ، ويجوز أن يكون جمع ؛ لأن التي يريد أن يستحدثها يفضي حالها إلى أن تكون زوجا و [أن](٤) يريد أن يستبدل بها كما استبدل بالأولى فجمع على هذا المعنى.

وأمّا الإشكال الثاني ففيه جوابان :

أحدهما : أنّه وضع الظاهر موضع المضمر ، والأصل «وآتيتموهن».

والثاني : أن المستبدل بها مبهمة فقال «إحداهن» إذ لم يتعين حتى يرجع الضمير إليها ، وقد ذكرنا نحوا من هذا في قوله (فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى) انتهى.

قال شهاب الدّين : وفي قوله «وضع الظاهر موضع المضمر» نظر ؛ لأنّه لو كان الأصل كذلك لأوهم أنّ الجميع آتوا الأزواج قنطارا كما تقدم وليس كذلك.

فصل [حكم المغالاة في المهر]

قالوا : دلّت الآية على جواز المغالاة في المهر (٥).

__________________

(١) ينظر البيت في الخصائص ٣ / ١٥١ والبحر المحيط ٣ / ٢١٥ والمحتسب ١ / ١٢٠ والدر المصون ٢ / ٣٣٧.

(٢) سقط في ب.

(٣) في ب : استبدال.

(٤) سقط في ب.

(٥) من أقبح العادات أن يطلب والد العروس من الزوج ما يعجز عن دفعه ، فيضطر إلى بيع ما يملك ، أو الاستدانة من غيره ، فيبتدىء صفحة حياته الجديدة بالهمّ والشقاء المستمر ، وهذا من دواعي إحجام بعض الشبان عن الزواج ، وفي الحديث الشريف : «أقلهنّ صداقا أكثرهن بركة».

ومن أقبح العادات المغالاة في الجهاز ، لأن الناس يخرجون فيه عن طورهم ، فترى الفقير يريد أن يعد جهازا كجهاز الأغنياء ، فلا ينتهي من الجهاز إلا وقد عمه الدّين ، وأما الأغنياء : فإن كثيرا منهم اندفعوا في شراء ما خف حمله ، وغلا ثمنه. فخرجوا من ذلك وقد أحاط الدين بممتلكاتهم ، ولقد شاهدنا أن بعضهم أصبح من أجل ذلك فقيرا بعد أن كان غنيا.

ومن البلية الكبرى أن أكثر الجهاز لا يستعمل في مرافق الحياة ، بل جله زينة وزخرف سريع العطب ، ـ

٢٦٤

روي أنّ عمر بن الخطاب قال على المنبر : «ألا لا تغالوا في مهور نسائكم» فقامت امرأة فقالت : يا ابن الخطاب الله يعطينا وأنت تمنع ، وتلت هذه الآية فقال عمر : كلّ الناس أفقه منك يا عمر ، ورجع عن ذلك (١).

قال ابن الخطيب (٢) : وعندي أنّ الآية لا دلالة فيها على جواز المغالاة ؛ لأن قوله (إِحْداهُنَّ قِنْطاراً)(٣) لا يدل على جواز إيتاء القنطار ، كما أن (٤) قوله (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) [الأنبياء : ٢٢] لا يدل على حصول الآلهة فالحاصل أنّه لا يلزم من جعل الشيء شرطا لشيء آخر كون ذلك الشرط في نفسه جائز الوقوع.

قال عليه الصلاة والسلام : «من قتل له قتيل فأهله بين خيرتين» (٥) ولم يلزم منه

__________________

ـ قصير الأجل ، يفنى قبل أن تسدّد أقساطه ونجومه ، وبدهي أن المغالاة في الجهاز هي السبب الوحيد في المغالاة في المهور.

واجب الآباء : يجب على الآباء أن يقتصدوا في الجهاز. وأن يحضروا منه ما يلائم الزوج والزوجة ، وما يمكنهما الانتفاع به طويلا ، وأن يخففوا المهور ، حتى يسعد الأزواج ، ويفتتحوا حياتهم الجديدة بالسعادة والهناء ، والرفاء ، والبنين.

العرس : والمصيبة الكبرى الأعراس وما يصنع فيها :

١ ـ يدعو صاحب العرس أهله ، وجيرانه ، وأحبابه ، وأصدقاءه ، ثم يتغالى في ذلك ، فيدعو أصحاب الوجاهة والقدر ، وإن كان لا يعرفهم ، طلبا للمباهاة والفخر ، وهذا يستدعي أن يعد لهم من الطعام ما يلائم وجاهتهم ، فيكلف نفسه نفقات كان في غنى عنها لو اقتصر على أهله ، وأعزّ أصدقائه وجيرانه وعمل وليمة تناسب حاله ؛ عملا بسنة النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم.

المغنون والمغنيات : بعد هذا تأتي عادة أشنع من سابقتها ، تلك هي إحضار المغنين من الرجال ، والمغنيات من النساء ، وهذا يستدعي أن يتنافس الزائرت في ثيابهن وحليهن ، وفي الهدايا التي تقدم للعروس وفيما يعطى للمغنيات ومن على شاكلتهن ، ممن يهيئن العروس للزفاف ، وفي ذلك الخراب العاجل ، هذا إلى ما في هذه الاجتماعات من الأمور المنكرة التي لا ترضي الله تعالى.

عمل العقلاء : ومما يبشر بالخير أن بعض العقلاء هجروا كل هذه العادات العتيقة ، واستعاضوا بها ما هو خير لهم وأبقى لأموالهم ، وأنفع للعروسين ولأهلهم.

(١) أخرجه سعيد بن منصور (٥٩٨) والبيهقي (٧ / ٢٣٣) وأبو يعلى كما في «مجمع الزوائد» (٤ / ٢٨٤) من طريق مجالد بن سعيد عن الشعبي قال : خضب عمر بن الخطاب ... فذكره.

قال الهيثمي في «مجمع الزوائد» (٤ / ٢٨٤) فيه مجالد بن سعيد وفيه ضعف وقد وثق.

وقال البيهقي : هذا منقطع.

وأخرجه سعيد بن منصور (٥٩٩) والبيهقي (٧ / ٢٣٣) من طريق حميد الطويل عن بكر بن عبد الله قال : قال عمر بن الخطاب ... فذكره بلفظ : خرجت وأنا أريد أن أنهاكم عن كثرة الصداق حتى عرضت لي هذه الآية : (وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً).

قال البيهقي عقبه : هذا مرسل جيد.

(٢) ينظر : تفسير الرازي ١٠ / ١٢.

(٣) في ب : وآتيتم إحداهن قنطارا.

(٤) في ب : في.

(٥) أخرجه الترمذي (١ / ٢٦٤) وأحمد (٥ / ٣٨٥) والدارقطني (٣ / ٩٧) من طريق سعيد بن أبي سعيد ـ

٢٦٥

جواز القتل (١) ، وقد يقول الرجل : لو كان الإله جسما لكان محدثا ، وهذا حق ، ولا يلزم منه أن [قولنا](٢) الإله جسم حق.

فصل

يدخل في الآية ما إذا كان آتاها مهرها ، وما إذا لم يؤتها ؛ لأنه إذا أوقع العقد على الصداق فقد آتاها ذلك الصداق في حكم الله فلا فرق بين ما إذا آتاها الصداق حسا ، وبين ما إذا لم يؤتها.

