اللّباب في علوم الكتاب - ج ٦

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ٦

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٦٣٢

لكم من آبائكم وأبنائكم الذين يموتون ، أمن أوصى منهم أم من لم يوص ، يعني : أنّ من أوصى ببعض ماله فعرّضكم لثواب الآخرة بإمضاء وصيته فهو أقرب لكم نفعا وأحضر جدوى ممن ترك الوصية فوفّر عليكم عرض الدّنيا ، وجعل ثواب الآخرة أقرب وأحضر من عرض الدّنيا ذهابا إلى حقيقة الأمر ؛ لأنّ عرض الدّنيا ، وإن كان قريبا عاجلا في الصّورة إلّا أنّه فان ، فهو في الحقيقة الأبعد الأقصى ، وثواب الآخرة ، وإن كان آجلا ، إلّا أنّه باق ، وفي الحقيقة الأقرب الأدنى.

وقيل : إنّ الله ـ تعالى ـ لما ذكر أنصباء الأولاد ، وأنصباء الأبوين ، وكانت العقول لا تدرك (١) معاني تلك التّقديرات ، فربّما خطر ببال الإنسان أنّ القسمة لو وقعت على غير هذا الوجه كانت أنفع له وأصلح لا سيما وقد كانت قسمة المواريث عند العرب على غير هذا الوجه فأزال الله ـ تعالى ـ هذه الشّبهة بأن قال : إنّ عقولكم لا تحيط بمصالحكم ، فربّما اعتقدتم في شيء أنّه صالح لكم ، وهو عين المضرة ، وربّما اعتقدتم في شيء أنّه مضرة ، ويكون عين المصلحة ، وأمّا الإله الرّحيم فهو يعلم مغيبات الأمور وعواقبها ، وكأنّه قال : اتركوا تقديرات المواريث بالمقادير التي تستحسنها عقولكم وانقادوا للمقادير التي قدّرها الله تعالى عليكم بقوله (آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً) إشارة إلى ترك ما يميل الطبع إليه من قسمة المواريث.

قوله : (فَرِيضَةً مِنَ اللهِ) إشارة إلى وجوب الانقياد إلى المقادير الشّرعيّة.

وقال ابن عباس (٢) : (لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً) أي : أطوعهم الله ـ عزوجل ـ من الآباء والأبناء أرفع درجة يوم القيامة [والله تعالى يشفّع المؤمنين بعضهم في بعض ، فإن كان الوالد أرفع درجة يوم القيامة في الجنة رفع إليه ولده وإن كان الولد أرفع درجة](٣) رفع إليه والده لتقر بذلك أعينهم.

قوله : (نَفْعاً) نصب على التّمييز من «أقرب» ، وهو منقول من الفاعلية ، واجب النّصب ؛ لأنّه متى وقع تمييز بعد «أفعل» التفضيل ، فإن صحّ أن يصاغ منها فعل مسند إلى ذلك التّمييز على جهة الفاعليّة وجب النّصب كهذه الآية ، إذ يصحّ أن يقال : أيّهم أقرب لكم نفعه ، وإن لم يصحّ ذلك وجب جرّه نحو : «زيد أحسن فقيه» بخلاف «زيد أحسن فقها» ، وهذه قاعدة مفيدة و «لكم» متعلق ب «أقرب».

قوله : (فَرِيضَةً) فيها ثلاثة أوجه :

أظهرها : أنّها مصدر مؤكد (٤) لمضمون الجملة السّابقة من الوصية ؛ لأن معنى

__________________

(١) في ب : لا تدري.

(٢) ينظر : تفسير البغوي ١ / ٤٠٣ والرازي ٩ / ١٧٧.

(٣) سقط في أ.

(٤) في أ : تكون.

٢٢١

«يوصيكم» : فرض عليكم ذلك ، فصار المعنى : «يوصيكم الله وصية فرض» ، فهو مصدر على غير الصّدر.

والثاني : أنّها مصدر [منصوب بفعل](١) محذوف من لفظها.

قال أبو البقاء (٢) : و (فَرِيضَةً) مصدر لفعل محذوف ، أي : فرض الله ذلك فريضة.

والثالث : قاله مكيّ وغيره : أنّها حال ؛ لأنّها ليست مصدرا ، وكلام الزمخشريّ محتمل للوجهين الأوّلين ، فإنّه قال : «فريضة» نصبت نصب المصدر المؤكد ، أي : «فرض الله ذلك فرضا». ثم قال: (إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً) أي : بأمور العباد «حكيما» بنصب الأحكام.

فإن قيل : لم قال كان عليما حكيما مع أنّه لم يزل كذلك؟.

فالجواب قال الخليل : الخبر عن الله تعالى بهذه الألفاظ ، كالخبر بالحال والاستقبال ؛ لأنّه تعالى منزّه عن الدخول تحت الزمان.

قال سيبويه : القوم لما شاهدوا علما وحكمة وفضلا وإحسانا تعجبوا ، فقيل لهم : إنّ الله كذلك ، ولم يزل موصوفا بهذه الصفات.

قوله تعالى : (وَلَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ)(١٢)

اعلم أنّ أقسام الوراثة ثلاثة :

قسم لا يسقط بحال وهم : الآباء والأولاد والأزواج فهؤلاء قسمان ، والثّالث هو المسمى بالكلالة وهذا القسم متأخر عن القسمين الأوّلين لأنه قد يعرض لهم السّقوط بالكليّة ، ولأنّهم يدلون إلى الميّت بواسطة ، والقسمان الأوّلان يدلون بأنفسهم فقدّم الله تعالى الوارث بالنّسب ؛ لأنّه أعلاها ثمّ ثنى بذكر الوارث بالسّبب الّذي لا يسقط بحال ، لأنّه دون الأوّل وهو الزوجان ثم ذكر القسم الثّالث بعدهما ؛ لأنّه دونهما ، ولما جعل

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) ينظر : الإملاء ١ / ١٦٩.

٢٢٢

نصيب الذّكر مثل حظ الأنثيين في الوارث النّسبي كذلك جعل حظّ الرّجل مثل حظّ الأنثيين في الوارث السببي فقال (وَلَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ)(١) وسواء كان الولد من الزوج ، أو من غيره وسواء كان الولد ذكرا أو أنثى ، ولا فرق بين الأوّلاد وأولاد الأولاد.

فصل : الخلاف في غسل الزوج زوجته بعد موتها

ذهب الشافعيّ وأحمد إلى أنّه يجوز للرّجل أن يغسل (٢) زوجته لقوله (وَلَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ) فسمّاها زوجة بعد الموت.

قال أبو حنيفة : لا يجوز ؛ لأنّها ليست زوجة ؛ لأنّه لا يحلّ وطؤها بعد الموت.

وأجيب بأنّها لو لم تكن زوجة لكان قوله (وَلَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ) مجازا ، وقد ثبت أنّ التّخصيص أولى من المجاز عند التّعارض ، وأيضا فقد حرم الوطء في صور كثيرة مع وجود الزوجيّة (٣) كزمن الحيض والنفاس نهار رمضان ، وعند الصّلوات المفروضة ، والحج المفروض.

ثمّ قال : (وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ) وسواء كانت واحدة أو أربعا فهم فيه سواء ، وهذه الآية تدلّ على فضل الرّجل على المرأة لتفضيلهم في النّصيب ، ولأنّه ذكر الرّجال على سبيل المخاطبة وذكر النساء على سبيل المغايبة.

قوله : (وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً) اضطربت أقوال العلماء في هذه ولا بدّ قبل التعرّض للإعراب من ذكر معنى (الْكَلالَةِ) واشتقاقها ، فإنّ الإعراب متوقف على ذلك ، فنقول : اختلف الناس في معنى (الْكَلالَةِ).

