اللّباب في علوم الكتاب - ج ٥

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ٥

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 2-7451-2298-3
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٦٣٢

١٦١٨ ـ فأفضن بعد كظومهنّ بجرّة

من ذي الأباطح إذ رعين حقيلا (١)

الحقيل ، قيل : نبت.

وقيل : موضع ، فعلى الأول هو مفعول به ، وعلى الثاني هو ظرف ، ويكون قد شذ جره ب «في» ؛ لأنه ظرف مكان مختص ، ويكون المفعول محذوفا ، أي : إذ رعين الكلأ في حقيل ، ولا تقطع الإبل جرّتها إلا عند الجهد والفزع فلا تجترّ.

ومنه قول أعشى باهلة يصف رجلا يكثر نحر الإبل : [البسيط]

١٦١٩ ـ قد تكظم البزل منه حين تبصره

حتّى تقطّع في أجوافها الجرر (٢)

والجرر جمع جرّة. والكظامة : حلقة من حديد تكون في طرف الميزان تجمع فيها خيوطه ، وهي ـ أيضا ـ السير الذي يوصل بوتر القوس.

والكظائم : خروق بين البئرين يجري منها الماء إلى الأخرى ، كل ذلك تشبيه بمجرى النفس وتردّده فيه.

فصل

قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من كظم غيظا ـ وهو يقدر على إنفاذه ـ ملأ الله قلبه أمنا وإيمانا» (٣) ، وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من كظم غيظا ـ وهو يقدر على أن ينفذه ـ دعاه الله ـ عزوجل ـ يوم القيامة على رؤوس الخلائق ، حتّى يخيّره من أيّ الحور شاء» (٤).

(وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ) : الذين يكفّون غيظهم عن الإمضاء ، ونظيره قوله : (وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ) [الشورى : ٣٧] ، وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ليس الشّديد بالصّرعة ، لكنّه الّذي يملك نفسه عند الغضب» (٥).

__________________

(١) ينظر البيت في ديوانه ١٣٢ والصحاح ٤ / ١٦٧١ ومجالس العلماء ص ٣٩ و ٨٠ والجمهرة ٢ / ١٧٩ والتاج ٧ / ٢٨٢ وجمهرة أشعار العرب ص ٧٣٣ واللسان (كظم) والدر المصون ٢ / ٢١١.

(٢) ينظر البيت في تفسير القرطبي ٤ / ٢٠٦ ورغبة الآمل ١ / ١٩٢ والخزانة ١ / ١٩٤ والكامل في اللغة والأدب ٤ / ٦٥ والبحر المحيط ٣ / ٦٠ والدر المصون ٢ / ٢١١.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ٢١٦) عن أبي هريرة وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ١٣٠) وزاد نسبته لعبد الرزاق وابن المنذر والحديث ذكره السيوطي أيضا في «الجامع الصغير» (٨٩٩٧) وعزاه لابن أبي الدنيا في «ذم الغضب» ورمز له بالضعف.

وللحديث شاهد من حديث معاذ.

أخرجه أبو داود ٢ / ٦٦٢) رقم (٤٧٧٧).

(٤) تقدم.

(٥) أخرجه مالك في «الموطأ» (٢ / ٩٠٦) كتاب حسن الخلق باب ما جاء في الغضب (١٢) والبخاري (١٠ / ٥٣٥) كتاب الأدب ، باب الحذر من الغضب (٦١١٦) ومسلم (٤ / ٢٠١٤) كتاب البر والصلة باب فضل من يملك نفسه عند الغضب (١٠٧ ـ ٢٦٠٩) والترمذي (٢٠٢٠) وأحمد (٢ / ٢٣٦ ، ٢٦٨) والبيهقي (١٠ / ٢٣٥ ، ٣٤١) والطحاوي في «مشكل الآثار» (٢ / ٢٥٤) والبخاري في «الأدب المفرد» ـ

٥٤١

الصفة الثالثة : قوله : (وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ).

قال القفال : يحتمل أن يكون هذا راجعا إلى ما ذم من فعل المشركين في أكل الربا ، فنهي المؤمنين عن ذلك ، وندبوا إلى العفو عن المعسرين ، فإنه تعالى قال ـ عقب قصة الربا والتداين ـ : (وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ) وقال (وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ) [البقرة : ٢٨٠].

ويحتمل أن يكون هذا بسبب غضب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، حين مثّلوا بعمّه حمزة ، وقال : لأمثلنّ بهم فندب إلى كظم هذا الغيظ.

وقال الكلبي : العافين عن المملوكين (١) سوء الأدب.

وقال زيد بن أسلم ومقاتل : عمن ظلمهم وأساء إليهم (٢) ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا يكون العبد ذا فضل حتّى يصل من قطعه ، ويعفو عمّن ظلمه ويعطي من حرمه» (٣).

وروي عن عيسى ابن مريم أنه قال : «ليس الإحسان أن تحسن إلى من أحسن إليك ، ذاك مكافأة ، إنّما الإحسان أن تحسن إلى من أساء إليك» (٤).

ثم قال : (وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) هذه اللام يحتمل أن تكون للجنس ، فيدخل كل محسن ، وأن تكون للعهد ، فتكون إشارة إلى هؤلاء.

وهذه الآية من أقوى الدلائل على أن الله ـ تعالى ـ يعفو عن العصاة ، لأنه قد مدح الفاعلين لهذه الخصال ، وأحبّهم ، وهو أكرم الأكرمين ، والعفو والغفور الحليم ، والآمر بالإحسان ، فكيف يمدح بهذه الأفعال ، ويندب إليها ، ولا يفعلها؟ إن ذلك لممتنع في العقول.

قوله تعالى : (وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ)(١٣٥)

__________________

ـ (١٣١٧) وابن عبد البر في التمهيد (٦ / ٣٢١ ، ٣٢٢) والسهمي في «تاريخ جرجان» (٤٥١) والبغوي في «شرح السنة» (٦ / ٥٣١) عن أبي هريرة مرفوعا.

(١) أخرجه القرطبي في «تفسيره» (٤ / ١٣٣) وأبو حيان في «البحر المحيط» (٣ / ٦٣).

(٢) انظر المصدر السابق.

(٣) أخرج الحاكم في المستدرك ٤ / ١٦١ ، ١٦٢ عن عقبة بن عامر قال : لقيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوما ، فبدرته ، فأخذت بيده ، فأخذ بيدي فقال : يا عقبة ألا أخبرك بأفضل أخلاق أهل الدنيا وأهل الآخرة؟

تصل من قطعك ، وتعطي من حرمك ، وتعفو عمن ظلمك ، ألا من أراد أن يمد له في عمره ويبسط في رزقه ، فليتق الله ، وليصل ذا رحمه.

(٤) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٥٥). وعزاه لأحمد وابن عساكر عن الشعبي قال : قال عيسى ابن مريم ... فذكره.

٥٤٢

أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ)(١٣٦)

يجوز أن يكون معطوفا على الموصول قبله ، ففيه ما فيه من الأوجه السابقة ، وتكون الجملة من قوله : (وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) جملة اعتراض بين المتعاطفين.

ويجوز أن يكون «والذين» مرفوعا بالابتداء ، و «أولئك» مبتدأ ثان ، و «جزاؤهم» مبتدأ ثالث ، و «مغفرة» خبر الثالث ، والثالث وخبره خبر الثاني ، والثاني وخبره خبر الأول.

وقوله : (إِذا فَعَلُوا) شرط ، وجوابه : «ذكروا».

قوله : (فَاسْتَغْفَرُوا) عطف على الجواب ، والجملة الشرطية وجوابها صلة الموصول ، والمفعول الأول ل «استغفروا» محذوف ، أي : استغفروا الله لذنوبهم ، وقد تقدم الكلام على «استغفر» ، وأنه تعدى لاثنين ، ثانيهما بحرف الجر ، وليس هو هذه اللام ، بل «من» وقد يحذف.

