اللّباب في علوم الكتاب - ج ٥

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ٥

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 2-7451-2298-3
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٦٣٢

وهو بعيد في التركيب ، وإن كان قريب المعنى.

قال أبو حيان : «وينبو عن هذا المعنى هذا التركيب إذ لو أريد هذا المعنى لم يؤت باسم الإشارة».

فإن قيل : قوله : «وأولئك هم الضالون» ظاهره ينفي عدم كون غيرهم ضالا ، وليس الأمر كذلك ؛ بل كل كافر ضال ، سواء كفر بعد الإيمان ، أو كان كافرا في الأصل ، فالجواب : هذا محمول على أنهم هم الضالون على سبيل الكمال.

فإن قيل : إنه وصفهم ـ أولا ـ بالكفر والغلوّ فيه ، ثم وصفهم ـ ثانيا ـ بالضلال ، والكفر أقبح أنواع الضلالة ، والوصف إنما يراد للمبالغة ، والمبالغة إنما تحصل بوصف الشيء بما هو أقوى منه حالا ، لا بما هو أضعف حالا منه.

فالجواب : قد ذكرنا أن المراد منه : أنهم هم الضالّون على سبيل الكمال ، وحينئذ تحصل المبالغة.

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ)(٩١)

اعلم أن الكافر على ثلاثة أقسام :

الأول : الذي يتوب عن الكفر توبة صحيحة مقبولة ، وهو المراد بقوله : «إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا».

الثاني : الذي يتوب عن الكفر توبة فاسدة ، وهو المذكور في الآية المتقدمة ، وقال : (لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ).

الثالث : الذي يموت على الكفر من غير توبة ، وهو المذكور في هذه الآية ، وقد أخبر عن هؤلاء بثلاثة أشياء :

أحدها : قوله : «فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا» قد تقدم أن عكرمة يقرأ : «نقبل ملء» بالنون مفعولا به.

وقرأ بعضهم (١) «فلن يقبل» ـ بالياء من تحت مبنيّا للفاعل وهو الله تعالى ، «ملء» بالنصب كما تقدم.

وقرأ أبو جعفر وأبو السّمّال (٢) «مل الأرض» بطرح همزة «ملء» ، نقل حركتها إلى الساكن قبلها.

__________________

(١) انظر : الكشاف ١ / ٣٨٤ ، والبحر المحيط ٢ / ٥٤٣ ، والدر المصون ٢ / ١٦٣.

(٢) انظر : المحرر الوجيز ١ / ٤٧٠ ، والبحر المحيط ٢ / ٥٤٣ ، والدر المصون ٢ / ١٦٣ ، وإتحاف فضلاء البشر ١ / ٤٨٥.

٣٨١

وبعضهم يدغم نحو هذا ـ أي لام «ملء» في لام «الأرض» ـ بعروض التقائهما.

والملء : مقدار ما يملأ الوعاء ، والملء ـ بفتح الميم ـ هو المصدر ، يقال : ملأت القدر ، أملؤها ، ملأ ، والملاءة بضم الميم والمد : الملحفة.

و «ذهبا» العامة على نصبه ، تمييزا.

وقال الكسائي : على إسقاط الخافض ، وهذا كالأول ؛ لأن التمييز مقدر ب «من» واحتاجت «ملء» إلى تفسير ؛ لأنها دالة على مقدار ـ كالقفيز والصّاع ـ.

وقرأ الأعمش (١) : «ذهب» ـ بالرفع ـ.

قال الزمخشريّ : ردّا على «ملء» كما يقال : عندي عشرون نفسا رجال ، يعني بالردّ البدل ، ويكون بدل نكرة من معرفة. قال أبو حيان : ولذلك ضبط الحذّاق قوله : «لك الحمد ملء السموات» بالرفع ، على أنه نعت ل «الحمد». واستضعفوا نصبه على الحال ، لكونه معرفة.

قال شهاب الدين : «يتعين نصبه على الحال ، حتى يلزم ما ذكره من الضعف ، بل هو منصوب على الظرف ، أي : إن الحمد يقع ملئا للسموات والأرض».

فإن قيل : من المعلوم أن الكافر لا يملك يوم القيامة نقيرا ولا قطميرا ، وبتقدير أن يملك الذهب فلا نفع فيه ، فما فائدة ذكره؟

فالجواب من وجهين :

أحدهما : أنهم إذا ماتوا على الكفر ، فلو أنهم كانوا قد أنفقوا في الدنيا ـ مع الكفر ـ أموالا ، فإنها لا تكون مقبولة.

