اللّباب في علوم الكتاب - ج ٦

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ٦

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٦٣٢

وإذا حملنا الطيب على استطابة النفس وميل القلب كانت الآية عامة دخلها التخصيص ، وقد ثبت في أصول الفقه أنه متى وقع التعارض بين التخصيص والإجمال كان رفع الإجمال أولى ؛ لأن العام المخصوص حجة في غير محل التخصيص ، والمجمل لا يكون حجة أصلا.

قوله «مثنى» منصوب على الحال من «طاب» وجعله أبو البقاء (١) حالا من «النساء» فأجاز هو وابن عطية (٢) أن يكون بدلا من «ما» وهذان الوجهان [ضعيفان](٣).

أمّا الأول : فلأنّ المحدّث عنه إنما هو الموصول وأتى بقوله (مِنَ النِّساءِ) كالتبيين (٤).

وأما الثاني : فلأنّ البدل على نيّة تكرار العامل ، وقد تقدم أن هذه الألفاظ لا تباشر العوامل.

واعلم أن هذه الألفاظ المعدولة فيها خلاف ، وهل يجوز فيها القياس أم يقتصر فيها على السماع؟ قولان :

قول البصريين : عدم القياس.

وقول الكوفيين وأبي إسحاق : جوازه.

والمسموع [من ذلك](٥) أحد عشر لفظا : أحاد ، وموحد ، وثناء ، ومثنى ، وثلاث ، ومثلث ، ورباع ، ومربع ، ولم يسمع خماس ومخمس ، وعشار ومعشر.

واختلفوا أيضا في صرفها وعدمه ، وجمهور النحاة على منعه ، وأجاز الفراء صرفها ، وإن كان المنع عنده أولى.

واختلفوا أيضا في سبب منع الصرف فيها على أربعة مذاهب :

أحدها : مذهب سيبويه ، وهو أنها منعت من الصرف للعدل والوصف أمّا الوصف فظاهر ، وأمّا العدل فلكونها معدولة من صيغة إلى صيغة وذلك أنها معدولة عن عدد مكرر.

فإذا قلت : جاء القوم أحاد أو موحد أو ثلاث أو مثلث ، كان بمنزلة قولك : جاءوا واحدا واحدا وثلاثة ثلاثة ، ولا يراد بالمعدول عنه التوكيد ، إنما يراد به تكرار العدد لقولهم : علمته الحساب بابا بابا.

والثاني : مذهب الفراء (٦) ، وهو العدل والتعريف بنية الألف واللام ولذلك يمتنع

__________________

(١) ينظر : الإملاء (١ / ١٦٦).

(٢) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٧.

(٣) سقط في ب.

(٤) في ب : للتبيين.

(٥) سقط في ب.

(٦) ينظر : الدر المصون ٢ / ٣٠١.

١٦١

إضافتها عنده لتقدير الألف واللام ، وامتنع ظهور الألف واللام عنده لأنها في نيّة الإضافة.

الثالث : مذهب أبي إسحاق : وهو عدلها عن عدد مكرر وعدلها عن التأنيث.

والرابع : نقله الأخفش (١) عن بعضهم ، أنه تكرار العدل ، وذلك أنه عدل عن لفظ اثنين اثنين ، وعن معناه ؛ لأنه قد لا يستعمل في موضع تستعمل فيه الأعداد غير المعدولة بقوله : جاءني اثنان وثلاثة ، ولا تقول : «جاءني مثنى وثلاث» حتى يتقدم قبله جمع ؛ لأن هذا الباب جعل بيانا لترتيب الفعل ، فإذا قلت : «جاء القوم مثنى» ، أفاد أنّ مجيئهم وقع من اثنين اثنين ، بخلاف غير المعدولة ، فإنّها تفيد الإخبار عن مقدار المعدود دون غيره ؛ فقد بان بما ذكرنا اختلافهما في المعنى فلذلك جاز أن تقوم العلّة مقام العلتين لإيجابهما حكمين مختلفين ـ انتهى.

وقال الزمخشري (٢) : «إنّما منعت الصرف لما فيها من العدلين ؛ عدلها من صيغتها ، وعدلها عن تكررها ، وهن نكرات (٣) يعرّفن بلام التعريف ، يقال : فلان ينكح المثنى والثلاث».

قال أبو حيان (٤) : «ما ذهب إليه من امتناعها لذلك لا أعلم أحدا قاله ، بل المذهب فيه أربعة» ذكرها كما تقدم ، وقد يقال : إنّ هذا هو المذهب الرابع وعبّر عن العدل في المعنى بعدلها عن تكررها وناقشه [أبو حيان](٥) أيضا في مثاله بقوله : ينكح المثنى من وجهين :

أحدهما : دخول «أل» عليها ، قال : «وهذا لم يذهب إليه أحد بل لم تستعمل في لسان العرب إلّا نكرات».

الثاني : أنه أولاها العوامل ، ولا تلي العوامل بل يتقدمها شيء يلي العوامل ، ولا تقع إلا أخبارا كقوله عليه‌السلام : «صلاة اللّيل مثنى مثنى» (٦) أو أحوالا كهذه الآية الكريمة أو صفات نحو قوله تعالى : (أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ) [فاطر : ١] وقوله : [الطويل]

__________________

(١) الدر المصون ٢ / ٣٠١.

(٢) ينظر : الكشاف ١ / ٤٦٧ ، والدر المصون ٢ / ٣٠١.

(٣) في ب : وهي.

(٤) ينظر : البحر المحيط ٣ / ١٧١.

(٥) سقط في أ.

(٦) أخرجه البخاري (٢ / ٦٩ ، ٧٠) كتاب الوتر باب ما جاء في الوتر رقم (٩٩٠ ، ٩٩٣) ومسلم صلاة المسافرين (٧٤٩) باب : صلاة الليل مثنى مثنى وأبو داود (١٣٢٦) والنسائي (٣ / ٢٣٣) والترمذي (كتاب الصلاة ، ٤٣٧) باب : ما جاء في صلاة الليل مثنى مثنى وابن ماجه (١٣٢٠) وأحمد (٢ / ١٠٢) والدارمي (١ / ٣٤٠ ، ٣٧٢) والبيهقي (٣ / ٢١) والدارقطني (١ / ٤١٧) والطحاوي في «شرح معاني الآثار» (١ / ٢٧٨) وابن خزيمة (١٠٧٢) وابن حبان (٢٦١٤) وعبد الرزاق (٤٦٧٤ ، ٤٦٧٨ ، ٤٦٨١) والحميدي (٦٢٨) والطيالسي (١ / ١١٦ ـ منحة) رقم (٥٤٠) من طرق كثيرة عن عبد الله بن عمر.

١٦٢

١٧٣٨ ـ ............

ذئاب تبغّى النّاس مثنى وموحد (١)

وقد وقعت إضافتها قليلا كقوله : [الطويل]

١٧٣٩ ـ ............

بمثنى الزّقاق المترعات وبالجزر (٢)

وقد استدلّ بعضهم على إيلائها العوامل على قلّة بقوله : [الوافر]

١٧٤٠ ـ ضربت خماس ضربة عبشميّ

أذار سداس ألّا يستقيما (٣)

ويمكن تأويله على حذف المفعول لفهم المعنى تقديره : ضربتهم خماس.

ومن أحكام هذه الألفاظ ألا تؤنث بالتاء ، لا تقول : «مثناة» ولا «ثلاثة» بل تجري على المذكر والمؤنث جريانا واحدا.

وقرأ النخعي وابن وثّاب (٤) «وربع» من غير ألف ، وزاد الزمخشري عن النخعي (٥) : «وثلث» أيضا ، وغيره عنه «ثنى» مقصورا من «ثناء» حذفوا الألف من ذلك كله تحقيقا ، كما حذفها الآخر في قوله : [الرجز]

١٧٤١ ـ ............

يريد باردا وصلّيانا بردا (٦)

فصل

معنى قوله (مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ) أي اثنين اثنين وثلاثا ثلاثا وأربعا أربعا ، والواو بمعنى «أو» للتخيير كقوله تعالى : (أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى) [سبأ : ٤٦] وقوله : (أُولِي

__________________

(١) عجز بيت لساعدة بن جؤية وصدره :

ولكنما أهلي بواد أنيسه

ينظر ديوان الهذليين ١ / ٢٣٧ والعيني ٤ / ٣٥٠ وشرح المفصل لابن يعيش ١ / ٦٢ والكتاب ٢ / ١٥ والدر المصون ٢ / ٣٠٢ والبحر ٣ / ١٦٠.