فصل في سبب النزول

قال ابن مسعود : قال المؤمنون : يا رسول الله ، كانت بو إسرائيل أكرم على الله منّا ؛ كان أحدهم إذا أذنب أصبحت كفارة ذنبه مكتوبة على عتبة بابه ، اجدع أنفك ، افعل كذا ، فأنزل الله هذه الآية (١).

قال عطاء : نزلت في نبهان التمار ـ وكنيته أبو مقبل ـ أتته امرأة حسناء ، تبتاع منه تمرا ، فقال لها : إن هذا التمر ليس بجيّد ، وإن في البيت أجود منه ، فذهب بها إلى بيته ، فضمها إلى نفسه ، وقبّلها ، فقالت له : اتّق الله ، فتركها ، وندم على ذلك ، وأتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وذكر له ذلك فنزلت هذه الآية (٢).

وقال مقاتل والكلبيّ : آخى رسول الله بين رجلين ، أحدهما من الأنصار ، والآخر من ثقيف ، فخرج الثقفيّ في غزاة مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالقرعة في السفر ، وخلف الأنصاريّ على أهله ، يتعاهدهم ، واشترى لهم اللحم ذات يوم ، فلما أرادت المرأة أن تأخذ منه ، دخل على أثرها ، وقبّل يدها ، فوضعت كفّها على وجهها ، ثم ندم الرجل وانصرف ، ووضع التراب على رأسه ، وهام على وجهه ، ولما رجع الثقفيّ لم يستقبله الأنصاريّ ، فسأل امرأته عن حاله ، فقالت : لا أكثر الله في الإخوان مثله ، ووصفت له الحال ، والأنصاري يسيح في الجبال تائبا مستغفرا ، فطلب الأنصاريّ الثقفيّ حتى وجده ، فأتى به

__________________

(١) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ١٣٧) وعزاه لابن المنذر عن عبد الله بن مسعود.

وأخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ٢١٩ ـ ٢٢٠) عن ابن مسعود.

(٢) ذكره القرطبي في «تفسيره» (٤ / ١٣٥) من رواية عطاء عن ابن عباس.

٥٤٣

أبا بكر ؛ رجاء أن يجد عنده راحة وفرجا ، وقال الأنصاريّ : هلكت ، وذكر القصة ، فقال أبو بكر : ويحك! أما علمت أن الله يغار للغازي ما لا يغار للمقيم؟ ثم لقيا عمر ، فقال له مثل ذلك ، فأتيا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال لهما مثل مقالتهما ، فأنزل الله هذه الآية (١).

الفاحشة ـ هنا ـ نعت محذوف ، تقديره : فعلوا فعلة فاحشة.

وأصل الفحش : القبح الخارج عن الحد ، فقوله : (فاحِشَةً) يعني : قبيحة ، خارجة عما أذن الله فيه.

قال جابر : الفاحشة : الزنا (٢) ؛ لقوله تعالى : (وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ) [النساء : ٦٥] ، وقوله : (وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً) [الإسراء : ٣٢].

قوله : (أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ).

قال الزمخشري : «الفاحشة : ما كان فعله كاملا في القبح ، وظلم النفس هو أي ذنب كان ، مما يؤاخذ الإنسان به».

وقيل : الفاحشة : هي الكبيرة ، وظلم النفس هو الصغيرة.

وقيل : الفاحشة ، هي الزنا ، وظلم النفس : هو القبلة واللّمسة والنظرة.

وقال مقاتل والكلبيّ : الفاحشة ما دون الزنا من قبلة أو لمسة ، أو نظرة ، فيما لا يحل (٣).

وقيل : فعلوا فاحشة فعلا ، أو ظلموا أنفسهم قولا.

قوله : (ذَكَرُوا اللهَ) أي : ذكروا وعيد الله وعقابه ، فيكون من باب حذف المضاف.

قال الضحاك : ذكروا العرض الأكبر على الله (٤).

وقال مقاتل والواقديّ : تفكروا أن الله سائلهم (٥).

وقيل : المراد بهذا الذكر : ذكر الله بالثناء والتعظيم والإجلال ؛ لأن من أراد أن يسأل الله تعالى مسألة ، فالواجب أن يقدم على تلك المسألة الثناء على الله تعالى ، فهاهنا لما كان المراد منه : الاستغفار من الذنوب قدّموا عليه الثناء ، ثم اشتغلوا بالاستغفار ، (فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ) أي : ندموا على فعل ما مضى مع العزم على ترك مثله في

__________________

(١) ذكره الفخر الرازي في «التفسير الكبير» (٩ / ٩) عن ابن عباس.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ٢١٨) عن جابر وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ١٣٧) وزاد نسبته لابن المنذر.

وأخرجه الطبري أيضا (٧ / ٢١٨) عن السدي وذكره السيوطي في «الدر المنثور» وزاد نسبته لابن أبي حاتم.

(٣) ذكره أبو حيان في «البحر المحيط» (٣ / ٦٤) عن مقاتل والكلبي.

(٤) انظر تفسير القرطبي (٤ / ١٣٥) و «تفسير الرازي» (٩ / ٩).

(٥) ينظر المصدر السابق.

٥٤٤

المستقبل ، وهذا حقيقة التوبة ، فأما الاستغفار باللسان ، فلا أثر له في إزالة الذنب ، بل يجب إظهار هذا الاستغفار ، لإزالة التهمة.

وقوله : (لِذُنُوبِهِمْ) أي : لأجل ذنوبهم.

قوله : (وَمَنْ يَغْفِرُ) استفهام بمعنى : النفي ، ولذلك وقع بعده الاستثناء.

قوله : (إِلَّا اللهُ) بدل من الضمير المستكن في «يغفر» ، والتقدير : لا يغفر أحد الذنوب إلا الله تعالى ، والمختار ـ هنا ـ الرفع على البدل ، لكون الكلام غير إيجاب. وقد تقدم تحقيقه عند قوله تعالى : (وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ) [البقرة : ١٣٠].

وقال أبو البقاء «من» مبتدأ ، «يغفر» خبره ، و «إلا الله» فاعل «يغفر» ، أو بدل من المضمر فيه ، وهو الوجه ؛ لأنك إذا جعلت «الله» فاعلا ، احتجت إلى تقدير ضمير ، أي : ومن يغفر الذنوب له غير الله.

قال شهاب الدين : «وهذا الذي قاله ـ أعني : جعله الجلالة فاعلا ـ يقرب من الغلط ؛ فإن الاستفهام ـ هنا ـ لا يراد به حقيقته ، إنما يراد «النفي» ، والوجه ما تقدم من كون الجلالة بدلا من ذلك الضمير المستتر ، والعائد على «من» الاستفهامية».

ومعنى الكلام أن المغفرة لا تطلب إلا من الله ؛ لأنه القادر على عقاب العبد في الدنيا والآخرة ، فكان هو القادر على إزالة العقاب عنه.

قوله : (وَلَمْ يُصِرُّوا) يجوز أن تكون جملة حالية من فاعل (فَاسْتَغْفَرُوا) أي : استغفروا غير مصرّين ، ويجوز أن تكون هذه الجملة منسوقة على (فَاسْتَغْفَرُوا) أي : ترتب على فعلهم الفاحش ذكر الله تعالى ، والاستغفار لذنوبهم ، وعدم إصرارهم عليها ، وتكون الجملة من قوله : (وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ ـ) على هذين الوجهين معترضة بين المتعاطفين على الوجه الثاني ، وبين الحال وذي الحال على الوجه الأول.

فصل

وأصل الإصرار : الثبات على الشيء.

