اللّباب في علوم الكتاب - ج ٦

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ٦

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٦٣٢

١
٢

بسم الله الرّحمن الرّحيم

(إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ)(١٥٥)

إنما ثنّي «الجمعان» ـ وإن كان اسم جمع ـ وقد نصّ النّحاة على أنه لا يثنّى ولا يجمع إلا شذوذا ـ لأنه أريد به النوع ؛ فإن المعنى جمع المؤمنين وجمع المشركين ، فلما أريد به ذلك ثنّي ، كقوله : [الطويل]

١٦٧٢ ـ وكلّ رفيقي كلّ رحل وإن هما

تعاطى القنا قوما هما أخوان (١)

فصل

(تَوَلَّوْا) انهزموا (يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ) جمع المسلمين وجمع المشركين يوم أحد ، وكان قد انهزم أكثر المسلمين ، ولم يبق مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، إلا ثلاثة عشر رجلا ، ستة من المهاجرين : أبو بكر ، وأبو عبيدة بن الجراح وعليّ ، وطلحة ، وعبد الرحمن بن عوف ، وسعد بن أبي وقّاص ـ وسبعة من الأنصار ـ حباب بن المنذر وأبو دجانة ، وعاصم بن ثابت ، والحارث بن الصّمّة ، وسهل بن حنيف ، وأسيد بن حضير ، وسعد بن معاذ (٢) ـ وقيل : أربعة عشر ؛ سبعة من المهاجرين ، فذكر الزبير بن العوّام معهم ، وسبعة من الأنصار.

وقيل : إن ثمانية من هؤلاء كانوا بايعوه يومئذ على الموت : ثلاثة من المهاجرين : طلحة ، والزبير ، وعلي ، وخمسة من الأنصار : أبو دجانة ، والحارث بن الصّمّة ، وحباب بن المنذر ، وعاصم بن ثابت ، وسهل بن حنيف ، ثم لم يقتل منهم أحد.

وروي أنه أصيب مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نحو ثلاثين ، كلهم يجيء ، ويجثو بين

__________________

(١) البيت للفرزدق ينظر ديوانه ٢ / ٣٢٩ ، وخزانة الأدب ٧ / ٥٧٢ ، ٥٧٣ ، ٥٧٩ ، والدرر ٥ / ١٣٢ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٥٣٦ ، ولسان العرب (يدي) ، ومغني اللبيب ١ / ١٩٦ ، والدر المصون ٢ / ٢٤٠.

(٢) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ١٥٧) وعزاه لابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير.

٣

يديه ، ويقول : وجهي لوجهك الفداء ، ونفسي لنفسك الفداء ، وعليك السّلام غير مودّع.

قوله : (إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ) السين في (اسْتَزَلَّهُمُ) للطلب ، والظاهر أن استفعل هاهنا ـ بمعنى أفعل ؛ لأن القصة تدلّ عليه ، فالمعنى : حمله على الزلة ، فيكون ك «استلّ» و «أبلّ». و «أزلّ» واستزلّ بمعنى واحد ، قال تعالى : (فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ) [البقرة : ٣٦].

وقال ابن قتيبة : (اسْتَزَلَّهُمُ) طلب زلّتهم ، كما يقال : استعجلته : أي : طلبت عجلته ، واستعملته طلبت عمله.

فصل

قال الكعبيّ : الآية تدلّ على أن المعاصي لا تنسب إلى الله ؛ فإنه ـ تعالى ـ نسبها هنا إلى الشّيطان ، فهو كقوله تعالى ـ حكاية عن موسى ـ : (هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ) [القصص : ١٥] وكقوله ـ حكاية عن يوسف ـ : (مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي) [يوسف : ١٠٠] وقوله ـ حكاية عن صاحب موسى ـ : (وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ) [الكهف : ٦٣].

قوله : (بِبَعْضِ ما كَسَبُوا) فيه وجهان :

الأول : أن الباء للإلصاق ، كقولك : كتبت بالقلم ، وقطعت بالسّكّين ، والمعنى : أنه كان قد صدرت عنهم جنايات ، فبواسطتها قدر الشيطان على استزلالهم ، وعلى هذا التقدير اختلفوا :

فقال الزّجّاج : إنهم لم يتولّوا عنادا ، ولا فرارا من الزّحف ، رغبة منهم في الدنيا ، وإنما ذكّرهم الشيطان ذنوبا ـ كانت لهم ـ فكرهوا البقاء إلا على حال يرضونها.

وقيل : لما أذنبوا ـ بمفارقة المركز ، أو برغبتهم في الغنيمة ، أو بفشلهم عن الجهاد ـ أزلّهم الشيطان بهذه المعصية ، وأوقعهم في الهزيمة.

الثاني : أن تكون الباء للتبعيض ، والمعنى : أنّ هذه الزّلّة وقعت لهم في بعض أعمالهم.

قوله : (وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ) هذه الآية تدل على أن تلك الزّلّة ما كانت بسبب الكفر ؛ فإن العفو عن الكفر لا يجوز ؛ لقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) [النساء : ٤٨] فالعفو عن الصغائر والكبائر جائز.

قالت المعتزلة : ذلك الذنب إن كان من الصغائر ، جاز العفو عنه من غير توبة ، وإن كان من الكبائر لم يجز العفو عنه من غير توبة ـ وإن كان ذلك غير مذكور في الآية.

٤

قال القاضي : والأقرب أن ذلك الذنب كان من الصغائر ، لوجهين :

أحدهما : أنه لا يكاد ـ في الكبائر ـ يقال : [إنها زلّة](١) ، إنما يقال ذلك في الصغائر.

الثاني : أن القوم ظنوا أنّ الهزيمة لما وقعت على المشركين ، لم يبق إلى ثباتهم في ذلك المكان حاجة فلا جرم ـ انقلبوا عنه ، وتحوّلوا لطلب الغنيمة ، ومثل هذا لا يبعد أن يكون من باب الصغائر لأن للاجتهاد في مثله مدخلا.

قال ابن الخطيب : وهذه تكلّفات لا حاجة إليها ، وقد بينّا كونها من الكبائر ، والاجتهاد لا مدخل له مع النص الصريح بلزوم المركز ، سواء كانت الغلبة لهم ، أو عليهم.

ثم قال : (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ) أي (غَفُورٌ) لمن تاب ، (حَلِيمٌ) لا يعجل بالعقوبة ، وهذا يدل على أن ذلك الذنب كان من الكبائر ؛ لأن لو كان من الصغائر لوجب أن يعفو عنه ـ على قول المعتزلة ـ ولو كان العفو واجبا لما حسن التمدّح به ؛ لأن من يظلم إنسانا لا يحسن أن يتمدّح بأنه عفا عنه ، وغفر له.

