اللّباب في علوم الكتاب - ج ٥

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ٥

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 2-7451-2298-3
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٦٣٢

إنما خلق ليستمتع بها ، والاستمتاع بمتاع الدنيا على وجوه :

منها : أن ينفرد به من خصّه الله تعالى بهذه النعم ، فيكون مذموما.

ومنها : أن يترك الانتفاع به ـ مع الحاجة إليه ـ فيكون مذموما.

ومنها : أن ينتفع به في وجه مباح ، من غير أن يتوصل بذلك إلى مصالح الآخرة ، وذلك لا ممدوح ولا مذموم.

ومنها : أن ينتفع به على وجه يتوصل به إلى مصالح الآخرة ، وذلك هو الممدوح.

قوله : (وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ ،) أي : المرجع ، فالمآب : مفعل ، من آب ، يئوب ، إيابا ، وأوبة وأيبة ، ومآبا ، أي : رجع ، والأصل : مأوب ، فنقلت حركة الواو إلى الهمزة الساكنة قبلها ، فقلبت الواو ألفا ، وهو ـ هنا ـ اسم مصدر ، أي : حسن الرجوع ، وقد يقع اسم مكان ، أو زمان ، تقول : آب يئوب أوابا وإيابا كقوله تعالى : (إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ) [الغاشية : ٢٥] وقوله : (إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً لِلطَّاغِينَ مَآباً) [النبأ : ٢١ ـ ٢٢]. فإن قيل : المآب قسمان : الجنة ، وهي في غاية الحسن ، والنار ، وهي خالية عن الحسن فكيف وصف المآب المطلق بالحسن؟

فالجواب : أنّ المقصود ـ بالذات ـ هو الجنة ، وأما النار فمقصودة بالعرض ، والمقصود من الآية التزهيد في الدنيا ، والترغيب في الآخرة ؛ لأن قوله : (ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا) أي : ما يتمتع به فيها ، ثم يذهب ولا يبقى ، قال ـ عليه‌السلام ـ «إنّما الدّنيا متاع ، وليس من متاع الدّنيا شيء أفضل من المرأة الصّالحة» (١) ، وقال ـ عليه‌السلام ـ : «ازهد في الدّنيا يحبّك الله» أي : في متاعها من الجاه والمال الزائد على الضّروريّ والله ـ تعالى ـ أعلم.

قوله تعالى : (قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَأَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (١٥) الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَقِنا عَذابَ النَّارِ (١٦) الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ)(١٧)

قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو (٢) بتحقيق الأولى ، وتسهيل الثانية ، والباقون بالتحقيق فيهما ، ومد هاتين الهمزتين ـ بلا خلاف ـ قالون عن نافع ، وأبو عمرو وهشام عن ابن عامر بخلاف عنهما والباقون بغير مدّ على أصولهم من تحقيق وتسهيل.

__________________

(١) أخرجه مسلم (٢ / ١٠٩٠) كتاب الرضاع باب خير متاع الدنيا المرأة الصالحة (٦٤ ـ ١٤٦٧) وأبو نعيم في الحلية (٣ / ٣١٠) عن عبد الله بن عمرو بن العاص والبغوي في شرح السنة (٥ / ٩).

(٢) انظر : السبعة ١٣٤ ، وإتحاف فضلاء البشر ١ / ٤٧٠ ، ٤٧١ ، والدر المصون ٢ / ٣٥ ، وحجة القراءات ١٥٥ ـ ١٥٧.

٨١

وورش على أصله من نقل حركة الهمزة الأولى إلى لام «قل».

ولا بد من ذكر اختلاف القراء في هذه اللفظة وشبهها ، وتحرير مذاهبهم ؛ فإنه موضع عسير الضبط ، فنقول : الوارد من ذلك في القرآن الكريم ثلاثة مواضع ـ أعني همزتين ، أولاهما مفتوحة ، والثانية مضمومة ـ الأول : هذا الموضع.

والثاني : (أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا) [ص : ٨] ، والثالث : (أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا) [القمر : ٢٥] ، والقرّاء فيها على خمس مراتب :

أحدها : مرتبة قالون ، وهي تسهيل الثانية بين بين ، وإدخال ألف بين الهمزتين ـ بلا خلاف ـ كذا رواه عن نافع.

الثانية : مرتبة ورش وابن كثير ، وهي تسهيل الثانية ـ أيضا ـ بين بين ، من غير إدخال ألف بين الهمزتين بخلاف كذا روى ورش عن نافع.

الثالثة : مرتبة الكوفيين وابن ذكوان عن ابن عامر ، وهي تحقيق الثانية ، من غير إدخال ألف بلا خلاف ـ ، كذا روى ابن ذكوان عن ابن عامر.

الرابعة : مرتبة هشام ، وهي أنه روي عنه ثلاثة أوجه :

الأول : التحقيق ، وعدم إدخال ألف بين الهمزتين في الثلاث مواضع.

الثاني : التحقيق ، وإدخال ألف بينهما في المواضع الثلاثة.

الثالث : التفرقة بين السور ، فيحقق ويقصر في هذه السورة ، ويسهّل ويمد في السورتين الأخريين.

الخامسة : مرتبة أبي عمرو ، وهي تسهيل الثانية مع إدخال الألف وعدمه. وتسهيل هذه الأوجه تقدم في أول البقرة.

ونقل أبو البقاء (١) أنه قرىء : أونبّئكم ـ بواو خالصة بعد الهمزة ؛ لانضمامها ـ وليس ذلك بالوجه.

وفي قوله : (أَأُنَبِّئُكُمْ) التفات من الغيبة ـ في قوله : «للنّاس» ـ إلى الخطاب ، تشريفا لهم.

«بخير» متعلق بالفعل ، وهذا الفعل لمّا لم يضمن معنى «أعلم» تعدى لاثنين ، الأول تعدى إليه بنفسه ، وإلى الثاني بالحرف ، ولو ضمّن معناها لتعدّى إلى ثلاثة.

و «من ذلكم» متعلق ب «خير» ؛ لأنه على بابه من كونه أفعل تفضيل ، والإشارة ب «ذلكم» إلى ما تقدم من ذكر الشهوات وتقدم تسويغ الإشارة بالمفرد إلى الجمع ، ولا

__________________

(١) ينظر : الإملاء ١ / ١٢٧.

٨٢

يجوز أن تكون «خير» ليست للتفضيل ، ويكون المراد به خيرا من الخيور ، ويكون «من» صفة لقوله : «خير».

قال أبو البقاء (١) : «من» في موضع نصب بخير ، تقديره [بما يفضل من ذلك ، ولا يجوز أن يكون صلة لخير ؛ لأن ذلك يوجب أن تكون الجنة وما فيها](٢) مما رغبوا فيه بعضا لما زهدوا فيه من الأموال ونحوها ، وتابعه في ذلك أبو حيان.

فصل

كيفية النّظم أنه ـ تعالى ـ لما عدّد نعم الدنيا بيّن ـ هنا ـ أن منافع الآخرة خير منها كما قال في آية أخرى : (وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى) [الأعلى : ١٧] ؛ لأن نعم الدنيا مشوبة بالأنكاد ، فانية ، ونعم الآخرة خالصة ، باقية.

قوله : (لِلَّذِينَ اتَّقَوْا) يجوز فيه أربعة أوجه :

أحدها : أنه متعلّق بخير ، ويكون الكلام تم هنا ، وترفع «جنّات» على خبر مبتدأ محذوف ، تقديره هو جنات ، أي ذلك الذي هو خير مما تقدم جنات ، فالجملة بيان وتفسير للخيريّة ، ومثله قوله تعالى : (قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ) [الحج : ٧٢] ، ثم قال : (النَّارُ وَعَدَهَا اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا) ويؤيد ذلك قراءة «جنّات» (٣) ـ بكسر التاء ـ على أنها بدل من «بخير» فهي بيان للخير.

