اللّباب في علوم الكتاب - ج ٦

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ٦

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٦٣٢

قال أبو مسلم (١) : يدلّ على صحّة ما ذكرنا قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إذا أتى الرّجل الرّجل فهما زانيان ، وإذا أتت المرأة المرأة فهما زانيتان». واحتجّوا على إبطال كلام أبي مسلم بوجوه :

الأوّل : أنّ هذا قول لم يقله أحد من المفسّرين المتقدّمين.

الثّاني : أنّه روي في الحديث أنّه عليه‌السلام قال : «قد جعل الله لهنّ سبيلا الثّيّب ترجم والبكر تجلد» (٢) وهذا يدلّ على أنّ هذه الآية نازلة في حقّ الزّناة.

الثّالث : أنّ الصحابة اختلفوا في حكم اللّواط ، ولم يتمسّك أحد منهم بهذه الآية ، فعدم تمسكهم بها مع شدّة احتياجهم إلى نصّ يدلّ على هذا الحكم من أقوى الدّلائل على أنّ هذه الآية ليست في اللواطة.

وأجاب أبو مسلم عن الأوّل بأنّ هذا الإجماع ممنوع ، فلقد قال بهذا القول مجاهد ، وهو من أكابر المفسرين ، وقد ثبت في أصول الفقه أنّ استنباط تأويل (٣) جديد في الآية لم يذكره المتقدمون جائز.

والجواب عن الثّاني أنّ هذا يفضي إلى نسخ القرآن بخبر الواحد ، وإنّه غير جائز.

وعن الثّالث أن مطلوب الصّحابة أنّه هل يقام الحدّ على اللوطي ، وليس في هذه الآية دلالة على نفي ولا إثبات فلهذا لم يرجعوا إليها.

فصل

المراد من قوله (مِنْ نِسائِكُمْ) أي : زوجاتكم لقوله : (وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ) [المجادلة : ٣] وقوله : (فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَ) [النساء : ٢٣] [من نسائكم](٤) وقيل : أي : من الثيب. وقوله : «فأمسكوهن» أي احبسوهنّ في بيوتكم ، والحكمة فيه أنّ المرأة إنّما تقع في الزّنا عند الخروج والبروز ، فإذا حبست في البيت لم تقدر على الزّنا ، وتعتاد العفاف عن الزّنا.

قال عبادة بن الصّامت والحسن ومجاهد (٥) : كان هذا في ابتداء الإسلام حتى نسخ بالأذى الّذي بعده ، ثمّ نسخ ذلك بالرّجم في الثيّب.

__________________

(١) ينظر : تفسير الرازي ٩ / ١٨٧.

(٢) أخرجه مسلم (٢ / ٣٣) وأحمد (٥ / ٣١٣) وأبو داود (٤٤١٦) والترمذي (٢ / ٢٤٢) والدارمي (٢ / ١٨١) والبيهقي (٨ / ٢٢١ ـ ٢٢) والطبري في «تفسيره» (٨ / ٧٨) وابن الجارود في «المنتقى» (٣٧١) والطحاوي في «شرح معاني الآثار» (٢ / ٧٩) والنحاس في الناسخ والمنسوخ ص ٩٧. عن عبادة بن الصامت.

(٣) في أ : بيان.

(٤) سقط في أ.

(٥) ينظر : تفسير القرطبي ٥ / ٥٦.

٢٤١

وقيل : بل كان الإيذاء أولا ثمّ نسخ بالإمساك ، ولكنّ التلاوة أخرت.

وقال ابن فورك : هذا الإمساك والحبس في البيوت كان في صدر الإسلام قبل أن يكثر الجناة. فلما كثروا وخشي قوتهم اتخذوا لهم سجنا ، قاله ابن العربي (١) فإن قيل : التوفي والموت بمعنى واحد ، فيصير التّقدير : أو يميتهن الموت.

فالجواب ، يجوز أن يريد يتوفاهن ملائكة الموت لقوله (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي) [النحل : ٢٨] أو حتّى يأخذهن الموت.

فإن قيل : إنكم تفسّرون قوله تعالى : (أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً) الثّيّب ترجم والبكر تجلد ، وهذا بعيد ؛ لأنّ هذا السبيل عليها لا لها ، فإنّ الرّجم أغلظ من الحبس.

فالجواب : أنّ النّبي ـ عليه‌السلام ـ فسر السّبيل بذلك في قوله : «خذوا عني خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا ، الثّيّب بالثّيب جلد مائة ورجم بالحجارة ، والبكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام» فلما فسّر الرسول عليه‌السلام السبيل بذلك وجب القطع بصحّته.

وأيضا فله وجه في اللّغة ، لأنّ المخلص من الشّيء هو سبيله ، سواء كان أخفّ أو أثقل.

قوله : (حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ) «حتّى» بمعنى «إلى» فالفعل بعدها منصوب بإضمار «أن» وهي متعلقة بقوله (فَأَمْسِكُوهُنَّ) غاية له.

وقوله : (أَوْ يَجْعَلَ اللهُ) فيه وجهان :

أحدهما : أن تكون «أو» عاطفة ، فيكون الجعل غاية لإمساكهن أيضا ، فينتصب «يجعل» بالعطف على (يَتَوَفَّاهُنَّ).

والثّاني : أن تكون «أو» بمعنى «إلّا» كالّتي في قولهم : «لألزمنك أو تقضيني حقي» على أحد المعنيين ، والفعل بعدها منصوب أيضا بإضمار «أن» كقوله : [الطويل]

١٧٧٠ ـ فسر في بلاد الله والتمس الغنى

تعش ذا يسار أو تموت فتعذرا (٢)

أي : إلا أن تموت ، والفرق بين هذا الوجه والّذي قبله أنّ الجعل ليس غاية لإمساكهنّ في البيوت.

قوله : (لَهُنَ) فيه وجهان :

أظهرهما : أنّه متعلّق ب (يَجْعَلَ).

__________________

(١) ينظر : تفسير القرطبي ٥ / ٥٦.

(٢) البيت لعروة بن الورد ينظر ديوانه ص ٨٩ ، ولأبي عطاء السندي في الأغاني ١٧ / ٢٤٤ ، ولربيعة في العقد الفريد ٣ / ٣١ ، ورصف المباني ص ١٣٣ ، والمقرب ١ / ٦٣ ، وشرح الجمل لابن عصفور ٢ / ١٥٦ والدر المصون ٢ / ٣٣١.

٢٤٢

والثّاني : أنّه متعلّق بمحذوف ، لأنّه حال من (سَبِيلاً) إذ (١) هو في الأصل صفة نكرة قدّم عليها فنصب حالا ، هذا إن جعل الجعل بمعنى الشّرع أو الخلق ، وإن جعل بمعنى التصيير ، فيكون (لَهُنَ) مفعولا ثانيا قدّم على الأوّل وهو (سَبِيلاً ،) وتقديمه هنا واجب ؛ لأنهما لو انحلّا لمبتدأ وخبر وجب تقديم هذا الخبر لكونه جارّا ، والمبتدأ نكرة لا مسوغ لها غير ذلك.

فصل

روي عن علي أنّه جلد شراحة الهمدانية يوم الخميس مائة ثمّ رجمها يوم الجمعة ، وقال : جلدتها بكتاب الله ورجمتها بسنّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٢) وعامّة العلماء على أنّ الثّيّب لا تجلد مع الرّجم ؛ لأنّ النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم رجم ماعزا والغامدية (٣) ولم يجلدهما (٤) ، وقال : «يا أنيس (٥) امض إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها» (٦) ولم يأمره بالجلد ، وعند أبي حنيفة التّغريب أيضا منسوخ في حقّ البكر ، وأكثر أهل العلم على أنّه ثابت ، وروى نافع عن ابن عمر أنّ النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ضرب وغرّب وأن أبا بكر ضرب وغرّب (٧).

__________________

(١) في أ : أو.

(٢) أخرجه البخاري (٤ / ٣٠٠) كتاب الحدود وأحمد (١ / ١٠٧) والطحاوي في «شرح معاني الآثار» (٢ / ٨١) من طريق الشعبي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه.

(٣) في أ : والعامرية.