فقال جمهور اللغويين وغيرهم : إنّه الميت الّذي لا ولد له ولا والد ، وهو قول عليّ وابن مسعود.

وقيل : الّذي لا والد له فقط ، وهو قول عمر.

وقيل : الّذي لا ولد له فقط.

وقيل : هو من لا يرثه أب ولا أم ، وعلى هذه الأقوال كلّها فالكلالة واقعة على الميت.

وقيل : الكلالة : الورثة ما عدا الأبوين (٤) والولد ، قاله قطرب ، وهو اختيار أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ وسموا بذلك ؛ لأنّ الميّت بذهاب طرفيه تكلّله الورثة ، أي : أحاطوا به

__________________

(١) في أ : ترك.

(٢) في ب : غسل.

(٣) في أ : الزوجين.

(٤) في أ : اسم للأبوين.

٢٢٣

من جميع نواحيه ، ويؤيّد هذا القول بأنّ الآية نزلت في جابر ، ولم يكن له يوم نزلت أب ولا ابن.

وأيضا يقال (١) : كلت الرحم بين فلان وفلان إذا تباعدت القرابة وحمل فلان على فلان ثمّ كلّ عنه إذا تباعد ، فسميت القرابة البعيدة كلالة من هذا الوجه.

وأيضا يقال : كلّ الرّجل يكلّ كلّا وكلالة : إذا أعيا وذهبت قوّته ، فاستعاروا هذا اللفظ عن القرابة الحاصلة من غير أولاد لبعدها (٢).

وأيضا فإنّه تعالى قال (قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ) [النساء : ١٧٦] وهذه الآية تدلّ على أنّ الكلالة من لا ولد له ولا والد ؛ لأنّه شرط عدم الولد وورّث الأخت والأخ ، وهما لا يرثان مع وجود الأب.

وروى جابر قال (٣) : مرضت مرضا شديدا أشرفت منه على الموت ، فأتاني النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقلت : يا رسول الله إنّي رجل لا يرثني إلّا كلالة ، وأراد به أنّه ليس له والد ولا ولد ، وهو قول سعيد بن جبير وإليه ذهب أكثر الصّحابة.

وروي عن عمر أيضا أنّه قال : سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الكلالة فما أغلظ في شيء ما أغلظ لي فيها ، ضرب بيده صدري وقال «يكفيك آية الصّيف» ، وهي الآية الأخيرة من سورة النساء سميت بذلك ؛ لأنها نزلت في الصّيف ، ومات ولم يفهمها ولم يقل فيها شيئا.

وقيل : (الْكَلالَةِ :) المال الموروث ، وهو قول النّضر بن شميل.

وقيل : (الْكَلالَةِ) القرابة ، وقيل : الوراثة.

فقد تلخص مما تقدم أنّها [إمّا](٤) الميّت الموروث أو الوارث ، أو المال الموروث ، أو الإرث ، أو القرابة.

وأما اشتقاقها : فقيل : هي مشتقة من تكلّله الشّيء ، أي (٥) : أحاط به ، وذلك أنّه إذا لم يترك ولدا ولا والدا فقد انقطع طرفاه ، وهما عمودا نسبه (٦) وبقي ماله الموروث لمن يتكلّله نسبه ، أي : يحيط به كالإكليل.

ومنه «الروضة المكللة» أي : بالزّهر ، وعليه قول الفرزدق : [الطويل]

__________________

(١) ينظر : الرازي ٩ / ١٧٩.

(٢) ينظر : تفسير الرازي ٩ / ١٧٩.

(٣) ينظر : الرازي ٩ / ١٨٠.

(٤) سقط في ب.

(٥) في ب : إذا.

(٦) في أ : على عمود النسبة.

٢٢٤

١٧٦٥ ـ ورثتم قناة المجد لا عن كلالة

عن ابني مناف عبد شمس وهاشم (١)

وقيل : اشتقاقها من «الكلال» وهو الإعياء ، فكأنه يصير الميراث إلى الوارث من بعد إعياء.

وقال الزّمخشريّ : و «الكلالة» في الأصل : مصدر بمعنى الكلال وهو ذهاب القوّة من الإعياء.

قال الأعشى : [الطويل]

١٧٦٦ ـ فآليت لا أرثي لها من كلالة

ولا من وحى حتّى تلاقي محمّدا (٢)

فاستعير للقرابة من غير جهة الولد والوالد ، لأنّها بالإضافة إلى قرابتهما كأنها كالّة ضعيفة ، وأجاز فيها أيضا أن تكون صفة على وزن «فعالة» ، قال : «كالهجاجة والفقاقة للأحمق».

ويقال : رجل كلالة ، وامرأة كلالة ، وقوم كلالة ، لا يثنى ولا يجمع ؛ لأنّه مصدر كالدّلالة والوكالة.

إذا تقرّر هذا فلنعد إلى الإعراب بعون الله ، فنقول : يجوز في «كان» وجهان :

أحدهما : أن تكون ناقصة و «رجل» اسمها ، وفي الخبر احتمالان :

أحدهما : أنه «كلالة» إن قيل : إنها الميت ، وإن قيل : إنّها الوارث ، أو غير ذلك ، فتقدّر حذف مضاف ، أي : ذا كلالة ، و «يورث» حينئذ في محلّ رفع صفة ل «رجل» وهو فعل مبنيّ للمفعول ، ويتعدّى في الأصل لاثنين أقيم الأوّل مقام الفاعل ، وهو ضمير الرّجل.

والثّاني : محذوف تقديره : يورث هو ماله ، وهل هذا الفعل من «ورث» الثّلاثي أو «أورث» الرّباعيّ؟.

فيه خلاف ، إلّا أنّ الزّمخشريّ لمّا جعله من الثّلاثي جعله يتعدّى إلى [المفعول](٣) الأوّل من المفعولين ب «من» فإنّه قال [وإن كان رجل يورث من كلالة](٤) و «يورث» من ورث (٥) أي : يورث فيه يعني أنّه في الأصل يتعدّى ب «من». [قال :](٦) وقد تحذف ، تقول : «ورثت زيدا ماله» أي : من زيد ، ولمّا جعله من «أورث» جعل الرّجل وارثا لا

__________________

(١) ينظر البيت في ديوانه ص (٦٢) وهو هكذا :

ورثتم قناة الملك غير كلالة

عن ابن مناف عبد شمس وهاشم

والبحر ٣ / ١٩٧ والدر المصون ٢ / ٣٢٤.

(٢) ينظر البيت في ديوانه (١٨٥) ، وخزانة الأدب ١ / ١٧٧ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٥٧٧ ، والأشباه والنظائر ٦ / ٩٠ ، وشرح المفصل ١٠ / ١٠٠ والدر المصون ٢ / ٣٢٤ ، والكشاف ١ / ٤٨٥ وفي رواية «ومى» ، وفي أخرى «حفى».

(٣) سقط في ب.

(٤) سقط في ب.

(٥) في ب : يرث.

(٦) سقط في ب.

٢٢٥

موروثا ، فإنّه قال : «فإن قلت : فإن جعلت ثورث على البناء للمفعول من «أورث» فما وجهه؟.

قلت : الرّجل حينئذ الوارث لا الموروث».

وقال أبو حيّان (١) : إنّه من «أورث» الرّباعيّ المبنيّ للمفعول ، ولم يقيّده بالمعنى الذي قيده به الزّمخشريّ.

الاحتمال الثّاني : أن يكون الخبر الجملة من «يورث».

وفي نصب (كَلالَةً) أربعة أوجه :

أحدها : أنّه حال من الضمير في «يورث» ، إن أريد بها الميّت ، أو الوارث ، إلّا أنّه يحتاج في جعلها بمعنى الوارث إلى تقدير مضاف ، أي : يورث ذا كلالة ؛ لأنّ الكلالة حينئذ ليست نفس الضّمير المستكن في (يُورَثُ).

