اللّباب في علوم الكتاب - ج ٥

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ٥

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 2-7451-2298-3
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٦٣٢

القيس ، وعبادة بن الصامت ، ويزيد بن ثعلبة ، وعباس بن عبادة ، وعقبة بن عامر ، وقطبة بن عامر ـ وهؤلاء خزرجيّون ـ وأبو الهيثم بن التّيّهان ، وعويم بن ساعدة ـ من الأوس ـ فلقوه في «العقبة» ـ وهي العقبة الأولى ـ فبايعوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على بيعة النساء ، على ألا يشركوا بالله شيئا ، ولا يسرقوا ولا يزنوا .. إلى آخر الآية ، فإن وفّيتم فلكم الجنة ، وإن غشيتم شيئا من ذلك ، فأخذتم بحدّه في الدنيا فهو كفّارة له ، وإن ستره الله عليكم فأمركم إلى الله إن شاء عذبكم ، وإن شاء غفر لكم ، قال : وذلك قبل أن يفرض عليهم الحرب ، قال : فلما انصرف القوم بعث معهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مصعب بن عمير بن هاشم بن عبد مناف وأمره أن يقرئهم القرآن ، ويعلمهم الإسلام ، ويفقههم في الدين ، فنزل مصعب على أسعد بن زرارة ، ثم إن أسعد بن زرارة خرج بمصعب ، فدخل به حائطا من حوائط بني ظفر ، فجلسا في الحائط ، واجتمع إليهما رجال من أسلم ، فقال سعد بن معاذ لأسيد بن حضير : انطلق إلى هذين الرجلين اللذين قد أتيا دارنا ـ ليسفّها ضعفاءنا ـ فازجرهما وانههما عن أن يأتيا دارنا ، فإن أسعد ابن خالتي ، ولو لا ذلك لكفيتك ، وكان سعد بن معاذ وأسيد بن حضير سيّدي قومهما من بني عبد الأشهل وهما مشركان ، فأخذ أسيد بن حضير حربته ، ثم أقبل إلى مصعب وأسعد ـ وهما جالسان في الحائط ـ فلما رآه أسعد بن زرارة قال لمصعب : هذا سيد قومه قد جاءك ، فاصدق الله فيه.

قال مصعب : إن يجلس أكلّمه ، فوقف عليهما متشتما ، فقال : ما جاء بكما إلينا ، تسفّهان ضعفاءنا؟ اعتزلا إن كانت لكما بأنفسكما حاجة.

فقال مصعب : أو تجلس فتسمع؟ فإن رضيت أمرا قبلته ، وإن كرهته كفّ عنك ما كرهت.

قال : أنصفت ، ثم ركز حربته وجلس إليهما ، فكلّمه مصعب بالإسلام ، وقرأ عليه القرآن ، فقالا : والله لعرفنا في وجهه الإسلام قبل أن نتكلم في إشراق وجهه وتسهّله ، ثم قال : ما أحسن هذا وأجمله ، كيف تصنعون إذا أردتم أن تدخلوا في هذا الدين؟

قال : تغتسل ، وتطهّر ثوبك ، ثم تشهد شهادة الحق ، ثم تصلي ركعتين.

فقام واغتسل ، وغسل ثوبه ، وتشهد شهادة الحق ، وصلى ركعتين ، ثم قال لهما : إن ورائي رجلا إن اتبعكما لم يتخلف عنه أحد من قومه ، وسأرسله إليكما الآن ، ثم أخذ حربته ، وانصرف إلى سعد وقومه ، وهم جلوس في ناديهم ـ فلما نظر إليه بن معاذ مقبلا قال : أحلف بالله لقد جاءكم أسيد بغير الوجه الذي ذهب به من عندكم ، فلما وقف على النّادي قال له سعد: ما فعلت؟

قال : كلمت الرجلين ، فو الله ما رأيت بهما بأسا ، وقد نهيتهما ، فقالا : تفعل ما أحببت ، وقد حدثت أن من بني حارثة أناسا خرجوا إلى أسعد بن زرارة ، ليقتلوه ، وذلك أنهم عرفوا أنه ابن خالتك ، ليخفروك.

٤٤١

فقام سعد مغضبا مبادرا تخوّفا للذي ذكر له من بني حارثة ، فأخذ الحربة ، ثم قال : والله ما أراك أغنيت شيئا ، فلما رآهما مطمئنين عرف أن أسيدا إنما أراد أن يسمع منهما ، فوقف عليهما متشتما ، فقال لأسعد بن زرارة : والله لو لا ما بيني وبينك من القرابة ، ما رمت هذا مني ، أتغشانا في دارنا بما نكره؟

فقال أسعد بن زرارة لمصعب بن عمير : أي مصعب ، جاءك ـ والله ـ سيد من وراءه من قومه ، إن يتبعك لم يتخلف عنك منهم أحد.

فقال له مصعب : أفتقعد وتسمع؟ فإن رضيت أمرا ، ورغبت فيه ، قبلته ، وإن كرهته ، عزلنا عنك ما تكره.

قال سعد : أنصفت ، ثم ركز الحربة ، فجلس ، فعرض عليه الإسلام ، وقرأ عليه القرآن.

قالا : فعرفنا والله في وجهه الإسلام قبل أن يتكلّم به ، ثم قال : كيف تصنعون إذا أنتم أسلمتم ودخلتم في هذا الدين؟

قالا : تغتسل وتطهر ثوبك ، ثم تشهد شهادة الحق ، ثم تصلي ركعتين ، فقام واغتسل وطهر ثوبه وتشهد شهادة الحق وركع ركعتين ، ثم أخذ حربته ، فأقبل عامدا إلى نادي قومه ومعه أسيد بن حضير.

فلما رآه قومه مقبلا ، قالوا : نحلف بالله لقد رجع سعد إليكم ، بغير الوجه الذي ذهب به من عندكم.

فلما وقف عليهم قال : يا بني عبد الأشهل ، كيف تعلمون أمري فيكم؟

قالوا : سيدنا وأفضلنا رأيا ، وأيمننا نقيبة.

قال : فإن كلام رجالكم ونسائكم عليّ حرام ، حتى تؤمنوا بالله ورسوله.

قال : فما أمسى في دار عبد الأشهل رجل ولا امرأة إلا مسلم أو مسلمة ، ورجع أسعد بن زرارة ومصعب إلى منزل أسعد بن زرارة ، فأقام عنده يدعو الناس إلى الإسلام ، حتى لم تبق دار من دور الأنصار إلا وفيها رجال ونساء مسلمون ، إلا ما كان من دار بني أمية بن زيد ، وخطمة ، ووائل ، وواقف ؛ وذلك أنه كان فيهم أبو قيس بن الأسلت الشاعر ، وكانوا يسمعونه ويطيعونه ، فوقف بهم عن الإسلام ، حتى هاجر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى «المدينة» ومضى بدر وأحد والخندق. قال : ثم إن مصعب بن عمير رجع إلى «مكة» وخرج معه من الأنصار سبعون رجلا مع حجّاج قومهم من أهل الشرك ، حتى قدموا «مكة» ، فواعدوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم العقبة من أوسط أيام التشريق ، وهي بيعة العقبة الثانية.

قال كعب بن مالك : فلما فرغنا من الحج وكانت الليلة التي واعدنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومعنا عبد الله بن عمرو بن حرام أبو جابر أخبرناه ، وكنا نكتم على من معنا من المشركين

٤٤٢

أمرنا ـ وكلمناه ، وقلنا له ، يا أبا جابر إنك سيد من ساداتنا ، شريف من أشرافنا ، وإنا نرغب بك عما أنت فيه أن تكون حطبا للنار غدا ، ودعوناه إلى الإسلام ، فأسلم ، وأخبرناه بميعاد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فشهد معنا العقبة ـ وكان نقيبا فيها ـ فبتنا تلك الليلة مع قومنا في رحالنا حتى إذا مضى ثلث الليل خرجنا لميعاد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نتسلّل مستخفين تسلّل القطا ، حتى إذا اجتمعنا في الشّعب عند «العقبة» ، ونحن سبعون رجلا ومعنا امرأتان من نسائنا ، نسيبة بنت كعب ، أم عمارة إحدى نساء بني النجّار ، وأسماء بنت عمرو بن عديّ ، أم منيع ، إحدى نساء بني سلمة ، فاجتمعنا في الشّعب ننتظر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى جاءنا ومعه عمه العبّاس بن عبد المطلب ، وهو يومئد على دين قومه ، إلا أنه أحب أن يحضر أمر ابن أخيه ، ويتوثّق له ، فلما جلسنا كان أول من تكلم العباس بن عبد المطلب.