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١٥٦) وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (١٥٧) وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللهِ تُحْشَرُونَ)(١٥٨)

وجه النظم أن المنافقين كانوا يعيّرون المؤمنين في الجهاد مع الكفار ، بقولهم : (لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا) ثم إنه ظهر عند بعض المؤمنين فتور وفشل في الجهاد ، حتى وقع يوم أحد ما وقع ، وعفا الله بفضله عنهم ، فنهاهم في هذه الآية عن القول بمثل مقالة المنافقين ، لمن يريد الخروج إلى الجهاد ، فقال : لا تقولوا ـ لمن يريد الخروج إلى الجهاد ـ : لو لم تخرجوا لما متم ، وما قتلتم ، فإن الله هو المحيي والمميت ، فمن قدّر له البقاء لم يقتل في الجهاد ، ومن قدّر له الموت مات وإن لم يجاهد ، وهو المراد بقوله : (وَاللهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ).

وأيضا فالذي يقتل في الجهاد ، لو لم يخرج إلى الجهاد ، لكان يموت لا محالة ، فإذا كان لا بد من الموت فلأن يقتل في الجهاد ـ حتى يستوجب الثواب العظيم ـ خير له من أي يموت من غير فائدة ، وهو المراد بقوله : (وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ).

__________________

(١) في أ : عفا الله عنهم.

٥

واختلفوا (في الذين كفروا) فقيل : هو كل كافر يقول هكذا.

وقيل : إنه مخصوص بالمنافقين ؛ لأن هذه الآيات في شرح أحوالهم.

وقيل : مختصة بعبد الله بن أبيّ ابن سلول ومعتب بن قشير (١) ، وسائر أصحابهما.

قوله : (لِإِخْوانِهِمْ) قال الزمخشريّ : «لأجل إخوانكم». وهذا يدل على أن أولئك الإخوان كانوا ميّتين عند هذا القول ويحتمل أن يكون المراد منه الأخوة في النسب ، كقوله تعالى : (وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً) [الأعراف : ٦٥] ويكون المقتولون من المسلمين كانوا من أقارب المنافقين ، فقال المنافقون هذا الكلام ويحتمل أن يكون المراد : الأخوة في الدين ، فقال المنافقون هذا الكلام ، بعد أن قتل بعضهم في بعض الغزوات.

قوله : (إِذا ضَرَبُوا) «إذا» ظرف مستقبل ، فلذلك اضطربت أقوال المعربين ـ هنا ـ من حيث إن العامل فيها (قالُوا) ـ وهو ماض ـ فقال الزمخشريّ : «فإن قلت : كيف قيل : (إِذا ضَرَبُوا) مع «قالوا»؟ قلت : هو حكاية حال ماضية ، كقولك : حين يضربون في الأرض».

وقال أبو البقاء (٢) بعد قول قريب من قول الزمخشريّ : «ويجوز أن يكون (كَفَرُوا) و (قالُوا) ماضيين ، يراد بهما المستقبل المحكي به الحال فعلى هذا يكون التقدير : يكفرون ، ويقولون لإخوانهم». انتهى.

ففي كلا الوجهين حكاية حال ، لكن في الأول حكاية حال ماضية ، وفي الثاني مستقبلة ، وهو ـ من هذه الحيثية ـ كقوله تعالى : (حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ) [البقرة : ٢١٤]. ويجوز أن يراد بها الاستقبال ، لا على سبيل الحكاية ، بل لوقوعه صلة لموصول ، وقد نصّ بعضهم على أن الماضي ـ إذا وقع صلة لموصول ـ صلح للاستقبال ، كقوله : (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ) [المائدة : ٣٤]. وإلى هذا نحا ابن عطية ، وقال : «دخلت «إذا» وهي حرف استقبال ـ من حيث «الذين» اسم فيه إبهام ، يعم من قال في الماضي ، ومن يقول في الاستقبال ، ومن حيث هذه النازلة تتصور في مستقبل الزمان» يعني : فتكون حكاية حال مستقبلة.

قال ابن الخطيب : «إنما عبّر عن المستقبل بلفظ الماضي لفائدتين :

إحداهما : أن الشيء الذي يكون لازم الحصول في المستقبل ، قد يعبّر عنه بأنه حدث ، أو هو حادث ، قال تعالى : (أَتى أَمْرُ اللهِ) [النحل : ١] وقال : (إِنَّكَ مَيِّتٌ) [الزمر : ٣٠] فهنا لو وقع التعبير عنه بلفظ المستقبل لم يكن فيه ذلك المعنى ، فلما وقع

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ٣٣١) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ١٥٨) وزاد نسبته للفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد.

(٢) ينظر : الإملاء ١ / ١٥٥.

٦

التعبير عنه بلفظ الماضي ، دلّ على أن جدّهم واجتهادهم في تقرير الشبهة قد بلغ الغاية ، فصار بسبب ذلك الجد ، هذا المستقبل كالواقع.

الثانية : أنه ـ تعالى ـ لما عبر عن المستقبل بلفظ الماضي ، دلّ ذلك على أنه ليس المقصود الإخبار عن صدور هذا الكلام ، بل المقصود الإخبار عن جدّهم واجتهادهم في تقرير هذه الشّبهة».

وقدّر أبو حيّان (١) : مضافا محذوفا وهو عامل في «إذا» تقديره : وقالوا لهلاك إخوانهم ، أي : مخافة أن يهلك إخوانهم إذا سافروا ، أو غزوا ، فقدّر العامل مصدرا منحلا ل «أن» والمضارع ، حتى يكون مستقبلا ، قال : لكن يكون الضمير في قوله : (لَوْ كانُوا عِنْدَنا) عائدا على (لِإِخْوانِهِمْ) لفظا ، وعلى غيرهم معنى ـ أي : يعود على إخوان آخرين ، وهم الذين تقدّم موتهم بسبب سفر ، أو غزو ، وقصدهم بذلك تثبيط الباقين ـ وهو مثل قوله تعالى : (وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ) [فاطر : ١١] وقول العرب : عندي درهم ونصفه.

وقول الشاعر : [البسيط]

١٦٧٣ ـ قالت : ألا ليتما هذا الحمام لنا

إلى حمامتنا ، أو نصفه فقد (٢)

المعنى : من معمر آخر ، ونصف درهم آخر ، ونصف حمام آخر.

وقال قطرب : كلمة «إذ» و «إذا» يجوز إقامة كل واحدة منهما مقام الأخرى ، فيكون «إذا» هنا بمعنى «إذ».

قال بعضهم : وهذا ليس بشيء.

قال ابن الخطيب : «أقول : هذا ـ الذي قاله قطرب ـ كلام حسن ، وذلك لأنا جوّزنا إثبات اللغة بشعر مجهول ، فنقول عن قائل مجهول ، فلأن يجوّز إثباتها بالقرآن العظيم كان ذلك أولى ، أقصى ما في الباب أن يقال : «إذا» حقيقة في المستقبل ، ولكن لم لا يجوز استعماله في الماضي على سبيل المجاز ، لما بينه وبين كلمة «إذ» من المشابهة الشديدة ، وكثيرا أرى النحويين يتحيّرون في تقرير الألفاظ الواردة في القرآن ، فإذا استشهدوا في تقريره ببيت مجهول فرحوا به ، وأنا شديد التعجّب منهم ؛ فإنهم إذا جعلوا ورود ذلك البيت المجهول دليلا على صحته ، فلأن يجعلوا ورود القرآن به دليلا على صحته كان أولى».