الثاني : أن هذا على سبيل الفرض والتقدير ، فالذهب كناية عن أعز الأشياء ، والتقدير : لو أن الكافر يوم القيامة قدر على أعز الأشياء ، ثم قدر على بذله في غاية الكثرة ، لعجز أن يتوسل بذلك إلى تخليص نفسه من العذاب ، والمقصود أنهم آيسون من تخليص النفس من العقاب.

روى أنس ـ عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «يقول الله ـ لأهون أهل النّار عذابا يوم القيامة ـ : لو أنّ لك ما في الأرض من شيء ، أكنت تفتدي به؟ فيقول نعم ، فيقول : أردت منك أهون من هذا وأنت في صلب آدم : أن لا تشرك بي شيئا ، فأبيت إلّا أن تشرك بي» (٢).

قوله : «ولو افتدى به» الجمهور على ثبوت الواو ، وهي واو الحال.

__________________

(١) انظر : الكشاف ١ / ٣٨٣ ، والبحر المحيط ٢ / ٥٤٣ ، والدر المصون ٢ / ١٦٤.

(٢) أخرجه البخاري (٨ / ٢٠٦) كتاب الرقاق باب صفة الجنة والنار رقم (٦٥٥٧) ومسلم (٢١٦٠) وأحمد (٣ / ١٢٩) وابن أبي عاصم (١ / ٤٧) والبغوي في «تفسيره» (١ / ٣٧٨). وذكره الحافظ في «الفتح» (١١ / ٤١٦).

٣٨٢

قال الزمخشريّ : فإن قلت : كيف موقع قوله : (وَلَوِ افْتَدى بِهِ)؟

قلت : هو كلام محمول على المعنى ، كأنه قيل : فلن يقبل من أحدهم فدية ، ولو افتدى بملء الأرض ذهبا. انتهى.

والذي ينبغي أن يحمل عليه : أن الله ـ تعالى ـ أخبر أن من مات كافرا لا يقبل منه ما يملأ الأرض من ذهب على كل حال يقصدها ، ولو في حال افتدائه من العذاب ، وذلك أن حالة الافتداء حالة لا يميز فيها المفتدي عن المفتدى منه ؛ إذ هي حالة قهر من المفتدى منه للمفتدي.

قال أبو حيان : وقد قررنا ـ في نحو هذا التركيب ـ أن «لو» تأتي منبهة على أن ما قبلها جاء على سبيل الاستقصاء ، وما بعدها جاء تنصيصا على الحالة التي يظن أنها لا تندرج فيما قبلها ، كقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أعطوا السّائل ولو جاء على فرس» وقوله : «ردّوا السّائل ولو بظلف محرق» كأن هذه الأشياء مما ينبغي أن يؤتى بها ؛ لأن كون السائل على فرس يشعر بغناه ، فلا يناسب أن يعطى ، وكذلك الظلف المحرق ، لا غناء فيه ، فكان يناسب أن لا يردّ به السائل.

قيل : الواو ـ هنا ـ زائدة ، وقد يتأيد هذا بقراءة ابن أبي عبلة «لو افتدى به» ـ دون واو ـ معناه أنه جعل الافتداء شرطا في عدم القبول ، فلم يتعمم النفي وجود القبول.

و «لو» قيل : هي ـ هنا ـ شرطية ؛ بمعنى «إن» لا التي معناها لما كان سيقع لوقوع غيره ؛ لأنها متعلقة بمستقبل ، وهو قوله : «فلن تقبل» ، وتلك متعلّقة بالماضي.

قال الزجاج : إنها للعطف ، والتقدير : لو تقرب إلى الله بملء الأرض ذهبا لن يقبل منه ، ولو افتدى به لم تقبل منه ، وهذا اختيار ابن الأنباري ، قال : وهذا آكد في التغليظ ؛ لأنه تصريح بنفي القبول من وجوه. وقيل : دخلت الواو لبيان التفصيل بعد الإجمال ؛ لأن قوله : (فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً) يحتمل الوجوه الكثيرة ، فنص على نفي القبول بجهة الفدية.