قال أبو البقاء (٢) على جعلها بمعنى الميت ولو قرىء «كلالة» بالرّفع على أنّها صفة أو بدل من الضّمير في (يُورَثُ) لجاز ، غير أنّي لم أعرف أحدا قرأ به ، فلا يقرأنّ إلا بما نقل. يعني بكونها صفة : أنّها صفة ل «رجل».

الثّاني : أنّها مفعول من أجله ، إن قيل : إنّها بمعنى القرابة ، أي : يورث لأجل الكلالة.

الثّالث : أنّه مفعول ثان ل (يُورَثُ) إن قيل : إنّها بمعنى المال الموروث.

الرّابع : أنّها نعت لمصدر محذوف ، إن قيل : إنّها بمعنى الوراثة ، أي : يورث وراثة كلالة.

وقدّر مكّيّ في هذا الوجه حذف مضاف تقديره : «ذات كلالة».

وأجاز بعضهم على كونها بمعنى الوراثة أن تكون حالا.

الوجه الثّاني من وجهي «كان» أن تكون تامّة ، فيكتفى بالمرفوع ، أي : وإن وجد رجل. و (يُورَثُ) في محلّ رفع صفة ل «رجل» و (كَلالَةً) منصوبة على ما تقدّم من الحال ، أو المفعول من أجله أو المفعول به ، أو النّعت لمصدر محذوف على ما قرّر من معانيها ، ويخصّ هذا وجه آخر ذكره مكيّ ، وهو أن تكون (كَلالَةً) منصوبة على التمييز.

[قال مكّيّ : «كان» أي : وقع ، و (يُورَثُ) نعت للرّجل و «رجل» رفع ب «كان» و (كَلالَةً) نصب على التفسير](٣).

__________________

(١) ينظر البحر المحيط ٣ / ١٩٧.

(٢) ينظر الإملاء ١ / ١٦٩.

(٣) سقط في ب.

٢٢٦

وقيل : هو نصب على الحال على أنّ الكلالة هو الميّت على هذين الوجهين ، وفي جعلها تفسيرا ـ أي : تمييزا ـ نظر لا يخفى.

وقرأ الجمهور : (يُورَثُ) مبنيّا للمفعول كما تقدّم توجيهه.

وقرأ الحسن (١) : يورث مبنيّا للفاعل ، ونقل عنه أيضا ، وعن أبي رجاء كذلك ، إلّا أنّهما شدّدا الراء ، وتوجيه القراءتين واضح ممّا تقدّم ، وذلك أنّه إن أريد بالكلالة الميّت ، فيكون المفعولان محذوفين ، و (كَلالَةً) نصب على الحال ، أي : وإن كان رجل يورث وارثة ، أو أهله ماله في حال كونه كلالة.

وإن أريد بها القرابة ، فتكون منصوبة على المفعول من أجله ، والمفعولان أيضا محذوفان على ما تقدّم تقريره ، وإن أريد بها المال كانت مفعولا ثانيا ، والأوّل محذوف أي : يورث أهله ماله ، وإن أريد بها الوارث فبالعكس ، أي : يورث ماله أهله.

قوله : (أَوِ امْرَأَةٌ) عطف على (رَجُلٌ) وحذف منها ما أثبت في المعطوف عليه للدلالة على ذلك ، التّقدير : أو امرأة تورث كلالة ، وإن كان لا يلزم من تقييد المعطوف عليه تقييد المعطوف ولا العكس ، إلّا أنّه هو الظّاهر.

وقوله : (وَلَهُ أَخٌ)(٢) جملة من مبتدأ وخبر في محلّ نصب على الحال ، والواو الدّاخلة عليها واو الحال ، وصاحب الحال إمّا (رَجُلٌ) أي : إن كان (يُورَثُ) صفة له ، وإمّا الضّمير المستتر في (يُورَثُ) ووحّد الضمير في قوله : «وله» ؛ لأنّ العطف ب «أو» وما ورد على خلاف ذلك أوّل عند الجمهور كقوله : (إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللهُ أَوْلى بِهِما) [النساء : ١٣٥].

فإن قيل : قوله تعالى : (وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ) ثم قال (وَلَهُ أَخٌ) فهي عن الرّجل ، وما هي عن المرأة ، فما السّبب فيه؟.

فالجواب : قال النّحاة : إذا تقدّم متعاطفان ب «أو» مذكر ومؤنّث كنت بالخيار ، بين أن تراعي المتقدم أو المتأخّر ، فتقول : «زيد أو هند قام» وإن شئت : «قامت».

وأجاب أبو البقاء عن تذكيره بثلاثة أوجه :

أحدها : أنّه يعود على الرّجل وهو مذكر مبدوء به (٣).

الثّاني : أنّه يعود على أحدهما ، ولفظ «أحد» مفرد مذكّر.

والثّالث : أنّه يعود على الميّت ، أو الموروث لتقدّم ما يدلّ عليه ، والضّمير في قوله : (فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا) فيه وجهان :

__________________

(١) انظر : المحرر الوجيز ١ / ١٩ ، والبحر المحيط ٣ / ١٩٧ ، والدر المصون ٢ / ٣٢٥.

(٢) في أ : ولد.

(٣) في أ : ولو مذكر مبدوأ به.

٢٢٧

أحدهما : أنّه يعود على الأخ والأخت.

والثّاني : أنّه يعود على الرّجل ، وعلى أخيه وأخته ، إذا أريد بالرّجل في قوله : (وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً) أنّه وارث لا موروث ، كما تقدّمت حكايته في قول الزّمخشريّ.

قال الزّمخشريّ ـ بعد ما حكيناه عنه ـ : «فإن قلت : فالضّمير في قوله : «فلكل واحد منهما» إلى من يرجع حينئذ؟.

قلت : على الرّجل ، وعلى أخيه ، أو أخته ، وعلى الأوّل إليهما.

فإن قلت : إذا رجع الضّمير إليهما (١) أفاد استواءهما في حيازة السّدس من غير مفاضلة الذّكر للأنثى ، فهل تبقى هذا الفائدة قائمة في هذا الوجه؟.

قلت : نعم ، لأنك إذا قلت : السّدس له أو لواحد من الأخ أو الأخت على التخيير ، فقد سوّيت بين الذّكر والأنثى». انتهى.

وأجمع المفسّرون على أنّ المراد بالأخ والأخت هاهنا الإخوة من الأمّ ؛ لأنّ ما في آخر السّورة يدلّ على ذلك ، وهو كون للأخت النّصف ، وللأختين الثّلثان وللإخوة الذّكور والإناث للذّكر مثل حظّ الأنثيين ، ولقراءة أبي سعيد (٢). وقرأ أبيّ «أخ أو أخت من الأم» (٣).

وقرأ سعد بن أبي وقاص (٤) «من أم» بغير أداة التّعريف.

قوله : (فَإِنْ كانُوا) الواو ضمير الإخوة من الأمّ المدلول عليهم بقوله : (أَخٌ أَوْ أُخْتٌ) والمراد الذّكور والإناث ، وأتى بضمير الذّكور في قوله : (كانُوا) وقوله : (خَلْفَهُمْ) تغليبا للمذكّر على المؤنّث ، و «ذلك» إشارة إلى الواحد ، أي : أكثر من الواحد ، يعني : فإن كان من يرث زائدا على الواحد ؛ لأنّه لا يصحّ أن يقال : «هذا أكثر من واحد» بهذا المعنى لتنافي معنى كثير وواحد ، وإلّا فالواحد لا كثرة فيه ، وتقدّم إعراب (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها).

فصل : في أثر عن أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ

قال أبو بكر الصّديق ـ رضي الله عنه ـ في خطبته : ألا إنّ الآية التي أنزل الله ـ تعالى ـ في أوّل سورة النّساء في بيان الفرائض أنزلها في الولد ، والوالد والأمّ ، والآية

__________________

(١) في ب : عليهما.

