اللّباب في علوم الكتاب - ج ٥

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ٥

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 2-7451-2298-3
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٦٣٢

دلّتكم على صحة صدق محمد ، والحال أن الله شهيد على أعمالكم ، ومجازيكم عليها؟ ثم لما أنكر [عليهم في ضلالهم ذكر ذلك الإنكار] عليهم في إضلالهم لضعفة المسلمين ، فقال : (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ مَنْ آمَنَ)؟

«لم» : متعلق بالفعل بعده ، و «من آمن» مفعوله والعامة على «تصدّون» ـ بفتح التاء ـ من صدّ يصدّ ـ ثلاثيا ـ ويستعمل لازما ومتعديا.

وقرأ الحسن (١) «تصدّون» ـ بضم التاء ـ من أصدّ ـ مثل أعد ـ ووجهه أن يكون عدى «صدّ» اللازم بالهمزة كقول ذي الرمة : [الطويل]

١٥٤٣ ـ أناس أصدّوا النّاس بالسّيف عنهم

 .......... (٢)

قال الفراء : يقال : صددته ، أصدّه ، صدّا. وأصددته ، إصدادا.

وكان صدهم عن سبيل الله بإلقاء الشّبه في قلوب الضّعفة من المسلمين ، وكانوا ينكرون كون صفته في كتابهم.

قوله : (تَبْغُونَها) يجوز أن تكون جملة مستأنفة ، أخبر عنهم بذلك ـ وأن تكون في محل نصب على الحال ، وهو أظهر من الأول ؛ لأن الجملة الاستفهامية السابقة جيء بعدها بجملة حالية ـ أيضا ـ وهي قوله : (وَاللهُ شَهِيدٌ عَلى ما تَعْمَلُونَ. وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ).

فتتفق الجملتان في انتصاب الحال عن كل منهما ، ثم إذا قلنا بأنها حال ، ففي صاحبها احتمالان :

أحدهما : أنه فاعل «تصدّون».

والثاني : أنه (سَبِيلِ اللهِ).

وإن جاز الوجهان لأن الجملة ـ اشتملت على ضمير كل منهما.

والضمير في (تَبْغُونَها) يعود على (سَبِيلِ) فالسبيل يذكّر ويؤنث كما تقدم ومن التأنيث هذه الآية ، وقوله : (قُلْ هذِهِ سَبِيلِي) [يوسف : ١٠٨].

وقول الشاعر : [الوافر]

١٥٤٤ ـ فلا تبعد فكلّ فتى أناس

سيصبح سالكا تلك السّبيلا (٣)

__________________

(١) انظر : الشواذ ٢٨ ، والمحرر الوجيز ١ / ٤٨١ ، والبحر المحيط ٣ / ١٦ ، والدر المصون ٢ / ١٧٣.

(٢) هذا صدر بيت وتمامه :

صدود السواقي عن أنوف الحوائم

ينظر ديوانه ٢ / ٧١ ، واللسان (صدد) والبحر المحيط ٣ / ١٦ والدر المصون ٢ / ١٧٣.

(٣) ينظر زاد المسير ١ / ٤٢٩ ، ومجاز القرآن ١ / ٣١٩ والمذكر والمؤنث لابن الأنباري ١ / ٤٢٤ والبحر المحيط ٣ / ١٦ والدر المصون ٢ / ١٧٥.

٤٢١

قوله (عوجا) فيه وجهان :

أحدهما : أنه مفعول به ، وذلك أن يراد ب «تبغون» تطلبون.

قال الزجّاج (١) والطبريّ : تطلبون لها اعوجاجا.

تقول العرب : ابغني كذا ـ بوصل الألف ـ أي : اطلبه لي ، وأبغني كذا ـ بقطع الألف ـ أي : أعنيّ على طلبه.

قال ابن الأنباري : البغي يقتصر له على مفعول واحد إذا لم يكن معه اللام ، كقولك : بغيت المال والأجر والثواب.

وههنا أريد يبغون لها عوجا ، فلما سقطت اللام عمل الفعل فيما بعدها ، كما قالوا وهبتك درهما ، يريدون وهبت لك ، ومثله : صدتك ظبيا ، أي : صدت لك.

قال الشاعر : [الخفيف]

١٥٤٥ ـ فتولّى غلامهم ثمّ نادى

أظليما أصيدكم أم حمارا (٢)

يريد : أصيد لكم ظليما؟

ومثله : «جنيتك كمأة وجنيتك طبّا» ، والأصل جنيت لك ، فحذف ونصب».

والثاني : أنه حال من فاعل «تبغونها» وذلك أن يراد ب «تبغون» معنى تتعدّون ، والبغي : التّعدّي.

والمعنى : تبغون عليها ، أو فيها.

قال الزجاج : كأنه قال تبغونها ضالين ، والعوج بالكسر ، والعوج بالفتح ـ الميل ، ولكن العرب فرّقوا بينهما ، فخصّوا المكسور بالمعاني ، والمفتوح بالأعيان تقول : في دينه وفي كلامه عوج ـ بالكسر ، وفي الجدار والقناة والشجر عوج ـ بالفتح.

قال أبو عبيدة : العوج ـ بالكسر. الميل في الدّين والكلام والعمل ، وبالفتح في الحائط والجذع.

وقال أبو إسحاق : الكسر فيما لا ترى له شخصا ، وبالفتح فيما له شخص.

وقال صاحب المجمل : بالفتح في كل منتصب كالحائط ، والعوج ـ يعني : بالكسر ـ ما كان في بساط ، أو دين ، أو أرض ، أو معاش ، فجعل الفرق بينهما بغير ما تقدم.

وقال الراغب (٣) : العوج : العطف من حال الانتصاب ، يقال : عجت البعير بزمامه ، وفلان ما يعوج به ـ أي : يرجع ، والعوج ـ يعني : بالفتح ـ يقال فيما يدرك بالبصر

__________________

(١) ينظر : معاني القرآن ١ / ٤٥٧.

(٢) ينظر مغني اللبيب ص ١ / ٢٢٠ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٥٩٦ والدر المصون ٢ / ١٦٤.

(٣) ينظر : المفردات ٣٥١.

٤٢٢

كالخشب المنتصب ، ونحوه ، والعوج يقال فيما يدرك بفكر وبصيرة ، كما يكون في أرض بسيطة عوج ، فيعرف تفاوته بالبصيرة ، وكالدين والمعاش ، وهذا قريب من قول ابن فارس ؛ لأنه كثيرا ما يأخذ منه.

وقد سأل الزمخشريّ في سورة طه قوله تعالى : (لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً) [طه : ١٠٧] ـ سؤالا ، حاصله : أنه كيف قيل : عوج ـ بالكسر ـ في الأعيان ، وإنما يقال في المعاني؟

وأجاب هناك بجواب حسن ـ يأتي إن شاء الله.

والسؤال إنما يجيء على قول أبي عبيدة والزجّاج المتقدم ، وأما على قول ابن فارس والراغب فلا يرد ، ومن مجيء العوج بمعنى الميل من حيث الجملة قول الشاعر : [الوافر]

١٥٤٦ ـ تمرّون الدّيار ولم تعوجوا

كلامكم عليّ إذن حرام (١)

وقول امرىء القيس : [الكامل]

١٥٤٧ ـ عوجا على الطّلل المحيل لأنّنا

نبكي الدّيار كما بكى ابن حذام (٢)

أي : ولم تميلوا ، وميلا.

وأما قولهم : ما يعوج زيد بالدواء ـ أي : ما ينتفع به ـ فمن مادة أخرى ومعنى آخر.

والعاج : العظم ، ألفه مجهولة لا يعلم منقلبة عن واو أو عن ياء؟ وفي الحديث أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لثوبان : «اشتر لفاطمة سوارا من عاج».

قال القتيبي : العاج الذّبل ؛ وقال أبو خراش الهذليّ في امرأة : [الطويل]

١٥٤٨ ـ فجاءت كخاصي العير لم تحل عاجة

ولا جاجة منها تلوح على وشم (٣)

قال الأصمعيّ : العاجة : الذبلة ، والجاجة ـ بجيمين ـ خرزة ما تساوي فلسا.

وقوله : كخاصي العير ، هذا مثل تقوله العرب لمن جاء مستحيا من أمر ، فيقال : جاء كخاصي العير.

__________________

(١) تقدم برقم ١٥٩.

(٢) ينظر البيت في ديوانه ص ١١٤ ، وجمهرة اللغة ص ٥٨٠ ، وخزانة الأدب ٤ / ٣٧٦ ، ٣٧٧ ، ٣٧٨ ، ولسان العرب (خذم) ، وشرح المفصل ٨ / ٧٩ ، والدرر ٢ / ١٦٦ ، والمؤتلف والمختلف ص ١١ وفيه «حمام» مكان «خذام» ، والحيوان ٢ / ١٤٠ وفيه «حمام» مكان (خذام) ، وتذكرة النحاة ص ٤١٩ ورصف المباني ص ١٢٧ ، وهمع الهوامع ١ / ١٣٤ ، والدر المصون ٢ / ١٧٤.

(٣) ينظر البيت في ديوان الهذليين ٢ / ١٢٩ واللسان (عوج) والتاج ٧ / ٣٠٥ وشرح أشعار الهذليين ٣ / ١٢٠١ ومجمع الأمثال ١ / ٢٩٣ والدر المصون ٢ / ١٧٥.

