اللّباب في علوم الكتاب - ج ٦

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ٦

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٦٣٢

مدلول عليه بقوله : «لا يلفك» وهو نهي ، والنّهي مستقبل فلذلك (١) كانت «لو» تعليقا في المستقبل.

وأمّا البيت الثّاني فلدخول ما بعدها في حيز «إذا» ، و «إذا» للمستقبل. ومفعول (وَلْيَخْشَ) محذوف أي : وليخش الله.

ويجوز أن تكون المسألة من باب التّنازع فإنّ (وَلْيَخْشَ) يطلب الجلالة ، وكذلك (فَلْيَتَّقُوا) فيكون من إعمال (٢) الثّاني للحذف من الأوّل.

قوله : (مِنْ خَلْفِهِمْ) فيه وجهان :

أظهرهما : أنّه متعلّق ب «تركوا» ظرفا له.

والثّاني : أنّه متعلّق بمحذوف ؛ لأنّه حال من «ذرية» ؛ لأنّه في الأصل صفة نكرة قدّمت عليها فجعلت حالا.

قوله : (ضِعافاً ،) أمال (٣) حمزة : ألف (ضِعافاً) ولم يبال بحرف الاستعلاء (٤) لانكساره ففيه انحدار فلم ينافر (٥) الإمالة.

وقرأ ابن محيصن (٦) «ضعفا» بضمّ الضاد والعين وتنوين الفاء ، والسّلمي (٧) وعائشة «ضعفاء» بضم الضاد وفتح العين والمد ، وهو جمع مقيس في فعيل صفة نحو : ظريف وظرفاء وكريم وكرماء ، وقرىء (٨) «ضعافى» بالفتح والإمالة نحو : سكارى ، وظاهر عبارة الزّمخشري (٩) أنّه قرىء «ضعافى» بضمّ الضّاد مثل سكارى فإنّه قال : «وقرىء ضعفاء ، وضعافى وضعافى نحو سكارى وسكارى» ، فيحتمل أن يريد أنّه قرىء بضمّ الضّاد وفتحها ، ويحتمل أن يريد أنّه قرىء (١٠) «ضعافى» بفتح الضّاد دون إمالة ، و «ضعافى» بفتحها مع الإمالة [كسكارى بفتح السين دون إمالة ، وسكارى بفتحها مع الإمالة](١١) ، والظّاهر الأوّل ، والغالب على الظّنّ أنّها لم تنقل قراءة.

قوله : (خافُوا عَلَيْهِمْ). أمال حمزة ألف «خافوا» للكسرة المقدّرة في الألف ، إذ الأصل «خوف» بكسر العين ؛ بدليل فتحها في المضارع نحو : «يخاف» (١٢).

__________________

(١) في أ : فكذلك.

(٢) في أ : المحال.

(٣) في أ : قال.

(٤) في أ : الاستقلال.

(٥) في أ : ينافي.

(٦) انظر : المحرر الوجيز ١ / ١٣ ، والبحر المحيط ٣ / ١٨٦ ، والدر المصون ٢ / ٣١٧.

(٧) وقرأ بها الزهري وأبو حيوة وابن محيصن. انظر السابق.

(٨) ينظر المحرر الوجيز ٢ / ١٣ ، والبحر المحيط ٣ / ١٨٦.

(٩) ينظر : الكشاف ١ / ٤٧٨.

(١٠) انظر : المحرر الوجيز ٢ / ١٣ ، والدر المصون ٢ / ٣١٧ ، وإتحاف ١ / ٥٠٤ ، والحجة ٣ / ١٣٣.

(١١) سقط في ب.

(١٢) في ب : خاف.

٢٠١

وعلّل أبو البقاء (١) وغيره ذلك بأنّ الكسر قد يعرض في حال (٢) من الأحوال وذلك إذا أسند الفعل إلى ضمير المتكلّم ، أو إحدى أخواته نحو : خفت وخفنا ، والجملة من «لو» وجوابها صلة «الّذين».

فصل

اختلفوا في المعنيّ على أقوال :

أحدها : أنّها في الرّجل يحضره الموت فيقول من في حضرته : انظر لنفسك فإنّ أولادك ورثتك لا يغنون عنك من الله شيئا. قدّم لنفسك ، أعتق ، وتصدّق ، وأعط فلانا كذا ، وفلانا كذا ، حتّى يأتي على عامّة ماله ، فنهاهم الله تعالى عن ذلك ، وأمرهم أن يأمروه بأن ينظر لولده ولا يزيد في وصيّته على الثّلث فيكون خطابا للحاضرين عند الميت. فقيل لهم : كما أنّكم تكرهون بقاء أولادكم في الضّعف ، والجوع فاخشوا الله ، ولا تحملوا المريض على أن يحرم أولاده الضّعفاء ماله ، ومعناه كما أنّك لا ترضى لنفسك مثل هذا الفعل فلا ترضاه لأخيك المسلم.

وثانيها : أنّه خطاب للمريض بحضرة الموت ويريد الوصيّة للأجانب ، فيقول له من يحضره : اتّق الله وأمسك مالك على ولدك مع أنّ القائل له يجب أن يوصي له.

وثالثها : أنّه خطاب لمن قرب أجله ويكون المقصود نهيه عن تكثير الوصيّة ، لئلا تضيع ورثته بعد موته ، فإن كانت هذه الآية نزلت قبل تقدير الوصيّة بالثّلث ، كان المراد بها ألا يستغرق التركة بالوصيّة ، وإن كانت نزلت بعد تقدير الوصيّة بالثّلث كان المراد منها ألا يوصي أيضا بالثّلث بل ينقض إذا خاف على ذرّيّته ، وهذا مرويّ عن كثير من الصّحابة (٣).

رابعها : أنّ هذا خطاب لأولياء اليتيم ، قال الكلبيّ (٤) : كأنّه يقول من كان في حجره فليحسن إليه بما يجب أن يفعل بذريته من بعده.

قال القاضي (٥) : وهذا أليق بما تقدّم وتأخّر من الآيات الواردة في الأيتام.

قوله : (فَلْيَتَّقُوا اللهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً).

أي فليتقوا الله في الأمر الذي تقدم ذكره ، والاحتياط فيه ، وليقولوا قولا سديدا ، والقول السديد هو العدل والصّواب من القول.

قال الزمخشريّ : القول السّديد من الأوصياء أن لا يؤذوا اليتامى ويكلموهم كما (٦) يكلمون أولادهم بالترحيب ويخاطبوهم : يا بني ، ويا ولدي ، والقول السّديد من الجالسين

__________________

(١) ينظر : الإملاء ١ / ١٦٨.

(٢) في أ : حول.

(٣) ينظر : تفسير الرازي ٩ / ١٦١.

(٤) ينظر : تفسير البغوي ١ / ٣٩٨.

(٥) ينظر : تفسير الرازي ٩ / ١٦٢.

(٦) في ب : بما.

٢٠٢

إلى (١) المريض أن يقولوا : لا تسرف في وصيتك ولا تجحف بأولادك [مثل قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لسعد](٢) والقول السّديد من الورثة حال قسمة الميراث للحاضرين الذين لا يرثون أن يلطفوا إليهم القول ويخصوهم بالإكرام.

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً) (١٠)

قال مقاتل بن حيّان : نزلت في رجل من غطفان يقال له مرثد بن زيد ولي مال ابن أخيه وهو يتيم صغير ، فأكله فأنزل الله هذه الآية (٣).

قوله : (ظُلْماً) فيه وجهان :

أحدهما : أنّه مفعول من أجله ، وشروط النصب موجودة.

الثاني : أنّه مصدر في محلّ نصب على الحال أي : يأكلونه ظالمين والجملة من قوله : (إِنَّما يَأْكُلُونَ) هذه الجملة في محل رفع خبرا ل «إنّ» ، وفي ذلك خلاف.

قال أبو حيان : وحسّنه هنا وقوع [اسم](٤) «أن» موصولا فطال (٥) الكلام بصلة الموصول فلما تباعد ما بينهما لم يبال بذلك ، وهذا أحسن من قولك : «إنّ زيدا إنّ أباه منطلق» ، ولقائل أن يقول : ليس فيها دلالة على ذلك ؛ لأنها مكفوفة ب «ما» ومعناها الحصر فصارت مثل قولك ، في المعنى : «إنّ زيدا ما انطلق إلّا أبوه» وهو محل نظر.