(٢) انظر : البحر المحيط ٣ / ١٩٨ ، والدر المصون ٢ / ٣٢٦.

(٣) في أ : أو أخت من الأم.

(٤) هذه القراءة وردت كما عند المصنف في البحر المحيط ٣ / ١٩٨ ، والدر المصون ٢ / ٣٢٦ ، ولكن ابن عطية قال (٢ / ١٩) وقرأ سعد بن أبي وقاص : «وله أخ أو أخت لأمه».

٢٢٨

الثّانية في الزّوج والزّوجة والإخوة من الأمّ ، والآية الّتي ختم بها سورة النساء في الإخوة ، والأخوات من الأب والأمّ ، والآية التي ختم بها سورة الأنفال أنزلها في أولي الأرحام (بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ)(١) [الأنفال : ٧٥].

قوله : (غَيْرَ مُضَارٍّ) «غير» نصب على الحال من الفاعل في «يوصى» ، وهو ضمير يعود على الرجل في قوله : (وَإِنْ كانَ رَجُلٌ ،) هذا إن أريد بالرّجل الموروث ، وإن أريد به الوارث كما تقدّم ، فيعود على الميّت الموروث المدلول عليه بالوارث من طريق الالتزام ، كما دلّ عليه في قوله : (فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ ،) أي : تركه الموروث ، فصار التقدير : يوصى بها الموروث ، وهكذا أعربه الناس فجعلوه حالا : الزّمخشريّ وغيره.

وردّه أبو حيّان (٢) ، بأنّه يؤدّي إلى الفصل بين هذه الحال (٣) وعاملها بأجنبيّ منهما ، وذلك أنّ العامل فيها (يُوصى) كما تقرّر.

وقوله : (أَوْ دَيْنٍ) أجنبي ؛ لأنّه معطوف على (وَصِيَّةٍ) الموصوفة بالعامل في الحال.

قال : ولو كان على ما قالوه من الإعراب لكان التركيب : «من بعد وصية يوصى بها غير مضار أو دين».

وهذا الوجه مانع في كلتا القراءتين : أعني بناء الفعل للفاعل ، أو المفعول ، وتزيد عليه قراءة البناء للمفعول وجها آخر ، وهو أن صاحب الحال غير مذكور ؛ لأنّه فاعل في الأصل ، حذف وأقيم المفعول مقامه ، ألا ترى أنّك لو قلت : «ترسل الرياح مبشرا بها» بكسر الشين يعني «يرسل الله الرياح مبشرا بها» فحذفت الفاعل ، وأقمت المفعول مقامه ، وجئت بالحال من الفاعل لم يجز ، فكذلك هذا ، ثم خرّجه على أحد وجهين :

إما بفعل يدلّ عليه ما قبله من المعنى ؛ ويكون عاما لمعنى ما يتسلّط على المال بالوصية أو الدّين ، وتقديره : يلزم ذلك ماله ، أو يوجبه [فيه](٤) غير مضارّ بورثته بذلك الإلزام أو الإيجاب.

وإمّا بفعل مبني للفاعل لدلالة المبني للمفعول عليه ، أي : يوصي غير مضارّ ، فيصير نظير قوله : (يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ رِجالٌ) [النور : ٣٦ ، ٣٧] على قراءة من قرأ بفتح الباء.

فصل

اعلم أنّ الضّرار في (٥) الوصيّة يقع على وجوه :

__________________

(١) ينظر : تفسير البغوي ١ / ٤٠٤.

(٢) ينظر : البحر المحيط ٣ / ١٩١.

(٣) في أ : الحالة.

(٤) سقط في ب.

(٥) في أ : من.

٢٢٩

منها : أن يوصي بأكثر من الثّلث ، أو يقرّ بكلّ ماله ، أو ببعضه لآخر ، أو يقرّ على نفسه بدين لا حقيقة له دفعا للميراث عن الورثة ، أو يقرّ بأنّ الدّين الذي كان له على فلان قد استوفاه ووصل إليه ، أو يبيع شيئا بثمن رخيص ، أو يشتري شيئا بثمن غال ، كلّ ذلك لغرض ألّا يصل المال إلى الورثة ، أو يوصي بالثّلث لا لوجه الله ولكن لغرض تنقيص حقوق الورثة ، فهذا هو [وجه](١) الإضرار في الوصية.

روى عكرمة عن ابن عبّاس أنّه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الإضرار في الوصيّة من الكبائر» (٢) ، وعن شهر بن حوشب عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّ الرّجل ليعمل بعمل أهل الجنّة سبعين سنة فإذا أوصى وجار في وصيّته ختم الله له بشرّ عمله ؛ فيدخل النّار ، وإنّ الرّجل ليعمل بعمل أهل النّار سبعين سنة فيعدل في وصيّته فيختم الله له بخير عمله فيدخل الجنّة» (٣) ، وقال عليه الصلاة والسلام : «من قطع ميراثا فرضه الله ـ تعالى ـ قطع الله ـ تعالى ـ ميراثه من الجنّة» (٤) ، ويدلّ على ذلك قوله تعالى بعد هذه الآية (٥) :

(تِلْكَ حُدُودُ اللهِ) قال ابن عبّاس : في الوصيّة (وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ) قال : في الوصيّة (٦).

فصل هل يجب إخراج الزكاة والحج من التركة؟

قال الشّافعيّ : إذا أخّر الزّكاة والحج حتّى مات يجب (٧) إخراجهما من التّركة.

وقال أبو حنيفة : «لا تجب».

حجّة الوجوب أنّها دين ، وقال تعالى : (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ).

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) أخرجه الدارقطني (٤ / ١٥١) والعقيلي في «الضعفاء» (٣ / ١٨٩) وابن أبي حاتم كما في «كنز العمال» (٦٠٦٩).

وقال العقيلي : لا نعرف أحدا رفعه غير عمر بن المغيرة المصيصي وأخرجه ابن مردويه في «تفسيره» بلفظ الحيف في الوصية من الكبائر كما في «التعليق المغني» (٤ / ١٥١).

(٣) أخرجه أبو داود (٢٨٧٦) والترمذي (٢١١٧) وابن ماجه (٢٧٠٤) وأحمد (٢ / ٢٧٨) والبيهقي (٦ / ٢٧١) والبغوي في «شرح السنة» (٥ / ٢٨٦).

(٤) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٢٢٨ ـ ٢٢٩) وعزاه لابن أبي شيبة وسعيد بن منصور عن سليمان بن موسى ولابن ماجه عن أنس ، وللبيهقي في «البعث» عن أبي هريرة.

(٥) في ب : الوصية.

(٦) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٨ / ٧٢).

(٧) في ب : وجب.

٢٣٠

وقال عليه الصّلاة والسّلام : «أرأيت لو كان على أبيك دين» وقال عليه‌السلام : «دين الله أحقّ أن يقضى».

قوله : (وَصِيَّةٍ) في نصبها أربعة أوجه :

أحدها : أنّه مصدر مؤكّد ، أي : يوصيكم الله [بذلك](١) وصيّة.

الثّاني : أنها مصدر في موضع الحال ، والعامل فيها (يُوصِيكُمُ اللهُ) قاله ابن عطيّة.

والثّالث : أنّها منصوبة على الخروج إمّا من قوله : (فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ) ، أو من قوله : (فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ ،) وهذه عبارة تشبه عبارة الكوفيين.