قوله : (أَوْ كانُوا غُزًّى) ـ بالتشديد ـ جمع غاز ـ كالرّكّع والسّجّد ـ جمع راكع وساجد ـ وقياسه : غزاة كرام ورماة ـ ولكنهم حملوا المعتل على الصحيح ، في نحو ضارب وضرّب ، وصائم وصوّم.

__________________

(١) ينظر : البحر المحيط ٣ / ٩٩.

(٢) تقدم برقم ٢٠٠.

٧

وقرأ الزهريّ والحسن «غزى» (١) ـ بالتخفيف ـ وفيها وجهان :

الأول : أنه خفف الزاي ؛ كراهية التثقيل في الجمع.

الثاني : أن أصله : غزاة ـ كقضاة ورماة ـ ولكنه حذف تاء التأنيث ؛ لأن نفس الصيغة دالّة على الجمع فالتاء مستغنى عنها.

قال ابن عطيّة : «وهذا الحذف كثير في كلامهم.

ومنه قول الشاعر يمدح الكسائي : [الطويل]

١٦٧٤ ـ أبى الذّمّ أخلاق الكسائيّ ، وانتحى

به المجد أخلاق الأبوّ السّوابق (٢)

يريد : الأبوّة ـ جمع أب ـ كما أن العمومة جمع عم ، والبنوّة جمع ابن وقد قالوا : ابن ، وبنو».

ورد عليه أبو حيّان بأن الحذف ليس بكثير ، وأن قوله : حذف التاء من عمومة ، ليس كذلك ، بل الأصل : عموم ـ من غير تاء ـ ثم أدخلوا عليها التاء لتأكيد الجمع ، فما جاء على «فعول» ـ من غير تاء ـ هو الأصل ، نحو : عموم وفحول ، وما جاء فيه التاء ، فهو الذي يحتاج إلى تأويله بالجمع ، والجمع لم يبن على هذه التاء ، حتى يدّعى حذفها ، وهذا بخلاف قضاة وبابه ؛ فإنه بني عليها ، فيمكن ادعاء الحذف فيه ، وأما أبوة وبنوة فليسا جمعين ، بل مصدرين ، وأما أبوّ ـ في البيت ـ فهو شاذّ عند النحاة من جهة أنه من حقّه أن يعلّه ، فيقول : «أبيّ» بقلب الواوين ياءين ، نحو : عصيّ ، ويقال غزّاء بالمد أيضا ، وهو شاذ.

فتحصّل في غاز ثلاثة جموع في التكسير : غزاة كقضاة ، وغزّى كصوّم ، وغزّاء كصوّام ، وجمع رابع ، وهو جمع سلامة ، والجملة كلّها في محل نصب بالقول.

قال القرطبيّ : «والمغزية : المرأة التي غزا زوجها ، وأتان مغزية : متأخّرة النّتاج ، ثم تنتج وأغزت الناقة إذا عسر لقاحها ، والغزو : قصد الشيء ، والمغزى : المقصد ، ويقال ـ في النسب إلى الغزو : غزويّ».

قال الواحديّ : «في الآية محذوف ، يدل عليه الكلام ، والتقدير : (إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ) فماتوا (أَوْ كانُوا غُزًّى) فقتلوا ، (لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا) فقوله : (ما ماتُوا وَما قُتِلُوا) يدل على قتلهم وموتهم».

__________________

(١) انظر : المحرر الوجيز ١ / ٥٣١ ، والبحر المحيط ٣ / ١٠٠ ، والدر المصون ٢ / ٢٤١.

(٢) البيت للعتابي ينظر المحتسب ١ / ١٧٥ ، وللقناني ينظر المحتسب ١ / ٣١٧ ، وشرح المفصل ٥ / ٣٦ ، والدر المصون ٢ / ٢٤١.

٨

فصل

المراد بالضّرب : السفر البعيد (١) ، وقوله : «غزّى» هم الغزاة الخارجون للجهاد ، فكان المنافقون يقولون ـ إذا رأوا من مات في سفر أو غزو ـ : إنما ماتوا ، أو قتلوا بسبب السفر والغزو ، وقصدهم بذلك تنفير الناس.

فإن قيل : لم ذكر الغزو بعد الضرب في الأرض ـ وهو داخل فيه؟

فالجواب : أن الضرب في الأرض يراد به السفر البعيد ، لا القريب ، إذ الخارج من المدينة إلى جبل أحد لا يوصف بأنه ضارب في الأرض ، وفي الغزو لا فرق بين قريبه وبعيده ، فلذلك أفرد الغزو عن الضرب في الأرض.

قوله : (لِيَجْعَلَ اللهُ) في هذه اللام قولان :

قيل : إنها لام «كي».

وقيل : إنها لام العاقبة والصيرورة ، فعلى القول الأول في تعلّق هذه اللام وجهان :

فقيل : التقدير : أوقع ذلك ـ أي : القول ، أو المعتقد ـ ليجعله حسرة ، أو ندمهم ، كذا قدره أبو البقاء وأجاز الزمخشريّ أن تتعلق بجملة النفي ، وذلك على معنيين ـ باعتبار ما يراد باسم الإشارة.

أما الاعتبار الأول ، فإنه قال : «يعني لا تكونوا مثلهم في النطق بذلك القول واعتقاده ، ليجعله الله حسرة في قلوبكم خاصّة ، ويصون منها قلوبكم» ، فجعل ذلك إشارة إلى القول والاعتقاد.

وأما بالاعتبار الثاني فإنه قال : «ويجوز أن يكون ذلك إشارة إلى ما دلّ عليه النّهيّ ، أي : لا تكونوا مثلهم ؛ ليجعل الله انتفاء كونكم مثلهم حسرة في قلوبهم ؛ لأن مخالفتهم فيما يقولون ويعتقدون مما يغمّهم ويغيظهم».

وردّ عليه أبو حيان المعنى الأول بالمعنى الثاني الذي ذكره هو ، فقال ـ بعد ما حكى عنه المعنى الأول ـ : «وهو كلام شيخ لا تحقيق فيه ؛ لأن جعل الحسرة لا يكون سببا للنهي ، إنما يكون سببا لحصول امتثال النهي ، وهو انتفاء المماثلة ، فحصول ذلك الانتفاء والمخالفة فيما يقولون ويعتقدون ، يحصل عنه ما يغيظهم ويغمهم ، إذ لم توافقوهم فيما قالوه واعتقدوه ، فلا تضربوا في الأرض ولا تغزو ، فالتبس على الزمخشريّ استدعاء انتفاء المماثلة لحصول الانتفاء ، وفهم هذا فيه خفاء ودقة».

قال شهاب الدين : ولا أدري ما وجه تفنيد كلام أبي القاسم ، وكيف رد عليه على زعمه بكلامه؟

__________________

(١) انظر تفسير الطبري (٧ / ٣٣٢).

٩

وقال أبو حيّان ـ أيضا ـ : «وقال ابن عيسى وغيره : اللام متعلّقة بالكون ، أي : لا تكونوا كهؤلاء ، ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم دونكم ، ومنه أخذ الزمخشريّ قوله ، لكن ابن عيسى نصّ على ما تتعلق به اللام ، وذاك لم ينص. وقد بينّا فساد هذا القول».