(٢) عجز بيت لامرىء القيس وصدره :

يفاكهنا سعد ويغدو لجمعنا

ينظر ديوانه (٧٤) والدرر ١ / ٩ والبحر ٣ / ١٦٠ والهمع ١ / ٢٧ والدر المصون ٢ / ٣٠٢.

(٣) ينظر البيت في الهمع ١ / ٢٦ والدرر ١ / ٩٢ وتذكرة النحاة ص ٦٨٥ والدر المصون ٢ / ٣٠٢.

(٤) انظر : المحرر الوجيز ٢ / ٧ ، والبحر المحيط ٣ / ١٧١ ، والدر المصون ٢ / ٣٠٢.

(٥) انظر : الكشاف ١ / ٤٦٨.

(٦) هو في المحتسب :

أصبح قلبي صردا

لا يشتهي أن يردا

فإلا عرادا عردا

وصليانا بردا

وعنكثا ملتبدا

ينظر : الحيوان ٦ / ١٢٥ ، والمحتسب ١ / ١٧١ ، والمخصص ١٣ / ٢٥٨ واللسان (عرد) ، والخصائص ٢ / ٣٨٧ ، والمحرر الوجيز ٢ / ٧.

١٦٣

أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ) [فاطر : ١] وأجمعت الأمة على أنه لا يجوز لأحد أن يتزوج أكثر من أربع نسوة ، وكانت الزيادة من خصائص النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

فصل

ذهب أكثر الفقهاء إلى أن قوله تعالى : (فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ) لا يتناول العبد ؛ لأن الخطاب إنما يتناول إنسانا متى طلب امرأة قدر على نكاحها ، والعبد ليس كذلك ؛ لأنه لا يتمكن من النكاح إلا بإذن مولاه لقوله تعالى : (عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ) [النحل : ٧٥] ، فينفي كونه مستقلّا بالنكاح.

وقال عليه‌السلام : «أيّما عبد تزوّج بغير إذن مولاه فهو عاهر» (١).

وقال مالك : يجوز للعبد أن يتزوج أربعا لظاهر الآية.

وأجيب بأن قوله تعالى بعد هذه الآية : (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) مختص بالأحرار ؛ لأن العبد لا ملك له ، وبقوله تعالى : (فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً) [النساء : ٤] والعبد لا يأكل ما طابت عنه نفس امرأته من المهر ، بل يكون لسيده.

قال مالك : إذا ورد عمومان مستقلان فدخول التقييد في الآخر لا يوجب دخوله في السابق.

وأجيب بأن هذه الخطابات وردت متوالية على نسق واحد ، فلما ذكر في بعضها الأحرار علم أن الكل كذلك.

فصل

ذهبت (٢) طائفة فقالوا : يجوز التزويج بأيّ عدد شاء ، واحتجوا بالقرآن والخبر ، أمّا القرآن فتمسكوا بهذه الآية من ثلاثة أوجه :

الأول : أن قوله (فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ) إطلاق في جميع الأعداد ، بدليل أنه لا عدد إلّا ويصح استثناؤه منه.

__________________

(١) أخرجه أبو داود (٢٠٧٨) والترمذي (١ / ٢٠٧) والدارمي (٢ / ١٥٢) وابن ماجه (١٩٥٩) والطحاوي في «مشكل الآثار» (٣ / ٢٩٧) وابن عدي في «الكامل» (٢ / ٨٨) وأبو نعيم في «الحلية» (٧ / ٣٣٣) والحاكم (٢ / ١٩٤) والبيهقي (٧ / ١٢٧) وأحمد (٣ / ٣٠١ ، ٣٧٧) من طرق عن عبد الله بن محمد بن عقيل عن جابر به. وقال الترمذي : حديث حسن.

وقال الحاكم : صحيح الإسناد ووافقه الذهبي.

وأخرجه أبو داود (٢٠٧٩) من طريق نافع عن عبد الله بن عمر وقال أبو داود : هذا الحديث ضعيف وهو قول ابن عمر رضي الله عنهما.

(٢) في ب : شذت.

١٦٤

وحكم الاستثناء إخراج ما لولاه لدخل.

الثاني : أن قوله : (مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ) لا يصلح مخصصا لذلك العموم ؛ لأن تخصيص بعض الأعداد يدخل على رفع الحرج ، والحجر مطلقا ، فإن الإنسان إذا قال لولده : افعل ما شئت ، اذهب إلى السوق وإلى المدرسة ، وإلى البستان ، لم يكن تنصيصا للإذن بتلك الأشياء المذكورة فقط ، بل يكون ذلك إذنا في المذكور ، وغيره ، هكذا هنا.

الثالث : أن الواو للجمع المطلق ، فقوله تعالى : (مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ) لا يدخل هذا المجموع ، وهو تسعة ، بل يفيد ثمانية عشر ؛ لأن قوله مثنى ليس عبارة عن اثنين فقط ، بل عن اثنين اثنين ، وكذا البقية.

وأما الخبر فمن وجهين :

الأول : أنه ثبت بالتواتر أنه عليه الصلاة والسلام مات عن تسع ، وأمرنا الله باتباعه بقوله تعالى : (فَاتَّبِعُوهُ) [الأنعام : ١٥٣] وأقل [مراتب] الأمر الإباحة.

الثاني : أن التزويج بأكثر من أربع طريقه عليه الصلاة والسلام ، فيكون سنة له.

وقال عليه الصلاة والسلام : «النّكاح سنّتي وسنّة الأنبياء من قبلي ، فمن رغب عن سنّتي فليس منّي» وهذا يقتضي الذم لمن ترك التزويج بأكثر من أربع ، فلا أقل من أن يثبت أصل الجواز.

أجاب القدماء بما روي أن غيلان أسلم وتحته عشر نسوة فقال له عليه الصلاة والسلام : «أمسك أربعا وفارق باقيهنّ» (١) وهذا ضعيف من وجهين :

الأول : أن هذا نسخ للقرآن بخبر الواحد ، وذلك لا يجوز.

الثاني : أن هذه واقعة حال ، فلعله عليه الصلاة والسلام إنّما أمره بإرسال أربع ومفارقة البواقي ؛ لأن الجمع بين الأربع وبين البواقي غير جائز ، إمّا لنسب أو رضاع ، أو اختلاف دين محرم ، وإذا قام الاحتمال فلا يمكن نسخ القرآن إلا بمثله.

واستدلوا أيضا بإجماع فقهاء الأمصار على أنه لا يجوز الزيادة على الأربع ، وهذا أيضا فيه نظر من وجهين :

أحدهما : أن الإجماع لا ينسخ به فكيف يقال : الإجماع نسخ هذه الآية؟

الثاني : أن هؤلاء الذين قالوا بجواز الزيادة على الأربع من جملة فقهاء الأمصار ، والإجماع لا ينعقد مع مخالفة الواحد والاثنين.

__________________

(١) أخرجه الشافعي في «مسنده» (٢ / ١٦) وأحمد (٢ / ٤٤) والترمذي (٣ / ٤٣٥) رقم (١١٢٨) وابن ماجه (١ / ٦٢٨) رقم (١٩٥٣) وابن حبان (٣ / ٢٦٩) والحاكم (٢ / ١٩٢) والبيهقي (٧ / ١٨) عن ابن عمر.

وقال الترمذي : والعمل على حديث غيلان بن سلمة عند أصحابنا منهم الشافعي وأحمد وإسحق.

١٦٥

وأجيب عن الأول بأن الإجماع يكشف عن حصول الناسخ في زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وعن الثاني أن هذا المخالف من أهل البدعة ، فلا عبرة بمخالفته.

فإن قيل : إذا كان الأمر على ما قلتم فكان الأولى أن يقال : «مثنى أو ثلاث أو رباع» فلم جاء بواو العطف [دون «أو»].