والرّابع : أنّها منصوبة باسم الفاعل وهو (مُضَارٍّ) والمضارّة لا تقع بالوصيّة بل بالورثة ، لكنّه لمّا وصّى الله ـ تعالى ـ بالورثة جعل المضارّة الواقعة بهم كأنها واقعة بنفس الوصيّة مبالغة في ذلك ، ويؤيّد هذا التخريج قراءة الحسن (٢) : (غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللهِ) بإضافة اسم الفاعل إليها على ما ذكرناه من المجاز ، وصار نظير قولهم : «يا سارق الليلة» ، التقدير (٣) : يا سارقا في اللّيلة ، ولكنّه أضاف اسم الفاعل إلى ظرفه مجازا واتّساعا ، فكذلك هذا أصله : «غير مضار في وصية من الله» ، فاتّسع في هذا إلى أنّ عدّي بنفسه من غير واسطة ، لما ذكرنا من قصد المبالغة ، وهذا أحسن تخريجا من تخريج أبي البقاء فإنّه ذكر في تخريج قراءة الحسن وجهين :

أحدهما : أنّه على حذف «أهل» أو «ذي» أي : غير مضارّ أهل وصيّة ، أو ذي وصيّة.

والثّاني : على حذف وقت ، أي : وقت وصيّة ، قال : وهو من إضافة الصّفة إلى الزّمان ، ويقرب من ذلك قولهم : هو فارس حرب ، أي : فارس في الحرب ، وتقول : هو فارس زمانه ، أي : فارس في زمانه ، كذلك تقدير القراءة : غير مضارّ في وقت الوصيّة.

ومفعول (مُضَارٍّ) محذوف إذا لم تجعل (وَصِيَّةٍ) مفعولة ، أي : غير مضارّ ورثته بوصيّة.

فإن قيل : ما الحكمة في أنّه ختم الآية الأولى بقوله : (فَرِيضَةً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) وختم هذه الآية بقوله : (وَصِيَّةً مِنَ اللهِ)؟ فالجواب : أنّ لفظ الفرض أقوى وأوكد من لفظ الوصيّة ، فختم شرح ميراث الأولاد بذكر الفريضة ، وختم شرح ميراث الكلالة بالوصيّة ليدلّ بذلك على أنّ الكلّ ، وإن كان واجب الرّعاية ، إلّا أن رعاية حال الأولاد

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) انظر : المحرر الوجيز ٢ / ٢٠ ، والبحر المحيط ٣ / ١٩٩ ، والدر المصون ٢ / ٣٢٧ ، وإتحاف ١ / ٥٠٥.

(٣) في أ : البصير.

٢٣١

أولى وأقوى ، ثمّ قال : (وَاللهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ) عليم بمن جار أو عدل في وصيته «حليم» على الجائر لا يعاجله بالعقوبة وهذا وعيد.

قوله تعالى : (تِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٣) وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها وَلَهُ عَذابٌ مُهِينٌ) (١٤)

لما بيّن سهام المواريث ذكر الوعد والوعيد ، ترغيبا في الطّاعة وترهيبا عن المعصية.

وقوله تعالى : (تِلْكَ) إشارة إلى ما ذكر من المواريث ؛ لأنّ الضّمير يعود إلى أقرب مذكور.

وقيل : إشارة إلى كلّ ما ذكر من أوّل السّورة إلى هنا من أحكام أموال اليتامى ، والأنكحة ، وأحكام المواريث ، قاله الأصمّ (١) ؛ لأنّ الأقرب إذا لم يمنع من عوده إلى الأبعد وجب عوده إلى الكلّ ؛ ولأنّ المراد بحدود الله : الأحكام التي ذكرها وبيّنها ، ومنه حدود الدّار ؛ لأنّها تميزها من غيرها.

قوله : (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ) وقوله (وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ).

قيل : مختصّ بمن أطاع أو عصى في هذه التّكاليف المذكورة في هذه السّورة.

وقال المحقّقون (٢) : بل هو عام ؛ لأنّ اللّفظ عامّ فيتناول الكلّ.

قوله : (يُدْخِلْهُ) حمل على لفظ «من» ، فأفرد الضّمير في قوله : (يُطِعِ اللهَ) و (يُدْخِلْهُ) وعلى معناها ، فجمع في قوله : (خالِدِينَ) وهذا أحسن الحملين ، أعني : الحمل على اللّفظ ، ثم على المعنى ، ويجوز العكس ، وإن كان ابن عطيّة قد منعه وليس بشيء لثبوته عن العرب ، وقد تقدّم ذلك مرارا ، وفيه تفصيل ، وله شروط مذكورة في كتب النحو.

قوله : (خالِدِينَ) في نصبه وجهان :

أظهرهما : أنّه حال من الضمير المنصوب في (يُدْخِلْهُ) ولا يضرّ تغاير الحال وصاحبها من حيث كانت جمعا وصاحبها مفردا ، لما تقدّم من اعتبار اللّفظ والمعنى وهي مقدّرة ؛ لأنّ الخلود بعد الدّخول.

والثّاني : أن يكون نعتا ل (جَنَّاتٍ) من باب ما جرى على موصوفه لفظا ، وهو

__________________

(١) ينظر : تفسير الرازي ٩ / ١٨٤.

(٢) ينظر : المصدر السابق.

٢٣٢

لغيره معنى (١) ، نحو : مررت برجل قائمة أمّه ، وبامرأة حسن غلامها ، ف «قائمة» وحسن وإن كانا جاريين على ما قبلهما لفظا فهما لما بعدهما معنى ، وأجاز ذلك في الآية الكريمة الزّجّاج وتبعه التبريزيّ ، إلّا أنّ الصّفة إذا جرت على غير من هي له وجب إبراز الضّمير مطلقا على مذهب البصريين ألبس أو لم يلبس.

وأمّا الكوفيون فيفصّلون ، فيقولون : إذا جرت الصّفة على غير من هي له ، فإن ألبس وجب إبراز الضمير ، كما هو مذهب البصريين ؛ نحو : «زيد عمرو ضاربه هو» ، إذا كان الضرب واقعا من زيد على عمرو ، فإن لم يلبس لم يجب الإبراز ، نحو : «زيد هند ضاربها» ، إذا تقرّر هذا فمذهب الزّجّاج في الآية إنّما يتمشّى على رأي الكوفيين ، وهو مذهب حسن.

واستدلّ من نصر مذهب الكوفيين بالسّماع ، فمنه قراءة من قرأ (٢)(إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ) [الأحزاب : ٥٣] بجر «غير» مع عدم بروز الضمير ، ولو أبرزه لقال : غير ناظرين إناه أنتم.

ومنه قول الآخر : [البسيط]

١٧٦٧ ـ قومي ذرا المجد بانوها وقد علمت

بكنه ذلك عدنان وقحطان (٣)

ولم يقل : بانوها هم.

وقد خرّج بعضهم البيت على حذف مبتدأ ، تقديره : هم بانوها (٤) ف «قومي» مبتدأ أوّل ، و «ذرا» مبتدأ ثان ، و «هم» مبتدأ ثالث ، و «بانوها» (٥) خبر الثّالث والثّالث وخبره خبر الثّاني والثاني وخبره خبر الأوّل.

وقد منع الزمخشريّ كون «خالدين» و «خالدا» صفة ل «جنّات» و «نارا». فقال : فإن قلت : هل يجوز أن يكونا صفتين ل «جنات» و «نارا»؟ قلت : لا لأنّهما جريا على غير من هما له ، فلا بدّ من الضّمير في قولك : «خالدين هم فيها» ، و «خالدا هو فيها».

ومنع أبو البقاء ذلك أيضا بعدم إبراز الضمير لكن مع «خالدا» ولم يتعرض لذلك مع «خالدين» ولا فرق بينهما ، ثم حكى جواز ذلك عن الكوفيين ، وهذا المنع على مذهب البصريين كما تقدّم.

وقرأ (٦) نافع وابن عامر هنا «ندخله» في الموضعين ، وفي سورة الفتح [الآية ١٧]

__________________

(١) في أ : وهو لغير مذكور معنى.

(٢) ستأتي في الأحزاب.