وقوله : وذاك لم ينص ، بل قد نصّ ؛ فإنه قال : فإن قلت : ما متعلق (لِيَجْعَلَ قلت : (قالُوا) أو (لا تَكُونُوا). وأيّ نصّ أظهر من هذا؟ ولا يجوز تعلق هذه اللام ـ ومعناها التعليل ـ ب (قالُوا) لفساد المعنى ؛ لأنهم لم يقولوه لذلك ، بل لتثبيط المؤمنين عن الجهاد.

وعلى القول الثاني ـ أعني : كونها للعاقبة ـ تتعلق ب (قالُوا) والمعنى : أنهم قالوا ذلك لغرض من أغراضهم ، فكان عاقبة قولهم ، ومصيره إلى الحسرة ، والندامة ، كقوله تعالى : (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً) [القصص : ٨] وهم لم يلتقطوه لذلك ، ولكن كان مآله لذلك. ولكن كونها للصيرورة لم يعرفه أكثر النحويين ، وإنما هو شيء ينسبونه للأخفش ، وما ورد من ذلك يؤولونه على العكس من الكلام ، نحو : (فَبَشِّرْهُمْ.) وهذا رأي الزمخشري ؛ فإنه شبه هذه اللام باللام في (لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً) ومذهبه في تلك أنها للعلة ـ بالتأويل المذكور والجعل ـ هنا ـ بمعنى التّصيير.

فصل

اختلفوا في المشار إليه ب «ذلك» : فعن الزّجاج هو الظّنّ ، ظنوا أنهم لو لم يحضروا لم يقتلوا.

وقال الزمخشريّ ما معناه : الإشارة إلى النطق والاعتقاد بالقول.

وقريب منه قول ابن عطية : «الإشارة بذلك إلى هذا المعتقد الذي لهم».

وقال ابن عطيّة ـ أيضا ـ : «ويحتمل عندي ـ أن تكون الإشارة إلى النهي والانتهاء معا ، فتأمله».

وقيل : هو المصدر المفهوم من (قالُوا) ، و (حَسْرَةً) مفعول ثان ، و (فِي قُلُوبِهِمْ) يجوز أن يتعلق بالجعل ـ وهو أبلغ ـ أو بمحذوف على أنه صفة للنكرة قبله.

فصل

ذكروا ـ في بيان كون ذلك القول حسرة في قلوبهم ـ وجوها :

الأول : أن أقارب ذلك المقتول إذا سمعوا هذا الكلام ازدادت الحسرة في قلوبهم ؛ لأن أحدهم يعتقد أنه لو بالغ في منعه عن ذلك السفر ، أو الغزو ، لبقي ، فذلك الشخص إنما مات ، أو قتل بسبب أن هذا الإنسان قصّر في منعه ، فيعتقد السامع لهذا الكلام أنه هو الذي تسبب في موت ذلك الشخص العزيز عليه ، أو قتله ، ومتى اعتقد في نفسه ذلك ،

١٠

فلا شك أنه يزداد حسرته وتلهّفه ، أما المسلم المعتقد أن الحياة والموت بتقدير الله وقضائه ، لم يحصل في قلبه شيء من هذا النوع من الحسرة ألبتة.

الثاني : أن المنافقين إذا ألقوا هذه الشبهة إلى إخوانهم ، تثبطوا ، وتخلّفوا عن الجهاد ، فإذا اشتغل المسلمون بالجهاد ، ووصلوا بسببه إلى الغنائم العظيمة ، والاستيلاء على الأعداء ، والفوز بالأماني ، بقي المتخلف عن ذلك في الحسد ، والحسرة.

الثالث : أن هذه الحسرة ، إنما تحصل يوم القيامة في قلوب المنافقين ، إذا رأوا تخصيص الله للمجاهدين بمزيد الكرامات وعلوّ الدرجات ، وتخصيص هؤلاء المنافقين بمزيد الخزي واللّعن والعقاب.

الرابع : أن المنافقين إذا أوردوا هذه الشبهة على ضعفة المسلمين ، ووجدوا منهم قبولا لها ، فرحوا بذلك ؛ لرواج كيدهم ، ومكرهم على الضّعفة ، فالله ـ تعالى ـ يقول : إنه يصير ذلك حسرة في قلوبهم إذا علموا أنهم كانوا على الباطل.

الخامس : أن اجتهادهم في تكثير الشبهات ، وإلقاء الضلالات يعمي قلوبهم ، فيقعون عند ذلك في الحسرة ، والخيبة ، وضيق الصدر ، وهو المراد بقوله تعالى : (وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً) [الأنعام : ٢٥].

السادس : أنهم إذا ألقوا هذه الشبهة على الأقوياء ، لم يلتفتوا إليهم ، فيضيع سعيهم ويبطل كيدهم ، فتحصل الحسرة في قلوبهم.

قوله : (وَاللهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ) فيه وجهان :

الأول : أن المقصود منه بيان الجواب عن شبهة المنافقين ، وتقريره : أن المحيي والمميت هو الله تعالى ، ولا تأثير لشيء آخر في الحياة والموت ، وأن علم الله لا يتغير ، وأن حكمه لا ينقلب ، وأن قضاءه لا يتبدّل ، فكيف ينفع الجلوس في البيت من الموت؟

فإن قيل : إن كان القول بأنّ قضاء الله لا يتبدل يمنع من كون الجدّ والاجتهاد مفيدا في الحذر عن القتل والموت ، فكذا القول بأن قضاء الله لا يتبدّل ، وجب أن يمنع من كون العمل مفيدا في الاحتراز عن عقاب الآخرة ، وهذا يمنع من لزوم التكليف. والمقصود من الآيات تقرير الأمر بالجهاد والتكليف ، وإذا كان كذلك ، كان هذا الكلام يفضي ثبوته إلى نفيه.

فالجواب : أن حسن التكليف ـ عندنا ـ غير معلّل بعلّة ورعاية [مصلحة](١) ، بل الله يفعل ما يشاء ، ويحكم ما يريد.

الثاني : أن [المقصود](٢) بقوله : (وَاللهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ) أنه يحيي قلوب أوليائه وأهل

__________________

(١) في أ : المصالح.

(٢) في أ : المراد.

١١

طاعته بالنور والفرقان ، ويميت قلوب أعدائه من المنافقين بالضلال.

قوله : (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) قرأ ابن كثير وحمزة والكسائي «يعملون» بالغيبة (١) ؛ ردّا على (الذين كفروا) والباقون بالخطاب ؛ ردّا على قوله : (لا تَكُونُوا) وهو خطاب للمؤمنين.

فإن قيل : الصادر منهم كان قولا مسموعا ، لا فعلا مرئيّا ، فلم علّقه بالبصر دون السمع؟

فالجواب : قال الراغب : لما كان ذلك القول من الكفار قصدا منهم إلى عمل يحاولونه ، خص البصر بذلك ، كقولك ـ لمن يقول شيئا ، وهو يقصد فعلا يحاوله ـ : أنا أرى ما تفعله.

قوله : (وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ) اللام هي الموطئة لقسم محذوف ، وجوابه قوله : (لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) وحذف جواب الشرط ؛ لسدّ جواب القسم مسده ؛ لكونه دالا عليه وهذا ما عناه الزمخشريّ بقوله : وهو ساد مسدّ جواب الشرط. ولا يعني بذلك أنه من غير حذف.