(٤) أخرجه البخاري (٤ / ٣٠١ ، ٣٠٣ ـ ٣٠٤) ومسلم (٥ / ١١٦) والبيهقي (٨ / ٢١٩) وأحمد (٢ / ٤٥٣) من طريق ابن شهاب عن أبي سلمة وسعيد بن المسيب عن أبي هريرة.

وأخرجه الترمذي (١ / ٢٦٨) وابن ماجه (٢٥٥٤) والحاكم (٤ / ٣٦٣) وأحمد (٢ / ٢٨٦ ـ ٢٨٧ ، ٤٥٠) من طريق محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة وقال الترمذي : حديث حسن.

وقال الحاكم : صحيح على شرط مسلم ووافقه الذهبي.

وللحديث شاهد عن جابر بنحو حديث أبي هريرة :

أخرجه البخاري (٤ / ٣٠١ ، ٣٠٢) ومسلم (٥ / ١١٧) وأبو داود (٤٤٣٠) والترمذي (١ / ٢٦٨) والدارمي (٢ / ٢٧٦) وابن الجارود (٨١٣) وأحمد (٣ / ٣٢٣) من طريق أبي سلمة عن جابر رضي الله عنه.

حديث رجم الغامدية :

أخرجه مسلم (٥ / ١١٩ ـ ١٢٠) وأبو داود (٤٤٣٣ ، ٤٤٤٢) وأحمد (٥ / ٣٤٧ ـ ٣٤٨) والدارقطني (٣٢٧) عن بريدة بن الحصيب وقال الدارقطني : حسن صحيح.

(٥) في ب : لأنيس.

(٦) أخرجه البخاري (٣ / ٢٠٦) كتاب الوكالة باب الوكالة في الحدود حديث (٢٣١٤ ، ٢٣١٥) ومسلم (٥ / ١٢١) ومالك في «الموطأ» (٢ / ٨٢٢) والشافعي (١٤٨٩) وأبو داود (٤٤٤٥) والنسائي (٢ / ٣٠٩) والترمذي (١ / ٢٦٩) والدارمي (٢ / ١٧٧) وابن ماجه (٢٥٤٩) وابن الجارود (٨١١) وأحمد (٤ / ١١٥ ، ١١٦) عن أبي هريرة وزيد بن خالد وقال الترمذي : حديث حسن صحيح.

(٧) أخرجه الترمذي (١ / ٢٧١) والبيهقي (٨ / ٢٢٣) من طرق عن عبد الله بن إدريس عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر.

وقال الترمذي : حديث غريب.

٢٤٣

واختلفوا في الإمساك في البيت هل كان حدا فنسخ أم كان حبسا ليظهر الحدّ؟ على قولين : فقيل : هو توعد بالحد.

وقال ابن عبّاس والحسن : إنّه (١) حدّ ، وزاد ابن زيد أنّهم منعوا من النّكاح حتّى يموتوا عقوبة لهم ، لأنّهم طلبوا النكاح من غير وجهه ، وهذا يدلّ على أنّه كان حدّا ، بل أشد غير أنّ ذلك الحكم ثابت محدود إلى غاية ، وهو الأذى في الآية الأخرى على اختلاف التأوليين في أيّهما قبل ، وكلاهما ممدود إلى غاية ، وهو قوله عليه‌السلام : «خذوا عنّي خذوا عنّي قد جعل الله لهنّ سبيلا» الحديث وهذا كقوله تعالى : (ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ) [البقرة : ١٨٧] فإذا جاء اللّيل ارتفع حكم الصّيام إلى غايته لا لنسخه ، هذا قول المحقّقين المتأخّرين ، فإن النّسخ إنّما يكون بين القولين المتعارضين اللّذين لا يمكن الجمع بينهما والجمع ممكن بين الحبس والتّغريب والجلد والرّجم.

وقد قال بعض العلماء : إن الأذى والتغريب (٢) باق مع الجلد ؛ لأنّهما لا يتعارضان فيحملان على شخص واحد فأمّا الحبس فمنسوخ بالإجماع ، وإطلاق المتقدمين النّسخ على مثل هذا لا يجوز.

[وقيل : إن المراد بقوله تعالى : (فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً) المراد أن يحبس كل من الرجل والمرأة في مكانه حتى يدركهن الأجل بالموت ، أو يتبين الحمل فيجري عليهما حينئذ القصاص انتهى. والله أعلم](٣).

قوله تعالى : (وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما فَإِنْ تابا وَأَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما إِنَّ اللهَ كانَ تَوَّاباً رَحِيماً)(١٦)](٤)

(وَالَّذانِ) الكلام عليه كالكلام على «اللاتي» إلّا أن في كلام أبي البقاء ما يوهم جواز الاشتغال فيه فإنه قال : الكلام في «اللذان» كالكلام في «اللاتي» إلّا أنّ من أجاز النّصب يصحّ أن يقدّر فعلا من جنس المذكور ، تقديره : آذوا اللذين ولا يجوز أن يعمل ما بعد الفاء فيما قبلها هاهنا ، ولو عري من الضّمير ، لأنّ الفاء هنا في حكم الفاء الواقعة في جواب الشرط ، وتلك يقطع ما بعدها عما قبلها ، فقوله : «من أجاز النصب» يحتمل من أجاز النّصب المتقدّم في «اللاتي» بإضمار فعل لا على سبيل الاشتغال كما قدّره هو بنحو «اقصدوا» ويحتمل من أجاز النّصب على الاشتغال من حيث الجملة ، إلّا أن هذا بعيد ؛ لأنّ الآيتين من واد واحد ، فلا يظنّ به أنّه يمنع في إحداهما ويجيز في الأخرى ، ولا ينفع كون الآية الأولى فيها الفعل الذي يفسّر متعدّ بحرف جرّ والفعل الّذي في هذه

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٨ / ٧٤).

(٢) في ب : والتغير.

(٣) سقط في أ.

(٤) سقط في ب.

٢٤٤

الآية متعدّ بنفسه ، فيكون أقوى ، إذ لا أثر لذلك في باب الاشتغال. والضمير المنصوب في «يأتيانها» للفاحشة.

وقرأ عبد الله (١) «يأتين بالفاحشة» ، أي : يجئن ، ومعنى قراءة الجمهور «يغشينها (٢) ويخالطنها».

وقرأ الجمهور «واللذان» بتخفيف النّون.

وقرأ ابن كثير (٣) «واللذانّ» هنا «واللذينّ» في السجدة [آية ٢٩] بتشديد النون ، ووجهها (٤) جعل إحدى النونين عوضا من الياء المحذوفة الّتي كان ينبغي أن تبقى ، وذلك أن «الّذي» مثل «القاضي» ، و «القاضي» تثبت ياؤه في التثنية فكان حقّ [«ياء»](٥) «الّذي» و «الّتي» أن تثبت في التثنية ، ولكنهم حذفوها ، إمّا لأنّ هذه تثنية على غير القياس ؛ لأنّ المبهمات لا تثنّى حقيقة ، إذ لا يثنى إلا ما ينكّر ، والمبهمات لا تنكر ، فجعلوا الحذف منبهة (٦) على هذا ، وإمّا لطول الكلام بالصّلة.

وزعم ابن عصفور أنّ تشديد النّون لا يجوز إلّا مع الألف كهذه الآية ، ولا يجوز مع الياء في الجرّ والنّصب.

وقراءة ابن كثير في «حم» السجدة (أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانا) [فصلت : ٢٩] حجة عليه.

قال ابن مقسم (٧) : إنّما شدّد ابن كثير هذه النّونات لأمرين :

أحدهما : الفرق بين تثنية الأسماء المتمكنة وغير المتمكنة ، والآخر : أن «الّذي وهذا» مبنيان على حرف واحد وهو الذّال ، فأرادوا تقوية (٨) كل واحد منهما ، بأن (٩) زادوا على نونها نونا أخرى من جنسها.

وقيل : سبب التّشديد فيها أنّ النون فيها ليست نون التّثنية فأرادوا أن يفرّقوا بينها وبين نون التثنية.

وقيل : زادوا النّون تأكيدا كما زادوا اللام.

وقرىء (١٠) «اللّذأنّ» بهمزة (١١) وتشديد النون ، ووجهها أنه لمّا شدّد النون التقى ساكنان ، ففرّ من ذلك بإبدال الألف همزة ، وقد تقدّم تحقيق ذلك في الفاتحة [الآية : ٧].