والثاني : أن الجارّ خبر مقدم ، و «جنّات» مبتدأ مؤخر ، أو يكون «جنّات» فاعلا بالجار قبله ـ وإن لم يعتمد ـ عند من يرى ذلك ، وعلى هذين التقديرين ، فالكلام تم عند قوله : (مِنْ ذلِكُمْ ،) ثم ابتدأ بهذه الجملة ، وهي ـ أيضا ـ مبينة ومفسّرة للخيرية.

وأما الوجهان الأخيران فذكرهما مكي ـ مع جرّ «جنّات» ـ يعني أنه لم يجز الوجهين إلا إذا جررت «جنات» بدلا من «خير».

الوجه الأول : أنه متعلق ب «أؤنبّئكم».

الوجه الثاني : أنه صفة ل «خير».

ولا بد من إيراد نصه ؛ فإن فيه إشكالا ، قال ـ رحمه‌الله ـ بعد أن ذكر أن «للّذين» خبر مقدّم ، و «جنات» مبتدأ ـ : «ويجوز الخفض في «جنات» على البدل من «خير» على أن تجعل اللام في «للّذين» متعلقة ب «أؤنبّئكم» ، أو تجعلها صفة ل «خير» ، ولو جعلت اللام متعلقة بمحذوف قامت مقامه لم يجز خفض «جنات» ؛ لأن حروف الجر ، والظروف

__________________

(١) ينظر : الإملاء ١ / ١٢٧.

(٢) سقط في أ.

(٣) قرأ بها يعقوب.

انظر : الشواذ ١٩ ، والبحر المحيط ٢ / ٤١٧ ، والدر المصون ٢ / ٣٦.

٨٣

إذا تعلقت بمحذوف ، وقد قامت مقامه ـ صار فيها ضمير مقدر مرفوع ، واحتاجت إلى ابتداء يعود عليه ذلك الضمير ، كقولك : لزيد مال ، في الدار زيد ، خلفك عمرو ، فلا بد من رفع «جنّات» ، إذا تعلقت اللام بمحذوف ، ولو تعلقت بمحذوف على أن لا ضمير فيها لرفعت «جنّات» بفعلها ، وهو مذهب الأخفش في رفعه ما بعد الظروف وحروف الخفض بالاستقرار ، وإنما يحسن ذلك عند حذاق النحويين إذا كانت الظروف ، أو حروف الخفض صفة لما قبلها ، فحينئذ يتمكن ويحسن رفع الاسم بالاستقرار ، وقد شرحنا ذلك وبيناه في أمثلة ؛ وكذلك إذا كانت أحوالا».

فقد جوّز تعلّق هذه اللام ب «أؤنبّئكم» أو بمحذوف على أنها صفة لخير ، بشرط أن يجرّ لفظ «جنات» على البدل من «خير» وظاهره أنه لا يجوز ذلك مع رفع «جنّات» وعلّل ذلك بأن حروف الجر تتعلق بمحذوف ، يحمل الضمير ، فوجب أن يؤتى له بمبتدأ هو «جنّات» وهذا الذي قاله من هذه الحيثية لا يلزم ؛ إذ لقائل أن يقول : أجوز تعلق اللام بما ذكرت من الوجهين مع رفع «جنّات» على أنها خبر مبتدأ محذوف ، لا على الابتداء حتى يلزم ما ذكرت ولكن الوجهين ضعيفان من جهة أخرى ، وهو أن المعنى ليس واضحا بما ذكر مع أنّ جعله صفة لخير أقوى من جعلها متعلقة ب «أؤنبّئكم» ؛ إذ لا معنى له ، وقوله ـ في الظروف وحروف الجر ـ : إنها عند الحذاق إنما ترفع الفاعل إذا كانت صفات .. وكذلك إن كانت أحوالا ـ فيه قصور ؛ لأن هذا الحكم مستقر لها في مواضع :

منها : الموضعان اللذان ذكرهما.

وثالثها : أن يقعا صلة.

ورابعها : أن يقعا خبرا لمبتدأ.

وخامسها : أن تعتمد على نفي.

وسادسها : أن تعتمد على استفهام. وقد تقدم تحرير هذا.

فصل

قد بيّنا في قوله تعالى : (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) [البقرة : ٢] معنى التقوى ، وبالجملة فإن المتقي هو الآتي بالواجبات ، المحترز عن المحظورات.

وقيل : التقوى عبارة عن اتقاء الشرك ؛ لأن التقوى ـ في عرف القرآن ـ مختصة بالإيمان. قال تعالى : (وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى) [الفتح : ٢٦] ، وظاهر اللفظ يطابق الامتنان بحقيقة التقوى ، وهي حاصلة عند حصول اتقاء الشرك وعرف القرآن مطابق لذلك ، فوجب حمله على من اتقى الكفر.

قوله : (عِنْدَ رَبِّهِمْ) فيه أربعة أوجه :

٨٤

أحدها : أنه في محل نصب على الحال من «جنّات» ؛ لأنه ـ في الأصل ـ صفة لها ، فلما قدّم نصب حالا.

الثاني : أنه متعلق بما تعلق به «للّذين» من الاستقرار ، إذا جعلناه خبرا ، أو رافعا «جنّات» بالفاعلية ، أما إذا علقته ب «خير» أو «أؤنبّئكم» فلا ؛ لعدم تضمينه الاستقرار.

الثالث : أن يكون معمولا ل «تجري» ، وهذا لا يساعد عليه المعنى.

الرابع : أنه متعلق ب «خير» ، كما تعلق به «للّذين» ، كما تقدم.

ويضعف أن يكون الكلام قد تم عند قوله : (لِلَّذِينَ اتَّقَوْا) ثم يبتدأ بقوله : (عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ) ـ على الابتداء والخبر ـ وتكون الجملة مبيّنة ومفسّرة للخيرية ، كما تقدم في غيرها. وقرأ يعقوب (١) «جنّات» بكسر التاء ـ وفيه ثلاثة أوجه :

أحدها : أنها بدل من لفظ «بخير» فتكون مجرورة ، وهي بيان له ـ كما تقدم.

الثاني : أنها بدل من محل «بخير» ـ ومحله النصب ـ وهو في المعنى كالأول.

الثالث : أنه منصوب بإضمار «أعني» ، وهو نظير الوجه الصائر إلى رفعه على خبر ابتداء مضمر.

قوله : «تجري» صفة ل «جنّات» ، فهو في محل رفع ، أو نصب ، أو جر ـ على حسب القراءتين ، والتخاريج فيهما ـ و «من تحتها» متعلق ب «تجري» وجوز فيه أبو البقاء أن يتعلق بمحذوف على أنه حال من «الأنهار» قال : أي : تجري الأنهار كائنة تحتها ، وهذا يشبه تهيئة العامل للعمل في شيء وقطعه عنه.

قوله : (خالِدِينَ) حال ، وصاحبها الضمير المستكن في «للّذين» والعامل فيها ـ حينئذ ـ الاستقرار المقدّر.

وقال أبو البقاء (٢) : «إن شئت من الهاء في : تحتها» ، وهذا الذي ذكره ـ إنما يتمشى على مذهب الكوفيين ، وذلك أن جعلها حالا من الهاء في تحتها يؤدي إلى جريان الصفة على غير من هي له في المعنى ؛ لأن الخلود من أوصاف الجنة ولذلك جمع هذه الحال جمع العقلاء ، فكان ينبغي أن يؤتى بضمير مرفوع بارز ، هو الذي كان مستترا في الصفة نحو : زيد هند ضاربها هو ، والكوفيون يقولون : إن أمن اللبس ـ كهذا ـ لم يجب بروز الضمير ، وإلا يجب ، والبصريون لا يفرقون. وتقدم البحث في ذلك.

قوله : (وَأَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوانٌ) من رفع «جنّات» ـ كما هو المشهور ـ كان عطف «أزواج» و «رضوان» سهلا ، ومن كسر التاء فيجب ـ حينئذ ـ على قراءته أن يكون مرفوعا على أنه مبتدأ خبره مضمر ، تقديره : ولهم أزواج ، ولهم رضوان ، وتقدم الكلام على «أزواج مطهّرة» في البقرة.

__________________

(١) ينظر : الإملاء ١ / ١٢٧.