فقال : يا معشر الخزرج ـ وكانت العرب إنما يسمون هذا الحي من أنصار خزرجها وأوسها ـ إن محمدا منا حيث قد علمتم ، وقد منعناه من قومنا ، ممن هو على مثل رأينا فيه ، وهو في عزّ من قومه ، ومنعة في بلده ، وإنه قد أبى إلا الانحياز إليكم ، واللحوق بكم فإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه ، ومانعوه ممن خالفه ، فأنتم وما تحمّلتم من ذلك ، وإن كنتم ترون أنكم مسلموه ، وخاذلوه ـ بعد الخروج إليكم ـ فمن الآن فدعوه ؛ فإنه في عزّ ومنعة.

قال : فقلنا : قد سمعنا ما قلت : فتكلّم يا رسول الله ، وخذ لنفسك ولربك ما شئت.

قال : فتكلّم رسول الله ، فتلا القرآن ودعانا إلى الله ـ عزوجل ـ ورغّب في الإسلام ، ثم قال : أبايعكم على أن تمنعوني ممّا تمنعون منه نساءكم وأبناءكم ـ.

فأخذ البراء بن معرور بيده ، ثم قال : والذي بعثك بالحق نبيّا ، لنمنعنّك مما نمنع منه أزرنا ، فبايعنا يا رسول الله ، فنحن أهل الحرب ، وأهل الحلقة ، ورثناها كابرا عن كابر ، قال : فاعترض القول ـ والبراء يكلّم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أبو الهيثم بن التّيّهان.

فقال : يا رسول الله إن بيننا وبين الناس حبالا ـ يعني العهود ـ وإنا قاطعوها ، فهل عسيت إن فعلنا ذلك ، ثم أظهرك الله ، أن ترجع إلى قومك وتدعنا؟

فتبسّم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم قال : «لا ، بل الأبد الأبد ، الدّم الدّم ، الهدم الهدم ، أنتم منّي وأنا منكم ، أحارب من حاربتم ، وأسالم من سالمتم» ثم قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أخرجوا إليّ منكم اثني عشر نقيبا ، كفلاء على قومهم بما فيهم ككفالة الحواريين لعيسى ابن مريم ، فأخرجوا تسعة من الخزرج ، وثلاثة من الأوس.

قال عاصم بن عمرو بن قتادة : إن القوم لما اجتمعوا لبيعة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال العباس بن عبادة بن نضلة الأنصاريّ : يا معشر الخزرج ، فهل تدرون علام تبايعون هذا الرجل إنكم تبايعونه على حرب الأحمر والأسود ، فإن كنتم ترون أنكم إذا أنهكت

٤٤٣

أموالكم مصيبة ، وأشرافكم قتلى أسلمتموه فمن الآن ، فهو والله خزي في الدنيا والآخرة ، وإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه على تهلكة الأموال ، وقتل الأشراف فخذوه ، فهو ـ والله ـ خير الدنيا والآخرة.

قالوا : فإنا نأخذه على مصيبة الأموال ، وقتل الأشراف ، فما لنا بذلك يا رسول الله إن نحن وفّينا؟

قال : الجنّة.

قالوا : ابسط يدك ، فبسط يده ، فبايعوه ، وأول من ضرب على يده : البراء بن معرور ، ثم بايع القوم.

قال : فلما بايعنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم صرخ الشّيطان من أعلى رأس العقبة بأنفذ صوت ما سمعته قط : يا أهل الجباجب ، هل لكم في مذمّم والصّباة معه ، قد اجتمعوا على حربكم ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : هذا عدوّ الله ، أزبّ العقبة ، اسمع أي عدوّ الله ـ أما والله لأفرغنّ لك. ثم قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ارفضّوا إلى رحالكم.

فقال العباس بن عبادة بن نضلة : والذي بعثك بالحق ، لئن شئت لنميلن غدا على أهل منّى بأسيافنا ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لم نؤمر بذلك ، ولكن ارجعوا إلى رحالكم» فرجعنا إلى مضاجعنا ، فنمنا عليها ، حتى أصبحنا ، فلما أصبحنا ، غدت علينا جلّة قريش ، حتى جاءونا في منازلنا ، فقالوا : يا معشر الخزرج ، بلغنا أنكم جئتم صاحبنا هذا ، تستخرجونه من بين أظهرنا ، وتبايعونه على حربنا ، وإنه ـ والله ـ ما حي من العرب أبغض إلينا ، أن تنشب الحرب بيننا وبينهم منكم.

قال : فانبعث من هناك من مشركي قومنا ، يحلفون لهم بالله ، ما كان من هذا شيء وما علمناه ـ وصدقوا ، لم يعلموا ـ وبعضنا ينظر إلى بعض ، وقام القوم ، وفيهم الحارث بن هشام بن المغيرة المخزوميّ ـ وعليه نعلان جديدان ـ فقلت له كلمة ـ كأني أريد أن أشرك القوم بها فيما قالوا ـ يا أبا جابر ، أما تستطيع أن تتخذ ـ وأنت سيد من سادتنا ـ مثل نعلي هذا الفتى من قريش؟ قال فسمعها الحارث ، فخلعهما من رجليه ، ثم رمى بهما إليّ ، وقال : والله لتنتعلنّهما.

قال : فقال أبو جابر : مه والله لقد أحفظت الفتى ، فاردد إليه نعليه ، قال : والله لا أردّهما ، قال : والله يا أبا صالح ، لئن صدق الفال لأسلبنّه.

قال : ثم انصرف الأنصار إلى «المدينة» ـ وقد شدوا العقد ـ فلما قدموها أظهر الله الإسلام بهم وبلغ ذلك قريشا ، فآذوا أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأصحابه : إن الله قد جعل لكم إخوانا ودارا تأمنون فيها ، فأمرهم بالهجرة إلى «المدينة» ، واللحوق بإخوانهم من الأنصار ، فأول من هاجر إلى «المدينة» : أبو سلمة بن عبد الأسد المخزوميّ ، ثم عامر بن ربيعة ، ثم عبد الله بن جحش ، ثم تابع أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم

٤٤٤

أرسالا إلى «المدينة» ، فجمع الله أهل «المدينة» ـ أوسها وخزرجها ـ بالإسلام ، وأصلح الله ذات بينهم بنبيه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهذا معنى قوله تعالى : (وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً) [آل عمران : ١٠٣] يا معشر الأنصار قبل الإسلام (فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ) بالإسلام (١)(فَأَصْبَحْتُمْ) أي : فصرتم. و «أصبح» من أخوات «كان» فإذا كانت ناقصة ، كانت مثل «كان» في رفع الاسم ونصب الخبر ، وإذا كانت تامة رفعت فاعلا ، واستغنت به ، فإن وجد منصوب بعدها فهي حال ، وتكون تامة إذا كانت بمعنى دخل في الصباح ، تقول : أصبح زيد ، أي دخل في الصباح ، ومثلها ـ في ذلك ـ «أمسى» قال تعالى (فَسُبْحانَ اللهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ) [الروم : ١٧] وقال : (وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ) [الصافات : ١٣٧].

وفي أمثالهم : «إذا سمعت بسرى القين فاعلم أنه مصبح» ؛ لأن القين ـ وهو الحداد ـ ربما قلّت صناعته في أحياء العرب ، فيقول : أنا غدا مسافر ، فيأتيه الناس بحوائجهم ، ويقيم ، ويترك السفر ، فأخرجوه مثلا لمن يقول قولا ويخالفه. والمعنى : فاعلم أنه مقيم في الصباح. ويكون بمعنى «صار» عملا ومعنى. كقوله : [الخفيف]

١٥٥٧ ـ فأصبحوا كأنّهم ورق جف

ف فألوت به الصّبا والدّبور (٢)

أي : صاروا.

و «إخوانا» خبرها ، وجوّزوا فيها ـ هنا ـ أن تكون على بابها ـ من دلالتها على اتصاف الموصوف بالصفة في وقت الصباح ، وتكون بمعنى : «صار» ـ وأن تكون تامة ، أي : دخلتم في الصباح ، فإذا كانت ناقصة على بابها ـ فالأظهر أن يكون «إخوانا» خبرها ، و «بنعمته» متعلق به لما فيه من معنى الفعل ، أي : تآخيتم بنعمته ، والباء للسببية.