فالجواب : أنه لو جاء بالعطف ب «أو» لكان يقتضي أنه يجوز ذلك إلا أحد هذه الأقسام ، وألّا يجوز لهم أن يجمعوا بين هذه الأقسام ، بمعنى أن بعضهم يأتي بالتثنية ، وبعضهم بالتثليث ، والفريق الثالث بالتربيع ، فلما ذكره بحرف الواو أفاد ذلك أنه يجوز لكل طائفة أن يختاروا قسما من هذه الأقسام ، ونظيره أن يقال للجماعة : اقتسموا هذا المال وهو ألف ، درهمين درهمين ، وثلاثة ثلاثة ، ولطائفة ثالثة أن يأخذوا أربعة أربعة ، فكذا هاهنا في ترك «أو» وذكر الواو.

فصل

قال مالك والشافعيّ (١) ـ رحمهما‌الله تعالى ـ : «إذا تزوج خامسة وعنده أربع عليه الحد إن كان عالما».

وقال الزّهريّ (٢) : «يرجم إذا كان عالما ، وإذا كان جاهلا عليه أدنى الحدين ، الذي هو الجلد وهو مهرها ، ويفرّق بينهما ولا يجتمعان أبدا».

وقال النّعمان : «لا حدّ عيه في شيء من ذلك».

وقالت طائفة (٣) : «يحدّ في ذات المحرم ، ولا يحدّ في غير ذلك من النكاح ، مثل أن يتزوج مجوسية ، أو خمسا في عقد، أو تزوّج معتدة (٤) ، أو بغير شهود ، أو [تزوج](٥) أمة بغير إذن مولاها».

قوله : (فَإِنْ خِفْتُمْ) شرط ، جوابه «فواحدة» ، وقد تقدّم أن منهم من جعل «فواحدة» جوابا للأول وكررّ الثاني لما طال الفصل ، وجعل قوله : (فَانْكِحُوا) جملة اعتراض ، ويعزى لأبي علي ، ولعله لا يصحّ عنه.

قال أبو حيان (٦) : إذا أنتج من الآيتين هذه وقوله : (وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا) [النساء : ١٢٩] ما أنتج [من](٧) الدلالة اقتضى أنه لا يجوز أن يتزوّج غير واحدة ، أو يتسرّى بما ملكت يمينه ، ويبقى الفصل بجملة الاعتراض لا فائدة له ، بل يكون لغوا على زعمه.

والجمهور على نصب «فواحدة» بإضمار فعل أي : فانكحوا واحدة وطؤوا ما ملكت

__________________

(١) ينظر : القرطبي ٥ / ١٤.

(٢) ينظر القرطبي الموضع السابق.

(٣) ذكره القرطبي معزوّا إلى يعقوب ومحمد ٥ / ١٤.

(٤) في القرطبي : متعة.

(٥) سقط في ب.

(٦) ينظر : البحر المحيط ٣ / ١٧٢.

(٧) سقط في ب.

١٦٦

أيمانكم ، وإنما قدّرنا ناصبا آخر لملك اليمين ؛ لأن النكاح لا يقع في ملك اليمين ، إلا أن يريد به الوطء في هذا ، والتزويج في الأول ، فيلزم استعمال المشترك في معنيين أو الجمع بين الحقيقة والمجاز ، وكلاهما مقول به ، وهذا قريب من قوله : [الرجز]

١٧٤٢ ـ علفتها تبنا وماء باردا

 .............(١)

وبابه.

وقرأ الحسن (٢) وأبو جعفر : «فواحدة» بالرفع ، وفيه ثلاثة أوجه :

أحدها : الرفع بالابتداء ، وسوّغ الابتداء بالنكرة اعتمادها على فاء الجزاء ، والخبر محذوف أي : فواحدة كافية.

الثاني : أنه خبر مبتدأ محذوف أي فالمقنع (٣) واحدة.

الثالث : أنه فاعل بفعل مقدّر أي : فيكفي واحدة.

و «أو» على بابها من كونها للإباحة أو التخيير. و «ما» في (ما مَلَكَتْ) كهي [في قوله] : (ما طابَ) [فإن قيل : المالك هو نفسه لا يمينه ، فلم](٤) أضاف الملك لليمين [فالجواب](٥) لأنها محل المحاسن ، وبها تتلقّى رايات المجد.

وروي عن أبي عمرو : «فما ملكت أيمانكم» ، والمعنى : إن لم يعدل في عشرة واحدة فما ملكت يمينه.

وقرأ ابن أبي عبلة (٦) «أو من ملكت أيمانكم».

ومعنى الآية : إن خفتم ألا تعدلوا بين هذه الأعداد كما خفتم ترك العدل فيما فوقها فاكتفوا بزوجة واحدة ، أو بالمملوكة.

قوله : (ذلِكَ أَدْنى) مبتدأ وخبر ، و «ذلك» إشارة إلى اختيار الواحدة أو التسرّي.

و «أدنى» أفعل تفضيل من دنا يدنو أي : قرب إلى عدم العول.

قال أبو العباس المقرىء : «ورد لفظ أدنى في القرآن على وجهين :

الأول : بمعنى أحرى قال تعالى : (ذلِكَ أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا).

والثاني : بمعنى «دون» قال تعالى : (أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ) [البقرة : ٦١] يعني الرديء بالجيد».

__________________

(١) تقدم برقم ١٦١.

(٢) وبه قرأ عبد الرحمن بن هرمز والجحدري.

انظر : المحرر الوجيز ٢ / ٧ ، والبحر المحيط ٣ / ١٧٢ ، والدر المصون ٢ / ٣٠٣. وقال : ورويت هذه القراءة عن أبي عمرو.

(٣) في ب : المتبع.

(٤) سقط في أ.

(٥) سقط في أ.

(٦) انظر : البحر المحيط ٣ / ١٧٢ ، والدر المصون ٢ / ٣٠٣.

١٦٧

قوله تعالى : (أَلَّا تَعُولُوا) في محل نصب أو جرّ على الخلاف المشهور في «أن» بعد حذف حرف الجر ، وفي ذلك الحرف المحذوف ثلاثة أوجه :

أحدها : «إلى» أي : أدنى إلى ألا تعولوا.

والثاني : «اللام» والتقدير : أدنى لئلا تعولوا.

والثالث : وقدّره الزمخشريّ (١) من ألا تميلوا ؛ لأن أفعل التفضيل يجري مجرى فعله ، فما تعدى به فعله [تعدى](٢) هو به ، وأدنى من «دنا» ، و «دنا» يتعدى ب «إلى» و «اللام» ، و «من» تقول : دنوت إليه ، وله ، ومنه.

وقرأ الجمهور : «تعولوا» من عال يعول إذا مال وجار ، والمصدر العول والعيالة ، وعال الحاكم أي : جار.

حكي أن أعرابيا حكم عليه حاكم فقال له : أتعول عليّ.

وقال أبو طالب في النبي عليه‌السلام [الطويل]

١٧٤٣ ـ ..............

له حاكم من نفسه غير عائل (٣)

وروي عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ مرفوعا عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قوله : (ذلِكَ أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا) [النساء : ٣] قال : «لا تجوروا» (٤).

وفي رواية أخرى «ألا تميلوا» (٥).

قال الواحدي (٦) رحمه‌الله : «كلا اللفظين مرويّ ؛ وعال الرجل عياله يعولهم إذا مانهم من المؤونة ومنه أبدأ بنفسك ثمّ بمن تعول».

__________________

(١) ينظر : الكشاف ١ / ٤٦٨ ، الدر المصون ٢ / ٣٠٣.

(٢) سقط في ب.

(٣) عجز بيت وصدره :

بميزان صدق لا يغل شعيرة

ينظر : الطبري ٧ / ٥٥٠ ، والدر المصون ٢ / ٣٠٣.

(٤) أخرجه ابن حبان (١٧٣٠ ـ موارد) وابن أبي حاتم وابن المنذر كما في «الدر المنثور» (٢ / ٢١١).

قال السيوطي : قال ابن أبي حاتم : قال أبي : هذا حديث خطأ والصحيح عن عائشة موقوف.

(٥) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ٥٤٩ ، ٥٥٠ ، ٥٥١) عن ابن عباس وعائشة ومجاهد وعكرمة والحسن وأبي مالك وأبي رزين والنخعي والشعبي والضحاك وعطاء وقتادة والسدي ومقاتل. وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٢١١) عن ابن عباس وزاد نسبته لسعيد بن منصور وابن أبي شيبة في «المصنف» وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.

وذكره عن عكرمة (٢ / ٢١١) وزاد نسبته لسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.