(٢) ينظر : الإملاء ١ / ١٢٨.

٨٥

فصل

اعلم أن النعمة ـ وإن عظمت ـ لن تكمل إلا بالأزواج اللواتي لا يحصل الأنس إلّا بهنّ وقد وصفهن بصفة واحدة جامعة لكل مطلوب ، فقال : «مطهّرة» فيدخل في ذلك الطهارة من الحيض والنفاس والأخلاق الدنيئة ، والقبح ، وتشويه الخلقة ، وسوء العشرة ، وسائر ما ينفر عنه الطبع.

قوله : «ورضوان» فيه لغتان :

ضم الراء ، وهي لغة تميم وقيس ، وبها قرأ عاصم (١) في جميع القرآن إلا في الثانية من سورة المائدة وهي (مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ) [المائدة : ١٦] ، فبعضهم نقل عنه الجزم بكسرها ، وبعضهم نقل عنه الخلاف فيها خاصة.

والكسر ، وهو لغة الحجاز ، وبها قرأ الباقون (٢) ـ وهل هما بمعنى واحد ، أو بينهما فرق؟

قولان :

أحدهما : أنهما مصدران بمعنى واحد ـ كالعدوان.

قال الفرّاء : «رضيت رضا ، ورضوانا ورضوانا ، ومثل الرّضوان ـ بالكسر ـ الحرمان ، وبالضم الطّغيان ، والرّجحان ، والكفران ، والشّكران».

الثاني : أن المكسور اسم ، ومنه رضوان : خازن الجنة صلّى الله على نبينا وعلى أنبيائه وملائكته. والمضموم هو المصدر ، و «من الله» صفة ل «رضوان».

فصل

روى أبو سعيد الخدري أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إنّ الله يقول لأهل الجنّة يا أهل الجنّة ، فيقولون : لبّيك وسعديك ، والخير في يديك ، فيقول : هل رضيتم؟ فيقولون : وما لنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك؟ فيقول : ألا أعطيكم أفضل من ذلك؟ فيقولون : يا ربّ ، وأيّ شيء أفضل من ذلك؟ فيقول : أحلّ عليكم رضواني ، فلا أسخط عليكم بعده أبدا»(٣).

__________________

(١) في رواية أبي بكر عنه.

انظر : الكشف ١ / ٣٣٧ ، والسبعة ٢٠٢ ، والحجة ٣ / ٢١ ، والعنوان ٧٨ وحجة القراءات ١٥٧ ، وشرح الطيبة ٤ / ١٤٨ ، وإعراب القراءات ١ / ١٠٨ ، وشرح شعلة ٣٠٩ ، وإتحاف ١ / ٤٧٢.

(٢) ينظر القراءة السابقة.

(٣) أخرجه البخاري (٩ / ٢١٩) كتاب التوحيد باب : كلام الرب عزوجل مع أهل الجنة رقم (٧٥١٨) ومسلم كتاب الجنة رقم (٩) والترمذي (٢٥٥٢) وأحمد (٣ / ٨٨) والطبري (١٠ / ١٢٦) والبغوي في «تفسيره» (١ / ٣٢٧) وأبو نعيم في «الحلية» (٦ / ١٣٨).

٨٦

ثم قال : «والله بصير بالعباد» ، أي : عالم بمصالحهم ، فيجب أن يرضوا لأنفسهم ما اختاره لهم.

قوله تعالى : (الَّذِينَ يَقُولُونَ) يحتمل أن يكون محلّه الرفع ، والنصب ، والجرّ ، فالرفع من وجهين :

أحدهما : أنه مبتدأ محذوف الخبر ، تقديره : الذين يقولون كذا مستجاب لهم ، أو لهم ذلك الجزاء المذكور.

الثاني : أنه خبر مبتدأ محذوف ، كأنه قيل : من هم هؤلاء المتقون؟ فقيل : الذين يقولون كيت ، وكيت.

والنصب من وجه واحد ، وهو النصب بإضمار أعني ، أو أمدح ، وهو نظير الرفع على خبر ابتداء مضمر ، ويسمّيان : الرفع على القطع ، والنصب على القطع.

والجر من وجهين :

أحدهما : النعت.

والثاني : البدل ، ثم لك ـ في جعله نعتا أو بدلا ـ وجهان :

أحدهما : جعله نعتا للّذين اتّقوا ، أو بدلا منه.

والثاني : جعله نعتا للعباد ، أو بدلا منهم.

واستضعف أبو البقاء جعله نعتا للعباد ، قال : [ويضعف أن يكون صفة للعباد](١) ؛ لأن فيه تخصيصا لعلم الله ، وهو جائز ـ على ضعفه ـ ويكون الوجه فيه إعلامهم بأنه عالم بمقدار مشقتهم في العبادة ، فهو يجازيهم عليها ، كما قال : (وَاللهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ) [النساء : ٢٥].

والجملة من قوله : (وَاللهُ بَصِيرٌ) يجوز أن تكون معترضة ، لا محل لها ، إذا جعلت (الَّذِينَ يَقُولُونَ) تابعا ل «الذين اتقوا» ـ نعتا أو بدلا ـ ، وإن جعلنه مرفوعا ، أو منصوبا فلا.

فصل

اعلم أن قولهم (رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا) يدل على أنهم توسّلوا بمجرد الإيمان إلى طلب المغفرة ، والله ـ تعالى ـ مدحهم بذلك ، وأثنى عليهم ، فدلّ هذا على أن العبد ـ بمجرد الإيمان ـ يستوجب الرحمة والمغفرة من الله تعالى ، ويؤيّد هذا قوله تعالى : (رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ) [آل عمران : ١٩٣].

__________________

(١) سقط في ب.

٨٧

فإن قيل : أليس أنه تعالى اعتبر جملة الطاعات في حصول المغفرة ؛ حيث أتبع هذه الآية بقوله : (الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ)؟

فالجواب : أن هذه الآية تؤكد ما قلنا ؛ لأنه ـ تعالى ـ جعل مجرد الإيمان وسيلة إلى طلب المغفرة ، ثم ذكر بعده صفات المطيعين ، وهي كونهم صابرين صادقين ، ولو كانت هذه الصفات شرائط للحصول على المغفرة لكان ذكرها قبل طلب المغفرة أولى ، فلما رتّب طلب المغفرة على مجرد الإيمان ، ثم ذكر بعده هذه الصفات ، علمنا أن هذه الصفات غير معتبرة في حصول أصل المغفرة ، وإنما هي معتبرة في حصول كمال الدرجات.

قوله تعالى : (الصَّابِرِينَ) إن قدرت «الذين يقولون» منصوب المحل ، أو مجروره ـ على ما تقدم ـ كان «الصّابرين» نعتا له ـ على كلا التقديرين ، فيجوز أن يكون في محل نصب ، وأن يكون في محل جر ، وإن قدرته مرفوع المحل تعين نصب «الصّابرين» بإضمار «أعني».

فصل

المراد بالصابرين في أداء المأمورات ، وترك المحظورات ، وعلى البأساء ، والضراء وحين البأس ، والصادقين في إيمانهم.

قال قتادة : «هم قوم صدقت نيّاتهم ، واستقامت قلوبهم وألسنتهم ، فصدقوا في السر والعلانية».

فالصدق يجري على القول والفعل والنية ، فالصدق في القول مشهور ـ وهو تجنّب الكذب ـ والصدق في الفعل الإتيان به تاما ، يقال : صدق فلان في القتال ، وصدق في الحكمة ، والصدق في النية العزم الجازم حتى يبلغ الفعل.

«القانتين» المطيعين ، المصلّين ، والقنوت : عبارة عن الدوام على الطاعة والمواظبة عليها ، «والمنفقين» أموالهم في طاعة الله ، ويدخل فيه إنفاق المرء على نفسه ، وأهله ، وأقاربه ، وصلة رحمه ، وفي الزكاة ، والجهاد ، وسائر وجوه البر.

(وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ).

قال مجاهد وقتادة والكلبيّ : يعني المصلين بالأسحار (١).

وعن زيد بن أسلم : هم الذين يصلون الصبح في جماعة (٢).