(٣) ينظر أوضح المسالك ١ / ١٩٦ ، وتخليص الشواهد ص ١٨٦ ، والدرر ٢ / ٩ ، وشرح الأشموني ١ / ٩٣ ، وشرح التصريح ١ / ١٦٢ ، وشرح ابن عقيل ص ١٠٩ ، وهمع الهوامع ١ / ٩٦ والدر المصون ٢ / ٣٢٨.

(٤) في أ : بأبوها.

(٥) في أ : بأبوها.

(٦) انظر : السبعة ٢٢٨ ، والحجة ٣ / ١٤٠ ، وحجة القراءات ١٩٣ ، والعنوان ٨٣ ، وإعراب القراءات ١ / ـ ـ ١٣٠ ، وشرح شعلة ٣٣٥ ، وشرح الطيبة ٤ / ١٩٥ ، وإتحاف ١ / ٥٠٥.

٢٣٣

وفي سورة التغابن [الآية ٩] والطلاق [الآية ١١] بنون العظمة ، والباقون بالياء ، والضمير لله تعالى.

فإن قيل : كيف جمع (خالِدِينَ) في الطائعين ، وأفرد خالدا في العاصين؟.

فالجواب : قالوا : لأنّ أهل الطّاعة أهل الشّفاعة ، فلمّا كانوا يدخلون هم والمشفوع لهم ناسب ذلك الجمع ، والعاصي لا يدخل به غيره النار ، فناسب ذلك الإفراد.

قوله : (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) هذه الجملة في محل نصب صفة ل «جنات» ، وقد تقدم مرارا أن المنصوب بعد «دخل» من الظروف هل نصبه نصب الظّروف ، أو نصب المفعول به؟

الأوّل : قول الجمهور.

والثاني : قول الأخفش ، فكذلك (جَنَّاتٍ) ، و (ناراً).

فصل

قالت المعتزلة (١) : هذه الآية دلّت على أنّ العصاة من أهل الصّلاة يخلدون في النّار ؛ لأنّ قوله (وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ) إمّا أن يختص بمن تعدّى الحدود المتقدمة ، وهي حدود المواريث أو يدخل فيها ذلك وغيره ، وعلى هذا يلزم دخول من تعدّى في المواريث في هذا الوعيد ، وذلك عام فيمن تعدّى ، وهو من أهل الصّلاة ، أو ليس من أهل الصّلاة فدلّت هذه (٢) الآية على القطع بالوعيد وعلى الخلود ، ولا يقال على هذا الوعيد مختص بمن تعدّى حدود الله ، وذلك لا يتحقّق إلّا في حقّ الكافر ، فإنّه هو الّذي تعدّى جميع حدود الله ، فإنّا نقول : هذا مدفوع من وجهين :

الأوّل : أنّا لو حملنا هذه الآية على تعدي جميع حدود الله خرجت الآية عن الفائدة ، لأنّ الله تعالى نهى عن اليهوديّة والنّصرانية ، والمجوسيّة ، فتعدي جميع هذه النّواهي وتركها إنما يكون بأن يأتي اليهودية والنصرانية والمجوسية معا ، وذلك محال ، فثبت أن تعدي جميع حدود الله محال ، وإذا كان كذلك علمنا أنّ المراد منه أي حدّ كان من حدود الله.

الثّاني : أنّ هذه الآية مذكورة عقيب قسمة المواريث فيكون المراد فيها التّعدي في الحدود المذكورة في قسمة الموارث.

وأجيب (٣) بأنّا أجمعنا على أنّ هذا الوعيد مختصّ بعدم التّوبة ؛ لأنّ الدّليل دلّ على أنّه إذا تاب لم يبق هذا الوعيد فكذلك يجوز أن يكون مشروطا بعدم العفو ، فإنّ بتقدير (٤)

__________________

(١) ينظر : الرازي ٩ / ١٨٤ ، ١٨٥.

(٢) في أ : قدمت.

(٣) في أ : وأجيبوا.

(٤) في أ : بتقديم.

٢٣٤

قيام الدلالة على حصول العفو يمتنع بقاء هذا الوعيد عند حصول العفو ، ونحن قد ذكرنا الدلائل (١) الدّالة على حصول العفو ، ثمّ نقول : هذا العموم مخصوص بالكافر (٢) لوجهين :

الأوّل : أنا إذا قلنا لكم : ما الدّليل على أنّ كلمة «من» في معرض الشّرط تفيد العموم؟ قلتم : لأنّه يصحّ الاستثناء [منه ، والاستثناء](٣) يخرج من الكلام ما لولاه لدخل فيه ، فنقول : إن صح هذا الدّليل فهو يدلّ على أنّ قوله (وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ) يختصّ بالكافر ؛ لأن جميع المعاصي يصحّ استثناؤها من هذا اللفظ ، فيقال : ومن يعص الله ورسوله إلّا في الكفر ، وإلّا في الفسق ، وحكم الاستثناء إخراج ما لولاه لدخل ، فهذا يقتضي (٤) أن قوله : (وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ) في جميع أنواع المعاصي والقبائح ، وذلك لا يتحقّق إلّا في حقّ الكافر ، وقوله (٥) : الإتيان بجميع المعاصي محال قال : وذلك لأنّ الإتيان باليهوديّة والنصرانيّة والمجوسية معا محال ، فنقول : ظاهر اللّفظ يقتضي العموم إلّا إذا قام مخصّص عقليّ أو شرعيّ ، وعلى هذا التقدير يسقط سؤالهم.

والوجه الثاني : في بيان تخصيص العموم بالكافر ، أنّ قوله : (وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ) يفيد كونه فاعلا للمعصية والذّنب ، فقوله : «ويتعد حدوده» لو كان المراد منه عين ذلك للزم التّكرار ، وهو خلاف الأصل فوجب حمله على الكفر ، وقولهم : تحمل هذه الآية على تعدّي الحدود المذكورة في المواريث.

قلنا : هب أنّ الأمر كذلك إلّا أنّه يسقط ما ذكرناه من السّؤال بهذا الكلام ؛ لأنّ التّعدي في حدود المواريث تارة [يكون](٦) بأن يعتقد أنّ تلك التّكاليف ، والأحكام حقّ وواجبة القبول ، إلّا أنّه يتركها ، وتارة [يكون](٧) بأن يعتقد أنّها واقعة لا على وجه الحكمة والصّواب ، فيكون هذا هو الغاية من تعدي الحدود وأمّا (٨) الأوّل فلا يكاد يطلق في حقّه أنه تعدى حدود الله ، وإلّا لزم وقوع التّكرار ، فعلمنا أنّ هذا الوعيد مختصّ بالكافر الذي لا يرضى بما قسمه الله من المواريث.

فصل

قال ابن عبّاس (٩) : الإضرار في الوصيّة من الكبائر ؛ لأنّه عقّب هذه الآية بالوعيد.

وفي الحديث «إنّ الرّجل ليعمل بعمل أهل الجنّة سبعين سنة فيحيف في وصيّته فيختم له [الله](١٠) بشر عمله فيدخل النار ، وإنّ الرّجل ليعمل بعمل أهل النّار سبعين

__________________

(١) في أ : الدليل.

(٢) في أ : للكافر.

(٣) سقط في أ.

(٤) في ب : فهاهنا.

(٥) في ب : وقولهم.

(٦) سقط في أ.

(٧) سقط في أ.

(٨) في ب : فأما.

(٩) ينظر : تفسير الرازي ٩ / ١٨٣.

(١٠) سقط في ب.

٢٣٥

سنة فيعدل في وصيّته فيختم له بخير فيدخل الجنة».

وفي الحديث : من قطع ميراثا فرضه الله قطع الله ميراثه من الجنة» (١) والزيادة في الوصيّة (٢) تدل على الحسرة الشديدة وذلك من أكبر الكبائر.