قال الحسن : إتيان العبد ذنبا عمدا إصرار ، حتى يتوب (١).

وقال السّدّي : الإصرار : السكوت وترك الاستغفار (٢).

وعن أبي نصيرة قال : لقيت مولى لأبي بكر ، فقلت له : أسمعت من أبي بكر شيئا؟

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ٢٢٤) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ١٣٩) وزاد نسبته لعبد الرزاق وابن أبي حاتم عن الحسن.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ٢٢٤) وابن أبي حاتم كما في «الدر المنثور» (٢ / ١٣٩) عن السدي.

وذكره أبو حيان في «البحر المحيط» (٣ / ٦٥).

٥٤٥

قال : نعم ، سمعته يقول : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما أصرّ من استغفر ، وإن عاد في اليوم سبعين مرّة» (١).

وقيل : الإصرار : المداومة على الشيء ، وترك الإقلاع عنه ، وتأكيد العزم على ألا يتركه ، من قولهم : صر الدنانير ، إذا ربط عليها ، ومنه : صرّة الدراهم ـ لما يربط منها ـ.

قال الحطيئة : يصف خيلا : [الطويل]

١٦٢٠ ـ عوابس بالشّعث الكماة إذا ابتغوا

علالتها بالمحصدات أصرّت (٢)

أي : ثبتت ، وأقامت ، مداومة على ما حملت عليه.

وقال الشاعر : [البسيط]

١٦٢١ ـ يصرّ باللّيل ما تخفي شواكله

يا ويح كلّ مصرّ القلب ختّار (٣)

و «ما» في قوله : (عَلى ما فَعَلُوا) يجوز أن تكون اسمية بمعنى : الذي ، ويجوز أن تكون مصدرية.

قوله : (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) يجوز أن يكون حالا ثانية من فاعل (فَاسْتَغْفَرُوا ،) وأن يكون حالا من فاعل (يُصِرُّوا ،) والتقدير : ولم يصرّوا على ما فعلوا من الذنوب بحال ما كانوا عالمين بكونها محرمة ؛ لأنه قد يعذر من لا يعلم حرمة الفعل ، أما العالم بالحرمة ، فإنه لا يعذر.

ومفعول (يَعْلَمُونَ) محذوف للعلم به.

فقيل : تقديره : يعلمون أن الله يتوب على من تاب ، قاله مجاهد (٤).

وقيل : يعلمون أن تركه أولى (٥) ، قاله ابن عباس والحسن.

وقيل : يعلمون المؤاخذة بها ، أو عفو الله عنها.

وقال ابن عبّاس ، ومقاتل ، والحسن ، والكلبيّ : وهم يعلمون أنها معصية (٦).

__________________

(١) أخرجه أبو داود كتاب الصلاة باب في الاستغفار رقم (١٥١٤) والترمذي كتاب الدعوات باب : ما أصر من استغفر رقم (٣٥٥٤) والطبري في «تفسيره» (٧ / ٢٢٥) وأبو يعلى (١ / ١٢٤ ـ ١٢٥) رقم (١٣٧ ، ١٣٨ ، ١٣٩) عن أبي بكر الصديق.

وقال الترمذي : هذا حديث غريب إنما نعرفه من حديث أبي نصيرة وليس إسناده بالقوي.

والحديث ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ١٣٩) وزاد نسبته لعبد بن حميد وابن أبي حاتم والبيهقي في «شعب الإيمان».

(٢) ينظر البيت في ديوانه (٣٤١) والبحر المحيط ٣ / ٦٠. والقرطبي ٤ / ٢١١ والدر المصون ٢ / ١٢.

(٣) ينظر البيت في القرطبي ٤ / ٢١١ والبحر المحيط ٣ / ٦٠ والدر المصون ٢ / ٢١٢.

(٤) ينظر : البحر المحيط ٣ / ٦٥.

(٥) ذكره القرطبي في «تفسيره» (٤ / ١٣٦) وأبو حيان في «البحر المحيط» (٣ / ٦٥).

(٦) انظر المصدر السابق.

٥٤٦

وقيل : وهم يعلمون أن الإصرار ضار (١).

وقال الضّحّاك : وهم يعلمون أن الله يملك مغفرة الذنوب ، وقال الحسن بن الفضل : وهم يعلمون أن لهم ربا يغفر الذنوب (٢).

وقيل : وهم يعلمون أن الله تعالى ، لا يتعاظمه العفو عن الذنوب ـ وإن كثرت ـ.

وقيل : وهم يعلمون أنهم إن استغفروا غفر لهم.

قوله : (أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ ،) والمعنى : أن المطلوب بالتوبة أمران :

الأول : الأمن من العقاب ، وإليه الإشارة بقوله : (مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ).

والثاني : إيصال الثواب إليه ، وهو المراد بقوله : (جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها).

قوله : (مِنْ رَبِّهِمْ) في محل رفع ؛ نعتا ل «مغفرة» ، و «من» للتبعيض ، أي : من مغفرات ربهم.

قوله : (خالِدِينَ فِيها) حال من الضمير في (جَزاؤُهُمْ ؛) لأنه مفعول به في المعنى ؛ لأن المعنى : يجزيهم الله جنات في حال خلودهم ويكون حالا مقدرا ، ولا يجوز أن تكون حالا من «جنّات» في اللفظ ، وهي لأصحابها في المعنى ؛ إذ لو كان ذلك لبرز الضمير ، لجريان الصفة على غير من هي له ، والجملة من قوله : (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) في محل رفع ؛ نعتا ل «جنّات». وتقدم إعراب نظير هذه الجمل.

قوله : (وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ) المخصوص بالمدح محذوف ، تقديره : ونعم أجر العاملين الجنة.

فصل

دلّت هذه الآية على أن الغفران والجنات يكون أجرا لعملهم ، وجزاء عليه.

قال القاضي : وهذا يبطل قول من قال : إن الثواب تفضّل من الله ، وليس بجزاء على عملهم.

قال ثابت البناني : بلغني أن إبليس بكى حين نزلت هذه الآية (وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ) الآية.

قوله تعالى : (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (١٣٧) هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ)(١٣٨)

لما وعد على الطاعة والتوبة بالمغفرة والجنة ، أتبعه بذكر ما يحملهم على فعل

__________________

(١) انظر المصدر السابق.

(٢) ذكره القرطبي في «تفسيره» (٤ / ١٣٦) والزمخشري في «الكشاف» (١ / ٤١٧) وأبو حيان في «البحر المحيط» (٣ / ٦٥).

٥٤٧

الطاعة والتوبة ، وهو تأمل أحوال القرون الخوالي ، وهذا تسلية من الله تعالى للمؤمنين.

قال الواحدي : أصل الخلوّ ـ في اللغة ـ الانفراد ، والمكان الخالي هو المنفرد عمن يسكن فيه ، ويستعمل ـ أيضا ـ في الزمان بمعنى : المضيّ ؛ لأن ما مضى انفرد عن الوجود ، وخلا عنه ، وكذا الأمم الخالية.

قوله : (مِنْ قَبْلِكُمْ) يجوز أن يتعلق ب «خلت» ، ويجوز أن يتعلق بمحذوف على أنه حال من (سُنَنٌ ؛) لأنه ـ في الأصل ـ يجوز أن يكون وصفا ، فلما قدّم نصب حالا.

والسّنن : جمع سنّة ، وهي الطريقة التي يكون عليها الإنسان ويلازمها ، ومنه سنّة الأنبياء.