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٢٦٥) عن قتادة.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٢٦٦) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٢٠) وعزاه إلى ابن أبي شيبة وابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم.

٨٨

وقال الحسن : مدوا الصلاة إلى السّحر ، ثم استغفروا (١).

وقال نافع : كان ابن عمر يحيي الليل ، ثم يقول : يا نافع ، أسحرنا؟ فيقول : لا ، فيعاود الصلاة ، فإذا قلت : نعم ، قعد يستغفر الله ، ويدعو حتى يصبح (٢).

وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ينزل الله إلى السّماء الدّنيا كلّ ليلة ـ حين يبقى ثلث اللّيل ـ فيقول : أنا الملك ، أنا الملك ، من ذا الّذي يدعوني فأستجيب له؟ من ذا الّذي يسألني فأعطيه؟ من ذا الّذي يستغفرني فأغفر له؟» (٣) رواه مسلم.

قال القرطبيّ : وقد اختلف في تأويله ، وأولى ما قيل فيه ما جاء في كتاب النسائي ـ مفسّرا ـ عن أبي هريرة وأبي سعيد ـ رضي الله عنهما ـ قالا : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله ـ عزوجل ـ يمهل حتّى يمضي شطر اللّيل الأوّل ، ثمّ يأمر مناديا ، يقول : هل من داع يستجاب له؟ هل من مستغفر يغفر له؟ هل من سائل يعطى؟» (٤) ، صححه أبو محمد عبد الحق ، وهو يرفع الإشكال ، ويوضّح كلّ احتمال ، وأن الأول من باب حذف المضاف ، أي : ينزل ملك ربّنا ، فيقول. وقد روي «ينزل» ـ بضمّ الياء ـ وهو يبيّن ما ذكرنا.

وحكي عن الحسن أن لقمان قال لابنه : «لا تكوننّ أعجز من هذا الدّيك ؛ يصوّت بالأسحار وأنت نائم على فراشك». واعلم أن وقت السّحر أطيب أوقات النوم ، فإذا أعرض العبد عن تلك اللذة ، وأقبل على العبودية ، كانت الطاعة أكمل ، وأشقّ ، فيكثر ثوابها ، وأيضا فإن النوم هو الموت الأصغر ، وعند السحر كأنّ الأموات تصير أحياء ، فيكون وقتا للوجود العام.

و «الأسحار» جمع سحر ـ بفتح العين وسكونها ـ واختلف أهل اللغة في السّحر ، أيّ وقت هو؟

__________________

(١) ذكره البغوي في تفسيره ١ / ٢٨٥.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٢٦٦) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٢٠) وعزاه لابن المنذر وابن أبي حاتم.

(٣) أخرجه البخاري (٢ / ١٢١) كتاب تقصير الصلاة باب الدعاء في الصلاة (١١٤٥) ومسلم (٢ / ١٧٥) ومالك (١ / ٢١٤) رقم (٣٠) والترمذي (٢ / ٢٦٣) وابن نصر في قيام الليل (٣٥) والبيهقي (٣ / ٢) وفي «الأسماء والصفات» (٣١٦) وأحمد (٢ / ٤٨٧) والدارمي (١ / ٣٤٧) وابن ماجه (١٣٦٦) وأبو عوانة (٢ / ٢٨٨) والطيالسي (٦ / ٢٥) عن أبي هريرة.

وقال الترمذي : حديث حسن صحيح وقد روي من أوجه كثيرة عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وروي عنه أنه قال : ينزل الله عزوجل حين يبقى ثلث الليل الآخر .. وهو أصح الروايات.

(٤) أخرجه مسلم (٢ / ١٧٦) وأبو عوانة (٢ / ٢٨٧) والطيالسي (٢٢٣٢ ، ٢٣٨٥) والبيهقي في «الأسماء والصفات» (٣١٧) وأحمد (٢ / ٣٨٣ و ٣ / ٣٤ ، ٤٣ ، ٩٤).

٨٩

فقال الزّجّاج (١) وجماعة : إنه وقت قبل طلوع الفجر ، ومنه تسحر ، أي : أكل في ذلك الوقت واستحر ـ إذا سافر فيه ـ.

قال زهير : [الطويل]

١٣٦٤ ـ بكرن بكورا ، واستحرن بسحرة

فهنّ لوادي الرّسّ كاليد للفم (٢)

وقال الرّاغب (٣) : «السّحر : اختلاط ظلام آخر الليل بضياء النهار ، وجعل اسما لذلك الوقت ، ويقال : لقيته بأعلى السحرين ، والمسحر : الخارج سحرا ، والسّحور : اسم للطعام المأكول سحرا ، والتّسحّر : أكله».

والمستحر : الطائر الصيّاح في السّحر.

قال الشاعر : [المتقارب]

١٣٦٥ ـ يعلّ به برد أنيابها

إذا غرّد الطّائر المستحر (٤)

وقال بعضهم : أسحر الطائر ، أي : صاح ، وتحرك في صياحه ، وأنشد البيت ، وهذا وإن كان مطلقا فإنما يريد ما ذكر بالصياح في السّحر ، ويقال : أسحر الرجل إذا دخل في وقت السحر كأظهر ـ أي : دخل في وقت الظهر.

قال : [المتقارب]

١٣٦٦ ـ وأدلج من طيبة مسرعا

فجاء إلينا وقد أسحرا (٥)

ومثله : استحر أيضا.

وقال بعضهم : السّحر من ثلث الليل الأخير إلى طلوع الفجر.

وقال بعضهم ـ أيضا ـ : السحر ـ عند العرب ـ من آخر الليل ، ثم يستمر حكمه إلى الإسفار كلّه ، يقال له سحر قيل : وسمي السحر سحرا ؛ لخفائه ، ومنه قيل للسّحر سحر ؛ للطفه وخفائه.

__________________

(١) ينظر معاني القرآن ١ / ٣٨٧.

(٢) ينظر البيت في ديوانه (١٠٤) وشرح المعلقات للشنقيطي (٨١) وشرح القصائد للتبريزي (١٣٣) وشرح المعلقات للزوزني (٧٨) واللسان (سحر) والمذكر والمؤنث ١ / ٣٣٣ ومجمع الأمثال ٢ / ١٣٤ والبحر المحيط ٢ / ٤١٦ والدر المصون ٢ / ٣٩. وروي عجزه هكذا :

فهي ووادي الرس فاليد في الفم

(٣) ينظر : المفردات ٢٣٢.

(٤) البيت لامرىء القيس ويروى عجز البيت هكذا :

إذا النجم وسط السماء استقل

ينظر ديوانه ص ٥٣ واللسان (سحر) والعمدة ٢ / ٥٥ وتاج العروس ٣ / ٢٥٩ والبحر المحيط ٢ / ٤١٦ والدر المصون ٢ / ٣٩.

(٥) ينظر : البحر المحيط ٢ / ٤١٦ ، والدر المصون ٢ / ٣٩.

٩٠

والسّحر ـ بسكون الحاء ـ منتهى قصبة الرّكبة ، ومنه قول عائشة ـ رضي الله عنها ـ : «مات بين سحري ونحري» (١) سمّي بذلك لخفائه.

و «سحر» فيه كلام كثير بالنسبة إلى الصرف وعدمه ، والتصرف وعدمه ، والإعراب وعدمه ، يأتي تفصيله ـ إن شاء الله تعالى ـ.

فإن قيل : كيف دخلت الواو على هذه الصفات ، وكلّها لقبيل واحد؟ ففيه جوابان :

أحدهما : أن الصفات إذا تكرّرت جاز أن يعطف بعضها على بعض بالواو ـ وإن كان الموصوف بها واحدا ـ ، ودخول الواو ـ في مثل هذا ـ تفخيم ؛ لأنه يؤذن بأن كل صفة مستقلة بالمدح.

الثاني : أن هذه الصفات متفرقة فيهم ، فبعضهم صابر ، وبعضهم صادق ، فالموصوف بها متعدّد. هذا كلام أبي البقاء.

وقال الزمخشريّ : «الواو المتوسطة بين الصفات للدلالة على كمالهم في كل واحدة منها».