فصل [في الخلوة الصحيحة هل تقرر المهر؟]

احتج أبو بكر الرازي بهذه الآية على أنّ الخلوة الصحيحة تقرر المهر.

قال : لأنّ الله تعالى منع الزوج من أن يأخذ منها شيئا من المهر ، وهذا المنع مطلق ترك العمل قبل الخلوة ؛ فوجب أن يكون معمولا به بعد الخلوة.

قال : ولا يجوز أن يقال إنّه مخصوص بقوله تعالى : (وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ ؛) لأن الصحابة اختلفوا في تفسير المسيس.

فقال عمر وعلي ـ رضي الله عنهما ـ : المراد من المسيس : الخلوة.

وقال عبد الله : هو الجماع إذا صار مختلفا فيه امتنع جعله مخصصا لعموم الآية.

وأجيب أنّ هذه الآية هنا مختصة بما بعد الجماع لقوله : (وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ) وإفضاء بعضهم إلى بعض ، هو الجماع على ما سيأتي.

فصل [سوء العشرة هل يوجب العوض]

سوء العشرة إن كان من قبل الزوجة حلّ أخذ بدل الخلع ؛ لقوله : (وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ) وإن كان من قبل الزوج ، كره له أن يأخذ من مهرها شيئا ؛ لأنه نهي في هذه الآية عن الأخذ ، ثم إن خالف وفعل ملك بدل الخلع كما أنّ البيع وقت النداء منهي عنه ، ثم إنه يفيد الملك.

قوله (أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً) استفهام إنكاري أي : أتفعلونه مع قبحه ، وفي نصب (بُهْتاناً وَإِثْماً) وجهان :

__________________

ـ المقبري عن أبي شريح الكعبي به وقال الترمذي : حديث حسن صحيح.

وأخرجه أبو داود (٤٤٩٦) والدارمي (٢ / ١٨٨) وابن ماجه (٢٦٢٣) وابن الجارود (٧٧٤) والدارقطني (٣ / ٩٨) والبيهقي (٨ / ٧٢) وأحمد (٤ / ٣١) من طريق أبي العوجاء عن أبي شريح مرفوعا.

وأخرجه أحمد (٤ / ٣١ ـ ٣٢) والبيهقي (٨ / ٧١) من طريق مسلم بن يزيد عن أبي شريح به.

(١) في ب : الفعل.

(٢) سقط في ب.

٢٦٦

أحدهما : أنها منصوبان على المفعول من أجله أي لبهتانكم وإثمكم.

قال الزمخشريّ (١) : فإن لم يكن عرضا كقولك : قعد عن القتال جبنا.

وقيل : انتصب بنزع الخافض أي ببهتان.

والثاني : أنّهما مصدران في موضع الحال ، وفي صاحبهما وجهان :

أظهرهما : أنّه الفاعل في أتأخذونه أي : باهتين وآثمين.

والثاني : أنّه المفعول أي : أتأخذونه مبهتا محيرا لشنعته ، وقبح الأحدوثة (٢) عنه ، والتقدير : تصيبون في أخذه بهتانا (٣) ، والبهتان فعلان من البهت ، وهو في اللغة : الكذب الذي يواجه به الإنسان صاحبه على وجه المكابرة ، وأصله من بهت الرّجل إذا تحيّر فالبهتان كذب يحير الإنسان لعظمه ثم جعل كلّ باطل يتحير من بطلانه بهتانا ، ومنه الحديث : «إذا واجهت أخاك بما ليس فيه فقد بهتّه» ولقد تقدم الكلام عليه في البقرة.

وفي تسمية هذا الأخذ «بهتانا» وجوه :

أحدها : أنّه تعالى لما فرض لها ذلك المهر فأخذه ؛ كأنّه يقول : ليس ذلك بفرض فيكون بهتانا.

وثانيها : أنّ العقد يستلزم مهرا وتكفل بالعقد تسليم ذلك المهر إليها وألا يأخذه منها ، فإذا أخذه منها ، صار ذلك القول الذي عقد به العقد بهتانا.

وثالثها : أنا ذكرنا أنه كان من عادتهم إذا أرادوا تطليق الزوجة رموها بفاحشة ، حتى تخاف وتشتري نفسها منه بذلك المهر ، فلما كان ذلك واقعا على هذا الوجه في الأغلب جعل كأنه أخذه بهتانا [وإثما](٤).

[رابعها : أنّه عقاب البهتان والاثم المبين كأنّه كان معلوما عندهم مقولة «أتأخذونه بهتانا»](٥) معناه أتأخذونه (٦) عقاب البهتان فهو كقوله (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً)(٧) [النساء : ١٠].

وقوله : (وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ) تقدّم الكلام في كيف عند قوله : (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ) [البقرة : ٢٨].

__________________

(١) ينظر : الكشاف ١ / ٤٩٢.

(٢) في ب : الأخذوية.

(٣) في ب : بهتا.

(٤) سقط في ب.

(٥) سقط في ب.

(٦) في ب : أتأخذون.

(٧) ذكر الرازي في تفسيره هنا : أنه تعالى ذكر في الآية السابقة وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ والظاهر من حال المسلم : أنه لا يخالف أمر الله ، فإذا أخذ منها شيئا ، أشعر ذلك بأنها قد أتت بفاحشة مبينة ، فإذا لم يكن الأمر كذلك في الحقيقة ، صحّ وصف ذلك الأخذ بأنه بهتان. ينظر : تفسير الرازي ١٠ / ١٣.

٢٦٧

قوله : (وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ)(١) الواو للحال ، والجملة بعدها : في محل نصب ، وأتى ب «قد» ليقرب الماضي من الحال ، وكذلك «أخذن» وقد مقدرة معه لتقدم ذكرها ، وأصل أفضى ذهب إلى فضاه أي ناحية سعته ، يقال : فضى يفضو فضوا ، وأفضى : عن ياء أصلها واو.

وقال اللّيث : أفضى فلان إلى فلان أي : وصل إليه ، وأصله أنه صار في فضائه وفرجته.

وقال غيره : أصل الإفضاء الوصول إلى الشيء من غير واسطة.

وللمفسرين (٢) في هذا الإفضاء قولان :

أحدهما : قال ابن عباس ، ومجاهد ، والسدي أنّه كناية عن الجماع (٣) وهو اختيار الزجاج ، وابن قتيبة ، ومذهب الشافعيّ ؛ لأنّ عنده أنّ الزوج إذا طلق قبل المسيس فله أن يرجع في نصف المهر ، وإن خلا بها.

والثاني : أنّ الإفضاء هو الخلوة وإن لم يجامعها (٤).

وقال الكلبي : الإفضاء أن يكون معها في لحاف واحد ، جامعها أو لم يجامعها ، وهذا اختيار الفراء ، ومذهب أبي حنيفة ؛ لأن الخلوة في الأنكحة الصحيحة تقرر المهر ، واستدلّوا على القول الأوّل بوجوه :

أحدها : ما تقدّم عن الليث : أنه يصير في فرجته وفضائه ، وهذا المعنى إنّما يحصل في الحقيقة عند الجماع.

