اللّباب في علوم الكتاب - ج ٥

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ٥

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 2-7451-2298-3
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٦٣٢

أنشده المفضل ممدودا ، مهموزا ، مخففا.

واختلفوا في توجيه هذه القراءة ، فنقل عن المبرد أنها اسم فاعل من كان ، يكون ، فهو كائن ، واستبعده مكّيّ ، قال : لإتيان «من» بعده ، ولبنائه على السكون. وكذلك أبو البقاء ، قال : «وهو بعيد الصحة ؛ لأنه لو كان كذلك لكان معربا ، ولم يكن فيه معنى التكثير».

لا يقال : هذا تحامل على المبرد ؛ فإن هذا لازم له ـ أيضا ـ فإن البناء ، ومعنى التكثير عارضان ـ أيضا ـ لأن التركيب عهد فيه مثل ذلك ـ كما تقدم في «كذا» ، و «لولا» ، ونحوهما ، وأما لفظ مفرد ينقل إلى معنى ، ويبنى من غير سبب ، فلم يوجد له نظير.

وقيل : هذه القراءة أصلها «كأيّن» ـ كقراءة الجماعة ـ إلا أن الكلمة دخلها القلب ، فصارت «كائن» مثل كاعن ـ واختلفوا في تصييرها بالقلب كذلك على أربعة أوجه :

أحدها : أنه قدّمت الياء المشددة على الهمزة ، فصار وزنها كعلف ، إلا أنك قدمت العين والسلام ، وهما الياء المشددة ـ ثم حذفت الياء الثانية لثقلها بالحركة والتضعيف ، كما قالوا في : «أيّها» ، ثم قلبت الياء الساكنة ألفا ، كما قلبوها في نحو آية ـ والأصل : أيّة ـ وكما قالوا : طائيّ ـ والأصل : طيىء ـ فصار اللفظ «كأين» ووزنه كعف ، لأن الفاء أخرت إلى موضع اللام ، واللام قد حذفت.

الوجه الثاني : أنه حذفت الياء الساكنة ـ التي هي عين ـ وقدّمت المتحركة ـ التي هي لام ـ فتأخرت الهمزة ـ التي هي فاء ـ وقلبت الياء ألفا ؛ لتحركها وانفتاح ما قبلها ، فصار «كائن» ووزنه كلف.

الوجه الثالث : ويعزى للخليل ـ أنه قدّمت إحدى الياءين في موضع الهمزة ، فتحركت بحركة الهمزة ـ وهي الفتحة ـ وصارت الهمزة ساكنة في موضع الياء ، فتحركت الياء ، وانفتح ما قبلها ، فقلبت ألفا ، فالتقى الساكنان ـ الألف المنقلبة عن الياء ، والهمزة بعدها ساكنة ـ فكسرت الهمزة على أصل التقاء الساكنين ـ وبقيت إحدى الياءين متطرفة ، فأذهبها التنوين ـ بعد سلب حركتها ـ كياء قاض وغاز.

الوجه الرابع : أنه قدّمت الياء المتحركة ، فانقلبت ألفا ، وبقيت الأخرى ساكنة ، فحذفها التنوين ـ مثل قاض ـ ووزنه على هذين الوجهين أيضا كلف ؛ لما تقدم من حذف العين ، وتأخير الفاء ، وإنما الأعمال تختلف.

اللغة الثالثة : «كأين» ـ بياء خفيفة بعد الهمزة ـ على مثال كعين ، وبها قرأ ابن محيصن ، والأشهب العقيلي (١) ، ووجهها أن الأصل : «كأيّن» ـ كقراءة الجماعة ـ فحذفت

__________________

(١) انظر هذه اللغات في الدر المصون ٢ / ٢٢٥ ـ ٢٢٦.

٥٨١

الياء الثانية ، استثقالا ، فالتقى ساكنان ـ الياء والتنوين ـ فكسر الياء ؛ لالتقاء الساكنين ، ثم سكنت الهمزة تخفيفا لثقل الكلمة بالتركيب ، فصارت كالكلمة الواحدة كما سكنوا «فهو» و «فهي».

اللغة الرابعة : «كيإن» بياء ساكنة ، بعدها همزة مكسورة ، وهذه مقلوب القراءة التي قبلها ، وقرأ بها بعضهم.

اللغة الخامسة : «كإن» ـ على مثال كع ـ ونقلها الداني قراءة عن ابن محيصن أيضا.

وقال الشاعر : [الطويل]

١٦٥١ ـ كئن من صديق خلته صادق الإخا

ء أبان اختباري أنّه لي مداهن (١)

وفيها وجهان :

أحدهما : أنه حذف الياءين دفعة واحدة لامتزاج الكلمتين بالتركيب.

والثاني : أنه حذف إحدى الياءين ـ على ما تقدم تقريره ـ ، ثم حذف الأخرى لالتقائها ساكنة مع التنوين ووزنه ـ على هذا ـ كف ؛ لحذف العين واللام منه.

واختلفوا في «أي» هل هي مصدر في الأصل ، أم لا؟

فذهب جماعة إلى أنها ليست مصدرا ، وهو قول أبي البقاء ؛ فإنه قال «كأيّن» الأصل فيه : «أيّ» ، التي هي بعض من كل ، أدخلت عليها كاف التشبيه.

وفي عبارته عن «أيّ» بأنها بعض من كل ، نظر لأنها ليست بمعنى : بعض من كل ، نعم إذا أضيفت إلى معرفة فحكمها حكم «بعض» في مطابقة الجزء ، وعود الضمير ، نحو : أيّ الرجلين قائم ولا نقول : قاما ، فليست هي التي «بعض» أصلا.

وذهب ابن جني إلى أنها ـ في الأصل ـ مصدر أوى يأوي ـ إذا انضم ، واجتمع ـ والأصل : أويّ ، نحو طوى يطوي طيّا ـ فاجتمعت الياء والواو ، وسبقت إحداهما بالسكون ، فقلبت الواو ياء ، وأدغمت في الياء ، وكأن ابن جنّي ينظر إلى أن معنى المادة من الاجتماع الذي يدل عليه «أي» فإنها للعموم ، والعموم يستلزم الاجتماع.

وهل هذه الكاف الداخلة على «أي» تتعلق بغيرها من حروف الجر ، أم لا؟

والصحيح أنها لا تتعلق بشيء ؛ لأنها مع «أي» صارتا بمنزلة كلمة واحدة ـ وهي «كم» ـ فلم تتعلق بشيء ، ولذلك هجر معناه الأصلي ـ وهو التشبيه ـ.

وزعم الحوفيّ أنها تتعلق بعامل ، فقال : «أما العامل في الكاف ، فإن جعلناها على حكم الأصل ، فمحمول على المعنى ، والمعنى : إصابتكم كإصابة من تقدّم من الأنبياء وأصحابهم ، وإن حملنا الحكم على الانتقال إلى معنى «كم» ، كان العامل بتقدير الابتداء ،

__________________

(١) ينظر البيت في حاشية الشهاب ٣ / ٦٩ والبحر ٣ / ٧٨ والدر المصون ٢ / ٢٢٦.

٥٨٢

وكانت في موضع رفع ، و «قاتل» الخبر ، و «من» متعلقة بمعنى «الاستقرار» ، والتقدير الأول أوضح ؛ لحمل الكلام على اللفظ دون المعنى ، بما يجب من الخفض في «أي» ، وإذا كانت «أي» على بابها من معاملة اللفظ ، ف «من» متعلقة بما تعلقت به الكاف من المعنى المدلول عليه» اه. وهو كلام غريب.

واختار أبو حيان أن «كأين» كلمة بسيطة ـ غير مركبة ـ وأن آخرها نون ـ هي من نفس الكلمة ـ لا تنوين ؛ لأن هذه الدعاوى المتقدمة لا يقوم عليها دليل ، وهذه طريق سهلة ، والنحويون ذكروا هذه الأشياء ؛ محافظة على أصولهم ، مع ما ينضم إلى ذلك من الفوائد ، وتمرين الذهن. هذا ما يتعلق بها من حيث التركيب ، فموضعها رفع بالابتداء ، وفي خبرها أربعة أوجه :

أحدها : أنه «قاتل» فإن فيه ضميرا مرفوعا به ، يعود على المبتدأ ، والتقدير : كثير من الأنبياء قاتل.