قوله : (فِي بُطُونِهِمْ) فيه وجهان : أحدهما : أنّه متعلّق ب (يَأْكُلُونَ) أي : بطونهم أوعية للنّار ، إمّا حقيقة : بأن يخلق الله لهم نارا يأكلونها في بطونهم ، أو مجازا بأن أطلق المسبّب وأراد السبب لكونه يفضي إليه ويستلزمه ، كما يطلق اسم أحد المتلازمين على الآخر كقوله : (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) [الشورى : ٤٠].

قال القاضي (٦) : وهذا أولى ؛ لأن الإشارة فيه إلى كلّ واحد.

والثّاني : أنّه متعلّق بمحذوف ؛ لأنّه حال (٧) من «نارا» وكان في الأصل صفة للنكرة فلمّا قدّمت انتصبت حالا.

وذكر أبو البقاء هذا الوجه عن أبي عليّ في «تذكرته» ، وحكى عنه أنّه منع أن يكون ظرفا ل (يَأْكُلُونَ) فإنّه قال : (فِي بُطُونِهِمْ ناراً) حال من نار ، أي : نار كائنة في بطونهم ، وليس بظرف ل (يَأْكُلُونَ) ذكره في «التّذكرة».

__________________

(١) في ب : عند.

(٢) سقط في ب.

(٣) ينظر : تفسير البغوي (١ / ٣٩٨).

(٤) سقط في أ.

(٥) في أ : فقال.

(٦) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٩ / ١٦٣.

(٧) في أ : قال.

٢٠٣

وفي قوله : «والّذي يخصّ هذا الموضع» فيه نظر ، فإنّه كما يجوز أن يكون (فِي بُطُونِهِمْ) حالا من «نار» هنا يجوز أن يكون حالا من «النّار» في البقرة ، وفي [إبداء](١) الفرق عسر ، ولم يظهر [منع أبي عليّ كون (فِي بُطُونِهِمْ) ظرفا للأكل وجه ظاهر فإن قيل : الأكل لا يكون إلا](٢) في البطن فما فائدة قوله : (إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً)؟.

فالجواب أنّ المراد به التّأكيد والمبالغة كقوله : (يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ) [آل عمران : ٦٧] والقول لا يكون إلا بالفم ، وقوله : (وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) [الحج : ٤٦] والقلب لا يكون إلّا في الصّدر ، وقوله : (وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ)(٣) [الأنعام : ٣٨] والطّيران لا يكون إلّا بالجناح.

فصل في جواز الأكل من مال اليتيم

هذه الآية توكيد للوعيد المتقدّم لأكل مال اليتيم ، وخصّ الأكل بالظلم ، فأخرج الأكل بغير الظّلم مثل أكل الوليّ بالمعروف من مال اليتيم ، وإلّا لم يكن لهذا التّخصيص فائدة (٤).

فصل في حرمة جميع الإتلافات لمال اليتيم

ذكر تعالى الأكل إلا أنّ المراد منه كلّ أنواع الإتلافات فإنّ ضرر اليتيم لا يختلف بأن يكون إتلاف ماله بالأكل ، أو بطريق آخر ، وإنّما ذكر الأكل ، وأراد به كلّ التّصرفات المتلفة لوجوه :

أحدها : أنّ عامّة أموال اليتامى في ذلك الوقت هو الأنعام الّتي يؤكل لحومها ويشرب ألبانها فخرج الكلام على عادتهم.

وثانيها : أنّه جرت العادة فيمن أنفق ماله في وجوه مراداته (٥) خيرا كانت أو شرا أنّه يقال : إنّه أكل ماله.

وثالثها : أنّ الأكل هو المعظم فيما يبتغى من التصرّفات.

قوله : (وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً ،) قرأ الجمهور بفتح الياء واللام ، وابن عامر وأبو بكر (٦) بضمّ الياء مبنيّا للمفعول من الثّلاثيّ ، ويحتمل أن يكون من أصليّ فلمّا بني للمفعول قام الأوّل مقام الفاعل ، وابن أبي عبلة (٧) بضمهما مبنيا للفاعل من الرّباعي ، والأصل على

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) سقط في أ.

(٣) في أ : بجناحين.

(٤) ينظر : الرازي ٩ / ١٦٢.

(٥) في ب : إرادته.

(٦) انظر : السبعة ٢٢٧ ، والحجة ٣ / ١٣٦ ، وحجة القراءات ١٩١ ، والعنوان ٨٣ ، وشرح شعلة ٣٣٢ ، ٣٣٣ ، وإعراب القراءات ١ / ١٢٩ ، وشرح الطيبة ٤ / ١٩٣ ، وإتحاف ١ / ٥٠٤.

(٧) انظر : المحرر الوجيز ٢ / ١٤ ، والدر المصون ٢ / ٣١٨.

٢٠٤

هذه القراءة : سيصلون من أصلى مثل يكرمون من أكرم (١) ، فاستثقلت الضّمّة على الياء فحذفت ، فالتقى السّاكنان فحذف أولهما وهو الياء وضمّ ما قبل الواو ليصح و «أصلى» يحتمل أن تكون الهمزة فيه للدّخول في الشّيء ، فيتعدّى لواحد وهو (سَعِيراً ،) وأن تكون للتّعدية ، فالمفعول محذوف أي : يصلون أنفسهم سعيرا.

وأبو حيوة (٢) بضم الياء وفتح الصّاد واللّام مشدّدة مبنيا للمفعول من صلّى مضعفا.

قال أبو البقاء (٣) : والتّضعيف للتكثير.

والصّلي (٤) : الإيقاد بالنّار ، يقال : صلي بكذا ـ بكسر العين ـ وقوله (لا يَصْلاها) أي : يصلى بها.

وقال الخليل : صلي الكافر النّار أي : قاسى حرّها وصلاه النّار وأصلاه غيره ، هكذا قال الرّاغب (٥). وظاهر العبارة أنّ فعل وأفعل [بمعنى](٦) ، يتعدّيان إلى اثنين ثانيهما بحرف الجرّ ، وقد يحذف.

وقال غيره : «صلي بالنّار أي : تسخّن بقربها» ف (سَعِيراً) على هذا منصوب على إسقاط الخافض. ويدلّ على أنّ أصل «يصلاها» يصلى بها قول الشاعر : [الطويل]

١٧٦٣ ـ إذا أوقدوا نارا لحرب عدوّهم

فقد خاب من يصلى بها وسعيرها (٧)

وقيل : صليته النّار : أدنيته منها ، فيجوز أن يكون منصوبا من غير إسقاط خافض.

قال الفرّاء (٨) : الصلى : اسم الوقود وهو الصّلاء إذا كسرت مدّت ، وإذا فتحت قصرت ، ومن ضمّ الياء فهو من قولهم : أصلاه الله حرّ النّار إصلاء ، قال : (فَسَوْفَ نُصْلِيهِ ناراً) [النساء : ٣٠] وقال : (سَأُصْلِيهِ سَقَرَ) [المدثر : ٢٦].

وقال أبو زيد : يقال : صلي الرّجل النّار يصلاها صلى وصلاء ، وهو صالي النّار ، وقوم صالون وصلاء ، قال تعالى : (إِلَّا مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ) [الصافات : ١٦٣] وقال : (أَوْلى بِها صِلِيًّا) [مريم : ٧٠] والسّعير في الأصل الجمر المشتعل ، وسعرت النّار أوقدتها ، ومنه : مسعر حرب ، على التشبيه ، والمسعر : الآلة الّتي تحرّك بها النّار.

فصل

روي أنّه لما نزلت هذه الآية ثقل ذلك على النّاس فاحترزوا عن مخالطة اليتامى

__________________

(١) في أ : يكرم.

(٢) ونسبها في البحر ٣ / ١٨٧ إلى ابن أبي عبلة فقط. وانظر : السابق.

(٣) ينظر : الإملاء ١ / ١٦٩.

(٤) في أ : ويصلي.

(٥) في أ : المراغني.

(٦) سقط في ب.

(٧) تقدم.