٤٢٣

والعير : الحمار ، يعنون جاء مستحيا. ويقال : عاج بالمكان ، وعوّج به ـ أي : أقام وقطن ، وفي حديث إسماعيل ـ على نبينا وعليه‌السلام ـ : «ها أنتم عائجون» أي مقيمون.

وأنشدوا للفرزدق : [الوافر]

١٥٤٩ ـ هل أنتم عائجون بنا لعنّا

نرى العرصات أو أثر الخيام؟ (١)

كذا أنشد هذا البيت الهرويّ ، مستشهدا به على الإقامة ـ وليس بظاهر ـ بل المراد ب «عائجون» في البيت : سائلون وملتفتون.

وفي الحديث : «ثم عاج رأسه إليها» أي : التفت إليها.

والرجل الأعوج : السيّىء الخلق ، وهو بيّن العوج. والعوج من الخيل التي في رجلها تجنيب. والأعوج من الخيل منسوبة إلى فرس كان في الجاهلية سابقا ، ويقال : فرس مجنّب إذا كان بعيد ما بين الساقين غير فحج ، وهو مدح ويقال : الحنبة : اعوجاج.

قوله : (وَأَنْتُمْ شُهَداءُ) حال ، إما من فاعل «تصدّون» ، وإما من فاعل «تبغونها» ، وإما مستأنف وليس بظاهر و «شهداء» جمع شهيد أو شاهد كما تقدم.

فصل

ومعنى الآية أنهم يقصدون الزيغ والتحريف لسبيله بالشّبه التي يوردونها على الضّعفة كقولهم : النسخ يدل على البداء ، وقولهم : إن في التوراة : أن شريعة موسى باقية إلى الأبد.

وقيل كانوا يدّعون أنهم على دين الله وسبيله ، وهذا على أنّ «عوجا» في موضع الحال والمعنى : يبغونها ضالين.

قوله : (وَأَنْتُمْ شُهَداءُ) قال ابن عباس : أي : شهداء أن في التوراة : أن دين الله الذي لا يقبل غيره هو الإسلام (٢). وقيل : وأنتم تشهدون ظهور المعجزات على نبوته صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقيل : وأنتم تشهدون أنه لا يجوز الصّدّ عن سبيل الله.

وقيل : (وَأَنْتُمْ شُهَداءُ) عدول بين أهل دينكم ، يثقون بأقوالكم ، ويعوّلون على

__________________

(١) ينظر البيت في ديوانه ٢ / ٢٩٠ ، وخزانة الأدب ٩ / ٢٢٢ ، ولسان العرب (لعن) وشرح شواهد الشافية ص ٤٦ ، وسمط اللآلىء ص ٧٥٨ ، واللامات ص ١٣٦ ، ولجرير في ملحق ديوانه ص ١٠٣٩ ، ولسان العرب (أنن) ، والإنصاف ١ / ٥٥ ، وجواهر الأدب ص ٤٠٢ وخزانة الأدب ١٠ / ٤٢٢ ، وشرح التصريح ١ / ١٩٢. والدر المصون ٢ / ١٧٥.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ٥٧) عن قتادة بمعناه وذكره الرازي في «التفسير الكبير» (١٣٨) عن ابن عباس.

٤٢٤

شهادتكم في عظائم الأمور ومن كان كذلك ، فكيف يليق به الإصرار على الباطل والكذب ، والضلال والإضلال؟

ثم قال : (وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) والمراد منه : التهديد ، وختم الآية الأولى بقوله: (وَاللهُ شَهِيدٌ ؛) لأنهم كانوا يظهرون إلقاء الشّبه في قلوب المسلمين ، ويحتالون في ذلك بوجوه الحيل ـ فلا جرم ـ قال فيما أظهره : (وَاللهُ شَهِيدٌ ،) وختم هذه الآية بقوله : (وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ؛) لأن ذلك فيما أضمروه من الإضلال للغير.

وكرر في الآيتين قوله : (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ) ؛ لأن المقصود التوبيخ على ألطف الوجوه ، وهذا الخطاب أقرب إلى التلطف في صرفهم عن طريقتهم.

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ (١٠٠) وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ)(١٠١)

لمّا حذّر أهل الكتاب عن الإغواء والإضلال ، حذّر المؤمنين في هذه الآية عن إغوائهم وإضلالهم ، ومنعهم عن الالتفات إلى قولهم.

روي أن شأس بن قيس اليهوديّ كان عظيم الكفر ، شديد الطعن على المسلمين ، شديد الحسد ، فاتفق أنه مرّ على نفر من الأوس والخزرج ـ وهم في مجلس جمعهم يتحدثون ، وكان قد زال ما بينهم من الشحناء والتباغض ، فغاظه ما رأى من ألفتهم ، وصلاح ذات بينهم في الإسلام بعد الذي كان بينهم في الجاهلية ، فقال : قد اجتمع ملأ بني قيلة بهذه البلاد ، لا والله ما لنا معهم إذا اجتمعوا بها ـ من قرار ، فأمر شابّا من اليهود ـ كان معه ـ فقال : اعمد إليهم ، فاجلس معهم ، ثم ذكرهم يوم بعاث وما كان قبله ، وأنشدهم بعض ما كانوا تقاولوا فيه من الأشعار ، وكان بعاث يوما اقتتلت فيه الأوس مع الخزرج ، وكان الظّفر فيه للأوس على الخزرج ـ ففعل : فتكلم القوم عند ذلك ، وتنازعوا وتفاخروا حتى تواثب رجلان من الحيّين على الرّكب ـ أوس بن قيظي ، أحد بني حارثة ، من الأوس وجبار بن صخر ، أحد بني سلمة من الخزرج ـ فتقاولا ، ثم قال أحدهما لصاحبه : إن شئتم والله رددتها الآن جذعة ، فغضب الفريقان جميعا ، وقالا : قد فعلنا ، السلاح السلاح ، موعدكم الظاهرة ـ وهي حرّة ـ فخرجوا إليها ، وانضمّت الأوس والخزرج بعضها إلى بعض على دعواهم التي كانوا عليها في الجاهلية ، فبلغ ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فخرج إليهم ـ فيمن معه من المهاجرين ـ حتى جاءهم فقال : «يا معشر المسلمين ، أبدعوى الجاهليّة وأنا بين أظهركم بعد إذ أكرمكم الله بالإسلام وقطع به عنكم أمر الجاهليّة ، وألّف بينكم ، فترجعون إلى ما كنتم كفّارا؟ الله الله». فعرف القوم أنها نزغة من شيطان ، وكيد من عدوّهم ، فألقوا السلاح من أيديهم ، وبكوا ، وعانق بعضهم بعضا ، ثم انصرفوا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سامعين مطيعين ،

٤٢٥

فأنزل الله هذه الآية (١) ، فما كان يوم أقبح أولا وأحسن آخرا من ذلك اليوم.

واعلم أن هذه الآية يحتمل أن يكون المراد بها : جميع ما يحاولونه من أنواع الضلالة ، فبيّن ـ تعالى ـ أن المؤمنين إذا قبلوا منهم قولهم أدّى ذلك ـ حالا بعد حال ـ إلى أن يعودوا كفارا ، والكفر يوجب الهلاك في الدّنيا بالعداوة والمحاربة ، وسفك الدماء ، وفي الآخرة بالعذاب الأليم الدائم.

قوله : (يَرُدُّوكُمْ) ردّ ، يجوز أن يضمّن معنى : «صيّر» فينصب مفعولين.

ومنه قول الشاعر : [الوافر]

١٥٥٠ ـ رمى الحدثان نسوة آل سعد

بمقدار سمدن له سمودا

فردّ شعورهنّ السّود بيضا

وردّ وجوههنّ البيض سودا (٢)

ويجوز ألا يتضمن ، فيكون المنصوب الثاني حالا.

قوله : (بَعْدَ إِيمانِكُمْ) يجوز أن يكون منصوبا ب «يردّوكم» ، وأن يتعلق ب «كافرين» ، ويصير المعنى كالمعنى في قوله : (كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ) [آل عمران : ٨٦].

قوله : (وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ) «كيف» كلمة تعجّب ، وهو على الله ـ تعالى ـ محال ، والمراد منه التغليظ والمنع ؛ لأن تلاوة آيات الله عليهم ، حالا بعد حال ـ مع كون الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيهم ـ تزيل الشّبه ، وتقرّر الحجج ، كالمانع من وقوعهم في الكفر ، فكان صدور الكفر عن هؤلاء الحاضرين للتلاوة والرسول معهم أبعد من هذا الوجه.

قال زيد من أرقم : قام فينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذات يوم خطيبا ، فحمد الله ، وأثنى عليه ، ثم قال : «أمّا بعد ، أيّها النّاس ، إنّما أنا بشر ، يوشك أن يأتيني رسول ربّي فأجيبه ، وإنّي تارك فيكم الثّقلين : أوّلهما كتاب الله ، فيه الهدى والنّور ، فتمسّكوا بكتاب الله ، وخذوا به ورغب فيه ثم قال : وأهل بيتي ، أذكّركم الله في أهل بيتي» (٣).

قوله : (وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللهِ) جملة حالية ، من فاعل : «تكفرون».