وذكره عن مجاهد (٢ / ٢١١) وزاد نسبته لابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم.

وذكره عن أبي رزين وأبي مالك والضحاك (٢ / ٢١١) وعزاه لابن أبي شيبة في مصنفه.

(٦) ينظر : تفسير الرازي ٩ / ١٤٤.

١٦٨

وحكى ابن الأعرابي (١) : عال الرجل يعول : كثر عياله ، وعال يعيل افتقر وصار له عائلة ، والحاصل أن «عال» يكون لازما ومتعديا ، فاللازم يكون بمعنى : مال وجار ، والمتعدي ومنه «عال الميزان».

قال أبو طالب : [الطويل]

١٧٤٤ ـ بميزان قسط لا يغلّ شعيرة

ووزّان صدق وزنه غير عائل (٢)

وعالت الفريضة إذا زادت سهامها ، ومعنى كثر عياله ، وبمعنى تفاقم الأمر ، والمضارع من هذا كله يعول ، وعال الرجل افتقر ، وعال في الأرض : ذهب فيها ، والمضارع من هذين يعيل ، والمتعدي يكون بمعنى أثقل ، وبمعنى مان من المؤونة ، وبمعنى غلب ومنه «عيل صبري» ، ومضارع هذا كله يعول ، وبمعنى أعجز ، تقول : أعجزني الأمر ، ومضارع هذا يعيل ، والمصدر «عيل» و «معيل» ، فقد تلخص من هذا أن «عال» اللازم يكون تارة من ذوات الواو ، وتارة من ذوات الياء ، باختلاف المعنى ، وكذلك عال المتعدي أيضا. ومنه : [الطويل]

١٧٤٥ ـ ووزّان صدق وزنه غير عائل (٣)

وفسّر الشافعي رحمه‌الله (تَعُولُوا) بمعنى يكثر عيالكم.

وردّ هذا القول جماعة كأبي بكر بن داود الرازي والزجاج وصاحب النظم (٤).

قال الرازي (٥) : «هذا غلط من جهة المعنى واللفظ ، أما المعنى فلإباحة السراري صح أنه مظنة كثرة العيال كالتزوج ، وأما اللفظ ؛ فلأن مادة عال بمعنى كثر عياله من ذوات الياء ؛ لأنه من العيلة ، وأما عال بمعنى «جار» فمن ذوات الواو ، واختلفت المادتان ، وأيضا فقد خالف المفسرين».

وقال صاحب النظم : قال أولا (أَلَّا تَعْدِلُوا) فوجب أن يكون ضده الجور.

وأجيب عن الأول وهو أنّ التّسري أيضا يكثر معه العيال ، مع أنه مباح ممنوع ؛ لأن الأمة ليست كالزوجة ؛ لأنه يعزل عنها بغير إذنها ، ويؤجرها ويأخذ أجرتها ينفقها عليه وعلى أولاده وعليها.

قال الزمخشري (٦) : «وجهه أن يجعل من قولك : عال الرجل عياله يعولهم كقولك :

__________________

(١) ينظر : الدر المصون ٢ / ٣٤.

(٢) ينظر : تهذيب اللغة ٣ / ١٩٦ ، ٤٠٢ ، والبحر المحيط ٣ / ٨ والقرطبي ٥ / ١٥ والفخر الرازي ٩ / ١٤٤ ، والروض الأنف ١ / ١٧٧.

(٣) تقدم قريبا.

(٤) ينظر : الدر المصون ٢ / ٣٠٤ تفسير الرازي ٩ / ١٤٤.

(٥) المصدران السابقان.

(٦) ينظر : الكشاف ١ / ٤٦٨.

١٦٩

مانهم يمونهم أي : أنفق عليهم ؛ لأن من كثر عياله لزمه أن يعولهم ، وفي ذلك ما يصعب عليه المحافظة من كسب الحلال والأخذ من طيب الرزق» ثم أثنى على الشافعي ثناء جميلا ، وقال : ولكن للعماء طرق وأساليب ، فسلك في تفسير هذه الآية مسلك الكنايات (١) ، انتهى.

وأما قولهم : «خالف المفسرين» فليس بصحيح ، بل قاله زيد بن أسلم وابن زيد (٢).

وأما قولهم : اختلفت المادتان» فليس بصحيح أيضا ؛ لأنه قد تقدّم حكاية ابن الأعرابي عن العرب : عال الرجل يعول كثر عياله ، وحكاها الكسائيّ أيضا قال : يقال : عال الرّجل يعول ، وأعال يعيل كثر عياله.

قال أبو حاتم (٣) : كان الشّافعيّ أعلم بلسان العرب منّا ، ولعلّه لغة ، ويقال : هي لغة «حمير» ونقلها أيضا الدّوريّ المقرىء لغة عن حمير وأنشد [الوافر] :

١٧٤٦ ـ وإنّ الموت يأخذ كلّ حيّ

بلا شكّ وإن أمشى وعالا (٤)

أمشى : كثرت ماشيته ، وعال كثر عياله ، ولا حجّة في هذا ؛ لاحتمال أن يكون «عال» من ذوات الياء ، وهم لا ينكرون أنّ «عال» يكون بمعنى كثر عياله ، وروي عنه أيضا أنّه فسّر تعولوا بمعنى تفتقروا ، ولا يريد به أنّ «تعولوا» وتعيلوا بمعنى ، بل قصد الكناية أيضا ؛ لأن كثرة العيال سبب للفقر.

وقرأ طلحة (٥) : «تعيلوا» بفتح تاء المضارعة من عال يعيل افتقر قال : [الوافر]

١٧٤٧ ـ فما يدري الفقير متى غناه

وما يدري الغنيّ متى يعيل (٦)

وقرأ طاوس (٧) : «تعيلوا» بضمها من أعال : كثر عياله ، وهي تعضّد تفسير الشّافعيّ المتقدّم من حيث المعنى.

وقال الرّاغب : عاله ، وغاله يتقاربان ، لكن الغول : فيما يهلك والعول فيما يثقل.

قوله تعالى : (وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً)(٤)

مفعول ثان ، وهي جمع «صدقة» بفتح الصّاد وضمّ الدّال بزنة «سمرة» ، والمراد

__________________

(١) ينظر : الدر المصون ٢ / ٣٠٤ ، الكشاف ١ / ٤٦٠.

(٢) ينظر : الدرّ المصون الموضع السابق.

(٣) ينظر : تفسير القرطبي ٥ / ١٦.

(٤) ينظر البيت في البحر المحيط ٣ / ١٧٣ والدر المصون ٢ / ٣٠٤.

(٥) انظر : البحر المحيط ٣ / ١٧٣ ، والدر المصون ٢ / ٣٠٤.

(٦) البيت لأحيحة بن الجلاح. ينظر القرطبي ٥ / ٢١ والدر المصون ٢ / ٣٠٤.

(٧) انظر : البحر المحيط ٣ / ١٧٤ ، والدر المصون ٢ / ٣٠٤.

١٧٠

بها : المهر وهذه هي القراءة المشهورة ، وهي لغة الحجاز.

وقرأ قتادة (١) : «صدقاتهن» بضمّ الصّاد وإسكان الدّال ، جمع صدقة بزنة غرفة.

وقرأ مجاهد (٢) وابن أبي عبلة بضمهما وهي جمع صدقة بضم الصاد والدال ، وهي تثقيل الساكنة الدّال للاتباع.

وقرأ ابن وثاب (٣) والنخعي «صدقتهنّ» بضمهما مع الإفراد.

قال الزّمخشريّ وهي تثقيل صدقة كقولهم في «ظلمة» «ظلمة» ، وقد تقدم الخلاف ، هل يجوز تثقيل الساكن المضموم الفاء؟.

وقرىء (٤) : «صدقاتهن» بفتح الصّاد وإسكان الدّال وهي تخفيف القراءة المشهورة ، كقولهم في عضد : عضد.

قال الواحديّ : «ولفظ الصّاد والدّال والقاف موضوع للكمال والصحة ، يسمّى المهر صداقا وصدقة وذلك لأنّ عقد النكاح به يتم.

وفي نصب «نحلة» أربعة أوجه :

أحدها : أنّها منصوبة على المصدر (٥) ، والعامل فيها الفعل قبلها ؛ لأن «آتوهن» بمعنى انحلوهنّ ، فهي مصدر على غير الصدر نحو : «قعدت جلوسا».