قال أبو البقاء : والجيد أن يعود الضمير على لفظ «كأين» ، كما تقول : مائة نبي قتل ، فالضمير للمائة ؛ إذ هي المبتدأ.

فإن قيل : لو كان كذلك لأنثت ، فقلت : قتلت؟

قيل : هذا محمول على المعنى ؛ لأن التقدير : كثير من الرجال قتل.

كأنه يعني بغير الجيد عوده على لفظ «نبيّ» ، فعلى هذا جملة (مَعَهُ رِبِّيُّونَ) جملة في محل نصب على الحال من الضمير في «قتل».

ويجوز أن يرتفع «ربيون» على الفاعلية بالظرف ، ويكون الظرف هو الواقع حالا ، التقدير : استقر معه ربيون.

وهو أولى ؛ لأنه من قبيل المفردات ، وأصل الحال والخبر والصفة أن تكون مفردة.

ويجوز أن يكون «معه» ـ وحده ـ هو الحال ، و «ربّيّون» فاعل به ، ولا يحتاج ـ هنا ـ إلى واو الحال ؛ لأن الضمير هو الرابط ـ أعني : الضمير في «معه».

ويجوز أن يكون حالا من «نبيّ» ـ وإن كان نكرة ـ لتخصيصه بالصفة حينئذ ؛ ذكره مكي. وعمل الظرف ـ هنا ـ لاعتماده على ذي الحال.

قال أبو حيان : وهي حال محكية ، فلذلك ارتفع «ربيون» بالظرف ـ وإن كان العامل ماضيا ، لأنه حكى الحال الماضية ، كقوله : (وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ) [الكهف : ١٨] ، وذلك على مذهب البصريين ، وأما الكسائي فيعمل اسم الفاعل العاري من «أل» مطلقا.

وفيه نظر ؛ لأنا لا نسلم أن الظرف يتعلق باسم فاعل ، حتى يلزم عليه ما قال من تأويله اسم الفاعل بحال ماضية ، بل يدعى تعلّقه بفعل ، تقديره : استقر معه ربيون.

٥٨٣

الوجه الثاني : أن يكون «قاتل» جملة في محل جر ؛ صفة ل «نبيّ» ، و (مَعَهُ رِبِّيُّونَ) هو الخبر ، لكن الوجهان المتقدمان في جعله حالا ـ أعني : إن شئت أن تجعل «معه» خبرا مقدما ، و «ربّيّون» مبتدأ مؤخرا ، والجملة خبر «كأيّن» ، وأن تجعل «معه» ـ وحده ـ هو الخبر ، و «ربّيّون» فاعل به ؛ لاعتماد الظرف على ذي خبر.

الوجه الثالث : أن يكون الخبر محذوفا ، تقديره : في الدنيا ، أو مضى ، أو : صابر ، وعلى هذا ، فقوله : «قاتل» في محل جر ؛ صفة ل «نبيّ» ، و «معه ربّيّون» حال من الضمير في «قاتل» ـ على ما تقدم تقريره ـ ويجوز أن يكون «معه ربّيّون» صفة ثانية ل «نبيّ» ، وصف بصفتين : بكونه قاتل ، وبكونه معه ربيون.

الوجه الرابع : أن يكون «قاتل» فارغا من الضمير ، مسندا إلى «ربّيّون» وفي هذه الجملة ـ حينئذ ـ احتمالان :

أحدهما : أن تكون خبرا ل «كأيّن».

الثاني : أن تكون في محل جر ل «نبيّ» والخبر محذوف ـ على ما تقدم ـ وادّعاء حذف الخبر ضعيف لاستقلال الكلام بدونه.

وقال أبو البقاء : ويجوز أن يكون «قاتل» مسندا ل «ربّيّون» ، فلا ضمير فيه على هذا ، والجملة صفة «نبيّ».

ويجوز أن يكون خبرا ، فيصير في الخبر أربعة أوجه ، ويجوز أن يكون صفة ل «نبيّ» والخبر محذوف على ما ذكرنا.

وقوله : صفة ل «ربّيّون» يعني : أن القتل من صفتهم في المعنى ، وقوله : «فيصير في الخبر أربعة أوجه» يعني : ما تقدم له من أوجه ذكرها ، وقوله : فلا ضمير فيه ـ على هذا ـ والجملة صفة «نبي» غلط ؛ لأنه يبقى المبتدأ بلا خبر.

فإن قلت : إنما يزعم هذا لأنه يقدر خبرا محذوفا؟

قلت : قد ذكر أوجها أخر ؛ حيث قال : «ويجوز أن تكون صفة ل «نبيّ» والخبر محذوف ـ على ما ذكرنا».

ورجّح كون قاتل مسندا إلى ضمير النبي أن القصة بسبب غزوة أحد ، وتخاذل المؤمنين حين قيل : إن محمدا قد مات مقتولا ؛ ويؤيد هذا الترجيح قوله : (أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ) وإليه ذهب ابن عباس والطبريّ وجماعة. وعن ابن عباس ـ في قوله : (وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَ) [آل عمران : ١٦١] ـ قال : النبي يقتل فكيف لا يخان؟ (١)

__________________

(١) انظر : السبعة ٢١٧ ، والكشف ١ / ٣٥٩ ، والحجة ٣ / ٨٢ ، والعنوان ٨١ ، وشرح الطيبة ٤ / ١٦٩ ، وشرح شعلة ٣٢٣ ، وحجة القراءات ١٧٥ ، وإتحاف ١ / ٤٨٩ ، وإعراب القراءات ١ / ١٢٠.

٥٨٤

وذهب الحسن وابن جبير وجماعة إلى أن القتل للرّبّيّين ، قالوا : لأنه لم يقتل نبيّ في حرب قط ونصر الزمخشري هذا بقراءة قتّل ـ بالتشديد ـ يعني أنّ التكثير لا يتأتى في الواحد ـ وهو النبي ـ وهذا ـ الذي ذكره الزمخشريّ ـ سبقه إليه ابن جني ـ وسيأتي تأويله ـ.

وقرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو : قتل ـ مبنيا للمفعول ـ وقتادة كذلك ، إلا أنه شدد التاء (١) ، وباقي السبعة : قاتل ، وكل من هذه الأفعال يصلح أن يرفع ضمير «نبيّ» وأن يرفع «ربّيّون» ـ كما تقدم تفصيله ـ.

وقال ابن جني : إنّ قراءة : قتّل ـ بالتّشديد ـ يتعين أن يسند الفعل فيها إلى الظاهر ـ أعني : «ربّيّون» ـ قال : لأنّ الواحد لا تكثير فيه.

قال أبو البقاء : «ولا يمتنع أن يكون فيه ضمير الأول ؛ لأنه في معنى الجماعة».

يعني أن «من نبيّ» المراد به الجنس ، فالتكثير بالنسبة لكثرة الأشخاص ؛ لا بالنسبة إلى كل فرد ؛ إذ القتل لا يتكثر في كلّ فرد.

وهذا الجواب ـ الذي أجاب به أبو البقاء ـ استشعر به أبو الفتح ، وأجاب عنه ، قال :

فإن قيل : فهلّا جاز فعّل ؛ حملا على معنى «كم»؟

فالجواب : أن اللفظ قد مشى على جهة الإفراد في قوله : «من نبيّ» ودلّ الضمير المفرد «معه» على أن المراد إنما هو التمثيل بواحد واحد ، فخرج الكلام على معنى «كم». قال : في هذه القراءة دلالة على أنّ من قرأ من السّبعة «قتل» أو «قاتل معه ربّيّون» فإن «ربّيّون» مرفوع في قراءته ب «قتل» أو «قاتل» وليس مرفوعا بالابتداء ، ولا بالظرف ، الذي هو «معه».