__________________

(١) انظر : المحرر الوجيز ٢ / ٢١ ، والبحر المحيط ٣ / ٢٠٥.

(٢) في ب : يغشاها.

(٣) انظر : الحجة ٣ / ١٤١ ، وحجة القراءات ١٩٣ ، ـ ١٩٥ ، والعنوان ٨٣ ، وإعراب القراءات ١ / ١٣٠ ، وشرح شعلة ٣٣٥ ، وشرح الطيبة ٤ / ١٩٧ ، وإتحاف ١ / ٥٠٦.

(٤) في ب : توجيها.

(٥) سقط في ب.

(٦) في ب : مبهما.

(٧) ينظر : تفسير الرازي ٩ / ١٩٠.

(٨) في أ : تقويته.

(٩) في أ : فإن

(١٠) في أ : وقرأ.

(١١) انظر : البحر المحيط ٣ / ٢٠٧ ، والدر المصون ٢ / ٣٣٢.

٢٤٥

وقرأ عبد (١) الله : «والذين يفعلونه منكم» وهذه قراءة مشكلة ؛ لأنّها بصيغة الجمع ، وبعدها ضمير تثنية وقد يتكلّف تخريج لها ، وهو أنّ «الذين» لمّا كان شاملا لصنفي (٢) الذّكور والإناث عاد الضّمير عليه مثنى اعتبارا (٣) بما اندرج تحته ، وهذا كما عاد ضمير الجمع على المثنّى الشّامل لأفراد كثيرة مندرجة تحته ، كقوله تعالى : (وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا) [الحجرات : ٩] ، و (هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا) [الحج : ١٩] كذا قاله أبو حيان.

قال شهاب الدّين : وفيه نظر ، فإنّ الفرق ثابت ، وذلك لأن «الطّائفة» اسم لجماعة (٤) ، وكذلك «خصم» ؛ لأنّه في الأصل مصدر فأطلق على الجمع.

وأصل «فآذوهما» فآذيوهما ، فاستثقلت الضّمّة على الياء فحذفت ، فالتقى ساكنان ، فحذفت الياء الّتي هي لام الكلمة وضمّ ما قبل الواو لتصحّ.

فصل

اختلفوا في وجه هذا التّكرير ، فقال مجاهد (٥) : الآية الأولى في النساء وهذه في الرّجال ، وخصّ الحبس في البيت بالمرأة ، وخصّ الإيذاء بالرجال ؛ لأنّ المرأة إنما تقع في الزّنا عند الخروج والبروز ، وإذا حبست في البيت انقطعت مادّة هذه المعصية ، وأمّا الرّجل فلا يمكن حبسه في البيت ؛ لأنّه يحتاج إلى الخروج لإصلاح معاشه ، ومهماته ، وقوت عياله.

وقيل : إنّ الإيذاء مشترك بين الرّجل والمرأة ، والحبس كان من خواصّ المرأة.

وقال السّدّيّ : المراد بهذه الآية البكر من الرّجال والنّساء وبالآية الأولى للثيب (٦) لوجوه :

الأوّل : قوله : (وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ) فأضافهن إلى الأزواج.

الثّاني : أنّه سماهنّ نساء ، وهذا الاسم أليق بالثّيب.

الثالث : أنّ الإيذاء أحقّ من الحبس في البيت ، والأخف للبكر دون الثّيب.

وقال أبو مسلم (٧) : الآية الأولى في السّحاقات ، وهذه في أهل اللّواط ، وقد تقدّم.

وقيل : إنّه بيّن في الآية الأولى أنّ الشهداء على الزّنا لا بدّ وأن يكونوا أربعة ، وبين في هذه الآية أنّهم لو كانوا شاهدين فآذوهما بالرّفع إلى الإمام والحدّ ، فإن تابا قبل الرفع إلى الإمام فاتركوهما.

__________________

(١) انظر : المحرر الوجيز ٢ / ٢٢ ، والبحر المحيط ٣ / ٢٠٧ ، والدر المصون ٢ / ٣٣٢.

(٢) في أ : لذكر تصنيفي.

(٣) في أ : تبعا.

(٤) في أ : لجميع.

(٥) ينظر : تفسير الرازي ٩ / ١٩٠ ، والبغوي (١ / ٤٠٦).

(٦) في ب : لتثبت.

(٧) ينظر : تفسير الرازي ٩ / ١٩٠.

٢٤٦

فصل

قال عطاء وقتادة : قوله «فآذوهما» يعنى فعيروهما باللسان (١) : أما خفت الله (٢)؟ أما استحييت من الله حين (٣) زنيت.

وقال مجاهد : سبوهما واشتموهما (٤).

وقيل : يقال لهما : «بئسما فعلتما» (٥) وخالفتما أمر الله.

وقال ابن عبّاس : هو باللسان واليد يؤذى بالتعيير وضرب النعال (٦).

قوله تعالى : (فَإِنْ تابا) أي : من الفاحشة (وَأَصْلَحا) العمل فيما بعد (فَأَعْرِضُوا عَنْهُما ،) فاتركوهما ولا تؤذوهما ، (إِنَّ اللهَ كانَ تَوَّاباً رَحِيماً) ومعنى التواب أنه يعود على عبده بفضله ومغفرته (٧) إذا تاب إليه من ذنبه. والله أعلم.

قوله تعالى : (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً)(١٧)

قد تقدّم الكلام على (إِنَّمَا) في أول البقرة [آية ١١] وما قيل فيها.

و «التوبة» (٨) ، مبتدأ وفي خبرها وجهان :

أظهرهما : أنّه «على الله» ، أي : إنّما التّوبة مستقرّة على فضل الله ، ويكون «للذين» متعلقا بما تعلّق به الخبر.

وأجاز أبو البقاء (٩) عند ذكره هذا الوجه أن يكون «للذين» متعلقا بمحذوف على أنه حال ، قال : فعلى هذا يكون (لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ) حالا من الضّمير في الظّرف وهو (عَلَى اللهِ) ، والعامل فيها الظّرف أو الاستقرار ، أي : كائنة للّذين ، ولا يجوز أن يكون العامل في الحال «التوبة» ؛ لأنّه قد فصل بينهما بالخبر ، وهذا فيه تكلّف لا حاجة إليه.

الثّاني : أن يكون الخبر «للذين» و (عَلَى اللهِ) متعلّق بمحذوف على أنّه حال من شيء محذوف ، والتقدير : إنما التّوبة إذا كانت ـ أو إذ كانت ـ على الله للذين يعملون ف «إذا» و «إذ» معمولان ل «الذين» لأن الظّرف يتقدّم على عامله المعنوي و «كان» هذه

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٨ / ٨٤) عن قتادة.

(٢) في ب : نحو أما خفت الله.

(٣) في ب : حتى.

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٨ / ٨٥) عن مجاهد وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٢٣١) وزاد نسبته للبيهقي في «سننه».

(٥) في ب : فجرتما وفسقتما.

(٦) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٨ / ٨٥) من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس.

(٧) في ب : مغفرة.

(٨) سقط في أ.

(٩) ينظر : الإملاء ١ / ١٧١.

٢٤٧

هي (١) التّامّة ، وفاعلها هو صاحب الحال ، ولا يجوز أن يكون (عَلَى اللهِ) حالا من الضّمير المستتر في (لِلَّذِينَ) والعامل فيها (لِلَّذِينَ ؛) لأنّه عامل معنويّ ، والحال لا تتقدّم على عاملها المعنوي ، هذا ما قاله أبو البقاء (٢) ونظّر (٣) هذه المسألة بقولهم : «هذا بسرا أطيب منه رطبا» (٤) يعني : أن التّقدير : إذا كان بسرا أطيب منه إذا كان رطبا.

وفي هذه المسألة أقوال كثيرة مضطربة لا يحتملها هذا الكتاب وقدر أبو حيان (٥) مضافين حذفا من المبتدأ والخبر ، فقال : التّقدير : إنّما قبول التوبة مترتب على [فضل](٦) الله ف «على» باقية على بابها يعني من الاستعلاء

قوله : (بِجَهالَةٍ) فيه وجهان :

أحدهما : أن يتعلّق بمحذوف على أنّه حال من فاعل (يَعْمَلُونَ ،) ومعناها المصاحبة أي : يعملون السّوء متلبسين بجهالة ، أي : مصاحبين لها ، ويجوز أن يكون حالا من المفعول ، أي : ملتبسا بجهالة ، وفيه بعد وتجوّز.