(٨) ينظر : الفخر الرازي ٩ / ١٦٤.

٢٠٥

بالكليّة ، فصعب الأمر على اليتامى ، فنزل قوله تعالى : (وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ) [البقرة : ٢٢٠] وزعم بعضهم أنّ هذه الآية صارت منسوخة بتلك وهو بعيد ؛ لأنّ هذه الآية في المنع من الظّلم وهذا لا يصير منسوخا ، بل المقصود أنّ مخالطة أموال اليتامى إن كان على وجه الظّلم فهو إثم عظيم كما في (١) هذه الآية ، وإن كان على وجه الإحسان والتّربية فهو من أعظم [أبواب](٢) البرّ ، لقوله (وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ) [البقرة : ٢٢٠].

قوله تعالى : (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِنَ اللهِ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً)(١١)

في تعلق هذه الآية بما قبلها وجهان :

الأوّل : أنّه تعالى لما بيّن الحكم في مال الأيتام وما على الأولياء فيه ، بيّن في هذه الآية كيفية تملك الأيتام (٣) المال بالإرث.

الثّاني : أنّه لمّا بين حكم الميراث مجملا في قوله : (لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ) [النساء : ٧] فذكر هنا تفصيل ذلك المجمل.

فصل

اعلم أنّ الوراثة كانت في الجاهليّة بالذّكورة والقوّة ، وكانوا يورثون الرّجال دون النّساء والصّبيان ، فأبطل الله ذلك بقوله : (لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ) الآية. وكانت أيضا في الجاهليّة وابتداء الإسلام بالمخالطة (٤) ، قال تعالى : (وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ)(٥) [النساء : ٣٣].

ثم صارت الوراثة بالهجرة ، قال تعالى : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ) [الأنفال : ٧٢] فنسخ الله ذلك كله بقوله : (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ) [الأنفال : ٧٥] وصارت الوراثة بأحد الأمور الثّلاثة : النّسب ، أو النكاح ، أو الولاء.

وقيل : كانت الوراثة أيضا بالتّبنّي ، فإنّ الرّجل منهم كان يتبنّى ابن غيره فينسب إليه دون أبيه من النّسب فيرثه ، وهو نوع من المعاهدة المتقدّمة ، وكذلك بالمؤاخاة.

وقال بعض العلماء : لم ينسخ شيء من ذلك بل قررهم الله عليه فقوله : (وَلِكُلٍ

__________________

(١) في أ : كأنني.

(٢) سقط في أ.

(٣) في ب : مال اليتيم.

(٤) في أ : بالمخالفة.

(٥) في أ : عاقدت.

٢٠٦

جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ) [النساء : ٣٣] المراد التوارث بالنسب ثم قال : (وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ) [النساء : ٣٣] [ليس المراد منه النصيب من المال ، بل المراد فآتوهم نصيبهم من النصرة](١) والنصيحة وحسن العشرة.

فصل : سبب نزول الآية

روى عطاء قال : استشهد سعد بن الرّبيع النّقيب ، وترك ابنتين وامرأة وأخا ، فأخذ الأخ المال كلّه ، فأتت المرأة إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقالت : يا رسول الله هاتان ابنتا سعد ، وإن سعدا قتل ، وإن عمهما أخذ مالهما ، فقال عليه‌السلام : «ارجعي فلعلّ الله سيقضي [فيه](٢)» ثم إنها عادت إليه بعد مدة وبكت ، فأنزل الله هذه الآية ، فدعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عمّهما ، وقال له : «أعط ابنتي سعد الثّلثين ، وأمّهما الثّمن وما بقي فهو لك» فهذا أوّل ميراث قسّم في الإسلام (٣).

وقال مقاتل والكلبيّ : نزلت في أم كحّة امرأة أوس بن ثابت وبناته.

وروى جابر قال : جاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعودني وأنا مريض لا أعقل فتوضّأ فصبّ عليّ من وضوئه فقلت : يا رسول الله لمن الميراث ، وإنّما يرثني كلالة فنزلت آية الفرائض (٤).

فصل

قال القفّال : قوله تعالى : (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ) أي : يقول لكم قولا يوصلكم (٥) إلى إيفاء حقوق أولادكم بعد موتكم ، وأصل الإيصاء هو الإيصال يقال :

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) سقط في ب.

(٣) أخرجه أحمد (٣ / ٣٥٢) وأبو داود (٣ / ٣١٦) كتاب الفرائض (٢٨٩٢) والترمذي (٤ / ٤١٤ ـ ٤١٥) الفرائض (٢٠٩٢) وابن ماجه (٢ / ٩٠٨ ـ ٩٠٩) الفرائض (٢٧٢٠) والحاكم (٤ / ٣٤٢) وقال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح.

وقال الحاكم : صحيح الإسناد ووافقه الذهبي.

والحديث ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٢٢٢) وزاد نسبته لابن سعد وابن أبي شيبة والطيالسي ومسدد وابن أبي عمر وابن منيع وابن أبي أسامة وأبي يعلى.

(٤) أخرجه البخاري كتاب المرضى باب : عيادة المغمى عليه رقم (٥٦٥١) وفي كتاب الفرائض باب : يوصيكم الله في أولادكم (٦٧٢٣) وفي الاعتصام باب ما كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يسأل مما لم ينزل عليه الوحي (٧٣٠٩) ومسلم في الفرائض باب ميراث الكلالة (١٦١٦) وأبو داود (٢٨٨٦) والترمذي (٢٠٩٨) والطبري في «تفسيره» (٨ / ٣٣) والطيالسي (٢ / ١٧) رقم (١٩٤٥) وأحمد (٣ / ٢٩٨) وابن حبان (١٢٥٥) وابن خزيمة (١٠٦) والبيهقي (٦ / ٢٣١) وأبو يعلى (٤ / ١٥) رقم (٢٠١٨) عن جابر بن عبد الله.

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٢٢٢) وزاد نسبته لعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.

(٥) في أ : يوصيكم.

٢٠٧

وصى يصي إذا وصل ، فإذا قيل : أوصاني (١) ، فمعناه : أوصلني إلى علم ما أحتاج إلى علمه ، وكذلك وصّى وهو على المبالغة.

وقال الزّجّاج (٢) : معنى قوله هاهنا (يُوصِيكُمُ) أي : يفرض عليكم ؛ لأنّ الوصية من الله إيجاب لقوله بعد نصّه على المحرمات (ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ) [الأنعام : ١٥١].

وقرأ الحسن (٣) وابن أبي عبلة (يُوصِيكُمُ) بالتّشديد ، وقد تقدّم أنّ أوصى ووصّى لغتان.

قوله : (فِي أَوْلادِكُمْ) قيل : ثمّ مضاف محذوف أي : في أولاد موتاكم.

قالوا : لأنّه لا يجوز أن يخاطب الحيّ بقسمة الميراث في أولاده ، ويفرض عليه ذلك.

وقال بعضهم : إن قلنا إنّ معنى (يُوصِيكُمُ) «يبين لكم» لم يحتج إلى هذا التقدير ، وقدّر بعضهم قبل : (أَوْلادِكُمْ) مضافا ، أي : في شأن أولادكم ، أو في أمر أولادكم.

قوله : (لِلذَّكَرِ مِثْلُ) هذه الجملة من مبتدأ وخبر ، يحتمل أن تكون في محلّ نصب ب «يوصي» ؛ لأنّ المعنى : يفرض لكم ، أو يشرّع في أولادكم ، كذا قاله أبو البقاء ، وهذا يقرب من مذهب الفرّاء ، فإنّه يجري ما كان بمعنى القول مجراه في حكاية الجمل ، فالجملة في موضع نصب ب «يوصيكم».

وقال مكّيّ : (لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ) ابتداء وخبر في موضع نصب تبيين للوصيّة وتفسير لها.

وقال الكسائيّ : «ارتفع «مثل» على حذف «أنّ» تقديره : أنّ للذكر مثل حظّ ، وبه قرأ ابن أبي عبلة (٤) ، ويحتمل ألّا يكون لها محلّ من الإعراب ، بل جيء بها للبيان والتّفسير فهي جملة مفسّرة للوصيّة ، وهذا أحسن وجار على مذهب البصريين ، وهو ظاهر عبارة الزمخشريّ ، فإنّه قال : وهذا إجمال تفصيله (لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ).