وجوّز أبو حيان أن تتعلق ب «أصبحتم» ، وقد عرف ما فيه من خلاف. وجوّز غيره أن تتعلق بمحذوف على أنه حال من فاعل «أصبحتم» ، أي : فأصبحتم إخوانا ملتبسين بنعمته ، أو حال من «إخوانا» ؛ لأنه في الأصل ـ صفة له.

وجوّزوا أن تكون «بنعمته» هو الخبر ، و «إخوانا» حال والباء بمعنى الظرفية ، وإذا كانت بمعنى : «صار» جرى فيها ما تقدم من جميع هذه الأوجه ، وإذا كانت تامة ، فإخوانا حال ، و «بنعمته» فيه ما تقدم من الأوجه خلا الخبرية.

قال ابن عطية : «فأصبحتم» عبارة عن الاستمرار ـ وإن كانت اللفظة مخصوصة

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ٧٨ ـ ٧٩ ـ ٨٠) مختصرا والأثر في «سيرة ابن هشام» (٢ / ٦٧ ـ ٦٩).

(٢) البيت لعدي بن زيد وروي :

ثم أضحوا كأنهم

ينظر ديوانه (٩٠) والهمع ١ / ١١٤ وشرح المفصل لابن يعيش ٧ / ١٠٤ والدرر ١ / ٨٤ والدر المصون ٢ / ١٧٨.

٤٤٥

بوقت ـ وإنما خصّت هذه اللفظة بهذا المعنى من حيث مبدأ النهار ، وفيه مبدأ الأعمال ، فالحال التي يحبها المرء من نفسه فيها هي التي يستمر عليها يومه في الأغلب.

ومنه قول الربيع بن ضبع : [المنسرح]

١٥٥٨ ـ أصبحت لا أحمل السّلاح ولا

أملك رأس البعير إن نفرا (١)

قال أبو حيان (٢) : وهذا الذي ذكره ـ من أن «أصبح» للاستمرار وعلله بما ذكره ـ لم أر أحدا من النحويين ذهب إليه ، إنما ذكروا أنها تستعمل بالوجهين اللذين ذكرناهما.

قال شهاب الدين (٣) : وهذا ـ الذي ذكره ابن عطية ـ معنى حسن ، وإذا لم ينصّ عليه النحويون لا يدفع ؛ لأن النحاة ـ غالبا ـ إنما يتحدثون بما يتعلق بالألفاظ ، وأما المعاني المفهومة من فحوى الكلام ، فلا حاجة إلى الكلام عليها غالبا.

والإخوان : جمع أخ ، وإخوة اسم جمع عند سيبويه ، وعند غيره هي جمع.

وقال بعضهم : إن الأخ في النسب ـ يجمع على : «إخوة» ، وفي الدين يجمع على : «إخوان» ، هذا أغلب استعمالهم ، وقال تعالى : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) [الحجرات : ١٠] ونفس هذه الآية تردّ ما قاله ؛ لأن المراد ـ هنا ـ ليس أخوّة النسب إنما المراد أخوة الدين والصداقة.

قال أبو حاتم : قال أهل البصرة : الإخوة في النسب ، والإخوان في الصداقة ، قال : وهذا غلط ؛ يقال للأصدقاء والأنسباء : إخوة ، وإخوان ، قال تعالى : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) [الحجرات : ١٠] ولم يعن النسب ، وقال تعالى : (أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ) [النور : ٦١] وهذا في النسب.

وهذا الرد من أبي حاتم إنما يتّجه على هذا النقل المطلق ، ولا يرد على النقل الأول ؛ لأنهم قيدوه بالأغلب في الاستعمال.

قال الزجاج : أصل الأخ ـ في اللغة ـ من التوخي ـ وهو الطلب ؛ فإن الأخ مقصده مقصد أخيه ، والصديق مأخوذ من أن يصدق كل واحد من الصديقين ما في قلبه ، ولا يخفي عنه شيئا.

قوله : (وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ) شفا الشيء : طرفه وحرفه ، وهو مقصور من ذوات الواو ، ويثنّى بالواو نحو : شفوين ويكتب بالألف ، ويجمع على أشفاء ، ويستعمل مضافا

__________________

(١) ينظر البيت في خزانة الأدب ٧ / ٣٨٤ ، أمالي المرتضى ٢ / ٢٥٥ ، وحماسة البحتري ص ٢٠١ ، شرح التصريح ٢ / ٣٦ ، الكتاب ١ / ٨٩ ، لسان العرب (ضمن) ، والمقاصد النحوية ٣ / ٣٩٨ والرد على النحاة ص ١١٤ ، وشرح المفصل ٧ / ٢١٠٥ والمحتسب ٢ / ٩٩ والدر المصون ٢ / ١٧٨.

(٢) ينظر : البحر المحيط ٣ / ٢١.

(٣) ينظر : الدر المصون ٢ / ١٧٩.

٤٤٦

إلى أعلى الشيء وإلى أسفله ، فمن الأول : (شَفا جُرُفٍ هارٍ) [التوبة : ١٠٩] ومن الثاني : هذه الآية.

وأشفى على كذا : قاربه ، ومنه : أشفى المريض على الموت. قال يعقوب : يقال للرجل عند موته ، وللقمر عند محاقه ، وللشمس عن غروبها : ما بقي منه ، أو منها ، إلا شفا ، أي : إلا قليل. وقال بعضهم : يقال لما بين الليل والنهار ، وعند غروب الشمس إذا غاب بعضها : شفا.

وأنشد : [الرجز]

١٥٥٩ ـ أدركته بلا شفا ، أو بشفا

والشّمس قد كادت تكون دنفا (١)

قوله بلا بشفا : أي : غابت الشمس ، وقوله : أو بشفا ، أي : بقيت منه بقية.

قال الراغب : والشفاء من المرض : موافاة شفا السلامة ، وصار اسما للبرء والشفاء.

قال البخاري : قال النحاس : «الأصل في شفا ـ شفو ، ولهذا يكتب بالألف ، ولا يمال».

وقال الأخفش : «لما لم تجز فيه الإمالة عرف أنه من الواو» ؛ لأن الإمالة من الياء.

قال المهدويّ : «وهذا تمثيل يراد به خروجهم من الكفر إلى الإيمان».

قوله : (فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها) في عود هذا الضمير وجوه :

أحدها : أنه عائد على «حفرة».

والثاني : أنه عائد على «النّار».

قال الطبريّ : إن بعض الناس يعيده على الشفا ، وأنث من حيث كان الشفا مضافا إلى مؤنث ، كما قال جرير : [الوافر]

١٥٦٠ ـ أرى مرّ السّنين أخذن منّي

كما أخذ السّرار من الهلال (٢)

قال ابن عطية : «وليس الأمر كما ذكروا ؛ لأنه لا يحتاج ـ في الآية ـ إلى مثل هذه الصناعة ، إلا لو لم يجد للضمير معادا إلا الشفا ، أما ومعنا لفظ مؤنث يعود الضمير عليه ، ويعضّده المعنى المتكلّم فيه ، فلا يحتاج إلى تلك الصناعة».

قال أبو حيان (٣) : «وأقول : لا يحسن عوده إلا على الشفا ؛ لأن كينونتهم على الشفا

__________________

(١) البيت للعجاج ـ ينظر ديوانه ٢ / ٢٧٧ واللسان (دنف) والخصائص ٢ / ١١٩ والمذكر والمؤنث ١ / ٢٠١ والجمهرة ١ / ٣١٨ والدر المصون ٢ / ١٧٩.

(٢) ينظر البيت في ديوانه ص ٥٤٦ ، والدرر ١ / ١٣٥ ، ولسان العرب (خضع) والمقتضب ٤ / ٢٠٠ ، وهمع الهوامع ١ / ٤٧. والدر المصون ٢ / ١٧٩.

(٣) ينظر : البحر المحيط ٣ / ٢٢.

٤٤٧

هو أحد جزأي الإسناد ، فالضمير لا يعود إلا عليه ، وأما ذكر الحفرة ، فإنما جاءت على سبيل الإضافة إليها ، ألا ترى أنك إذا قلت : كان زيد غلام جعفر ، لم يكن جعفر محدّثا عنه ، وليس أحد جزأي الإسناد ، وكذا لو قلت : زيد ضرب غلام هند ، لم تحدّث عن هند بشيء ، وإنما ذكرت جعفرا وهندا ؛ تخصيصا للمحدّث عنه ، وأما ذكر : «النّار» فإنما ذكر لتخصيص الحفرة ، وليست ـ أيضا ـ أحد جزأي الإسناد ، وليست أيضا محدّثا عنها ، فالإنقاذ من الشفا أبلغ من الإنقاذ من الحفرة من النار ؛ لأن الإنقاذ منه يستلزم من الحفرة ومن النار ، والإنقاذ منهما لا يستلزم الإنقاذ من الشفا ، فعوده على الشفا هو الظاهر من حيث اللفظ ومن حيث المعنى».