وثانيها : أنه تعالى ذكر هذا في معرض التعجب فقال (وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ) والتعجب إنما يتم إذا كان هذا الإفضاء سببا قويا في حصول الألفة والمحبّة ، وذلك لا يحصل بمجرد الخلوة وإنّما يحصل بالجماع ، فيحمل عليه.

وثالثها : أن الإفضاء إليها لا بد وأن يكون مفسرا بفعل منه ينتهي إليه ؛ لأن كلمة «إلى» لانتهاء الغاية ، ومجرد الخلوة ليس كذلك ؛ لأن عند الخلوة المحضة لم يصل كل واحد منهما إلى الآخر فامتنع تفسير قوله : (أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ) بمجرد الخلوة.

وإن قيل : إذا اضطجعها في لحاف واحد ملامسا فقد حصل الإفضاء من بعضهم إلى بعض ؛ فوجب أن يكون ذلك كافيا وأنتم لا تقولون به.

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) ينظر : تفسير الرازي ١٠ / ١٤ ، والمحرر الوجيز ٢ / ٣٠ ، والقرطبي ٥ / ١٨.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٨ / ١٢٦) عن ابن عباس ومجاهد والسدي.

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٢٣٨) عن ابن عباس وزاد نسبته لابن المنذر وابن أبي حاتم.

وذكره أيضا عن مجاهد (٢ / ٢٣٨) وعزاه لعبد بن حميد.

(٤) ذكره أبو الليث السمرقندي في «بحر العلوم» (١ / ٣٤٢) عن الكلبي.

٢٦٨

فالجواب أنّ القائل بذلك قائلان : قائل يقول : المهر لا يتقرر إلّا بالجماع ، وآخر يقول : يتقرّر بمجرد الخلوة ولا يقول أحد إنّه يتقرر بالملامسة والمضاجعة فبطل هذا القول بالإجماع ، ولم يبق في تفسير الإفضاء إلّا أحد أمرين : إمّا الجماع ، وإمّا الخلوة ، وقد أبطلنا القول بالخلوة بما بيناه فلم يبق إلّا أن المراد بالإفضاء الجماع.

ورابعها : أنّ المهر قبل الخلوة ما كان متقرّرا ، وقد علّق الشّرع تقريره على إفضاء البعض إلى البعض ، وقد اشتبه في المراد بهذا الإفضاء هل هو الخلوة ، أو الجماع ، وإذا وقع الشكّ وجب بقاء ما كان على ما كان والأصل براءة الذمة.

احتج من قال : بأن الخلوة الصحيحة تقرر المهر وتوجب العدة دخل بها أو لم يدخل بها بما روى الدّارقطنيّ عن [ابن](١) ثوبان ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٢) : «من كشف خمار امرأة ونظر إليها وجب الصّداق» (٣) وقال عمر : إذا أغلق بابا وأرخى سترا ؛ وجب الصداق وعليها العدة ولها الميراث (٤) ، وعن علي : إذا أغلق بابا وأرخى سترا ورأى عورة فقد وجب الصداق ، وقضى الخلفاء الراشدون أنّ من أغلق بابا ، وأرخى سترا فقد وجب الصداق وعليها العدة (٥).

قوله (وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ) في منكم وجهان :

أظهرهما : أنه متعلق ب «أخذن» ، وأجاز فيه أبو البقاء أن يكون حالا من ميثاقا قدّم عليه كأنه لما رأى أنّه يجوز أن يكون صفة لو تأخر أجاز ذلك وهو ضعيف.

قال الحسن ، وابن سيرين ، والضحاك ، وقتادة ، والسدي ، وعكرمة ، والفراء : المراد بالميثاق هو قول الولي عند العقد : زوّجتكها على ما أخذ الله للنساء على الرجال من إمساك بمعروف ، أو تسريح بإحسان (٦).

وقال الشّعبيّ وعكرمة ومجاهد : في كلمة النّكاح المعقود عليها على الصداق (٧)

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) في ب قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ...

(٣) أخرجه الدارقطني (٣ / ٣٧) من طريق ابن لهيعة نا أبو الأسود عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان مرفوعا.

ومن طريقه ذكره البيهقي تعليقا (٧ / ٢٥٦) وقال : هذا منقطع وبعض رواته غير محتج بهم.

وقال الحافظ ابن حجر في «التلخيص» (٢ / ٣١٧) : رواه أبو داود في المراسيل من طريق ابن ثوبان ورجاله ثقات.

(٤) أخرجه الدارقطني (٣ / ٣٠٩) والبيهقي (٧ / ٢٥٦) عن عمر.

(٥) أخرجه البيهقي (٧ / ٢٢٥) كتاب الصداق باب : من أغلق بابا وأرخى سترا فقد وجب الصداق.

وأخرجه عبد الرزاق وابن أبي شيبة وانظر «التلخيص الحبير» (٣ / ٢١٨).

(٦) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٨ / ١٢٨) عن قتادة والسدي.

(٧) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٨ / ١٢٨ ، ١٢٩) عن مجاهد ومحمد بن كعب القرظي. ـ

٢٦٩

وقال عليه الصلاة والسلام : «اتّقوا الله في النّساء فإنّكم أخذتموهنّ بأمانة الله واستحللتم فروجهنّ بكلمة الله» (١).

وقيل المراد بالميثاق الغليظ هو : إفضاء بعضهم إلى بعض وصفه بالغلظة لعظمة ما يحدث بين الزوجين من الاتحاد والألفة والامتزاج.

قوله تعالى : (وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلاَّ ما قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَمَقْتاً وَساءَ سَبِيلاً)(٢٢)

قوله تعالى : (وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ) إلى قوله : (سَبِيلاً)(٢).

قال الأشعث بن سوّار توفي أبو قيس (٣) وكان من صالحي الأنصار فخطب ابنه امرأة أبيه فقالت إنّي أعدّك ولدا وأنت من صالحي قومك ، ولكني آتي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أستأمره ، فأتته فأخبرته فأنزل الله هذه الآية (٤).

قال ابن عباس وجمهور المفسرين (٥) : كان أهل الجاهلية يتزوجون بأزواج آبائهم فنهوا بهذه الآية (٦) عن [ذلك. قوله «ما نكح» في «ما» هذه قولان](٧) :

أحدهما : أنها موصولة اسمية واقعة على أنواع من يعقل كما تقدم في قوله (ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ) [النساء : ٣] هذا عند من لا يجيز وقوعها على آحاد العقلاء فأما من يجيز ذلك فيقول : إنها واقعة موقع من ف «ما» مفعول به بقوله (وَلا تَنْكِحُوا) والتقدير : ولا تتزوّجوا من تزوج آباؤكم (٨).

__________________

ـ وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٢٣٨) عن مجاهد وزاد نسبته لعبد بن حميد وابن أبي حاتم.

(١) أخرجه مسلم كتاب الحج ١٤٧ والترمذي (١١٦٣) وأبو داود (١٩٠٥) وابن ماجه (٣٠٧٤) وأحمد (٥ / ٧٣) والبيهقي (ذ / ٨) وفي «الأسماء والصفات» ص (١٨٣) والدارمي (٢ / ٤٨) وابن خزيمة (٢٨٠٩) وعبد الرزاق (٩٧٥٤) والطبري في «تفسيره» (٤ / ٢١٢) عن جابر بن عبد الله مرفوعا.