وكذلك قوله : (وَفِيكُمْ رَسُولُهُ) أي : كيف يوجد منكم الكفر مع وجود هاتين الحالتين؟

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ٥٥ ـ ٥٦) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ١٠٢) وزاد نسبته لابن إسحاق وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ عن زيد بن أسلم.

(٢) تقدم برقم ٧٣٣.

(٣) أخرجه مسلم في كتاب فضائل الصحابة (٣٦) وابن أبي عاصم في «السنة» (٢ / ٦٤٣) والبيهقي (٢ / ١٤٨ ـ ٧ / ٣١ ـ ١٠ / ١١٤) وابن عساكر (٥ / ٤٣٩ ـ تهذيب) والبغوي في «تفسيره» (١ / ٣٠٠) والحديث ذكره ابن كثير في «تفسيره» (٦ / ٤٦١) عن زيد بن أرقم.

٤٢٦

والاعتصام : الامتناع ، يقال : اعتصم واستعصم بمعنى واحد ، واعتصم زيد عمرا ، أي : هيّأ له ما يعتصم به.

وقيل : الاعتصام : الاستمساك ، واستعصم بكذا ، أي : استمسك به.

ومعنى الآية : ومن يتمسك بدين الله وطاعته فقد هدي وأرشد إلى صراط مستقيم.

وقيل : ومن يؤمن بالله. وقيل : ومن يتمسك بحبل الله وهو القرآن.

والعصام : ما يشدّ به القربة ، وبه يسمّى الأشخاص ، والعصمة مستعملة بالمعنيين ؛ لأنها مانعة من الخطيئة وصاحبها متمسك بالحق ـ والعصمة ـ أيضا ـ شبه السوار ، والمعصم : موضع العصمة ، ويسمّى البياض الذي في الرسغ ـ عصمة ؛ تشبيها بها ، وكأنهم جعلوا ضمة العين فارقة ، وأصل العصمة : البياض يكون في أيدي الخيل والظباء والوعول ، والأعصم من الوعول : ما في معاصمها بياض ، وهي أشدّها عدوا.

قال : [الكامل]

١٥٥١ ـ لو أنّ عصم عمامتين ويذبل

سمعا حديثك أنزلا الأوعالا (١)

وعصمه الطعام : منع الجوع منه ، تقول العرب : عصم فلانا الطعام ، أي : منعه من الجوع.

وقال أحمد بن يحيى : العرب تسمّي الخبز عاصما ، وجابرا.

قال : [الرجز]

١٥٥٢ ـ فلا تلوميني ولومي جابرا

فجابر كلّفني الهواجرا (٢)

ويسمونه عامرا ، وأنشد : [الطويل]

١٥٥٣ ـ أبو مالك يعتادني بالظّهائر

يجيء فيلقي رحله عند عامر (٣)

وأبو مالك كنية الجوع.

وفي الحديث ـ في النساء : «لا يدخل الجنّة منهنّ إلّا كالغراب الأعصم» (٤) وهو الأبيض الرجلين.

وقيل : الأبيض الجناحين.

قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «المرأة الصّالحة في النّساء كالغراب الأعصم في الغربان».

__________________

(١) البيت لجرير ينظر ديوانه ص ٥٠ ، والدرر ١ / ١٢٥ ، ومعجم ما استعجم ص ٩٦٦ ، والأشباه والنظائر ٥ / ٦٥ ، وأمالي ابن الحاجب ٢ / ٦٦٠ ، وتذكرة النحاة ص ١٥٣ ، وسر صناعة الإعراب ١ / ٤٦٢ ، وشرح المفصل ١ / ٤٦ ، والمنصف ١ / ٢٤٢ ، ٣ / ٤١ ، وهمع الهوامع ١ / ٤٢. والدر المصون ٢ / ١٧٦.

(٢) ينظر البيت في الكشاف ٤ / ٤٢٤ والقرطبي ٤ / ١٥٧ وأساس البلاغة ص ٨١.

(٣) ينظر البيت في القرطبي ٤ / ١٥٧ والإمتاع والمؤانسة ٣ / ١٣ وتاج العروس ٧ / ١٨٣ واللسان (ملك).

(٤) أخرجه الهروي في «ذم الكلام» (٣ / ١٠١).

٤٢٧

قيل : يا رسول الله ، وما الغراب الأعصم؟ قال «الّذي في أحد جناحيه بياض» (١).

وفي الحديث : كنا مع عمرو بن العاص ، فدخلنا شعبا ، فإذا نحن بغربان ، وفيهن غراب أحمر المنقار أحمر الرّجلين ، فقال عمرو : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لا يدخل الجنّة من النّساء إلّا بقدر هذا من الغربان» (٢) والمراد منه : التقليل.

قوله : «فقد هدي» جواب الشرط ، وجيء في الجواب ب «قد» دلالة على التوقّع ؛ لأن المعتصم متوقع الهداية.

والمعنى : ومن يمتنع بدين الله ، ويتمسك بدينه ، وطاعته ، فقد هدي إلى صراط مستقيم واضح. وفسره ابن جرير ومن يعتصم بالله أي : يؤمن بالله.

فصل

احتجوا بهذه الآية على أن فعل العبد مخلوق لله تعالى ؛ لأنه جعل اعتصامهم هداية من الله تعالى ، والمعتزلة ذكروا فيه وجوها :

أحدها : أن المراد بهذه الهداية الزيادة في الألطاف المرتبة على أداء الطاعات ، كقوله تعالى: (يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ) [المائدة : ١٦] وهذا اختيار القفال.

الثاني : أن التقدير : ومن يعتصم بالله فنعم ما فعل ؛ فإنه إنما هدي إلى الصراط المستقيم ، ليفعل ذلك.

الثالث : أن التقدير : ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى طريق الجنة.

الرابع : قال الزّمخشريّ : «فقد هدي» أي : فقد حصل له الهدى ـ لا محالة ـ كما تقول : إذا جئت فلانا فقد أفلحت ، كأن الهدى قد حصل ، فهو يخبر عنه حاصلا ؛ لأن المعتصم بالله متوقّع للهدى ، كما أن قاصد الكريم متوقع للفلاح عنده.

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)(١٠٢) (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها كَذلِكَ يُبَيِّنُ

__________________

(١) أخرجه الطبراني في «الكبير» (٨ / ٢٣٨) وأبو بكر بن أبي شيبة في مسنده كما في المطالب العالية (٢ / ٥٧) رقم (١٦٣٦) عن أبي أمامة.

وذكره الحافظ العراقي في تخريج الإحياء ، وقال : رواه الطبراني عن أبي أمامة بسند ضعيف.

والحديث أورده الهيثمي في «مجمع الزوائد» (٤ / ٢٧٣) وقال : وفيه مطرح بن يزيد وهو مجمع على ضعفه.

(٢) أخرجه أحمد (٤ / ٢٠٥) والنسائي في «الكبرى» (٥ / ٤٠٠) والطبراني في «الكبير» كما في «مجمع الزوائد» (٤ / ٢٧٧) عن عمرو بن العاص وذكره العراقي في تخريج الإحياء (٢ / ٤٥) وقال : وإسناده صحيح وقال الهيثمي (٤ / ٢٧٧) : رواه الطبراني واللفظ له وأحمد ورجال أحمد ثقات.

٤٢٨

اللهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٠٣) وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٠٤) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ)(١٠٥)

لما حذر المؤمنين من إضلال الكفّار ، أمرهم في هذه الآيات بمجامع الطاعات ، فأمرهم ـ أولا ـ بتقوى الله ، وثانيا ـ بالاعتصام بحبل الله ، وثالثا ـ بالاجتماع والتأليف ، ورابعا ـ بالترغيب بقوله : (وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ).

والسبب في هذا الترتيب أن فعل الإنسان ، لا بد وأن يكون معلّلا إما بالرهبة ، وإما بالرغبة ، والرهبة مقدمة على الرغبة ؛ لأن دفع الضرر مقدّم على جلب النّفع ، فقوله : (اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ) إشارة إلى التخويف من عقاب الله ، ثم جعله سببا للتمسك بدين الله والاعتصام بحبله ، ثم أردفه بالرغبة ، فقال : (وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ) فكأنه قال : خوف الله يوجب ذلك ، وكثرة نعم الله توجب ذلك ، فلم تبق جهة من الجهات الموجبة للفعل إلا وهي حاصلة في وجوب انقيادكم لأمر الله تعالى ، ووجوب طاعتكم لحكمه.