قوله : (أَوْ مُتُّمْ) قرأ نافع وحمزة والكسائي «متّم» ـ بكسر الميم (٢) ـ والباقون بضمها ، فالضّمّ من مات يموت متّ ـ مثل : قال يقول قلت ، ومن كسر ، فهو من مات يمات متّ ، مثل : هاب يهاب هبت ، وخاف يخاف خفت. روى المبرّد هذه اللغة.

قال شهاب الدين : وهو الصحيح من قول أهل العربية ، والأصل : موت ـ بكسر العين ـ كخوف ، فجاء مضارعه على يفعل ـ بفتح العين ـ.

قال الشاعر : [الرجز]

١٦٧٥ ـ بنيّتي يا أسعد البنات

عيشي ، ولا نأمن أن تماتي (٣)

فجاء بمضارعه على يفعل ـ بالفتح ـ فعلى هذه اللغة يلزم أن يقال في الماضي المسند إلى التاء ، أو إحدى أخواتها : متّ ـ بالكسر ليس إلا ـ وهو أنا نقلنا حركة الواو إلى الفاء بعد سلب حركتها ، دلالة على بنية الكلمة في الأصل ، وهذا أولى من قول من يقول : إن متّ ـ بالكسر ـ مأخوذة من لغة من يقول يموت ـ بالضم في المضارع ـ وجعلوا ذلك شاذا في القياس كثيرا في الاستعمال ، كالمازني وأبي علي الفارسي ـ ونقله

__________________

(١) انظر : السبعة ٢١٧ ، والحجة ٣ / ٩١ ، وحجة القراءات ١٧٧ ، والعنوان ٨١ ، وشرح شعلة ٣٢٤ ، وشرح الطيبة ٤ / ١٧٠ ، وإتحاف ١ / ٤٩٢.

(٢) انظر : السبعة ٢١٨ ، والحجة ٣ / ٩٢ ، ٩٣ ، وحجة القراءات ١٧٨ ، ١٧٩ ، والعنوان ٨١ ، وإعراب القراءات ١ / ١٢١ ، وشرح شعلة ٣٢٤ ، وشرح الطيبة ٤ / ١٧٠ ، ١٧١ ، وإتحاف ١ / ٤٩٢.

(٣) تقدم برقم ٢٥٤.

١٢

بعضهم عن سيبويه صريحا ، وإذا ثبت ذلك لغة ، فلا معنى إلى ادّعاء الشذوذ فيه.

قوله : (لَمَغْفِرَةٌ) اللام لام الابتداء ، وهي وما بعدها جواب القسم ـ كما تقدم ـ وفيها وجهان :

الأول ـ وهو الأظهر ـ : أنها مرفوعة بالابتداء ، والمسوّغات ـ هنا ـ كثيرة : لام الابتداء ، والعطف عليها في قوله : (وَرَحْمَةٌ) ووصفها ، فإن قوله : (مِنَ اللهِ) صفة لها ، ويتعلق ـ حينئذ ـ بمحذوف ، و «خير» خبر عنها.

والثاني : أن تكون مرفوعة على خبر ابتداء مضمر ـ إذا أريد بالمغفرة والرحمة القتل ، أو الموت في سبيل الله ؛ لأنهما مقترنان بالموت في سبيل الله ـ فيكون التقدير : فذلك ، أي : الموت أو القتل في سبيل الله ـ مغفرة ورحمة خير ، ويكون «خير» صفة لا خبرا ، وإلى هذا نحا ابن عطية ؛ فإنه قال : وتحتمل الآية أن يكون قوله : (لَمَغْفِرَةٌ) إشارة إلى الموت ، أو القتل في سبيل الله ، فسمى ذلك مغفرة ورحمة ؛ إذ هما مقترنان به ، ويجيء التقدير : لذلك مغفرة ورحمة ، وترتفع المغفرة على خبر الابتداء المقدر ، وقوله : «خير» صفة لا خبر ابتداء انتهى ، والأول أظهر. و «خير» ـ هنا ـ على بابها من كونها للتفضيل وعن ابن عباس : خير من طلاع الأرض ذهبة حمراء.

قال ابن الخطيب : «والأصوب ـ عندي ـ أن يقال : إن هذه اللام في «المغفرة» للتأكيد ، فيكون المعنى : إن وجب أن تموتوا ، أو تقتلوا ، في سفركم أو غزوكم ، فكذلك وجب أن تفوزوا بالمغفرة ـ أيضا ـ فلماذا تحترزون عنه؟ كأنه قيل : إن الموت والقتل غير لازم الحصول ، ثمّ بتقدير أن يكون لازما ، فإنه يستعقب لزوم المغفرة ، فكيف يليق بالعاقل أن يحترز عنه»؟

قوله : (وَرَحْمَةٌ) أي : ورحمة من الله ، فحذف صفتها لدلالة الأولى عليها ، ولا بدّ من حذف آخر ، مصحّح للمعنى ، وتقديره : لمغفرة لكم من الله ، ورحمة منه لكم.

فإن قيل : المغفرة هي الرحمة ، فلم كرّرها ، ونكّرها؟

فالجواب : أما التنكير فإن ذلك إيذان بأن أدنى خير وأقل شيء خير من الدنيا وما فيها ، وهو المراد بقوله : «مما تجمعون» ونظيره قوله تعالى : (وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ) [التوبة : ٧٢] والتنكير قد يشعر بالتقليل ، وأما التكرير فلا نسلمه ؛ لأن المغفرة مرتبة على الرحمة ، فيرحم ، ثم يغفر.

قوله : «مما يجمعون» «ما» موصولة اسمية ، والعائد محذوف ، ويجوز أن تكون مصدرية.

وعلى هذا فالمفعول به محذوف ، أي : من جمعكم المال ونحوه.

وقراءة الجماعة «تجمعون» ـ بالخطاب ـ جريا على قوله : (وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ) وحفص ـ

١٣

بالغيبة (١) ـ إما على الرجوع على الكفار المتقدمين ، وإما على الالتفات من خطاب المؤمنين.

فإن قيل : ههنا ثلاثة مواضع ، تقدم الموت على القتل في الأول والأخير ، وقدّم القتل على الموت في المتوسط فما الحكمة في ذلك؟

فالجواب : أنّ الأول لمناسبة ما قبله ، من قوله : (إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى) فرجع الموت لمن ضرب في الأرض ، والقتل لمن غزا ، وأما الثاني فلأنه محلّ تحريض على الجهاد ، فقدّم الأهمّ الأشرف ، وأما الأخير فلأن الموت أغلب.

فإن قيل : كيف تكون المغفرة موصوفة بأنها خير مما يجمعون ولا خير فيما يجمعونه أصلا.

فالجواب : أنّ الذي يجمعونه في الدّنيا قد يكون من الحلال الذي يعدّ خيرا ، وأيضا هذا وارد على حسب قولهم ومعتقدهم أن تلك الأموال خيرات.

فقيل : المغفرة خير من هذه الأشياء التي تظنونها خيرات.