وقال ابن الخطيب : إن من غضب على بعض عبيده ، فإذا أتحفه ذلك العبد بتحفة وهدية لم يقبلها البتة ، إلا أنه قد يقبل منه الفدية ، فأما إذا لم تقبل منه الفدية ـ أيضا ـ كان ذلك غاية الغضب ، والمبالغة إنما تحصل بذكر ما هو الغاية ، فحكمه ـ تعالى ـ بأنه لا يقبل منهم ملء الأرض ذهبا ، ولو كان واقعا على سبيل الفداء تنبيه على أنه إذا لم يكن مقبولا لا بالفدية فبأن لا يقبل منهم بسائر الطرق أولى. وافتدى افتعل ـ من لفظ الفدية ـ وهو متعدّ لواحد ؛ لأنه بمعنى فدى ، فيكون افتعل فيه وفعل بمعنى ، نحو : شوى ، واشتوى ، ومفعوله محذوف ، تقديره : افتدى نفسه. والهاء في «به» ـ فيها أقوال :

أحدها : ـ وهو الأظهر ـ عودها على «ملء» ؛ لأنه مقدار يملأها ، أي : ولو افتدى بملء الأرض.

٣٨٣

الثاني : أن يعود على «ذهبا» ، قاله أبو البقاء.

قال أبو حيان : ويوجد في بعض التفاسير أنها تعود على الملء ، أو على الذهب ، فقوله : «أو على الذهب» غلط.

قال شهاب الدين (١) : «كأن وجه الغلط فيه أنه ليس محدّثا عنه ، إنما جيء به بيانا وتفسيرا لغيره ، فضلة».

الثالث : أن يعود على «مثل» محذوف.

قال الزمخشريّ : «ويجوز أن يراد : ولو افتدى بمثله ، كقوله : (لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ) [الرعد : ١٨] ، والمثل يحذف في كلامهم كثيرا ، كقولك : ضربت ضرب زيد ـ تريد : مثل ضربه ـ وقولك : أبو يوسف أبو حنيفة ـ أي : مثله ـ.

وقوله : [الرجز]

١٥٣٧ ـ لا هيثم اللّيلة للمطيّ

ولا فتى إلّا ابن خيبريّ (٢)

و «قضية ولا أبا حسن لها» يريد : لا مثل هيثم ، ولا مثل أبي حسن ، كما أنه يزاد قولهم : مثلك لا يفعل كذا ، يريدون : أنت لا تفعل كذا ، وذلك أن المثلين يسد أحدهما مسد الآخر ، فكانا في حكم شيء واحد».

قال أبو حيان : «ولا حاجة إلى تقدير «مثل» في قوله : (وَلَوِ افْتَدى بِهِ) ، وكأن الزمخشريّ تخيّل أنّ ما قدّر أن يقبل لا يمكن أن يفتدى به ، فاحتاج إلى إضمار : «مثل» حتى يغاير ما نفي قبوله وبين ما يفتدى به ، وليس كذلك ؛ لأن ذلك ـ كما ذكرناه ـ على سبيل الفرض والتقدير ؛ إذ لا يمكن ـ عادة ـ أن أحدا يملك ملء الأرض ذهبا ، بحيث أنه لو بذله ـ على أيّ جهة بذله ـ لم يقبل منه ، بل لو كان ذلك ممكنا لم يحتج إلى تقدير «مثل» ؛ لأنه نفى قبوله ـ حتى في حالة الافتداء ـ وليس ما قدر في الآية نظير ما مثل به ، لأن هذا التقدير لا يحتاج إليه ، ولا معنى له ، ولا في اللفظ ، ولا في المعنى ما يدل عليه ، فلا يقدر.

وأما ما مثل به ـ من نحو : ضربت ضرب زيد ، وأبو يوسف أبو حنيفة ـ فبضرورة العقل يعلم أنه لا بد من تقدير مثل إذ ضربك يستحيل أن يكون ضرب زيد ، وذات أبي يوسف ، يستحيل أن تكون ذات أبي حنيفة.

وأما «لا هيثم الليلة للمطي» ، فدل على حذف «مثل» ما تقرر في اللغة العربية أن «لا» التي لنفي الجنس ، لا تدخل على الأعلام ، فتؤثر فيها ، فاحتيج إلى إضمار : «مثل» لتبقى على ما تقرر فيها ؛ إذ تقرر أنها لا تعمل إلا في الجنس ؛ لأن العلمية تنافي عموم الجنس.

__________________

(١) ينظر : الدر المصون ٢ / ١٦٥.

(٢) تقدم برقم ١١٠.