قال خالد الهذلي لخاله أبي ذؤيب : [الطويل]

١٦٢٢ ـ فلا تجزعن من سنّة أنت سرتها

فأوّل راض سنّة من يسيرها (١)

وقال آخر : [الطويل]

١٦٢٣ ـ وإنّ الألى بالطّفّ من آل هاشم

تأسّوا ، فسنّوا للكرام التّآسيا (٢)

وقال لبيد : [الكامل]

١٦٢٤ ـ من أمّة سنّت لهم آباؤهم

ولكلّ قوم سنّة وإمامها (٣)

وقال المفضّل : السّنّة : الأمة ، وأنشد : [البسيط]

١٦٢٥ ـ ما عاين النّاس من فضل كفضلكم

ولا رأوا مثلكم في سالف السّنن (٤)

ولا دليل فيه ؛ لاحتمال أن يكون معناه : أهل السنن.

وقال الخليل : سنّ الشيء بمعنى : صوره ، ومنه : (مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ) [الحجر : ٢٨] أي : مصوّر وقيل : سن الماء والدرع إذا صبهما ، وقوله : (مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ) يجوز أن يكون منه ، ولكن نسبة الصب إلى الطين بعيدة.

__________________

(١) البيت لخالد الهذلي ـ ينظر جمهرة اللغة ص ٧٢٥ وخزانة الأدب ٥ / ٨٤ ، ٨ / ٥١٥ ، ٩ / ٥٩ والخصائص ٢ / ٢١٢ واللسان (سير) والدر المصون ٢ / ٢١٣ ولزهير بن أبي سلمى في الأشباه والنظائر ٢ / ٣٩٩ ولخالد بن عتبة الهذلي في لسان العرب (سنن) وروي صدر هذا البيت برواية أخرى وهي :

فلا تغضبن من سيرة أنت سرتها

(٢) البيت لسليمان بن قتيبة ينظر ابن الشجري ١ / ١٣١ والبحر المحيط ٣ / ٦٠ ، ورغبة الآمل ١ / ٨٦ وأنساب الأشراف ٥ / ٣٣٩ وجامع البيان ٧ / ٢٣١ والصحاح ٦ / ٢٢٦٨ والتاج ١٠ / ١٧ والدر المصون ٢ / ٢١٣.

(٣) ينظر البيت في ديوانه (٣٢٠) والدرر ١ / ٥ وابن الشجري ١ / ١١٠ والخصائص ١ / ٣٢ والهمع ١ / ١١ والقرطبي ٤ / ٢١٦ والبحر المحيط ٣ / ٦٠ وشرح القصائد العشر ص ٢٧٥ وجمهرة أشعار العرب ص ٢٦٧ وجامع البيان ٧ / ٢٣٠ والدر المصون ٢ / ٢١٣.

(٤) ينظر البيت في البحر المحيط ٣ / ٦٠ والقرطبي ٤ / ٢١٦ والدر المصون ٢ / ٢١٣.

٥٤٨

وقيل : مسنون ، أي : متغير.

وقال بعض أهل اللغة : هي فعلة من سنّ الماء ، يسنه ، إذا والى صبّه ، والسّنّ : صبّ الماء والعرق نحوهما.

وأنشد لزهير : [الوافر]

١٦٢٦ ـ نعوّدها الطراد كلّ يوم

تسنّ على سنابكها القرون (١)

أي : يصب عليها من العرق ، شبّه الطريقة بالماء المصبوب ، فإنه يتوالى جري الماء فيه على نهج واحد ، فالسّنّة بمعنى : مفعول ، كالغرفة.

وقيل : اشتقاقها من سننت النّصل ، أسنّه ، سنّا ، إذا حددته [على المسن](٢) ، والمعنى : أن الطريقة الحسنة ، يعتنى بها ، كما يعتنى بالنّصل ونحوه.

وقيل : من سنّ الإبل ، إذا أحسن رعايتها ، والمعنى : أن صاحب السنة يقوم على أصحابه ، كما يقوم الراعي على إبله ، والفعل الذي سنّه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم سمّي سنّة بمعنى : أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أحسن رعايته وإدامته. وقد مضى من ذلك جملة صالحة في البقرة.

فصل

قال [أكثر المفسرين](٣) : المراد : سنن الهلاك ؛ لقوله تعالى : (فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) [الزخرف : ٢٥] ؛ لأنهم لما خالفوا الرّسل ؛ لحرصهم على الدنيا ، ثم انقرضوا ، ولم يبق من دنياهم أثر وبقي اللعن في الدنيا ، والعقاب في الآخرة عليهم ، فرغّب الله تعالى أمّة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الإيمان بالتداخل في أحوال هؤلاء الماضين ، ليصير ذلك داعيا لهم إلى الإيمان بالله ورسله ، والإعراض عن الرياسة في طلب الدنيا والحياة.

قال الزجاج : المعنى : أهل سنن ، فحذف المضاف.

قال مجاهد : بل المراد ، سنة الله تعالى في الكافرين والمؤمنين ، فإن الدنيا لم تبق ، لا مع المؤمن ، ولا مع الكافر ، ولكن المؤمن يبقى له بعد موته الثناء الجميل في الدنيا ، والثواب الجزيل في العقبى ، والكافر يبقى اللعن عليه في الدنيا والعقاب في الآخرة.

قوله : (فَسِيرُوا) جملة معطوفة على ما قبلها ، والتسبّب في هذه الفاء ظاهر ، أي : سبب الأمر بالسير لتنظروا ـ نظر اعتبار ـ خلوّ من قبلكم من الأمم وطرائقهم.

وقال أبو البقاء : «ودخلت الفاء في «فسيروا» ؛ لأن المعنى على الشرط ، أي : إن شككتم فسيروا».

__________________

(١) ينظر البيت في ديوانه (١٨٧) وأشعار الشعراء الستة الجاهلين ١ / ٣٣٨ واللسان (سنن) والدر المصون ٢ / ٢١٣.

(٢) سقط في أ.

(٣) في أ : الأكثرون.

٥٤٩

وقوله : (كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) «كيف» خبر مقدم ، واجب التقديم ، لتضمّنه معنى «الاستفهام» ، وهو معلق ل «انظروا» قبله ، فالجملة في محل نصب بعد إسقاط الخافض ؛ إذ الأصل : انظروا في كذا.

فصل

والغرض من هذا الكلام : زجر الكفار عن الكفر بتأمل أحوال المكذبين ، ونظيره قوله تعالى : (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ) [الصافات : ١٧١ ـ ١٧٣] ، وقوله : (وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) [القصص : ٨٣] ، وقوله : (أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ) [الأنبياء : ١٠٥] وليس المراد منه الأمر بالسير ـ لا محالة ـ بل المقصود : تعرف أحوالهم ، فإن حصلت المعرفة بغير السير حصل المقصود ، ويحتمل أن يقال ـ أيضا ـ : إنّ مشاهدة آثار المتقدمين لها ، أثر أقوى من أثر السماع.

قال الشاعر : [الخفيف]

١٦٢٧ ـ إنّ آثارنا تدلّ علينا

فانظروا بعدنا إلى الآثار (١)

فصل

قال المفسرون : وهذا في حرب أحد ، يقول : فأنا أمهلهم ، وأستدرجهم ، حتى يبلغ أجلي الذي أجّلت في نصرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأوليائه وهلاك أعدائه.

قوله تعالى : (هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ) أي : القرآن.

وقيل : ما تقدم من قوله : (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ).

وقيل : ما تقدم من أمره ونهيه ووعده ووعيده.

والموعظة : الوعظ وقد تقدم.

قوله : «للناس» يجوز أن يتعلق بالمصدر قبله ، ويجوز أن يتعلق بمحذوف على أنه وصف له.

قوله : (لِلْمُتَّقِينَ) يجوز أن يكون وصفا ـ أيضا ـ ويجوز أن يتعلق بما قبله ، وهو محتمل لأن يكون من التنازع ، وهو على إعمال الثاني للمحذوف من الأول.