فصل

قال بعض العلماء : هذه الآية منسوخة ؛ لما روي عن ابن عباس أنه لمّا نزلت هذه الآية شق ذلك على المسلمين ؛ لأن حقّ تقاته أن يطاع فلا يعصى طرفة عين ، وأن يشكر فلا يكفر ، وأن يذكر فلا ينسى ـ والعباد لا طاقة لهم بذلك ، فنزل : (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) [التغابن : ١٦] ، فنسخت أول هذه الآية (١) ، ولم ينسخ آخرها ، وهو قوله : (وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) وقال جمهور المحقّقين : إن القول بهذا النسخ باطل ؛ لما روي عن معاذ أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أتدري ما حقّ الله على العباد ، وما حقّ العباد على الله»؟ فقلت : الله ورسوله أعلم. قال : «حقّ الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا ، وحقّ العباد على الله ألا يعذّب من لا يشرك به شيئا» قلت : يا رسول الله ، أفلا أبشر الناس؟ قال : «لا تبشرهم فيتّكلوا» (٢). وهذا لا يجوز أن ينسخ ؛ ولأن معنى قوله : (اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ) أي : كما يحق أن يتقى ، وذلك بأن تجتنب جميع معاصيه ، ومثل هذا لا يجوز أن ينسخ ؛ لأنه إباحة لبعض المعاصي ، وإذا كان كذلك صار معنى هذه الآية ومعنى قوله : «(فَاتَّقُوا

__________________

(١) ورود النسخ روي عن ابن مسعود وابن عباس وسعيد بن جبير وعكرمة وقتادة والربيع بن أنس وابن زيد.

فأخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ٦٨ ـ ٦٩) عن قتادة والربيع وابن زيد وأخرجه ابن مردويه كما في «الدر المنثور» ٢ / ١٦) عن عبد الله بن مسعود وأخرجه عبد بن حميد وابن مردويه كما في «الدر المنثور» (٢ / ١٠٦) عن ابن عباس وأخرجه عبد بن حميد كما في «الدر المنثور» (٢ / ١٠٦) عن عكرمة وأخرجه ابن أبي حاتم كما في «الدر المنثور» (٢ / ١٠٦ ـ ١٠٧) عن سعيد بن جبير.

(٢) أخرجه البخاري (٩ / ٢٠٤) كتاب التوحيد باب دعاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمته ... الخ رقم (٧٣٧٣) ومسلم كتاب الإيمان (٥٠) وأحمد (٥ / ٢٢٨ ، ٢٣٠ ، ٢٣٤ ، ٢٣٦) والترمذي (٢٦٤٣) عن معاذ بن جبل.

٤٢٩

اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ)» واحدا ؛ لأن من اتقى الله ما استطاع فقد اتقاه حق تقاته ؛ ولأن حق تقاته ما استطاع من التقوى ؛ لأن الله لا يكلف نفسا إلا وسعها والوسع دون الطاقة ، ونظير هذه الآية قوله : (وَجاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهادِهِ) [الحج : ٧٨].

فإن قيل : أليس قد قال تعالى : (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) [الأنعام : ٩١]؟

فالجواب : أن هذه الآية وردت في ثلاثة مواضع في القرآن ، وكلها في صفة الكفار ، لا في صفة المسلمين ، وأما الذين قالوا : إن المراد هو أن يطاع فلا يعصى فهذا صحيح ، والذي يصدر عن الإنسان كان سهوا ، أو نسيانا فغير قادح فيه ؛ لأن التكليف مرفوع عنه في هذه الأحوال ، وكذلك قوله : أن يشكر فلا يكفر ؛ لأن ذلك واجب عليه عند حضور نعم الله بالبال ، فأما عند السهو فلا يجب ، وكذلك قوله : أن يذكر فلا ينسى ، فإن ذلك واجب عند الدعاء والعبادة ، وكل ذلك مما يطاق ، فلا وجه للقول بالنسخ. وقوله : (حَقَّ تُقاتِهِ) أي : كما يجب أن يتّقى ، والتقى اسم للفعل ـ من قولك : اتقيت ـ كما أن الهدى اسم الفعل من قولك : اهتديت.

قوله : (وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) نهي في الصورة عن موتهم إلا على هذه الحالة ، والمراد : دوامهم على الإسلام ؛ وذلك أن الموت لا بدّ منه ، فكأنه قال : دوموا على الإسلام إلى الموت ، وقريب منه ما حكى سيبويه : لا أرينّك ههنا ، أي : لا تكن بالحضرة ، فتقع عليك رؤيتي ، والجملة من قوله : (وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) في محل نصب على الحال ، والاستثناء مفرّغ من الأحوال العامة ، أي : لا تموتن على حالة من سائر الأحوال إلا على هذه الحال الحسنة ، وجاء بها جملة اسمية ؛ لأنها أبلغ وآكد ؛ إذ فيها ضمير متكرر ، ولو قيل : إلا مسلمين لم يفد هذا التأكيد وتقدم إيضاح هذا التركيب في البقرة عند قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) بل دل على الاقتران بالموت لا متقدّما ولا متأخّرا.

قوله : (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً) الحبل ـ في الأصل ـ هو : السبب ، وكل ما وصلك إلى شيء فهو حبل ، وأصله في الأجرام واستعماله في المعاني من باب المجاز. ويجوز أن يكون ـ حينئذ ـ من باب الاستعارة ، ويجوز أن يكون من باب التمثيل ، ومن كلام الأنصار رضي الله عنهم : يا رسول الله ، إنّ بيننا وبين القوم حبالا ونحن قاطعوها ـ يعنون العهود والحلف.

قال الأعشى : [الكامل]

١٥٥٤ ـ وإذا تجوّزها حبال قبيلة

أخذت من الأخرى إليك حبالها (١)

__________________

(١) ينظر ديوانه (٦٥) وتأويل مشكل القرآن ٤٦ ومجاز القرآن ١ / ١٠١ واللسان (حبل) ومجمل اللغة ١ / ٢٦٢ وزاد المسير ١ / ٤٣٣ وتاج العروس ٧ / ٢٧٠ وتهذيب اللغة ٥ / ٧٨ والدر المصون ٢ / ١٧٧.

٤٣٠

يعني العهود.

قيل : والسبب فيه أن الرجل كان إذا سافر خاف ، فيأخذ من القبيلة عهدا إلى الأخرى ، ويعطى سهما وحبلا ، ويكون معه كالعلامة ، فسمّي العهد حبلا لذلك ، وهذا المعنى غير طائل ، بل سمّي العهد حبلا للتوصّل به إلى الغرض.

وقال آخر : [الكامل]

١٥٥٥ ـ ما زلت معتصما بحبل منكم

من حلّ ساحتكم بأسباب نجا (١)

قال القرطبي : العصمة : المنعة ، ومنه يقال للبذرقة : عصمة ، والبذرقة : الخفارة للقافلة ، وهو من يرسل معها يحميها ممن يؤذيها ، قال ابن خالويه : «البذرقة ليست بعربية ، وإنّما هي كلمة فارسية عرّبتها العرب ، يقال : بعث السلطان بذرقة مع القافلة». والحبل لفظ مشترك ، وأصله ـ في اللغة : السبب الذي يوصل به إلى البغية والحاجة ، والحبل : المستطيل من الرمل ، ومنه الحديث : «والله ما تركت من حبل إلّا وقفت عليه ، فهل لي من حجّ»؟ والحبل : الرّسن ، والحبل : الداهية.

قال كثير : [الطويل]

١٥٥٦ ـ فلا تعجلي يا عزّ أن تتفهمي

بنصح أتى الواشون أم بحبول (٢)

والحبالة : حبالة الصائد ، وكلها ليس مرادا في الآية إلا الذي بمعنى العهد.

والمراد بالحبل ـ هنا ـ : القرآن ؛ لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ في الحديث الطويل ـ : «هو حبل الله المتين».

وقال ابن عباس : هو العهد المذكور في قوله : (وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ) [البقرة: ٤٠] لقوله تعالى : (إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ) [آل عمران : ١١٢] أي : بعهد ، وسمّي العهد حبلا لما تقدم من إزالة الخوف.

وقيل : دين الله.

وقيل : طاعة الله ، وقيل : هو الإخلاص.

وقيل : الجماعة ؛ لأنه عقبه بقوله : (وَلا تَفَرَّقُوا).

وتحقيقه : أن النازل في البئر لما كان يعتصم بالحبل ، تحرّزا من السقوط فيها ، وكان كتاب الله وعهده ودينه وطاعته ، وموافقة جماعة المؤمنين حرزا لصاحبه من السقوط في جهنم ـ جعل ذلك حبلا لله ، وأمروا بالاعتصام به.

__________________

(١) البيت لجرير ينظر ديوانه ص ٥٢٠ واللسان (حبل) وتهذيب اللغة ٥ / ٧٩ والدر المصون ٢ / ١٧٧.

(٢) البيت لكثير عزة ينظر ديوانه ص ١١١ ، وإصلاح المنطق ص ٥ ، وشرح شواهد المغني ١ / ٥٨١ ، ولسان العرب (حبل) والمقاصد النحوية ٣ / ٤٠٤ ، ٤ / ٤٤١.

٤٣١

وقوله : (جَمِيعاً) أي : مجتمعين عليه ، فهو حال من الفاعل.

قوله : (وَلا تَفَرَّقُوا) قراءة البزّيّ بتشديد التاء وصلا وقد تقدم توجيهه في البقرة عند قوله (وَلا تَيَمَّمُوا)(١) والباقون بتخفيفها على الحذف (٢).

فصل

في التأويل وجوه :

الأول : أنه نهي عن الاختلاف في الدين ؛ لأن الحق لا يكون إلا واحدا ، وما عداه جهل وضلال ، قال تعالى : (فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ) [يونس : ٣٢].

الثاني : أنه نهي عن المعاداة والمخاصمة ؛ فإنهم كانوا في الجاهلية مواظبين على ذلك ، فنهوا عنه.

