اللّباب في علوم الكتاب - ج ٥

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ٥

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 2-7451-2298-3
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٦٣٢

أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ وَإِسْرائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنا وَاجْتَبَيْنا إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا) [مريم : ٥٨].

ولما كانوا يسجدون لله ، فالسجود لا بد له من قبلة ، فلو كانت قبلة شيث وإدريس ونوح موضعا آخر سوى القبلة لبطل قوله : (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ ،) فدلّ ذلك على أن قبلة أولئك الأنبياء هي الكعبة.

القول الثاني : أنّ المراد بالأوليّة : كونه مباركا وهدى ، قالوا : لأنه روي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم سئل عن أول مسجد وضع للنّاس ، فقال : «المسجد الحرام ، ثمّ بيت المقدس ، فقيل : كم بينهما؟ قال : أربعون سنة ، وأينما أدركتك الصلاة فصلّ فهو مسجد».

وعن علي : أن رجلا قال له : هو أول بيت؟ قال : لا ، كان قبله بيوت ، أول بيت وضع للناس ، مباركا ، فيه الهدى والرحمة والبركة ، أول من بناه إبراهيم ، ثم بناه قوم من العرب من جرهم ، ثم هدم ، فبنته العمالقة ، وهم ملوك من أولاد عمليق بن سام بن نوح ، ثم هدم فبناه قريش. ودلالة الآية على الأولية في الشرف أمر لا بد منه ؛ لأن المقصود الأصلي من هذه الأولية ترجيحه على بيت المقدس ، وهذا إنما يتم بالأولية في الفضيلة والشرف ، ولا تأثير للأوليّة في البناء في هذا المقصود ، إلا أن ثبوت الأولية بسبب الفضيلة لا ينافي ثبوت الأولية في البناء.

فصل في بيان فضيلته

اتفقت الأمم على أن باني هذا البيت هو الخليل ـ عليه‌السلام ـ وباني بيت المقدس سليمان ـ عليه‌السلام ـ فمن هذا الوجه ، تكون الكعبة أشرف ، فكان الآمر بالعمارة هو الله ، والمبلغ والمهندس جبريل ، والباني هو الخليل ، والتلميذ المعين هو إسماعيل ؛ فلهذا قيل : ليس في العالم بناء أشرف من الكعبة.

وأيضا مقام إبراهيم ، وهو الحجر الذي وضع إبراهيم قدمه عليه ، فجعل الله ما تحت قدم إبراهيم من ذلك الحجر ـ دون سائر أجزائه ـ كالطين ، حتى غاص فيه قدم إبراهيم من ذلك الحجر ، وهذا مما لا يقدر عليه إلا الله ، ولا يظهره إلا على الأنبياء ، ثم لمّا رفع إبراهيم قدمه عنه ، خلق الله فيه الصلابة الحجريّة مرة أخرى ، ثم إنه أبقى ذلك الحجر على سبيل الاستمرار والدوام ، فهذه أنواع من الآيات العجيبة ، والمعجزات الباهرة.

وأيضا قلّة ما يجتمع من حصى الجمار فيه ، فإنه منذ آلاف السنين ، وقد يبلغ من يرمي في كل سنة خمسمائة ألف إنسان كل واحد منهم سبعين حصاة ، ثم لا يرى هناك إلا ما لو اجتمع في سنة واحدة لكان غير كثير ، وليس الموضع الذي ترمى إليه الجمرات مسيل ماء ، ولا مهبّ رياح شديدة ، وقد جاء في الأثر : أن من قبلت حجّته رفعت جمراته إلى السّماء.

٤٠١

وأيضا فإن الطيور لا تمر فوق الكعبة عند طيرانها في الهواء بل تنحرف عنه إذا وصلت إلى ما فوقه.

وأيضا فالوحوش إذا اجتمعت عنده لا يؤذي بعضهم بعضا ـ كالكلاب والظباء ـ ولا يصطاد فيه الظباء الكلاب والوحوش ، وتلك خاصّيّة عظيمة ، ومن سكن مكة أمن من النهب والغارة ، بدعاء إبراهيم وقوله : (رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً) [إبراهيم : ٣٥] ، وقال : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ) [العنكبوت : ٦٧] ، وقال : (رَبَّ هذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ) [قريش : ٣ ـ ٤].

وأيضا فالأشرم ـ صاحب الفيل ـ لما قاد الجيوش والفيل إلى الكعبة ، وعجز قريش عن مقاومته ، وفارقوا مكة وتركوا له الكعبة ، فأرسل الله ـ تعالى ـ عليهم طيرا أبابيل ، ترميهم بحجارة ، والأبابيل : هم الجماعة من الطير بعد الجماعة ، وكانت صغارا ، تحمل أحجارا ترميهم بها ، فهلك الملك والعسكر بتلك الأحجار ـ مع أنها كانت في غاية الصغر ـ وهذه آية باهرة دالة على شرف الكعبة.

فإن قيل : ما الحكمة في أن الله ـ تعالى ـ وضعها بواد غير ذي زرع؟

فالجواب من وجوه :

أحدها : أنه ـ تعالى ـ قطع بذلك رجاء أهل حرمه وسدنة بيته عمّن سواه ، حتى لا يتكلوا إلا على الله تعالى.

وثانيها : أنه لا يسكنها أحد من الجبابرة والأكاسرة ، فإنهم يحبّون طيبات الدنيا ، فإذا لم يجدوها هناك تركوا ذلك الموضع ، والمقصود تنزيه ذلك الموضع عن لوث وجود أهل الدنيا.

وثالثها : أنه فعل ذلك ؛ لئلا يقصدها أحد للتجارة ، بل يكون ذلك لمحض العبادة والزيارة.

ورابعها : أن الله ـ تعالى ـ أظهر بذلك شرف الفقر ، حيث وضع أشرف البيوت ، في أقل المواضع نصيبا من الدنيا ، فكأنه قال : جعلت أهل الفقر في الدنيا أهل البلد الأمين ، فكذلك أجعلهم في الآخرة أهل المقام الأمين ، لهم في الدنيا بيت الأمن ، وفي الآخرة دار الأمن.

فصل

وللكعبة أسماء كثيرة :

أحدها : الكعبة ، قال تعالى : (جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ) [المائدة: ٩٧] ، وهذا الاسم يدل على الإشراف والارتفاع ، وسمي الكعب كعبا ؛ لإشرافه على الرسغ ، وسميت المرأة الناهدة الثديين كاعبا لارتفاع ثدييها ، فلما كان هذا البيت أشرف

٤٠٢

بيوت الأرض ، وأقدمها زمانا ، سمي بهذا الاسم.

وثانيها : البيت العتيق ، قال تعالى : (ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ) [الحج : ٣٣] وسمي العتيق ؛ لأنه أقدم بيوت الأرض.

وقيل : لأنه خلق قبل الأرض والسماء ؛ وقيل : لأن الله ـ تعالى ـ أعتقه من الغرق.

وقيل : لأن كلّ من قصد تخريبه أهلكه الله ـ مأخوذ من قولهم : عتق الطائر ـ إذا قوي في وكره.

وقيل : لأن كل من زاره أعتقه الله من النار.

وثالثها : المسجد الحرام ، قال تعالى : (سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى) [الإسراء : ١] وسمّي بذلك ؛ لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال في خطبته ـ يوم فتح مكة ـ : «ألا إنّ الله حرّم مكّة يوم خلق السّموات والأرض ، فهي حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة ، لا يعضد شجرها ولا يختلى خلاؤها ، ولا تلتقط لقطتها إلا لمنشدها».

فإن قيل : كيف الجمع بين قوله : (وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ) [الحج : ٢٦] ، وقوله : (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ) [آل عمران : ٩٦] فهناك أضافه إلى نفسه ، وهنا أسنده إلى الناس؟

فالجواب : كأنه قال : البيت لي ، ولكن وضعته ليكون قبلة للناس.