قال الزجّاج : «وقوله : «منها» الكناية راجعة إلى النار ، لا إلى الشّفا ؛ لأنّ القصد الإنجاء من النار لا من شفا الحفرة».

وقال غيره : «الضمير عائد إلى الحفرة ؛ ولما أنقذهم من الحفرة فقد أنقذهم من شفا الحفرة ؛ لأن شفاها منها».

قال الواحديّ : على أنه يجوز أن يذكر المضاف إليه ، ثم تعود الكناية إلى المضاف إليه ـ دون المضاف ، كقول جرير : [الوافر]

١٥٦١ ـ أرى مرّ السّنين أخذن منّي

كما أخذ السّرار من الهلال (١)

كذلك قول العجاج : [الرجز]

١٥٦٢ ـ طول اللّيالي أسرعت في نقضي

طوين طولي وطوين عرضي (٢)

قال : وهذا إذا كان المضاف من جنس المضاف إليه ، فإن مرّ السنين هو المسنون ، وكذلك شفا الحفرة من الحفرة ، فذكّر الشّفا ، وعادت الكناية إلى الحفرة.

وهذان القولان نصّ في ردّ ما قاله أبو حيان ، إلا أن المعنى الذي ذكره أولى ؛ لأنه إذا أنقذهم من طرف الحفرة فهو أبلغ من إنقاذهم من الحفرة ، وما ذكره ـ أيضا ـ من الصناعة واضح.

قال بعضهم : «شفا الحفرة ، وشفتها : طرفها ، فجاز أن يخبر عنها بالتذكير والتأنيث».

والإنقاذ : التخليص والتنحية.

__________________

(١) تقدم برقم ١٥٦٠.

(٢) ينظر البيت في ملحقات ديوانه ص ٨٠ والكتاب ١ / ٢٦ والخصائص ٢ / ٤١٨ ومجاز القرآن ١ / ٩٩ و ٢ / ٨٣ وكتاب المعمرين ص ٨٧ والأشموني ١ / ٢٤٨ وجامع البيان ٧ / ٨٧ وأوضح المسالك ٣ / ١٠٣ والصاحبي ص ٤٢٣ والخزانة ٤ / ٢٢٤ والدر المصون ٢ / ١٨٠.

٤٤٨

قال الأزهريّ : «يقال : أنقذته ، ونقذته ، واستنقذته ، وتنقّذته بمعنى ويقال : فرس نقيذ ، إذا كان مأخوذا من قوم آخرين ؛ لأنه استنقذ منهم».

والحفرة : فعلة بمعنى : مفعولة ، كغرفة بمعنى : مغروفة.

فصل

قيل معناه : إنكم كنتم مشرفين على جهنم بكفركم ؛ لأن جهنم مشبهة بالحفرة التي فيها النار ، فجعل استحقاقهم النار بكفرهم ، كالإشراف منهم على النار ، والمصير منهم إلى حرفها ، فبيّن ـ تعالى ـ أنه أنقذهم من هذه الحفرة ، بعد أن قربوا من الوقوع فيها.

قالت المعتزلة : ومعنى ذلك أن الله ـ تعالى ـ لطف بهم بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وسائر ألطافه حتى آمنوا.

وقال أهل السنة : جميع الألطاف مشترك بين المؤمن والكافر ، فلو كان فاعل الإيمان وموجده هو العبد لكان العبد هو الذي أنقذ نفسه من النار ، والله ـ تعالى ـ حكم بأنه هو الذي أنقذهم من النار ، فدل هذا على أنه خالق أفعال العباد.

قوله تعالى : (كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ) نعت لمصدر محذوف ، أو حال من ضميره ، أي : يبين الله لكم تبيينا مثل تبيينه لكم الآيات الواضحة ، لكي تهتدوا بها.

قال الجبائي : «الآية تدل على أنه ـ تعالى ـ يريد منهم الاهتداء».

قال الواحدي : إن المعنى : لتكونوا على رجاء هدايته. وهذا فيه ضعف ؛ لأن على هذا التقدير يلزم أن يريد الله منهم ذلك الرجاء ، وعلى مذهبنا قد لا يريده.

وأجاب غيره بأن كلمة «لعلّ» للترجي ، والمعنى : أنا فعلنا فعلا يشبه فعل من يترجى ذلك.

قوله : (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ) اعلم أنه ـ تعالى ـ لما عاب على أهل الكتاب كفرهم وسعيهم في تكفير الغير خاطب المؤمنين بتقوى الله والإيمان به ، فقال : (اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ) ثم أمرهم بالسعي في إلقاء الغير في الإيمان والطاعة ، فقال : (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ) يجوز أن تكون التامة ، أي : ولتوجد منكم أمة ، فتكون «أمّة» : فاعلا ، و «يدعون» : جملة في محل رفع صفة ل «أمة» ، و «منكم» متعلق ب «تكن» على أنها تبعيضية.

ويجوز أن يكون : «منكم» متعلّقا بمحذوف على أنه حال من «أمّة» إذ كان يجوز جعله صفة لها لو تأخر عنها. ويجوز أن تكون «من» للبيان ؛ لأن المبيّن ـ وإن تأخر لفظا ـ فهو متقدم رتبة.

ويجوز أن تكون الناقصة ، ف «أمة» اسمها ، و «يدعون» خبرها ، و «منكم» متعلق إمّا بالكون ، وإمّا بمحذوف على الحال من «أمة».

٤٤٩

ويجوز أن يكون «منكم» هو الخبر ، و «يدعون» صفة ل «أمة» ، وفيه بعد.

وقرأ العامة : (وَلْتَكُنْ) بسكون اللام.

وقرأ الحسن والزهريّ والسلميّ بكسرها (١) ، وهو الأصل.

وقوله : (وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) من باب ذكر الخاص بعد العام ؛ اعتناء به ـ كقوله : (وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ) [البقرة : ٩٨] ـ ؛ لأن اسم «الخير» يقع عليهما ، بل هما أعظم الخيور.

فصل

قال بعض العلماء : «من» ـ هنا ـ ليست للتبعيض ، لوجهين :

الأول : أنه أوجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على كل الأمة.

الثاني : أنه يجب على كل مكلّف الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر ـ إما بيده ، أو لسانه ، أو بقلبه ـ فيكون معنى الآية : كونوا أمة دعاة إلى الخير ، آمرين بالمعروف ، ناهين عن المنكر.

وكلمة : «من» : إنما هي للتبيين ، كقوله : (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ) [الحج : ٣٠] ويقال : لفلان من أولاده جند ، وللأمير من غلمانه عسكر ، والمراد : جميع الأولاد والغلمان لا بعضهم ـ فكذا هنا. ثم إذا قلنا بأنه يجب على الكلّ ، فيسقط بفعل البعض ، كقوله تعالى : (انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً) [التوبة : ٤١] ، وقوله : (إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً) [التوبة : ٣٩] فالأمر عامّ ، ثم إذا قام به من يكفي ، سقط التكليف عن الباقين والقائلون بالتبعيض اختلفوا على قولين :

أحدهما : أن في القوم من لا يقدر على الدعوة ، والأمر بالمعروف ، والنّهي عن المنكر ـ كالمرضى والعاجزين.

الثاني : أن هذا التكليف مختصّ بالعلماء ؛ لأن الدعوة إلى الخير ، والأمر بالمعروف ، والنّهي عن المنكر مشروطة بالعلم بهم ، ونظيره قوله تعالى : (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ) [الحج : ٤١] وليس كل الناس يمكنون.

وقوله : (فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ) [التوبة : ١٢٢] ، وأيضا الإجماع على أن ذلك واجب على الكفاية ، وإذا كان كذلك كان المعنى : ليقم بذلك بعضكم.

وقال الضّحّاك : المراد بهذه الآية : أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ لأنهم كانوا يتعلمون من الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويعلّمون الناس.

__________________

(١) وبها قرأ أبو حيوة وعيسى بن عمر.