الثالث : أنه نهي عما يوجب الفرقة ، ويزيل الألفة ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ستفترق أمّتي على نيّف وسبعين فرقة الناجي منهم واحدة» قيل : ومن هي يا رسول الله؟ قال : «الجماعة».

وروي : «السواد الأعظم».

ويروى : «ما أنا عليه وأصحابي».

واعلم أن النهي عن الاختلاف ، والأمر بالاتفاق ، يدل على أن الحق لا يكون إلا واحدا.

فصل

استدلت نفاة القياس (٣) بهذه الآية ، فقالوا : الأحكام الشرعية إما أن يقال : إن الله

__________________

(١) آية : ٢٦٧.

(٢) انظر : الدر المصون ٢ / ١٧٧ ، وإتحاف فضلاء البشر ١ / ٤٨٥.

(٣) استدلوا من الكتاب بآيات كثيرة ، والناظر إليها يلاحظ أنها تنقسم بادىء ذي بدء إلى أربعة أقسام :

١ ـ قسم يدل على شمول النصوص لجميع الأحكام ويلزم منه الاستغناء عن القياس.

٢ ـ وقسم يدل على وجوب اتباع ما أنزل الله ويفهم منه منع العمل بالقياس.

٣ ـ وقسم يدل على منع اتباع الظن ويتضمن منع العمل بالقياس.

٤ ـ وقسم يدل على منع مجاوزة الكتاب والسنة ونحو ذلك مما يتضمن منع العمل بالقياس.

أولا : منها قول الله تعالى : (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ) وقوله تعالى : (وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) على قراءة الرفع. وقوله سبحانه : (وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ) وقوله جل شأنه : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ).

«وجه الاستدلال بهذه الآيات» أن الآيات الثلاث الأول دالة على اشتمال الكتاب الكريم على جميع أحوال الكائنات شاهدة وغائبة ومنها الأحكام الشرعية فتكون الأحكام الشرعية كلها مستفادة من نصوص الكتاب والآية الأخيرة دالة على إكمال الدين ، والدين هو الأحكام الشرعية. وإكمالها استيعابها بالنص عليها ، وذلك باشتمال الكتاب عليها لتتفق مع الآيات قبلها ، وإذا يكون القياس مستغنى عنه في معرفة الأحكام الشرعية فلا يكون حجة ، لأنه إن كان موافقا للنص كان لاغيا ، وإن كان مخالفا له كان باطلا ، ـ

٤٣٢

سبحانه ـ نصب عليها دلائل يقينية ، أو ظنية ، فإن كانت يقينية فلا يكتفى فيها بالقياس

__________________

ـ وإذا لم يكن حجة لم يجب تحصيله ولا العلم به بل يحظران عند المخالفة كما لا يخفى.

«ويناقش الاستدلال المذكور» بمنع دلالة هذه الآيات على اشتمال القرآن الكريم على جميع الأحكام الشرعية تفصيلا لأنه خلاف الواقع وإلّا فأين في كتاب الله مسألة «الجد والإخوة» ومسألة «أنت عليّ حرام» وغيرها ، ولأنه يستلزم أن السنة لم تشتمل على أحكام سكت عنها القرآن الكريم وهو خلاف الواقع أيضا ، وإلا فأين في كتاب الله تعالى بيان عدد ركعات الصلاة ومقادير الزكاة وغير ذلك مما بينته السنة المطهرة.

«فإن قالوا» نحن نلتزم أن الكتاب مشتمل على جميع الأحكام إجمالا لكن التفاصيل مستفادة من السنة وحدها فيبقى القياس مستغنى عنه.

«قلنا» هذه دعوى لا دليل عليها وهي خلاف الواقع إذ ليس في السنة المطهرة مسألة الجد والإخوة ، ولا مسألة أنت علي حرام ولا نحوهما من المسائل التي اجتهد فيها الصحابة وغيرهم فكلّ من الكتاب والسنة قد يشتمل على الحكم بالذات وقد يشتمل عليه بالواسطة بأن يدل على حجية الأصل الدال عليه ، وقد دلّ الكتاب على حجية السنة ودل الكتاب والسنة على حجية الإجماع ، ودلت الثلاثة على حجية القياس. فالأحكام المستفادة من القياس مشتمل عليها الكتاب إجمالا بدلالته على حجية القياس ابتداء أو على حجية السنة الدالة على حجية القياس أو على حجية السنة الدالة على حجية الإجماع الدال على حجية القياس.

على أنا لا نسلم أن الآيتين الأولى والثانية واردتان في شأن القرآن الكريم بل في شأن اللوح المحفوظ كما قال المفسرون فهو مشتمل على أحوال جميع الكائنات ، ولا علم لنا تفصيلا إلا بما اشتمل الكتاب والسنة على تفصيله من هذه الأحوال وهو البعض فلا غنى لنا عن القياس لنستعلم به ما لم ينص الكتاب والسنة عليه.

ثانيا : منها قول الله تعالى : (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ) وقوله تعالى : (وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللهِ) وقوله تعالى : (اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ).

«وجه الاستدلال بهذه الآيات» أنها دلت بمنطوقها على وجوب الحكم بما أنزل الله ودلّت بمفهومها على تحريم الحكم بغير ما أنزل الله ، ولا شك أن القياس من غير ما أنزل الله فيكون الحكم به محرما. «ويناقش هذا» بأن ليس المراد بما أنزل الله نفس اللفظ الذي أنزله إذ لا شبهة في أن الحاكم إنما يحكم بمدلول اللفظ لا بنفس اللفظ ، وكل معنى حق مستفاد من اللفظ بالوضع أو الالتزام فهو مدلول ، فعلى هذا لا نسلم أن الحكم بالقياس حكم بغير ما أنزل الله بل هو حكم بما أنزل الله أي بمدلول ما أنزل الله وذلك من عدة أوجه :

«الأول» : أنه حكم بالقياس الذي أنزل الله ما يدل على حجيته من آيات التعليل وآيات التمثيل وغيرها.

«الثاني» : أنه حكم بالقياس المدلول على حجيته بالسنة التي أنزل الله ما يدل على حجيتها.

«الثالث» : أنه حكم بالقياس المدلول على حجيته بالإجماع المدلول على حجيته بالسنة التي أنزل الله ما يدل على حجيتها.

«الرابع» : أنه حكم بمقتضى العلة المستنبطة من النص الذي أنزله الله من كتاب أو سنة.

فعلى كل من هذه الأربعة يكون الحكم بالقياس حكما بما أنزل الله لأن الله عزوجل أنزل ما يدل عليه.

ويقرب من الآيات السابقة قول الله تعالى : (فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ) فإنه يدل على وجوب الرد إلى الكتاب والسنة فيفهم منه منع الرد إلى ما عداهما من قياس وغيره. وقول الله تعالى : (قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي) فإنه يدل على ـ

٤٣٣

الذي يفيد الظن ؛ لأن الدليل الظني لا يكتفى به في موضع اليقين ، وإن كانت ظنيّة أدى

__________________

ـ اختصاص الهدى بما أوحاه الله من كتاب أو سنة فيكون ما سواهما من قياس وغيره ضلالا ، وقوله تعالى : (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ) فإنه يدل على توقف الإيمان على تحكيم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم باتباع حكمه الذي نص عليه في الكتاب أو السنة فيكون اتباع ما عداه من قياس وغيره مخالفا للإيمان. وقوله تعالى : (إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللهُ) فإنه دل على أنه لا يتبع إلا ما أوحاه الله إليه من الكتاب أو السنة وهو قدوة الأمة فيلزم الأمة اتباعهما ويمتنع عليها اتباع غيرهما من قياس أو غيره.

«والجواب عن الاستدلال بهذه الآيات كلها» أن حجية القياس الصحيح مدلول عليها بالكتاب والسنة ، فكل ما دل على وجوب اتباع الكتاب والسنة والاقتصار عليهما يدل على وجوب العمل بالقياس الصحيح ، بخلاف الرأي المحض والقياس الفاسد.

ثالثا : منها قول الله تعالى : (إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً) فإن دل على أن الظن لا يفيد شيئا من الحق ، والقياس ظن لابتنائه على علية العلة في الأصل ووجودها في الفرع وهما ظنيان لاحتمال أن تكون خصوصية الأصل جزءا من العلة أو شرطا لعليتها أو تكون خصوصية الفرع مانعة من العلية ، ولا سبيل إلى القطع مع قيام هذه الاحتمالات ، فالقياس إذا لا يفيد شيئا من الحق فيمتنع العمل به شرعا.

وكذا قوله تعالى : (اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ) فإنه دل على تحريم كثير من الظن وهو غير معلوم فلا يتم الامتثال إلا بالامتناع عن جميع الظن ومنه القياس. وقوله تعالى : (وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) فإنه دل على تحريم اتباع ما لم يعلم ومنه الحكم القياس فإنه مظنون غير معلوم. وقوله تعالى : (قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) فإنه دل على تحريم القول على الله بما لا يعلم. ولا شك أن الحكم بالقياس يقتضي الإخبار بأن مدلوله حكم الله تعالى وهو لا يعلم ، وإنما يظن ظنا ، فهو قول على الله بما لا يعلم فيكون حراما.

ويناقش الاستدلال بهذه الآيات كلها بأنا لا نسلم دلالتها على منع القياس الصحيح.