والثاني : أن يتعلق ب (يَعْمَلُونَ) على أنّها باء السّببية.

قال أبو حيّان (٧) : أي الحامل لهم على عمل السّوء (٨) هو الجهالة ، إذ لو كانوا عالمين بما يترتّب على المعصية متذكرين له حال عملها لم يقدموا عليها كقوله : «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن» (٩) لأنّ العقل حينئذ يكون مغلوبا أو مسلوبا.

فصل

لما ذكر في الآية الأولى أنّ المرتكبين للفاحشة إذا تابا وأصلحا زال عنهما الإيذاء ،

__________________

(١) في أ : في.

(٢) ينظر : الإملاء ١ / ١٧١.

(٣) في ب : ونظير.

(٤) للسيوطي رسالة ختم بها الأشباه سماها تحفة النجبا في قولهم : هذا بسرا أطيب منه رطبا.

ينظر : المقتضب ٣ / ٢٥١ ، وأمالي ابن الشجري ٢ / ٢٨٥ ، وشرح الكافية للرضي ١ / ١٩٠ ـ ١٩١ ، وابن يعيش ٢ / ٦٠ ـ ٦٢ ، وابن عقيل ١ / ٥٤٨.

(٥) ينظر : البحر المحيط ٣ / ١٩٧.

(٦) سقط في أ.

(٧) ينظر : البحر المحيط ٣ / ١٩٨.

(٨) في ب : هذه الأفعال.

(٩) أخرجه البخاري (٥ / ١١٩) كتاب المظالم : باب النهي بغير إذن صاحبه (٢٤٧٥) ومسلم (١ / ٧٦) كتاب الإيمان : باب بيان نقص الإيمان بالمعاصي (١٠٠ / ٥٧) وأبو داود (٢ / ٦٣٣) كتاب السنة : باب الدليل على زيادة الإيمان ونقصانه (٤٦٨٩) والنسائي (٨ / ٦٤) كتاب قطع السارق باب تعظيم السرقة (٤٨٧٠) وابن ماجه (٢ / ١٢٩٩) كتاب الفتن : باب النهي عن النهبة حديث (٣٩٣٦) والترمذي (٥ / ١٦ / ١٧) كتاب الإيمان : باب ما جاء لا يزني الزاني وهو مؤمن (٢٦٢٥) وأحمد (٢ / ٤٣ ، ٣١٧ ، ٣٧٦ ، ٣٨٦ ، ٤٧٩) والحميدي (٢ / ٤٧٨) رقم (١١٢٨) والدارمي (٢ / ١١٥) والبيهقي (١٠ / ١٨٦) من طرق عن أبي هريرة.

٢٤٨

وأخبر على الإطلاق أنّه تواب رحيم ، ذكر هنا وقت التّوبة وشرطها بشرطين :

أحدهما : قوله (لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ) وفيه إشكالان :

الإشكال الأوّل : أن من عمل ذنبا ولم يعلم أنّه ذنب لم يستحق عقابا ؛ لأنّ الخطأ مرفوع عن الأمّة ، فعلى هذا الّذين يعملون السّوء بجهالة لا حاجة بهم إلى التّوبة.

الإشكال الثّاني : أن كلمة «إنّما» للحصر ، فظاهره يقتضي أن من أقدم على السوء مع العلم بكونه سوءا لا يقبل توبته ، وذلك باطل بالإجماع.

فالجواب عن الأوّل أنّ اليهوديّ اختار اليهوديّة وهو لا يعلم كونها ذنبا مع أنّه يستحقّ العقاب عليها.

والجواب عن الثّاني : أنّ من أتى معصية مع الجهل بكونها معصية يكون حاله أخفّ ممّن أتى بها مع العلم بكونها معصية ، فلا جرم خصّ الأوّل بوجوب قبول التّوبة وجوبا على سبيل الوعد والكرم ، وأمّا القسم الثّاني فلمّا كان ذنبهم أغلظ لا جرم لم يذكر فيهم هذا التّأكيد في قبول التّوبة فتكون هذه الآية دالّة من هذا الوجه على أن قبول التّوبة غير واجب على الله تعالى.

ومعنى الآية يحتمل وجهين :

الأوّل : أن قوله : (عَلَى اللهِ) إعلام ، فإنّه يجب على الله قبولها لزوم الكرم (١) والفضل والإحسان وإخبار بأنّه سيفعل ذلك.

والثّاني : إنّما الهداية إلى التّوبة والإعانة عليها على الله في حقّ من أتى بالذّنب على سبيل الجهالة ، ثمّ تاب قريبا ، وترك الإصرار ، وأتى بالاستغفار.

فصل

قال الحسن (٢) : معنى الآية : التّوبة التي يقبلها الله ، فيكون «على» بمعنى عند ، وقيل : من الله (لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ).

قال قتادة : أجمع أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنّ ما عصي الله به فهو جهالة عمدا كان أو لم يكن ، وكل من عصى الله فهو جاهل (٣).

قال تعالى إخبارا عن يوسف ـ عليه‌السلام ـ : (أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ) (٤) [يوسف : ٣٣ ، ٣٤].

__________________

(١) في أ : الكروم.

(٢) ينظر : تفسير البغوي ١ / ٤٠٧.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٨ / ٨٩) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٢٣٠) وزاد نسبته لعبد الرزاق.

(٤) سقط في ب.

٢٤٩

وقال : (هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ) [يوسف : ٨٩] وقال لنوح ـ عليه‌السلام ـ : (إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ) [هود : ٤٦].

وقال موسى لبني إسرائيل حين قالوا (أَتَتَّخِذُنا هُزُواً) [البقرة : ٦٧](أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ) [البقرة : ٦٧] والسّبب في إطلاق اسم الجاهل (١) على العاصي ؛ لأنّه لو استعمل ما معه من العلم بالثواب والعقاب لما أقدم على المعصية ، فصار كأنّه لا علم له.

وقال مجاهد : المراد من الآية العمد.

وقيل : أن يأتي بالمعصية مع العلم بكونها معصية ، إلّا أنه يكون جاهلا بقدر عقابه.

وقيل : أن يأتي بالمعصية مع أنه لا يعلم كونها معصية لكنه يتمكن من العلم بكونها معصية ، كاليهودي يستحق العقاب على يهوديته ، وإن كان لا يعلم كون اليهوديّة معصية إلّا أنه كان متمكنا من تحصيل العلم بكون اليهوديّة ذنبا (٢) ومعصية ، وكفى ذلك في ثبوت استحقاق العذاب ، ويخرج من هذا النّائم والسّاهي ، فإنّه لو أتى بالقبيح لكنّه [ما كان متمكنا](٣) من العلم بكونه قبيحا.

فصل

استدلّ القاضي بهذه الآية على أنّه يجب على الله عقلا قبول التّوبة ؛ لأنّ كلمة «على» للوجوب ؛ ولأنّا لو حملنا قوله : (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ) على مجرد القبول لم يبق بينه وبين قوله : (فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ) فرق ؛ لأن قوله هذا أيضا إخبار عن الوقوع ، [فإذا جعلنا الأوّل إخبارا عن الوجوب ، والثّاني إخبارا عن الوقوع](٤) ظهر الفرق بين الآيتين وزال التكرار.

والجواب أنّ القول بالوجوب على الله تعالى باطل لوجوه :

الأوّل : أنّ لازم الوجوب استحقاق الذّم عند الترك ، فهذه الملازمة إمّا أن تكون ممتنعة الثبوت في حقّ الله تعالى أو غير ممتنعة الثّبوت في حقّه ، والأوّل باطل ؛ لأنّ ترك الواجب لما كان مستلزما هذا الذّم ، وهذا الذّم محال الثّبوت في حقّ الله تعالى وجب أن يكون ذلك الترك ممتنع الثبوت في حقّ الله تعالى ، وإذا كان الترك ممتنع الثبوت عقلا كان الفعل واجب الثّبوت ، فحينئذ يكون الله تعالى موجبا بالذّات لا فاعلا بالاختيار وذلك باطل ، وإن كان استحقاق الذّمّ غير ممتنع الحصول في حقّ الله تعالى ، فكلّ ما كان ممكنا لا يلزم من فرضه محال ، فيلزم أن يكون الإله مع كونه إلها يكون موصوفا باستحقاق الذّم وذلك محال لا يقوله عاقل ، فثبت أنّ القول بالوجوب على الله تعالى محال.