قال أبو حيّان : «وليس بظاهر ؛ لأن «كأين» مثل «كم» وأنت خبير إذا قلت : كم من عان فككته ، فأفردت ، راعيت لفظ «كم» ومعناها جمع ، فإذا قلت : فككتهم ، راعيت المعنى ، وليس معنى مراعاة اللفظ إلا أنك أفردت الضمير ، والمراد به الجمع. فلا فرق من حيث المعنى ـ بين فككته وفككتهم ، كذلك لا فرق بين قتل معه ربيون ، وقتل معهم ربيون ، وإنما جاز مراعاة اللفظ تارة ، ومراعاة المعنى تارة ؛ لأن مدلول «كم» و «كأين» كثير ، والمعنى : جمع كثير ، وإذا أخبرت عن جمع كثير فتارة تفرد ؛ مراعاة للفظ ، وتارة تجمع ؛ مراعاة للمعنى ، كما قال تعالى : (أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ) [القمر : ٤٤ و ٤٥] ، فقال : «منتصر» وقال : «ويولّون» فأفرد في «منتصر» وجمع في «يولّون».

ورجح بعضهم قراءة «قاتل» لقوله ـ بعد ذلك ـ : (فَما وَهَنُوا) قال : وإذا قتلوا ، فكيف يوصفون بذلك؟ إنما يوصف بهذا الأحياء؟

__________________

(١) انظر : المحرر الوجيز ١ / ٥٢٠ ، والبحر المحيط ٣ / ٧٨ ، والدر المصون ٢ / ٢٢٨.

٥٨٥

والجواب : أن معناه : قتل بعضهم ، كما تقول : قتل بنو فلان في وقعة كذا ، ثم انصرفوا.

وقال ابن عطية : قراءة من قرأ «قاتل» أعم في المدح ؛ لأنه يدخل فيها من قتل ومن بقي ، ويحسن عندي ـ على هذه القراءة ـ إسناد الفعل إلى الربيين ، وعلى قراءة : قتل ـ إسناده إلى «نبي».

قال أبو حيّان : «قتل» يظهر أنها مدح ، وهي أبلغ في مقصود الخطاب ؛ لأنها نصّ في وقوع القتل ، ويستلزم المقاتلة. و «قاتل» لا تدلّ على القتل ؛ إذ لا يلزم من المقاتلة وجود القتل ؛ فقد تكون مقاتلة ولا يقع قتل.

قوله : (مِنْ نَبِيٍ) تمييز ل «كأيّن» لأنها مثل «كم» الخبرية.

وزعم بعضهم أنه يلزم جره ب «من» ولهذا لم يجىء في التنزيل إلا كذلك ، وهذا هو الأكثر الغالب. قال وقد جاء تمييزها منصوبا ، قال الشاعر : [الخفيف]

١٦٥٢ ـ أطرد اليأس بالرّجاء فكائن

آلما حمّ يسره بعد عسر (١)

وقال آخر : [الطويل]

١٦٥٣ ـ فكائن لنا فضلا عليكم ورحمة

قديما ، ولا تدرون ما منّ منعم (٢)

وأما جره فممتنع ؛ لأن آخرها تنوين ، وهو لا يثبت مع الإضافة.

و «ربيون» : جمع ربّيّ ، وهو العالم ، منسوب إلى الرّبّ ، وإنما كسرت راؤه ؛ تغييرا في النسب ، نحو : إمسيّ ـ في النسبة إلى أمس ـ وقيل : كسر للإتباع.

وقيل : لا تغيير فيه ، وهو منسوب إلى الرّبة ـ وهي الجماعة ـ وقرأ الجمهور بكسر الرّاء ، وقرأ عليّ ، وابن مسعود ، وابن عبّاس ، والحسن «ربّيّون» ـ بضم الراء (٣) ـ وهو من تغيير النسب ، إذا قلنا : هو منسوب إلى الربّ ، وقيل : لا تغيير ، وهو منسوب إلى الربة ، وهي الجماعة.

قال القرطبيّ «واحدهم ربّيّ ـ بكسر الراء وضمها».

وقرأ ابن عباس ـ في رواية قتادة (٤) ـ ربّيّون ، بفتحها على الأصل ، إن قلنا :

__________________

(١) تقدم

(٢) البيت للأعشى ينظر ديوانه (١٢٧) والدرر ٢١٢١ والهمع ١ / ٢٥٥ وشرح أبيات المغني ٤ / ١٦٧ وأوضح المسالك ٤ / ٢٧٧ ومغني اللبيب ١ / ١٥٩ وارتشاف الضرب ١ / ٣٨٦ وشرح الأشموني ٤ / ٨٥ والدر المصون ٢ / ٢٢٩.

(٣) انظر : الشواذ ٢٢ ، وينظر : الإملاء ١ / ٥٢٠ ، والبحر المحيط ٣ / ٨٠ ، والدر المصون ٢ / ٢٢٩ ، والقرطبي ٤ / ١٤٨.

(٤) انظر السابق.

٥٨٦

منسوب إلى الرّبّ ، وإلا فمن تغيير النسب ، إن قلنا : إنه منسوب إلى الربة.

قال ابن جني : والفتح لغة تميم.

وقال النقاش : «هم المكثرون العلم» من قولهم : ربا الشيء يربو ـ إذا كثر ـ وهذا سهو منه ؛ لاختلاف المادتين ؛ لأن تلك من راء وياء وواو ، وهذه من راء وباء مكررة. قال ابن عبّاس ومجاهد وقتادة : الجماعات الكثيرة (١) وقال ابن مسعود : والربيون : الألوف (٢).

وقال الكلبيّ (٣) : الرّبّيّة الواحدة : عشرة آلاف (٤).

وقال الضّحّاك : الرّبّيّة الواحدة ألف (٥) ، وقال الحسن : ربّيّون : فقهاء وعلماء (٦).

وقيل : هم الأتباع (٧) ، فالربانيون : الولاة (٨) ، والربانيون : الرعية. وحكى الواحديّ ـ عن الفرّاء ـ الربانيون : الألوف.

قوله : «كثير» صفة ل «ربّيّون» وإن كان بلفظ الإفراد ؛ لأن معناه الجمع.

فصل

معنى الآية ـ على القراءة الأولى ـ أن كثيرا من الأنبياء قتلوا ، والذين بقوا بعدهم ما وهنوا في دينهم ، بل استمرّوا على نصرة دينهم [وقتال](٩) عدوّهم ، فينبغي أن يكون حالكم ـ يا أمة محمد ـ هكذا.

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ٢٦٦) عن ابن عباس وعكرمة ومجاهد والحسن وقتادة والربيع والضحاك.

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ١٤٦) عن ابن عباس وعزاه للطبري وابن أبي حاتم وابن المنذر من طريق عطية العوفي عنه.

وذكره أيضا (٢ / ١٤٦) عن الحسن وعزاه لسعيد بن منصور.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ٢٦٦) عن عبد الله بن مسعود.

(٣) ذكره أبو حيان في «البحر المحيط» (٣ / ٧٩).

(٤) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ١٤٦) وعزاه لسعيد بن منصور عن الضحاك.

(٥) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ٢٦٧) عن الحسن.

(٦) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ٢٦٩) عن ابن زيد وذكره أبو حيان في «البحر المحيط» (٣ / ٨٠).

(٧) ذكره أبو حيان في «البحر المحيط» (٣ / ٨٠).

(٨) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ١٤٨) وعزاه لسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر عن سعيد بن جبير. وذكره القرطبي في «تفسيره» (٤ / ١٤٧).

وانظر «البحر المحيط» لأبي حيان (٣ / ٧٩).

(٩) انظر : الشواذ ٢٢ ، والمحرر الوجيز ١ / ٥٢١ ، ونسبها إلى الأعمش والحسن وأبي السمال.

وانظر : البحر المحيط ٣ / ٨٠ ، والدر المصون ٢ / ٢٢٩.