قوله : (وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللهِ تُحْشَرُونَ) هذا الترتيب في غاية الحسن ؛ فإنه قال في الآية الأولى : (لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ) وهذا إشارة إلى من عبده خوفا من عقابه ، ثم قال : (وَرَحْمَةٌ) وهو إشارة إلى من عبده لطلب ثوابه ، ثم ختمها بقوله : (لَإِلَى اللهِ تُحْشَرُونَ) وهو إشارة إلى من عبده لمجرد العبودية والربوبية ، وهذا أعلى المقامات ، يروى أن عيسى ـ عليه‌السلام ـ مرّ بأقوام نحفت أبدانهم ، واصفرّت وجوههم ، ورأى عليهم آثار العبادة ، فقال : ماذا تطلبون؟ فقالوا : نخشى عذاب الله ، فقال : هو أكرم من أن لا يخلصكم من عذابه. ثم مرّ بأقوام آخرين ، فرأى عليهم تلك الآثار ، فسألهم ، ماذا تطلبون؟ فقالوا : نطلب الجنّة والرّحمة ، فقال : هو أكرم من أن يمنعكم رحمته. ثم مرّ بقوم ، فرأى آثار العبودية عليهم أكثر ، فسألهم ، فقالوا : نعبده لأنه إلهنا ، ونحن عبيده ، لا لرغبة ولا لرهبة ، فقال : أنتم العبيد المخلصون ، والمتعبدون المحقون.

قوله : (لَإِلَى اللهِ) اللام جواب القسم ، فهي داخلة على (وَتُحْشَرُونَ) و (وإلى الله) متعلقّ به ، وإنما قدّم للاختصاص ، أي : إلى الله ـ لا إلى غيره ـ يكون حشركم ، أو للاهتمام به ، وحسّنه كونه فاصلة ، ولو لا الفصل لوجب توكيد الفعل بالنون ؛ لأن المضارع المثبت إذا كان مستقبلا وجب توكيده [بالنون] ، مع اللام ، خلافا للكوفيين ؛ حيث يجيزون التعاقب بينهما.

كقول الشاعر : [الكامل]

__________________

(١) انظر : السبعة ٢١٨ ، والحجة ٣ / ٩٤ ، والعنوان ٨١ ، وإعراب القراءات ١ / ١٢١ ، وشرح الطيبة ٤ / ١٧٢ ، وشرح شعلة ٣٢٥ ، وإتحاف ١ / ٤٩٣.

١٤

١٦٧٦ ـ وقتيل مرّة أثأرنّ ...

 .............. (١)

فجاء بالنون دون اللام.

وقول الآخر : [الطويل]

١٦٧٧ ـ لئن يك قد ضاقت عليكم بيوتكم

ليعلم ربّي أنّ بيتي واسع (٢)

فجاء باللام دون النون ، والبصريون يجعلونه ضرورة.

فإن فصل بين اللام بالمعمول ـ كهذه الآية ـ أو بقد ، نحو : والله لقد أقوم.

وقوله : [الطويل]

١٦٧٨ ـ كذبت لقد أصبي على المرء عرسه

 .............. (٣)

أو بحرف التنفيس ، كقوله تعالى : (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى) [الضحى : ٥] فلا يجوز توكيده ـ حينئذ ـ بالنون ، قال الفارسيّ : «الأصل دخول النّون ، فرقا بين لام اليمين ، ولام الابتداء ، ولام الابتداء لا تدخل على الفضلات ، فبدخول لام اليمين على الفضلة حصل الفرق ، فلم يحتج إلى النون وبدخولها على «سوف» حصل الفرق ـ أيضا ـ فلا حاجة إلى النّون ولام الابتداء لا تدخل على الفعل إلا إذا كان حالا ، أما مستقبلا فلا».

وأتى بالفعل مبنيّا لما لم يسم فاعله ـ مع أن فاعل الحشر هو الله ـ وإنما لم يصرح به ، تعظيما.

قوله تعالى : (فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ)(١٥٩)

في «ما» وجهان : أحدهما : أنها زائدة للتوكيد ، والدلالة على أن لينه لهم ما كان إلا

__________________

(١) هذا جزء من بيت لعامر بن الطفيل والبيت بتمامه :

وقتيل مرة أثأرن فإنه

فدع وإن أخاكم لم يقصد

ينظر ديوانه ص ٥٦ والمفضليات (٣٦٤) والهمع ٢ / ٤٢ والدرر ٢ / ٤٧ وشرح الحماسة ٢ / ٥٥٨ والأمالي الشجرية ١ / ٣٦٩ و ٢ / ٢٢١ والخزانة ١٠ / ٦٠ وشرح أبيات المغني ٨ / ٣ وضرائر الشعر ص ١٥٧ والدر المصون ٢ / ٢٤٤.

(٢) تقدم برقم ٧١٨.

(٣) هذا صدر بيت لامرىء القيس والبيت بتمامه :

كذبت لقد أصبى على المرء عرسه

وأمنع عرسي أن يزن بها الخالي

ينظر ديوانه (٢٨) والكامل ١ / ٦٨ وارتشاف الضرب ٢ / ٤٨٦ وأشعار الشعراء الستة الجاهليين ١ / ٤٦ وأمالي القالي ١ / ٤١ ورغبة الآمل من كتاب الكامل ١ / ٢٢٢ والدر المصون ٢ / ٢٤٥.

١٥

برحمة من الله ، نظيره قوله : (فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ) [المائدة : ٣] وقوله : (عَمَّا قَلِيلٍ) [المؤمنون : ٤٠] وقوله : (جُنْدٌ ما هُنالِكَ) [ص : ١١] وقوله : (مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا) [نوح : ٢٥]. والعرب قد تريد في الكلام ـ للتأكيد ـ ما يستغنى عنه ، قال تعالى : (فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ) [يوسف : ٩٦] فزاد «أن» للتأكيد.

وقال المحققون : دخول اللفظ المهمل الوضع في كلام أحكم الحاكمين ـ غير جائز ، بل تكون غير مزيدة ، وإنما هي نكرة ، وفيها وجهان :

الأول : أنها موصوفة ب «رحمة» أي : فبشيء رحمة.

الثاني : أنها غير موصوفة ، و «رحمة» بدل منها ، نقله مكيّ عن ابن كيسان.

ونقل أبو البقاء عن الأخفش وغيره : أنها نكرة موصوفة ، و «رحمة» بدل منها ، كأنه أبهم ، ثم بين بالإبدال.

وقال ابن الخطيب : «يجوز أن تكون «ما» استفهاما للتعجب ، تقديره : فبأي رحمة من الله لنت لهم ، وذلك ؛ لأن جنايتهم لما كانت عظيمة ـ ثم إنه ما أظهر ـ ألبتة ـ تغليظا في القول ، ولا خشونة في الكلام ـ علموا أن هذا لا يتأتى إلا بتأييد ربانيّ وتسديد إلهيّ فكان ذلك موضع التعجب».