__________________

(١) في أ : الجهل.

(٢) في ب : دينا.

(٣) في أ : يتمكن.

(٤) سقط في ب.

٢٥٠

وثانيها : أنّ قادرية العبد بالنّسبة إلى فعل التّوبة وتركها إمّا أن يكون على السّويّة ، أو لا ، فإن كان على السّويّة لم يترجح فعل التّوبة على تركها إلا بمرجّح ، وذلك المرجح إن حدث لا عن محدث لزم نفي الصّانع ، وإن حدث عن العبد عاد التّقسيم ، وإن حدث عن الله تعالى فحينئذ إنّما أقبل العبد على التّوبة بمعونة الله وتقويته ، فتكون تلك العقوبة (١) إنعاما من الله تعالى على عبده ، وإنعام المولى على عبده لا يوجب أن ينعم عليه مرة أخرى فثبت أنّ صدور التّوبة عن العبد لا يوجب على الله القبول ، وإن كانت قادرية العبد لا تصلح للتّرك وللفعل ، فيكون القول بالوجوب أظهر بطلانا.

ثالثها : التّوبة عبارة عن النّدم على ما مضى ، والعزم على التّرك في المستقبل والنّدم والعزم من باب الكراهات والإرادات وهما لا يحصلان باختيار العبد وإلّا افتقر في تحصيلهما إلى إرادة أخرى ولزم التّسلسل ، وإذا كان كذلك كان حصول هذا النّدم ، وهذا العزم بمحض تخليق الله تعالى ، وفعل الله لا يوجب على الله فعلا آخر فكان القول بالوجوب باطلا.

ورابعها : أنّ التوبة فعل يحصل باختيار العبد على قولهم ، فلو صار ذلك علة للوجوب على الله تعالى وفعل الله تعالى ، لصار فعل العبد مؤثّرا في ذات الله تعالى وفي صفاته ، وذلك لا يقوله عاقل.

والجواب عن حجتهم : أنّ الله تعالى وعد قبول التّوبة من المؤمنين ، وإذا وعد الله بشيء ، وكان الخلف في وعده محالا كان ذلك شبيها بالواجب ، فبهذا التأويل صح إطلاق كلمة (عَلَى) وبهذا يظهر الفرق بين قوله (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ) وبين قوله (فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ).

فإن قيل : لما أخبر عن قبول التّوبة وكان ما أخبر الله تعالى وقوعه واجب الوقوع لزم منه ألّا يكون فاعلا مختارا.

فالجواب : أنّ الإخبار عن الوقوع تبع للوقوع والوقوع تبع للإيقاع ، والتبع لا يغير الأصل ، فكان فاعلا مختارا في ذلك الإيقاع ، وأمّا قولكم بأن وقوع التّوبة من حيث إنّها هي مؤثرة في وجوب القبول على الله وذلك لا يقوله عاقل فظهر الفرق.

قوله : (ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولئِكَ) فهذا هو الشّرط الثّاني.

قال السدي والكلبي : القريب أن يتوب في صحته قبل مرض موته (٢).

وقال عكرمة : قبل الموت (٣).

__________________

(١) في ب : التقوية.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٨ / ٩٣) عن السدي وأخرجه أيضا (٨ / ٩٤) من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٨ / ٩٤) عن عكرمة.

٢٥١

وقيل : قبل أن يحيط السّوء بحسناته فيحبطها. وقال الضّحّاك : قبل معاينة ملك الموت (١).

قوله : (مِنْ قَرِيبٍ) فيه وجهان :

أحدهما : أن تكون «من» لابتداء الغاية ، أي : تبتدىء التّوبة من زمان قريب من زمان المعصية لئلّا يقع في الإصرار ، وهذا إنّما يتأتّى على قول الكوفيين ، وأما البصريون فلا يجيزون أن تكون «من» لابتداء الغاية في الزّمان ، ويتأوّلون ما جاء منه ، ويكون مفهوم الآية أنّه لو تاب من زمان بعيد لم يدخل (٢) في من خصّ بكرامة قبول التّوبة على الله المذكورة في هذه الآية ، بل يكون داخلا فيمن (٣) قال فيهم (عَسَى اللهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ) [التوبة : ١٠٢].

والثاني : أنّها للتّبعيض أي : بعض زمان قريب يعني (٤) أي جزء من أجزاء هذا الزمان أتى بالتّوبة فيه ، فهو تائب من قريب.

وعلى الوجهين ف «من» متعلقة ب «يتوبون» ، و «قريب» صفة لزمان محذوف ، كما تقدم تقريره ، إلّا أنّ حذف هذا الموصوف وإقامة هذه الصفة مقامه ليس بقياس ، إذ لا ينقاس الحذف إلّا في صور (٥) :

منها أن تكون الصفة جرت مجرى الأسماء الجوامد ، كالأبطح والأبرق ، أو كانت خاصة بجنس الموصوف ، نحو : مررت بكاتب ، أو تقدّم ذكر موصوفها ، نحو : اسقني ماء ولو باردا ، وما نحن فيه ليس شيئا من ذلك.

وفي قوله : (ثُمَّ يَتُوبُونَ) إعلام بسعة عفوه ، حيث أتى بحرف التّراخي والفاء في قوله : (فَأُولئِكَ) مؤذنة بتسبّب قبول الله توبتهم إذا تابوا من قريب ، وضمّن (يَتُوبُونَ) معنى يعطف فلذلك [عدّى](٦) ب «على».

وأما قوله : (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ) فراعى المضاف المحذوف ، إذ التّقدير : إنّما قبول التّوبة على الله ، كذا قال الشّيخ (٧) وفيه نظر.

فصل

معنى قوله (فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ) يعني أنّ العبد الّذي هذا شأنه إذا أتى بالتّوبة قبلها منه ، فالمراد بالأوّل التّوفيق إلى التوبة ، وبالثّاني قبول التّوبة.

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٨ / ٩٤) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٢٣٢) وزاد نسبته لسعيد بن منصور وعبد بن حميد والبيهقي في «شعب الإيمان».

(٢) في أ : يحصل.

(٣) في أ : فيما.

(٤) في أ : أعني.

(٥) ينظر : الكتاب ١ / ١١٦.

(٦) سقط في ب.

(٧) ينظر : البحر ١ / ١٩٩.

٢٥٢

وقوله : (وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً)(١) أي : أنّه إنّما أتى بتلك المعصية لاستيلاء الشّهوة والغضب والجهالة (٢) عليه «حكيما» بأن العبد لما كان من صفته ذلك ثمّ إنّه تاب عنها من (٣) قريب فإنه يقبل توبته.

قوله تعالى : (وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً)(١٨)

قوله : (وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ) يعني : المعاصي ، لما ذكر شرائط التّوبة المقبولة ، أردفها بشرح التّوبة الّتي لا تكون مقبولة ، قوله : (حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ) «حتّى» حرف ابتداء ، والجملة الشّرطيّة بعدها غاية لما قبلها ، أي : ليست التّوبة لقوم يعملون السّيئات ، وغاية عملهم إذا حضر أحدهم الموت قالوا «كيت وكيت» هذا وجه حسن ، ولا يجوز أن تكون «حتى» جارّة ل «إذا» أي : يعملون السّيّئات إلى وقت حضور الموت من حيث إنّها شرطيّة ، والشّرط لا يعمل فيه ما قبله ، وإذا جعلنا «حتّى» جارّة تعلّقت ب «يعملون» وأدوات الشّرط لا يعمل فيها ما قبلها ، ألا ترى أنّه يجوز «بمن تمرر أمرر» ، ولا يجوز : مررت بمن يقم أكرمه ، لأنّ له صدر الكلام ، ولأنّ «إذا» لا تتصرّف على المشهور كما تقدّم في أوّل البقرة ؛ واستدلّ ابن مالك على تصرّفها بوجوه :

منها جرها ب «حتّى» نحو : (حَتَّى إِذا جاؤُها) [الزمر : ٧١](حَتَّى إِذا كُنْتُمْ) [يونس : ٢٢] وفيه من الإشكال [ما ذكرته لك] وقد تقدم تقرير ذلك عند قوله ، (حَتَّى إِذا بَلَغُوا) [النساء : ٦].