«أما الآية الأولى» فإن المراد بالظن فيها الظن الذي لا مستند له ، وإنما هو رجم بالغيب وتقليد للآباء وتقوّل بغير دليل ، وأما الظن المستند إلى النظر والاستدلال فليس داخلا في مضمون الآية ، ولا يخفى أن القياس من باب الظن المستند إلى النظر في الأدلة الشرعية فلا يكون داخلا في الآية.

ولئن سلمنا أن المراد به الظن مطلقا لا نسلم أنه لا يغني من الحق شيئا في كل مقام ، بل المراد الظن في مقام يطلب فيه اليقين كالاعتقادات المتعلقة بذات الله تعالى وذات رسله وإلّا لانتقض بدلالات الكتاب والسنة على الأحكام الشرعية فإنها تغني من الحق مع أنها ظنية.

«وأمّا الآية الثانية» فإن المراد من الظن فيها ظن السوء بالمسلم السالم عرضه ودينه ظاهرا بقرينة قول الله تعالى : (وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً) فإن الأمور الثلاثة مرتبة في الواقع ، لأن من ظن بأخيه شرا دعاه ظنه إلى التجسس عليه ، فإذا ظهر له بالتجسس شيء دعاه ذلك إلى غيبته فنهى الله عزوجل عن هذا الظن وما يترتب عليه وأين منه القياس؟ ومما يرشد إلى هذا أنه لم يقل اجتنبوا الظن إن الظن إثم مع أنه أخصر ، وما ذلك إلّا لأن من الظن ما هو إثم ومنه ما هو هو غير إثم كالقياس. كظن السوء بمن شهد عليه العدول بما يفسقه وبمن أقر على نفسه بذلك.

«وأما الآيتان الثالثة والرابعة» فقوله عزوجل في إحداهما (ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) وفي الأخرى (ما لا تَعْلَمُونَ) لا يجوز أن يراد به ما يشمل الحكم القياسي ونحوه من المظنونات المعتد بها شرعا كخبر الواحد وظاهر الكتاب وخبر الشهود لئلا تتعارض الآيتان مع الأدلة القائمة على جواز بل وجوب العمل ـ

٤٣٤

الرجوع إليها إلى الاختلاف والنزاع وقد نهى الله عنه بقوله : (وَلا تَفَرَّقُوا) [آل عمران :

__________________

ـ بها ، والتعارض خلاف الأصل.

«فإن قيل» كيف يتأتى عدم إرادة هذه المظنونات مع أنها من مشمولات ما لا يعلم؟

«قلنا» يتأتى ذلك بثلاث طرق :

١ ـ أن المراد بالعلم في الآيتين الإدراك القوي جازما كان أو راجحا فيشمل الظن ، واستعماله في هذا المعنى الشامل للظن كثير جدا بشهادة الاستقراء ، فيكون المحرم المنهي عنه هو اتباع ما لا يدرك إدراكا جازما ولا راجحا وهو المشكوك فيه والمتوهم ، والمقطوع بخلافه فلا يدخل فيه الحكم القياسي ونحوه.

٢ ـ أن يبقى العلم على معناه المشهور وهو الإدراك الجازم المطابق للواقع عن موجب فيكون قوله تعالى : (ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) وقوله (ما لا تَعْلَمُونَ) دالين على كل ما لا يقطع به من مظنون وغيره. لكن هذا المدلول ليس مرادا عمومه بل هو مخصوص بغير ما قام الدليل على جواز اتباعه من المظنونات كالحكم القياسي ونحوه. فهذه المظنونات خارجة عن الآيتين من حيث الإرادة وإن كانت داخلة فيها من حيث الدلالة.

٣ ـ أن يبقى العلم على معناه المشهور ويبقى قول الله تعالى : (ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) وقوله (ما لا تَعْلَمُونَ) على ظاهرهما من العموم ويقال إن الحكم القياسي ونحوه والمظنونات التي قامت الأدلة على وجوب العمل بها قد صارت بهذه الأدلة معلومات متيقنات غير مظنونات وذلك أن المجتهد أو القاضي إذا حصل له ظن مستند إلى دليل معتد به شرعا علم أن الله عزوجل أوجب عليه العمل بهذا الظن للإجماع القاطع على ذلك.

ثم إما أن يكون من المصوبة أو من المخطئة.

فإن كان من المصوبة فالعلم بوجوب العمل بالظن يوجب العلم بأن هذا الحكم هو حكم الله تعالى في حقه وليس لله حكم في حقه سواء ، فالحكم الذي ظهر أولا عقب الدليل المنتج له يقطع به عقب العام بوجوب العمل به.

وإن كان من المخطئة فالعلم بوجوب العمل بالظن وإن لم يوجب العلم بأن هذا الحكم هو حكم الله في الواقع لكنه يوجب العلم بأنه حكم الله الظاهري الذي يخرجه من العهدة ، فالحكم القياسي ونحوه إذا معلوم لا مظنون فلا يدخل في قوله تعالى : (ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) ولا في قوله (ما لا تَعْلَمُونَ) فلا يكون اتباعه محرما «وقد يقال» إن الظن والعلم لا يمكن أن يكونا في لحظة واحدة فلا بد أن يكون العلم متأخرا عن الظن فالحكم في حالة الظن السابقة على حالة العلم يكون داخلا في الآيتين وأيلولته بعد ذلك إلى العلم لا تمنع دخوله فيهما في هذه الحالة الأولى فيكون اتباعه محظورا على فرض قصر العلم على الجزم وعدم تخصيص ما لا يعلم. فلا بد في الجواب من تعميم العلم بحيث يشمل الظن. أو تخصيص ما لا يعلم بحيث تخرج عنه المظنونات التي قامت الأدلة على اتباعها أعني أنه لا بد من إحدى الطريقتين الأوليين فهذا الطريق الثالث على ما فيه من الطول لم يستغن عنهما وهما مستغنيان عنه كما ترى.

رابعا : قد رأيت لاختلاف أوجه دلالة هذه الآيات وتنوع المناقشات حول الاستدلال بها أن أفرد كل آية منها بالبحث وهاكها :

أ ـ قال الله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ).

«وجه الاستدلال بها» أن التقديم بين يدي الله ورسوله هو الإقدام على شيء لم يأذنا فيه ، وإذنهما إنما يكون بالنص على الشيء في الكتاب أو السنة ولا شك أن الحكم بالقياس إقدام على شيء لا نص فيه ـ

٤٣٥

١٠٣] وقوله : (وَلا تَنازَعُوا) [الأنفال : ٤٦].

__________________

ـ في الكتاب أو السنة ، فهو إذا إقدام على ما لم يأذن الله ورسوله فيكون تقديما بين يدي الله ورسوله ، وقد نهى الله عزوجل عن ذلك فيكون حراما.

«ويناقش هذا» بأنا لا نسلم أن الإذن بالشيء يختص بالنص عليه في الكتاب أو السنة فإن الإذن كما يكون بالنص على الشيء نفسه يكون بالنص على ما يستلزمه ، وقد نصّ في الكتاب والسنة على ما يستلزم الأحكام القياسية كما تقدم فالعمل بها عمل بما أذن الله ورسوله فيه فليس تقديما بين يدي الله ورسوله.

ب ـ وقال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللهُ عَنْها وَاللهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ) «وجه الاستدلال بها» أن الله عزوجل نهى عن سؤال الصحابة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن أشياء مما لم ينص على حكمها في الكتاب أو السنة خشية أن ينزل فيها إيجاب أو تحريم فيشق عليهم ، ولا شك أن القياس يبدي أحكاما لا نص عليها في الكتاب أو السنة وقد تكون من قبيل الإيجاب أو التحريم فتشق فيكون القياس منهيا عنه كالسؤال فيكون حراما.

هذا وجه. وهناك وجه آخر وهو أن الله عزوجل بين أن ما لا نص فيه قد عفا عنه فلم يحكم فيه بحكم أصلا وهذا يدل على بطلان القياس إذ لو صح لاقتضى أن يكون لكل مسكوت حكم لأنه ما من مسكوت إلا وفيه وصف من الأوصاف يمكن اشتراكه فيه مع منطوقه فيثبت حكمه له فلا يبقى شيء من الأشياء عفوا مع أن الله عزوجل بيّن أن ما لم ينص عليه فهو عفو.

«ويناقش كل من الوجهين» بأن النهي إنما هو عن السؤال عن الأمور التي لم تبد ، والإبداء الإظهار باللفظ الدال على الشيء وضعا أو التزاما ولا شك أن الأحكام المأخوذة من القياس قد استلزمتها العلة التي استلزمها النص على حكم الأصل ، وأيضا قد استلزمتها النصوص الدالة على حجية القياس فهي إذا مما أبداه الله عزوجل ، والذي لم يبد هو ما لم يظهر أصلا بأن لم ينص عليه ولم يوصل القياس فيه إلى حكم معين كتكرار الحج فإنه لا يعلم بالنص ولا بالقياس سوى أنه مطلوب ، وهو يحتمل الوجوب والندب فلا يسأل عنه لئلا ينزل إيجابه فيشق على المؤمنين وكالنسب فإن انتساب شخص ما إلى أبيه حقيقة لا يعلم بنص ولا قياس فلا يسأل عنه لئلا يكون الجواب بأنه ابن شخص آخر فيشق ذلك على السائل وعلى أم المسؤول عن نسبه للفضيحة التي تلحقهما ، وكالآيات الخارقة للعادة فإنه لا يجوز السؤال عنها لئلا تحدث فيشك فيها قوم فيعاقبوا العقاب العاجل كما سأل قوم صالح النّاقة وأصحاب عيسى المائدة ثم كفروا بهما ولذلك قال الله تعالى : (قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ).