الثاني : أنها مصدر واقع موقع الحال ، وفي صاحب الحال ثلاثة احتمالات :

أحدها : أنّه الفاعل من «فآتوهن» أي : فآتوهن ناحلين.

الثاني : أنّه المفعول الأوّل وهو : النّساء.

الثالث : أنه المفعول الثاني وهو «صدقاتهن». أي : منحولات.

الوجه الثّالث : أنّها مفعول من أجله ، إذا فسّرت بمعنى : شرعة.

الوجه الرابع : انتصابها بإضمار فعل بمعنى : شرع أي : نحل الله ذلك نحلة ، أي : شرعة شرعة ودينا.

والنّحلة العطيّة عن طيب النّفس ، والنّحلة : الشّرعة ، ومنه : نحلة الإسلام خير النحل (٦) ، وفلان ينتحل بكذا : أي يدين به ، والنّحلة : الفريضة.

__________________

(١) انظر : المحرر الوجيز ٢ / ٨ ، والبحر المحيط ٣ / ١٧٤ ، والدر المصون ٢ / ٣٠٥.

(٢) وقرأ بها : موسى بن الزبير وابن أبي عبلة وفياض بن غزوان. انظر : المحرر الوجيز ٢ / ٨ ، والبحر المحيط ٣ / ١٧٤ ، والدر المصون ٢ / ٣٠٥.

(٣) ينظر : القراءة السابقة.

(٤) انظر : الكشاف ١ / ٤٦٩ ، والدر المصون ٢ / ٣٠٥.

(٥) في ب : العامل.

(٦) في أ : نحلة.

١٧١

قال الراغب : والنّحلة والنّحلة : العطيّة على سبيل التبرع ، وهي أخصّ من الهبة ، إذ كل هبة نحلة من غير عكس ، واشتقاقه فيما أرى من النّحل ، نظرا منه إلى فعله ، فكأن «نحلته» أعطيته عطية النحل ، ثم قال : ويجوز أن تكون النّحلة أصلا فسمّي النّحل (١) بذلك اعتبارا بفعله.

وقال الزّمخشريّ : من نحله كذا أي : أعطاه إيّاه ووهبه له عن طيب نفسه ، نحلة ونحلا ، ومنه حديث أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ : «إنّي نحلتك جداد عشرين وسقا» (٢).

قال القفّال (٣) : وأصله إضافة الشيء إلى غير من هو له ، يقال (٤) : هذا شعر منحول ، أي : مضاف إلى غير قائله ، وانتحلت (٥) كذا إذا ادّعيته وأضفته إلى نفسك.

فصل من المقصود بالخطاب في الآية

في هذا الخطاب قولان :

أحدهما : أنه «لأولياء» [النساء] ؛ لأنّ العرب كانت في الجاهليّة لا تعطي النساء من مهورهن شيئا ، وكذلك كانوا يقولون لمن ولدت له بنت : هنيئا لك النافجة ، ومعناه : أنّك تأخذ مهرها إبلا فتضمّها إلى إبلك فتنفج مالك أي : تعظمه ، وقال ابن الأعرابي (٦) : النافجة (٧) ما يأخذه الرّجل من الحلوان إذا زوج ابنته ، فنهى الله عن ذلك ، وأمر بدفع الحقّ إلى أهله ، وهذا قول الكلبيّ وأبي صالح واختيار الفرّاء وابن قتيبة.

وقال الحضرميّ : وكان أولياء النساء يعطي هذا أخته على أن يعطيه الآخر أخته ، ولا مهر بينهما ، فنهوا عن ذلك ، «ونهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الشّغار (٨)» ، وهو أن يزوج الرّجل ابنته على أن يزوجه الآخر ابنته ، ولا صداق بينهما.

الثاني : أنّ الخطاب للأزواج ، أمروا بإيفاء مهور النساء ، وهذا قول علقمة ، والنخعيّ وقتادة (٩) ، واختيار الزجّاج ، لأنه لا ذكر للأولياء هاهنا ، والخطاب قبله للأزواج.

قال قتادة : نحله فريضة (١٠).

__________________

(١) في أ : النحلة.

(٢) أخرجه مالك في الموطأ ٢ / ٧٥٢.

(٣) ينظر : تفسير الرازي ٩ / ١٤٧.

(٤) في ب : فقال.

(٥) في ب : وانتحلته.

(٦) ينظر : الرازي ٩ / ١٤٦.

(٧) في أ : الناكحة.

(٨) أخرجه البخاري (٣ / ٤٢٤ ، ٣٤٠) ومسلم (٤ / ١٣٩) وأبو داود (٢٠٧٤) والنسائي (٢ / ٨٥ ، ٨٦) والترمذي (١ / ٢١٠) والدارمي (٢ / ١٣٦) وابن ماجه (١٨٨٣) وابن الجارود (٧١٩ ، ٧٢٠) والبيهقي (٧ / ١٩٩) وأحمد (٢ / ٧ ، ١٩ ، ٣٥ ، ٦٢ ، ٩١) من طرق عن نافع عن ابن عمر.

وزاد البخاري ومسلم : «أن يزوج الرجل ابنته على أن يزوجه الآخر ابنته ليس بينهما صداق».

(٩) انظر : تفسير الرازي (٩ / ١٤٦) وتفسير السمرقندي (١ / ٣٣٢).

(١٠) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ٥٥٣) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٢١٢) وزاد نسبته لعبد بن حميد.

١٧٢

وقال ابن جريج : فريضة مسمّاة (١).

قال أبو عبيدة (٢) : لا تكون النّحلة إلّا مسمّاة ومعلومة. قال القفّال (٣) : يحتمل أن يكون المراد من الإيتاء المناولة ، ويحتمل أن يكون المراد منه الالتزام كقوله تعالى : (حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ) [التوبة : ٢٩] أي : يضمنوها ويلتزموها (٤) ، فعلى الأول المراد دفع المسمّى ، وعلى الثاني أن المراد بيان أن الفروج (٥) لا تستباح إلا بعوض يلتزم سواء سمّي أو لم يسمّ ، إلا ما خصّ به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الموهوبة.

قوله : (فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ) «منه» في محل جر ؛ لأنه صفة ل «شيء» فيتعلق بمحذوف ، أي : عن شيء كائن منه.

و «من» فيها وجهان :

أحدهما : أنها للتبعيض ، ولذلك لا يجوز لها أن تهبه كلّ الصّداق ، وإليه ذهب الليث.

والثاني : أنها للبيان ، ولذلك يجوز أن تهبه كلّ الصّداق.

قال ابن عطيّة : و «من» لبيان الجنس هاهنا ولذلك يجوز أن تهب المهر كله ، ولو [وقعت](٦) على التبعيض لما جاز ذلك انتهى.

وقد تقدّم أن الليث يمنع ذلك ، ولا يشكل كونها للتّبعيض ، وفي هذا الضمير أقوال :

أحدها : أنه يعود على الصّداق المدلول عليه ب (صَدُقاتِهِنَّ).

الثاني : أنه يعود على «الصّدقات» لسدّ الواحد مسدّها ، لو قيل : صداقهنّ لم يختلّ المعنى ، وهو شبيه بقولهم : هو أحسن الفتيان وأجمله ؛ ولأنه لو قيل : «هو أحسن فتى» ، لصحّ المعنى.

ومثله : [الرجز]

١٧٤٨ ـ وطاب ألبان اللّقاح وبرد (٧)

في «برد» ضمير يعود على «ألبان» لسدّ «لبن» مسدّها.

الثالث : أنه يعود على «الصّدقات» أيضا ، لكن ذهابا بالضمير مذهب الإشارة فإنّ اسم الإشارة قد يشار به مفردا مذكرا إلى أشياء تقدمت (٨) ، كقوله : (قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ٥٥٣) عن ابن جريج.

(٢) ينظر : البغوي ١ / ٣٩٢.

(٣) ينظر : الرازي ٩ / ١٤٦.

(٤) في أ : ويلزموها.

(٥) في أ : الفراج.

(٦) سقط في ب.

(٧) ينظر البيت في الدر المصون ٢ / ٣٠٦.

(٨) في ب : بعد منه.