قوله : (مُبارَكاً وَهُدىً) حالان ، إما من الضمير في «وضع» كذا أعربه أبو البقاء وغيره ، وفيه نظر ؛ من حيث إنه يلزم الفصل بين الحال بأجنبيّ ـ وهو خبر «إنّ» ـ وذلك غير جائز ؛ لأن الخبر معمول ل «إنّ» فإن أضمرت عاملا بعد الخبر أمكن أن يعمل في الحال ، وكان تقديره : أول بيت وضع للناس للذي ببكة وضع مباركا ، والذي حمل على ذلك ما يعطيه تفسير أمير المؤمنين من أنه وضع أولا بقيد هذه الحال.

وإما أن يكون العامل في الحال هو العامل في «ببكّة» أي استقر ببكة في حال بركته ، وهو وجه ظاهر الجواز. والظاهر أن قوله : «وهدى» معطوف على «مباركا» والمعطوف على الحال حال.

وجوز بعضهم أن يكون مرفوعا ، على أنه خبر مبتدأ محذوف ـ أي : وهو هدى ـ ولا حاجة إلى تكلف هذا الإضمار.

والبركة : الزيادة ، يقال : بارك الله لك ، أي : زادك خيرا ، وهو متعدّ ، ويدل عليه قوله تعالى : (أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها) [النمل : ٨٠] و «تبارك» لا يتصرف ، ولا يستعمل إلا مسندا لله تعالى ، ومعناه ـ في حقه تعالى ـ : تزايد خيره وإحسانه.

وقيل : البركة ثبوت الخير ، مأخوذ من مبرك البعير.

٤٠٣

وإما من الضمير المستكن في الجار وهو «ببكة» لوقوعه صلة ، والعامل فيها الجار بما تضمنه من الاستقرار أو العامل في الجار ويجوز أن ينصب على إضمار فعل المدح أو على الاختصاص ، ولا يضر كونه نكرة وقد تقدم دلائل ذلك. و «للعالمين» كقوله : «للمتقين» أول البقرة.

فصل

البركة لها معنيان.

أحدهما : النمو والتزايد.

والثاني : البقاء والدوام ، يقال : تبارك الله ؛ لثبوته ولم يزل ولا يزال.

والبركة : شبه الحوض ؛ لثبوت الماء فيها ، وبرك البعير إذا وضع صدره على الأرض وثبت واستقرّ ، فإن فسرنا البركة بالنمو والتزايد ، فهذا البيت مبارك فيه من وجوه :

أحدها : أن الطاعات يزداد ثوابها فيه ؛ لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «فضل المسجد الحرام على مسجدي فضل مسجدي على سائر المساجد» ، ثمّ قال : «صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه» هذا في الصلاة ، وأمّا في الحج فقد قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من حجّ هذا البيت ، ولم يرفث ، ولم يفسق ، خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمّه» ، وفي حديث آخر : «الحجّ المبرور ليس له جزاء إلّا الجنّة» ، ومعلوم أنه لا أكثر بركة مما يجلب المغفرة والرحمة.

ثانيها : قال القفّال : ويجوز أن يكون بركته ، ما ذكر في قوله تعالى : (يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً) [القصص : ٥٧] فيكون كقوله : (إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ) [الإسراء : ١].

وثالثها : أن العاقل يجب أن يستحضر في ذهنه أنّ الكعبة كالنقطة ، وليتصور أن صفوف المتوجهين في الصلوات كالدوائر المحيطة بالمركز ، وليتأمل كم عدد الصفوف المحيطة بهذه الدائرة حال اشتغالهم بالصلاة ، ولا شكّ أنه يحصل فيما بين هؤلاء المصلين أشخاص أرواحهم علويّة ، وقلوبهم قدسية ، وأسرارهم نورانية ، وضمائرهم ربانية ، ثم إن تلك الأرواح الصافية إذا توجهت إلى كعبة المعرفة ، وأجسادهم توجّهت إلى هذه الكعبة الحسية ، فمن كان في الكعبة يتصل أنوار أرواح أولئك المتوجهين بنور روحه ، فتزداد الأنوار الإلهية في قلبه ، ويعظم لمعان الأضواء الروحانية في سرّه ، وهذا بحر عظيم ، ومقام شريف ، وهو ينبهك على معنى كونه مباركا. وإن فسرنا البركة بالدوام فالكعبة لا تنفك من الطائفين والراكعين والساجدين والعاكفين. وأيضا فالأرض كرة ، وإذا كان كذلك فكل زمان يفرض فهو صبح لقوم ، وظهر لآخرين ، وعصر لثالث ، ومغرب لرابع ، وعشاء لخامس ، وإذا كان الأمر كذلك ، لم تنفك الكعبة عن توجّه قوم إليها من

٤٠٤

طرف من أطراف العالم ؛ لأداء فرض الصلاة ، فكان الدوام حاصلا من هذه الجهة ، وأيضا بقاء الكعبة على هذه الحالة ألوفا من السنين دوام ـ أيضا ـ.

وأما كونه هدى للعالمين ، فقيل : لأنه قبلة يهتدون به إلى جهة صلاتهم.

وقيل : هدى ، أي : دلالة على وجود الصانع المختار ، وصدق محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم في النبوة ، بما فيه من الآيات والعجائب التي ذكرناها.

وقيل : هدى للعالمين إلى الجنة ؛ لأن من أقام الصلاة إليه استوجب الجنة.

قوله : (فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ) يجوز أن تكون هذه الجملة في محل نصب على الحال ، إما من ضمير «وضع» وفيه ما تقدم من الإشكال.

وإمّا من الضمير في «ببكّة» وهذا على رأي من يجيز تعدد الحال لذي حال واحد.

وإما من الضمير في «للعالمين» ، وإما من «هدى» ، وجاز ذلك لتخصّصه بالوصف ، ويجوز أن يكون حالا من الضمير في «مباركا».

ويجود أن تكون الجملة في محل نصب ؛ نعتا ل «هدى» بعد نعته بالجار قبله. ويجوز أن تكون هذه الجملة مستأنفة ، لا محل لها من الإعراب ، وإنما جيء بها بيانا وتفسيرا لبركته وهداه ، ويجوز أن يكون الحال أو الوصف على ما مر تفصيله هو الجار والمجرور فقط ، و «آيات» مرفوع بها على سبيل الفاعلية لأن الجار متى اعتمد على أشياء تقدمت أول الكتاب رفع الفاعل ، وهذا أرجح من جعلها جملة من مبتدأ وخبر ؛ لأن الحال والنعت والخبر أصلها : أن تكون مفردة ، فما قرب منها كان أولى ، والجار قريب من المفرد ، ولذلك تقدّم المفرد ، ثم الظرف ، ثم الجملة فيما ذكرنا ، وعلى ذلك جاء قوله تعالى : (وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ) [غافر : ٢٨] ، فقدم الوصف بالمفرد «مؤمن» ، وثنّى بما قرب منه وهو (مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ ،) وثلّث بالجملة وهي (يَكْتُمُ إِيمانَهُ) وقد جاء في الظاهر عكس هذا ، وسيأتي الكلام عليه ـ إن شاء الله ـ عند قوله : (بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ) [المائدة : ٥٤].

قوله : (مَقامُ إِبْراهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً) فيه أوجه :

أحدها : أن «مقام» : بدل من «آيات» وعلى هذا يقال : إن النحويين نصّوا على أنه متى ذكر جمع لا يبدل منه إلا ما يوفّي بالجمع ، فتقول : مررت برجال زيد وعمرو بكر ؛ لأن أقل الجمع ـ على الصحيح ـ ثلاثة ، فإن لم يوفّ ، قالوا : وجب القطع عن البدلية ، إما إلى النصب بإضمار فعل ، وإما إلى الرفع ، على مبتدأ محذوف الخبر ، كما تقول ـ في المثال المتقدم ـ زيدا وعمرا ، أي : أعني زيدا وعمرا ، أو زيد وعمرو ، أي : منهم زيد وعمرو.

ولذلك أعربوا قول النابغة الذبياني : [الطويل]

٤٠٥

١٥٣٩ ـ توهّمت آيات لها فعرفتها

لستّة أعوام وذا العام سابع

رماد ككحل العين لأيا أبينه

ونؤي كجذم الحوض أثلم خاشع (١)

على القطع المتقدم ، أي : فمنها رماد ونؤي ، وكذا قوله تعالى : (هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ) [البروج : ١٧ ـ ١٨] أي : أعني فرعون وثمود ، أو أذمّ فرعون وثمود ، على أنه قد يقال : إن المراد بفرعون وثمود ؛ هما ومن تبعهما من قومهما ، فذكرهما واف بالجمعيّة.