فصل

دلت هذه الآية على أنّ من حضره الموت وشاهد أهواله (٤) لا تقبل توبته ، ويؤيّده أيضا قوله تعالى (فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا) [غافر : ٨٥].

وقال في صفة فرعون (حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ)(٥) [يونس : ٩٠ ، ٩١] وقوله (حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ (٦) قائِلُها) [المؤمنون : ٩٩ ـ ١٠٠] وقوله (وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) في أ : والحمد له.

(٣) في ب : منها.

(٤) في ب : أحواله.

(٥) سقط في ب.

(٦) سقط في ب.

٢٥٣

الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْ لا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها) (١) [المنافقون : ١٠ ، ١١].

وقال عليه‌السلام «إن الله ـ تعالى ـ يقبل توبة العبد ما لم يغرغر» (٢) وعن عطاء : ولو قبل موته بفواق النّاقة (٣).

وعن الحسن : أنّ إبليس قال حين أهبط إلى الأرض وعزّتك لا أفارق ابن آدم ما دام روحه في جسده.

فقال : وعزّتي لا أغلق عليه باب التّوبة ما لم يغرغر (٤).

فصل

قال المحقّقون : قرب الموت لا يمنع من قبول التّوبة ، بل المانع من قبول التّوبة مشاهدة الأهوال الّتي عندها يحصل العلم بالله تعالى على سبيل الاضطرار. وقالوا : لأنّ جماعة أماتهم الله تعالى ثمّ أحياهم مثل قوم من بني إسرائيل ، وأولاد أيّوب ـ عليه‌السلام ـ ثمّ إنّه تعالى كلّفهم بعد ذلك الإحياء ، فدلّ ذلك على أن مشاهدة الموت لا تخلّ بالتكليف ولأنّ الشّدائد التي يلقاها من يقرب موته تكون مثل الشّدائد الحاصلة عند القولنج (٥) ومثل الشّدائد التي تلقاها المرأة عند الولادة أو أزيد ، فلمّا لم تكن هذه الشّدائد مانعة من بقاء التكاليف فكذا القول في تلك الشّدائد.

وأيضا فالقرب من الموت إذا عظمت الآلام [صار اضطرار العبد أشدّ ، والله تعالى يقول (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ) [النمل : ٦٢] فتزايد الآلام](٦) في ذلك الوقت بأن

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) أخرجه أحمد (٢ / ١٣٢) والترمذي (٥ / ٢٤٧) في الدعوات (٣٥٣٨) وابن ماجه (٢ / ١٤٢٠) في الزهد (٤٢٥٣) وابن حبان (٦٠٧ ـ موارد) والحاكم في «المستدرك» (٤ / ٢٥٧) وقال صحيح الإسناد ووافقه الذهبي وأخرجه الطبري في «تفسيره» (٨ / ٩٦) مرسلا عن الحسن البصري وبشير بن كعب.

وأخرجه الطبري في «تفسيره» (٨ / ٩٦) من طريق قتادة عن عبادة بن الصامت مرفوعا.

وقتادة لم يدرك عبادة بن الصامت.

(٣) ينظر : تفسير الرازي ١٠ / ٧.

(٤) أخرجه بهذا اللفظ الطبري في «تفسيره» (٨ / ٩٥) عن الحسن وللحديث لفظ آخر : قال إبليس لربه : بعزتك وجلالك لا أبرح أغوي ابن آدم ما دامت الأرواح فيهم قال له ربه : فبعزتي وجلالي لا أبرح أغفر لهم ما استغفروني.

أخرجه أحمد (٣ / ٢٩ ، ٤١) وأبو يعلى (٢ / ٤٥٨) رقم (١٢٧٣) والحديث ذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (١٠ / ٢٠٧) وقال : رواه أحمد وأبو يعلى والطبراني في الأوسط وأحد إسنادي أحمد رجاله رجال الصحيح وكذلك أحد إسنادي أبي يعلى.

(٥) مرض معويّ مؤلم يصعب معه خروج البراز والريح وسببه التهاب القولون. ينظر المعجم الوسيط ٢ / ٧٩٧.

(٦) سقط في ب.

٢٥٤

يكون سببا لقبول التّوبة أولى من أن يكون سببا لعدم قبول التّوبة.

فصل

لما بيّن تعالى أنّه يقبل التّوبة من القسم الأوّل ، وهم الذين يعملون السّوء بجهالة ، وبيّن في هذا القسم الثّاني وهم الذين يعملون السّيّئات أنّه لا يقبل توبتهم فبقي بحكم التّقسيم العقلي قسم ثالث متوسط بين هذين القسمين ، وهم الّذين يعملون السّوء على سبيل العمد ثم يتوبون فلم يخبر عنهم أنّه يردّ توبتهم ، بل تركهم في المشيئة حيث قال : (وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) [النساء : ٤٨].

قوله : (وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ) «الذين» مجرور المحل عطفا على قوله (لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ) أي : ليست التّوبة لهؤلاء ، ولا لهؤلاء ، فسوّى بين من مات كافرا وبين من لم يتب إلّا عند معاينة الموت في عدم قبول توبته ، والمراد بالعاملين السيئات المنافقون.

وأجاز أبو البقاء (١) في (الَّذِينَ) أن يكون مرفوع المحلّ (٢) على الابتداء وخبره «أولئك» وما بعده معتقدا أنّ اللام لام الابتداء وليست ب «لا» النّافية ، وهذا الّذي قاله من كون اللام لام الابتداء لا يصحّ إلا أن يكون قد رسمت في (٣) المصحف لام داخلة على (الَّذِينَ) فيصير «وللذين» وليس المرسوم كذلك ، وإنّما هو لام وألف ، وألف لام التّعريف الدّاخلة على (٤) الموصول وصورته : ولا الذين.

فصل

قيل : المراد ب (الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ) العصاة وب (الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ) الذي يموت كافرا ؛ لأنّ المعطوف يكون مغايرا للمعطوف عليه. وقيل : المراد بالأوّل : المنافقون ، وبالثاني : الكفّار.

قال ابن الخطيب (٥) : وهذا لا يصحّ ؛ لأنّ المنافق كافر فيدخل في الثّاني ويمكن أن يجاب بأنّ المنافق لما أظهر الإيمان فمن لم يعلم حاله يعتقد أنّ حكمه حكم المؤمن ، (وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ) [المنافقون : ١] و «أولئك» يجوز أن تكون إشارة إلى (الَّذِينَ يَمُوتُونَ) وهم كفّار ؛ لأنّ اسم الإشارة يجري مجرى الضّمير فيعود إلى أقرب مذكور ، ويجوز أن يشار به إلى الصّنفين الذين يعملون السيّئات ، والذين يموتون وهم كفار. (وَأَعْتَدْنا) أي : أحضرنا وهذا يدلّ على أنّ النّار مخلوقة ؛ لأنّ العذاب الأليم ليس إلّا جهنم وقد أخبر عنه بصيغة الماضي ، والله أعلم.

__________________

(١) ينظر : الإملاء ١ / ١٧٢.

(٢) في أ : للمحل.

(٣) في أ : من.

(٤) في أ : على.

(٥) ينظر : تفسير الرازي ١٠ / ٩.

٢٥٥

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً)(١٩)

هذا متّصل بما تقدّم ذكره في الزوجات.