ورد عليه أبو حيّان بأنه لا يخلو إما أن يجعل «ما» مضافة إلى «رحمة» ـ وهو ظاهر تقديره ـ فيلزم إضافة «ما» الاستفهامية ، وقد نصوا على أنه لا يضاف من أسماء الاستفهام إلا «أي» اتفاقا و «كم» عند الزّجّاج ـ وإما أن لا يجعلها مضافة ، فتكون «رحمة» بدلا منها ، وحينئذ يلزم إعادة حرف الاستفهام في البدل ـ كما قرره النحويون. ثم قال : «وهذا الرجل لحظ المعنى ، ولم يلتفت إلى ما تقرر في علم النحو من أحكام الألفاظ ، وكان يغنيه عن هذا الارتباك ، والتسلق إلى ما لا يحسنه والتصوّر عليه قول الزجاج ـ في «ما» هذه : إنها صلة ، فيها معنى التأكيد بإجماع النحويين.

وليس لقائل أن يقول : له أن يجعلها غير مضافة ، ولا يجعل «رحمة» بدلا ـ حتى يلزم إعادة حرف الاستفهام ـ بل يجعلها صفة ، لأن «ما» الاستفهامية لا توصف وكأن من يدعي فيها أنها غير مزيدة يفر من هذه العبارة في كلام الله تعالى ، وإليه ذهب أبو بكر الزبيديّ ، فكان لا يجوّز أن يقال ـ في القرآن ـ : هذا زائد أصلا.

وهذا فيه نظر ؛ لأن القائلين بكون هذا زائدا لا يعنون أنه يجوز سقوطه ، ولا أنه مهمل لا معنى له بل يقولون : زائد للتوكيد ، فله أسوة بسائر ألفاظ التوكيد الواقعة في القرآن. و «ما» كما تزاد بين الباء ومجرورها ، تزاد أيضا بين «من» و «عن» والكاف ومجرورها.

قال مكيّ : «ويجوز رفع «رحمة» على أن تجعل «ما» بمعنى الذي ، وتضمر «هو»

١٦

في الصلة وتحذفها ، كما قرىء : (تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ).

فقوله : ويجوز يعني من حيث الصناعة ، وأما كونها قراءة ، فلا نحفظها.

فصل

اللين : الرفق. ومعنى الكلام : فبرحمة من الله لنت لهم ، أي : سهلت لهم أخلاقك ، وكثر احتمالك ، ولم تسرع إليهم فيما كان منهم يوم أحد. واحتجوا ـ بهذه الآية ـ على مسألة القضاء والقدر ، لأن الله بين أن حسن الخلق إنما كان بسبب رحمة الله تعالى.

قوله : (وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) الفظاظة : الجفوة في المعاشرة قولا وفعلا ، قال الشّاعر : [البسيط]

١٦٧٩ ـ أخشى فظاظة عمّ ، أو جفاء أخ

وكنت أخشى عليها من أذى الكلم (١)

والغلظ : كبر الأجرام ، ثم تجوز به في عدم الشفقة ، وكثرة القسوة في القلب.

قال الشاعر : [البسيط]

١٦٨٠ ـ يبكى علينا ولا نبكي على أحد

ونحن أغلظ أكبادا من الإبل (٢)

وقال الراغب (٣) : الفظّ : هو الكريه الخلق ، وقال الواحديّ : الفظّ : الغليظ الجانب ، السيّىء الخلق وهو مستعار من الفظّ ، وهو ماء الكرش ، وهو مكروه شربه إلا في ضرورة.

وقال الراغب (٤) : الغلظ : ضد الرّقة ، ويقال : غلظة بالكسر والضم وعن الغلظة تنشأ الفظاظة.

فإن قيل : إذا كانت الفظاظة تنشأ عن الغلظة ، فلم قدّمت عليها؟

فالجواب : قدّم ما هو ظاهر للحس على ما هو خاف في القلب ؛ لأن الفظاظة : الجفوة في العشرة قولا وفعلا ـ كما تقدم ـ والغلظة : قساوة القلب ، وهذا أحسن من قول من جعلهما بمعنى ، وجمع بينهما تأكيدا. وأما الانفضاض والغضّ فهو تفرّق الأجزاء وانتشارها. ومنه فضّ ختم الكتاب ، ثم استعير منه انفضاض الناس ، قال تعالى : (وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها) [الجمعة : ١١] ومنه يقال : لا يفضض الله فاك.

__________________

(١) البيت لإسحاق بن خلف. ينظر ديوان الحماسة ١ / ١٦٥ والبحر ٣ / ٨٨ والدر المصون ٢ / ٤٦.

(٢) ينظر البيت في تفسير القرطبي ٤ / ٢٤٨ والبحر ٣ / ٨٨ والدر المصون ٢ / ٢٤٦.

(٣) ينظر : المفردات ٣٩٦.

(٤) المفردات ٣٧٦.

١٧

فصل في معنى الآية

ومعنى الكلام : لو كنت جافيا ، سيّىء الخلق ، قليل الاحتمال.

وقال الكلبيّ : فظا في القول ، غليظ القلب في الفعل ، لانفضوا من حولك وتفرّقوا عنك وذلك أن المقصود من البعثة أن يبلّغ الرسول تكاليف الله تعالى إلى الخلق ، وذلك لا يتم إلا بميل قلوبهم إليه ، وسكون نفوسهم لديه ، وهذا المقصود لا يتم إلا إذا كان رحيما بهم ، كريما ، يتجاوز عن ذنوبهم ، ويعفو عن سيئاتهم ، ويخصهم بالبرّ والشفقة ، فلهذه الأسباب وجب أن يكون الرسول مبرّءا عن سوء الخلق ، وغلظة القلب ، ويكون كثير الميل إلى إعانة الضعفاء ، وكثير القيام بإعانة الفقراء.

وحمل القفّال هذه الآية على واقعة أحد ، فقال : (فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ) يوم أحد ، حين عادوا إليك بعد الانهزام (وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ) فشافهتهم بالملامة على ذلك الانهزام (لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) هيبة منك وحياء ، بسبب ما كان منهم من الانهزام ، فكان ذلك مما يطمع العدو فيك وفيهم.

قوله : (فَاعْفُ عَنْهُمْ) جاء على أحسن النسق ، وذلك أنه ـ أولا ـ أمر بالعفو عنهم فيما يتعلق بخاصّة نفسه ، فإذا انتهوا إلى هذا المقام أمر أن يستغفر لهم ما بينهم وبين الله تعالى ، لتنزاح عنهم التبعات ، فلما صاروا إلى هنا أمر بأن يشاورهم في الأمر إذا صاروا خالصين من التبعتين ، مصفّين منهما.

والأمر هنا ـ وإن كان عاما ـ المراد به الخصوص. قال أبو البقاء : الأمر ـ هنا ـ جنس ، وهو عامّ يراد به الخاصّ ؛ لأنه لم يؤمر بمشاورتهم في الفرائض ، ولذلك قرأ ابن عباس (١) : في بعض الأمر وهذا تفسير لا تلاوة.