وفي الآية الكريمة ـ هنا ـ لم يذكر بعد الآيات إلا شيئان : المقام ، وأمن داخله ، فكيف يكون بدلا؟

وهذا الإشكال ـ أيضا ـ وارد على قول من جعله خبر مبتدأ محذوف ، أي : هي مقام إبراهيم ، فكيف يخبر عن الجمع باثنين؟

وفيه أجوبة :

أحدها : أن أقلّ الجمع اثنان ـ كما ذهب إليه بعضهم.

قال الزمخشري : ويجوز أن يراد : فيه آيات مقام إبراهيم ، وأمن من دخله ؛ لأن الاثنين نوع من الجمع ، كالثلاثة والأربعة ، وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الاثنان فما فوقهما جماعة».

قال الزجّاج : ولفظ الجمع قد يستعمل في الاثنين ، قال تعالى : (إِنْ تَتُوبا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما) [التحريم : ٤].

وقال بعضهم : تمام الثلاثة قوله : (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ) وتقدير الكلام : مقام إبراهيم ، وأن من دخله كان آمنا ، وأن لله على الناس حجّ البيت ، ثم حذف «أن» اختصارا ، كما في قوله : (قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ) [الأعراف : ٢٩] أي : أمر ربي أن اقسطوا.

الثاني : أن (مَقامُ إِبْراهِيمَ) وإن كان مفردا لفظا إلا أنه يشتمل على آيات كثيرة ، بمعنيين :

أحدهما : أن أثر القدمين في الصخرة الصّمّاء آية ، وغوصهما فيها إلى الكعبين آية أخرى ؛ وبعض الصخرة دون بعض آية ، وإبقاؤه على مر الزمان ، وحفظه من الأعداء الكثيرة آية ، واستمراره دون آيات سائر الأنبياء خلا نبينا صلى الله عليه وعلى سائرهم آية ، قال معناه الزمخشري.

وثانيهما : أن (مَقامُ إِبْراهِيمَ) بمنزلة آيات كثيرة ؛ لأن كل ما كان معجزة لنبي فهو دليل على وجود الصانع وعلمه وقدرته وإرادته وحياته ، وكونه غنيّا منزّها ، مقدّسا عن مشابهة المحدثات ، فمقام إبراهيم وإن كان شيئا واحدا إلا أنه لما حصل فيه هذه الوجوه

__________________

(١) تقدما الأول برقم ٤٢٢ ، والثاني برقم ٤٥٧.

٤٠٦

الكثيرة كان بمنزلة الآيات ، كقوله تعالى : (إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً) [النحل : ١٢٠] ، قاله ابن الخطيب.

الثالث : أن يكون هذا من باب الطّيّ ، وهو أن يذكر جمع ، ثم يؤتى ببعضه ، ويسكت عن ذكر باقيه لغرض للمتكلم ، ويسمّى طيّا.

وأنشد الزمخشري عليه قول جرير : [البسيط]

١٥٤٠ ـ كانت حنيفة أثلاثا فثلثهم

من العبيد ، وثلث من مواليها (١)

وأورد منه قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «حبّب إليّ من دنياكم ثلاث : الطيب والنّساء ، وجعلت قرّة عيني في الصلاة» ذكر اثنين ـ وهما الطيب والنساء ـ وطوى ذكر الثالثة.

لا يقال إن الثالثة قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «جعلت قرّة عيني في الصّلاة» (٢) لأنها ليست من دنياهم ، إنما هي من الأمور الأخروية.

وفائدة الطّيّ ـ عندهم ـ تكثير ذلك الشيء ، كأنه تعالى لما ذكر من جملة الآيات هاتين الآيتين قال : وكثير سواهما.

وقال ابن عطية : «والأرجح ـ عندي ـ أن المقام ، وأمن الداخل ، جعلا مثالا مما في حرم الله ـ تعالى ـ من الآيات ، وخصّا بالذّكر ؛ لعظمهما ، وأنهما تقوم بهما الحجّة على الكفّار ؛ إذ هم مدركون لهاتين الآيتين بحواسّهم».

الوجه الثاني : أن يكون (مَقامُ إِبْراهِيمَ) عطف بيان ، قاله الزمخشري.

وردّ عليه أبو حيان هذا من جهة تخالفهما تعريفا وتنكيرا ، فقال : وقوله مخالف لإجماع البصريين والكوفيين ، فلا يلتفت إليه ، وحكم عطف البيان عند الكوفيين حكم النعت ، فيتبعون النكرة نكرة ، والمعرفة معرفة ، ويتبعهم في ذلك أبو علي الفارسي. وأما البصريون ، فلا يجوز ـ عندهم ـ إلا أن يكونا معرفتين ، ولا يجوز أن يكونا نكرتين ، وكل شيء أورده الكوفيون مما يوهم جواز كونه عطف بيان جعله البصريون بدلا ، ولم يقم دليل للكوفيين ؛ وستأتي هذه المسألة إن شاء الله ـ عند قوله : (مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ) [إبراهيم : ١٦] وقوله : (مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ) [النور : ٣٥] ، ولما أوّل الزمخشريّ مقام إبراهيم وأمن داخله ـ بالتأويل المذكور ـ اعترض على نفسه بما ذكرناه من إبدال غير الجمع من الجمع ـ وأجاب بما تقدم ، واعترض ـ أيضا ـ على نفسه بأنه كيف تكون الجملة عطف بيان

__________________

(١) ينظر البيت في ديوانه ص ٧٠٧ والبحر المحيط ٣ / ١٠ وروح المعاني ٤ / ٦ والكشاف ١ / ٤٤٧ وحاشية الشهاب ٣ / ٤٨ والدر المصون ٢ / ١٧٠.

(٢) أخرجه أحمد (٣ / ١٢٨ ، ٢٨٥) والنسائي (٧ / ٦١) والحاكم (٢ / ١٦٠) وأبو الشيخ في «أخلاق النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم» (٩٨) وابن عدي (٣ / ١١٥١) وذكره الحافظ ابن حجر في «تلخيص الحبير» (٣ / ١١٦) وقال : رواه النسائي وإسناده حسن.

٤٠٧

للأسماء المفردة؟ فقال : «فإن قلت : كيف أجزت أن يكون مقام إبراهيم والأمن عطف بيان للآيات. وقوله : (وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً) جملة مستأنفة ، إما ابتدائية وإما شرطية؟

قلت : أجزت ذلك من حيث المعنى ؛ لأن قوله : (وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً) دل على أمن من دخله ، وكأنه قيل : فيه آيات بيّنات مقام إبراهيم وأمن من دخله ، ألا ترى أنك لو قلت : فيه آية بينة ، من دخله كان آمنا صحّ ؛ لأن المعنى : فيه آية بينة أمن من دخله».

قال أبو حيان : «وليس بواضح ؛ لأن تقديره ـ وأمن الداخل ـ هو مرفوع ، عطفا على «مقام إبراهيم» وفسر بهما الآيات ، والجملة من قوله : (وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً) لا موضع لها من الإعراب ، فتدافعا ، إلا إن اعتقد أن ذلك معطوف على محذوف ، يدل عليه ما بعده ، فيمكن التوجيه ، فلا يجعل قوله : (وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً) في معنى : وأمن داخله ، إلا من حيث تفسير المعنى ، لا تفسير الإعراب».

قال شهاب الدين : «وهي مشاحّة لا طائل تحتها ، ولا تدافع فيما ذكر ؛ لأن الجملة متى كانت في تأويل المفرد صح عطفها عليه».

الوجه الثالث : قال المبرد : «مقام» مصدر ، فلم يجمع ، كما قال : (خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ) [البقرة : ٧] والمراد : مقامات إبراهيم ، وهي ما أقامه إبراهيم من أمور الحج ، وأعمال المناسك ، ولا شك أنها كثيرة ، وعلى هذا ، فالمراد بالآيات : شعائر الحج ، كما قال تعالى : (وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللهِ) [الحج : ٣٢].