قال أبو حيّان : «ولا نعلم أن العطف في الصفة بالواو يدل على الكمال».

قال شهاب الدين (٢) : «قد علمه علماء البيان ، وتقدم تحقيقه في أول سورة البقرة ، وما أنشدته على ذلك من لسان العرب».

والباء في قوله : «بالأسحار» بمعنى «في».

قوله تعالى : (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)(١٨)

العامة على «شهد» فعلا ماضيا ، مبنيّا للفاعل ، ولفظ الجلالة رفع به.

وقرأ أبو الشعثاء (٣) : «شهد» مبنيّا للمفعول ، ولفظ الجلالة قائم مقام الفاعل ، وعلى هذه القراءة يكون (أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) في محل رفع ؛ بدلا من اسم «الله» ـ بدل اشتمال ، تقديره : شهد وحدانية الله ـ تعالى ـ وألوهيته.

ولما كان المعنى على هذه القراءة كذلك أشكل عطف الملائكة ، وأولي العلم على لفظ الجلالة ، فخرّج ذلك على عدم العطف ، بل إما على الابتداء ، والخبر محذوف ؛ لدلالة الكلام عليه ، تقديره : والملائكة ، وأولو العلم يشهدون بذلك ، يدل عليه قوله تعالى : (شَهِدَ اللهُ) ، وإما على الفاعلية بإضمار محذوف ، تقديره : وشهد الملائكة ،

__________________

(١) أخرجه البخاري (٦ / ٣٣) كتاب المغازي باب مرض النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ووفاته (٤٤٤٥).

(٢) ينظر : الدر المصون ٢ / ٤٠.

(٣) ينظر الشواذ ١٩ ، والبحر المحيط ٢ / ٤٢٠ ، والدر المصون ٢ / ٤٠.

٩١

وأولو العلم بذلك ، وهو قريب من قوله تعالى : (يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ) الرجال [النور : ٣٦] ، في قراءة من بناه للمفعول.

وقوله : [الطويل]

١٣٦٧ ـ ليبك يزيد ضارع لخصومة

ومختبط ممّا تطيح الطّوائح (١)

وقرأ أبو المهلّب (٢) : «شهداء الله» جمعا على فعلاء ـ كظرفاء ـ منصوبا ، وروي عنه وعن أبي نهيك كذلك إلا أنه مرفوع ، وفي كلتا القراءتين مضاف للفظ الجلالة ، فأما النصب فعلى الحال ، وصاحبها هو الضمير المستتر في «المستغفرين».

قال ابن جني (٣) ، وتبعه الزمخشريّ ، وأبو البقاء : وأما الرفع فعلى إضمار مبتدأ ، أي : هم شهداء الله.

وشهداء : يحتمل أن يكون جمع شاهد ـ كشاعر وشعراء ـ وأن يكون جمع شهيد كظريف وظرفاء. وقرأ أبو (٤) المهلب ـ أيضا ـ : «شهدا الله» ـ بضم الشين والهاء والتنوين ونصب لفظ الجلالة وهو منصوب على الحال ؛ جمع شهيد ـ كنذير ونذر ـ واسم «الله» منصوب على التعظيم أي يشهدون الله ، أي : وحدانيته.

وروى النقاش أنه قرأ كذلك (٥) ، إلّا أنه قال : برفع الدال ونصبها ، والإضافة للفظ الجلالة ، فالرفع والنصب على ما تقدم في «شهداء» ، وأما الإضافة ، فيحتمل أن تكون محضة ، بمعنى أنك عرفتهم إضافتهم إليه من غير تعرض لحدوث فعل ، كقولك : عباد الله ، وأن يكون من نصب كالقراءة قبلها فتكون غير محضة.

__________________

(١) استشهد به على رفع «ضارع» بفعل محذوف من نوع الأول على رواية البناء للمفعول ، ليبك يزيد فيكون التقدير : يبكيه ضارع ، وقد روي بالبناء للفاعل : ليبك يزيد ضارع ـ فيكون «يزيد» مفعولا مقدما ، «وضارع» فاعل مؤخر ولا حذف في الكلام ، واعتبر العسكري هذه الرواية هي الصحيحة ، والرواية الأولى من تغيير النحويين ، فقال في كتابه «التصحيف» : ومما قلبوه وخالفهم فيه الرواة قول الشاعر : لبيك يزيد ضارع ... البيت.

وقد رواه الأصمعي وغيره بالبناء للفاعل ، ومثله : كتاب فعلت وأفعلت للسجستاني ، وزعم بعضهم أنه لا حذف في البيت على الرواية الأولى ؛ لجواز أن يكون «يزيد» منادى «وضارع» نائب الفاعل.

واختلف في القياس على ذلك : فمنعه الجمهور ، وجوزه الجرمي ، وابن جني ، وابن مالك ، حيث لم يلتبس الفاعل بالنائب عنه.

ينظر سيبويه ١ / ١٤٥ ، ١٨٣ ، العيني ٢ / ٤٥٤ ، ابن يعيش ١ / ٨٠ ، الهمع ١ / ١٦٠ ، الخصائص ٢ / ٣٥٣ ، ٤٢٤ ، التصحيف للعسكري ـ ٢٠٨ ، شرح الكافية للرضي ١ / ٦٧ ، ٦٨ معاهد التنصيص ١ / ٢٠٢ ، ٢٠٣ ، شواهد الكشاف ـ ٦٥ ، الكافية ١ / ٧٥.

(٢) انظر : البحر المحيط ٢ / ٢٤٠ ، والدر المصون ٢ / ٤٠.

(٣) ينظر المحتسب ١ / ٢٣٠.

(٤) انظر : الدر المصون ٢ / ٤١.

(٥) انظر : المحرر الوجيز ١ / ٤١٢ ، ٤١٣ ، والبحر المحيط ٢ / ٤٢٠ ، والدر المصون.

٩٢

ونقل الزمخشريّ أنه قرىء «شهداء لله» (١) جمعا على فعلاء ، وزيادة لام جر داخلة على اسم الله ، وفي الهمزة النصب والرفع ، وخرجهما على ما تقدم من الحال والخبر ، وعلى هذه القراءات كلها ففي رفع «الملائكة» وما بعدها ثلاثة أوجه :

أحدها : الابتداء ، والخبر محذوف.

والثاني : أنه فاعل بفعل مقدر.

الثالث : ـ ذكره الزمخشريّ ـ وهو النسق على الضمير المستكن في «شهد الله» ، قال : «وجاز ذلك لوقوع الفاصل بينهما».

قوله : «أنّه» العامة على فتح الهمزة ، وإنما فتحت ؛ لأنها على حذف حرف الجر ، أي: شهد الله بأنه لا إله إلا هو ، فلما حذف الحرف جاز أن يكون محلها نصبا ، وأن يكون محلها جرّا.

وقرأ ابن عباس «إنّه» ـ بكسر الهمزة (٢) ـ وفيها تخريجان :

أحدهما : إجراء «شهد» مجرى القول ، لأنه بمعناه ، وكذا وقع في التفسير : شهد الله أي : قال الله ، ويؤيده ما نقله المؤرّج من أن «شهد» بمعنى «قال» لغة قيس بن عيلان.

الثاني : أنها جملة اعتراض ـ بين العامل ـ وهو شهد ـ وبين معموله ـ وهو قوله : «إنّ الدّين عند الله الإسلام» ، وجاز ذلك لما في هذه الجملة من التأكيد ، وتقوية المعنى وهذا إنما يتجه على قراءة فتح «أنّ» من «أنّ الدّين» ، وأما على قراءة الكسر فلا يجوز ، فتعيّن الوجه الأول.

والضمير في «أنّه» يحتمل العود على الباري ؛ لتقدم ذكره ، ويحتمل أن يكون ضمير الأمر ، ويؤيّد ذلك قراءة عبد الله : شهد الله أن لا إله إلا هو ف «أن» مخفّفة في هذه القراءة ، والمخففة لا تعمل إلا في ضمير الشأن ـ ويحذف حينئذ ـ ولا تعمل في غيره إلا ضرورة [وأدغم أبو عمرو بخلاف عنه واو هو في واو النسق بعدها ، وقد تقدم تحقيق هذه المسألة عند قوله : «هو والّذين آمنوا معه»](٣).