انظر : المحرر الوجيز ١ / ٤٨٥ ، والبحر المحيط ٣ / ٢٣ ، والدر المصون ٢ / ١٨١.

٤٥٠

قال القرطبيّ : «وقرأ ابن الزبير : ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويستعينون بالله على ما أصابهم».

قال ابن الأنباري : «هذه الزيادة تفسير من ابن الزبير ، وكلام من كلامه ، غلط فيه بعض الناقلين ، فألحقه بألفاظ القرآن ، يدل على ذلك أن عثمان بن عفان قرأ (١) : ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويستعينون بالله على ما أصابهم.

فما يشك عاقل في أن عثمان لا يعتد هذه الزيادة من القرآن ؛ إذ لم يكتبها في مصحفه الذي هو إمام المسلمين».

فصل

قال المفسرون : الدعوة إلى الخير ـ أي : إلى الإسلام ـ والأمر بالمعروف ، وهو الترغيب في فعل ما ينبغي ، والنهي عن المنكر هو الترغيب في ترك ما لا ينبغي ، (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) أي : العاملون بهذه الأعمال هم المفلحون الفائزون ، وقد تقدم تفسيره.

قال ـ عليه‌السلام ـ : «من أمر بالمعروف ، ونهى عن المنكر ، كان خليفة الله ، وخليفة رسوله ، وخليفة كتابه» (٢) وقال ـ أيضا ـ : «والّذي نفسي بيده ، لتأمرنّ بالمعروف ، ولتنهونّ عن المنكر ، أو ليوشكنّ الله أن يبعث عليكم عذابا من عنده ثمّ لتدعنّه فلا يستجاب لكم» (٣).

قوله : (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ).

قال أكثر المفسرين : هم اليهود والنصارى (٤) ، وقال بعضهم : هم المبتدعة من هذه الأمة(٥).

__________________

(١) نسبها ابن عطية (١ / ٤٨٦) إلى عثمان بن عفان وابن مسعود وابن الزبير ، ثم قال : «فهذا وإن كان لم يثبته في المصحف ففيه إشارة إلى التعرض لما يصيب عقب الأمر والنهي ..».

وانظر : البحر المحيط ٣ / ٢٤.

(٢) أخرجه ابن عدي في «الكامل» (٦ / ٢١٠٤) والديلمي في «مسند الفردوس» كما في «كنز العمال» (٣ / ٧٥) رقم (٥٥٦٤) عن ثوبان رضي الله عنه مرفوعا.

(٣) أخرجه أحمد (٥ / ٣٩١) والبيهقي (١٠ / ٩٣) والطحاوي في «مشكل الآثار» (٢ / ٦٢) والبغوي في «تفسيره» (١ / ٣٩٩ ـ ٢ / ٧٨) عن حذيفة بن اليمان مرفوعا.

وله شاهد من حديث عبد الله بن مسعود ، أخرجه أبو داود (٢ / ٥٢٤) كتاب الملاحم ب ١٧ رقم (٤٣٣٦) والخطيب في «تاريخ بغداد» (٨ / ٢٩٩ ـ ١٣ / ٩٢) وله شاهد آخر عن أبي هريرة أخرجه البزار (٣٣٠٧) والطبراني في «الأوسط» كما في «مجمع الزوائد» (٧ / ٢٦٦).

وقال الهيثمي : رواه الطبراني في الأوسط والبزار وفيه حبان بن علي وهو متروك وقد وثقه ابن معين في رواية وضعفه في غيرها.

(٤) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٦٢) وعزاه لابن جرير وابن أبي حاتم.

(٥) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٦٢).

٤٥١

وقال أبو أمامة : هم الحرورية بالشام (١).

وقال عبد الله بن شداد : وقف أبو أمامة ـ وأنا معه ـ على رؤوس الحرورية بالشام فقال : كلاب النار كانوا مؤمنين ، فكفروا بعد إيمانهم ، ثمّ قرأ : (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا) الآية.

وروى عمر بن الخطاب أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من سرّه بحبوحة الجنّة فعليه بالجماعة ؛ فإنّ الشّيطان مع الواحد ، وهو من الاثنين أبعد» (٢).

وذكر الفعل في قوله : (وَجاءَهُمُ الْبَيِّناتُ) للفصل ولكونه غير حقيقيّ ؛ لأنه بمعنى : الدلائل.

وقيل : لجواز حذف علامة التأنيث من الفعل ـ إذا كان فعل المؤنث متقدّما.

والتفرق والافتراق واحد ، لما روى أبو برزة ـ في حديث بيع الفرس ـ ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «البيّعان بالخيار ما لم يتفرّقا ، وإنّي لأراكما قد افترقتما» (٣) فجعل التفرّق والافتراق بمعنى واحد ، وهو أعلم بلغة الصحابة ، وبكلام النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قال القرطبي : وأهل اللغة فرّقوا بين فرقت ـ مخففا ـ وفرّقت مشددا ، فجعلوه ـ بالتخفيف ـ في الكلام ، وبالتثقيل في الأبدان».

قال ثعلب : «أخبرني ابن الأعرابيّ ، قال : يقال : فرقت بين الكلامين ـ مخففا ـ فافترقا ، وفرّقت بين الاثنين بالتشديد فتفرقا». فجعل الافتراق في القول ، والتفرق في الأبدان ، وكلام أبي برزة يرد هذا.

وقال بعضهم : (تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا) معناهما مختلف.

فقيل : تفرقوا بالعداوة ، واختلفوا في الدين.

وقيل : تفرقوا بسبب استخراج التأويلات الفاسدة لتلك النصوص ، واختلفوا في أن حاول كلّ واحد منهم نصرة مذهبه.

وقيل : تفرقوا بأبدانهم ـ بأن صار كل واحد من أولئك الأخيار رئيسا في بلد.

قوله : (وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) يعني : بسبب تفرّقهم.

__________________

(١) ذكره القرطبي في «تفسيره» (٤ / ١٠٧).

(٢) أخرجه الترمذي (٤ / ٤٠٤) كتاب الفتن باب ما جاء في لزوم الجماعة (٢١٦٥) والحاكم (١ / ١١٤) والبغوي في «شرح السنة» (٥ / ٥٥٧) عن عمر بن الخطاب مرفوعا.

وقال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح.

(٣) أخرجه أبو داود ٢ / ٢٩٥ في البيوع (٣٤٥٧) وابن ماجه مختصرا ٢ / ٧٣٨ في التجارات (٢١٨٢).

ونقل الزيلعي في نصب الراية ٤ / ٣ قول المنذري في مختصره : ورجاله ثقات.

٤٥٢

قوله تعالى : (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (١٠٦) وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَتِ اللهِ هُمْ فِيها خالِدُونَ)(١٠٧)

في ناصب «يوم» أوجه :

أحدها : أنه الاستقرار الذي تضمنه «لهم» والتقدير : وأولئك استقر لهم عذاب يوم تبيضّ وجوه.

وقيل : إن العامل فيه مضمر ، تدل عليه الجملة السابقة ، والتقدير : يعذّبون يوم تبيضّ وجوه.

وقيل : إن العامل فيه «عظيم» وضعّف هذا بأنه يلزم تقييد عظمه بهذا اليوم.

وهذا التضعيف ضعيف ؛ لأنه إذا عظم في هذا اليوم ففي غيره أولى.

قال شهاب الدين (١) : «وهذا غير لازم» ، قال : «وأيضا فإنه مسكوت عنه فيما عدا هذا اليوم».

وقيل : إن العامل «عذاب». وهذا ممتنع ؛ لأن المصدر الموصوف لا يعمل بعد وصفه.

وقيل : إنه منصوب بإضمار «اذكر».

وقرأ يحيى بن وثاب ، وأبو نهيك ، وأبو رزين العقيليّ : «تبيضّ» و «تسودّ» ـ بكسر التاء (٢) ـ وهي لغة تميم.

وقرأ الحسن والزهري وابن محيصن ، وأبو الجوزاء : تبياضّ وتسوادّ ـ بألف فيهما (٣) ـ وهي أبلغ ؛ فإن البياض أدلّ على اتصاف الشيء بالبياض من ابيضّ ، ويجوز كسر حرف المضارعة ـ أيضا ـ مع الألف ، إلا أنه لم ينقل قراءة لأحد.

فصل

نظير هذه الآية قوله تعالى : (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ) [الزمر : ٦] ، وقوله : (وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ) [يونس : ٢٦] ، وقوله : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ) [القيامة : ٢٢ ـ ٢٥] ، وإذا عرفت هذا ، ففي هذا البياض والسواد وجهان :

__________________

(١) ينظر : الدر المصون ٢ / ١٨١.