الوجه الرابع : أن قوله : (مَقامُ إِبْراهِيمَ) خبر مبتدأ مضمر ، تقديره : أحدها ، أي : أحد تلك الآيات البينات مقام إبراهيم ، أو مبتدأ محذوف الخبر ، تقديره : منها ، أي : من الآيات البيّنات «مقام إبراهيم».

وقال بعضهم : (مَقامُ إِبْراهِيمَ) لا تعلّق له بقوله : (فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ ،) فكأنه ـ تعالى ـ قال : (فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ) ومع ذلك فهو (مَقامُ إِبْراهِيمَ) ومقرّه ، والموضع الذي اختاره ، وعبد الله فيه ؛ لأن كل ذلك من الخلال التي بها تشرّف وتعظّم.

وقرأ أبيّ وعمر وابن عباس ومجاهد وأبو جعفر المديني ـ في رواية قتيبة ـ آية بيّنة ـ بالتوحيد (١) ، وتخريج «مقام» ـ على الأوجه المتقدّمة ـ سهل ، من كونه بدلا ، أو بيانا ـ عند الزمخشري ـ أو خبر مبتدأ محذوف وهذا البدل متفق عليه ؛ لأن البصريين يبدلون من النكرة مطلقا ، والكوفيون لا يبدلون منها إلا بشرط وصفها ، وقد وصفت.

فصل

قال المفسرون : الآيات منها مقام إبراهيم ، وهو الحجر الذي وضعه إبراهيم تحت

__________________

(١) انظر : الكشاف ١ / ٣٨٨ ، والمحرر الوجيز ١ / ٤٧٥ ، والبحر المحيط ٣ / ٩ ، والدر المصون ٢ / ١٧١.

٤٠٨

قدميه ، لمّا ارتفع بنيان الكعبة ، وضعف إبراهيم عن رفع الحجارة ، قام على هذا الحجر ، فغاصت فيه قدماه.

وقيل : إنه جاء زائرا من الشام إلى مكة وكان قد حلف لامرأته أن لا ينزل بمكة حتى يرجع ، فلمّا رجع إلى مكة قالت له أم إسماعيل : انزل حتى تغسل رأسك ، فلم ينزل ، فجاءته بهذا الحجر ، فوضعته على الجانب الأيمن ، فوضع قدمه عليه حتى غسلت أحد جانبي رأسه ، ثم حولته إلى الجانب الأيسر ، حتى غسلت الجانب الآخر ، فبقي أثر قدميه عليه ، فاندرس من كثرة المسح بالأيدي.

وقيل : هو الحجر الذي قام عليه إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ عند الأذان بالحج.

قال القفّال : «ويجوز أن يكون إبراهيم قام على ذلك الحجر في هذه المواضع كلّها».

وقيل : مقام إبراهيم ؛ هو جميع الحرم ، كما تقدم عن المبرد.

ومن الآيات ـ أيضا ـ الحجر الأسود ، وزمزم ، والحطيم ، والمشاعر كلها.

ومن الآيات ما تقدم ذكره من أمر الطير والصيد ، وأنه بلد صدر إليها الأنبياء والمرسلون ، والأولياء والأبرار ، وأن الطاعة والصدقة فيه ، يضاعف ثوابها بمائة ألف.

والمقام هو في المسجد الحرام ، قبالة باب البيت.

وروي عن ابن عباس وعبد الله بن عمرو بن العاص أنهما قالا : الحجر الأسود ، والمقام من الجنة.

قال الأزرقي : ذرع المقام ذراع ، وسعة أعلاه أربعة عشر إصبعا في أربعة عشر إصبعا ، ومن أسفله مثل ذلك ، وفي طرفيه ـ من أعلاه وأسفله ـ طوقان من ذهب ، وما بين الطوقين من الحجر من المقام بارز ، لا ذهب عليه ، طوله من نواحيه كلها تسعة أصابع ، وعرضه عشر أصابع في عشر أصابع طولا ، وعرض حجر المقام من نواحيه ، إحدى وعشرون إصبعا ، ووسطه مربع ، والقدمان داخلتان في الحجر سبع أصابع ، ودخولهما منحرفتان ، وبين القدمين من الحجر أصبعان ، ووسطه قد استدق من التمسّح به ، والمقام في حوض من ساج مربع ، حوله رصاص ، وعلى الحوض صفائح رصاص ليس بها ، وعلى المقام صندوق ساج مسقف ، ومن وراء المقام ملبن ساج في الأرض ، في ظهره سلسلتان يدخلان في أسفل الصندوق ، فيقفل عليهما قفلان ، وهذا الموضع فيه المقام اليوم ، وهو الموضع الذي كان فيه في زمن الجاهلية ، ثم في زمن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبعده ، ولم يغيّر موضعه ، إلا أنه جاء سيل في زمن عمر بن الخطاب ـ يقال له : سيل أم نهشل ؛ لأنه ذهب بأمّ نهشل بنت عبيدة بن أبي رجيحة ، فماتت ، فاحتمل ذلك السيل المقام من موضعه هذا ، فذهب به إلى أسفل مكة فأتي به ، فربطوه في أستار الكعبة ـ في

٤٠٩

وجهها ـ وكتبوا بذلك إلى عمر ، فأقبل عمر من المدينة فزعا ، فدخل بعمرة في شهر رمضان ، وقد غبّي موضعه ، وعفاه السيل ، فجمع عمر الناس ، وسألهم عن موضعه ، وتشاوروا عليه حتى اتفقوا على موضعه الذي كان فيه ، فجعله فيه ، وعمل عمر الردم ، لمنع السيل ، فلم يعله سيل بعد ذلك إلى الآن.

ثم بعث أمير المؤمنين المهدي ألف دينار ليضبّبوا بها المقام ـ وكان قد انثلم ـ ثم أمر المتوكل أن يجعل عليه ذهب فوق ذلك الذهب ـ أحسن بذلك العمل ـ فعمل في مصدر الحاج سنة ست وثلاثين ومائتين ، فهو الذهب الذي عليه اليوم ، وهو فوق الذي عمله المهدي.

فصل

قوله : (وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً).

قال الحسن وقتادة : كانت العرب ـ في الجاهلية ـ يقتل بعضهم بعضا ، ويغير بعضهم على بعض ، ومن دخل الحرم أمن من القتل والغارة (١) ، وهذا قول أكثر المفسرين ، لقوله تعالى : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ) [العنكبوت : ٦٧].

وقيل : أراد به أن من دخله عام عمرة القضاء مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان آمنا ، كما قال تعالى : (لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ) [الفتح : ٢٧].

وقال الضّحّاك : من حجّه كان آمنا من الذنوب التي اكتسبها قبل ذلك.

وقيل : معناه : من دخله معظّما له ، متقرّبا إلى الله ـ عزوجل ـ كان آمنا يوم القيامة من العذاب.

وقيل : هو خبر بمعنى الأمر ، تقديره : ومن دخله فأمّنوه ، كقوله تعالى : (فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ) [البقرة : ١٩٧] ، أي : لا ترفثوا ، ولا تفسقوا ، ولا تجادلوا.

فصل

قال أبو بكر الرازي : لما كانت الآيات المذكورة عقيب قوله : (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ) موجودة في جميع الحرم ، ثم قال : (وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً ،) وجب أن يكون مراده جميع الحرم ، وأجمعوا على أنه لو قتل في الحرم ، فإنه يستوفى القصاص منه في الحرم ، وأجمعوا على أن الحرم لا يفيد الأمان فيما سوى النفس ، إنما الخلاف فيما إذا وجب القصاص عليه خارج الحرم ، فالتجأ إلى الحرم ، فهل يستوفى منه القصاص في الحرم؟

فقال الشافعي : يستوفى.

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ٢٩) عن قتادة والحسن وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٩٧) عن قتادة وزاد نسبته لعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.

٤١٠

وقال أبو حنيفة : لا يستوفى ، بل يمنع منه الطعام ، والشراب ، والبيع والشراء ، والكلام حتى يخرج ، ثم يستوفى منه القصاص ، واحتج بهذه الآية فقال : ظاهر الآية الإخبار عن كونه آمنا ، ولا يمكن حمله على الخبر ؛ إذ قد لا يصير آمنا في حق من أتى بالجناية في الحرم ، وفي القصاص فيما دون النفس ، فوجب حمله على الأمر ، وتركنا العمل به في الجناية التي دون النفس ؛ لأن الضرر فيها أخف من ضرر القتل ، وفي القصاص بالجناية في الحرم ؛ لأنه هو الذي هتك حرمة الحرم ، فيبقى في محل الخلاف على مقتضى ظاهر الآية.