فصل

قال سعيد بن جبير : كان حول البيت ثلاثمائة وستون صنما ، فلما نزلت هذه الآية خررن سجّدا (٤).

__________________

(١) انظر : الكشاف ١ / ٣٤٥.

(٢) انظر : الشواذ ١٩ ، والمحرر الوجيز ١ / ٤١٢ ، والبحر المحيط ٢ / ٤٢٠ ، والدر المصون ٢ / ٤١.

(٣) سقط في ب.

(٤) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٢٢) وعزاه لعبد بن حميد وابن المنذر عن سعيد بن جبير.

٩٣

وقيل : نزلت هذه الآية في نصارى نجران.

وقال الكلبيّ : قدم حبران من أحبار الشام على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلما أبصر المدينة قال أحدهما : ما أشبه هذه المدينة بصفة مدينة النبيّ الذي يخرج في آخر الزمان؟ فلما دخلا عليه عرفاه بالصفة ، فقالا له : أنت محمد؟ قال : نعم ، قالا : وأنت أحمد؟ قال : أنا محمد وأحمد ، قال : فإنا نسألك عن شيء ، فإن أخبرتنا به آمنّا بك ، وصدقناك ، فقال : سلا ، فقالا : أخبرنا عن أعظم شهادة في كتاب الله عزوجل ، فأنزل الله هذه الآية ، فأسلم الرجلان (١).

فصل

قال بعض المفسرين : شهد الله ، أي : قال.

وقيل : بيّن الله ؛ لأن الشهادة تبيين.

وقال مجاهد : حكم الله.

وقيل : أعلم الله أنه لا إله إلا هو.

فإن قيل : المدّعي للوحدانية هو الله ـ تعالى ـ فكيف يكون المدّعي شاهدا؟

فالجواب من وجوه :

أحدها : ما تقدم من أن «شهد» بمعنى «قال» أو «بيّن» أو «حكم».

الثاني : أن الشاهد الحقيقي ليس إلا الله ـ تعالى ـ ؛ لأنه الذي خلق الأشياء ، وجعلها دلائل على توحيده ، فلولا تلك الدلائل لم يتوصل أحد إلى معرفته بالوحدانية ، فهو ـ تعالى وفقهم ، حتى أرشدهم إلى معرفة التوحيد ، وإذا كان كذلك كان الشاهد على الوحدانية هو الله تعالى ، ولهذا قال : (قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللهُ شَهِيدٌ) [الأنعام : ١٩].

الثالث : أنه الموجود ـ أزلا وأبدا ـ وكل ما سواه فقد كان في الأزل عدما صرفا ، والعدم غائب ، والموجود حاضر ، وإذا كان ما سواه ـ في الأزل ـ غائبا ، وهو ـ تعالى ـ حاضر فبشهادته صار شاهدا ، فكان الحق شاهدا على الكل ، فلهذا قال : (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ).

فصل

تقدم أن شهادة الله الإخبار والإعلام ، ومعنى شهادة الملائكة والمؤمنين الإقرار والمراد بأولي العلم ، قيل : الأنبياء ـ عليهم‌السلام ـ.

قال ابن كيسان : يعني المهاجرين والأنصار.

وقال مقاتل : علماء مؤمني أهل الكتاب ، كعبد الله بن سلام وأصحابه (٢).

__________________

(١) ذكره القرطبي في «تفسيره» (٤ / ٢٧) عن الكلبي.

(٢) انظر تفسير القرطبي (٤ / ٢٧).

٩٤

قال السّديّ والكلبيّ : يعني جميع المؤمنين (١) الذين عرفوا وحدانية الله ـ تعالى ـ بالدلائل القاطعة ؛ لأن الشهادة إنما تكون مقبولة ، إذا كان الإخبار بها مقرونا بالعلم ، ولذلك قال ـ عليه‌السلام ـ : «إذا علمت مثل الشّمس فاشهد».

فإن قيل : إذا كانت شهادة الله عبارة عن إقامة الدلائل ، وشهادة الملائكة ، وأولي العلم عبارة عن الإقرار ، فكيف جمعهما في اللفظ؟

فالجواب : أن هذا ليس ببعيد ، ونظيره قوله ـ تعالى : (إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِ) [الأحزاب : ٥٦] ، ومعلوم أن الصلاة من الله تعالى الرحمة ـ كما ورد ـ ومن الملائكة الدعاء ، ومن المؤمنين الاستغفار ، وقد جمعهما في اللفظ.

فصل

دلّت هذه الآية على فضل العلم وشرف العلماء ؛ فإنه لو كان أحد أشرف من العلماء لقرنه الله باسمه واسم ملائكته ، كما قرن الله اسم العلماء ، وقال تعالى ـ لنبيه ـ : (وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً) [طه : ١١٤] ، فلو كان شيء أشرف من العلم لأمر الله ـ تعالى ـ نبيّه المزيد منه ، كما أمره أن يستزيد من العلم.

وقال عليه‌السلام : «العلماء ورثة الأنبياء» ، وقال : «العلماء أمناء الله على خلقه» [وهذا شرف للعلماء عظيم ، ومحل لهم في الدين خطير](٢).

قوله تعالى : (قائِماً بِالْقِسْطِ) في نصبه أربعة أوجه :

أحدها : أنه منصوب على الحال ، واختلفوا في ذلك ؛ فبعضهم جعله حالا من اسم «الله» ، فالعامل فيها «شهد».

قال الزمخشري : وانتصابه على أنه حال مؤكّدة منه ، كقوله تعالى : (وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً) [البقرة : ٩١].

قال أبو حيّان : وليس من باب الحال المؤكدة ؛ لأنه ليس من باب (وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا) [مريم : ١٥] ولا من باب : أنا عبد الله شجاعا فليس «قائما بالقسط» بمعنى «شهد» وليس مؤكدا مضمون الجملة السابقة في نحو : أنا عبد الله شجاعا ، وهو زيد شجاعا ، لكن في هذا التخريج قلق في التركيب ؛ يصير كقولك : أكل زيد طعاما وعائشة وفاطمة جائعا ، ففصل بين المعطوف عليه ، والمعطوف بالمفعول ، وبين الحال وصاحبه بالمفعول ، والمعطوف ، لكن يمشيه كونها كلّها معمولة لعامل واحد.

قال شهاب الدين (٣) : مؤاخذته له في قوله «مؤكّدة» غير ظاهرة ، وذلك أن الحال على قسمين :

__________________

(١) انظر المصدر السابق.

(٢) سقط في أ.

(٣) ينظر : الدر المصون ٢ / ٤٢.

٩٥

إما مؤكّدة ، وإما مبيّنة ـ وهي الأصل ـ فالمبيّنة لا جائز أن تكون ههنا ؛ لأن المبيّنة منتقلة ، والانتقال ـ هنا ـ محال ؛ إذ عدل الله ـ تعالى ـ لا يتغير.

وقيل : لنا قسم ثالث ـ وهي الحال اللازمة ـ فكان للزمخشري مندوحة عن قوله : «مؤكّدة» وعن قوله «لازمة».

فالجواب : أن كل مؤكّدة لازمة ، فلا فرق بين العبارتين ـ وإن كان الشيخ زعم أن إصلاح العبارة يحصل بقوله : لازمة ـ ويدل على ما ذكرته من ملازمة التأكيد للحال اللازمة وبالعكس الاستقراء وقوله : ليس معنى (قائِماً بِالْقِسْطِ) معنى «شهد» ممنوع ، بل معنى : «شهد» مع متعلّقه وهو (أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) ـ مساو لقوله : (قائِماً بِالْقِسْطِ) ؛ لأن التوحيد ملازم للعدل.