(٢) انظر : الشواذ ٢٢ ، والمحرر الوجيز ١ / ٤٨٦٧ ، والبحر المحيط ٣ / ٢٥ ، والدر المصون ٢ / ١٨١.

(٣) انظر : السابق.

٤٥٣

الأول : قال أبو مسلم : إن البياض عبارة عن الاستبشار ، والسواد عبارة عن الغم ، وهذا مجاز مستعمل قال تعالى : (وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا) [النحل : ٥٨] ، ويقال : لفلان عندي يد بيضاء.

وقال بعضهم في الشيب : [الخفيف]

١٥٦٣ ـ يا بياض القرون سوّدت وجهي

عند بيض الوجوه سود القرون

فلعمري لأخفينّك جهدي

عن عياني ، وعن عيان العيون

بسواد فيه بياض لوجهي

وسواد لوجهك الملعون (١)

وتقول العرب ـ لمن نال بغيته ، وفاز بمطلوبه ـ : ابيضّ وجهه ، ومعناه : الاستبشار والتهلل ، ويقال ـ لمن وصل إليه مكروه ـ : اربدّ وجهه ، واغبرّ لونه ، وتغيرت صورته ، فعلى هذا معنى الآية : إن المؤمن مستبشر بحسناته ، وبنعيم الله ، والكافر على ضد ذلك.

الثاني : أن البياض والسواد يحصلان حقيقة ؛ لأن اللفظ حقيقة فيهما ، ولا دليل يصرفه ، فوجب المصير إليه ، ولأبي مسلم أن يقول : بل معنا دليل يصرفه ، وهو قوله تعالى : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ تَرْهَقُها قَتَرَةٌ) [عبس : ٣٨ ـ ٤١] ، فجعل الغبرة والقترة في مقابلة الضحك والاستبشار فلو لم يكن المراد ما ذكرنا من المجاز لما صح جعله مقابلا له.

فصل

احتجوا بهذه الآية على أن المكلّف إما مؤمن ، وإما كافر ، وليس ـ هنا ـ قسم ثالث كما قاله المعتزلة ـ فلو كان ثمّ ثالث لذكره ، قالوا : ويؤيده قوله تعالى : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ تَرْهَقُها قَتَرَةٌ أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ) [عبس : ٣٨ ـ ٤٢].

وأجاب القاضي : بأن ترك القسم الثالث لا يدل على عدمه ؛ لأنه تعالى قال : (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ ،) فذكرهما منكرين ، وذلك لا يفيد العموم ، وأيضا فالمذكور في الآية هم المؤمنون والذين كفروا بعد إيمانهم ، ومعلوم أن الكافر الأصليّ من أهل النار ، مع أنه لم يدخل في هذا التقسيم ، فكذلك الفساق. وأجيب بوجهين :

الأول : أن المراد منه كل من أسلم وقت استخراج الذريّة من صلب آدم ، رواه الواحدي في البسيط بإسناده عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيدخل الكل فيه.

الثاني : أنه قال : (فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ)، فجعل موجب العذاب هو الكفر ، سواء كفر بعد الإيمان أو كان كافرا أصليّا.

قال الزمخشري : هم المنافقون ، آمنوا بألسنتهم ، وأنكروا بقلوبهم.

__________________

(١) الأبيات لابن الرومي. ينظر ديوانه ٦ / ٢٤٨٣ ونهاية الأرب ٢ / ٣٠ وأمالي القالي ١ / ١٤٤.

٤٥٤

وقال عكرمة : هم أهل الكتاب ، آمنوا بأنبيائهم وبمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل أن يبعث ، فلما بعث كفروا به.

قوله : (أَكَفَرْتُمْ) هذه الجملة في محلّ نصب بقول مضمر ، وذلك القول المضمر ـ مع فاء مضمرة ـ أيضا ـ هو جواب «أما» ، وحذف الفاء مع القول مطرد ، وذلك أن القول يضمر كثيرا ، كقوله تعالى : (وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ) [الرعد : ٢٣ ـ ٢٤].

وقوله : (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا) [الزمر : ٣] ، وقوله : (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا) [البقرة : ١٢٧] ، وأما حذفها دون إضمار القول فلا يجوز إلا في ضرورة.

كقوله : [الطويل]

١٥٦٤ ـ فأمّا القتال لا قتال لديكم

ولكنّ سيرا في عراض المواكب (١)

أي : فلا قتال.

وقال صاحب «أسرار التنزيل» : إنّ النحاة اعترض عليهم ـ في قولهم : لما حذف يقال : حذفت الفاء ؛ بقوله تعالى : (وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ) [الجاثية : ٣١] ، فحذف يقال ، ولم يحذف الفاء ، فلما بطل هذا تعيّن أن يكون الجواب في قوله : (فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ ،) فوقع ذلك جوابا له ، ولقوله : (أَكَفَرْتُمْ) ومن نظم العرب ـ إذا ذكروا حرفا يقتضي جوابا له ـ أن يكتفوا عن جوابه حتى يذكروا حرفا آخر يقتضي جوابا ، ثم يجعلون له جوابا واحدا ، كما في قوله : (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) [البقرة : ٣٨] ، فقوله : «فلا خوف عليهم» جواب للشرطين معا ، وليس «أفلم تكن آياتي» جواب «إما» بل الفاء عاطفة على مقدّر ، والتقدير: أأهملتكم ، فلم أتل عليكم آياتي؟

قال أبو حيان : وهو كلام أديب لا كلام نحويّ ، أما قوله : قد اعترض على النحاة ، فيكفي في بطلان هذا الاعتراض أنه اعتراض على جميع النحاة ؛ لأنه ما من نحويّ إلا خرّج الآية على إضمار : فيقال لهم : أكفرتم ، وقالوا : هذا هو فحوى الخطاب ، وهو أن يكون في الكلام شيء مقدّر لا يستغني المعنى عنه ، فالقول بخلافه مخالف للإجماع ، فلا التفات إليه. وأما ما اعترض به من قوله : (وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آياتِي) [الجاثية : ٣١] وأنهم قدروه : فيقال لهم : أفلم تكن آياتي ، فحذف فيقال ولم تحذف الفاء ، فدل على بطلان هذا التقدير ـ فليس بصحيح ، بل هذه الفاء التي بعد الهمزة في «أفلم» ليست فاء «فيقال» التي هي جواب «أما» ـ حتى يقال : حذف «يقال» وبقيت الفاء ، بل الفاء التي هي جواب «أما» و «يقال» بعدها ـ محذوف ، وفاء «أفلم» يحتمل وجهين :

__________________

(١) تقدم برقم ٣٢٩.

٤٥٥

أحدهما : أن تكون زائدة.

وقد أنشد النحويون على زيادة الفاء قول الشاعر : [الطويل]

١٥٦٥ ـ يموت أناس أو يشيب فتاهم

ويحدث ناس ، والصّغير فيكبر (١)

أي : صغير يكبر ، وقول الآخر : [الكامل]

١٥٦٦ ـ لمّا اتّقى بيد عظيم جرمها

فتركت ضاحي جلدها يتذبذب (٢)

أي : تركت ، وقول زهير : [الطويل]

١٥٦٧ ـ أراني إذا ما بتّ بتّ على هوى

فثمّ إذا أصبحت أصبحت غاديا (٣)

يريد ثم إذا.

وقال الأخفش : «وزعموا أنهم يقولون : أخوك فوجد ، يريدون : أخوك وجد».

والوجه الثاني : أن تكون الفاء تفسيرية ، والتقدير : فيقال لهم ما يسوؤهم ، «أفلم» تكن آياتي ، ثم اعتني بحرف الاستفهام ، فتقدمت على الفاء التفسيرية ، كما تتقدم على الفاء التي للتعقيب في قوله : (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ) [يوسف : ١٠٩] وهذا على رأي من يثبت أن الفاء تفسيرية ، نحو توضأ زيد فغسل وجهه ويديه .. إلى آخر أفعال الوضوء ، فالفاء ـ هنا ـ ليت مرتّبة ، وإنما هي مفسّرة للوضوء ، كذلك تكون في «أفلم تكن آياتي تتلى عليكم» مفسرة للقول الذي يسوؤهم.