وأجيب بأنّ قوله : (كانَ آمِناً) إثبات لمسمّى الآية ، ويكفي في العمل به ، في إثبات الأمن من بعض الوجوه ، ونحن نقول به ، وبيانه من وجوه :

الأول : أن من دخله للنّسك ، تقرّبا إلى الله تعالى ، كان آمنا من النار يوم القيامة ، قالصلى‌الله‌عليه‌وسلم «من صبر على حرّ مكة ساعة من نهار تباعدت عنه النّار مسيرة مائتي عام» (١) ، وقالصلى‌الله‌عليه‌وسلم «من حجّ فلم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمّه» (٢).

الثاني : يحتمل أن يكون المراد : ما أودعه الله في قلوب الخلق من الشفقة على كل من التجأ إليه ، ودفع المكروه عنه ، ولما كان الأمر واقعا على هذا الوجه ـ في الأكثر ـ أخبر بوقوعه على هذا الوجه مطلقا ، وهذا أولى مما قالوه ، لوجهين :

الأول : أنا ـ على هذا التقدير ـ لا نجعل الخبر قائما مقام الأمر ، وهم جعلوه قائما مقام الأمر.

الثاني : أنه ـ تعالى ـ إنما ذكر هذا ، لبيان فضيلة البيت ، وذلك إنما يحصل بشيء كان معلوما للقوم حتى يصير ذلك حجة على فضيلة البيت ، فأما الحكم الذي بينه الله في شرع محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإنه لا يصير ذلك حجة على اليهود والنصارى في إثبات فضيلة الكعبة.

الوجه الثالث : قد تقدم أن هذا إنما ورد في عمرة القضاء.

الرابع : ما تقدم ـ أيضا ـ عن الضّحّاك أنه يكون آمنا من الذنوب التي اكتسبها.

وملخّص الجواب : أنه حكم بثبوت الأمن ، ويكفي في العمل به إثبات الأمن من وجه واحد ، وفي صورة واحدة ، فإذا حملناه على بعض هذه الوجوه فقد عملنا بمقتضى

__________________

(١) ذكره المتقي الهندي في «كنز العمال» (١٢ / ٢١٠) رقم (٣٤٧٠٤) وعزاه لأبي الشيخ عن أبي هريرة وفيه عبد الرحيم بن زيد العمي متروك عن أبيه وليس بالقوي.

وأخرجه العقيلي في «الضعفاء» (١ / ٢٢٦) عن ابن عباس بلفظ : باعد الله جهنم منه سبعين خريفا.

وقال : هذا حديث باطل لا أصل له.

وذكره ملا علي القاري في «الأسرار المرفوعة» (٩٢٣) وقال : قد ذكره الإمام النسفي في «تفسير المدارك» وهو إمام جليل فلا بد أن يكون للحديث أصل غايته أن يكون ضعيفا.

(٢) تقدم.

٤١١

هذا النّصّ ، فلا يبقى في النص دلالة على قولهم ، ويتأكد هذا بأن حمل النّصّ على هذا الوجه ، لا يفضي إلى تخصيص النصوص الدالة على وجوب القصاص ، وحمله على ما قالوه يفضي إلى ذلك ، فكان قولنا أولى.

قوله : «ولله على الناس حج البيت» لمّا ذكر فضائل البيت ومناقبه ، أردفه بذكر إيجاب الحج إليه.

وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم : (حِجُّ الْبَيْتِ)(١) ـ بكسر الحاء في هذا الحرف خاصة ، وتقدم في البقرة في الشاذ بكسر الحاء ـ وتقدم هناك اشتقاق المادة ـ والباقون بفتحها ـ وهي لغة أهل الحجاز والعالية والكسر لغة نجد ؛ وهما جائزان مطلقا في اللغة مثل رطل ورطل ، وبذر وبذر ، وهما لغتان فصيحتان بمعنى واحد.

وقيل : المكسور اسم للعمل ، والمفتوح المصدر.

وقال سيبويه : يجوز أن تكون المكسورة ـ أيضا ـ مصدرا كالذّكر والعلم.

فصل

الحج أحد أركان الإسلام ؛ قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «بني الإسلام على خمس : شهادة أن لا إله إلّا الله ، وأنّ محمّدا رسول الله ، وإقام الصّلاة ، وإيتاء الزّكاة ، وصوم رمضان ، وحجّ البيت لمن استطاع إليه سبيلا» (٢).

ويشترط لوجوبه خمسة شروط : الإسلام ، والبلوغ ، والعقل ، والحرّيّة ، والاستطاعة.

فصل

احتجوا بهذه الآية على أن الكفّار مخاطبون بفروع الإسلام ؛ لأن ظاهر قوله تعالى : (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ) يعم المؤمن والكافر ، وعدم الإيمان لا يصلح معارضا ، ومخصّصا ، لهذا العموم ؛ لأن الدهريّ مكلّف بالإيمان بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع أن الإيمان بالله الذي هو شرط لصحة الإيمان بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، غير حاصل ، والمحدث مكلّف بالصلاة ، مع أن الوضوء الذي هو شرط لصحة الصلاة ، غير حصل ، فلم يكن عدم الشرط مانعا من كونه مكلّفا بالمشروط. فكذا هاهنا.

فصل

قال القرطبي : دلّ الكتاب والسنة على أن الحجّ على التراخي ، وهو أحد قولي مالك ، والشافعي ، ومحمد بن الحسن ، وأبي يوسف في رواية عنه ، وذهب بعض

__________________

(١) انظر : السبعة ٢١٤ ، والكشف ١ / ٢٥٣ ، والحجة ٣ / ٧١ ، والعنوان ٨٠ وحجة القراءات ١٧٠ ، وإعراب القراءات ١ / ١١٧ ، وشرح شعلة ٣٢٠ ، وشرح الطيبة ٤ / ١٦٢ ، وإتحاف ١ / ٤٨٥.

(٢) تقدم.

٤١٢

المتأخرين من المالكية إلى أنه على الفور ، وهو قول داود ، والصحيح الأول ؛ لأنّ الله تعالى قال في سورة الحج ـ : (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالاً) [الحج : ٢٧] ، وسورة الحج مكيّة ، وقال هاهنا : (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ) وهذه السورة نزلت عام أحد بالمدينة ، سنة ثلاث من الهجرة ، ولم يحجّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى سنة عشر ، وأجمع العلماء على ترك تفسيق القادر على الحج ، إذا أخّره عامدا.

فصل

روي أنه لما نزلت هذه الآية قيل : يا رسول الله ، أكتب علينا الحجّ في كل عام؟ ذكروا ذلك ثلاثا ، فسكت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم قال في الرابعة : «لو قلت : نعم لوجبت ، ولو وجبت ما قمتم بها ، ولو لم تقوموا بها لكفرتم ، ألا فوادعوني ما وادعتكم وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ، وإذا نهيتكم عن أمر فانتهوا عنه ، فإنّما هلك من كان قبلكم بكثرة مسائلهم ، واختلافهم على أنبيائهم».

فصل

احتج العلماء بهذا الخبر ، على أن الأمر لا يفيد التكرار من وجهين :

الأول : أن الأمر ورد بالحج ، ولم يفد التكرار.

والثاني : أن الصحابة استفهموا ، هل يوجب التكرار أم لا؟ ولو كانت هذه الصيغة تفيد التكرار لما استفهموا مع علمهم باللغة.

قوله : (مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) فيه ستة أوجه :

أحدها : أن «من» بدل من : «النّاس» بدل بعض من كل ، وبدل البعض وبدل الاشتمال لا بد في كل منهما من ضمير يعود على المبدل منه ، نحو : أكلت الرّغيف ثلثه ، وسلب زيد ثوبه ، وهنا ليس من ضمير. فقيل : هو محذوف تقديره من استطاع منهم.