فصل

في الفرق بين الإبانة وبين الهدى ، وبين الموعظة ؛ لأن العطف يقتضي المغايرة ، وذكروا فيه وجهين :

الأول : أن البيان هو الدلالة التي تزيل الشبهة ، والهدى بيان الطريق الرشيد ؛ ليسلك

__________________

(١) ينظر البيت في مفاتيح الغيب ٩ / ١٢.

٥٥٠

دون طريق الغيّ ، والموعظة هي الكلام الذي يفيد الزّجر عما لا ينبغي في الدين.

الثاني : أن البيان هو الدلالة ، وأما الهدى فهي الدلالة بشرط إفضائها إلى الاهتداء.

وخصّ المتقين ؛ لأنهم المنتفعون به ، وتقدّم الكلام في ذلك في قوله : «هدى للمتقين».

وقيل : إن قوله (هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ) عامّ ، ثم قوله : (وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ) مخصوص بالمتقين ؛ لأن الهدى اسم للدلالة الموصّلة إلى الاهتداء ، وهذا لا يحصل إلا في حقّ المتقين.

قوله تعالى : (وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)(١٣٩)

الأصل : توهنوا ، فحذفت الواو ؛ لوقوعها بين تاء وكسرة في الأصل ، ثم أجريت حروف المضارعة مجراها في ذلك ، ويقال : وهن ـ بالفتح في الماضي ـ يهن ـ بالكسر في المضارع.

ونقل أنه يقال : وهن ، ووهن ـ بضم الهاء وكسر في الماضي ـ و «وهن» يستعمل لازما ومتعديا ، تقول : وهن زيد ، أي : ضعف ، قال تعالى : (وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي) [مريم : ٤] ، ووهنته وأضعفته ، ومنه الحديث : «وهنتهم حمّى يثرب» (١) ، والمصدر على الوهن ـ بفتح الهاء وسكونها.

وقال زهير : [البسيط]

١٦٢٨ ـ ...........

فأصبح الحبل منها واهنا خلقا (٢)

أي : ضعيفا.

قوله : (وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ) جملة حالية من فاعل (تَهِنُوا)، أو (تَحْزَنُوا) ، والاستئناف فيها غير ظاهر ، و (الْأَعْلَوْنَ) جمع أعلى ، والأصل : أعليون ، فتحرّكت الياء ، وانفتح ما قبلها ، فقلبت ألفا فحذفت لالتقاء الساكنين ، وبقيت الفتحة لتدلّ عليها.

وإن شئت قلت : استثقلت الضمة على الياء ، فحذفت ، فالتقى ساكنان أيضا ـ الياء والواو ـ فحذفت الياء ؛ لالتقاء الساكنين ، وإنّما احتجنا إلى ذلك ؛ لأن واو الجمع لا يكون ما قبلها إلا مضموما ، لفظا ، أو تقديرا. وهذا من مثال التقدير.

__________________

(١) أخرجه البخاري كتاب الحج ب ٥٥ ، كتاب المغازي ب ٤٣ ومسلم كتاب الحج رقم ٢٤٠ وأبو داود كتاب المناسك ب ٥٠ والنسائي كتاب المناسك ٥٥ وأحمد (١ / ٢٩٠ ، ٢٩٥ ، ٣٠٦ ، ٣٧٣).

(٢) عجز بيت والبيت بتمامه :

وأخلفتك ابنة البكري ما وعدت

فأصبح الحبل منها واهنا خلقا

ينظر ديوانه (٣٤) وأشعار الشعراء الجاهلين ١ / ٣٠٣ والبحر المحيط ٣ / ٦١ والدر المصون ٢ / ٢١٤.

٥٥١

فصل

اعلم أن الآيات المتقدمة ، كالمقدمة لهذه الآية ، كأنه قال : إن بحثتم عن أحوال القرون الماضية ، علمتم أن أهل الباطل ، وإن اتفقت لهم [الصّولة] ، فمآل أمرهم إلى الضّعف ، ومآل أهل الحق إلى العلو والقوة ، فلا ينبغي أن تصير صولة الكفّار عليكم يوم أحد سببا لضعف قلوبكم ، وهذا حثّ لأصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على الجهاد على ما أصابهم من القتل ، والجراح يوم أحد ، يقول : (وَلا تَهِنُوا) أي : لا تضعفوا ولا تجبنوا عن جهاد أعدائكم بما نالكم من القتل والجرح ، (وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ) أي : تكون لكم العاقبة بالنصر والظّفر ، وهذا مناسب لما قبله ، لأن القوم انكسرت قلوبهم بذلك الوهن ، فكانوا محتاجين إلى ما يقوّي قلوبهم.

وقيل : (وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ) أي : أن حالكم أعلى من حالهم في القتل ، لأنكم أصبتم منهم يوم بدر أكثر مما أصابوا منكم يوم أحد ، وهو كقوله : (أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها) أو لأن قتالكم لله تعالى ، وقتالهم للشيطان ؛ أو لأن قتالكم للدين الحق ، وقتالهم للدين الباطل ، فكل ذلك يوجب أن تكونوا أعلى حالا منهم.

وقيل : «وأنتم الأعلون بالحجة».

قوله : (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) جوابه محذوف.

فقيل : تقديره : فلا تهنوا ولا تحزنوا.

وقيل : تقديره : إن كنتم مؤمنين علمتم أن هذه الموقعة لا تبقى بحالها ، وأن الدولة تصير للمسلمين.

فصل

معنى : (وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) أي : بقيتم على إيمانكم.

وقيل : وأنتم الأعلون فكونوا مصدّقين بما يعدكم الله ، ويبشّركم به من الغلبة.

وقيل : إن كنتم مؤمنين ، معناه : إذا كنتم مؤمنين ، أي : لأنكم مؤمنون.

وقال ابن عباس : انهزم أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الشعب ، فأقبل خالد بن الوليد بخيل المشركين يريد أن يعلو عليهم الجبل ، فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اللهم لا يعلونّ علينا ، اللهمّ لا قوّة إلّا بك» ، وثاب نفر من المسلمين ، رماة ، فصعدوا الجبل ورموا خيل المشركين ، حتى هزموهم ، فذلك قوله : (وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ)(١).

وقال الكلبيّ : نزلت هذه الآية بعد يوم أحد ، حين أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أصحابه بطلب

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ٢٣٦) من طريق عطية العوفي عن ابن عباس.

وأخرجه أيضا (٧ / ٢٣٤) عن ابن جريج وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ١٤٠) وزاد نسبته لابن أبي حاتم.

٥٥٢

القوم ـ مع ما أصابهم من الجراح ـ فاشتدّ ذلك على المسلمين ، فأنزل الله هذه الآية (١) ؛ دليله قوله تعالى : (وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ) [النساء : ١٠٢].

قوله تعالى : (إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ وَاللهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (١٤٠) وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ)(١٤١)

قرأ الأخوان ، وأبو بكر : قرح ـ بضم القاف ـ وكذلك «القرح» معرّفا.

والباقون بالفتح فيهما (٢).

فقيل : هما بمعنى واحد ، ثم اختلف القائلون بهذا.

فقال بعضهم : المراد بهما : الجرح نفسه ، وقال بعضهم ـ منهم الأخفش ـ المراد بهما المصدر ، يقال : قرح الجرح ، يقرح ، قرحا ، وقرحا.

قال امرؤ القيس : [الطويل]

١٦٢٩ ـ وبدّلت قرحا داميا بعد صحّة

لعلّ منايانا تحوّلن أبؤسا (٣)

والفتح لغة الحجاز ، والضم لغة تميم ، فهما كالضّعف والضّعف ، والكره والكره ، والوجد والوجد.

وقال بعضهم : المفتوح : الجرح ، والمضموم : ألمه ، وهو قول الفراء.