٥٨٧

قال القفال : والوقف ـ في هذا التأويل ـ على قوله : «قتل» وقوله (مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ) حال ، بمعنى : قتل حال ما كان معه ربيون كثير. أو يكون على معنى التقديم والتأخير أي : وكأين من نبي معه ربيون كثير ، فما وهن الربيون على كثرتهم.

وقيل : المعنى : وكأين من نبي قتل ممن كان معه وعلى دينه ربيون كثير ، فما ضعف الباقون ، ولا استكانوا ؛ لقتل من قتل من إخوانهم ، بل مضوا على جهاد عدوهم ، فقد كان ينبغي أن يكون حالكم كذلك.

وحجّة هذه القراءة أنّ المقصود من هذه الآية حكاية ما جرى لسائر الأنبياء ؛ لتقتدي هذه الأمة بهم. والمعنى على القرءة الثانية ـ : وكم من نبي قاتل معه العدد الكثير من أصحابه ، فأصابهم من عدوهم قروح ، فما وهنوا ؛ لأن الذي أصابهم إنما هو في سبيل الله وطاعته ، وإقامة دينه ، ونصرة رسوله ، فكذلك كان ينبغي أن تفعلوا مثل ذلك يا أمة محمد.

وحجة هذه القراءة : أن المراد من هذه الآية ترغيب الذين كانوا مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في القتال ، فوجب أن يكون المذكور هو القتال ، وأيضا روي عن سعيد بن جبير أنه قال : ما سمعنا بنبي قتل في القتال (١). قوله : (فَما وَهَنُوا) الضمير في «وهنوا» يعود على الربّيّين بجملتهم ، إن كان قتل مسندا إلى ضمير النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكذا في قراءة «قاتل» سواء كان مسندا إلى ضمير النبي ، أو إلى الربّيين ، فالضمير يعود على بعضهم وقد تقدم ذلك عند ترجيح قراءة «قاتل».

والجمهور على (وَهَنُوا) ـ بفتح الهاء ـ والأعمش وأبو السّمّال بكسرها ، وهما لغتان : وهن يهن ـ كوعد يعد ـ ووهن يوهن ـ كوجل يوجل ـ وروي عن أبي السّمّال ـ أيضا ـ وعكرمة : وهنوا ـ بسكون الهاء (٢) ـ وهو من تخفيف فعل ؛ لأنه حرف حلق ، نحو نعم وشهد ـ في نعم وشهد ـ.

قال القرطبيّ : ـ عن أبي زيد ـ : «وهن الشيء يهن وهنا ، وأوهنته أنا ووهّنته : ضعّفته ، والواهنة : أسفل الأضلاع وقصاراها ، والوهن من الإبل : الكثيف ، والوهن : ساعة تمضي من الليل ، وكذلك الموهن ، وأوهنّا : صرنا في تلك الساعة».

و (لِما أَصابَهُمْ) متعلق ب «وهنوا» و «ما» يجوز أن تكون موصولة اسمية ، أو مصدرية ، أو نكرة موصوفة.

وقرأ الجمهور (وَما ضَعُفُوا) ـ بضم العين ـ وقرىء : ضعفوا ـ بفتحها ـ وحكاها الكسائي لغة.

__________________

(١) انظر : السابق.

(٢) انظر : البحر المحيط ٣ / ٨٠ ، والدر المصون ٢ / ٢٢٩.

٥٨٨

قوله : (وَمَا اسْتَكانُوا) فيه ثلاثة أقوال :

أحدها : أنه «استفعل» من الكون ـ والكون : الذّلّ ـ وأصله : استكون ، فنقلت حركة الواو على الكاف ، ثم قلبت الواو ألفا.

وقال الأزهريّ وأبو علي : هو من قول العرب : بات فلان بكينة سوء ـ على وزن جفنة ـ أي : بحالة سوء ، فألفه ـ على هذا من ياء ، والأصل : استكين ، ففعل بالياء ما فعل بأختها. [وهو القول الثاني](١).

الثالث : قال الفرّاء : وزنة «افتعل» من السكون ، وإنما أشبعت الفتحة ، فتولّد منها ألف.

كقول الشاعر : [الرجز]

١٦٥٤ ـ أعوذ بالله من العقراب

الشّائلات عقد الأذناب (٢)

يريد : العقرب الشائلة.

وردّ على الفرّاء بأن هذه الألف ثابتة في جميع تصاريف الكلمة ، نحو : استكان ، يستكين ، فهو مستكين ومستكان إليه استكانة. وبأنّ الإشباع لا يكون إلا في ضرورة.

وكلاهما لا يلزمه ؛ أما الإشباع فواقع في القراءات ـ السبع ـ كما سيأتي ـ.

وأما ثبوت الألف في تصاريف الكلمة فلا يدلّ ـ أيضا ـ لأن الزائد قد يلزم ؛ ألا ترى أنّ الميم ـ في تمندل وتمدرع ـ زائدة ، ومع ذلك ثابتة في جميع تصاريف الكلمة ، قالوا : تمندل ، يتمندل ، تمندلا ، فهو متمندل ، ومتمندل به. وكذلك تمدرع ، وهما من الندل والدرع.

وعبارة أبي البقاء أحسن في الرّدّ ؛ فإنه قال : «لأن الكلمة ثبتت عينها في جميع تصاريفها تقول : استكان ، يستكين ، استكانة ، فهو مستكين ، ومستكان له والإشباع لا يكون على هذا الحد».

ولم يذكر متعلق الاستكانة والضعف ـ فلم يقل : فما ضعفوا عن كذا ، وما استكانوا لكذا ـ للعلم ، أو للاقتصار على الفعلين ـ نحو (كُلُوا وَاشْرَبُوا) [الحاقة : ٢٤] ليعم كلّ ما يصلح لهما.

وقال الزمخشري : ما وهنوا عند قتل النبيّ.

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) ينظر البيت في المغني ١ / ٣٧٢ ورصف المباني (١٢) وشرح شواهد المغني (٢٢٦) والتاج (عقد) واللسان (سبسب) والجمل في النحو ص ٢٤٤ وضرائر الشعر ص ٣٣ وشرح الجمل ١ / ١٢١ و ٢ / ٥٥٧ والدر المصون ٢ / ٢٢٩.

٥٨٩

وقيل : ما وهنوا لقتل من قتل منهم.

فصل

المعنى : ما جبنوا لما أصابهم في سبيل الله ، وما ضعفوا عن الجهاد بما نالهم من الجراح ، وما استكانوا للعدو (١).

وقال مقاتل : وما استسلموا ، وما خضعوا لعدوهم (٢).

وقال السّدّيّ : وما ذلوا (٣). وهذا تعريض بما أصابهم من الوهن ، والانكسار عند الإرجاف بقتل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبضعفهم عند ذلك عن مجاهدة المشركين ، واستكانتهم للكافرين ، حتى أرادوا أن يعتضدوا بالمنافق عبد الله بن أبيّ ؛ ليطلب لهم الأمان من أبي سفيان.

ويحتمل ـ أيضا ـ أن يفسّر الوهن باستيلاء الخوف عليهم ، ويفسّر الضعف بأن يضعف إيمانهم ، وتقع الشكوك والشبهات في قلوبهم ، والاستكانة : هي الانتقال من دينهم إلى دين عدوهم.

ثم قال : (وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ) أي : من صبر على تحمّل الشدائد في طريق الله ولم يظهر الجزع والعجز والهلع ؛ فإنّ الله يحبه. ومحبة الله ـ تعالى ـ للعبد عبارة عن إرادة إكرامه وإعزازه وتعظيمه ، والحكم له بالثواب والجنة.

قوله تعالى : (وَما كانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (١٤٧) فَآتاهُمُ اللهُ ثَوابَ الدُّنْيا وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)(١٤٨)

الجمهور على نصب (قَوْلَهُمْ) خبرا مقدّما ، والاسم «أن» وما في حيزها ، تقديره : وما كان قولهم [إلا هذا الدعاء ، أي : هو دأبهم وديدنهم].