الثاني : أنه بدل كلّ من كلّ ، إذ المراد بالناس المذكورين : خاصّ ، والفرق بين هذا الوجه ، والذي قبله ، أن الذي قبله يقال فيه : عام مخصوص ، وهذا يقال فيه : عامّ أريد به الخاص ، وهو فرق واضح وهاتان العبارتان للشافعي.

الثالث : أنها خبر مبتدأ مضمر ، تقديره : هم من استطاع.

الرابع : أنها منصوبة بإضمار فعل ، أي : أعني من استطاع.

وهذان الوجهان ـ في الحقيقة ـ مأخوذان من وجه البدل ؛ فإنّ كل ما جاز إبداله مما قبله ، جاز قطعه إلى الرفع ، أو إلى النصب المذكورين آنفا.

الخامس : أن «من» فاعل بالمصدر وهو «حجّ» ، والمصدر مضاف لمفعوله ، والتقدير : ولله على الناس أن يحج من استطاع منهم سبيلا البيت.

٤١٣

وهذا الوجه قد ردّه جماعة من حيث الصناعة ، ومن حيث المعنى ؛ أما من حيث الصناعة ؛ فلأنه إذا اجتمع فاعل ومفعول مع المصدر العامل فيهما ، فإنما يضاف المصدر لمرفوعه ـ دون منصوبه ـ فيقال : يعجبني ضرب زيد عمرا ، ولو قلت : ضرب عمرو زيد ، لم يجز إلا في ضرورة ، كقوله : [البسيط]

١٥٤١ ـ أفنى تلادي وما جمّعت من نشب

قرع القواقيز أفواه الأباريق (١)

يروى بنصب «أفواه» على إضافة المصدر ـ وهو «قرع» ـ إلى فاعله ، وبالرفع على إضافته إلى مفعوله. وقد جوّزه بعضهم في الكلام على ضعف ، والقرآن لا يحمل على ما في الضرورة ، ولا على ما فيه ضعف ، أمّا من حيث المعنى ؛ فلأنه يؤدي إلى تكليف الناس جميعهم ـ مستطيعهم وغير مستطيعهم ـ بأن يحج مستطيعهم ، فيلزم من ذلك تكليف غير المستطيع بأن يحجّ ، وهو غير جائز ـ وقد التزم بعضهم هذا ، وقال : نعم ، نقول بموجبه ، وأن الله ـ تعالى ـ كلّف الناس ذلك ، حتى لو لم يحج المستطيعون لزم غير المستطيعين أن يأمروهم بالحج حسب الإمكان ؛ لأن إحجاج الناس إلى الكعبة وعرفة فرض واجب. و «من» ـ على هذه الأوجه الخمسة ـ موصولة بمعنى : الذي.

السادس : أنها شرطية ، والجزاء محذوف ، يدل عليه ما تقدم ، أو هو نفس المتقدم ـ على رأي ـ ولا بد من ضمير يعود من جملة الشرط على «النّاس» ، تقديره : من استطاع منهم إليه سبيلا فلله عليه.

ويترجح هذا بمقابلته بالشرط بعده ، وهو قوله : (وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ).

وقوله : (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ) جملة من مبتدأ ـ وهو (حِجُّ الْبَيْتِ) ـ وخبر ـ وهو قوله : «لله» ـ و «على النّاس» متعلق بما تعلق به الخبر ، أو متعلق بمحذوف ؛ على أنه حال من الضمير المستكن في الجار ، والعامل فيه ـ أيضا ـ ذلك الاستقرار المحذوف ، ويجوز أن يكون على الناس هو الخبر ، و «لله» متعلق بما تعلق به الخبر ، ويمتنع فيه أن يكون حالا من الضمير في «على النّاس» وإن كان العكس جائزا ـ كما تقدم ـ.

والفرق أنه يلزم هنا تقديم الحال على العامل المعنوي ، والحال لا يتقدم على العامل المعنوي ـ بخلاف الظرف وحرف الجر ، فإنهما يتقدمان على عاملهما المعنوي ؛ للاتساع فيهما ، وقد تقدم أن الشيخ جمال الدين بن مالك ، يجوز تقديمها على العامل

__________________

(١) البيت للأقيشر الأسدي ينظر ديوانه ص ٦٠ ، وخزانة الأدب ٤ / ٤٩١ ، والدرر ٥ / ٢٥٦ ، وشرح التصريح ٢ / ٦٤ ، ولسان العرب (قفز) وشرح شواهد المغني ٢ / ٨٩١ ، والشعر والشعراء ص ٥٦٥ ، والأغاني ١١ / ٣٥٩ ، والمؤتلف والمختلف ص ٥٦ ، والمقاصد النحوية ٣ / ٥٠٨ ، وإصلاح المنطق ص ٣٣٨ ، والإنصاف ١ / ٢٣٣ ، وأوضح المسالك ٣ / ٢١٢ ، وشرح الأشموني ٢ / ٣٣٧ ، وشرح شذور الذهب ص ٤٩٣ ، واللمع ص ٢٧١ ، ومغني اللبيب ٢ / ٥٣٦ ، والمقتضب ١ / ٢١ ، والمقرب ١ / ١٣٠ ، وهمع الهوامع ٢ / ٩٤. والدر المصون ٢ / ١٧٢.

٤١٤

المعنوي ـ إذا كانت هي ظرفا ، أو حرف جر ، والعامل كذلك ، ومسألتنا في الآية الكريمة من هذا القبيل. وقد جيء في هذه الآيات بمبالغات كثيرة.

منها قوله : (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ) يعني : أنه حق واجب عليهم لله في رقابهم ، لا ينفكون عن أدائه والخروج عن عهدته.

ومنها : أنه ذكر «النّاس» ، ثم أبدل منهم (مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً ،) وفيه ضربان من التأكيد.

أحدهما : أن الإبدال تثنية المراد وتكرير له.

والثاني : أن التفصيل بعد الإجمال ، والإيضاح بعد الإبهام ، إيراد له في صورتين مختلفتين ، قاله الزمخشري ، على عادة فصاحته ، وتلخيصه المعنى بأقرب لفظ ، والألف واللام في «البيت» للعهد ؛ لتقدم ذكره ، وهو أعلم بالغلبة كالثريا والصعيد. فإذا قيل : زار البيت ، لم يتبادر الذهن إلا إلى الكعبة شرفها الله.

وقال الشاعر : [الطويل]

١٥٤٢ ـ لعمري لأنت البيت أكرم أهله

وأقعد في أفيائه بالأصائل (١)

أنشد هذا البيت أبو حيان في هذا المعرض.

قال شهاب الدين (٢) : «وفيه نظر ، إذ ليس في الظاهر الكعبة».

الضمير في : «إليه» الظاهر عوده على الحجّ ؛ لأنه محدّث عنه.

قال الفراء : إن نويت الاستئناف ب «من» كانت شرطا ، وأسقط الجزاء لدلالة ما قبله عليه ، والتقدير : من استطاع إلى الحج سبيلا ، فلله عليه حجّ البيت.

وقيل : يعود على «البيت» ، و «إليه» متعلق ب «استطاع» ، و «سبيلا» مفعول به ؛ لأن استطاع متعدّ ، ومنه قوله تعالى : (لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ) [الأعراف : ١٩٧] ، إلى غير ذلك من الآيات.

فصل

قال أبو العباس المقرىء : ورد لفظ الاستطاعة بإزاء معنيين في القرآن :

الأول : سعة المال ، قال تعالى : (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) [آل عمران : ٩٧] أي : سعة في المال ومنه قوله تعالى : (لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ) [التوبة : ٤٢] أي : لو وجدنا سعة في المال.

الثاني : بمعنى الإطاقة ، قال تعالى : (وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ) [النساء: ١٢٩] ، وقال : (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) [التغابن : ١٦].

__________________

(١) تقدم.

(٢) ينظر : الدر المصون ٢ / ١٧٣.

٤١٥

فصل

استطاعة السبيل إلى الشيء : عبارة عن إمكان الوصول إليه ، قال تعالى : (فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ) [غافر : ١] ، وقال : (هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ) [الشورى : ٤٤].