٣٨٤

وأما قوله : كما يزاد في : مثلك لا يفعل ـ تريد : أنت ـ فهذا قول قد قيل ، ولكن المختار عند حذّاق النحويين أن الأسماء لا تزاد».

قال شهاب الدين : وهذا الاعتراض ـ على طوله ـ جوابه ما قاله أبو القاسم ـ في خطبة كشافه ـ واللغوي وإن علك اللغة بلحييه والنحوي ـ وإن كان أنحى من سيبويه ـ [لا يتصدى أحد لسلوك تلك الطرائق ، ولا يغوص على شيء من تلك الحقائق ، إلا رجل قد برع في علمين مختصّين بالقرآن المعاني والبديع ـ وتمهّل في ارتيادهما آونة ، وتعب في التنقير عنهما أزمنة](١).

قوله : (أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) هذا هو النوع الثاني من وعيده الذي توعّدهم به. ويجوز أن يكون «لهم» : خبرا لاسم الإشارة ، و «عذاب» فاعل به ، وعمل لاعتماده على ذي خبره ، أي : أولئك استقر لهم عذاب. وأن يكون «لهم» خبرا مقدّما ، و «عذاب» مبتدأ مؤخر ، والجملة خبر عن اسم الإشارة ، والأول أحسن ؛ لأن الإخبار بالمفرد أقرب من الإخبار بالجملة ، والأول من قبيل الإخبار بالمفرد.

قوله : «وما لهم من ناصرين» هذا هو النوع الثالث من الوعيد ، ويجوز في إعرابه وجهان:

أحدهما : أن يكون (مِنْ ناصِرِينَ) : فاعلا ، وجاز عمل الجارّ ؛ لاعتماده على حرف النفي ، أي : وما استقر لهم من ناصرين.

والثاني : أنه خبر مقدّم ، و (مِنْ ناصِرِينَ) : مبتدأ مؤخر ، و «من» مزيدة على الإعرابين ؛ لوجود الشرطين في زيادتها.

وأتى ب «ناصرين» جمعا ؛ لتوافق الفواصل.

واحتجوا بهذه الآية على إثبات الشفاعة ؛ لأنه ـ تعالى ـ ختم وعيد الكفار بعدم النصرة والشفاعة ، فلو حصل هذا المعنى في حق غير الكافر بطل تخصيص هذا الوعيد بالكفر.

قوله تعالى : (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ)(٩٢)

النيل : إدراك الشيء ولحوقه.

وقيل : هو العطية.

وقيل : هو تناول الشيء باليد ، يقال : نلته ، أناله ، نيلا ، قال تعالى : (وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً) [التوبة : ١٢٠].

__________________

(١) سقط في أ.

٣٨٥

وأما النول ـ بالواو ـ فمعناه التناول ، يقال : نلته ، أنوله ، أي تناولته ، وأنلته زيدا ، وأنوله إياه ، أي ناولته إياه ، كقولك : عطوته ، أعطوه ، بمعنى : تناولته ، وأعطيته إياه ـ إذا ناولته إياه.

قوله : (حَتَّى تُنْفِقُوا) بمعنى إلى أن ، و «من» في (مِمَّا تُحِبُّونَ) تبعيضية يدل عليه قراءة عبد الله : بعض ما تحبون (١).

قال شهاب الدين (٢) : «وهذه ـ عندي ـ ليست قراءة ، بل تفسير معنى».

وقال آخرون : «إنها للتبيين».

[وجوز أبو البقاء ذلك فقال : «أو نكرة موصوفة ولا تكون مصدرية ؛ لأن المحبة لا تنفق ، فإن جعلت المحبة بمعنى : المفعول ، جاز على رأي أبي علي» يعني يبقى التقدير : من الشيء المحبوب ، وهذان الوجهان ضعيفان والأول أضعف](٣).

فصل

لما بيّن أن نفقتهم لا تنفع ذكر ـ هنا ـ ما ينفع ، فإن من أنفق مما يحبّ كان من جملة الأبرار المذكورين في قوله : (إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ) [الانفطار : ١٣] ، وغيرها.

قال ابن الخطيب : «وفي هذا لطيفة ، وهي أنه ـ تعالى ـ قال في سورة البقرة ـ : (وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) [البقرة : ١٧٧] وقال ـ هنا ـ (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) والمعنى : لو فعلتم ذلك المتقدم كله ، لا تفوزون بالبر حتى تنفقوا مما تحبّون ، وذلك يدل على أن النفقة من أفضل الطاعات.