وقرأ ابن كثير وعاصم ـ في رواية عنهما ـ برفع «قولهم» (٤) على أنه اسم «كان» والخبر «أن» وما في حيزها. وقراءة الجمهور أولى ؛ لأنه إذا اجتمع معرفتان فالأولى أن تجعل الأعرف اسما ، و «أن» وما في حيزها أعرف ؛ قالوا : لأنها تشبه المضمر من حيث إنها لا تضمر ، ولا توصف ، ولا يوصف بها ، و «قولهم» مضاف لمضمر ، فهو في رتبة العلم ، فهو أقلّ تعريفا.

__________________

(١) ذكره أبو حيان في «البحر المحيط» (٣ / ٨٠).

(٢) انظر المصدر السابق.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ٢٧٠) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ١٤٧).

وانظر «البحر المحيط» لابن حيان (٣ / ٨٠).

(٤) انظر : الشواذ ٢٣ ، والمحرر الوجيز ١ / ٤٣٣ ، والبحر المحيط ٣ / ٨١ ، والدر المصون ٢ / ٢٣٠.

٥٩٠

ورجّح أبو البقاء قراءة الجمهور بوجهين :

أحدهما : هذا ، والآخر : أن ما بعد «إلّا» مثبت ، والمعنى : كان قولهم : ربّنا اغفر لنا دأبهم في الدعاء ، وهو حسن.

والمعنى : وما كان قولهم شيئا من الأقوال إلا هذا القول الخاصّ.

فصل

معنى الآية : وما كان قولهم عند قتل نبيّهم إلا أن قالوا : ربّنا اغفر لنا ذنوبنا ، والغرض منه تحريض هذه الأمة بالاقتداء بهم.

قال القاضي : إنما قدموا طلب المغفرة للذنوب والإسراف ؛ لأنه ـ تعالى ـ لما ضمن النّصرة للمؤمنين ، فإذا لم تحصل النصرة ، وظهر أمارات استيلاء العدو ، دلّ ذلك ـ ظاهرا ـ على صدور ذنب وتقصير من المؤمنين ، فلهذا المعنى يجب عليهم تقديم التوبة والاستغفار على طلب النّصرة ، فبيّن ـ تعالى ـ أنهم بدءوا بالتوبة عن كل المعاصي ، فقالوا : (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا) أي : الصغائر (وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا) أي : الكبائر ؛ لأن الإسراف في كل شيء هو الإفراط فيه ؛ قال تعالى : (قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ) [الزمر : ٦٣] وقال (فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ) [الإسراء : ٣٣] وقال : (وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) [الأعراف : ٣١] ويقال : فلان مسرف ـ إذا كان مكثرا في النفقة.

قوله : (فِي أَمْرِنا) يجوز فيه وجهان :

الأول : أنه متعلق بالمصدر قبله ، يقال : أسرفت في كذا.

الثاني : أن يتعلق بمحذوف على أنّه حال منه ، أي : حال كونه مستقرا في أمرنا. والأول أوجه. ثم سألوا ـ بعد ذلك ـ أن يثبت أقدامهم ، وذلك بإزالة الخوف عن قلوبهم ، وهذا يدلّ على أن فعل العبد مخلوق لله ، والمعتزلة يحملونه على الألطاف. ثم سألوا أن ينصرهم على القوم الكافرين ، وهذه النصرة لا بد فيها من أمر زائد على ثبات أقدامهم.

قال القاضي : وهذا تأديب من الله ـ تعالى ـ في كيفية الطلب بالأدعية عند النوائب والمحن ، سواء كان في الجهاد أو غيره.

قوله : (فَآتاهُمُ اللهُ) يقتضي أن الله ـ تعالى ـ أعطاهم [الأمرين](١) أما ثواب الدّنيا فهو : النصرة والغنيمة ، وقهر العدو ، والثناء الجميل ، وانشراح الصدر بنور الإيمان ، وأما ثواب الآخرة فلا شك أنه ثواب الجنة.

وقرأ الجحدريّ (٢) فأثابهم ـ من لفظ الثواب ـ وخصّ ـ تعالى ـ ثواب الآخرة

__________________

(١) في أ : الأجرين.

(٢) انظر : البحر المحيط ٣ / ٨١ ، والدر المصون ٢ / ٢٣١ ، والقرطبي ٤ / ١٤٩.

٥٩١

بالحسن ؛ تنبيها على جلالة ثوابهم ، وذلك لأنّ ثواب الآخرة كلّه في غاية الحسن.

ويجوز أن يحمل قوله : «فآتاهم» على أنه سيؤتيهم ، كقوله تعالى : (أَتى أَمْرُ اللهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ) [النحل : ١] أي : سيأتي أمر الله.

قيل : ولا يمتنع أن تكون هذه الآية مختصة بالشهداء ـ وقد أخبر ـ تعالى ـ عن بعضهم أنهم أحياء ، عند ربّهم يرزقون ـ فيكون حال هؤلاء ـ أيضا ـ كذلك.

فصل

قال فيما تقدم : (وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْها) [آل عمران : ١٤٥] فأتى بلفظ «من» الدالة على التبعيض ، وقال هنا : (فَآتاهُمُ اللهُ ثَوابَ الدُّنْيا وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ) ولم يذكر كلمة «من» لأن الذين يريدون ثواب الآخرة إنما اشتغلوا بالعبادة لطلب الثواب ، فكانت مرتبتهم في العبودية نازلة عن مرتبة هؤلاء ؛ لأنهم لم يذكروا من أنفسهم إلا الذنب والتقصير ، ولم يذكروا التدبير والنصرة والإعانة إلا من ربّهم ، فكان مقامهم في العبودية في غاية الكمال ؛ لأنّهم أرادوا خدمة مولاهم ، وأما أولئك فإنما أرادوا الثواب.

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ (١٤٩) بَلِ اللهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (١٥٠) سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِما أَشْرَكُوا بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ)(١٥١)

لما أمر الله تعالى بالاقتداء بأنصار الأنبياء حذّر عن طاعة الكفار ـ يعني مشركي العرب ـ وذلك أنّ الكفار لما أرجفوا بقولهم : إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد قتل ودعا المنافقون بعض ضعفة المسلمين ، منع المسلمين بهذه الآية عن الالتفات إلى كلام أولئك المنافقين.

وقيل : المراد ـ بالذين كفروا ـ عبد الله بن أبي وأتباعه في قولهم للمؤمنين عند الهزيمة : ارجعوا إلى إخوانكم ، وادخلوا في دينهم ، وقالوا : لو كان محمد رسول الله ما وقعت له هذه الواقعة ، وإنما هو رجل كسائر الناس ، يوم له ، ويوم عليه.

وقال آخرون : المراد ـ بالذين كفروا ـ اليهود الذين كانوا بالمدينة يلقون الشّبهات.

وقيل : المراد أبو سفيان ؛ لأنه كان شجرة الفتن.

قال ابن الخطيب : «والأقرب أنه يتناول كلّ الكفار ؛ لأن اللفظ عامّ ، وخصوص السبب لا يمنع من عموم اللفظ».

قوله : (يَرُدُّوكُمْ) جواب (إِنْ تُطِيعُوا) وقوله : (إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا) لا يمكن حمله على طاعتهم في كل ما يقولونه ، بل لا بدّ من التخصيص.

٥٩٢

وقيل : إن تطيعوهم فيما يأمرونكم به يوم أحد من ترك الإسلام.

وقيل : إن تطيعوهم في كل ما يأمرونكم به من الضلال.

وقيل في المشورة. وقيل في ترك المحاربة ، وهو قوله : (لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا) [آل عمران : ١٥٦] ثم قال : (يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ) يعني يردوكم إلى الكفر بعد الإيمان ؛ لأن قبولهم في الدعوة إلى الكفر ، ثم قال : (فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ) فلما كان اللفظ عاما دخل فيه خسران الدنيا وخسران الآخرة.