وقوله : (لِلذَّكَرِ) لا بدّ من ضمير يعود على (أَوْلادِكُمْ) من هذه الجملة ، فيحتمل أن يكون محذوفا أي : للذكر منهم نحو : «السّمن منوان بدرهم» قاله الزمخشريّ ، ويحتمل أن يكون قام مقام الألف واللام عند من يرى ذلك ، والأصل : لذكرهم و «مثل» صفة لموصوف محذوف أي : للذّكر منهم حظّ مثل حظّ الأنثيين.

فإن قيل : لا يقال في اللّغة : أوصيك لكذا ، فكيف قال هنا (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ)؟.

فالجواب أنّه لما كانت الوصية قولا ، فلهذا قال بعد قوله : (يُوصِيكُمُ اللهُ) قولا

__________________

(١) في ب : أوصني.

(٢) ينظر : تفسير الرازي ٩ / ١٦٥.

(٣) انظر : البحر المحيط ٣ / ١٩٠ ، والدر المصون ٢ / ٣١٩.

(٤) في أ : علية.

٢٠٨

مستأنفا وهو قوله : (لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) ونظيره قوله تعالى : (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً)(١) [الفتح : ٢٩] أي : قال لهم مغفرة ؛ لأن الوعد قول.

فصل

اعلم أنه تعالى بدأ بذكر ميراث الأولاد ؛ لأنّ تعلّق الإنسان بولده أشدّ التّعلقات ، وللأولاد حال انفراد وحال اجتماع مع الوالدين.

فحال الانفراد [ثلاثة](٢) إمّا أن يكونوا ذكورا وإناثا ، أو ذكورا فقط ، أو إناثا فقط ، فإن كانوا ذكورا وإناثا فقد بيّن الله تعالى حكمهم بقوله : (لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) فبين تعالى أن للذكر مثل ما للأنثى مرتين (٣).

قوله : (فَإِنْ كُنَّ نِساءً) الضمير في «كنّ» يعود على الإناث اللّاتي شملهنّ قوله (فِي أَوْلادِكُمْ).

فإنّ التّقدير : في أولادكم الذّكور والإناث ، فعاد الضّمير على أحد قسمي الأولاد ، وإذا عاد الضّمير على جمع التكسير (٤) العاقل المراد به محض الذّكور ، وفي قوله عليه‌السلام «ورب الشياطين ومن أضللن» لعوده على جماعة الإناث ، فلأن يعود كذلك على جمع التكسير المشتمل على الإناث بطريق الأولى [والأحرى](٥) ، هذا معنى قول أبي حيّان : وفيه نظر لأن عوده هناك كضمير الإناث إنما كان لمعنى مفقود هنا وهو طلب المشاكلة لأنّ قبله (٦) «اللهم رب السموات ومن أظللن وربّ الأرضين وما أقللن» ذكر ذلك النحويون.

وقيل : الضّمير يعود على المتروكات أي : فإن كانت المتروكات ، ودلّ ذكر الأولاد عليه ، قاله أبو البقاء (٧) ومكيّ وقدّره الزمخشريّ : فإن كان البنات أو المولودات.

فإذا تقرر هذا ف «كنّ» كان واسمها و «نساء» خبرها ، و («فَوْقَ اثْنَتَيْنِ)» ظرف في محلّ نصب صفة ل «نساء» وبهذه الصّفة تحصل فائدة الخبر ، ولو اقتصر عليه لم تحصل فائدة ، ألا ترى أنّه لو قيل : «إن كان الزيدون رجالا كان كذا» لم يكن فيه فائدة.

وأجاز الزّمخشريّ في هذه الآية وجهين غريبين :

أحدهما : أن يكون الضمير في «كنّ» ضميرا مبهما ، و «نساء» منصوب على أنّه تفسير له يعني : تمييزا ، وكذلك قال في الضّمير الّذي في «كانت» من قوله (وَإِنْ كانَتْ

__________________

(١) في أ : لهم.

(٢) سقط في أ.

(٣) سيأتي قريبا تفصيل القول في حالتي انفراد الإناث والذكور.

(٤) في ب : المكسر.

(٥) سقط في أ.

(٦) في ب : قوله.

(٧) ينظر : الإملاء ١ / ١٦٩.

٢٠٩

واحِدَةً) على أنّ «كان» تامّة. والوجه الآخر : أن يكون (فَوْقَ اثْنَتَيْنِ) خبرا ثانيا ل «كنّ» وردّهما عليه أبو حيّان : أمّا الأوّل : فلأنّ «كان» ليست من الأفعال الّتي يكون فاعلها مضمرا يفسّره ما بعده بل هذا مختصّ من الأفعال ب «نعم» و «بئس» وما جرى مجراهما وباب التنازع عند إعمال الثاني ، وأمّا الثّاني : فلما تقدّم من الاحتياج إلى هذه الصفة ؛ لأنّ الخبر لا بدّ أن تستقلّ به فائدة الإسناد ، وقد تقدّم أنّه لو اقتصر على قوله («فَإِنْ كُنَّ نِساءً)» لم يفد شيئا ؛ لأنّه معلوم.

قوله : (فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ) قرأ الجمهور «ثلثا» بضمّ اللام ، وهي لغة الحجاز وبني أسد.

قال النّحّاس : من الثّلث إلى العشر.

وقرأ الحسن (١) ونعيم بن ميسرة «ثلثا» و «الثّلث» و «النّصف» و «الرّبع» و «الثّمن» كلّ ذلك بإسكان الوسط.

وقال الزّجّاج : هي لغة واحدة ، والسّكون تخفيف.

فصل

بيّن في هذه الآية ما إذا كانوا إناثا فقط ، فقال : (فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ)(٢) ، إلا أنّه تعالى لم يبيّن حكم البنتين تصريحا ، واختلفوا فيه : فعن ابن عبّاس أنّه قال : الثّلثان فرض الثلاث من البنات فصاعدا ، وأمّا فرض البنتين فهو النّصف ؛ لهذه الآية (٣) ؛ لأنّ لفظة «إن» في اللّغة للاشتراط ، وذلك يدلّ على أن أخذ الثّلثين مشروط بكونهن فوق الاثنتين وهو الثلاث فصاعدا.

والجواب من وجوه :

الأول : قوله تعالى : (وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ) فجعل حصول (٤) النّصف مشروطا

بكونها واحدة ، وذلك ينفي حصول النّصف نصيبا للبنتين وهو قد جعل النّصف نصيب البنتين ، فهذا لازم له (٥).

الثّاني : لا نسلّم أنّ كلمة «إن» تدلّ على انتفاء الحكم عند انتفاء الوصف ، لأنّه لو كان الأمر كذلك لزم التناقض بين هاتين الآيتين ؛ لأن الإجماع دلّ على أنّ نصيب البنتين إمّا النّصف ، وإمّا الثّلثان ، وبتقدير أن تكون كلمة «إن» للاشتراط وجب القول بفسادهما ،

__________________

(١) وقرأ بها الأعرج.

انظر : المحرر الوجيز ٢ / ١٦ ، والبحر المحيط ٣ / ١٩٠ ، والدر المصون ٢ / ٣٢٠.

(٢) في أ : الثلثان.

(٣) ذكر هذا الأثر السمرقندي في «بحر العلوم» ١ / ٣٣٦.

(٤) في أ : محصول.

(٥) ينظر : تفسير الرازي ٩ / ١٦٦.

٢١٠

فثبت أنّ القول بكلمة الاشتراط يفضي إلى الباطل فيكون باطلا ولأنّه تعالى قال : (وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ) [البقرة : ٢٨٣] وقال : (فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ) [النساء : ١٠١] ولا يمكن أن (١) يفيد معنى الاشتراط في هذه الآيات.

الثّالث : أنّ في الآية تقديما وتأخيرا والتقدير : فإن كنّ نساء اثنتين فما فوقهما فلهن الثّلثان.

وأمّا سائر الأمّة ، فأجمعوا على أنّ فرض البنتين الثلثان.