وقرأ ابن السميفع بفتح القاف والراء ، كالطرد والطرد.

وقال أبو البقاء : «وهو مصدر قرح يقرح ، إذا صار له قرحة ، وهو بمعنى : دمي».

وقرىء قرح (٤) ـ بضمهما ـ.

قيل : وذلك على الإتباع كاليسر واليسر ، والطّنب والطّنب.

وقرأ الأعمش : «إن تمسسكم قروح» ـ بالتاء من فوق (٥) ، [وصيغة الجمع في الفاعل](٦) ، وأصل المادة : الدلالة على الخلوص ، ومنه الماء القراح ، الذي لا كدورة فيه.

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ٢٣٤) عن الزهري.

(٢) ينظر : السبعة ٢١٦ ، والكشف ١ / ٣٥٦ ، والحجة ٣ / ٧٩ ، وإعراب القراءات ١ / ١١٩ ، وحجة القراءات ١٧٤ ، وشرح الطيبة ٤ / ١٦٧ ، وشرح شعلة ٣٢٢ ، والعنوان ٨١ ، وإتحاف ١ / ٤٨٨.

(٣) ينظر البيت في ديوانه (١٠٧) والهمع ١ / ١١٢ والدرر ١ / ٨٣ والدر المصون ٢ / ٢١٥ والبحر المحيط ٣ / ٦١.

(٤) ينظر : الدر المصون ٢ / ٢١٥.

(٥) ينظر : المحرر الوجيز ١ / ٥١١ ، والبحر المحيط ٢ / ٦٨ ، والدر المصون ٢ / ٢١٥.

(٦) في أ : بصيغة الجمع والتأنيث واضح.

٥٥٣

قال الشاعر : [الوافر]

١٦٣٠ ـ فساغ لي الشّراب ، وكنت قبلا

أكاد أغصّ بالماء القراح (١)

وأرض قرحة ـ أي : خالصة الطين ـ ومنه قريحة الرجل ـ أي : خالص طبعه ـ.

وقال الراغب (٢) : «القرح الأثر من الجراحة من شيء يصيبه من خارج ، والقرح ـ يعني : بالضم ـ أثرها من شيء داخل ـ كالبثرة ونحوها ـ يقال : قرحته ، نحو جرحته.

قال الشاعر : [البسيط]

١٦٣١ ـ لا يسلمون قريحا حلّ وسطهم

يوم اللّقاء ، ولا يشوون من قرحوا (٣)

أي : جرحوا. وقرح : خرج به قرح.

ويقال : قرح قلبه ، وأقرحه الله ـ يعني : فعل وأفعل فيه بمعنى ـ والاقتراح : الابتداع والابتكار ومنه : اقترح عليّ فلان كذا ، واقترحت بئرا : استخرجت منها ماء قراحا. والقريحة ـ في الأصل ـ المكان الذي يجتمع فيه الماء المستنبط ـ ومنه استعيرت قريحة الإنسان ـ وفرس قارح ، إذا أصابه أثر من ظهور نابه ، والأنثى قارحة ، وروضة قرحاء ، إذا كان في وسطها نور ؛ وذلك لتشبيهها بالفرس القرحاء».

قوله : (فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ) للنحويين ـ في مثل هذا ـ تأويل ، وهو أن يقدّروا شيئا

مستقبلا ؛ لأنه لا يكون التعليق إلا في المستقبل ـ وقوله : (فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ) ماض محقّق ـ وذلك التأويل هو التبيين ، أي : فقد تبيّن مسّ القرح للقوم وسيأتي له نظائر ، نحو : (إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ) [يوسف : ٢٦] و (وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ) [يوسف : ٢٦].

وقال بعضهم : جواب الشرط محذوف ، تقديره : فتأسّوا ، ونحو ذلك.

وقال أبو حيان : «ومن زعم أن جواب الشرط هو «فقد مسّ» ، فهو ذاهل».

قال شهاب الدين (٤) : «غالب النحويين جعلوه جوابا ، متأولين له بما ذكرت».

فصل

هذا خطاب للمسلمين حين انصرفوا من أحد مع الكآبة ، يقول : (إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ)

__________________

(١) تقدم برقم ١٣٢.

(٢) ينظر : المفردات ١١٥.

(٣) البيت للمتنخل الهذلي ـ ينظر ديوان الهذليين ٢ / ٣٢ واللسان (قدح) وشرح أشعار الهذليين ٣ / ١٨٧٩ وتهذيب اللغة ٤ / ٣٧ وأمالي القالي ١ / ٥٢ والصحاح ٣ / ٣٩٥ والدر المصون ٢ / ٢١٥.

(٤) ينظر : الدر المصون ٢ / ٢١٥.

٥٥٤

يوم أحد فقد مسّهم قرح مثله يوم بدر (١) ، وهو كقوله تعالى : (أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها) [آل عمران : ١٦٥].

وقيل : إن الكفار قد نالهم يوم أحد مثل ما نالكم من الجرح ، والقتل ؛ لأنه قتل منهم نيف وعشرون رجلا ، وقتل صاحب لوائهم ، والجراحات كثرت فيهم ، وعقر عامة خيلهم بالنبل ، وكانت الهزيمة عليهم في أول النهار (٢).

فإن قيل : كيف قال : (قَرْحٌ مِثْلُهُ ،) وما كان قرحهم يوم أحد مثل قرح المشركين.

فالجواب : أن تفسير القرح ـ في هذا التأويل ـ بمجرد الانهزام ، لا بكثرة القتلى.

قوله : (وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ) يجوز في «الأيّام» أن تكون خبرا ل «تلك» و «نداولها» جملة حالية ، العامل فيها معنى اسم الإشارة ، أي : أشير إليها حال كونها مداولة ، ويجوز أن تكون «الأيّام» بدلا ، أو عطف بيان ، أو نعتا لاسم الإشارة ، والخبر هو الجملة من قوله : (نُداوِلُها) وقد مر نحوه في قوله : (تِلْكَ آياتُ اللهِ نَتْلُوها) [آل عمران : ١٠٨] إلا أن هناك لا يجيء القول بالنعت ؛ لما عرفت أنّ اسم الإشارة لا ينعت إلا بذي أل و «بين» متعلق ب «نداولها» ، وجوّز أبو البقاء أن يكون حالا من مفعول «نداولها» وليس بشيء.

والمداولة : المناوبة على الشيء ، والمعاودة ، وتعهّده مرة بعد أخرى ، يقال : داولت بينهم الشيء فتداولوه ، كأن «فاعل» بمعنى : «فعل».

قال الشاعر : [الكامل]

١٦٣٢ ـ ترد المياه ، فلا تزال تداولا

في النّاس بين تمثّل وسماع (٣)

وأدال فلان فلانا : جعل له دولة.

وقال القفّال : المداولة : نقل الشيء من واحد إلى آخر ، يقال : تداولته الأيدي ـ إذا تناولته ومنه قوله تعالى : (كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ) [الحشر : ٧] أي : تتداولونها ، ولا تجعلون للفقراء منها نصيبا ، ويقال : الدّنيا دول ، أي : تنتقل من قوم إلى آخرين.

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ٢٣٧) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ١٤١) وزاد نسبته لابن أبي حاتم عن الحسن.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ٢٣٧ ـ ٢٣٨) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ١٤١) وزاد نسبته لابن أبي حاتم.

وذكره أبو حيان في «البحر المحيط» (٣ / ٦٨) عن ابن عباس والحسن.

(٣) البيت لزهير بن علس ـ ينظر شواهد الكشاف ٤ / ٣٩ ومجمع الأمثال ٢ / ١٤٣ والبحر ٣ / ٦١ والمفضليات ص ٢ والدر المصون ٢ / ٢١٦.

٥٥٥

ويقال دال له الدهر بكذا ـ إذا انتقل إليه.