(٢) سقط في ب.

(٣) في ب : قبيس.

(٤) أخرجه البيهقي (٧ / ١٦١) والطبراني كما في «مجمع الزوائد» (٧ / ٦) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٢٣٩) وزاد نسبته للفريابي وابن المنذر وقال البيهقي : هذا مرسل.

وذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (٧ / ٦) وقال : رواه الطبراني عن شيخه عبد الله بن محمد بن سعيد بن أبي مريم وهو ضعيف.

(٥) ينظر : تفسير الرازي ١٠ / ١٥.

(٦) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٨ / ١٣٣) من طريق عكرمة عن ابن عباس وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٢٣٩) وزاد نسبته لابن المنذر.

(٧) سقط في أ.

(٨) في ب : آباؤكم بها.

٢٧٠

والثاني : أنّها مصدريّة أي : ولا تنكحوا مثل نكاح آبائكم الّذي كان في الجاهليّة وهو النكاح الفاسد كنكاح الشغار وغيره ، واختار هذا القول جماعة منهم ابن جرير الطبري (١) وقال : ولو كان معناه : ولا تنكحوا النساء التي نكح آباؤكم لوجب أن يكون موضع «ما» «من» انتهى. وتبين كونه حراما ، أو فاسدا من قوله (إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَمَقْتاً). قوله : (مِنَ النِّساءِ) تقدم نظيره أول السورة.

فصل [حكم نكاح مزنية الأب]

قال أبو حنيفة وأحمد : يحرم على الرجل أن يتزوج بمزنية أبيه وقال الشافعي : لا يحرم ، واحتج الأولون بهذه الآية ، لأنه تعالى نهى الرجل أن ينكح منكوحة أبيه ، والنكاح عبارة عن الوطء لوجوه :

أحدها : قوله تعالى (فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ) [البقرة : ٢٣٠] فأضاف النّكاح إلى الزّوج ، والنّكاح المضاف إلى الزّوج هو الوطء لا العقد ؛ لأن الإنسان لا يتزوج من [زوجة](٢) نفسه ؛ لأن ذلك تحصيل الحاصل ؛ ولأنّه لو كان المراد به في هذه الآية العقد لحصل التحليل بمجرد العقد وحيث لم يحصل علمنا أن المراد من النكاح في هذه الآية ليس هو العقد ، فتعين أن يكون هو الوطء ؛ لأنه لا قائل بالفرق.

وثانيها : قوله (وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ) [النساء : ٦] والمراد به الوطء لا العقد ؛ لأن أهلية العقد كانت حاصلة.

وثالثها : قوله (الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً) ولو كان المراد العقد لزم الكذب.

ورابعها : قوله عليه [الصلاة](٣) والسلام «ناكح اليد ملعون» (٤) وليس المراد العقد فثبت بهذه الوجوه أنّ النكاح عبارة عن الوطء فلزم أن يكون المراد من قوله (ما نَكَحَ آباؤُكُمْ) أي : وطئهن آباؤكم ، فيدخل فيه المنكوحة والمزنيّ بها.

فإن قيل قد ورد أيضا لفظ «النكاح» بمعنى العقد ، قال تعالى (وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ) [النور : ٣٢](فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ) [النساء : ٣]. إذا نكحتم المؤمنات.

وقال عليه [الصلاة](٥) والسلام : «ولدت من نكاح ولم أولد من سفاح» فلم كان حمل اللفظ على الوطء أولى من حمله على العقد؟

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) سقط في أ.

(٣) ذكره الشيخ علي القاري في «الأسرار المرفوعة في الأخبار الموضوعة» رقم (١٠٢٢) وقال : لا أصل له كما صرح به الرهاوي في حاشيته على المنار.

وأورده العجلوني في «كشف الخفاء» (٢ / ٤٤٩).

(٤) سقط في ب.

(٥) سقط في أ.

٢٧١

فالجواب أن لفظ «النكاح» حقيقة في الوطء مجاز في العقد. لأنّ لفظ النكاح في أصل اللغة عبارة عن الضّمّ ، ومعنى الضم حاصل في الوطء لا في العقد ، فكان حقيقة في الوطء وإنّما سمّي العقد بهذا الاسم ؛ لأنه سبب الوطء ، فيكون من باب إطلاق اسم المسبب على السبب كما أنّ العقيقة : اسم للشّعر الذي يكون على رأس الصغير حال ما يولد ثم تسمّى الشاة التي تذبح عند خلق ذلك الشّعر عقيقة [فكذا هاهنا. هذا على قول من يقول : لا يجوز استعمال اللفظ الواحد بالاعتبار الواحد في حقيقته](١) ومجازه فلا جرم نقول : المستفاد من هذه الآية حكم الوطء أمّا حكم العقد فإنّه يستفاد (٢) من دليل آخر ، فأمّا [من](٣) ذهب إلى أن اللفظ المشترك يجوز استعماله في مفهوميه معا ، فإنه يقول دلت الآية على لفظ النكاح حقيقة في الوطء ، وفي العقد معا ، فكان قوله : (وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ) نهي عن الوطء وعن العقد معا حملا للفظ على مفهوميه ولو سلمنا أنّه لا يجوز استعمال اللفظ المشترك في مفهوميه معا ، لكن ثبت بالدلائل المذكورة أنّ لفظ النكاح قد استعمل في الوطء تارة ، وفي العقد أخرى ، والقول بالاشتراك والمجاز خلاف الأصل ، فلا بدّ من جعله حقيقة في القدر المشترك بينهما ، وهو معنى الضمّ حتّى يندفع الاشتراك والمجاز ، فإذا كان كذلك كان قوله : (وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ) نهيا عن القدر المشترك بين هذين القسمين والنهي عن القدر المشترك بين القسمين يكون نهيا عن كل واحد من القسمين لا محالة ، فإنّ النهي عن التزويج يكون نهيا عن العقد ، وعن الوطء معا ، وأجيبوا عن هذا الاحتجاج بوجوه :

الأوّل : لا نسلم أنّ (٤) النكاح يقع على الوطء ، والوجوه الّتي احتجوا بها معارضة بوجوه :

الأول : قوله عليه الصلاة والسلام «النّكاح سنّتي» ولا شك أنّ الوطء من حيث كونه وطئا ليس سنة [له](٥) وإلا لزم أن يكون الوطء بالسفاح سنّة فلما ثبت أنّ النّكاح سنة ، وثبت أن الوطء ليس بسنة ثبت أنّ النكاح ليس عبارة عن الوطء وكذلك قوله عليه الصلاة والسلام : «تناكحوا تكاثروا» ولو كان الوطء مسمى بالنكاح لكان هذا إذنا في مطلق الوطء ، وكذا التمسك بقوله (وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ) [النور : ٣٢](فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ) [النساء : ٣].

لا يقال : لما وقع التعارض بين هذه الدّلائل فالترجيح معنا ، وذلك لأنّا لو قلنا الوطء مسمى بالنكاح على سبيل الحقيقة لزم دخول المجاز في دليلنا ، ومتى وقع التعارض بين المجاز والتخصيص كان التزام التخصيص أولى.