قال عبد الله بن عمر : سأل رجل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا رسول الله ، ما يوجب الحجّ؟ فقال : الزاد والراحلة ، قال : يا رسول الله ، فما الحاجّ؟ قال : الشعث ، التّفل. فقام آخر فقال : يا رسول الله ، أيّ الحج أفضل؟ فقال : الحج والثج ، فقام آخر فقال : يا رسول ما السبيل؟ فقال : «زاد وراحلة» (١).

ويعتبر في حصول هذا الإمكان صحة البدن ، وزوال خوف التلف من سبع ، أو عدو ، أو فقدان الطعام والشراب ، والقدرة على المال الذي يشتري به الزاد ، والراحلة ، ويقضي جميع الديون التي عليه ، ويردّ ما عنده من الودائع ، ويضع عند من تجب عليه نفقته من المال ، ما يكفيه لذهابه ومجيئه ، هذا قول الأكثرين.

وروى القفال : عن جويبر عن الضحاك أنه قال : إذا كان شابا صحيحا ليس له مال ، فعليه أن يؤاجر نفسه حتى يقضي حجه ، فقال له قائل : أكلّف الله الناس أن يمشوا إلى البيت؟ فقال : لو كان لبعضهم ميراث بمكة أكان يتركه؟ قال : لا ، بل ينطلق إليه ولو حبوا ، قال : فكذلك يجب عليه حجّ البيت.

وعن عكرمة ـ أيضا ـ أنه قال : الاستطاعة هي : صحة البدن ، وإمكان المشي إذا لم يجد ما يركبه ؛ لأن الصحيح البدن ، القادر على المشي إذا لم يجد ما يركبه يصدق عليه أنه مستطيع لذلك الفعل ، فتخصيص الاستطاعة بالزاد والراحلة ترك لظاهر الآية ، فلا بد من دليل منفصل ، والأخبار المروية أخبار آحاد ، فلا يترك لها ظاهر الكتاب ، ولا سيما وقد طعن فيها من وجوه :

__________________

(١) أخرجه الترمذي (١ / ١٥٥ ـ ٢ / ١٦٦) رقم (٨١٣ ، ٢٩٩٨) وابن ماجه (٢٨٩٦ ، ٢٨٩٧) والطبري في «تفسيره» (٧ / ٤٠) والشافعي (١ / ٢٨٣) والدار قطني (٢ / ٢١٥) والبيهقي (٤ / ٣٣٠) عن ابن عمر.

وقال الترمذي : حديث حسن غريب وإبراهيم بن يزيد هو الخوزي قد تكلم فيه بعض أهل العلم من قبل حفظه.

وقال البيهقي ضعفه أهل العلم بالحديث.

وللحديث شاهد عن أنس :

أخرجه الدار قطني (٢ / ٢١٥) والحاكم (١ / ٤٤٢) من طريق سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن أنس مرفوعا.

وقال الحاكم : صحيح على شرط الشيخين وقد تابع حماد بن سلمة سعيدا على روايته عن قتادة.

ثم ساقه من طريق حماد بن سلمة عن قتادة عن أنس.

وقال هذا صحيح على شرط مسلم ووافقه الذهبي.

وحديث ابن عمر ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٩٩) وزاد نسبته لابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن عدي وابن مردويه.

٤١٦

الأول : من جهة السند.

الثاني : أن حصول الزاد والراحلة قد لا يكفي ، فلا بد من اعتبار صحة البدن ، وعدم الخوف ، وهذا ليس في الأخبار ، فظاهرها يقتضي أن لا يكون شيء من ذلك معتبرا.

الوجه الثالث : اعتبار وفاء الدين ، ونفقة عياله ، ورد الودائع.

وأجيبوا بأنه يفضي إلى معارضة قوله تعالى : (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) [الحج : ٧٨] وقوله : (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) [البقرة : ١٨٥].

فصل

احتج جمهور المعتزلة بهذه الآية على أن الاستطاعة قبل الفعل ، فقالوا : لأنه لو كانت الاستطاعة مع الفعل لكان من لم يحج لم يكن مستطيعا للحج ومن لم يكن مستطيعا لا يتناوله التكليف المذكور في هذه الآية ، فيلزم منه أن كل من لم يحج لا يصير مأمورا بالحجّ بهذه الآية ، وذلك باطل.

وأجيبوا بأن هذا ـ أيضا ـ يلزمهم ؛ لأن القادر إما أن يصير مأمورا بالفعل قبل حصول الداعي إلى الفعل ، أو بعد حصوله ، أما قبل حصول الداعي ، فمحال ؛ لأن قبل حصول الداعي يمتنع حصول الفعل ، فيكون التكليف به تكليفا بما لا يطاق ، وأما بعد حصول الداعي ، فالفعل يصير واجب الحصول ، فلا يكون في التكليف به فائدة ، وإذا كانت الاستطاعة منفية في الحالتين ، وجب ألا يتوجه التكليف المذكور في هذه الآية على أحد.

فصل

إذا كان عاجزا بنفسه ؛ لكونه زمنا ، أو مريضا مرضا لا يرجى برؤه ـ وله مال يمكن أن يستأجر من يحجّ عنه ـ وجب عليه أن يستأجر ، لما روى عبد الله بن عباس ، قال : كان الفضل بن عباس ردف النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فجاءته امرأة من خثعم ، تستفتيه ، فجعل الفضل ينظر إليها ، وتنظر إليه ، فجعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يصرف وجه الفضل إلى الشق الآخر ، فقالت : يا رسول الله ، إن فريضة الله على عباده في الحجّ أدركت أبي شيخا كبيرا ، لا يستطيع أن يثبت على الراحلة ، أفأحجّ عنه؟ قال : نعم.

وقال مالك : لا يجب عليه ، وهذا هو المعضوب ، والعضب : القطع ، وبه سمّي السيف عضبا ، فكأن من انتهى إلى ألا يقدر أن يستمسك على الراحلة ، ولا يثبت عليها بمنزلة من قطعت أعضاؤه ، أو لا يقدر على شيء.

وإن لم يكن له مال لكن بذل له ولده ، أو أجنبي ، الطاعة في أن يحج عنه ، فهل يلزمه [أن يأمره] إذا كان يعتمد صدقه؟

وفي المسألة خلاف ، فالقائل بالوجوب قال : لأن وجوب الحج معلق بالاستطاعة ،

٤١٧

وهذا مستطيع ؛ لأنه يقال ـ في العرف ـ : فلان مستطيع لبناء دار ، وإن كان لا يفعله بنفسه ، وإنما يفعله بماله ، وبأعوانه ـ.

وقال أبو حنيفة : لا يجب ببذل الطاعة ، قال : وحديث الخثعميّة يدل على أنه من باب التطوّعات ؛ وإيصال البر للأموات ، ألا ترى أنه شبّه فعل الحج بالدّين؟ وبالإجماع لو مات ميّت وعليه دين لم يجب على وليّه قضاؤه من ماله ، فإن تطوع بذلك تأدّى عنه الدين ، ويدل على أن الحج في حديث الخثعمية ما كان واجبا قولها : إن أبي لا يستطيع ـ ومن لا يستطيع لا يجب عليه ، وهذا تصريح بنفي الوجوب.

وقوله : (وَمَنْ كَفَرَ) يجوز أن تكون الشرطية ـ وهو الظاهر ـ ويجوز أن تكون الموصولة ، ودخلت الفاء ؛ شبها للموصول باسم الشرط كما تقدم ، ولا يخفى حال الجملتين بعدها بالاعتبارين المذكورين ، ولا بد من رابط بين الشرط وجزائه ، أو المبتدأ وخبره ، ومن جوّز إقامة الظاهر مقام المضمر اكتفى بذلك في قوله : (غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ) كأنه قال : غني عنهم.

فصل

في هذا الوعيد قولان :

الأول : قال مجاهد : هذا كلام مستقلّ بنفسه ، ووعيد عام في حقّ من كفر بالله (١) ، ولا تعلّق له بما قبله.

الثاني : قال ابن عباس والحسن وعطاء : من جحد فرض الحج (٢).

وقال آخرون : من ترك الحج ، لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من مات ولم يحجّ حجّة الإسلام فليمت إن شاء يهوديّا وإن شاء نصرانيّا» (٣) وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من مات ولم يحجّ حجّة الإسلام ـ ولم تمنعه حاجة ظاهرة أو مرض حابس ، أو سلطان جائر ـ فليمت على أي حالة شاء ـ يهوديّا أو نصرانيّا» (٤).