أما خسران الدنيا فلان أشقّ الأشياء على العقلاء في الدنيا الانقياد إلى العدوّ ، وإظهار الحاجة إليه. وأما خسران الآخرة فالحرمان من الثواب المؤبّد ، والوقوع في العقاب المخلّد و «خاسرين» حال.

قوله : (بَلِ اللهُ مَوْلاكُمْ) مبتدأ وخبر ، وقرأ الحسن بنصب الجلالة (١) ؛ على إضمار فعل يدل عليه الشرط الأول ، والتقدير : لا تطيعوا الذين كفروا ، بل أطيعوا الله ، و «مولاكم» صفة.

وقال مكّي (٢) : «وأجاز الفرّاء (٣) : بل الله ـ بالنصب ـ» كأنه لم يطلع على أنها قراءة.

فصل

والمعنى : أنكم إن تطيعوا الكفار لينصروكم ويعينوكم فهذا جهل ، لأنهم عاجزون متحيرون ، والعاقل يطلب النّصرة من الله تعالى ؛ لأنه هو الذي ينصركم على العدوّ ، ثم بيّن أنه خير الناصرين ، وذلك لوجوه :

أولها : أنه ـ تعالى ـ هو القادر على نصرتك في كلّ ما تريد والعالم الذي لا يخفى عليه دعاؤك وتضرّعك ، والكريم الذي لا يبخل في جوده ونصرة العبيد بعضهم لبعض بخلاف ذلك في كل هذه الوجوه.

ثانيها : أنه ينصرك في الدّنيا والآخرة ، وغيره ليس كذلك.

ثالثها : أنه ينصرك قبل سؤالك ومعرفتك بالحاجة ، كما قال : (قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ) [الأنبياء : ٤٢] وغيره ليس كذلك.

واعلم أن ظاهر قوله : (وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ) يقتضي أن يكون من جنس سائر الناصرين ، وهو منزّه ، عن ذلك ، وإنما ورد الكلام على حسب تعارفهم ، كقوله : (وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْه).

__________________

(١) انظر : الشواذ ٢٢ ، والمحرر الوجيز ١ / ٥٢٢ ، والبحر المحيط ٣ / ٨٢ ، والدر المصون ٢ / ٢٣١.

(٢) ينظر : المشكل ١ / ١٦٣.

(٣) معاني القرآن ١ / ٢٣٧.

٥٩٣

قوله : (سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ) هذا من تمام ما تقدم من وجوه الترغيب في الجهاد وعدم المبالاة بالكفار.

قوله : (سَنُلْقِي) الجمهور بنون العظمة ، وهو التفات من الغيبة ـ في قوله : (وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ) وذلك للتنبيه على عظم ما يلقيه ـ تعالى ـ (١).

وقرأ أيوب السّختيانيّ «سيلقي» بالغيبة ؛ جريا على الأصل. وقدم المجرور على المفعول به ؛ اهتماما بذكر المحلّ قبل ذكر الحال : والإلقاء ـ هنا ـ مجاز ؛ لأن أصله في الأجرام ، فاستعير هنا ، كقول الشّاعر : [الطويل]

١٦٥٥ ـ هما نفثا في فيّ من فمويهما

على النّابح العاوي أشدّ رجام (٢)

وقرأ ابن عامر والكسائيّ ، وأبو جعفر ، ويعقوب : «الرّعب» و «رعبا» (٣) ـ بضم العين ـ والباقون بالإسكان فقيل : هما لغتان.

وقيل : الأصل الضم ، وخفّف ، وهذا قياس مطرد.

وقيل : الأصل السكون ، وضمّ إتباعا كالصبح والصبح ، وهذا عكس المعهود من لغة العرب.

والرّعب : الخوف ، يقال : رعبته ، فهو مرعوب ، وأصله من الامتلاء ، يقال : رعبت الحوض ، أي : ملأته وسيل راعب ، أي : ملأ الوادي.

فصل

قيل : هذا الوعد مخصوص بيوم أحد ؛ لأن الآيات المتقدمة إنما وردت في هذه الواقعة. والقائلون بهذا ذكروا في كيفية إلقاء الرعب في قلوب المشركين وجهين :

الأول : أن الكفار لما هزموا المسلمين أوقع الله الرعب في قلوبهم ، فتركوهم ، وفرّوا منهم من غير سبب ، حتى روي أن أبا سفيان صعد الجبل ، وقال : أين ابن أبي كبشة؟ أين ابن أبي قحافة؟ أين ابن الخطاب؟ فأجابه عمر ، ودارت بينهم كلمات ، وما

__________________

(١) انظر : الشواذ ٢٢ ، والمحرر الوجيز ١ / ٥٢٣ ، والبحر المحيط ٣ / ٨٣ ، والدر المصون ٢ / ٢٣١.

(٢) البيت للفرزدق ينظر ديوانه ٢ / ٢١٥ ، وخزانة الأدب ٤ / ٤٦٠ ، ٤٦٤ ، ٧ / ٤٧٦ ، ٥٤٦ ، والكتاب ٣ / ٣٦٥ ، ولسان العرب (فمم) ، (فوه) ، وشرح أبيات سيبويه ٢ / ٢٥٨ ، وشرح شواهد الشافية ص ١١٥ ، والدرر ١ / ١٥٦ ، وسر صناعة الإعراب ١ / ٤١٧ ، ٤٨٥ ، وتذكرة النحاة ص ١٤٣ ، وجواهر الأدب ص ٩٥ والمحتسب ٢ / ٢٣٨ ، وأسرار العربية ص ٢٣٥ ، والأشباه والنظائر ١ / ٢١٦ ، وجمهرة اللغة ص ١٣٠٧ ، والخصائص ١ / ١٧٠ ، ٣ / ١٤٧ ، ٢١١ ، وشرح شافية ابن الحاجب ٣ / ٢١٥ ، والمقتضب ٣ / ١٥٨ ، والمقرب ٢ / ١٢٩ والإنصاف ١ / ٣٤٥ والهمع ١ / ٥١ والدر المصون ٢ / ٢٣١.

(٣) انظر : الكشف ١ / ٣٦٠ ، والسبعة ٢١٧ ، والحجة ٣ / ٨٥ ، والعنوان ٨١ ، وحجة القراءات ١٧٦ ، وإعراب القراءات ١ / ١٢٠ ، وشرح شعلة ٣٢٣ ، وشرح الطيبة ٤ / ١٧٠ ، وإتحاف ١ / ٤٩٠.

٥٩٤

تجاسر أبو سفيان على النزول من الجبل ، والذهاب إليهم.

والثاني : أن الكفار لما ذهبوا متوجهين إلى مكة ـ وكانوا في بعض الطريق ـ ندموا ، وقالوا : ما صنعنا شيئا ، قتلنا أكثرهم ولم يبق منهم إلا الشديد ، ثم تركناهم ونحن قاهرون ، ارجعوا حتى نستأصلهم بالكلية ، فلما عزموا على ذلك ألقى الله الرّعب في قلوبهم (١).

وقيل : إنّ هذا الوعد غير مختصّ بيوم أحد ، بل هو عام.

قال القفال : كأنه قيل : إنه وإن وقعت لكم هذه الواقعة في يوم أحد ، إلا أنّ الله ـ تعالى ـ سيلقي الرّعب منكم بعد ذلك في قلوب الكفّار حتى يقهر الكفار ، ويظهر دينكم على سائر الأديان ، وقد فعل الله ذلك ، حتى صار دين الإسلام قاهرا لجميع الأديان والملل. ونظير هذه الآية قوله : «نصرت بالرعب مسيرة شهر».

فصل

قال بعض العلماء : إن هذا العموم على ظاهره ، لأنه لا أحد يخالف دين الإسلام إلا في قلبه ضرب من الرّعب ، ولا يقتضي وقوع جميع أنواع الرّعب في قلوب الكافرين ، إنما يقتضي وقوع هذه الحقيقة في قلوبهم من بعض الوجوه ، وذهب جماعة من المفسّرين إلى أنه مخصوص بأوائل الكفار.