قوله تعالى : (وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً)(١٥)

لما أمر تعالى في الآية المتقدّمة بالإحسان إلى النساء أمر هنا بالتّغليظ عليهن فيما يأتينه من الفاحشة فإن ذلك إحسان إليهن في الحقيقة.

وأيضا وكما يستوفي لخلقه فكذلك يستوفي عليهم وليس في أحكامه محاباة.

وأيضا فلا يجعل أمر الله بالإحسان إليهنّ سببا لترك إقامة الحدود عليهن فيصير ذلك سببا لوقوعهن في أنواع المفاسد.

قوله : (وَاللَّاتِي) جمع «التي» في المعنى لا في اللّفظ ، لأنّ هذه صيغ [موضوعة للتّثنية والجمع ، وليس بتثنية ولا جمع حقيقة.

وقال أبو البقاء : «اللاتي» جمع «التي» على غير قياس.

وقيل : هي صيغة](٣) موضوعة للجمع ، ومثل هذا لا ينبغي أن يعدّه خلافا ، ولها جموع كثيرة : ثلاث عشرة لفظة ، وهي : اللاتي واللواتي ، واللائي ، وبلا ياءات فهذه ستّ ، واللاي بالياء من غير همز ، واللا من غير ياء ولا همز ، واللّواء ، بالمدّ ، واللّوا بالقصر و «الألى» كقوله : [الطويل]

١٧٦٨ ـ فأمّا الألى يسكنّ غور تهامة

فكلّ فتاة تترك الحجل أفصما (٤)

إلّا أنّ الكثير أن تكون جمع «الّذي» و «اللّاءات» مكسورا مطلقا أو معربا إعراب جمع المؤنّث السّالم كقوله : [الطويل]

__________________

(١) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ١٢٨) وعزاه إلى ابن أبي شيبة وسعيد بن منصور عن سليمان بن موسى مرسلا.

وذكره المتقي الهندي في «كنز العمال» (٣٠٤٠٠) وعزاه إلى سعيد بن منصور عن سليمان بن موسى مرسلا.

(٢) زيادة في ب «قطع من الميراث ولأن مخالفة أمر الله تعالى عند القرب من الموت».

(٣) سقط في ب.

(٤) البيت لعمارة بن راشد. ينظر العيني ١ / ٤٥٣ واللسان (فصم) والمقاصد النحوية ١ / ٤٥٣ والدر المصون ٢ / ٣٢٩.

٢٣٦

١٧٦٩ ـ أولئك إخواني الّذين عرفتهم

وأخدانك اللّاءات زيّنّ بالكتم (١)

برفع اللّاءات.

قال ابن الأنباريّ : العرب تقول في الجمع من غير الحيوان : الّتي ، ومن الحيوان : اللاتي ، كقوله : (أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِياماً) [النساء : ٥].

وقال في هذه الآية : اللاتي ، واللائي ، والفرق هو أن الجمع من غير الحيوان سبيله سبيل الشيء الواحد وأمّا جمع الحيوان ليس كذلك بل كلّ واحدة منهما غير متميزة عن غيرها بخواص (٢) وصفات فافترقا ، ومن العرب من يسوّي بين البابين ، فيقول : ما فعلت الهندات التي من أمرها كذا ، وما فعلت الأثواب التي من قصتهن كذا ، والأوّل هو المختار وفي محلّ «اللاتي» قولان :

أحدهما : أنّه رفع بالابتداء ، وفي الخبر حينئذ وجهان :

أحدهما : الجملة من قوله : (فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَ) وجاز دخول الفاء زائدة في الخبر ، وإن لم يجز زيادتها في نحو : «زيد فاضرب» على رأي الجمهور ؛ لأنّ المبتدأ أشبه الشرط في كونه موصولا عامّا صلته فعل مستقبل ، والخبر مستحقّ بالصّلة.

الوجه الثاني : أنّ الخبر محذوف ، والتقدير : «فيما يتلى عليكم حكم اللاتي» فحذف الخبر والمضاف إلى المبتدأ للدلالة عليهما ، وأقيم المضاف إليه مقامه ، وهذا نظير ما فعله سيبويه في نحو : (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا) [النور : ٢](وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا) [المائدة : ٣٨] ، أي: فيما يتلى عليكم حكم الزانية ، ويكون قوله : (فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ) (فَاجْلِدُوا) دالّا على ذلك الحكم المحذوف لأنه بيان له.

والقول الثاني : أنّ محلّه نصب ، وفيه وجهان :

أحدهما : أنّه منصوب بفعل مقدر لدلالة السّياق عليه لا على جهة الاشتغال لما سنذكره ، والتقدير : اقصدوا اللاتي يأتين ، أو تعمّدوا ولا يجوز أن ينتصب بفعل مضمر يفسره قوله : «فاستشهدوا» فتكون المسألة من باب الاشتغال ؛ لأنّ هذا الموصول أشبه اسم الشّرط ، كما تقدّم تقريره ، واسم الشرط لا يجوز أن ينتصب على الاشتغال ، لأنّه لا يعمل فيه ما قبله فلو نصبناه بفعل فقد لزم أن يعمل فيه ما قبله هذا ما قاله بعضهم ، ويقرب منه ما قاله أبو البقاء فإنّه قال : وإذا كان كذلك ، أي : كونه في حكم الشّرط لم يحسن النّصب ، لأنّ تقدير الفعل قبل أداة الشّرط لا يجوز ، وتقديره بعد الصّلة يحتاج إلى إضمار فعل غير قوله «فاستشهدوا» ؛ لأن «استشهدوا» لا يصحّ أن يعمل النصب في «اللاتي» ، وفي عبارته مناقشة يطول ذكرها.

__________________

(١) ينظر الدرر ١ / ٢٦٦ ، ولسان العرب (خلل) (لتا) ، وهمع الهوامع ١ / ٨٣ ، والدر المصون ٢ / ٣٢٩.

(٢) في ب : نحو أصف.

٢٣٧

والثّاني : أنّه منصوب على الاشتغال ، ومنعهم ذلك بأنّه يلزم أن يعمل فيه ما قبله جوابه أنّا نقدّر الفعل بعده لا قبله (١) ، وهذا خلاف مشهور في أسماء الشّرط والاستفهام ، هل يجري فيها الاشتغال أم لا؟.

فمنعه قوم لما تقدّم وأجازه آخرون مقدّرين الفعل بعد الشّرط والاستفهام. وكونه منصوبا على الاشتغال هو ظاهر كلام مكّيّ ، فإنّه ذكر ذلك في قوله : (وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما) [النساء : ١٦] فالآيتان من واد واحد ولا بدّ من إيراد نصّه ليتّضح لك قوله ؛ قال ـ رحمه‌الله ـ : (وَالَّذانِ يَأْتِيانِها) الاختيار عند سيبويه في «اللذان» الرفع ، وإن كان معنى الكلام الأمر ؛ لأنّه لمّا وصل بالفعل تمكّن معنى الشّرط فيه ، إذ لا يقع على شيء بعينه ، فلمّا تمكّن معنى الشّرط والإبهام جرى مجرى الشّرط في كونه لم يعمل فيه ما قبله ، كما لا يعمل في الشّرط ما قبله من مضمر أو مظهر ، ثم قال : «والنّصب جائز على إضمار فعل ؛ لأنّه إنّما أشبه الشّرط ، وليس الشبيه بالشيء كالشيء في حكمه» انتهى.

وليس لقائل أن يقول : مراده النّصب (٢) بإضمار فعل (٣) النّصب على الاشتغال ، بل بفعل مدلول عليه كما تقدّم نقله عن بعضهم ، لأنه لم يكن لتعليله بقوله : «لأنه إنما أشبه الشرط إلى آخره» فائدة ، إذ النصب كذلك لا يحتاج إلى هذا الاعتذار.