فإن قيل : «حتى» لانتهاء الغاية ، فتقتضي الآية أن من أنفق مما يحب ، صار من جملة الأبرار ، ونال البر وإن لم يأت بسائر الطاعات.

فالجواب : أن المحبوب إنما ينفق إذا طمع المنفق فيما هو أشرف منه ، فلا ينفق المرء في الدنيا إلا إذا أيقن سعادة الآخرة ، وذلك يستلزم الإقرار بالصانع ، وأنه يجب عليه الانقياد لأوامره وتكاليفه ، وذلك يعتمد تحصيل جميع الخصال المحمودة في الدين».

فصل

قال ابن عبّاس وابن مسعود ومجاهد : البرّ : الجنة (٤).

__________________

(١) انظر : البحر المحيط ٢ / ٥٤٦ ، والدر المصون ٢ / ١٦٦.

(٢) ينظر : الدر المصون ٢ / ١٦٦.

(٣) سقط في ب.

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٥٨٧) عن السدي وعمرو بن ميمون وذكره أبو حيان في «البحر المحيط» (٢ / ٥٤٦) عن ابن مسعود وابن عباس ومجاهد والسدي وعمرو بن ميمون.

وانظر تفسير البغوي (١ / ٣٢٥) وفتح القدير (١ / ٣٦٠) وزاد المسير (١ / ٤٢٠).

٣٨٦

وقال مقاتل بن حيان : البرّ التقوى (١).

كقوله : (وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ) [البقرة : ١٨٩] إلى قوله : (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ).

وقيل : البر : الطاعة.

فالذين قالوا : إن البر هو الجنة قال بعضهم : معناه لن تنالوا ثواب البر.

ومنهم من قال : المراد بر الله أولياءه ، وإكرامه إياهم ، وتفضله عليهم ، من قولهم : برّني فلان بكذا أو برّ فلان لا ينقطع عني.

وقوله : (مِمَّا تُحِبُّونَ) قال بعضهم : إنه نفس المال.

وقال آخرون : أن تكون الهبة رفيعة جيدة لقوله تعالى : (وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ) [البقرة : ٢٦٧]. وقال آخرون : ما يكون محتاجا إليه القوم ؛ قال تعالى : (وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ) [الإنسان : ٨] ـ في أحد تفاسير الحبّ ـ وقوله : (وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ) [الحشر : ٩].

وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أفضل الصّدقة ما تصدّقت به وأنت صحيح ، شحيح ، تأمل الغنى وتخشى الفقر».

روى الضحاك عن ابن عباس : أن المراد به : الزكاة.

قال ابن الخطيب : لو خصصنا الآية بغير الزكاة لكان أولى ؛ لأن الآية مخصوصة بإيتاء الأحبّ ، والزكاة الواجبة لا يجب على المزكّي أن يخرج أشرف أموال ، أو أكرمها ، بل الصحيح أن هذه الآية مخصوصة بإيتاء المال على سبيل النّدب.

ونقل الواحدي عن مجاهد والكلبي ، أن هذه الآية منسوخة بإيتاء الزكاة ، وهذا في غاية البعد ؛ لأن إيجاب الزكاة كيف ينافي الترغيب في بذل المحبوب لوجه الله.

قوله : (وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ) تقدم نظيره في البقرة.

فإن قيل : لم قيل : (فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ) على جهة جواب الشرط ، مع أن الله يعلمه على كل حال؟

فالجواب من وجهين :

الأول : أن فيه معنى الجزاء ، تقديره : وما تنفقوا من شيء فإن الله مجازيكم به ـ قلّ أم كثر ـ ، لأنه عليم به ، لا يخفى عليه شيء منه ، فجعل كونه عالما بذلك الإنفاق كناية عن إعطاء الثواب ، والتعريض ـ في مثل هذا الموضع ـ يكون أبلغ من التصريح.

الثاني : أنه ـ تعالى ـ يعلم الوجه الذي لأجله تفعلونه ، ويعلم أن الداعي إليه هو الإخلاص أم الرياء ، ويعلم أنكم تنفقون الأحب الأجود أم الأخسّ الأرذل ، ونظيره قوله

__________________

(١) ذكره البغوي في «تفسيره» (١ / ٣٢٥) وأبو حيان في «البحر المحيط» ٢ / ٥٤٦).

٣٨٧

تعالى : (وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللهُ) [البقرة : ١٩٧] ، وقوله : (وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللهَ يَعْلَمُهُ) [البقرة : ٢٧] أي : يبينه ويجازيكم على قدره.