ويقال : دولة ، ودولة ـ بفتح الفاء وضمها ـ وقد قرىء بهما في سورة الحشر كما سيأتي إن شاء الله تعالى.

واختلفوا ، هل اللفظتان بمعنى ، أو بينهما فرق.

فقال الراغب : «إنهما سيّان ، فيكون في المصدر لغتان».

وفرّق بعضهم بينهما ، واختلف هؤلاء في الفرق.

فقال بعضهم : الدّولة ـ بالفتح ـ في الحرب والجاه ، وبالضم : في المال ، وهذا تردّه القراءتان في سورة الحشر.

وقيل : بالضم اسم الشيء المتداول ، وبالفتح نفس المصدر ، وهذا قريب.

وقيل : بالضم هي المصدر ، وبالفتح الفعلة الواحدة ، فلذلك يقال : في دولة فلان ؛ لأنها مرة في الدهر.

والدّور والدّول متقاربان في المعنى ، ولكن بينهما عموم وخصوص ؛ فإن الدولة لا تقال إلا في الحظ الدنيويّ. والدّؤلول : الداهية ، والجمع الدآليل والدّؤلات.

وقرىء شاذّا : «يداولها» ـ بياء الغيبة (١) ـ وهو موافق لما قبله ، ولما بعده.

وقرأ العامة على الالتفات المفيد للتعظيم.

فصل

ومعنى مداولة الأيام بين الناس أن مسارّها لا تدوم ، وكذلك مضارّها ، فيوم يكون السرور لإنسان والغمّ لعدوه ، ويوم آخر بالعكس ، وليس المراد من هذه المداولة أن الله تعالى تارة ينصر المؤمنين ، وأخرى ينصر الكافرين ؛ لأن نصر الله منصب شريف عظيم ، فلا يليق بالكافر ، بل المراد من هذه المداولة : أنه تارة يشدّد المحنة على الكفار ، وتارة على المؤمنين ، وتشديد المحنة على المؤمن أدب له في الدنيا ، وتشديد المحنة على الكافر غضب من الله تعالى عليه.

وروي أن أبا سفيان صعد الجبل يوم أحد ، قال : أين ابن أبي كبشة؟ أين ابن أبي قحافة؟ أين ابن الخطاب؟ فقال عمر : هذا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهذا أبو بكر ، وهذا أنا عمر ، فقال أبو سفيان : يوم بيوم والأيام دول والحرب سجال ، فقال عمر : لا سواء ؛ قتلانا في الجنة ، وقتلاكم في النار ، فقال أبو سفيان : إن كان كما تزعمون فقد خبنا ـ إذن ـ وخسرنا (٢).

__________________

(١) ينظر : البحر المحيط ٣ / ٣ / ١٨ ، والدر المصون ٢ / ٢١٧.

(٢) ذكره الفخر الرازي في التفسير الكبير ٩ / ١٤.

٥٥٦

وروى البراء بن عازب قال : جعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على الرّماة يوم أحد ـ وكانوا خمسين رجلا ـ عبد الله بن جبير ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إن رأيتمونا تخطّفنا الطير فلا تبرحوا مكانكم هذا حتى أرسل إليكم ، وإن رأيتمونا هزمنا القوم وأوطأناهم فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم ، وكان على يمنة المشركين خالد ابن الوليد ، وعلى ميسرتهم عكرمة بن أبي جهل ، ومعهم النساء يضربن بالدفوف ، ويقلن الأشعار ، فقاتلوا حتى حميت الحرب ، فأخذ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سيفا ، فقال : من يأخذ هذا السيف بحقه ، ويضرب به العدو حتى ينحني؟ فأخذه أبو دجانة سماك بن خرشة الأنصاري ، فلما أخذه اعتمّ بعمامة حمراء ، وجعل يتبختر ، ـ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّها لمشية يبغضها الله ورسوله إلا في هذا الموضع» ففلق به هام المشركين ، وحمل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه على المشركين ، فهزموهم ، قال : فأنا ـ والله ـ رأيت النساء يشتدّون ـ قد بدت خلاخلهن وأسوقهن رافعات ثيابهن ، فقال أصحاب عبد الله : الغنيمة ، أي قوم الغنيمة ، ظهر أصحابكم ، فما تنتظرون؟ فقال عبد الله بن جبير : أنسيتم ما قال لكم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ فقالوا : والله لنأتينّ الناس فلنصيبن من الغنيمة ، فلما أتوهم صرفت وجوههم ، فأقبلوا منهزمين ، فذاك إذ تدعوهم ، والرسول في أخراهم ، فلم يبق مع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم غير اثني عشر رجلا ، فأصابوا منّا سبعين ، وكان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه أصابوا من المشركين يوم بدر أربعين ومائة ـ سبعين أسيرا ، وسبعين قتيلا ـ فقال أبو سفيان ثلاث مرات : أفي القوم محمد؟ فنهاهم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يجيبوه ، فقال : أفي القوم ابن أبي قحافة ثلاث مرات؟ أفي القوم عمر ثلاث مرات؟ فرجع إلى أصحابه ، فقال : أما هؤلاء فقد قتلوا ، فما ملك عمر نفسه ؛ فقال : كذبت ـ والله ـ يا عدوّ الله ؛ إن الذين عددت لأحياء كلهم ، وقد بقي لك ما يسوؤك ، قال : يوم بيوم بدر ، والحرب سجال ، إنكم ستجدون في القوم مثلة لم آمر بها ولم تسؤني ، ثم جعل يزمجر : اعل هبل ، اعل هبل ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أجيبوه ، قالوا يا رسول الله ما نقول؟ قال: قولوا : الله أعلى وأجلّ ، قال : إنّ لنا العزّى ولا عزّى لكم ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أجيبوه ، قالوا ما نقول؟ قال : قولوا : الله مولانا ولا مولى لكم. وروي هذا المعنى عن ابن عباس (١).

قوله : (وَلِيَعْلَمَ اللهُ) ذكر أبو بكر بن الأنباري في تعلّق هذه اللام وجهين :

أحدهما : أن اللام صلة لفعل مضمر ، يدل عليه أول الكلام ، تقديره : وليعلم الله الذين آمنوا نداولها.

الثاني : أن العامل فيها (نداولها) المذكور ، بتقدير : نداولها بين الناس ليظهر أمرهم ، ولنبين أعمالهم ، وليعلم الله الذين آمنوا ، فلما ظهر معنى اللام المضمر في

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ٢٤٠) عن ابن عباس بمعناه.

٥٥٧

«ليظهر» ، و «لتتبين» جرت مجرى الظاهرة ، فجاز العطف عليها.

وجوّز أبو البقاء (١) أن تكون الواو زائدة ، وعلى هذا ، فاللام متعلقة ب (نداولها) من غير تقدير شيء ، ولكن هذا لا حاجة إليه.

ولم يجنح إلى زيادة الواو إلا الأخفش في مواضع ـ ليس هذا منها ـ ووافقه بعض الكوفيين على ذلك.

وقدّره الزّمخشريّ : «فعلنا ذلك ليكون كيت وكيت ، وليعلم». فقدر عاملا ، وعلق به علة محذوفة ، عطف عليها هذه العلة.

قال أبو حيان : «ولم يعيّن فاعل العلة المحذوفة ، إنما كنّى عنه ب «كيت وكيت» ، ولا يكنّى عن الشيء حتى يعرف ، ففي هذا الوجه حذف العلة ، وحذف عاملها ، وإبهام فاعلها ، فالوجه الأول أظهر ؛ إذ ليس فيه غير حذف العامل». ويعني بالوجه الأول أنه قدّره : وليعلم الله فعلنا ذلك ـ وهو المداولة ، أو نيل الكفار منكم ـ.