وقال سعيد بن جبير : إن مات جار لي لم يحج ـ وله ميسرة ـ لم أصلّ عليه (٥).

فإن قيل : كيف يجوز الحكم عليه بالكفر بسبب ترك الحج؟

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ٤٨) عن مجاهد.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ٤٧ ـ ٤٨ ـ ٤٩) عن ابن عباس والحسن وعطاء.

(٣) أخرجه الترمذي (٢ / ٧٨) رقم (٨١٢) والطبري في «تفسيره» (٧ / ٤١) والسهمي في «تاريخ جرجان» (٤٣٤) عن علي بن أبي طالب.

وقال الترمذي : هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه وفي إسناده مقال وهلال بن عبد الله مجهول والحارث يضعف في الحديث.

(٤) أخرجه ابن عدي (٤ / ١٦٢٠) وابن الجوزي في «الموضوعات» (٢ / ٢٠٩) والبيهقي وسعيد بن منصور وأبو يعلى كما في «الدر المنثور» (٢ / ١٠٠) عن أبي أمامة.

(٥) ذكره الفخر الرازي في «التفسير الكبير» (٨ / ١٣٥).

٤١٨

فالجواب قال القفال المراد منه التغليظ ، أي : قد قارب الكفر ، وعمل ما يعمله من كفر بالحج كقوله : (وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ) [الأحزاب : ١٠] أي : كادت تبلغ.

وكقوله عليه‌السلام ـ : «من ترك الصلاة متعمّدا فقد كفر» (١) وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من أتى حائضا أو امرأة في دبرها فقد كفر» (٢).

وأما الأكثرون فهم الذين حملوا هذا الوعيد على تارك اعتقاد وجوب الحج.

قال الضحاك : لما نزلت آية «الحج» ، جمع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أهل الأديان الستة : المسلمين ، والنصارى ، واليهود ، والصابئين ، والمجوس ، والمشركين ، فخاطبهم ، وقال : «إن الله كتب عليكم الحج فحجوا» فآمن به المسلمون ، وكفرت به الملل الخمس ، وقالوا : لا نؤمن به ، ولا نصلي إليه ، ولا نحجه ، فأنزل الله تعالى : (وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ).

قوله تعالى : (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَاللهُ شَهِيدٌ عَلى ما تَعْمَلُونَ (٩٨) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَها عِوَجاً وَأَنْتُمْ شُهَداءُ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ)(٩٩)

في كيفية النظم وجهان :

__________________

(١) ذكره الحافظ في التلخيص ٢ / ١٤٨ وقال : رواه البزار من حديث أبي الدرداء ... وفي إسناده ضعف. وله شاهد من حديث الربيع بن أنس ، عن أنس ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من ترك الصلاة متعمدا ، فقد كفر جهارا» سئل الدارقطني في العلل عنه ، فقال : رواه أبو النضر عن أبي جعفر عن الربيع موصولا ، وخالفه علي بن الجعد فرواه عن أبي جعفر عن الربيع مرسلا وهو أشبه بالصواب ، وفي الباب عن أبي هريرة رواه ابن حبان في الضعفاء في ترجمة أحمد بن موسى عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عنه رفعه : «تارك الصلاة كافر» واستنكره ، ورواه أبو نعيم من طريق إسماعيل بن يحيى عن مسعر عن عطية عن أبي سعيد مثل حديث أنس ، وعطية ضعيف ، وإسماعيل أضعف منه ، وأصح ما فيه حديث جابر ، بلفظ : «بين العبد وبين الكفر ترك الصلاة» رواه مسلم ، والترمذي ، والنسائي ، وابن حبان ، ورواه ابن حبان والحاكم من حديث بريدة بن الحصيب نحوه ، وروى الترمذي من طريق عبد الله بن شقيق العقيلي قال : كان أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يرون من الأعمال شيئا تركه كفر إلا الصلاة ، ورواه الحاكم من هذا الوجه ، فقال عن عبد الله بن شقيق عن أبي هريرة ، وصححه على شرطهما (فائدة) أول ابن حبان الأحاديث المذكورة فقال : إذا اعتاد المرء ترك الصلاة ارتقى إلى ترك غيرها من الفرائض ، وإذا اعتاد ترك الفرائض أداه ذلك إلى الجحد ، قال : فأطلق اسم النهاية التي هي آخر شعب الكفر على البداية التي هي أولها.

(٢) أخرجه أبو داود (٣٩٠٤) والترمذي (١ / ٢٩) وابن ماجه (٦٣٩) والدارمي (١ / ٢٥٩) والطحاوي في «شرح معاني الآثار» (٢ / ٢٦) وابن الجارود في «المنتقى» (١٠٧) والبيهقي (٧ / ١٩٨) وأحمد (٢ / ٤٠٨ ، ٤٧٦) من طرق عن حماد بن سلمة عن حكيم الأثرم عن أبي تميمة الهجيمي عن أبي هريرة مرفوعا.

وقال الترمذي : لا نعرفه إلا من حديث حكيم الأثرم عن أبي تميمة وللحديث طريق آخر :

أخرجه أحمد (٢ / ٤٢٩) والحاكم (١ / ٨) من طريق خلاس عن أبي هريرة مرفوعا.

وقال الحاكم : صحيح على شرط الشيخين ووافقه الذهبي.

٤١٩

الأول : أنه ـ تعالى ـ لما أورد الدلائل على نبوّة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، مما ورد في التوراة ، والإنجيل ، عقّب ذلك بشبهات القوم من إنكار النّسخ ، واستقبال الكعبة في الصلاة ، ووجوب حجّها ، وأجاب عن هاتين الشّبهتين بقوله (كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ) [آل عمران : ٩٣] وبقوله : (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ) [آل عمران : ٩٦] فلما تمّ الاستدلال خاطبهم ـ بعد ذلك ـ بالكلام اللّيّن ، وقال : (لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ) بعد ظهور البينات؟

الثاني : أنه ـ تعالى ـ لما بيّن فضائل الكعبة ووجوب الحجّ ـ والقوم كانوا عالمين بأن هذا هو الدين الحق ـ قال لهم : (لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ) بعد أن علمتم كونها حقّا صحيحة؟

واعلم : أن المبطل قد يكون ضالّا مضلّا فقط ، وقد يكون ضالّا مضلّا ، والقوم كانوا موصوفين بالأمرين جميعا ، فبدأ ـ تعالى ـ بالإنكار على أهل الصفة الأولى ـ على سبيل الرفق ـ فقال : (يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ)؟

قال الحسن : هم العلماء من أهل الكتاب ، الذين علموا صحة نبوته ؛ لقوله : (وَأَنْتُمْ شُهَداءُ).

وقال آخرون : المراد : أهل الكتاب كلهم.

فإن قيل : لماذا خصّ أهل الكتاب دون سائر الكفار؟

فالجواب من وجهين :

الأول : أنا بيّنّا أنه ـ تعالى ـ أورد الدليل عليهم من التوراة والإنجيل على صحة نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم أجاب عن شبهتهم في ذلك ، فلمّا تمّ ذلك خاطبهم ، فقال : (يا أَهْلَ الْكِتابِ).

والثاني : أن معرفتهم بآيات الله أقوى ؛ لتقدّم اعترافهم بالتوحيد ، وأصل النبوة ، ولمعرفتهم بما في كتبهم من الشهادة بصدق الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والبشارة بنبوته.

والمراد بآيات الله : الآيات التي نصبها الله ـ تعالى ـ على نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والمراد بكفرهم بها كفرهم بدلالتها على نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

فصل

قالت المعتزلة : هذه الآية تدل على أن الكفر من قبلهم ـ حتى يصحّ هذا التوبيخ ، ولذلك لا يصح توبيخهم على طولهم ، وصحّتهم ، ومرضهم.

وأجيبوا بالمعارضة بالعلم والداعي.

قوله : (وَاللهُ شَهِيدٌ عَلى ما تَعْمَلُونَ) الواو للحال ، والمعنى : لم تكفرون بآيات الله التي

٤٢٠