قال أبو مسلم الأصفهاني (٢) : عرفناه من قوله تعالى (لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) فإذا كان نصيب الذكر مثل حظ الأنثيين ، ونصيب الذكر هاهنا هو الثّلثان وجب لا محالة أن يكون نصيب البنتين الثلثين.

وقال أبو بكر الرّازي (٣) : إذا مات وخلف ابنا وبنتا فهاهنا نصيب البنت الثّلث لقوله : (لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) فإذا كان نصيب البنت مع الولد الذّكر هو الثّلث ، فأن يكون نصيبها مع ولد آخر أنثى هو الثلث كان أولى ؛ لأنّ الذكر أقوى من الأنثى ، وإذا كان حظ البنتين أزيد من حظ الواحدة ، وجب أن يكون ذلك هو الثّلثان ؛ لأنّه لا قائل (٤) بالفرق ، وأيضا فلما ذكرنا من سبب النّزول أنه عليه‌السلام أعطى بنتي سعد بن الرّبيع الثّلثين ، ولأنّه تعالى ذكر في هذه الآية حكم الواحدة من البنات وحكم الثلاث فما فوقهن ، ولم يذكر حكم البنتين ، وقال في ميراث الأخوات (إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ) [النساء : ١٧٦] فذكر ميراث الأخت الواحدة والأختين ، ولم يذكر ميراث الكثير فصار كل واحدة من هاتين الآيتين مجملا من وجه ومبينا من وجه ، فنقول : لما كان نصيب الأختين الثلثين كانت البنتان أولى بذلك ؛ لأنّهما أقرب إلى الميّت من الأختين ، ولمّا كان نصيب البنات الكثيرة لا يزيد على الثّلثين ، وجب ألّا يزيد نصيب الأخوات الكثيرة على ذلك ؛ لأنّ البنت لمّا كانت أشد اتّصالا بالميت ؛ امتنع جعل الأضعف زائدا على الأقوى.

وأما القسم الثّالث : وهو أن يكون الأولاد ذكورا فقط ، فللواحد المنفرد أخذ المال كلّه ، لقوله تعالى (لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) ثم قال في البنات (وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ) فلزم من مجموع الآيتين (٥) أن نصيب الابن المنفرد جميع المال ، وقال عليه‌السلام : «ما أبقت السّهام فلأولى عصبة ذكر» (٦) وإذا أخذ كل ما يبقى بعد السّهام ، وجب أن يأخذ الكلّ إذا لم يكن سهام.

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) ينظر : تفسير الرازي ٩ / ١٦٧.

(٣) ينظر : السابق.

(٤) في أ : يقال.

(٥) في أ : الآيتين.

(٦) ذكره القرطبي في «تفسيره» (٥ / ١٦٧).

٢١١

فإن قيل : حظّ الأنثيين الثّلثان فقوله (١)(لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) يقتضي أن يكون حظّ الذّكر مطلقا هو الثّلث (٢) ، وذلك ينفي أن يأخذ المال كله.

فالجواب : أنّ المراد منه حال الاجتماع لا حال الانفراد ؛ لأن قوله (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ) يقتضي حصول الأولاد ، وقوله : (لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) يقتضي حصول الذكر والأنثى هناك ، هذا كلّه إذا كان ابنا واحدا فقط ، فلو كانوا أكثر من واحد تشاركوا في جهة الاستحقاق ؛ ولا رجحان ، فوجب قسم المال بينهم بالسّويّة ، والله أعلم.

فإن قيل : إنّ المرأة أكثر عجزا من الرجل ، وأقل اقتدارا من الرّجل لعجزها عن الخروج والبروز ، فإنّ زوجها وأقاربها يمنعونها من ذلك ، ولنقصان عقلها وكثرة اختداعها واغترارها ، وإذا ثبت أنّ عجزها أكمل ، وجب أن يكون نصيبها من الميراث أكثر ، فإن لم يكن أكثر فلا أقل من المساواة ، فما الحكمة في أنّه تعالى جعل نصيبها نصف نصيب الرجل؟.

فالجواب : لأن خرج المرأة أقل ، لأن زوجها ينفق عليها وخرج الرّجل أكثر ، لأنّه هو المنفق على زوجته ، ومن كان خرجه أكثر فهو إلى المال أحوج ؛ ولأنّ الرّجل أكمل حالا من المرأة في الخلقة وفي العقل والمناصب الدينيّة ، مثل صلاحية القضاء والإمامة ، وأيضا شهادة المرأة نصف شهادة الرّجل ، ومن كان كذلك ؛ وجب أن يكون الإنعام إليه أكثر ؛ ولأنّ المرأة قليلة العقل كثيرة الشّهوة ، فإذا انضاف إليها المال الكثير عظم الفساد ، ولهذا قال الشّاعر : [الرجز].

١٧٦٤ ـ إنّ الفراغ والشّباب والجده

مفسدة للمرء أيّ مفسده (٣)

وروي أنّ جعفر الصادق سئل عن هذه الآية فقال : «إنّ حواء أخذت حفنة من الحنطة وأكلتها وأخذت حفنة أخرى وخبأتها ثم أخذت حفنة أخرى ودفعتها إلى آدم ، فلما جعلت نصيبها ضعف نصيب الرجل أقلب الله الأمر عليها فجعل نصيب المرأة نصف نصيب الرّجل».

فإن قيل : لم لم يقل للأنثيين مثل حظ الذّكر ، أو للأنثى مثلا نصف حظ الذّكر؟

فالجواب أنّه لمّا كان الذّكر أفضل من الأنثى قدّم ذكره على ذكر الأنثى كما جعل نصيبه ضعف نصيب الأنثى ، ولأنّ قوله (لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) يدلّ على فضل (٤) الذكر بالمطابقة ، وعلى نقص الأنثى بالالتزام ، ولو قال كما ذكرتم لدلّ على نقص الأنثى بالمطابقة وفضل الذّكر بالالتزام ، فرجح الطريق فترجح الطرف الأوّل تنبيها على أنّ السّعي

__________________

(١) في أ : لقوله.

(٢) في أ : الثلثان.

(٣) البيت لأبي العتاهية. ينظر : ديوانه (٤٩٥) ، الرازي ٩ / ١٦٨ ، وروح المعاني ٤ / ٢١٧.

(٤) في ب : تفضيل.

٢١٢

في تشهير الفضائل يجب أن يكون راجحا على السعي في تشهير الرّذائل ، ولهذا قال (إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها) [الإسراء : ٧] فذكر الإحسان مرتين والإساءة مرّة واحدة ، وأيضا فلأنهم كانوا يورثون الذكور دون الإناث ، وهو سبب نزول الآية ، فقيل (١) : كفى للذكر أن جعل نصيبه ضعف نصيب الأنثى ، فلا ينبغي أن يطمع في حرمان الأنثى بالكليّة.

فإن قيل : قوله : (فَإِنْ كُنَّ نِساءً) جمع ، وأقلّ الجمع ثلاثة فما فائدة قوله (فَوْقَاثْنَتَيْنِ)؟.

فالجواب : للتأكيد كقوله : (إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً) [النساء : ١٠] وقوله : (لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ) [النحل : ٥١].

فصل

اسم الولد يقع على ولد الصّلب حقيقة ، وهل يستعمل في ولد الابن حقيقة أو مجازا؟ خلاف.

فإن قلنا : إنّه مجاز ، فنقول : ثبت في أصول الفقه أنّ اللّفظ الواحد لا يجوز أن يستعمل دفعة واحدة في حقيقته وفي مجازه معا ، فحينئذ يمتنع أن يكون المراد بقوله (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ) ولد الصّلب ، وولد الابن معا ، ويدفع هذا الإشكال بأن يقال : إنّا لا نستفيد حكم ولد الابن من هذه الآية ، [بل](٢) من دليل آخر ، وذلك أن أولاد (٣) الابن لا يرثون إلا عند عدم الولد ، وإذا لم يستغرق ولد الصّلب كلّ الميراث ، وإن ثبت أنّه حقيقة فيهما فيكون مشتركا بينهما فيعود الإشكال ، لأنّه ثبت أنّه لا يجوز استعمال اللّفظ المشترك لإفادة معنييه معا ، بل الواجب أنّ اللفظ يكون متواطئا (٤) فيهما كالحيوان (٥) بالنّسبة إلى الإنسان ، والفرس ، [والذي](٦) يدلّ على صحّة ذلك قوله (وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ) [النساء : ٢٣] وأجمعوا على أنه يدخل فيه ابن الصّلب ، وأولاد الابن ، فعلمنا أنّ لفظ الابن يتواطأ بالنسبة إلى ولد الصّلب وولد الابن وعلى هذا التّقدير يزول الإشكال ويدخل في هذا البحث هل يتناول اسم الأب الأجداد والجدّات؟ وقد وقع ذلك في قوله تعالى : (نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ) [البقرة : ١٣٣] والأظهر أنّه ليس على سبيل الحقيقة ، فإن الصّحابة اتّفقوا على أنه ليس للجدّ حكم مذكور في القرآن ، ولو كان اسم الأب يتناول الجد لما صحّ ذلك.