قال الزمخشريّ : «فإن قلت : لم جاز إفراده بنصب الحال دون المعطوفين عليه ، ولو قلت: جاءني زيد وعمرو راكبا لم يجز؟

قلت : إنما جاز هذا ؛ لعدم الإلباس ، كما جاء في قوله تعالى : (وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً) [الأنبياء : ٧٢] ـ إن انتصب «نافلة» حالا عن يعقوب ، ولو قلت : جاءني زيد وهند راكبا ، جاز ؛ لتميزه بالذكورة».

قال أبو حيّان : «وما ذكر من قوله : جاءني زيد وعمرو راكبا ، أنه لا يجوز ليس كما ذكر ، فهذا جائز ؛ لأن الحال قيد فيمن وقع منه أو به الفعل ، أو ما أشبه ذلك ، وإذا كان قيدا فإنه يحمل على أقرب مذكور ؛ ويكون «راكبا» حالا مما يليه ، ولا فرق في ذلك بين الحال والصفة لو قلت : جاءني زيد وعمرو الطويل ، لكان «الطويل» صفة لعمرو ، ولا تقول : لا تجوز هذه المسألة ؛ لأنه يلبس ، بل لا لبس في هذا ، وهو جائز ، فكذلك الحال ، وأما قوله : إن «نافلة» انتصب حالا عن «يعقوب» فلا يتعين أن يكون حالا عن يعقوب ؛ إذ يحتمل أن يكون «نافلة» مصدرا ـ كالعاقبة والعافية ـ ومعناه زيادة ، فيكون ذلك شاملا إسحاق ويعقوب ؛ لأنهما زيدا لإبراهيم بعد ابنه إسماعيل وغيره».

قال شهاب الدين (١) : «مراد الزمخشريّ بمنع جاءني زيد وعمرو راكبا إذا أريد أن الحال منهما معا ، أما إذا أريد أنها حال من واحد منهما فإنما يجعل لما يليه ؛ لعود الضمير على أقرب مذكور».

وبعضهم جعله حالا من «هو».

قال الزمخشريّ : فإن قلت : قد جعلته حالا من فاعل «شهد» فهل يصح أن ينتصب حالا عن «هو» في «لا إله إلّا هو»؟

__________________

(١) ينظر : الدر المصون ٢ / ٤٢.

٩٦

قلت : نعم ؛ لأنها حال مؤكّدة ، والحال المؤكدة لا تستدعي أن يكون في الجملة ـ التي هي زيادة في فائدتها ـ عامل فيها ، كقولك : «أنا عبد الله شجاعا» ، يعني : أن الحال المؤكدة لا يكون العامل فيها النصب شيئا من الجملة السابقة قبلها ، إنما تنتصب بعامل مضمر ، فإن كان المتكلم مخبرا عن نفسه ، نحو أنا عبد الله شجاعا قدرته : أحق ـ مبنيا للمفعول ـ شجاعا ، وإن كان مخبرا عن غيره قدرته ـ مخبرا عن الفاعل ـ نحو هذا عبد الله شجاعا أي : أحقه ، هذا هو المذهب المشهور في نصب مثل هذه الحال ، وفي المسألة قول ثان ـ لأبي إسحاق ـ أن العامل فيها هو خبر المبتدأ ؛ لما ضمّن من معنى المشتق ؛ إذ هو بمعنى المسمّى ، وقول ثالث أن العامل فيها المبتدأ ؛ لما ضمّن من معنى التنبيه وهي مسألة طويلة.

وبعضهم جعله حالا من الجميع على اعتبار كل واحد قائما بالقسط ، وهذا مناقض لما قاله الزمخشري من أن الحال مختصة بالله ـ تعالى ـ دون ما عطف عليه ، وهذا المذهب مردود بأنه لو جاز ذلك لجاز : جاء القوم راكبا ، أي : كل واحد منهم «راكبا» والعرب لا تقول ذلك ألبتة ففسد هذا ، فهذه ثلاثة أوجه في صاحب الحال.

الوجه الثاني من أوجه نصب قائما : نصبه على النعت للمنفي ب «لا» كأنه قيل : لا إله قائما بالقسط إلا هو.

قال الزمخشريّ : «فإن قلت : هل يجوز أن يكون صفة للمنفي ، كأنه قيل : لا إله قائما بالقسط إلّا هو؟

قلت : لا يبعد ؛ فقد رأيناهم يتسعون في الفصل بين الصفة والموصوف» ثم قال : «وهو أوجه من انتصابه عن فاعل «شهد» ، وكذلك انتصابه على المدح».

قال أبو حيّان : «وكأن الزمخشريّ قد مثل في الفصل بين الصفة والموصوف بقوله : لا رجل إلا عبد الله شجاعا ، ... وهذا الذي ذكره لا يجوز ؛ لأنه فصل بين الصفة والموصوف بأجنبي وهو المعطوفان اللذان هما (وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ ،) وليسا معمولين لشيء من جملة (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ)، بل هما معمولان ل «شهد» ، وهو نظير : عرف زيد أنّ هندا خارجة وعمرو وجعفر التميميّة ، فيفصل بين «هند» و «التميمية» بأجنبي ليس داخلا في خبر ما عمل فيها ، وذلك الأجنبي هو «عمرو وجعفر» المرفوعان المعطوفان ب «عرف» ـ على زيد ، وأما المثال الذي مثّل به ، وهو : لا رجل إلا عبد الله شجاعا ، فليس نظير تخريجه في الآية ؛ لأن قولك : إلا عبد الله ، بدل على الموضع من «لا رجل» ، فهو تابع على الموضع ، فليس بأجنبي على أنّ في جواز هذا التركيب نظرا ؛ لأنه بدل ، و «شجاعا» وصف ، والقاعدة : أنه إذا اجتمع البدل والوصف قدّم الوصف على البدل ، وسبب ذلك أنه على نية تكرار العامل ـ على الصحيح ـ فصار من جملة أخرى على هذا المذهب».

٩٧

الوجه الثالث : نصبه على المدح.

قال الزمخشري : فإن قلت : أليس من حق المنتصب على المدح أن يكون معرفة ، كقولك : الحمد لله الحميد ، «إنّا ـ معشر الأنبياء ـ لا نورث» (١) ، وقوله : [البسيط]

١٣٦٨ ـ إنّا ـ بني نهشل ـ لا ندعي لأب

 .......... (٢)

قلت : قد جاء نكرة كما جاء معرفة ، وأنشد سيبويه ـ مما جاء منه نكرة ـ قول الهذليّ : [المتقارب]

١٣٦٩ ـ ويأوي إلى نسوة عطّل

وشعثا مراضيع مثل السّعالي (٣)

قال أبو حيان : «انتهى هذا السؤال وجوابه ، وفي ذلك تخليط ؛ وذلك أنه لم يفرّق بين المنصوب على المدح ، أو الذم ، أو الترحم ، وبين المنصوب على الاختصاص ، وجعل حكمها واحدا ، وأورد مثالا من المنصوب على المدح ، وهو الحمد لله الحميد ، ومثالين من المنصوب على الاختصاص ، وهما : «إنّا ـ معشر الأنبياء ـ لا نورث» (٤) ، وقوله : «إنّا ـ بني نهشل ـ لا ندّعي لأب» والذي ذكره النحويون أن المنصوب على المدح أو الذم أو الترحّم ، قد يكون معرفة ، وقبله معرفة ـ يصلح أن يكون تابعا لها ، وقد لا يصلح ـ وقد يكون نكرة وقبله معرفة ، فلا يصلح أن يكون نعتا لها.

نحو قول النابغة :

١٣٧٠ ـ أقارع عوف ، لا أحاول غيرها

وجوه قرود تبتغي من تجادع (٥)

فنصب «وجوه قرود» على الذم ، وقبله معرفة ، وهي «أقارع عوف» ، وأما المنصوب على الاختصاص فنصوا على أنه لا يكون نكرة ، ولا مبهما ، ولا يكون إلا معرّفا بالألف واللام ، أو بالإضافة ، أو بالعلميّة ، أو لفظ «أي» ، ولا يكون إلا بعد ضمير متكلم مختص

__________________

(١) تقدم تخريجه قريبا.