فصل

ظاهر الأمر الوجوب ، و «الفاء» في قوله : (فَاعْفُ عَنْهُمْ) تدل على التعقيب ، وهذا يدل على أنه ـ تعالى ـ أوجب عليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يعفو عنهم في الحال ، ولما آل الأمر إلى الأمة لم يوجبه عليهم ، بل ندبهم إليه ، فقال : (وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) [آل عمران : ١٣٤] وقوله : (وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ) يدل دلالة قوية على أنه ـ تعالى ـ يعفو عن أصحاب الكبائر ، لأن الانهزام في وقت المحاربة كبيرة ، لقوله تعالى : (وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) [الأنفال : ١٦] وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين عد الكبائر ـ : «والتولي يوم الزحف» وإذا ثبت أنه كبيرة ، فالله تعالى ـ حضّ ـ في هذه الآية ـ على العفو عنهم ، وأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالاستغفار

__________________

(١) ينظر : البحر المحيط ٣ / ١٠٥ ، والدر المصون ٢ / ٢٤٦.

١٨

لهم ، وإذا أمره بالاستغفار لهم لا يجوز أن لا يجيبه إليه ؛ لأن ذلك لا يليق بالكريم ، وإذا دلت الآية على أنه ـ تعالى ـ شفع محمدا في أصحاب الكبائر في الدنيا فلأن يشفعه يوم القيامة كان أولى.

قوله : (وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) يقال شاورهم مشاورة وشوارا ومشورة ، والقوم شورى ، وهي مصدر ، سمي القوم بها ، كقوله : (وَإِذْ هُمْ نَجْوى) [الإسرء : ٤٧] قيل : المشاورة : مأخوذة من قولهم : شرت العسل ، أشوره : إذا أخذته من موضعه واستخرجته.

وقيل : مأخوذة من قولهم : شرت الدابّة ، شورا ـ إذا عرضتها والمكان الذي يعرض فيه الدوابّ يسمى مشوارا ، كأنه بالعرض ـ يعلم خيره وشره ، فكذلك بالمشاورة يعلم خير الأمور وشرها.

الفائدة في أمر الله لرسوله بالمشاورة من وجوه :

الأول : أن مشاورة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم إياهم توجب علو شأنهم ، ورفعة درجتهم ، وذلك يقتضي شدة محبتهم له ، فلو لم يفعل ذلك لكان ذلك إهانة بهم ، فيحصل سوء الخلق والفظاظة.

الثاني : أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإن كان أكمل الناس عقلا ، إلا أن [عقول](١) الخلق غير متناهية ، فقد يخطر ببال إنسان من وجوه المصالح ـ ما لا يخطر ببال آخر ، لا سيما فيما يتعلق بأمور الدنيا ، قال : «أنتم أعرف بأمور دنياكم» ولهذا السبب قال : «ما تشاور قوم قط إلا هدوا لأرشد أمورهم» (٢).

الثالث : قال الحسن وسفيان بن عيينة إنما أمر بذلك ليقتدي به غيره في المشاروة ويصير ذلك سنة في أمته (٣).

الرابع : أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم شاورهم في واقعة أحد ، فأشاروا عليه بالخروج ، وكان ميله إلى ألا يخرج ، فلما خرج وقع ما وقع ، فلو ترك مشاورتهم بعد ذلك لكان ذلك يدل على أنه بقي في قلبه منهم ـ بسبب مشاورتهم ـ بقية أثر ، فأمره الله تعالى ـ بمشاورتهم بعد تلك الواقعة ، ليدل على أنه لم يبق في قلبه أثر من تلك الواقعة.

الخامس : أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمر بمشاورتهم ، لا ليستفيد منهم رأيا وعلما ، بل ليعلم مقادير عقولهم ، ومحبتهم له.

وقيل : أمر بالمشاورة [ليعلم](٤) مقدار عقولهم وعلمهم ، فينزلهم منازلهم على

__________________

(١) في ب : علوم.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ٢٤٤) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ١٥٩) وزاد نسبته لابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عن الحسن مرفوعا.

(٣) ذكره الرازي في «التفسير الكبير» (٩ / ٥٤) عن الحسن وسفيان بن عيينة.

(٤) في أ : ليعرف.

١٩

قدر عقولهم وعلمهم. وذكروا ـ أيضا ـ وجوها أخر ، وهذا كاف.

فصل

اتفقوا على أنّ كلّ ما نزل فيه وحي من عند الله لم يجز للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يشاور الأمة فيه ، لأن النصّ إذا جاء بطل الرأي والقياس ، أما ما لا نصّ فيه ، فهل يجوز المشاورة فيه في جميع الأشياء ، أم لا؟ قال الكلبيّ وأكثر العلماء : الأمر بالمشاورة إنما هو في الحروب ، قالوا : لأن الألف واللام ـ في لفظ «الأمر» ـ ليسا للاستغراق ؛ لما بينّا أن الذي نزل فيه الوحي لا تجوز المشاورة فيه ، فوجب حمل الألف واللام ـ هنا ـ على المعهود السابق ، والمعهود السابق في هذه الآية ما يتعلق بالحرب ولقاء العدو ، فكان قوله : (وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) مختصا بذلك وقد أشار الحباب بن المنذر ـ يوم أحد ـ على النبي بالنزول على الماء ، فقبل منه. وأشار عليه السعدان ـ سعد بن معاذ وسعد بن عبادة ـ يوم الخندق بترك مصالحة غطفان على بعض ثمار المدينة لينصرفوا ، فقبل منهما ، وخرق الصحيفة.

وقال بعضهم : اللفظ عام ، خص منه ما نزل فيه وحي ، فتبقى حجته في الباقي.

قال بعضهم : هذه الآية تدل على أن القياس حجّة.

فصل

روى الواحديّ في «البسيط» عن عمرو بن دينار عن ابن عباس أنه قال : الذي أمر النبي بمشاورته في هذه الآية أبو بكر وعمر ـ رضي الله عنهما (١) ـ واستشكله ابن الخطيب ، قال : «وعندي فيه إشكال ؛ لأن الذين أمر الله رسوله بمشاورتهم في هذه الآية هم الذين أمره بأن يعفو عنهم ويستغفر لهم ـ وهم المنهزمون ـ فهب أن عمر كان من المنهزمين فدخل تحت الآية إلا أن أبا بكر ما كان منهم ، فكيف يدخل تحت هذه الآية؟».

قوله : (فَإِذا عَزَمْتَ) الجمهور على فتح التاء ؛ خطابا له صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقرأ عكرمة وجعفر الصادق ـ ورويت عن جابر بن زيد ـ بضمّها (٢). على أنها لله تعالى ، على معنى : فإذا أرشدتك إليه ، وجعلتك تقصده.

وجاء قوله : (عَلَى اللهِ) من الالتفات ؛ إذ لو جاء على نسق هذا الكلام لقيل : فتوكل عليّ.

وقد نسب العزم إليه تعالى في قول أم سلمة : «ثم عزم الله لي» وذلك على سبيل المجاز.

فصل

معنى الكلام : فإذا عزمت فتوكل على الله لا على مشاورتهم ، أي : قم بأمر الله ،

__________________

(١) انظر الدر المنثور (٢ / ١٥٩).

(٢) وقرأ بها أبو نهيك.

انظر : المحرر الوجيز ١ / ٥٣٤ ، والبحر المحيط ٣ / ١٠٥ ، والدر المصون ٢ / ٢٤٦.

٢٠