فصل

قالوا إن عموم قوله تعالى : (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ) مخصوص بأربع صور :

__________________

(١) ينظر : تفسير الرازي ٩ / ١٦٨.

(٢) سقط في ب.

(٣) في أ : ولد.

(٤) في أ : متوصلا.

(٥) في ب : كالجواب.

(٦) سقط في أ.

٢١٣

أحدها : لا يتوارث الحرّ والعبد.

وثانيها : أنه إذا (١) قتل مورثه عمدا لا يرث.

وثالثها : اختلاف الدّين.

ورابعها : أنّ الأنبياء عليهم‌السلام لا يورثون ، وروي أنّ فاطمة ـ رضي الله عنها ـ لما طلبت الميراث ومنعوها ، احتجوا عليها بقوله عليه‌السلام : «نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة» فعند هذا احتجت فاطمة ـ عليها‌السلام ـ بعموم قوله تعالى : (لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) وكأنها أشارت إلى أن عموم القرآن لا يجوز تخصيصه بخبر الواحد.

قوله (وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً) ، قرأ نافع (٢) «واحدة» رفعا على أن «كان» تامة أي : وإن وجدت واحدة ، والباقون «واحدة» نصبا على أن «كان» ناقصة واسمها مستتر فيها يعود على الوارثة أو المتروكة و «واحدة» نصب على خبر «كان» ، وقد تقدّم أنّ الزّمخشريّ أجاز أن يكون في «كان» ضمير مبهم مفسّر بالمنصوب بعد. وقرأ السّلمي (٣) : «النّصف» بضم النون ، وهي قراءة عليّ وزيد بن ثابت ـ رضي الله عنهما ـ وقد تقدّم شيء من ذلك في البقرة في قوله : (فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ) [البقرة : ٢٣٧] ويعني : كون البنت الواحدة لها النّصف ؛ لأن الابن الواحد له جميع المال إذا انفرد ، فكذلك البنت إذا انفردت لها نصف ما للذكر إذا انفرد ؛ لأنّ الذّكر له مثل حظ الأنثيين.

قوله : (وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ).

(السُّدُسُ) مبتدأ و (وَلِأَبَوَيْهِ) خبر مقدّم ، و (لِكُلِّ واحِدٍ) بدل من (وَلِأَبَوَيْهِ) ، وهذا نص الزمخشريّ فإنّه قال : (لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا) بدل من (وَلِأَبَوَيْهِ) بتكرير العامل ، وفائدة هذا البدل أنّه لو قيل : «لابويه السدس» لكان ظاهره اشتراكهما فيه ، ولو قيل : «لأبويه السدسان» لأوهم قسمة السدسين عليهما بالسويّة وعلى خلافهما.

فإن قلت : فهلا قيل : «ولكل واحد من أبويه السدس» وأيّ فائدة في ذكر الأبوين أولا ثم في الإبدال منهما؟.

قلت : لأنّ في الإبدال والتفصيل بعد الإجمال تأكيدا وتشديدا كالذي تراه في الجمع بين المفسّر والتفسير.

و (السُّدُسُ) مبتدأ ، وخبره (لِأَبَوَيْهِ) والبدل متوسط بينهما للبيان. انتهى.

__________________

(١) في أ : إن

(٢) انظر : السبعة ٢٢٧ ، والحجة ٣ / ١٣٥ ، وحجة القراءات ١٩٢ ، والعنوان ٨٣ ، وإعراب القراءات ١ / ١٢٩ ، وشرح الطيبة ٤ / ١٩٣ ، وشرح شعلة ٣٣٣.

(٣) انظر : المحرر الوجيز ١ / ١٦ ، والبحر المحيط ٣ / ١٩١ ، والدر المصون ٢ / ٣٢٠.

٢١٤

وناقشه أبو حيان في جعله (لِأَبَوَيْهِ) الخبر دون قوله : (لِكُلِّ واحِدٍ) قال : «لأنه ينبغي أن يكون البدل هو الخبر دون المبدل منه» يعني : أنّ البدل هو المعتمد عليه ، والمبدل منه صار في حكم المطّرح (١) ، ونظّره بقولك : «إنّ زيدا عينه حسنة» فكما أنّ «حسنة» خبر عن «عينه» دون «زيد» في حكم المطّرح فكذلك هذا ، ونظّره أيضا بقولك : [أبواك لكل واحد منهما يصنع كذا ف «يصنع» خبر عن كل واحد منهما.

ولو قلت :](٢) «أبواك كلّ واحد منهما يصنعان كذا» لم يجز.

وفي هذه المناقشة نظر ، لأنه إذا قيل لك : ما محلّ لأبويه من الإعراب؟ تضطر إلى أن تقول : في محلّ رفع خبرا مقدّما ، ولكنه نقل نسبة الخبريّة إلى (لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا) دون (لِأَبَوَيْهِ) قال : وقال بعضهم : (السُّدُسُ) رفع بالابتداء ، و (لِكُلِّ واحِدٍ) الخبر و (لِكُلِ) بدل من الأبوين ، و «منهما» نعت لواحد ، وهذا البدل هو بدل بعض من كلّ ، ولذلك أتى معه بالضّمير ، ولا يتوهّم أنّه بدل شيء من شيء وهما لعين واحدة لجواز أبواك يصنعان كذا وامتناع أبواك كل واحد منهما يصنعان كذا ، بل تقول : يصنع. انتهى.

والضّمير في «لأبويه» عائد على ما عاد عليه الضّمير في «ترك» ، وهو الميت المدلول عليه بقوة الكلام ، والتثنية في «أبويه» من التّغليب ، والأصل : لأبيه وأمه (٣) وإنّما غلّب المذكر على المؤنّث كقولهم : «القمران ، والعمران» وهي تثنية لا تنقاس.

وقيل : إنّ الأصل في الأم أن يقال لها : «أبة» والتثنية على الأصل.

فصل

إذا كان مع الأبوين ولد أو أكثر (٤) كان لكلّ واحد منهما السّدس وسوى الله بين الأب والأمّ في هذا الموضع ؛ لأنّ الأب وإن كان يستوجب التفضيل لما كان ينفقه على الابن ، وبنصرته له والذب عنه صغيرا ، فالأم أيضا حملته كرها ووضعته كرها ؛ وكان بطنها له وعاء ، وثديها له سقاء ، وحجرها له فناء ، فتكافأت الحجتان ، فلذلك سوّى بينهما ، فإن كانت بنتا واحدة وبنت ابن فللبنت النصف وللأمّ السّدس وللأب ما بقي ، وهو الثّلث [نصف بفرضه ، وهو السّدس](٥) وباقيه بالتّعصيب فإن قيل : حقّ الأبوين على الإنسان أعظم من حقّ ولده عليه ، لأنّ الله تعالى قرن طاعته بطاعتهما فما الحكمة في جعل نصيب الأولاد أكبر؟.

فالجواب : أن الوالدين ما بقي من عمرهما إلّا القليل ، فكان احتياجهما إلى المال قليلا ، وأمّا الأولاد فهم في زمن الصّبا ، فكان احتياجهم إلى المال أكثر [فظهر الفرق](٦).

__________________

(١) في ب : الطرح.

(٢) سقط في أ.

(٣) في أ : لأبويه.

(٤) في ب : أو ولد ابن.

(٥) سقط في ب.

(٦) سقط في ب.