١٧٣

ذلِكُمْ) [آل عمران : ١٥] بعد ذكر أشياء قبله ، وقد تقدم ما روي في البقرة ما حكي عن رؤبة لما قيل له في قوله : [الرجز]

١٧٤٩ ـ فيها خطوط من سواد وبلق

كأنّه في الجلد توليع البهق (١)

فقال : أردت ذلك فأجرى الضمير مجرى اسم الإشارة.

الرابع : أنه يعود على المال ، وإن لم يجر له ذكر ؛ لأنّ الصّدقات تدلّ عليه.

الخامس : أنه يعود على الإيتاء المدلول عليه ب «آتوا» ، قاله الرّاغب وابن عطيّة.

السّادس : قال الزمخشريّ «ويجوز أن يذكّر الضمير؛ لينصرف إلى الصّداق الواحد، فيكون متناولا بعضه ، ولو أنّث لتناول ظاهره هبة الصّداق كلّه ؛ لأنّ بعض الصّدقات واحد منها (٢) فصاعدا».

وقال أبو حيّان : وأقول حسّن تذكير الضمير أن معنى (فَإِنْ طِبْنَ) فإن طابت كلّ واحدة فلذلك قال : «منه» أي : من صداقها ، وهو نظير قوله : (وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً) [يوسف : ٣١] ؛ أي لكلّ واحدة منهن ، ولذلك أفرد «متكأ».

قوله : «نفسا» منصوب على التّمييز ، وهو هنا منقول من (٣) الفاعل ؛ إذ الأصل : فإن طابت أنفسهنّ ، ومثله : (وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً) [مريم : ٤].

وهذا منصوب عن تمام الكلام ، وجيء بالتمييز هنا مفردا ، وإن كان قبله جمع لعدم اللّبس ، إذ من المعلوم أنّ الكلّ لسن مشتركات (٤) في نفس واحدة ، ومثله : قرّ الزيدون عينا ، كقوله : (وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً) [هود : ٧٧] وقيل : لفظها واحد ومعناها جمع ، ويجوز «أنفسا» «وأعينا» ولا بدّ من التعرّض لقاعدة يعمّ نفعها ، وهي أنّه إذا وقع تمييز بعد جمع منتصب عن تمام الكلام فلا يخلو : إمّا أن يكون موافقا لما قبله في المعنى ، أو مخالفا له ، فإن كان الأول وجبت مطابقة التّمييز لما قبله نحو : كرم الزيدون رجالا ، كما يطابقه خبرا وصفة وحالا.

وإن كان الثاني : فإمّا أن يكون مفرد المدلول أو مختلفه ، فإن كان مفرد المدلول وجب إفراد التمييز كقولك في أبناء رجل واحد : كرم بنو زيد أبا أو أصلا ، أي : إنّ لهم جميعهم أبا واحدا متصفا بالكرم ، ومثله «كرم الأتقياء سعيا» ، إذا لم تقصد بالمصدر اختلاف الأنواع لاختلاف محالّه ، وإن كان مختلف المدلول : فإما أن يلبس إفراد التمييز لو أفرد أولا ، فإن ألبس وجبت المطابقة نحو : كرم الزيدون آباء ، أي : أن لكل واحد أبا غير أب الآخر يتصف بالكرم ، ولو أفردت هنا لتوهّم أنهم كلّهم بنو أب واحد ، والغرض خلافه ، وإن لم يلبس جاز الأمران المطابقة والإفراد ، وهو الأولى ، ولذلك جاءت عليه

__________________

(١) تقدم برقم ٥٧٩.

(٢) في ب : الصداق.

(٣) في ب : عن.

(٤) في أ : ليس يشتركان.

١٧٤

الآية الكريمة ، وحكم التثنية في ذلك كالجمع ، وحسّن الإفراد هاهنا أيضا ما تقدّم من محسّن (١) تذكير الضمير وإفراده في «منه» ، وهو أنّ المعنى : فإن طابت كلّ واحدة نفسا.

وقال بعض البصريين : «إنّما أفرد ؛ لأن المراد بالنفس هنا الهوى ، والهوى مصدر ، والمصادر لا تثنّى ولا تجمع».

وقال الزمخشريّ : و «نفسا» تمييز ، وتوحيدها ؛ لأن الغرض بيان الجنس والواحد يدل عليه. ونحا أبو البقاء نحوه ، وشبّهه ب «درهما» في قولك : عشرون درهما.

واختلف النحاة في جواز تقديم التمييز على عامله إذا كان متصرفا فمنعه سيبويه ، وأجازه المبرد وجماعة مستدلين بقوله : [الطويل]

١٧٥٠ ـ أتهجر ليلى بالفراق حبيبها

وما كان نفسا بالفراق تطيب (٢)

وقوله : [الطويل]

١٧٥١ ـ رددت بمثل السّيد نهد مقلّص

كميش إذا عطفاه ماء تحلّبا (٣)

والأصل تطيب نفسا ، وتحلّبا ماء ، وفي البيتين كلام طويل ليس هذا محلّه ، وحجة سيبويه في منع ذلك أنّ التّمييز فاعل في الأصل ، والفاعل لا يتقدّم ، فكذلك ما في قوته ، واعترض على هذا بنحو : زيدا ، من قولك أخرجت زيدا ، فإن زيدا في الأصل فاعل قبل النّقل ، إذ الأصل : خرج زيد والفرق لائح فالتمييز أقسام كثيرة مذكورة في كتب القوم. والجارّان في قوله (فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ) متعلقان بالفعل قبلهما متضمنا معنى الإعراض ، ولذلك عدّي ب «عن» (٤) كأنّه قيل : فإن أعرضن لكم عن شيء منه طيبات النفوس ، والفاء في «فكلوه» (٥) جواب الشرط وهي واجبة ، والفاء في «فكلوه» عائدة على «شيء».

فإن قيل : لم قال : (فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ) ولم يقل : وهبن لكم أو سمحن لكم؟.

فالجواب أنّ المراعى هو تجافي نفسها عن [الموهوب طيبة](٦).

قوله : (فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً).

__________________

(١) في أ : حسن.

(٢) البيت للمخبل السعدي ينظر ديوانه ص ٢٩٠ ، والخصائص ٢ / ٣٨٤ ، والمقاصد النحوية ٣ / ٢٣٥ ، والدر المصون ٢ / ٣٠٧ ، وللمخبل السعدي أو لقيس بن معاذ في شرح شواهد الإيضاح ص ١٨٨ ؛ وللمخبل السعدي ، أو لأعشى همدان أو لقيس بن الملوّح في الدرر ٤ / ٣٦ وبلا نسبة في شرح ابن عقيل ص ٣٤٨ ، وشرح الأشموني ١ / ٢٦٦ ، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي ص ٣٣٠ وشرح المفصل ٢ / ٧٤ ، والمقتضب ٣ / ٣٦ ، ٣٧ ، وهمع الهوامع ١ / ٢٥٢.

(٣) البيت لربيعة بن مقروم ينظر شرح شواهد المغني ص ٨٦٠ ، وشرح عمدة الحفّاظ ص ٤٧٧ ، والمقاصد النحوية ٣ / ٢٢٩ ، وشرح الأشموني ١ / ٢٦٦ ، ومغني اللبيب ص ٤٦٢ ، والدر المصون ٢ / ٣٠٧ ، وشرح شواهد المغني للبغدادي ٧ / ٢٢.

(٤) في أ : بهن.

(٥) في أ : فكلوه.

(٦) سقط في ب.

١٧٥

في نصب «هنيئا» أربعة أقوال :

أحدها : أنّه منصوب على أنه صفة لمصدر محذوف تقديره : أكلا هنيئا.

الثاني : أنه منصوب على الحال من الهاء في «فكلوه» أي : مهنّئا ، أي سهلا.

والثالث : أنه منصوب على الحال بفعل لا يجوز إظهاره ألبتة ؛ لأنّه قصد بهذه الحال النيابة عن فعلها نحو : «أقائما وقد قعد النّاس» ، كما ينوب المصدر عن فعله نحو «سقيا له ورعيا».

الرابع : أنهما صفتان قامتا مقام المصدر المقصود به الدعاء النائب عن فعله.

قال الزّمخشريّ : «وقد يوقف على «فكلوه» ويبتدأ ب (هَنِيئاً مَرِيئاً) على الدعاء وعلى أنهما صفتان أقيمتا مقام المصدرين ، كأنه قيل : هنئا مرءا».