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) في ب : المستفاد.

(٣) سقط في أ.

(٤) في ب : أن اسم.

(٥) سقط في أ.

٢٧٢

لأنّا نقول : أنتم تساعدونا على أنّ لفظ النّكاح مستعمل في العقد ، فلو قلنا : إنّ النكاح حقيقة في الوطء لزم دخول التخصيص في الآيات التي ذكرناها ولزم القول بالمجاز في الآيات التي ذكر النّكاح فيها بمعنى الوطء ولا يلزمنا التخصيص فقولكم : يوجب المجاز والتخصيص معا وقولنا : يوجب المجاز فقط ، فكان (١) قولنا أولى.

الوجه الثّاني من الوجوه الدّالة على أنّ النّكاح ليس حقيقة في الوطء قوله عليه [الصلاة](٢) والسلام «ولدت من نكاح ولم أولد من سفاح» وهذا يقتضي أن لا يكون الوطء نكاحا.

الوجه الثالث (٣) : من حلف في أولاد الزنا أنهم ليسوا أولاد نكاح لم يحنث ، ولو كان الوطء نكاحا لوجب أن يحنث.

سلمنا أنّ الوطء يسمى نكاحا لكن العقد أيضا يسمى نكاحا فلم كان حمل الآية على ما [ذكرتم أولى من حملها على ما ذكرنا](٤).

وأمّا قولهم إنّ الوطء مسبب للعقد ، فكما يحسن إطلاق المسبب مجازا ، فكذا يحتمل أن يقال النّكاح اسم للعقد ثم أطلق هذا الاسم على الوطء لكون الوطء مسببا له ، فلم كان أحدهما أولى من الآخر ، بل ما ذكرناه أولى ؛ لأن استلزام السبب للمسبب (٥) أولى وأتم من استلزام المسبب للسبب المعين ، فإنّه لا يمنع حصول الحقيقة الواحدة بأسباب كثيرة كالملك ، فإنّه يحصل بالبيع والهبة والوصية والإرث ، ولا شك أنّ الملازمة شرط لجواز المجاز ، فثبت أنّ القول بأنّ اسم النّكاح حقيقة في الوطء مجاز في العقد أولى من عكسه.

والوجه الثاني : أنّه ثبت في أصول الفقه أنّه يجوز استعمال اللفظ الواحد في حقيقته ومجازه معا فحينئذ يلزم ألا تكون الآية دالة على حكم العقد ، وهذا وإن كانوا قد التزموه لكنه مدفوع بإجماع المفسرين على سبب نزول هذه الآية هو أنّهم كانوا يتزوجون بأزواج آبائهم ، وأجمع المسلمون على أنّ سبب نزول تلك الآية لا بد وأن يكون داخلا [تحت الآية ، بل اختلفوا في أنّ غيره هل يدخل تحت الآية أم لا؟ فأمّا أنّ سبب النّزول يكون](٦) داخلا فيها فذلك مجمع عليه ، وإذا ثبت أنّ سبب النزول لا بدّ وأن يكون مرادا ثبت بالإجماع أنّ النهي عن العقد مراد من هذه الآية فيكون قولهم مضاد للدليل القاطع ، فيكون مردودا.

وأمّا استدلالهم بالضم فضعيف ؛ لأنّ الضم الحاصل في الوطء عبارة عن اتحاد

__________________

(١) في ب : لكان.

(٢) سقط في أ.

(٣) ينظر : تفسير الرازي ١٠ / ١٧.

(٤) سقط في أ.

(٥) في ب : للسبب.

(٦) سقط في ب.

٢٧٣

الأجسام (١) وتلاصقها ، والضم الحاصل في العقد ليس كذلك ؛ لأنّ الإيجاب والقبول أصوات غير باقية ، فمعنى الضمّ والتّلاقي والتّجاور فيها محال ، وإذا كان كذلك فليس بين الوطء والعقد مفهوم مشترك حتى [يقال إنّ لفظ النكاح حقيقة فيه ، فإذا بطل ذلك لم يبق إلا أن يقال لفظ النكاح مشترك بين الوطء والعقد](٢) ويقال : إنه حقيقة في أحدهما مجاز في الآخر ، ويرجع الكلام إلى الوجهين الأوّلين.

الوجه الثالث : سلمنا أنّ النّكاح بمعنى الوطء ولكن لم قلتم إن قوله (ما نَكَحَ آباؤُكُمْ) المراد منه المنكوحة بل المراد منه المصدر لإجماعهم على أنّ لفظ «ما» حقيقة في غير العقلاء ، فلو كان المراد منه المنكوحة لزم هذا المجاز ، وهو خلاف الأصل ، بل أهل العربية اتفقوا على أن «ما» مع ما بعدها في تقدير المصدر فتقدير الآية : «ولا تنكحوا نكاح آباوكم» ، ويكون المراد منه النّهي عن أن ينكحوا نكاحا مثل نكاح آبائهم فإن أنكحتهم كانت بغير ولي ولا شهود ، وكانت مؤقتة ، وكانت على سبيل القهر والإلجاء ، فنهاهم الله تعالى عن مثل هذه الأنكحة بهذه الآية ؛ وهذا الوجه منقول عن ابن جرير وغيره كما تقدّم.

الوجه الرابع : سلّمنا أنّ المراد المنكوحة ، والتقدير : ولا تنكحوا ما نكح (٣) آباؤكم ، ولكن قوله (ما نَكَحَ آباؤُكُمْ) ليس صريحا في العموم بدليل أنّه يصحّ إدخال لفظ الكلّ في البعض عليه (٤) فيقال : ولا تنكحوا بعض ما نكح آباؤكم ، [ولو كان هذا صريحا في العموم لكان إدخال لفظ الكلّ عليه تكرارا ، وإدخال لفظ البعض عليه نقصا ، ومعلوم أنّه ليس كذلك ، وإذا ثبت أنه لا يفيد العموم لم يتناول محل النزاع ، لا يقال : لو لم يفد يصير مجملا غير مفيد والأصل ألا يكون كذلك ؛ لأنا نقول : لا نسلّم أن التقدير لا يفيد العموم لم يكن صرفه إلى البعض أولى من صرفه إلى غيره ، وذلك لأن المفسرين أجمعوا على أنّ سبب نزوله إنما هو التزوّج بزوجات الآباء ، فكان صرفه إلى هذا القسم أولى ، وبهذا التقرير يزول الإجمال].

الوجه الخامس : سلمنا أن هذا النهي يتناول محل النّزاع لكن لم قلتم : إنّه يفيد التحريم ، أليس أن كثيرا من أقسام النّهي لا يفيد التّحريم ، بل يفيد التنزيه ، أقصى ما في الباب أن يقال : هذا على خلاف الأصل ، ولكن يجب المصير إليه إذا دلّ الدّليل على صحّة [هذا](٥) النكاح [وسنذكره.

الوجه السادس : هب أن ما ذكرتم يدل على فساد هذا النكاح](٦) إلا أن ههنا ما يدلّ على صحّة هذا النكاح وهو من وجوه :

__________________

(١) في ب : الأقسام.

(٢) سقط في ب.

(٣) في ب : بعض من.