وبهذا يعلم أن كلّا من الوجهين المذكورين في الاستدلال فيه نظر «أمّا الأول» فلأنهم قاسوا القياس على السؤال في التحريم بجامع أن كلّا منهما قد يترتب عليه حكم شاق وهذا قياس غير صحيح لأن القياس إنما يترتب عليه حكم قد أبداه الله بالنص على ما يستلزمه والسؤال يترتب عليه حكم لم يكن أبداه الله أصلا فافترقا ، ولأنه يستلزم بطلان نفسه لأنه قياس يترتب عليه بطلان القياس فيكون هو باطلا لأنه فرد من أفراد القياس.

«وأمّا الثاني» فلأن المسؤول عنه قد يكون حكما لم يعلم بالنص ولا بالقياس تعيينه كتكرار الحج ، وقد يكون أمرا آخر كالنسب وكالآيات الخارقة للعادة وهذا لا مجال للقياس فيه ، فالقول بالقياس لا يترتب عليه إسقاط العفو كما زعموا.

«فإن قيل» قد اشتهر بين الأصوليين أن القياس مظهر للحكم وهذا يقتضي أن الحكم الناشىء عنه قد ظهر به لا بالنص فكيف تقول إنه مما أبداه الله؟ ـ

٤٣٦

الجواب بأن هذا العموم مخصوص بالأدلة الدالة على العمل بالقياس.

__________________

ـ «قلنا» القياس مظهر للحكم مباشرة وهذا لا ينافي أن النص مظهر له بواسطة دلالته على حجية القياس فلا تعارض.

«فإن قلت» إن شمول الإبداء للإبداء بالواسطة بعيد والأصل اختصاصه بالإبداء بلا واسطة.

«قلت» لو لا هذا الشمول لتعارضت الآية مع آيات حجية القياس فهذا الشمول لو سلم بعده فلا بد منه لدفع التعارض بينه وبين أدلة حجية القياس.

ج ـ وقال تعالى : (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ).

«وجه الاستدلال بها» أنها دلت على فسق من لم يحكم بما أنزل الله ، ولا شك أن الحكم بالقياس ليس حكما بما أنزل الله فيكون فسقا حراما.

«ويناقش هذا» بأن المراد من لم يحكم بمدلول ما أنزل الله ولا شك أن الحكم القياسي مدلول لما أنزل الله لأنه أنزل ما يدل عليه من دلائل حجية القياس وتقدم ذلك في مناقشة القسم الثاني من هذه الأدلة ، فالمقصود من الآية الكريمة هو من حكم بالرأي المحض كالقوانين الوضعية المستحدثة في زماننا هذا أو بالقياس الفاسد كالقياس مع النص المخالف.

د ـ وقال تعالى : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالاً قُلْ آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ).

«وجه الاستدلال بها» أنها دلت على ذم التحليل والتحريم من غير إذن من الله تعالى بالنص على الحكم وبينت أن ذلك افتراء على الله تعالى ويدخل في ذلك التحليل والتحريم بالقياس إذ لا نص عليهما فيكونان من الافتراء على الله تعالى وهو من أعظم المحرمات.

«ويناقش هذا» بأنا لا نسلم أن الإذن خاص بالنص على الحكم بل يشمل النص عليه والنص على دليله والحكم المأخوذ من القياس مأذون فيه بالنص على دليله من جهتين :

«أولاهما» النص على حجية القياس.

«وثانيتهما» النص على حكم الأصل الذي تستنبط منه العلة ثم يستخرج منها ذلك الحكم أعني حكم الفرع ، فالمقصود من الآية ذم المشركين الذين أحلوا أشياء وحرموا أشياء بآرائهم المحضة وأهوائهم الباطلة ، والقياس الصحيح بمعزل عن ذلك.

ه ـ وقال تعالى : (فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ)

«وجه الاستدلال بها» أن القياس تمثيل ما لا نص فيه بما فيه نص ومن مثّل ما لم ينص الله تعالى على إيجابه أو تحريمه بما حرمه أو أوجبه فقد ضرب لله الأمثال وهذا منهي عنه بالآية الكريمة فيكون حراما.

«ويناقش هذا» بأن هذه الآية الكريمة جاءت عقب قول الله تعالى : (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ شَيْئاً وَلا يَسْتَطِيعُونَ) وهذا يدل على أن المقصود منها النهي عن اتخاذ الأشباه والنظراء لله عزوجل بعبادتهم ، وهذا بعيد عن القياس بمراحل ، وعلى فرض أنه نهي عن التمثيل فإنما هو نهي عن التمثيل الذي ارتكبه عبّاد الأصنام حيث شبهوا الأصنام بالله سبحانه وتعالى فعبدوها وهذا تمثيل فاسد إذ لا جامع فيه لأن وجود العبادة إنما هو بالخلق والرزق فهو مختصّ بالله وحده.

ينظر مباحث للقياس للشيخ علي عبد التواب ، والبرهان لإمام الحرمين ٢ / ٧٤٣ ، البحر المحيط للزركشي ٥ / ٥ ، الإحكام في أصول الأحكام للآمدي ٣ / ١٦٧ ، سلاسل الذهب للزركشي ص ٣٦٤ ، التمهيد للإسنوي ص ٤٦٣ ، نهاية السول له ٤ / ٢ ، زوائد الأصول له ص ٣٧٤ ، منهاج العقول للبدخشي ٣ / ٣ ، غاية الوصول للشيخ زكريا الأنصاري ص ٢١١ ، التحصيل من المحصول للأرموي ـ

٤٣٧

قال القرطبي : وليس في الآية دليل على تحريم الاختلاف في الفروع ؛ فإن ذلك ليس اختلافا ؛ إذ الاختلاف يتعذر معه الائتلاف والجمع ، وأما حكم مسائل الاجتهاد ، فإن الاختلاف فيها بسبب استخراج الفرائض ودقائق معاني الشرع ، وما زالت الصحابة مختلفين في أحكام الحوادث ، وهم ـ مع ذلك ـ متآلفون وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اختلاف أمّتي رحمة» (١) وإنما منع الله الاختلاف الذي هو سبب الفساد ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم «تفرّقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة ـ أو اثنتين وسبعين فرقة ـ والنّصارى مثل ذلك ، وتفترق أمّتي ثلاثا وسبعين فرقة» (٢).

قوله : (وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ).

(نِعْمَتَ اللهِ) مصدر مضاف لفاعله ؛ إذ هو المنعم ، (عَلَيْكُمْ) ، ويجوز أن يكون متعلقا بنفس (نِعْمَتَ ؛) لأن هذه المادة تتعدى ب «على» قال تعالى : (وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ) [الأحزاب : ٣٧].

ويجوز أن يكون متعلقا بمحذوف على أنه حال من «نعمة» ، فيتعلق بمحذوف ، أي : مستقرة ، وكائنة عليكم.

قوله : (إِذْ كُنْتُمْ) «إذ» منصوبة ب «نعمة» ظرفا لها ويجوز أن يكون متعلّقا بالاستقرار الذي تضمنه (عَلَيْكُمْ) إذ قلنا : إن «عليكم» حال من النعمة ، وأما إذا علقنا «عليكم» ب «نعمة» تعيّن الوجه الأول.

__________________

ـ ٢ / ١٥٥ ، المنخول للغزالي ص ٣٢٣ ، المستصفى له ٢ / ٢٢٨ ، حاشية البناني ٢ / ٢٠٢ ، الإبهاج لابن السبكي ٣ / ٣ ، الآيات البينات لابن قاسم العبادي ٤ / ٢ ، حاشية العطار على جمع الجوامع ٢ / ٢٣٩ ، المعتمد لأبي الحسين ٢ / ١٩٥ ، إحكام الفصول في أحكام الأصول للباجي ص ٥٢٨ ، الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم ٧ / ٣٦٨ ، ٨ / ٤٨٧ ، أعلام الموقعين لابن القيم ١ / ١٠١ ، التحرير لابن الهمام ص ٤١٥ ، تيسير التحرير لأمير بادشاه ٣ / ٢٦٣ ، التقرير والتحبير لابن أمير الحاج ٣ / ١١٧ ، ميزان الأصول للسمرقندي ٢ / ٧٨٩ ، كشف الأسرار للنسفي ٢ / ١٩٦ ، حاشية التفتازاني والشريف على مختصر المنتهى ٢ / ٢٤٧ ، ٢ / ٥٢ ، حاشية نسمات الأسحار لابن عابدين ص ٢١٢ ، شرح المنار لابن ملك ص ١٠٣ ، الوجيز للكراماستي ص ٦٤ ، تقريب الوصول لابن جزيّ ص ١٣٤ ، إرشاد الفحول للشوكاني ص ١٩٨ ، شرح مختصر المنار للكوراني ص ١٠٣ ، نشر البنود للشنقيطي ، شرح الكوكب المنير للفتوحي ص ٤٧٩.