قال أبو حيان : وهذا تحريف لكلام النّحاة ، وتحريفه هو جعلهما أقيما مقام المصدر ، فانتصابهما انتصاب المصدر ، ولذلك قال : كأنّه قيل : «هنئا مرءا» ، فصار كقولك «سقيا لك» و «رعيا لك» ، ويدلّ على تحريفه وصحّة قول النحاة أنّ المصادر المقصود بها الدعاء لا ترفع الظاهر ، لا تقول : «سقيا الله لك» ، ولا : «رعيا الله لك» ، وإن كان ذلك جائزا في أفعالها ، و (هَنِيئاً مَرِيئاً) يرفعان الظاهر بدليل قوله : [الطويل]

١٧٥٢ ـ هنيئا مريئا غير داء مخامر

لعزّة من أعراضنا ما استحلّت (١)

ف «ما» مرفوع ب «هنيئا» أو ب «مريئا» على الإعمال ، وجاز ذلك وإن لم يكن بين العاملين ربط بعطف ولا غيره ؛ لأن «مريئا» لا يستعمل إلّا تابعا ل «هنيئا» (٢) فكأنّهما عامل واحد. ولو قلت : «قام قعد زيد» لم يكن من الإعمال إلّا على نيّة حرف العطف. انتهى.

إلّا أن عبارة سيبويه فيها ما يرشد لما قاله الزّمخشريّ ، فإنه قال : هنيئا مريئا صفتان نصبهما نصب المصادر المدعو بها بالفعل المذكور غير المستعمل إظهاره المختزل لدلالة الكلام عليه ، كأنهم قالوا : ثبت ذلك هنيئا مريئا ، فأوّل العبارة يساعد الزمخشري ، وآخرها وهو تقديره بقوله : كأنهم قالوا : ثبت هنيئا ، يعكّر عليه ، فعلى القولين الأوّلين يكون (هَنِيئاً مَرِيئاً) ، متعلقين بالجملة قبلهما لفظا ومعنى ، وعلى الآخرين مقتطعين (٣) لفظا ؛ لأنّ عاملهما مقدّر من جملة أخرى كما تقدم تقريره.

واختلف النحويون في قولك لمن قال : أصاب فلان (٤) خيرا هنيئا مريئا له ذلك. هل «ذلك» مرفوع بالفعل المقدر ، وتقديره : ثبت له ذلك هنيئا ، فحذف «ثبت» وقام

__________________

(١) تقدم برقم (١٠٦٧).

(٢) في ب : لها.

(٣) في أ : منقطعين.

(٤) في أ : فعلا.

١٧٦

«هنيئا» مقامه الذي هو حال أو مرفوع ب «هنيئا» نفسه ؛ لأنه لمّا قام مقام الفعل رفع ما كان الفعل يرفعه ، كما أن قولك : «زيد في الدّار» «في الدار» ضمير كان مستترا (١) في الاستقرار فلما حذف الاستقرار ، وقام الجار مقامه رفع الضمير [المستتر](٢) الذي كان فيه ، وقد ذهب إلى الأول السيرافي وجعل في «هنيئا» ضميرا عائدا على «ذلك» ، وذهب إلى الثاني أبو علي ، وجعل «هنيئا» فارغا من الضمير لرفعه الاسم الظاهر ، وإذا قلت : «هنيئا» ولم تقل «ذلك» فعلى مذهب السيرافي يكون في «هنيئا» ضمير عائد على ذي الحال ، وهو ضمير الفاعل الذي استتر في «ثبت» المحذوف ، وعلى مذهب الفارسي يكون في «هنيئا» ضمير فاعل بها ، وهو الضمير المستتر الذي كان فاعلا ل «ثبت» ، ويكون «هنيئا» قد قام مقام الفعل المحذوف فارغا من الضمير.

وأما نصب «مريئا» ففيه خمسة أوجه :

أحدها : أنّه صفة ل «هنيئا» وإليه ذهب الحوفي.

والثاني : أنّه انتصب انتصاب «هنيئا» ، وقد تقدّم ما فيه من الأوجه ، ومنع (٣) الفارسي كونه صفة ل «هنيئا» (٤) قال : لأنّ هنيئا قام مقام الفعل ، والفعل لا يوصف ، فكذا (٥) ما قام مقامه ، ويؤيد ما قاله الفارسيّ أنّ اسم الفاعل واسم المفعول وأمثلة المبالغة والمصادر إذا وصفت لم تعمل عمل الفعل ، ولم تستعمل «مريئا» إلا تابعا ل «هنيئا» ، ونقل بعضهم أنه قد يجيء [غير] تابع (٦) وهو مردود ؛ لأن العرب لم تستعمله إلّا تابعا ، وهل (هَنِيئاً مَرِيئاً) في الأصل اسما فاعل على زنة المبالغة؟ أم هما مصدران جاءا على وزن فعيل ، كالصّهيل والهدير؟ خلاف. نقل أبو حيّان القول الثاني عن أبي البقاء قال : وأجاز أبو البقاء أن يكونا مصدرين جاءا على خلاف وزن «فعيل» ، كالصّهيل والهدير ، وليسا من باب ما يطرد فيه فعيل في المصدر. انتهى.

وأبو البقاء في عبارته إشكال ، فلا بد من التعرض إليها ليعرف ما فيها ، قال : «هنيئا» مصدر جاء على وزن «فعيل» ، وهو نعت لمصدر محذوف ، أي : أكلا هنيئا ، وقيل : هو مصدر في موضع الحال من الهاء ، والتقدير مهنّأ (٧) ، و «مريئا» مثله ، والمريء فعيل بمعنى مفعل ، لأنّك تقول : «أمرأني الشّيء» ، ووجه الإشكال : أنّه بعد الحكم عليهما (٨) بالمصدريّة كيف يجعلهما [حالا](٩) وصفين لمصدر محذوف؟ وكيف يفسر «مريئا» المصدر بمعنى اسم الفاعل؟

ذهب الزمخشري إلى أنّهما وصفان قال : «فإنّ الهنيء والمريء صفتان من هنؤ

__________________

(١) في أ : مستقدا.

(٢) سقط في ب.

(٣) في ب : ونبه.

(٤) في ب : لها.

(٥) في ب : فكذلك.

(٦) سقط في ب.

(٧) في أ : هنيئا.

(٨) في أ : إليهما.

(٩) سقط في ب.

١٧٧

الطعام ومرؤ إذا كان سائغا لا تنغيص (١) فيه». انتهى.

وهنا يهنا بغير همز (٢) ـ لغة ثانية أيضا ، وقرأ (٣) أبو جعفر : «هنيّا مريّا» ، بتشديد الياء فيهما من غير همزة ، كذلك «بري» و «بريون» (٤) و «بريّا» ، ويقال : هنأني الطعام ومرأني ، وإن أفردت «مرأني» لم يستعمل إلا رباعيّا فتقول : «أمرأني» ، وإنّما استعمل ثلاثيا للتّشاكل مع «هنأني» ، وهذا كما قالوا : أخذه ما قدم (٥) وما حدث ، بضم الدّال من «حدث» مشاكلة ل «قدم» (٦) ، ولو أفرد لم يستعمل إلّا مفتوح الدال ، وله نظائر أخر ، ويقال : هنأت الرجل أهنئه بكسر العين في المضارع أي : أعطيته. واشتقاق الهنيء من الهناء ، وهو ما (٧) يطلى به البعير للجرب كالقطران قال : [الكامل]

١٧٥٣ ـ متبذّلا تبدو محاسنه

يضع الهناء مواضع النّقب (٨)

والمريء ما ساغ وسهل من الحلق ، ومنه قيل لمجرى الطّعام من الحلقوم إلى فم المعدة : مريء.

فصل في دلالة الآية على أمور

دلّت الآية الكريمة على أمور :

منها أنّ المهر لها ولا حق للولي فيه.

ومنها جواز هبتها للمهر قبل القبض ؛ لأن الله تعالى لم يفرق بين الحالين.

فإن قيل : قوله : (فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً) يتناول ما إذا كان المهر عينا ، أما إذا كان دينا فالآية غير متناولة له (٩) لأنّه لا يقال لما في الذمة كله هنيئا مريئا.