(٢) البيت لبشامة بن حزن النهشلي وهو صدر بيت وعجزه :

عنه ولا هو بالأبناء يشرينا

ينظر الشذور ٦٧٤ والحماسة ١ / ١٠٢ والمؤتلف ٦٦ والكامل ٦٥ والكشاف ١ / ٤١٧ ، ٢ / ٥٢٦ وابن يعيش ٦ / ١٠١ ورغبة الآمال ٢ / ٦٦ والدر المصون ٢ / ٤٣.

(٣) البيت لأمية بن أبي عائذ الهذلي في خزانة الأدب ٢ / ٤٢ ، ٤٣٢ ، ٥ / ٤٠ ، وشرح أبيات سيبويه ١ / ١٤٦ ، وشرح أشعار الهذليين ٢ / ٥٠٧ ، وشرح التصريح ٢ / ١١٧ ، والكتاب ١ / ٣٩٩ ، ٢ / ٦٦ ، ولأبي أمية في المقاصد النحوية ٤ / ٦٣ ، وللهذلي في شرح المفصل ٢ / ١٨ ، وبلا نسبة في أمالي ابن الحاجب ١ / ٣٢٢ ، وأوضح المسالك ٣ / ٣١٧ ، ورصف المباني ص ٤١٦ ، وشرح الأشموني ٢ / ٤٠٠ ، والمقرب ١ / ٢٢٥ وينظر الدر المصون ٢ / ٤٤.

(٤) تقدم.

(٥) تقدم برقم ٦٩٩.

٩٨

به ، أو مشارك فيه ، وربما أتى بعد ضمير مخاطب».

الوجه الرابع : نصبه على القطع ، أي إنه كان من حقه أن يرتفع ؛ نعتا لله تعالى بعد تعريفه ب «أل» والأصل : شهد الله القائم بالقسط ، فلما نكّر امتنع إتباعه ، فقطع إلى النصب ، وهذا مذهب الكوفيين ، ونقله بعضهم عن الفراء ـ وحده ـ ، ومنه عندهم قول امرىء القيس :

١٣٧١ ـ ...........

وعالين قنوانا من البسر أحمرا (١)

وقد تقدم ذلك محققا.

الأصل : «من البسر الأحمر» ويؤيد هذا قراءة عبد الله (٢) «القائم بالقسط» ـ برفع القائم ؛ تابعا للفظ الجلالة ـ وخرّجه الزمخشري وغيره على أنه بدل من «هو» أو خبر مبتدأ محذوف تقديره : هو القائم.

قال أبو حيّان (٣) : ولا يجوز ذلك ؛ لأن فيه فصلا بين البدل والمبدل منه بأجنبي ، وهو المعطوفان ؛ لأنهما معمولان لغير العامل في المبدل منه ، ولو كان العامل في المعطوف هو العامل في المعطوف لم يجز ذلك ـ أيضا ـ ؛ لأنه إذا اجتمع العطف والبدل قدّم البدل على العطف. لو قلت : جاء زيد وعائشة أخوك ، لم يجز ، إنما الكلام : «جاء زيد أخوك وعائشة».

فيحصل في رفع «القائم» ـ على هذه القراءة ـ ثلاثة أوجه : النصب ، والبدل ، وخبر مبتدأ محذوف.

ونقل عن عبد الله ـ أيضا ـ أنه قرأ «قائم بالقسط» ـ بالتنكير (٤) ، ورفعه من وجهي البدل ، وخبر المبتدأ.

وقرأ أبو حنيفة : «قيّما» ـ بالنصب (٥) على ما تقدم ـ.

فهذه أربعة أوجه محرّرة من كلام القوم.

والظاهر أن رفع (وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ) عطف على لفظ الجلالة.

وقال بعضهم : الكلام تم عند قوله : (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) ، وارتفع «الملائكة» بفعل مضمر ، تقديره : وشهد الملائكة وأولو العلم بذلك ، وكأن هذا المذهب يرى أن شهادة الله مغايرة لشهادة الملائكة وأولي العلم ، ولا يجيز إعمال المشترك في معنييه ، فاحتاج من

__________________

(١) تقدم برقم ٤٣٤.

(٢) انظر : المحرر الوجيز ١ / ٤١٣ ، والبحر المحيط ٢ / ٢٤٠ ، والدر المصون ٢ / ٤٤١.

(٣) ينظر : البحر المحيط ٢ / ٤٢٢.

(٤) انظر : البحر المحيط ٢ / ٢٤٠ ، والدر المصون ٢ / ٤٠.

(٥) انظر : الكشاف ١ / ٢٤٤ ، والبحر المحيط ٢ / ٤٢٠ ، والدر المصون ٢ / ٤٥.

٩٩

أجل ذلك إلى إضمار فعل يوافق هذا المنطوق لفظا ، ويخالفه معنى ، وهذا نظير قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِ) كما قدمناه.

قال الزمخشريّ : «فإن قلت : هل دخل قيامه بالقسط في حكم شهادة الله والملائكة ، وأولي العلم ، كما دخلت الوحدانية؟

قلت : نعم ، إذا جعلته حالا من «هو» أو نصبا على المدح منه ، أو صفة للمنفي ، كأنه قيل : شهد الله والملائكة ، وأولو العلم أنه لا إله إلا هو ، وأنه قائم بالقسط».

فصل

معنى (قائِماً بِالْقِسْطِ) أي : قائما بتدبير الخلق ، كما يقال : فلان قائم بأمر فلان ، أي مدبّر له ، رزّاق ، مجاز بالأعمال ، والمراد بالقسط : العدل.

قال ابن الخطيب : وهذا العدل منه ما هو متصل بباب الدنيا ، ومنه ما هو متصل بباب الدين أما المتصل بالدنيا فانظر ـ أوّلا ـ في كيفية خلقه أعضاء الإنسان ؛ حتى تعرف عدل الله ـ تعالى ـ فيها ، ثم انظر إلى اختلاف أحوال الخلق في الحسن والقبح ، والغنى والفقر ، والصحة والسقم ، وطول العمر وقصره ، واللذة والآلام ، واقطع بأن كل ذلك عدل من الله ، وحكمة وصواب ، ثم انظر في كيفية خلق العناصر ، وأجرام الأفلاك ، وتقدير كل واحد منها بقدر معين ، وخاصيّة معينة ، واقطع بأن كل ذلك حكمة وصواب.

وأما ما يتصل بأمر الدين فانظر إلى اختلاف الخلق في العلم والجهل ، والفطانة والبلادة ، والهداية والغواية ، واقطع بأن كل ذلك عدل وقسط.

قوله تعالى : (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) في هذه الجملة وجهان :

الأول : أنها مكرّرة للتوكيد ، قال الزمخشريّ : «فإن قلت : لم كرّر قوله : (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ)؟ قلت : ذكره ـ أولا ـ للدلالة على اختصاصه بالوحدانية ، وأنه لا إله إلا تلك الذات المتميزة ، ثم ذكره ـ ثانيا ـ بعدما قرن بإثبات الوحدانية إثبات العدل ؛ للدلالة على اختصاصه بالأمرين ، كأنه قال : لا إله إلا هذا الموصوف بالصفتين ، ولذلك قرن به قوله تعالى : (الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) ؛ لتضمنها معنى الوحدانية والعدل».

وقال بعضهم : ليس بتكرير ؛ لأن الأول شهادة الله ـ تعالى ـ وحده. والثاني : شهادة الملائكة وأولي العلم ، وهذا عند من يرفع «الملائكة» بفعل آخر مضمر ـ كما ذكرنا ـ من أنه لا يرى إعمال المشترك ، وأن الشهادتين متغايرتان ، وهو مذهب مرجوح.

وقال الراغب : «إنما كررّ (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) ؛ لأن صفات التنزيه أشرف من صفات التمجيد ؛ لأن أكثرها مشارك ـ في ألفاظها ـ العبيد ، فيصح وصفهم بها ، ولذلك وردت ألفاظ في حقه أكثر وأبلغ».

وقال بعضهم : «فائدة هذا التكرار الإعلام بأن المسلم يجب أن يكون ـ أبدا ـ في

١٠٠