قوله : «فى قلوبهم» متعلق بالإلقاء ، وكذلك (بِما أَشْرَكُوا) ولا يضر تعلّق الحرفين ؛ لاختلاف معناهما ، فإن «في» للظرفية ، والباء للسببية. و «ما» مصدرية ، و «ما» الثانية مفعول به ل «أشركوا» وهي موصولة بمعنى الذي ، أو نكرة موصوفة ، والراجع : الهاء في «به» ولا يجوز أن تكون مصدرية ـ عند الجمهور ـ لعود الضمير عليها ، وتسلط النفي على الإنزال ـ لفظا ـ والمقصود نفي السلطان ـ أي : الحجة ـ كأنه قيل : لا سلطان على الإشراك فينزل.

كقول الشاعر : [السريع]

١٦٥٦ ـ ..........

ولا ترى الضّبّ بها ينجحر (٢)

أي لا ينجحر الضّبّ بها ، فيرى.

ومثله قول الشاعر : [الطويل]

١٦٥٧ ـ على لاحب لا يهتدى بمناره

 .......... (٣)

أي : لا منار فيهتدى به ، فالمعنى على نفي السلطان والإنزال معا. و «سلطانا» مفعول به ل «ينزّل».

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ٢٨٠) عن السدي والأثر ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ١٤٨).

(٢) تقدم.

(٣) تقدم.

٥٩٥

قوله : (بِما أَشْرَكُوا) «ما» مصدرية ، والمعنى : بسبب إشراكهم بالله ، وتقريره : أن الدعاء إنما يصير في محل الإجابة عند الاضطرار ، كقوله : (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ) [النمل : ٦٢] ومن اعتقد أن لله شريكا لم يحصل له الاضطرار ؛ لأنه يقول : إذا كان هذا المعبود لا ينصرني ، فالآخر ينصرني ، وإذا لم يحصل في قلبه الاضطرار لم تحصل له الأجابة ولا النصرة وإذا لم يحصل ذلك وجب أن يحصل الرعب والخوف في قلبه فثبت أن الشرك بالله يوجب الرعب.

قوله : (ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً) السّلطان ـ هنا ـ : الحجة والبرهان ، وفي اشتقاقه وجوه :

فقيل : من سليط السراج الذي يوقد به ، شبّه به لإنارته ووضوحه. قاله الزجاج.

وقال ابن دريد : من السلاطة ، وهي الحدّة والقهر.

وقال الليث : السلطان : القدرة ؛ لأن أصل بنائه من التسليط ، فسلطان الملك : قوته وقدرته ، ويسمى البرهان سلطانا ، لقوته على دفع الباطل.

فإن قيل : إن هذا الكلام يوهم أنّ فيه سلطانا إلا أنّ الله ـ تعالى ـ ما أنزله؟

فالجواب : أن تقدير الكلام أنه لو كان لأنزل الله به سلطانا ، فلما لم ينزل به سلطانا وجب عدمه.

وحاصل الكلام فيه ما يقوله المتكلمون : إن هذا لا دليل عليه ، فلم يجز إثباته. وبالغ بعضهم ، فقال : لا دليل عليه ، فيجب نفيه.

فصل

استدلوا بهذه الآية على فساد التقليد ؛ لأن الآية دلّت على أنّ الشّرك لا دليل عليه ، فوجب أن يكون القول به باطلا ، فكذلك كل قول لا دليل عليه.

وقوله : (وَمَأْواهُمُ النَّارُ) بين تعالى أنّ أحوال المشركين في الدنيا هو وقوع الخوف في قلوبهم وأحوالهم في الآخرة هي أن مأواهم : مسكنهم النار.

قوله : (وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ) المخصوص بالذّم محذوف ، أي : مثواهم ، أو النار.

المثوى : مفعل ، من ثويت ـ أي : أقمت ـ فلامه ياء وقدم المأوى ـ وهو المكان الذي يأوي إليه الإنسان ـ على المثوى ـ وهو مكان الإقامة ـ لأن الترتيب الوجوديّ أن يأوي ، ثم يثوي ، ولا يلزم من المأوى الإقامة ، بخلاف عكسه.

قوله تعالى : (وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ

٥٩٦

يُرِيدُ الدُّنْيا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ)(١٥٢)

صدق يتعدى لاثنين ، أحدهما بنفسه ، والآخر بالحرف ، وقد يحذف ، كهذه الآية.

والتقدير : صدقكم في وعده ، كقولهم : صدقته في الحديث وصدقته الحديث و (إِذْ تَحُسُّونَهُمْ) معمول ل «صدقكم» أي : صدقكم في ذلك الوقت ، وهو وقت حسّهم ، أي : قتلهم.

وأجاز أبو البقاء أن يكون معمولا للوعد في قوله : «وعده» ـ وفيه نظر ؛ لأن الوعد متقدّم على هذا الوقت.

يقال : حسسته ، أحسّه ، وقرأ عبيد بن عمير : تحسّونهم ـ رباعيا ـ أي : أذهبتم حسّهم بالقتل.

قال أبو عبيدة ، والزّجّاج : الحسّ : الاستئصال بالقتل.

قال الشاعر : [الطويل]

١٦٥٨ ـ حسسناهم بالسّيف حسّا فأصبحت

بقيّتهم قد شرّدوا وتبدّدوا (١)

وقال جرير : [الوافر]

١٦٥٩ ـ تحسّهم السّيوف كما تسامى

حريق النّار في الأجم الحصيد (٢)

ويقال : جراد محسوس ـ إذ قتله البرد ـ والبرد محسة للنبت : ـ أي : محرقة له ، ذاهبته. وسنة حسوس : أي : جدبة ، تأكل كلّ شيء.

قال رؤية : [الرجز]

١٦٦٠ ـ إذا شكونا سنة حسوسا

تأكل بعد الأخضر اليبيسا (٣)

وأصله من الحسّ ـ الذي هو الإدراك بالحاسة ـ.

قال أبو عبيد : الحسّ : الاستئصال بالقتل واشتقاقه من الحسّ ، حسّه ـ إذا قتله ـ لأنه يبطل حسّه بالقتل ، كما يقال : بطنه ـ إذا أصاب بطنه ، ورأسه ، إذا أصاب رأسه.

و «بإذنه» متعلق بمحذوف ؛ لأنه حال من فاعل «تحسّونهم» ، أي : تقتلونهم مأذونا لكم في ذلك.

قال القرطبيّ : «ومعنى قوله : «بإذنه» أي : بعلمه ، أو بقضائه وأمره».

__________________

(١) ينظر البيت في فتح القدير ١ / ٣٨٩ والجامع لأحكام القرآن ٤ / ٢٣٥ والبحر المحيط ٣ / ٧١.

(٢) ينظر البيت في ديوانه ص ١٤٣ وفتح القدير ١ / ٣٨٩ والجامع لأحكام القرآن ٤ / ٢٣٥.

(٣) ينظر البيت في ديوانه ص ٧٢ ومجاز القرآن ١ / ١٠٥ واللسان (حسس) وقفة اللغة وسر العربية ص ٦٩ والجامع لأحكام القرآن ٥ / ٢٣٥ والسيرة النبوية ٢ / ١١٤.

٥٩٧

فصل

وجه النظم : قال محمد بن كعب القرظيّ : لما رجع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه إلى المدينة من أحد ـ وقد أصابهم ما أصابهم ـ قال ناس من أصحابه : من أين أصابنا هذا ، وقد وعدنا الله بالنصر؟ فأنزل الله هذه الآية ؛ لأنّ النصر كان للمسلمين في الابتداء (١).

وقيل : كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم رأى في المنام أنه يذبح كبشا ، فصدق الله رؤياه بقتل طلحة بن عثمان ـ صاحب لواء المشركين يوم أحد ـ وقتل بعده تسعة نفر على اللواء ، فذلك قوله تعالى : (وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ) يريد : تصديق الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٢).