وقال بعضهم : «اللام المتعلقة بفعل مضمر ، إما بعده ، أو قبله ، أما الإضمار بعده فبتقدير : وليعلم الله الذين آمنوا فعلنا هذه المداولة ، وأما الإضمار قبله فعلى تقدير : وتلك الأيام نداولها بين الناس لأمور : منها : ليعلم الله الذين آمنوا ، ومنها : ليتخذ منكم شهداء ، ومنها : ليمحص الله الذين آمنوا ، ومنها : ليمحق الكافرين. فكل ذلك كالسبب والعلّة في تلك المداولة». والعلم هنا ـ يجوز أن يتعدّى لواحد ، قالوا : لأنه بمعنى : عرف ـ وهو مشكل ؛ لأنه لا يجوز وصف الله تعالى بذلك لما تقدم أن المعرفة تستدعي جهلا بالشيء ـ أو أنّها متعلقة بالذات دون الأحوال. ويجوز أن يكون متعديا لاثنين ، فالثاني محذوف ، تقديره : وليعلم الله الذين آمنوا مميزين بالإيمان من غيرهم.

والواو في قوله : (وَلِيَعْلَمَ اللهُ) لها نظائر كثيرة في القرآن ، كقوله : (وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ) [الأنعام : ٧٥] وقوله : (وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) [الأنعام : ١١٣].

فصل

تقدير الكلام : وتلك الأيام نداولها بين الناس ، ليكون كيت وكيت ، وليعلم الله ، وإنما حذف المعطوف عليه ، للإيذان بأن المصلحة في هذه المداولة ليست بواحدة ؛ ليسلّيهم عما جرى ، وليعرّفهم تلك الواقعة ، وأن شأنهم فيها فيه من وجوه المصالح ما لو عرفوه لسرّهم.

فإن قيل : ظاهر قوله تعالى : (وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا) مشعر بأنه ـ تعالى ـ إنما فعل تلك المداولة ، ليكتسب هذا العلم ، وذلك في حقه تعالى محال ، ونظير هذه الآية ـ

__________________

(١) ينظر : الإملاء ١ / ١٥٠.

٥٥٨

في الإشكال ـ قوله تعالى : (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ) [آل عمران : ١٤٢] وقوله : (وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ) [العنكبوت : ٣]. وقوله : (لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً) [الكهف : ١٢] وقوله : (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ) [محمد : ٣١] وقوله : (إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ) [البقرة : ١٤٣] وقوله : (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) [هود : ٧]. ولقد احتج هشام بن الحكم بظواهر هذه الآيات على أن الله تعالى لا يعلم حدوث الحوادث إلا عند وقوعها ، فقال : كل هذه الآيات دالة على أنه ـ تعالى ـ إنما صار عالما بحدوث هذه الأشياء عند حدوثها.

وأجاب المتكلمون عنه بأن الدلائل العقلية دلّت على أنه ـ تعالى ـ يعلم الحوادث قبل وقوعها فثبت أن التغيير في العلم محال ، إلا أن إطلاق لفظ العلم على المعلوم ، والقدرة على المقدور مجاز مشهور ، يقال : هذا علم فلان ـ والمراد : معلومه ـ وهذه قدرة فلان ـ والمراد : مقدوره ، فكل آية يشعر ظاهرها بتجدّد العلم ، فالمراد : تجدّد المعلوم.

إذا عرف هذا فنقول : في هذه الآية وجوه :

أحدها : ليظهر الإخلاص من النفاق ، والمؤمن من الكافر.

وثانيها : ليعلم أولياء الله ، فأضاف العلم إلى نفسه تفخيما.

وثالثها : ليحكم بالامتياز فوضع العلم مكان الحكم بالامتياز ؛ لأن الحكم لا يحصل إلا بعد العلم.

ورابعها : ليعلم ذلك واقعا كما كان يعلم أنه سيقع ؛ لأنّ المجازاة تقع على الواقع ، دون المعلوم الذي لم يوجد.

قوله : (وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ) الظاهر أن «منكم» متعلّق بالاتخاذ ، وجوزوا فيه أن يتعلق بمحذوف ، على أنه حال من «شهداء» ؛ لأنه ـ في الأصل ـ صفة له.

فصل

والمراد بقوله : (وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ) أي : شهداء على النّاس بما صدر منهم من الذنوب والمعاصي ، فإن كونهم شهداء على الناس منصب عال ، ودرجة عالية.

وقيل : المراد منه : ويكرم قوما بالشهادة ؛ وذلك : لأن قوما من المسلمين فاتهم يوم بدر ، وكانوا يتمنّون لقاء العدو ، وأن يكون لهم يوم كيوم بدر ؛ يقاتلون فيه العدو ، ويلتمسون فيه الشهادة ، والقرآن مملوء من تعظيم حال الشهداء ، فإنه قرنهم مع النبيين في قوله : (وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ) [الزمر : ٦٩] وقوله : (فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ

٥٥٩

النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ) [النساء : ٦٩] وهذه الآيات تدلّ على أن جميع الحوادث بإرادة الله تعالى.

والشّهداء : جمع شهيد كالكرماء ، والظّرفاء.

فصل

في تسميتهم «شهداء» وجوه :

أحدها : قال النّضر بن شميل : الشهداء أحياء ، لقوله تعالى : (بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) [آل عمران : ٩] فأرواحهم حية ، وقد حضرت دار السلام ، وأرواح غيرهم لا تشهدها.

الثاني : قال ابن الأنباريّ : لأن الله تعالى وملائكته شهدوا لهم بالجنة ، فالشهداء جمع شهيد ، «فعيل» بمعنى : «مفعول».

الثالث : لأنهم يشهدون يوم القيامة مع النبيّين والصّدّيقين ، فيكونون شهداء على الناس.

الرابع : سمّوا شهداء ، لأنهم لما ماتوا أدخلوا الجنة ، بدليل أنّ الكفّار لما ماتوا أدخلوا النار ؛ قال تعالى : (أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً) [نوح : ٢٥].

فأما : (وَاللهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) فهذا اعتراض بين بعض التعليل وبعض.

قال ابن عباس : أي : المشركين ؛ لقوله تعالى : (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) [لقمان : ١٣].

قوله : (وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا) التمحيص : التخليص من الشيء.

وقيل : المحص كالفحص ، لكن الفحص يقال في إبراز الشيء من أثناء ما يختلط به وهو منفصل ، والمحص : يقال في إبرازه عما هو متصل به ، يقال : محصت الذهب ، ومحّصته ـ إذا أزلت عنه ما يشوبه من خبث ، ومحص الثوب : إذا زال عنه زئبره ومحص الحبل ـ إذا أخلق حتى ذهب عنه زئبره ، ومحص الظّبي : عدا. ف «محص» ـ بالتخفيف ـ يكون قاصرا ومتعديا ، هكذا روى الزجاج هذه اللفظة ـ الحبل ـ ورواها النقاش : محص الجمل ـ إذا ذهب وبره وامّلس ـ والمعنيان واضحان.

وقال الخليل : التمحيص : التخليص من الشيء المعيب.

وقيل : هو الابتلاء والاختبار.

قال الشاعر : [الطويل]

١٦٣٣ ـ رأيت فضيلا كان شيئا ملفّفا

فكشّفه التّمحيص حتّى بداليا (١)

__________________

(١) البيت لعبد الله بن معاوية. ينظر الكامل ١ / ١٨٣ واللسان (محص) وإرشاد الساري ٦ / ٢٩ وزاد المسير ٢ / ٤٦٧ ورغبة الآمل ٣ / ٢٤ والبحر المحيط ٣ / ٦٩ وتفسير غريب القرآن لابن قتيبة ص ١١٣ والدر المصون ٢ / ٢١٧.

٥٦٠