فصل

قال القرطبيّ (٤) : الفاحشة في هذا الموضع الزنا ، فالمراد بالفاحشة : الفعلة القبيحة وهي مصدر كالعاقبة والعافية ، وقرأ (٥) ابن مسعود «بالفاحشة» بباء الجرّ وقوله : (مِنْ نِسائِكُمْ) في محلّ النّصب على الحال من الفاعل في «يأتين» ، فهو يتعلق بمحذوف أي : يأتين كائنات من نسائكم.

وأما قوله : «منكم» ففيه وجهان :

أحدهما : أن يتعلّق بقوله : (فَاسْتَشْهِدُوا).

والثاني : أن يتعلّق بمحذوف على أنّه صفة ل «أربعة» فيكون في محل نصب تقديره : فاستشهدوا عليهنّ أربعة كائنة منكم.

فصل

معنى يأتين الفاحشة أي يفعلنها يقال (٦) : أتيت أمرا قبيحا ، أي : فعلته قال تعالى : (لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا) [مريم : ٢٧] وقوله تعالى : (لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا) [مريم : ٨٩]

__________________

(١) في ب : قبله لا بعده.

(٢) في أ : بالنصب.

(٣) في أ : قول.

(٤) ينظر : تفسير القرطبي ٥ / ٥٥.

(٥) انظر : المحرر الوجيز ٢ / ٢١ ، والبحر المحيط ٣ / ٢٠٥.

(٦) ينظر : تفسير الرازي ٩ / ١٨٦.

٢٣٨

وقال ابن مسعود (١) «بالفاحشة» هي الفعلة القبيحة.

قال أهل اللّغة هي مصدر كالعاقبة والعافية ، يقال : فحش الرّجل بمعنى تفحش فحشا وفاحشة (٢) وأفحش إذا جاء بالقبيح من القول والفعل ، وأجمعوا على أنّ المراد بالفاحشة هنا الزّنا ، وإنّما تطلق الفاحشة على الزّنا لزيادتها في القبح على كثير من القبائح.

فإن قيل : الكفر أقبح منه ، وقتل النفس أقبح منه ، ولا يسمّى ذلك فاحشة؟

فالجواب من وجهين :

الأوّل : أنّ الكفر لا يستحقه الكافر من نفسه ولا يعتقده قبحا (٣) ، بل يعتقده صوابا ، وكذلك المقبل على الشجاعة يقدم عليها من يراها حسنة وأمّا الزّنا ففاعله يعلم قبحه [ويقدم عليه](٤) ويوافق على فحشه.

الثاني : قال ابن الخطيب (٥) : إنّ القوى المدبرة لقوى الإنسان ثلاثة القوى النّاطقة ، والقوّة الغضبية ، والقوّة الشّهوانية وفساد القوّة النّاطقة هو الكفر والبدعة وما يشبههما ، وفساد القوّة الغضبية هو القتل وما يشبهه وأخس (٦) هذه القوى الثلاثة القوة الشّهوانية فلا جرم كان فسادها أخس أنواع الفساد ، فلهذا السبب خصّ هذا العمل بالفاحشة.

فصل في شهود الزنا

قوله : (فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ) أي : من المسلمين فجعل الله الشهادة على الزنا خاصة بأربعة تغليظا على المدّعي وسترا على العباد.

وقال القرطبيّ (٧) : وتعديل الشهود بأربعة في الزّنا حكم ثابت في التّوراة والإنجيل والقرآن (٨) ؛ قال الله تعالى : (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ) [النور : ٤] وقال هنا : (فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ) وروى أبو داود عن جابر بن عبد الله : جاءت اليهود برجل وامرأة زنيا ، فقال عليه‌السلام : «ائتوني بأعلم رجلين (٩) منكم» ، فأتوه بابني صوريا فنشدهما : كيف تجدان أمر هذين في التّوراة؟ قالا : نجد في التّوراة إذا شهد أربعة أنّهم رأوا ذكره في فرجها مثل الميل في المكحلة رجما قال : فما يمنعكما أن ترجموهما؟ قالا : ذهب سلطاننا فكرهنا القتل ؛ فدعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الشّهود فشهدوا أنّهم رأوا ذكره في فرجها مثل الميل في المكحلة فأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم برجمهما.

__________________

(١) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٢١ ، والبحر المحيط ٣ / ٢٠٥.

(٢) في ب : وأفحش.

(٣) في ب : قبيحا.

(٤) سقط في ب.

(٥) ينظر : تفسير الرازي ٩ / ١٨٦.

(٦) في ب : أحسن.

(٧) ينظر : تفسير القرطبي ٥ / ٥٦.

(٨) في ب : والفرقان.

(٩) في أ : رجل.

٢٣٩

وقال قوم : إنّما كان الشّهود في الزّنا أربعة ليترتب شاهدان على كل واحد من الزانيين كسائر الحقوق ؛ إذ هو حقّ يؤخذ (١) من كلّ واحد منهما ، وهذا ضعيف ؛ فإنّ اليمين تدخل في الأموال واللّوث في القسامة ولا يدخل لواحد منهما هنا.

فصل

قال جمهور المفسرين (٢) : المراد من هذه الآية أنّ المرأة إذا أتت (٣) الزّنا فإن شهد عليها أربعة رجال أحرار عدول أنّها زنت؟ أمسكت في بيت محبوسة ، إلى أن تموت أو يجعل الله لها سبيلا ، وقال أبو مسلم : المراد من هذه الفاحشة السّحاقات وحدّهن (٤) الحبس إلى الموت ، والمراد من قوله : (وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ) [النساء : ١٦] أهل اللواط وحدّها الأذى بالقول والفعل ، والمراد بالآية المذكورة في سورة النّور : الزنا بين الرّجل والمرأة وحده في البكر الجلد ، وفي المحصن الرّجم ، ويدلّ على ذلك وجوه :

أحدها : أن قوله : (وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ) مخصوص بالنّسوان وقوله : (وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ) مخصوص بالرّجال ؛ لأنّ قوله «اللذان» تثنية المذكر.

فإن قيل : لم لا يجوز أن يكون المراد من قوله : (وَالَّذانِ) الذّكر والأنثى إلّا أنّه غلب لفظ الذّكر.

فالجواب : لو كان كذلك لما أفرد ذكر النّساء من قبل ، فلما أفرد ذكرهن ثم ذكر بعده قوله : (وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ) سقط هذا الاحتمال.

وثانيها : أنّ على هذا التقدير لا يحتاج إلى التزام النسخ في شيء من الآيات بل يكون حكم كلّ واحد منهما باقيا مقررا وعلى ما ذكر ثم يلزم النسخ في هاتين (٥) الآيتين والنّسخ خلاف الأصل.

ثالثها : أنّ على التقدير الّذي ذكرتم يكون قوله : (وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ) في الزنا ، وقوله: (وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ) في الزّنا أيضا فيفضي إلى تكرار (٦) الشيء الواحد في الموضع الواحد مرتين ، وإنّه قبيح ، وعلى قولنا لا يفضي إلى ذلك فكان أولى.

رابعها : أنّ القائلين بأنّ هذه الآية نزلت في الزّنا فسروا قوله (أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً) بالجلد والتغريب والرّجم ، وهذا لا يصحّ ؛ لأنّ هذه الأشياء تكون عليهنّ لا لهنّ ، قال تعالى : (لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ) [البقرة : ٢٨٦] وأمّا نحن فنفسّر ذلك بتسهيل الله لها قضاء الشّهوة بطريق النّكاح.

__________________

(١) في أ : يوجد.

(٢) ينظر : تفسير الرازي ٩ / ١٧٨.

(٣) في ب : نسبت إلى.

(٤) في أ : وحدهما.

(٥) في ب : هذين.

(٦) في ب : تكرير.

٢٤٠