وقيل : يجوز أن يكون هذا الوعد ما ذكره في قوله تعالى : (إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ) [آل عمران ١٢٥] إلا أن هذا مشروطا بشرط الصبر والتقوى.

وقيل : يجوز أن يكون هذا الوعد هو قوله : (سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ) [آل عمران : ١٥١].

وقيل : الوعد هو قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم للرّماة : لا تبرحوا عن هذا المكان ؛ فإنا لا نزال غالبين ما دمتم في هذا المكان.

قال أبو مسلم : لما وعدهم الله ـ تعالى ـ في الآية المتقدمة ـ بإلقاء الرعب في قلوب الكفار ، أكد ذلك بأن ذكرهم ما أنجزهم من الوعد بالصبر في واقعة أحد ، فإنه لما وعدهم بالنصر ـ بشرط أن يتقوا ويصبروا فحين أتوا بذلك الشرط ، وفى الله تعالى لهم بالمشروط.

فصل

قد تقدم في قصة أحد ـ أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم جعل أحدا خلف ظهره ، واستقبل المدينة ، وأقام الرماة عند الجبل ، وأمرهم أن يثبتوا هناك ، ولا يبرحوا ـ سواء كانت النّصرة للمسلمين أو عليهم ـ فلما أقبل المشركون جعل الرّماة يرشقون خيلها ، والباقون يضربونهم بالسيوف ، حتّى انهزموا ، والمسلمون على آثارهم يحسونهم ، أي : يقتلونهم قتلا كثيرا.

قوله : (حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ) في «حتّى» قولان :

أحدهما : أنها حرف جر بمعنى «إلى» وفي متعلقها ـ حينئذ ـ ثلاثة أوجه :

أحدها : أنها متعلقة ب «تحسّونهم» أي : تقتلونهم إلى هذا الوقت.

الثاني : أنها متعلقة ب «صدقكم» وهو ظاهر قول الزمخشريّ ، قال : «ويجوز أن يكون المعنى : صدقكم الله وعده إلى وقت فشلكم».

__________________

(١) ذكره الفخر الرازي في «التفسير الكبير» (٩ / ٢٩.

(٢) انظر المصدر السابق.

٥٩٨

الثالث : أنّها متعلقة بمحذوف ، دلّ عليه السياق.

قال أبو البقاء (١) : «تقديره : دام لكم ذلك إلى وقت فشلكم».

القول الثاني : أنّها حرف ابتداء داخلة على الجملة الشرطية ، و «إذا» على بابها ـ من كونها شرطية ـ وفي جوابها ـ حينئذ ـ ثلاثة أوجه :

أحدها : قال الفرّاء : جوابها «وتنازعتم» وتكون الواو زائدة ، كقوله : (فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنادَيْناهُ) [الصافات : ١٠٣ ـ ١٠٤] والمعنى ناديناه ، كذا ـ هنا ـ الفشل والتنازع صار موجبا للعصيان ، فكأنّ التقدير : حتى إذا فشلتم ، وتنازعتم في الأمر عصيتم.

قال : ومذهب العرب إدخال الواو في جواب «حتّى» كقوله : (حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها) [الزمر : ٧٣] فإن قيل : قوله : (فَشِلْتُمْ وَتَنازَعْتُمْ) معصية ، فلو جعلنا الفشل والتنازع علة للمعصية لزم كون الشيء علة لنفسه ، وذلك فاسد.

فالجواب : أن المراد من العصيان ـ هنا ـ خروجهم عن ذلك المكان ، فلم يلزم تعليل الشيء بنفسه. ولم يقبل البصريون هذا الجواب ؛ لأن مذهبهم أنه لا يجوز جعل الواو زائدة.

قوله : (ثُمَّ صَرَفَكُمْ) و «ثم» زائدة.

قال أبو علي : ويجوز أن يكون الجواب (صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ) و «ثمّ» زائدة ، والتقدير : حتى إذا فشلتم وتنازعتم وعصيتم صرفكم عنهم. وقد أنشد بعض النحويين في زيادتها قول الشاعر : [الطويل]

١٦٦١ ـ أراني إذا ما بتّ بتّ على هوى

فثمّ إذا أصبحت أصبحت غاديا (٢)

وجوز الأخفش أن تكون زائدة في قوله تعالى : (حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ) [التوبة : ١١٨] وهذان القولان ضعيفان جدا.

والثالث ـ وهو الصحيح ـ أنه محذوف ، واختلفت عبارتهم في تقديره ، فقدّره ابن عطية : انهزمتم وقدّره الزمخشريّ : منعكم نصره.

وقدّره أبو البقاء : بان أمركم. ودلّ على ذلك قوله تعالى : (مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ) [آل عمران : ١٥٢].

وقدره غيره : امتحنتم.

وقيل فيه تقديم وتأخير ، وتقديره : حتّى إذا تنازعتم في الأمر وعصيتم فشلتم.

وقدّره أبو حيان : انقسمتم إلى قسمين ، ويدلّ عليه ما بعده ، وهو نظير قوله : (فَلَمَّا

__________________

(١) ينظر : الإملاء ١ / ١٥٤.

(٢) تقدم برقم ١٥٦٧.

٥٩٩

نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ) [لقمان : ٣٢] قال أبو حيان : لا يقال : كيف يقال : انقسمتم إلى مريد الدّنيا ، وإلى مريد الآخرة فيمن فشل وتنازع وعصى ؛ لأن هذه الأفعال لم تصدر من كلّهم ، بل من بعضهم.

واختلفوا في «إذا» ـ هذه ـ هل هي على بابها أم بمعنى «إذ»؟ والصحيح الأول ، سواء قلنا إنها شرطية أم لا.

فصل

الفشل : هو الضعف (١).

وقيل : الفشل : الجبن (٢) ، وليس بصحيح ؛ لقوله تعالى : (وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا) أي: فتضعفوا ، ولا يليق أن يكون المعنى فتجبنوا.

والمراد من التنازع اختلاف الرّماة حين انهزم المشركون ، فقال بعضهم لبعض : انهزم القوم ، فما مقامنا؟ وأقبلوا على الغنيمة.

وقال بعضهم : لا نتجاوز أمر رسول الله وثبت عبد الله بن جبير في نفر يسير من أصحابه دون العشرة ـ فلما رآهم خالد بن الوليد وعكرمة بن أبي جهل حملوا على الرّماة فقتلوهم ، وأقبلوا على المسلمين ، وحالت الريح ، فصارت دبورا بعد أن كانت صبا ، وانتقضت صفوف المسلمين ، واختلطوا فجعلوا يقتتلون على غير شعار ، يضرب بعضهم بعضا ما يشعرون من الدهش ، ونادى إبليس : إن محمدا قد قتل ، فكان ذلك سبب هزيمة المسلمين.

قوله : (وَعَصَيْتُمْ) يعني : أمر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أي خالفتم أمره بملازمة ذلك المكان (مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ) من الظفر والغنيمة.

فإن قيل : لم قدم ذكر الفشل على التنازع والمعصية؟

فالجواب : أن القوم لما رأوا هزيمة الكفار ، وطمعوا في الغنيمة ، فشلوا في أنفسهم عن الثبات ، طمعا في الغنيمة ، ثم تنازعوا ـ بطريق القول في أنّا هل نذهب لطلب الغنيمة ، أم لا؟ ثم اشتغلوا بطلب الغنيمة.

فإن قيل : إنما عصى البعض بمفارقة ذلك المكان ، فلم جاء العقاب عاما؟

فالجواب : أنّ اللفظ ـ وإن كان عاما ـ قد جاء المخصّص بعده ، وهو قوله : (مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا).

__________________

(١) انظر تفسير القرطبي (٤ / ١٥٢.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ٢٩١) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ١٥٢) وزاد نسبته لابن المنذر عن ابن عباس وأخرجه الطبري (٧ / ٢٩١) عن الربيع بلفظ : جبنتم عن عدوكم وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ١٥٢) وزاد نسبته لابن أبي حاتم.

٦٠٠