وقوله : فلما بطل هذا تعين أن يكون الجواب : «تذوقوا» ، أي : تعيّن بطلان حذف ما قدّره النحويون ، من قوله : «فيقال لهم» ؛ لوجود هذه الفاء في «أفلم تكن» ، وقد بيّنّا أن ذلك التقدير لم يبطل ؛ وأنه سواء في الآيتين ، وإذا كان كذلك فجواب : «أما» هو فيقال ـ في الموضعين ـ ومعنى الكلام عليه ، وأما تقديره : أأهملتكم فلم تكن آياتي تتلى عليكم؟ فهذه نزعة زمخشرية ، وذلك أن الزمخشريّ يقدّر بين همزة الاستفهام وبين الفاء فعلا يصح عطف ما بعدها عليه ، ولا يعتقد أن الفاء والواو ، و «ثم» إذا دخلت عليها الهمزة ـ أصلهن التقديم على الهمزة ، لكن اعتني بالاستفهام ، فقدم على حرف العطف ـ كما ذهب

__________________

(١) ينظر في خزانة الأدب ١١ / ٦١ ، ٤٩١ والأشباه والنظائر ٢ / ١٦٣ ، وتذكرة النحاة ص ٤٦ ، والدرر ٦ / ٨٩ ، وشرح عمدة الحافظ ص ٦٥٣ ، وهمع الهوامع ٢ / ١٣١ والدر المصون ٢ / ١٨٢ وشرح أبيات المغني ٣ / ٣٧ وشرح الكافية الشافية ٣ / ١٢٥٧.

(٢) ينظر سر الصناعة ١ / ٢٧٠ والمغني ١٨٠ وشرح أبيات المغني ٤ / ٥٤ والبحر ٣ / ٢٦ وشفاء العليل ٢ / ٧٨٢ والدر المنثور ٣ / ٢٣ والدر المصون ٢ / ١٨٢.

(٣) ينظر البيت في خزانة الأدب ٨ / ٤٩٠ ، ٤٩٢ ، وشرح شواهد المغني ١ / ٢٨٢ ، ٢٨٤ ، والأشباه والنظائر ١ / ١١١ ، والدرر ٦ / ٨٩ ، ورصف المباني ص ٢٧٥ ومغني اللبيب ١ / ١١٧ ، وشرح عمدة الحافط ص ٦٥٤ ، وشرح المفصل ٨ / ٩٦ وسر صناعة الإعراب ١ / ٢٦٤ ، وشرح شواهد المغني ١ / ٣٥٨ ، وهمع الهوامع ٢ / ١٣١ ، والدر المصون ٢ / ١٨٢.

٤٥٦

إليه سيبويه وغيره من النحويين ـ وقد رجع الزمخشريّ إلى مذهب الجماعة في ذلك ، وبطلان قول الأول مذكور في النحو وقد تقدم ـ في هذا الكتاب ـ حكاية مذهب الجماعة في ذلك ، وعلى تقدير قول هذا الرجل ـ أأهملتكم فلم تكن آياتي ، لا بدّ من إضمار القول ، وتقديره : فيقال : أأهملتكم ؛ لأن هذا المقدّر هو خبر المبتدأ ، والفاء جواب «أما» ، وهو الذي يدل عليه الكلام ، ويقتضيه ضرورة.

وقول هذا الرجل : فوقع ذلك جوابا له ولقوله : «أكفرتم» يعني : أن «فذوقوا العذاب» جواب ل «أما» ولقوله : «أكفرتم» والاستفهام ـ هنا ـ لا جواب له إنما هو استفهام على طريق التوبيخ والإرذال بهم.

وأما قول هذا الرجل : ومن نظم العرب إلى آخره ، فليس كلام العرب على ما زعم ، بل يجعل لكلّ جواب ، إن لا يكن ظاهرا فمقدّر ، ولا يجعلون لهما جوابا واحدا.

وأما دعواه ذلك في قوله تعالى : (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً) [البقرة : ٣٨] وزعمه أن قوله تعالى : (فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) [البقرة : ٣٨] جواب للشرطين فقول روي عن الكسائي ، وزعم بعض الناس أن جواب الشرط الأول محذوف ، تقديره : فاتبعوه ، والصحيح أن الشرط الثاني وجوابه جواب الشرط الأول وتقدمت هذه الأقوال عند قوله تعالى : (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً) [البقرة : ٣٨]. انتهى.

والهمزة في «أكفرتم» للإنكار عليهم ، والتوبيخ لهم ، والتعجّب من حالهم.

وفي قوله : «أكفرتم» نوع من الالتفات ، وهو المسمّى عند علماء البيان بتلوين الخطاب ، وذلك أن قوله : (فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ) في حكم الغيبة ، وقوله ـ بعد ذلك ـ : «أكفرتم» خطاب مواجهة.

قوله : (فَذُوقُوا) من باب الاستعارة ، جعل العذاب شيئا يدرك بحاسّة الأكل ، والذوق ؛ تصويرا له بصورة ما يذاق.

وقوله : (بِما كُنْتُمْ) الباء سببية ، و «ما» مصدرية ، ولا تكون بمعنى : الذي ؛ لاحتياجها إلى العائد ، وتقديره غير جائز ، لعدم الشروط المجوّزة لحذفه.

فإن قيل : إنه ـ تعالى ـ قدّم الذين ابيضّت وجوههم ـ في التقسيم ـ على الذين اسودّت وجوههم وكان حق الترتيب أن يقدّمهم في البيان.

فالجواب : أن الواو للجمع لا للترتيب ، وأيضا فالمقصود إيصال الرحمة ، لا ابتداء العذاب ، فابتدأ بذكر أهل الثواب ، لأنهم أشرف ، ثم ختم بذكرهم ، تنبيها على أن إرادة الرحمة أكثر من إرادة الغضب ، كما قال : «سبقت رحمتي غضبي» ، وأيضا فالفصحاء والشعراء قالوا : يجب أن يكون مطلع الكلام ومقطعه شيئا يسر الطبع ، ويشرح الصدر ـ وذكر رحمة الله تعالى كذلك ـ فلا جرم ابتدأ بذكر أهل الثواب ، وختم بذكرهم.

٤٥٧

قوله : (وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَتِ اللهِ هُمْ فِيها خالِدُونَ).

قال ابن عباس : هي الجنة (١).

قال المحققون : هذا إشارة إلى أن العبد ـ وإن كثرة طاعاته ـ لا يدخل الجنة إلا برحمة الله ؛ وذلك لأن العبد ما دامت داعيته إلى الفعل ، والترك سواء ، يمتنع منه الفعل ، فإذا لم يحصل رجحان داعية الطاعة ، لم تحصل منه الطاعة ، وذلك الرّجحان لا يكون إلا بخلق الله ـ تعالى ـ فإذن صدور تلك الطاعة من العبد نعمة من الله تعالى في حق العبد ، فكيف يصير ذلك موجبا على الله شيئا كما تقوله المعتزلة؟ فثبت أن دخول الجنة لا يكون إلا بفضل الله ـ تعالى ـ وبرحمته ، وبكرمه ، لا باستحقاقنا.

قرأ أبو الجوزاء ، وابن يعمر : اسوادّت ، وابياضّت ـ بألف (٢) ـ وقد تقدمت قراءتهما : تبياض ، وتسوادّ ، وهذا قياسها ، وأصل «افعلّ» هذا أن يكون دالّا على عيب حسّيّ ـ ك «اعورّ واسود واحمرّ» ـ وأن لا يكون من مضعف كأجمّ ، ولا معتل اللام كألمى ، وأن يكون للمطاوعة ، وندر نحو انقضّ الحائط ، وابهارّ الليل ، واشعارّ الرجل ـ تفرّق شعره ـ إذ لا دلالة فيها على عيب ، ولا لون ، وندر ـ أيضا ـ ارعوى ، فإنه معتل اللام ، مطاوع لرعوته ـ بمعنى ، كففته ـ وليس دالّا على عيب ، ولا لون ، وأما دخول الألف في «افعلّ» هذا ـ فدالّ على عروض ذلك المعنى ، وعدمها دالّ على ثبوته واستقراره ، فإذا قلت : اسوادّ وجهه ، دلّ على اتصافه بالسواد من غير عروض فيه ، وإذا قلت : اسوادّ ، دل على حدوثه ، هذا هو الغالب ، وقد يعكس ، قال تعالى : (مُدْهامَّتانِ) [الرحمن : ٦٤] ـ فالقصد الدلالة على لزوم الوصف بذلك للجنتين ـ وقال : (تَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ) [الكهف : ١٧] القصد به العروض لازورار الشمس ، لا الثبوت والاستقرار ـ كذا قيل ـ وفيه نظر ؛ لأن المقصود وصف الشمس بهذه الصفة الثابتة بالنسبة إلى هؤلاء القوم خاصّة.