فالجواب أن المراد بقوله (هَنِيئاً مَرِيئاً) ليس نفس الأكل ، بل المراد منه كل التصرفات (١٠) ، وإنما خصّ الأكل بالذكر ، لأنّه معظم المقصود من المال لقوله (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً) [النساء : ١٠] وقوله : (لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ) [النساء : ٢٩].

فصل

قال بعض العلماء : إن وهبت ثم طلبت بعد الهبة ، علم أنها لم تطب عنه نفسا ،

__________________

(١) في أ : ما بقالا يتبعض.

(٢) في أ : تعبير من.

(٣) انظر : إتحاف ١ / ٥٠٣ ، والمحرر الوجيز ٢ / ٢ / ٩ ، وقال : وهي قراءة الحسن بن أبي الحسن والزهري. ولم يذكر التضعيف. وانظر : البحر المحيط ٣ / ١٧٥ ، وفيه ذكر التضعيف.

(٤) في ب : يرى ويربون.

(٥) في أ : تقدم.

(٦) في أ : تقدم.

(٧) في أ : أهنى من هنا ما.

(٨) البيت لدريد بن الصمة. ينظر الأغاني ١٠ / ٢٢ والطبري ٧ / ٥٥٩ واللسان (نقب) والدر المصون ٢ / ٣٠٩ والبحر المحيط ٣ / ١٦١.

(٩) في ب : تتناوله.

(١٠) في ب : حل.

١٧٨

وعن الشعبي : أن امرأة جاءت مع زوجها إلى شريح في عطيّة أعطتها إيّاه ، وهي تطلب الرجوع ، فقال شريح : ردّ عليها (١) ، فقال الرجل : أليس قد قال الله تعالى (فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ ،) فقال : لو طابت نفسها عنه ما رجعت فيه (٢).

وروي عنه أيضا : أقيلها فيما وهبت ولا أقيله ؛ لأنهن يخدعن (٣).

وروي أنّ رجلا من آل أبي معيط أعطته امرأته ألف دينار صداقا كان لها عليه ، فلبثت شهرا ثم طلقها ، فخاصمته إلى عبد الملك بن مروان ، فقال الرّجل : أعطتني طيبة به نفسها ، فقال عبد الملك : فإن (٤) الآية التي بعدها (فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً) [النساء : ٢٠] اردد عليها (٥).

وعن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ أنه كتب إلى قضاته : إن النساء يعطين رغبة ورهبة ، وأيّما امرأة أعطته ثم أرادت أن ترجع فذلك لها (٦).

قوله تعالى : (وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِياماً وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً)(٥)

أصل تؤتوا تؤتيوا مثل : تكرموا فاستثقلت الضمة على الياء فحذفت الضمة ، فالتقى ساكنان : الياء وواو الضمير فحذفت الياء لئلا يلتقي ساكنان.

والسّفهاء جمع : سفيه ، وعن مجاهد : «المراد بالسّفهاء» النّساء من كنّ أزواجا ، أو بنات ، أو أمهات ، وضعّفه بعضهم بأنّ فعيلة إنّما تجمع على فعائل أو فعيلات ، قاله [أبو البقاء](٧) وابن عطية ، وقد نقل بعضهم أنّ سفيهة تجمع : على «سفهاء» كالمذكّر ، وعلى هذا لا يضعف قول مجاهد. وجمع فعيلة الصّفة على فعلاء وإن كان نادرا ، إلّا أنّه قد نقل في هذا اللّفظ خصوصا ، وتخصيص ابن عطية جمع فعيلة بفعائل ، أو فعيلات ليس بظاهر ، لأنّها يطّرد فيها أيضا «فعال» نحو : كريمة ، وكرام ، وظريفة ، وظراف ، وكذلك إطلاقه فعيلة ، وكان من حقّه أن يقيّدها بألّا تكون بمعنى : مفعولة ، تحرّزا من قتيلة فإنّها لا تجمع على فعائل.

والجمهور قرؤوا (الّتي) بلفظ الإفراد صفة للأموال ، وإن كانت جمعا ؛ لأنّه تقدّم أنّ جمع ما لا يعقل من الكثرة ، أو لم يكن له إلا جمع واحد ، الأحسن فيه أن يعامل معاملة الواحدة المؤنّثة ، والأموال من هذا القبيل ، لأنّها جمع ما لا يعقل ، ولم تجمع إلّا على أفعال ، وإن كانت بلفظ القلّة ؛ لأن المراد بها الكثرة.

__________________

(١) في ب : فقال شريح للرجل رد عليها.

(٢) ينظر : الرازي ٩ / ١٤٩.

(٣) ينظر : المصدر السابق.

(٤) في ب : قاتل.

(٥) ينظر : تفسير الرازي ٩ / ١٤٩.

(٦) ينظر : المصدر السابق.

(٧) سقط في ب.

١٧٩

وقرأ الحسن (١) والنخعي «اللاتي» مطابقة للفظ الجمع ، وكان القياس ألّا يوصف ب «اللاتي» إلا ما يوصف مفرده ب «التي» والأموال لا يوصف مفردها وهو «مال» ب «التي».

وقال الفراء : العرب تقول في النّساء «اللاتي» أكثر مما تقول «التي» ، وفي الأموال : «التي» أكثر مما تقول «اللّاتي» وكلاهما جائز.

وقرىء (٢) «اللّواتي» فهي جمع الجمع وهي جمع اللاتي أو جمع «التي» نفسها.

قوله : «قياما» إن قلنا : إن «جعل» بمعنى صيّر ف «قياما» مفعول ثان ، والأول محذوف ، وهو عائد الموصول والتقدير : الّتي جعلها الله ، أي : صيّرها لكم قياما ، وإن قلنا : إنها بمعنى «خلق» ف «قياما» حال ، من ذلك العائد على المحذوف ، والتقدير : جعلها (٣) أي : خلقها وأوجدها في حال كونها قياما.

وقرأ نافع (٤) وابن عامر «قيما» ، وباقي السبعة «قياما» وابن عمر (٥) «قواما» بكسر القاف ، والحسن (٦) وعيسى بن عمر «قواما» بفتحها ويروى عن أبي عمرو ، وقرىء (٧) «قوما» بزنة «عنب».

فأمّا قراءة نافع وابن عامر ففيها ثلاثة أوجه :

أحدها : أن «قيما» مصدر كالقيام وليس مقصورا منه قال الكسائيّ والأخفش والفراء. فهو مصدر بمعنى القيام الذي يراد به الثبات والدّوام ، وقد ردّ هذا القول بأنه كان ينبغي أن تصحّ (٨) الواو لتحصّنها بتوسّطها ، كما صحّت واو «عوض» «وحول» ، وقد أجيب عنه بأنه تبع فعله من الإعلال وكما أعلّ فعله أعلّ هو ، ولأنه بمعنى القيام فحمل عليه في الإعلال.

وحكى الأخفش : «قيما» و «قوما» قال : والقياس تصحيح (٩) الواو ، وإنما اعتلت على وجه الشّذوذ كقولهم : «ثيرة» (١٠) وقول بني ضبة «طيال» في جمع طويل ، وقول الجميع «جياد» في جمع جواد ، وإذا أعلّوا «ديما» لإعلال «ديمة» ، فاعتلال المصدر

__________________

(١) انظر : المحرر الوجيز ٢ / ١٠ ، والبحر المحيط ٣ / ١٧٧ ، والدر المصون ٢ / ٢١٠.

(٢) انظر : البحر المحيط ٣ / ١٧٨ ، والدر المصون ٢ / ٣١٠.

(٣) في أ : يرجعها.

(٤) انظر : السبعة ٢٢٦ ، والحجة ٣ / ١٢٩ ، وحجة القراءات ١٩٠ ، والعنوان ٨٣ ، وشرح شعله ٣٣٢ ، وشرح الطيبة ٤ / ١٩٣ ، وإعراب القراءات ١ / ١٢٩ ، وإتحاف ١ / ٥٠٣.

(٥) انظر : البحر المحيط ٣ / ١٧٨ ، والدر المصون ٢ / ٣١٠.

(٦) انظر السابق ، والمحرر الوجيز ٢ / ١٠.

(٧) انظر : البحر المحيط ٣ / ١٧٨ ، والدر المصون ٢ / ٣١٠.

(٨) في ب : يفتح.

(٩) في ب : الصحيح.

(١٠) في ب : ثرة.

١٨٠