(٤) في الرازي يصح إدخال لفظي الكل والبعض عليه.

(٥) سقط في أ.

(٦) سقط في ب.

٢٧٤

الأوّل : هذا النّكاح منعقد ؛ فوجب أن يكون صحيحا ، بيان أنّه منعقد لأنّه منهي عنه بهذه الآية ، ومذهب (١) أبي حنيفة أنّ النّهي عن الشّيء يدلّ على كونه في نفسه منعقدا ، وهذا أصل مذهبه في مسألة البيع الفاسد وصوم يوم النّحر ، فيلزم من مجموع هاتين المقدّمتين ، أن يكون هذا النّكاح منعقدا على أصل أبي حنيفة ، وإذا كان منعقدا في هذه الصّورة ؛ وجب القول بالصّحّة ؛ لأنّه لا قائل بالفرق.

وثانيها : [أنّ](٢) قوله (وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَ) [البقرة : ٢٢١] وهذا نهي إلى غاية إيمانهنّ والحكم المدود إلى غاية ينتهي عند حصول تلك الغاية ، وإذا انتهى [المنع](٣) حصل الجواز ، فهذا يقتضي جواز إنكاحهن على الإطلاق ، ويدخل في هذا العموم مزنيّة الأب وغيرها ، أقصى ما في هذا الباب أنّ هذا العموم خصّ في مواضع ، فيبقى حجة في غير محل التخصيص ، ولذلك يستدل بجميع المعلومات الواردة في باب النكاح كقوله تعالى : (وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ) [النور : ٣٢] وقوله (فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ) [النساء : ٣] وكذلك قوله : (وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ) وليس لأحد أن يقول إن قوله (ما وَراءَ ذلِكُمْ) ضمير عائد إلى المذكور السابق ، ومن جملة المذكور السابق قوله : (وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ ،) لأن الضمير يجب عوده إلى أقرب المذكورات إليه هو قوله : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ) وكان قوله (وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ) عائدا إليه ، ولا يدخل فيه قوله (وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ) وكذلك عموم الأحاديث كقوله عليه‌السلام «إذا جاءكم من ترضون دينه فزوّجوه» (٤) وقوله

__________________

(١) في ب : ومن مذهب.

(٢) سقط في ب.

(٣) سقط في أ.

(٤) ورد هذا الحديث عن أبي حاتم المزني وأبي هريرة وابن عمر. حديث أبي حاتم :

أخرجه الترمذي (١ / ٢٠١) والبيهقي (٧ / ٨٢) والدولابي في «الكنى» (١ / ٢٥).

وقال الترمذي : حديث حسن غريب وأبو حاتم المزني له صحبة ولا نعرف له عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم غير هذا الحديث.

حديث أبي هريرة :

أخرجه الترمذي ١ / ٢٠١) وابن ماجه (١٩٦٧) والحاكم (٢ / ١٦٤ ـ ١٦٥) والخطيب في «تاريخ بغداد» (١١ / ٦١) من طريق عبد الحميد بن سليمان عن محمد بن عجلان عن ابن وثيمة البصري عن أبي هريرة مرفوعا.

وقال الحاكم : صحيح الإسناد.

وتعقبه الذهبي بقوله : قلت : عبد الحميد قال أبو داود : غير ثقة وابن وثيمة لا يعرف.

حديث ابن عمر يرويه عمار بن مطر ثنا مالك عن نافع عن ابن عمر مرفوعا أخرجه ابن عدي في «الكامل» (٥ / ٧٣) والدولابي في «الكنى» (٢ / ٢٧) وقال الدولابي : قال أبو عبد الرحمن ـ النسائي ـ : هذا كذب وقال ابن عدي : هذا الحديث بهذا الإسناد باطل ليس بمحفوظ عن مالك وعمار بن مطر الضعف على رواياته بيّن.

٢٧٥

«زوجوا بناتكم [الأكفاء](١)» وهذه العمومات تتناول محل النزاع ، والترجيح يكون بكثرة الأدلة ، وبتقدير أن يثبت (٢) لهم أن النكاح حقيقة في الوطء مجاز في العقد ، فيكون حملنا الآية على العقد لم يلزمنا إلّا مجاز واحد ، وبتقدير أن تحمل تلك الآية على حرمة الوطء تلزمنا هذه التخصيصات الكثيرة ، فكان الترجيح من جانبنا لكثرة الدلائل.

وثالثها : الحديث المشهور وهو قوله عليه‌السلام «الحرام لا يحرم الحلال» أقصى ما في هذا الباب أن يقال : إن قطرة من الخمر إذا وقعت في كوز ماء ، فههنا الحرام حرّم الحلال ، [وإذا اختلطت المنكوحة بالأجنبيات واشتبهت بهن فههنا الحرام حرم الحلال](٣) إلا أنّا نقول : دخل التخصيص فيه في بعض الصور ، ولا يمنع من الاستدلال به.

ورابعها : أن يقول : المقتضي لجواز النّكاح قائم ، والفارق بين محلّ الإجماع وبين محلّ النّزاع ظاهر ؛ فوجب القول بالجواز أمّا المقتضي فهو أن يقيس نكاح هذه المرأة على نكاح سائر النّسوان عند حصول الشّرائط المتفق عليها ؛ بجامع ما في النّكاح من المصالح ، وأمّا الفارق : فهو أنّ هذه الحرمة إنّما حكم الشّارع بثبوتها سعيا في إبقاء الوصلة الحاصلة بسبب النكاح ، ومعلوم أنّ هذا لا يليق بالزّنا.

بيان المقام الأول : من تزوج بامرأة فلم يدخل على المرأة أبو الرجل وابنه ، ولم تدخل على الرجل أم المرأة وبنتها ، لبقيت المرأة كالمحبوسة في البيت ، ولتعطل (٤) على الزوج والزوجة أكثر المصالح ، ولو أذنّا في هذا الدخول ، ولم نحكم بالمحرمية فربما امتد عين البعض إلى البعض ، وحصل الميل والرغبة ، وعند حصول التزوج بأمها وابنتها تحصل النفرة الشديدة بينهن ؛ لأنّ صدور الإيذاء عن الأقارب أقوى وقعا ، وأشد إيلاما وتأثيرا ، وعند حصول النفرة الشّديدة يحصل التّطليق والفراق ، أمّا إذا حصلت المحرمية انقطعت الأطماع وانحبست الشهوة ، فلا يحصل ذلك الضرر فيبقى النكاح بين الزّوجين سليما عن هذه المفسدة ، فثبت أن المقصود من حكم الشّرع بهذه المحرمية السعي في تقرير الاتصال الحاصل بين الزّوجين ، وإذا كان المقصود من المحرميّة ابقاء ذلك الاتّصال ، فمعلوم أن الاتصال الحاصل عند النكاح مطلوب البقاء ، فناسب حكم الشرع بإثبات هذه المحرمية [وأما الاتصال الحاصل بالزنا فهو غير مطلوب البقاء ، فلم يتناسب](٥) حكم الشرع بإثبات هذه المحرمية ، وهذا وجه مقبول.