قال المفسّرون : نزلت في أهل المدينة كانوا في الجاهليّة ، وفي أوّل الإسلام إذا مات الرّجل وله امرأة جاء ابنه من غيرها أو قريبه من عصبته فألقى ثوبه على تلك المرأة وقال : ورثت أمرأته كما ورثت ماله ، فصار أحقّ بها من سائر النّاس ومن نفسها فإن شاء تزوّجها بغير صداق ، إلّا الصّداق الأوّل الّذي أصدقها الميت ، وإن شاء زوّجها من إنسان آخر ، وأخذ صداقها ، ولم يعطها منه شيئا ، وإن شاء عضلها ومنعها من الأزواج يضارها لتفتدي منه بما أخذت من الميت أو تموت هي فيرثها ، وإن ذهبت المرأة إلى أهلها قبل أن يلقي عليها ولي زوجها ثوبه فهي أحق بنفسها فكانوا على هذا (١) حتى مات أبو قيس بن الأسلت الأنصاري وترك امرأته كبيشة بنت معن الأنصاريّة فقام ابن له من غيرها يقال له محصن ، وقال مقاتل بن حيّان : اسمه قيس بن أبي قيس ، وطرح ثوبه عليها فورث نكاحها وتركها فلم يقربها ، ولم ينفق عليها يضارها لتفتدي منه بما ورثت ، فأتت كبيشة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالت : يا رسول الله إنّ أبا قيس توفّي وورث نكاحي ابنه فلا هو ينفق عليّ ولا يدخل بي ولا يخلي سبيلي فقال لها : اقعدي في بيتك حتّى يأتي فيك أمر الله ، فأنزل هذه الآية (٢).

وقيل : كان يكون عند الرّجل عجوز ولها مال ونفسه تتشوق إلى الشّابّة فيكره فراق العجوز لمالها ، فيمسكها ، ولا يقربها حتّى تفتدي منه بمالها أو تموت فيرث مالها فنزلت الآية تأمر الزّوج أن يطلّقها إن كره صحبتها ، ولا يرثها (٣) كرها فذلك قوله (لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً) والمقصود إذهاب ما كانوا عليه في الجاهليّة وألّا يجعل النّساء كالمال يورثن عن الرّجال. قوله : أن ترثوا [النساء](٤) في محلّ رفع على الفاعليّة ب «يحل» أي : لا يحل لكم إرث النساء.

__________________

(١) ينظر : تفسير الرازي (١٠ / ٩ ـ ١٠). وأخرجه البخاري (٨ / ١٨٤) وأبو داود (٢ / ٣١٠) رقم (٢٠٨٩) والبيهقي (٧ / ١٣٨) والطبري في «تفسيره» (٨ / ١٠٤) من طريق عكرمة عن ابن عباس مختصرا.

وذكر السيوطي هذه الرواية في «الدر المنثور» (٢ / ٢٣٤) وزاد نسبته لابن المنذر وابن أبي حاتم.

وأخرجه الطبري في «تفسيره» (٨ / ١٠٦) عن عطاء عن ابن عباس بمعناه وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٢٣٤) وزاد نسبته لابن المنذر.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٨ / ١٠٦) عن عكرمة وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٢٣٤ ـ ٢٣٥) وزاد نسبته لابن المنذر.

(٣) في ب : يمسكها.

(٤) سقط في ب.

٢٥٦

وقرىء (١) «لا تحل» بالتاء من فوق على تأويل (أَنْ تَرِثُوا) : بالوراثة ، وهي مؤنّثة ، وهي كقراءة (ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا) [الأنعام : ٢٣] بتأنيث «تكن» ونصب «فتنتهم» بتأويل ثم لم تكن فتنتهم إلا مقالتهم ، إلّا أنّ في آية الأنعام مسوغا ، وهو الإخبار عنه بمؤنث كما سيأتي ، و (النِّساءَ) مفعول به ، إمّا على حذف مضاف أي : أن ترثوا مال النّساء إن كان الخطاب للأزواج ؛ لأنّه روي أنّ الرّجل منهم كان إذا لم يكن له غرض في المرأة أمسكها حتّى تموت ؛ فيرثها ، أو تفتدي منه بمالها إن لم تمت ، وإمّا من غير حذف على أن يكون بمعنى الشّيء الموروث إن كان الخطاب للأولياء ، أو لأقرباء الميّت ، وقد تقدّم المعنيان في سبب النّزول على ما تقدّم ؛ فلا يحتاج إلى حذف أحد المفعولين إمّا الأوّل أو الثّاني على جعل (أَنْ تَرِثُوا) متعدّيا (٢) لاثنين كما فعل أبو البقاء (٣).

قال : (النِّساءَ) فيه وجهان :

أحدهما : هنّ المفعول الأوّل ، والنساء على هذا هنّ الموروثات ، وكانت الجاهليّة ترث نساء (٤) آبائهم ويقولون : نحن أحقّ بنكاحهنّ.

والثاني : أنه المفعول الثّاني ، والتّقدير : أن ترثوا من النّساء المال. انتهى. قوله : «هن المفعول الأول» يعني : والثاني محذوف تقديره : «أن ترثوا من آبائكم النساء».

و «كرها» مصدر في موضع نصب على الحال من النّساء أي : أن ترثوهن كارهات ، أو مكروهات ، وقرأ الأخوان (٥) «كرها» هنا وفي «براءة» و «الأحقاف» بضمّ الكاف ، وافقهما عاصم (٦) وابن عامر في رواية ابن (٧) ذكوان عنه على ما يأتي في الأحقاف ، والباقون بالفتح.

وقد تقدّم في الكره والكره بمعنى واحد أم لا؟ في أوّل البقرة. ولا مفهوم لقوله (كَرْهاً) يعني فيجوز أن يرثوهن (٨) إذا لم يكرهن ذلك لخروجه مخرج الغالب.

قوله : (وَلا تَعْضُلُوهُنَ) فيه وجهان :

أظهرهما : أنّه مجزوم ب «لا» الناهية (٩) عطف جملة نهي على جملة خبريّة فإن لم تشترط المناسبة بين الجمل كما هو مذهب سيبويه ـ فواضح ، وإن اشترطنا ذلك ـ كما هو رأي بعضهم ـ فلأن الجملة قبلها في معنى النهي إذ التّقدير : «ولا ترثوا النساء كرها» فإنّه

__________________

(١) انظر : الدر المصون ٢ / ٣٣٣.

(٢) في أ : متقدما.

(٣) ينظر : الإملاء ١ / ١٧٢.

(٤) في أ : النساء.

(٥) انظر : السبعة ٢٢٩ ، والحجة ٣ / ١٤٤ ، وحجة القراءات ١٩٥ ، والعنوان ٨٣ ، وشرح الطيبة ٤ / ١٩٨ ـ ١٩٩ ، وشرح شعلة ٣٣٦ ، وإعراب القراءات ١ / ١٣١ ، وإتحاف ١ / ٥٠٦.

(٦) في ب : الكسائي.

(٧) في أ : عن.

(٨) في أ : يرثوا.

(٩) في أ : النافية.

٢٥٧

غير حلال لكم. وجعله أبو البقاء (١) على هذا الوجه مستأنفا يعني أنّه ليس بمعطوف على الفعل قبله.

والثّاني : أجازه ابن عطية (٢) وأبو البقاء (٣) أن يكون منصوبا عطفا على الفعل قبله (٤).

وقال ابن عطيّة (٥) : ويحتمل أن يكون (تَعْضُلُوهُنَ) نصبا عطف على (تَرِثُوا) فتكون الواو مشتركة عاطفة فعلا على فعل.

وقرأ ابن (٦) مسعود : «ولا أن تعضلوهن» فهذه القراءة تقوّي احتمال النّصب ، وأن العضل ممّا لا يحلّ بالنص.

وردّ أبو حيّان (٧) هذا الوجه بأنّك إذا عطفت فعلا منفيا ب «لا» على مثبت وكانا منصوبين فإنّ النّاصب لا يقدّر إلّا بعد حرف العطف لا بعد «لا» ، فإذا قلت : أريد أن أتوب ولا أدخل النار ، قال التقدير : «أريد أن أتوب و [أن](٨) لا أدخل النار» ؛ لأن الفعل يطلب للأول على سبيل الثبوت (٩) ، والثاني على سبيل النفي ، والمعنى : أريد التوبة انتفاء دخولي النار ، فلو كان المتسلط على المتعاطفين منفيا فكذلك ، ولو قدّرت هذا التقدير في الآية لم يصح (١٠) لو قلت : «لا يحل الا تعضلوهن» ، لم يصح ، إلّا أن تجعل «لا» زائدة لا نافية ، وهو خلاف الظاهر ، وأما أن تقدّر «أن» بعد «لا» النافية فلا يصحّ ، وإذا قدّرت «أن» بعد «لا» كان من عطف المصدر المقدّر على المصدر المقدر ، لا من باب عطف الفعل على الفعل ، فالتبس على ابن عطيّة (١١) العطفان ، وظنّ أنّه بصلاحية تقدير «أن» بعد «لا» يكون من عطف الفعل على الفعل وفرق بين قولك «لا أريد أن تقوم ألا تخرج» وقولك : أريد أن تقوم ولا أن تخرج ، ففي الأول نفى إرادة وجود قيامه ، وإرادة انتفاء خروجه ، فقد أراد خروجه ، وفي الثّانية نفى إرادة وجود قيامه ووجود خروجه ، فلا يريد لا القيام ، ولا الخروج. وهذا في فهمه (١٢) بعض غموض على من تمرّن في علم العربيّة ؛ انتهى ما ردّ به.