٢١٥

قوله : (فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ).

قرأ الجمهور (فَلِأُمِّهِ) وقوله : (فِي أُمِّ الْكِتابِ) [الزخرف : ٤].

وقوله : (حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها) في القصص [آية : ٥٩].

وقوله : (مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ) [النحل : ٧٨].

وقوله : (أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ) [النور : ٦١] و (فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ) [النجم : ٣٢] بضم الهمزة من «أمّ» وهو الأصل.

وقرأ حمزة (١) والكسائيّ جميع ذلك بكسر الهمزة.

وانفرد حمزة بزيادة كسر الميم من «إمّهات» في الأماكن المذكورة ، هذا كله في الدّرج.

أمّا في الابتداء بهمزة «الأم» و «الأمهات» فإنّه لا خلاف في ضمّها.

أمّا وجه قراءة الجمهور فظاهر ، لأنّه الأصل كما تقدّم.

وأمّا قراءة حمزة والكسائي بكسر الهمزة فقالوا : لمناسبة (٢) الكسرة أو الياء الّتي قبل الهمزة ، فكسرت الهمزة إتباعا لما قبلها ، ولاستثقالهم الخروج من كسر أو شبهه إلى ضم.

قال الزّجّاج : وليس في كلام العرب «فعل» بكسر الفاء وضمّ العين ، فلا جرم جعلت الضمة كسرة ، ولذلك إذا ابتدآ بالهمزة ضمّاها لزوال الكسر أو الياء ، وأمّا كسر حمزة الميم من «إمّهات» في المواضع المذكورة فللإتباع ، أتبع حركة الميم لحركة الهمزة ، فكسرة الميم تبع (٣) التّبع ، ولذلك إذا ابتدأ بها ضم الهمزة وفتح الميم ؛ لما تقدّم من زوال موجب ذلك.

وكسر همزة «أم» بعد الكسرة أو الياء حكاه سيبويه لغة عن العرب ، ونسبها الكسائي والفرّاء إلى «هوازن» و «هذيل».

فصل

ذكر هاهنا أنّ الأبوين إذا لم يكن معهما وارث غيرهما ، فإنّ الأم تأخذ الثّلث ، ويأخذ الأب ما بقي وهو الثّلثان ، وإذا ثبت أنّه يأخذ الباقي بالتّعصيب ، وجب أن يأخذ المال كلّه إذا انفرد ؛ لأنّ هذا شأن التّعصيب ، فإن كان مع الأبوين أحد الزّوجين ، فذهب أكثر الصّحابة إلى أنّ الزّوج يأخذ فرضه ، ثم تأخذ الأم ثلث ما بقي ، ويأخذ الأب ما بقي.

__________________

(١) انظر : السبعة ٢٢٨ ، والحجة ٣ / ١٣٧ ، ١٣٨ ، وحجة القراءات ١٩٢ ، والعنوان ٨٣ ، وإعراب القراءات ١ / ١٢٩ ـ ١٣٠ ، وشرح شعلة ٣٣٤ ، وشرح الطيبة ٤ / ١٩٥ ، وإتحاف ١ / ٥٠٤.

(٢) في أ : المناسب.

(٣) في أ : تتبع.

٢١٦

وقال ابن عباس : يأخذ الزوج فرضه ، وتأخذ الأم الثلث كاملا ، ويأخذ الأب ما بقي (١).

وقال : لا أجد في كتاب الله ـ تعالى ـ ثلث ما بقي.

وعن ابن سيرين أنّه وافق ابن عبّاس في الزّوجة والأبوين ، وخالفه في الزّوج والأبوين ، لأنّه يفضي إلى أن يكون للأنثى مثل حظّ الذكرين.

وأمّا الزّوجة ، فلا يفضي إلى ذلك.

وحجّة الجمهور أنّ قاعدة الميراث متى اجتمع ذكر وأنثى من جنس واحد ، كان للذّكر مثل حظّ الأنثيين ، كالأبوين مع البنت ، والأخ مع الأخت ، وابن الابن مع بنت الابن ، والأم مع الأب كذلك إذا لم يكن للميّت وارث سواهما كما تقدّم.

وإن كان كذلك ، فإنّ الزّوج يأخذ نصيبه ، ويقسّم الباقي بين الأبوين للذّكر مثل حظ الأنثيين ؛ ولأن الزّوج يأخذ نصيبه بحكم عقد النّكاح لا بحكم القرابة ، فأشبه الوصيّة في قسمة الباقي.

وأيضا فإنّ الزّوج إذا أخذ النصف ، فلو دفعنا ثلث جميع المال للأم والسدس إلى الأب (٢) ، يلزم منه أن يكون للأنثى مثل حظّ الذكرين ، وهذا خلاف قوله : (لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ).

قوله : (فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ).

«إخوة» أعم من أن يكونوا ذكورا أو إناثا ، أو بعضهم ذكورا وبعضهم إناثا ، ويكون هذا من باب التغليب ، وزعم قوم أن الإخوة خاصّ بالذّكور ، وأنّ الأخوات لا يحجبن الأم من الثّلث إلى السّدس ، فقالوا : لأن «إخوة» جمع «أخ» ، والجمهور على أنّ الإخوة وإن كانوا بلفظ الجمع يقعون على الاثنين ، فيحجب الأخوان أيضا الأم من الثّلث إلى السّدس خلافا لابن عبّاس ، فإنّه لا يحجب بهما والظاهر معه.

روي أنّ ابن عباس قال لعثمان بم صار الأخوان يردّان الأم من الثّلث إلى السّدس ، وإنّما قال الله تعالى : (فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ) والأخوان في لسان قومك ليس بإخوة؟ فقال عثمان : لا أستطيع أن أردّ قضاء قضي به قبلي ، ومضى في الأمصار (٣).

وهذه المسألة مبنيّة على أنّ أقل الجمع ثلاثة ، والموجب لذلك هو القياس يخص هذه المسألة بأنّ الأختين ميراثهما ميراث الثّلاث ، كما أنّ ميراث البنتين مثل ميراث الثلاثة

__________________

(١) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٢٢٣) وعزاه للبيهقي وعبد الرزاق عن عكرمة عن ابن عباس.

(٢) في أ : بدل والسدس إلى الأب قوله «لم يبق للأم غير السدس».

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٨ / ٤٠) والبيهقي في سننه (٦ / ٢٢٧) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٢٢٩) وزاد نسبته للحاكم.

٢١٧

فكذلك نصيب الأختين من الأمّ مثل نصيب الثلاثة ، وإذا كان كذلك ؛ وجب أن يحصل الحجب بالأختين ، وإذا وجب الحجب بالأختين لزم ثبوته في الأخوين (١) ؛ لأنّه لا قائل بالفرق [فهذا أحسن ما يمكن أن يقال في هذا الموضع وفيه إشكال لأن] إجراء القياس في التقديرات صعب لأنّه غير معقول ، فيكون ذلك مجرّد تشبيه من غير جامع.

فالجواب أن يقال : لا يتمسّك به على طريقة القياس بل على طريقة الاستقراء ، لأنّ الكثرة أمارة العموم.

فصل

[والإخوة](٢) إذا حجبوا الأم من الثّلث إلى السّدس ، فلا يرثون مع الأب شيئا [ألبتة](٣) بل يأخذ الأب باقي المال ، وهو خمسة أسداس ، سدس بالفرض ، والباقي بالتّعصيب ، وقال ابن عبّاس (٤) : الإخوة يأخذون السّدس الذي حجبوا الأم عنه ، وما بقي فللأب ، وحجته الاستقراء دلّ على أن من لا يرث لا يحجب ، فهؤلاء الإخوة لما حجبوا وجب أن يرثوا ، وهذا يختص (٥) بالإخوة للأم إذا اجتمعوا مع الأبوين فإنّهم يحجبون الأم من الثّلث إلى السّدس ، ولا يرثون شيئا ؛ لأن الأب يسقطهم (٦).

قوله : (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ) فيه ثلاثة أوجه :

أحدها : أنّه متعلق بما تقدمه من قسمة المواريث كلّها لا بما يليه وحده ، كأنّه قيل : قسمة هذه الأنصباء من بعد وصية قاله الزّمخشريّ ، يعني أنه متعلّق بقوله : (يُوصِيكُمُ اللهُ) وما بعده.