(١) ذكره السيوطي في «الجامع الصغير» (٢٨٨) وعزاه لنصر المقدسي في الحجة والبيهقي في «الرسالة الأشعرية» بغير سند وقال : وأورده الحليمي والقاضي حسين وإمام الحرمين وغيرهم ولعله خرج في بعض كتب الحفاظ التي لم تصل إلينا قال المناوي في «فيض القدير» (١ / ٢١٢) : قال السبكي : وليس بمعروف عند المحدثين ولم أقف له على سند صحيح ولا ضعيف ولا موضوع.

والحديث ذكره الغزالي في «الإحياء» (١ / ٢٧) وقال العراقي : وأسنده البيهقي في «المدخل من حديث ابن عباس» وإسناده ضعيف.

(٢) تقدم.

٤٣٨

وجوز الحوفي أن يكون منصوبا ب «اذكروا» يعني : مفعولا به ، لا أنه ظرف له ؛ لفساد المعنى ؛ إذ «اذكروا» مستقبل ، و «إذ» ماض.

فصل

(كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ).

قال محمد بن إسحاق وغيره من أهل الأخبار : كان الأوس والخزرج أخوين لأب وأمّ ، فوقعت بينهما عداوة ـ بسبب قتيل ـ فتطاولت تلك العداوة والحرب بينهم مائة وعشرين سنة ، إلى أن أطفأ الله تعالى ، ذلك بالإسلام ، وألّف بينهم برسوله ـ عليه‌السلام ـ وكان سبب ألفتهم أن سويد بن الصامت ـ أخا بني عمرو بن عوف ـ كان شريفا ، تسمّيه قومه : الكامل ، لجلده ونسبه ، قدم «مكة» حاجّا أو معتمرا ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد بعث وأمر بالدعوة ، فتصدّى له حين سمع به ، فدعاه إلى الله وإلى الإسلام ، فقال له سويد : فلعلّ الذي معك مثل الذي معي. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : وما الّذي معك؟ قال : حكمة لقمان فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اعرضها عليّ» (١) فعرضها عليه ، فقال : إنّ هذا الكلام حسن معي أفضل من هذا ـ قرآن أنزله الله عليّ نورا وهدى ، فتلا عليه القرآن ، ودعاه إلى الإسلام ، فلم يبعد منه ، وقال : إنّ هذا القول أحسن ، ثمّ انصرف إلى المدينة ، فلم يلبث أن قتله الخزرج يوم بعاث ؛ فإن قومه يقولون : قد قتل وهو مسلم ، ثم قدم أبو الجيسر أنس بن رافع معه فتية من بني الأشهل ـ فيهم إياس بن معاذ ـ يلتمسون الحلف من قريش على قومهم من الخزرج ، فلما سمع بهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أتاهم ، فجلس إليهم ، فقال : هل لكم إلى خير مما جئتم له؟ قالوا : وما ذاك؟ قال : أنا رسول الله بعثني الله إلى العباد ، أدعوهم إلى ألّا يشركوا به شيئا ، وأنزل عليّ الكتاب ، ثمّ ذكر لهم الإسلام ، وتلا عليهم القرآن ، فقال إياس بن معاذ وكان غلاما حدثا : أي قوم ، هذا والله خير مما جئتم له ، فأخذ أبو الجيسر حفنة من البطحاء ، فضرب بها وجه إياس (٢) ، وقال : دعنا منك ؛

__________________

(١) ذكره ابن مندة ، وقال : قدم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مكة فأتاهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فأسلموا ثم ساق الحديث من طريق سلمة بن الفضل عن ابن إسحاق عن حصين بن عبد الرحمن ، عن محمود بن لبيد بهذا كذا قال والذي ذكره ابن إسحاق في المغازي بهذا الإسناد يدل على أنه لم يسلم وقوله : قدم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيه نظر ، وإنما قدم أبو الجيش في فتية من بني عبد الأشهل على قريش يلتمسون منهم الحلف على إخوانهم الخزرج ، فأتاهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يدعوهم إلى الإسلام فلم يسلموا إذ ذاك وانصرفوا فكانت بينهم وقعة بعاث المشهورة ولأبي الجيش هذا ابن شهد بدرا ، وابنة تزوجها عبد الرحمن بن عوف ، وهي التي قيل له بسببها : أولم ولو بشاة ينظر الإصابة ١ / ١٣٦.

(٢) إياس بن معاذ الأنصاري الأشهلي .. قال ابن السكن وابن حبان له صحبة وذكره البخاري في تاريخه الأوسط فيمن مات على عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من المهاجرين الأولين والأنصار وترجم له في التاريخ الكبير وقال مصعب الزبيري قدم إياس مكة وهو غلام قبل الهجرة ، فرجع ومات قبل هجرة ـ

٤٣٩

فلعمري لقد جئنا لغير هذا ، فصمت إياس ، وقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عنهم ثم انصرفوا إلى «المدينة» ، فكانت وقعة بعاث بين الأوس والخزرج ، ثم لم يلبث إياس بن معاذ أن هلك فلما أراد الله ـ عزوجل ـ إظهار دينه ، وإعزاز نبيه ، خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الموسم الذي لقي فيه النفر من الأنصار ، يعرض نفسه على قبائل العرب ـ كما كان يصنع في كل موسم ـ فلقي عند العقبة رهطا من الخزرج ـ أراد الله بهم خيرا ـ وهم أسعد بن زرارة ، وعوف ابن الحارث ـ وهو ابن عفراء ـ ورافع بن مالك العجلاني وقطبة بن عامر بن خريدة ، وعقبة بن عامر ، وجابر بن عبد الله ، فقال لهم رسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أنتم؟ قالوا : نفر من الخزرج فقال : أمن موالي يهود؟ قالوا : نعم ، قال أفلا تجلسوا حتّى أكلّمكم؟ قالوا : بلى ، فجلسوا معه ، فدعاهم إلى الله ، وعرض عليهم الإسلام ، وتلا عليهم القرآن ، وكان مما صنع الله لهم به في الإسلام أنّ يهود كانوا معهم ببلادهم ، وكانوا أهل كتاب وعلم ، وهم كانوا أهل أوثان وشرك ، وكانوا ـ إذا كان بينهم شيء ـ يقولون : إن نبيّا الآن مبعوثا قد أظلّ زمانه نتبعه ، ونقتلكم معه قتل عاد وإرم ، فلما كلم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أولئك النفر ، ودعاهم إلى الله قال بعضهم لبعض : يا قوم ، تعلمون ـ والله ـ أنه النبي الذي توعّدكم به اليهود ، فلا تسبقنكم إليه ، فأجابوه وصدقوه ، وأسلموا ، وقالوا : إنا قد تركنا قومنا ولا قوم بينهم من العداوة والشر ما بينهم ، وعسى الله أن يجمعهم بك ، وسنقدم عليهم ، وندعوهم إلى أمرك ، فإن يجمعهم الله عليك فلا رجل أعزّ منك ، ثم انصرفوا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم راجعين إلى بلادهم ـ قد آمنوا ـ فلما قدموا «المدينة» ذكروا لهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ودعوهم إلى الإسلام حتى فشا فيهم ، فلم تبق دار من الأنصار إلا وفيها ذكر من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، حتى إذا كان العام المقبل وافى الموسم من الأنصار اثنا عشر رجلا : أسعد بن زرارة ، وعوف ومعاذ ـ ابنا عفراء ، ورافع بن مالك بن العجلاني ، وذكوان بن عبد

__________________

ـ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وذكر قومه أنه مات مسلما ، وقال ابن إسحاق في المغازي حدثني الحصين بن عبد الرحمن بن عمرو بن سعد بن معاذ عن محمود بن لبيد قال : لما قدم أبو الحيس (الحيسر) أنس بن رافع مكة ، ومعه فتية من بني عبد الأشهل فيهم إياس بن معاذ ، يلتمسون الحلف من قريش على قومهم من الخزرج سمع بهم رسول الله صلى الله وآله وسلم ، فأتاهم فجلس إليهم فقال لهم : هل لكم إلى خير مما جئتم له ، قالوا : وما ذاك ، قال : أنا رسول الله ، بعثني إلى العباد أدعوهم إلى أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا ، ثم ذكر لهم الإسلام وتلا عليهم القرآن ، فقال إياس بن معاذ : يا قوم ، هذا والله خير مما جئتم له فأخذ أبو الحيس (الحيسر) حفنة من البطحاء ، فضرب وجهه بها وقال : دعنا منك ، فلعمري لقد جئنا لغير هذا فسكت وقام وانصرفوا ، فكانت وقعة بعاث بين الأوس والخزرج ، ثم لم يلبث إياس بن معاذ أن هلك قال محمود بن لبيد : فأخبرني من حضره من قومه أنهم لم يزالوا يسمعونه يهلل الله ويكبره ويحمده ويسبحه فكانوا لا يشكون أنه مات مسلما رواه جماعة عن ابن إسحاق هكذا ، وهو من صحيح حديثه لكن رواه زياد البكائي عن ابن إسحاق عن محمد بن عبد الرحمن بن عمرو بدل الحصين والأول أرجح أشار إلى ذلك البخاري في تاريخه. ينظر الإصابة ١ / ٩٢ ـ ٩٣.

٤٤٠