قال شهاب الدّين : وفيه نظر من حيث إنّ المثال الّذي ذكره في قوله : «أريد أن أتوب ولا أدخل النار» فإنّ تقدير النّاصب فيه قبل «لا» واجب من حيث إنّه لو قدّر بعدها

__________________

(١) ينظر : الإملاء ١ / ١٧٢.

(٢) ينظر : المحرر ٢ / ٢٧.

(٣) ينظر : الإملاء ١ / ١٧٢.

(٤) سقط في ب.

(٥) ينظر : البحر المحيط ٣ / ٢١٣ ، والمحرر ٢ / ٢٧.

(٦) انظر : المحرر الوجيز ٢ / ٢٧ ، والبحر المحيط ٣ / ٢١٣ ، والدر المصون ٢ / ٣٣٤.

(٧) ينظر : البحر المحيط ٣ / ٢١٣.

(٨) سقط في ب.

(٩) في أ : التوب.

(١٠) في أ : يصيح.

(١١) ينظر : البحر المحيط ٣ / ٢١٣.

(١٢) في أ : فهذا.

٢٥٨

لفسد التركيب ، وأما في الآية فتقدير «أن» بعد «لا» صحيح ، فإنّ التقدير يصير : لا يحلّ لكم إرث النساء كرها ولا عضلهن ، ويؤيّد ما قلته ، وما ذهب إليه ابن عطيّة قول الزمخشريّ فإنّه قال : فإن قلت : تعضلوهنّ ما وجه إعرابه؟ قلت : النّصب عطفا على (أَنْ تَرِثُوا) و «لا» لتأكيد النّفي أي : «لا يحل لكم أن ترثوا النساء ولا أن تعضلوهن» فقد صرّح الزمخشري بهذا (١) المعنى وصرّح (٢) بزيادة «لا» التي جعلها الشيخ خلاف الظاهر ، وفي الكلام حذف تقديره : «ولا تعضلوهن من النكاح» إن كان الخطاب للأولياء ، أو : لا تعضلوهن من الطلاق ، إن كان الخطاب للأزواج.

وهو قول أكثر المفسرين.

وقيل : [هو](٣) خطاب الوارث الزّوج بحبس الزّوجة حتى تردّ الميراث.

قال ابن عطيّة (٤) : هذا في الرّجل تكون له المرأة وهو كاره لصحبتها ، ولها عليه مهر فيضارها لتفتدي وترد إليه ما ساق إليها من المهر فنهاه الله عن ذلك.

وقيل : الخطاب عامّ في الكلّ.

قوله : (لِتَذْهَبُوا) اللام متعلّقة ب (تَعْضُلُوهُنَ) والباء في «ببعض» فيها وجهان :

أحدهما : أنّها باء التّعدية (٥) المرادفة لهمزتها أي : لتذهبوا بما آتيتموهن.

والثاني : أنها للمصاحبة ، فيكون الجارّ في محلّ نصب على الحال ، ويتعلّق بمحذوف أي : لتذهبوا مصحوبين ببعض ، و «ما» موصولة بمعنى الذي ، أو نكرة موصوفة ، وعلى التقديرين فالعائد محذوف ، وفي تقديره إشكال تقدّم الكلام عليه في البقرة عند قوله : (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) [البقرة:٣].

قوله : (إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ) في هذا الاستثناء قولان :

أحدهما : أنه منقطع فيكون (أَنْ يَأْتِينَ) في محلّ نصب.

والثّاني : أنّه متّصل وفيه حينئذ ثلاثة أوجه :

أحدها : أنّه مستثنى من ظرف زمان عام تقديره : «ولا تعضلوهن في وقت من الأوقات إلا وقت إتيانهن بفاحشة».

والثّاني : أنّه مستثنى من الأحوال العامّة ، تقديره : ولا تعضلوهن في وقت (٦) من الأوقات (٧) إلّا في حال إتيانهن بفاحشة ، والمعنى لا يحل له أن يحبسها ضرارا حتى

__________________

(١) في أ : لهذا.

(٢) في ب : وخرج.

(٣) سقط في ب.

(٤) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٢٧ ، وفي ب : ابن عباس.

(٥) في أ : التعددية.

(٦) في ب : حال.

(٧) في ب : الأحوال.

٢٥٩

تفتدي منه إلّا إذا زنت ، والقائلون بهذا منهم من قال بقي (١) هذا الحكم ولم ينسخ ومنهم من قال : نسخ بآية الجلد (٢).

الثالث : أنه مستثنى من العلة العامة تقديره : لا تعضلوهن لعلة من العلل إلا لإتيانهن بفاحشة.

وقال أبو البقاء (٣) بعد أن حكى فيه وجه الانقطاع : «والثاني : هو في موضع الحال تقديره : إلّا في حال [إتيانهن بفاحشة ، وقيل : هو استثناء متصل ، تقديره : ولا تعضلوهن في حال إلا في حال](٤) إتيان الفاحشة» انتهى.

وهذان الوجهان هما في الحقيقة وجه واحد ، لأنّ القائل بكونه منصوبا على الحال لا بدّ أن يقدّر شيئا عاما يجعل هذه الحال مستثناة منه.

وقرأ (٥) ابن كثير وأبو بكر عن عاصم : «مبيّنة» اسم لمفعول بفتح الياء في جميع القرآن ، أي بيّنها في قوله : (رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي) [إبراهيم : ٣٦] والباقون بكسر الياء من اسم الفاعل وفيه وجهان :

أحدهما : أنّه من بيّن المتعدي ، فعلى هذا [يكون](٦) المفعول محذوفا تقديره [مبينة حال مرتكبها.

والثاني : أنها من بيّن اللازم ، فإن بيّن يكون متعديا ولازما يقال :](٧) بان الشّيء وأبان واستبان ، وبين وتبين ، بمعنى واحد أي : أظهر ، وإذا ظهرت صارت أسبابا للبيان ، وإذا صارت سببا للبيان جاز إسناد البيان إليها ، كما أنّ الأصنام لما كانت سببا للضلال حسن إسناد الإضلال إليها لأنّ الفاحشة لا فعل لها في الحقيقة. وأيضا الفاحشة تتبين فإن يشهد عليها أربعة صارت مبينة.

وقرأ بعضهم (٨) «مبينة» بكسر الياء وسكون الياء اسم فاعل من «أبان» وهذان (٩) الوجهان [هما](١٠) المتقدّمان في المشددة المكسورة ؛ لأن «أبان» أيضا يكون متعديا ولازما وأما «مبينات» جمعا فقرأهن الأخوان وابن (١١) عامر وحفص (١٢) عن عاصم بكسر

__________________

(١) في ب : بني.

(٢) ينظر : تفسير الرازي ١٠ / ١١.

(٣) ينظر : الإملاء ١ / ١٧٢.

(٤) سقط في ب.

(٥) انظر : السبعة ٢٣٠ ، والحجة ٤ / ١٤٥ ، وحجة القراءات ١٩٦ ، وإعراب القراءات ١ / ١٣٠ ، ١٣١ ، والعنوان ٨٣ ، وشرح شعلة ٣٣٧ ، وشرح الطيبة ٤ / ٢٠٠ ، وإتحاف ١ / ٥٠٧.

(٦) سقط في ب.

(٧) سقط في أ.

(٨) وهي قراءة ابن عباس.

انظر : المحرر الوجيز ٢ / ٢٨ ، والدر المصون ٢ / ٣٣٦.

(٩) في ب : فيها.

(١٠) سقط في ب.

(١١) في أ : عن.

(١٢) ينظر : القراءة السابقة.

٢٦٠