والثاني : قاله أبو حيّان أنّه متعلّق بمحذوف ، أي : يستحقّون ذلك كما فصّل من بعد وصية.

[والثالث : أنّه حال من السّدس ، تقديره : مستحقا من بعد وصيّة](٧) ، والعامل الظرف قاله أبو البقاء (٨) ، وجوّز فيه وجها آخر ، قال : [ويجوز أن يكون ظرفا] أي : يستقر لهم ذلك بعد إخراج الوصيّة ، ولا بدّ من تقدير حذف المضاف لأنّ الوصيّة هنا المال الموصى به ، وقد تكون «الوصيّة» مصدرا مثل «الفريضة» ، وهذان الوجهان لا يظهر لهما وجه.

وقوله : والعامل الظّرف ، يعني بالظّرف : الجارّ والمجرور في قوله تعالى : (فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ) فإنه شبيه بالظرفية ، وعمل في الحال لما تضمنه من الفعل لوقوعه خبرا ،

__________________

(١) في ب : الآخرين.

(٢) سقط في أ.

(٣) سقط في ب.

(٤) ينظر : تفسير الرازي ٩ / ١٧٥.

(٥) في ب : ينتقض.

(٦) ينظر : الرازي ٩ / ١٧٥.

(٧) سقط في ب.

(٨) ينظر : الإملاء ١ / ١٦٩.

٢١٨

و «يوصي» فعل مضارع المراد به المضمر ، أي : وصية أوصى بها و «بها» متعلق به ، والجملة في محلّ جرّ صفة ل «وصية».

وقرأ ابن كثير وابن عامر وأبو بكر (١) «يوصى» مبنيّا للمفعول في الموضعين ، ووافقهم حفص في الأخير ، والباقون مبنيا للفاعل.

وقرىء (٢) شاذا «يوصّى» بالتشديد مبنيا للمفعول ، ف «بها» في قراءة البناء للفاعل في محلّ نصب ، وفي قراءة البناء للمفعول في محلّ رفع لقيامه مقام الفاعل.

قوله : «أو دين» ، «أو» هنا لأحد الشيئين ، قال أبو البقاء (٣) : «ولا تدلّ على ترتيب ، إذ لا فرق بين قولك : «جاءني زيد أو عمرو» ، وبين قولك : «جاءني عمرو أو زيد» ؛ لأنّ «أو» لأحد الشيئين ، والواحد لا ترتيب فيه ، وبهذا يفسد قول من قال : «من بعد دين أو وصية» وإنّما يقع الترتيب فيما إذا اجتمعا ، فيقدّم الدّين على الوصيّة».

وقال الزّمخشريّ : «فإن قلت : فما معنى أو؟ قلت : معناها الإباحة ، وأنّه إن كان أحدهما ، أو كلاهما قدّم على قسمة الميراث ، كقولك : «جالس الحسن أو ابن سيرين» ، فإن قلت : لم قدّمت الوصيّة على الدّين والدّين مقدّم عليها في الشّريعة؟.

قلت : لما كانت الوصيّة مشبهة للميراث في كونها مأخوذة من غير عوض ، كان إخراجها ممّا يشقّ على الورثة ، بخلاف الدّين ، فإن نفوسهم مطمئنّة إلى أدائه ، فلذلك قدّمت على الدّين بعثا على وجوبها ، والمسارعة إلى إخراجها مع الدّين ، ولذلك جيء بكلمة «أو» للتّسوية بينهما في الوجوب». وقال ابن الخطيب (٤) : إنّ كلمة «أو» إذا دخلت على (٥) النفي صارت في معنى الواو ، كقوله : (وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً) [الإنسان : ٢٤] وقوله : (حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ) [الأنعام : ١٤٦] فكانت «أو» هاهنا بمعنى الواو ، وكذلك قوله تعالى : (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ) لما كان في معنى الاستثناء صار كأنه قال : إلّا أن يكون هناك وصية أو دين فيكون المراد بعدهما جميعا.

قوله : (آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ) مبتدأ ، و (لا تَدْرُونَ) وما في حيّزه في محلّ الرفع خبرا له.

و (أَيُّهُمْ) فيه وجهان :

__________________

(١) انظر : السبعة ٢٢٨ ، والحجة ٣ / ١٣٩ ـ ١٤٠ ، وحجة القراءات ١٩٣ ، وإعراب القراءات ١ / ١٣٠ ، والعنوان ٨٣ ، وشرح الطيبة ٤ / ١٩٤ ، وشرح شعلة ٣٣٣ ، وإتحاف ١ / ٥٠٥.

(٢) قرأ بها الحسن بن أبي الحسن.

انظر : المحرر الوجيز ٢ / ٧١ ، والدر المصون ٢ / ٣٢٢ ، والشواذ ٢٥.

(٣) ينظر : الإملاء ١ / ١٦٩.

(٤) ينظر : تفسير الرازي ٩ / ١٧٦.

(٥) في ب : مع.

٢١٩

أشهرهما : [عند المعربين](١) أن يكون (أَيُّهُمْ) مبتدأ وهو اسم استفهام ، و «أقرب» خبره ، والجملة من هذا لمبتدأ وخبره في محلّ نصب ب «تدرون» ؛ لأنّها من أفعال القلوب ، فعلّقها اسم الاستفهام عن أن تعمل في لفظه ؛ لأنّ الاستفهام لا يعمل فيه ما قبله في غير الاستثبات.

والثّاني : أنّه يجوز أن يكون (أَيُّهُمْ) موصولة بمعنى (الذى) و (وَالْأَقْرَبُونَ) : خبر مبتدأ مضمر ، وهو عائد الموصول ، وجاز حذفه ؛ لأنه يجوز ذلك مع «أي» مطلقا ، أي : أطالت الصّلة أم لم تطل ، والتّقدير : أيّهم هو أقرب ، وهذا الموصول وصلته في محلّ نصب على أنّه مفعول به ، نصبه (تَدْرُونَ ،) وإنّما بني لوجود شرطي البناء ، وهما : أن تضاف «أي» لفظا ، وأن يحذف صدر صلتها ، وصارت هذه الآية نظير قوله تعالى : (ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ) [مريم : ٦٩] ، فصار التقدير : لا تدرون الذي هو أقرب.

قال أبو حيّان : «ولم أرهم ذكروه» ، يعني هذا الوجه ، ولا مانع منه لا من جهة المعنى ، ولا من جهة الصّناعة (٢).

فعلى القول الأوّل تكون الجملة سادّة مسدّ المفعولين (٣) ولا حاجة إلى تقدير حذف.

وعلى الثّاني يكون الموصول في محلّ نصب مفعولا أوّل ، ويكون الثّاني محذوفا ، وبعدم الاحتياج إلى حذف المفعول الثّاني ، يترجّح الوجه الأوّل.

ثم هذه الجملة ، أعني قوله : (آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ) لا محلّ لها من الإعراب ، لأنّها جملة اعتراضية.

قال الزمخشريّ ، بعد أن حكى في معانيها أقوالا اختار منها الأوّل : لأنّ هذه الجملة اعتراضيّة ، ومن حقّ الاعتراض أن يؤكّد ما اعترض بينه وبين ما يناسبه.

يعني بالاعتراض : أنّها واقعة بين قصة المواريث ، إلّا أنّ هذا الاعتراض غير مراد النحويين ، لأنّهم لا يعنون بالاعتراض في اصطلاحهم إلّا ما كان بين شيئين متلازمين كالاعتراض بين المبتدأ وخبره ، والشرط وجزائه (٤) والقسم وجوابه ، والصّلة وموصولها.

فصل في معانيءاباؤكم وأبناؤكم لا تدرون

ذكر الزّمخشريّ في معانيها أقوالا :

أحدها : ـ وهو الذي اختاره ـ أن جعلها متعلّقة بالوصيّة ، فقال : ثم أكّد ذلك ـ يعني الاهتمام بالوصيّة ـ ورغّب فيه بقوله : (آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ) أي : لا تدرون من أنفع

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) في أ : الصياغة.

(٣) في أ : للمفعولين.

(٤) في أ : وجوابه.

٢٢٠