فصل

قال بعض المفسرين : بياض الوجوه وسوادها ، إنما يحصل عند قيامهم من قبورهم للبعث ، فتكون وجوه المؤمنين مبيضة ، ووجوه الكافرين مسودة.

وقيل : عند الميزان ، إذا رجحت حسناته ابيضّ وجهه ، وإذا رجحت سيئاته اسودّ وجهه.

قيل : إن ذلك عند قراءة الكتاب ، إذ قرأ المؤمن كتابه ، فرأى حسناته استبشر ، ابيضّ وجهه ، وإذا قرأ الكافر كتابه ، فرأى سيئاته اسودّ وجهه.

__________________

(١) ذكره الرازي في «التفسير الكبير» (٨ / ١٥٠) عن ابن عباس.

(٢) ينظر : البحر المحيط ٣ / ٢٨ ، والدر المصون ٢ / ١٨٤.

٤٥٨

وقيل : إن ذلك عند قوله تعالى : (وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ) [يس : ٥٩].

قيل : يؤمر كلّ فريق بأن يجتمع إلى معبوده ، فإذا انتهوا إليه حزنوا واسودّت وجوههم.

قوله : (فَفِي رَحْمَتِ اللهِ) فيها وجهان :

أحدهما : أن الجارّ متعلق ب «خالدون» ، و «فيها» تأكيد لفظي للحرف ، والتقدير: فهم خالدون في رحمة الله فيها. وقد تقرر أنه لا يؤكد الحرف تأكيدا لفظيا ، إلا بإعادة ما دخل عليه ، أو بإعادة ضميره ـ كهذه الآية ـ ولا يجوز أن يعود ـ وحده ـ إلا في ضرورة.

كقوله : [الرجز]

١٥٦٨ ـ حتّى تراها وكأنّ وكأن

أعناقها مشدّدات بقرن (١)

كذا ينشدون هذا البيت.

وأصرح منه في الباب ـ قول الشاعر : [الوافر]

١٥٦٩ ـ فلا والله لا يلفى لما بي

ولا للما بهم أبدا دواء (٢)

ويحسن ذلك إذا اختلف لفظهما.

كقوله : [الطويل]

١٥٧٠ ـ فأصبحن لا يسألنني عن بما به

أصعّد في علو الهوى أم تصوّيا (٣)

اللهم إلا أن يكون ذلك الحرف قائما مقام جملة ، فيكرّر ـ وحده ـ كحروف الجواب ، مثل : نعم نعم ، وبلى بلى ، ولا لا.

والثاني : أن قوله : (فَفِي رَحْمَتِ اللهِ) : خبر لمبتدأ مضمر ، والجملة ـ بأسرها ـ جواب : «أما» والتقدير : فهم مستقرون في رحمة الله ، وتكون الجملة ـ بعده ـ من قوله : (هُمْ فِيها خالِدُونَ) جملة مستقلة من مبتدأ وخبر ، دلت على أن الاستقرار في الرحمة على سبيل الخلود ، فلا تعلّق لها بالجملة قبلها من حيث الإعراب.

__________________

(١) البيت للأغلب العجلي وينسب لخطام المجاشعي. ينظر العيني ٤ / ١٠٠ والهمع ٢ / ١٢٥ ، والدرر اللوامع ٢ / ١٦٠ وشرح الأشموني ٣ / ٨٣ وأوضح المسالك ٣ / ٣٤٢ والدر المصون ٢ / ١٨٣.

(٢) البيت لمسلم بن معبد الوالبي ينظر خزانة الأدب ٢ / ٣٠٨ ، ٣١٢ ، ٥ / ١٥٧ ، ٩ / ٥٢٨ ، ٥٣٤ ، ١٠ / ١٩١ ، ١١ / ٢٦٧ ، ٢٨٧ ، ٣٣٠ ، والدرر ٥ / ١٤٧ ، ٦ / ٥٣ ، ٢٥٦ وشرح شواهد المغني ص ٧٧٣ ومغني اللبيب ص ١٨١ ، والصاحبي في فقه اللغة ص ٥٦ والإنصاف ص ٥٧١ ، وأوضح المسالك ٣ / ٣٤٣ ، والجنى الداني ص ٨٠ ، ٣٤٥ ، والخصائص ٢ / ٢٨٢ وسر صناعة الإعراب ص ٢٨٢ ، ٣٣٢ ، ووصف المباني ص ٢٠٢ ، ٢٤٨ ، ٢٥٥ ، ٢٥٩ ، وشرح التصريح ٢ / ١٣٠ ، ٢٣٠ ، والمحتسب ٢ / ٢٥٦ ، والمقاصد النحوية ٤ / ١٠٢ ، والمقرب ١ / ٣٣٨ وهمع الهوامع ٢ / ١٢٥ ، ١٥٨ ، والدر المصون ٢ / ١٨٣.

(٣) تقدم.

٤٥٩

قال الزمخشريّ : فإن قلت : كيف موقع قوله : (هُمْ فِيها خالِدُونَ) بعد قوله : (فَفِي رَحْمَتِ اللهِ)؟

قلت : موقع الاستئناف ، كأنه قيل : كيف يكونون فيها؟ فقيل : هم فيها خالدون ، لا يظنعون عنها ، ولا يموتون.

فإن قيل : الكفّار مخلّدون في النار ، كما أن المؤمنين مخلّدون في الجنة ، فما الحكمة في ذكر خلود المؤمنين ولم يذكر خلود الكافرين؟

فالجواب : أن ذلك يشعر بأنّ جانب الرحمة أغلب ؛ لأنه ابتدأ بذكر أهل الرحمة ، وختم بهم ، لمّا ذكر العذاب لم يضفه إلى نفسه ، بل قال : (فَذُوقُوا الْعَذابَ ،) وأضاف ذكر الرحمة إلى نفسه ، فقال : (فَفِي رَحْمَتِ اللهِ ،) ولما ذكر العذاب ما نصّ على الخلود ، ونصّ عليه في جانب الرحمة ، ولما ذكر العذاب علله بفعلهم ، فقال : (فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) ولما ذكر الثواب علّله برحمته ، فقال : (فَفِي رَحْمَتِ اللهِ) ثم قال ـ في آخر الآية ـ : (وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ) [آل عمران : ١٠٨] ، وكل ذلك يشعر بأن جانب الرحمة مغلّب.

قوله تعالى : (تِلْكَ آياتُ اللهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ (١٠٨) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ)(١٠٩)

قوله : «تلك» مبتدأ ، (آياتُ اللهِ) خبره ، و «نتلوها» جملة حالية.

وقيل : (آياتُ اللهِ) بدل من «تلك» ، و «نتلوها» جملة واقعة خبر المبتدأ ، و «بالحقّ» حال من فاعل «نتلوها» ، أو مفعولة ، وهى حال مؤكدة ؛ لأنه ـ تعالى ـ لا ينزلها إلا على هذه الصفة.

وقال الزّجّاج (١) : «في الكلام حذف ، تقديره : تلك آيات القرآن حجج الله ودلائله».

قال أبو حيان : فعلى هذا الذي قدّره يكون خبر المبتدأ محذوفا ؛ لأنه عنده بهذا التقدير يتم معنى الآية ، وهذا التقدير لا حاجة إليه ؛ [إذ الكلام مستغن عنه ، تامّ بنفسه](٢).

والإشارة ب «تلك» إلى الآيات المتقدمة المتضمنة تعذيب الكفار ، وتنعيم الأبرار ، وإنما جاز إقامة «تلك» مقام هذه ؛ لأن هذه الآيات المذكورة قد انقضت بعد الذكر ، فصارت كأنها بعدت ، فقيل فيها : «تلك».

وقيل : لأن الله ـ تعالى ـ وعده أن ينزل عليه كتابا مشتملا على ما لا بدّ منه في الدين ، فلما أنزل هذه الآيات قال : تلك الآيات الموعودة هي التي نتلوها عليك.

وقرأ العامة (نَتْلُوها) ـ بنون العظمة ـ وفيه التفات من الغيبة إلى التكلّم.

__________________

(١) ينظر : معاني القرآن ١ / ٤٦٦.

(٢) في أ : إذ المعنى تام بدونه.

٤٦٠