قوله (إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ) في هذا الاستثناء قولان :

أحدهما : أنه منقطع ؛ إذ الماضي لا يجامع الاستقبال ، والمعنى أنّه لما حرّم عليهم نكاح ما نكح آباؤهم [من النّساء](٦) تطرق الوهم إلى ما مضى في الجاهليّة ما حكمه؟

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) في ب : ثبت.

(٣) سقط في ب.

(٤) في ب : والتعطيل.

(٥) سقط في أ.

(٦) سقط في ب.

٢٧٦

فقيل : إلّا ما قد سلف أي لكن ما سلف ، فلا إثم عليه.

وقال ابن زيد في معنى ذلك أيضا : إنّ المراد بالنّكاح العقد الصّحيح ، وحمل (إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ) على ما كان يتعاطاه بعضهم من الزّنا [فقال : إلا ما سلف من الآباء في الجاهلية من الزنا](١) بالنّساء ، فذلك جائز لكم زواجهم في الإسلام ، وكأنّه قيل : ولا تعقدوا على من عقد آباؤكم عليه إلّا ما قد سلف من زناهم ، فإنّه يجوز لكم أن تتزوّجوهم ، فهو استثناء منقطع أيضا.

والثاني : أنّه استثناء متّصل وفيه معنيان :

أحدهما : أن يحمل النّكاح على الوطء ، والمعنى : أنّه نهى أن يطأ الرّجل امرأة وطئها أبوه ، إلا ما قد سلف من الأب في الجاهليّة من الزّنا بالمرأة ، فإنّه يجوز للابن تزويجها نقل هذا المعنى عن ابن زيد أيضا إلّا أنّه لا بدّ من التّخصيص [أيضا](٢) في شيئين :

أحدهما : قوله : (وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ)(٣) أي : ولا تطئوا وطئا مباحا بالتّزويج.

والثّاني : التّخصيص في قوله : (إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ) بوطء الزّنا وإلا فالوطء فيما قد سلف قد يكون [وطئا](٤) غير زنا ، وقد يكون زنا فيصير التقدير : ولا تطئوا ما وطىء آباؤكم وطئا مباحا بالتزويج إلّا من كان وطؤها فيما مضى وطء زنا في الجاهليّة.

والمعنى الثّاني : ولا تنكحوا مثل نكاح آبائكم في الجاهلّية إلّا ما تقدّم منكم من تلك العقود الفاسدة فيباح لكم الإقامة عليها في الإسلام ، إذا كان ممّا يقرر الإسلام عليه ، وهذا على رأي من يجعل «ما» مصدريّة ، وقد تقدّم مثل ذلك. وقال الزّمخشريّ (٥) : فإن قلت : كيف استثنى (ما قَدْ سَلَفَ) مما نكح آباؤكم؟ قلت : كما استثنى «غير أن سيوفهم» من قوله «ولا عيب فيهم» يعني : إن أمكنكم أن تنكحوا ما قد سلف فانكحوه ، فلا يحل لكم غيره ، وذلك غير ممكن ، والغرض المبالغة في تحريمه ، وسدّ الطريق إلى إباحته كما تعلّق بالمحال في التأبيد في نحو قولهم : «حتى يبيضّ القار» و (حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ) [الأعراف : ٤٠] انتهى.

أشار رحمه‌الله إلى بيت النّابغة في قوله : [الطويل]

١٧٧٢ ـ ولا عيب فيهم غير أنّ سيوفهم

بهنّ فلول من قراع الكتائب (٦)

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) سقط في ب.

(٣) سقط في ب.

(٤) سقط في أ.

(٥) ينظر : الكشاف ١ / ٤٩٣.

(٦) ينظر البيت في ديوانه (٤٤) شرح شواهد المغني ص ٣٤٩ ، وخزانة الأدب ٣ / ٣٢٧ ، ٣٣١ ، ٣٣٤ ، والدرر ٣ / ١٧٣ ، والأزهية ص ١٨٠ ، وإصلاح المنطق ص ٢٤ وهمع الهوامع ١ / ٢٣٢ ، مغني اللبيب ص ١١٤ ، لسان العرب (قرع) ، والصاحبي في فقه اللغة ص ٢٦٧ والدر المصون ٢ / ٣٣٩.

٢٧٧

يعني إن وجد فيهم عيبا فهو هذا ، وهذا لا يعدّه أحد عيبا فانتفى العيب عنهم بدليل ، ولكن هل الاستثناء على هذا المعنى الّذي أبداه الزّمخشريّ ، من قبيل المنقطع ، أو المتصل؟ والحقّ أنّه متصل لأن المعنى : ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم [إلا](١) اللاتي مضين وفنين ، وهذا محال ، وكونه محالا لا (٢) يخرجه عن الاتّصال ، وأمّا البيت ففيه نظر ؛ والظّاهر أنّ الاستثناء فيه متصل أيضا لأنه جعل العيب شاملا لقوله : «غير أن سيوفهم [بهن فلول من قراع](٣)» بالمعنى الّذي أراده وللبحث فيه مجال ، فتلخّص (٤) ممّا تقدّم أنّ المراد بالنّكاح في هذه الآية العقد الصّحيح ، أو الفاسد أو الوطء ، أو يراد بالأوّل العقد ، وبالثّاني الوطء وقد تقدّم الكلام على ذلك في البقرة. وزعم بعضهم أنّ في الآية تقديما وتأخيرا ، والأصل : «ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إنه كان فاحشة ومقتا وساء سبيلا إلا ما قد سلف» ، وهذا فاسد من حيث الإعراب ومن حيث المعنى ، أمّا الأوّل فلأنّ ما في حيز «إن» لا يتقدّم عليها ، وأيضا فالمستثنى يتقدّم على الجملة الّتي هو من متعلّقاتها سواء كان متّصلا أو منقطعا وإن كان في هذا خلاف ضعيف.

وأمّا الثّاني فلأنّه أخبر أنه فاحشة ومقت في الزّمان الماضي [بقوله «كان» ، فلا يصحّ أن يستثنى منه الماضي ؛ إذ يصير المعنى هو فاحشة في الزّمان الماضي](٥) إلا ما وقع منه في الزّمان الماضي فليس بفاحشة. وقيل : إن «إلا» هاهنا بمعنى «بعد» كقوله تعالى (لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى وَوَقاهُمْ)(٦) [الدخان : ٥٦] أي بعد الموتة الأولى وقيل (إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ) قيل نزول آية التحرير وقيل (إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ) فإنكم مقرون عليه ، قالوا : لأنّه عليه‌السلام أقرّ بما عليهنّ مدة ثم أمر بمفارقتهن وإنّما فعل ذلك ليكون إخراجهم عن العادة الرّدئية على سبيل التّدرّج.

وقيل : إنّ هذا خطأ ؛ لأنّه عليه‌السلام ما أقرّ أحدا على نكاح امرأة أبيه ، وإن كان في الجاهليّة ، لما روى البراء بن عازب قال : مرّ بي خالي أبو بردة [ابن نيار](٧) ومعه لواء قلت أين تذهب؟ قال : بعثني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى رجل تزوّج امرأة أبيه من بعده آتيه برأسه وآخذ ماله (٨).

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) في ب : لم.

(٣) سقط في ب.

(٤) في أ : فيخلص.

(٥) سقط في أ.

(٦) سقط في ب.

(٧) سقط في ب.

(٨) أخرجه الترمذي (١ / ٢٥٥) وابن ماجه (٢٦٠٧) والطحاوي في «شرح معاني الآثار» (٢ / ٨٥) وابن أبي شيبة (١١ / ٨٧) والبيهقي (٨ / ٢٣٧) وأحمد (٢٩٢٤) من طريق أشعث بن سوار عن عدي بن ثابت عن البراء بن عازب.

وقال الترمذي : حديث غريب.

٢٧٨

فصل

قال القرطبيّ (١) ، وقد كان في العرب قبائل [قد اعتادت](٢) أن يخلف [ابن](٣) الرّجل على امرأة أبيه ، وكانت هذه السّيرة في الأنصار لازمة ، وكانت في قريش مباحة مع التّراضي ، ألا ترى أنّ عمرو بن أميّة خلف على امرأة أبيه بعد موته فولدت له مسافرا وأبا معيط ، وكان لها من أمية أبو العيص وغيره ؛ فكان بنو أمية إخوة [مسافر وأبي معيط](٤) وأعمامهما ، وأيضا صفوان بن أميّة تزوّج بعد أبيه امرأته ، فاختة بنت الأسود بن المطلب بن أسد ، وكان أميّة قتل عنها ومن ذلك منظور بن زبّان (٥) خلف على مليكة بنت خارجة ، وكان تحت أبيه زبّان بن سيار ومن ذلك حصن بن أبي قيس تزوّج امرأة أبيه [كبيشة](٦) بنت معن ، والأسود بن خلف تزوّج امرأة أبيه.

قوله : (إِنَّهُ) إن هذا الضمير يعود على النّكاح المفهوم من قوله : (وَلا تَنْكِحُوا) ويجوز أن يعود على الزّنا إذا أريد بقوله (إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ) من الزّنا و «كان» هنا تدلّ على الماضي فقط ؛ لأنّ معناها هنا : لم يزل (٧) ، أي في حكم الله وعلمه موصوفا بهذا الوصف ، وهذا المعنى هو الذي حمل المبرد على قوله : «إنها زائدة» ، وردّ عليه [أبو حيّان](٨) بوجود الخبر والزّائدة لا خبر لها ، وكأنه يعني بزيادتها ما ذكرناه من قوله لا تدلّ على الماضي فقط ، فعبّر عن ذلك بالزّيادة.

فصل

وصف تعالى هذا النّكاح بأمور ثلاثة :

الأوّل : أنّه فاحشة ، والفاحشة أقبح المعاصي ، وذلك أنّ زوجة [الأب](٩) تشبه الأمّ ، فكان مباشرتها من أفحش الفواحش لأنّ نكاح الأمّهات من أقبح الأشياء عند العرب قال أبو العبّاس (١٠) سألت ابن الأعرابي عن نكاح المقت فقال : هو أن يتزوج الرّجل امرأة أبيه إذا طلّقها أو مات عنها ويقال لهذا الرّجل : الضّيزن وقال ابن عرفة (١١) : كانت العرب إذا تزوّج الرّجل امرأة أبيه فأولدها ، قيل للولد : المقتيّ.

والثّاني : المقت هو بغض مقرون باستحقار ، فهو أخصّ منه ، وهو من الله تعالى في حقّ العبد يدلّ على غاية الخزي والخسار ، وكان لذلك أخص قبل النّهي منكرا في

__________________

(١) ينظر : تفسير القرطبي ٥ / ٦٨ ، ٦٩.

(٢) بياض في ب.

(٣) سقط في أ.

(٤) في ب : معيط وأبو مسافر.

(٥) في ب : ريان.

(٦) سقط في أ.

(٧) في ب : معنى لم يزل.

(٨) سقط في ب.

(٩) سقط في ب.

(١٠) ينظر : تفسير القرطبي ٩ / ٦٩.

(١١) ينظر : المصدر السابق.

٢٧٩

قلوبهم ، ممقوتا عندهم ، وكانت العرب تقول لولد الرّجل من امرأة أبيه : «مقيت» وكان منهم الأشعث بن قيس ، أبو معيط بن أبي عمرو (١) بن أمية.

والثّالث : قوله : (وَساءَ سَبِيلاً) وأعلم أنّ مراتب القبح ثلاثة :

القبح العقليّ ، والقبح الشّرعيّ ، والقبح العاديّ ، فقوله : «فاحشة» إشارة إلى القبح العقلي ، وقوله (وَمَقْتاً) إشارة إلى القبح الشّرعي ، وقوله (وَساءَ سَبِيلاً) إشارة إلى القبح في العرف والعادة ، ومن اجتمع فيه هذه الوجوه فقد بلغ الغاية في القبح.

قوله (وَساءَ سَبِيلاً) في «ساء» قولان :

أحدهما : أنها جارية مجرى بئس في الذّمّ والعمل ، ففيها ضمير مبهم يفسّره ما بعده وهو (سَبِيلاً) والمخصوص بالذّمّ محذوف تقديره «وساء سبيل هذا النكاح» كقوله : «بئس الشراب» أي : ذلك الماء.

قال اللّيث (٢) : «ساء» فعل لازم وفاعله [مضمر ، و](٣) «سبيلا» منصوب تفسيرا لذلك الفاعل المحذوف كما قال (وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً) [النساء : ٦٩].

الثاني : أنّها لا تجري مجرى بئس في العمل ، بل هي كسائر الأفعال ، فيكون فيها (٤) ضمير يعود على ما عاد عليه الضّمير في (إِنَّهُ ؛) و (سَبِيلاً) على كلا التّقديرين تمييز وفي هذه الجملة وجهان:

أحدهما : أنها لا محل لها من الإعراب بل هي مستأنفة ويكون الوقف على قوله : ومقتا ، ثم يستأنف (وَساءَ سَبِيلاً) أي : وساء هذا السّبيل من نكاح من نكحهن من الآباء.

والثاني : أن يكون معطوفا على خبر كان ، على أنّه يجعل محكيا بقول مضمر ، ذلك القول هو المعطوف على الخبر ، والتقدير : ومقولا فيه (وَساءَ سَبِيلاً) فهكذا قدّره أبو البقاء (٥). ولقائل أن يقول يجوز أن يكون عطفا على خبر كان من غير إضمار قول ؛ لأنّ هذه الجملة في قوة المفرد ، ألا ترى أنه يقع خبرا بنفسه ، بقول : زيد ساء رجلا ، فغاية ما في الباب أنّك أتيت بأخبار كان أحدها مفرد والآخر جملة ، اللهمّ إلّا أن يقال : إنّ هذه الجملة إنشائيّة ، والإنشائيّة لا تقع خبرا ل «كان» فاحتاج إلى إضمار القول ، وفيه بحث.

قوله تعالى : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ وَأَخَواتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخالاتُكُمْ وَبَناتُ الْأَخِ وَبَناتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَواتُكُمْ مِنَ

__________________

(١) في ب : أبي عمر.

(٢) ينظر : تفسير الرازي ١٠ / ٢١.

(٣) سقط في أ.

(٤) في ب : اسمها.

(٥) ينظر : الإملاء ١ / ١٧٣.

(١) في ب : أبي عمر.

٢٨٠