قوله تعالى : (كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلاَّ ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٩٣) فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)(٩٤)

الحلّ بمعنى : الحلال ، وهو ـ في الأصل ـ مصدر ل «حلّ يحلّ» ، كقولك : عز يعز عزّا ، ثم يطلق على الأشخاص ، مبالغة ، ولذلك يستوي فيه الواحد والمثنّى والمجموع ، والمذكّر والمؤنث ، كقوله تعالى : (لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَ) [الممتحنة : ١٠] ، وفي الحديث عن عائشة : «كنت أطيّب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لحلّه ولحرمه» ، أي لإحلاله ولإحرامه ، وهو كالحرم واللبس ـ بمعنى : الحرام واللباس ـ وقال ابن عباس ـ في زمزم ـ : هي حلّ وبلّ (١). رواه سفيان بن عيينة ، فسئل سفيان ، ما حلّ؟ فقال : محلّل. و «لبني» : متعلق ب «حلّا».

قوله : (إِلَّا ما حَرَّمَ) مستثنى من اسم «كان».

وجوّز أبو البقاء (٢) أن يكون مستثنى من ضمير مستتر في «حلّا» فقال لأنه استثناء من اسم «كان» والعامل فيه : «كان» ، ويجوز أن يعمل فيه «حلّا» ، ويكون فيه ضمير يكون الاستثناء منه ؛ لأن حلّا وحلالا في موضع اسم الفاعل بمعنى الجائز والمباح.

وفي هذا الاستثناء قولان :

أحدهما : أنه متّصل ، والتقدير : إلا ما حرّم إسرائيل على نفسه ، فحرم عليهم في التوراة ، فليس فيها ما زادوه من محرمات ، وادّعوا صحة ذلك.

والثاني : أنه منقطع ، والتقدير : لكن حرم إسرائيل على نفسه خاصّة ، ولم يحرمه عليهم ، والأول هو الصحيح.

قوله : (مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ) فيه وجهان :

أحدهما : أنه متعلق ب «حرّم» أي : إلا ما حرّم من قبل ، قاله أبو البقاء (٣).

قال أبو حيان : «ويبعد ذلك ؛ إذ هو من الإخبار بالواضح ؛ لأنه معلوم أن الذي حرّم إسرائيل على نفسه ، هو من قبل إنزال التوراة ضرورة ؛ لتباعد ما بين وجود إسرائيل وإنزال التوراة».

والثاني : أنه يتعلق بقوله : (كانَ حِلًّا).

__________________

(١) ذكره الرازي في تفسيره ٨ / ١٢١.

(٢) ينظر : الإملاء ١ / ١٤٣.

(٣) ينظر المصدر السابق.

٣٨٨

قال أبو حيان : «ويظهر أنه متعلّق بقوله : (كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ) ، أي : من قبل أن تنزّل التوراة ، وفصل بالاستثناء ؛ إذ هو فصل جائز ، وذلك على مذهب الكسائي وأبي الحسن ، في جواز أن يعمل ما قبل «إلا» فيما بعدها إذا كان ظرفا أو مجرورا أو حالا ـ نحو ما جلس إلا زيد عندك ، ما أوى إلا عمرو إليك ، وما جاء إلا زيد ضاحكا.

وأجاز الكسائي ذلك في المنصوب مطلقا ، نحو ما ضرب إلا زيد عمرا ؛ وأجاز ذلك هو وابن الأنباري في المرفوع ، نحو ما ضرب إلا زيدا عمرو ، وأما تخريجه على غير مذهب الكسائي وأبي الحسن ، فيقدّر له عامل من جنس ما قبله ، تقديره ـ هنا ـ حل من قبل أن ينزل أي تنزل التوراة».

وقرىء : (تُنَزَّلَ التَّوْراةُ) بتخفيف الزاي وتشديدها ، وكلاهما بمعنى واحد ، وهذا يرد قول من قال بأن «تنزّل» ـ بالتشديد ـ يدل على أنه نزل منجّما ؛ لأن التوراة إنّما نزلت دفعة واحدة بإجماع المفسرين.

فصل

لما تقدمت الآيات الدالة على نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والإلزامات الواردة على أهل الكتاب ، بين في هذه الآية الجواب عن شبهاتهم ، وهي تحتمل وجوها :

روي أن اليهود كانوا يعوّلون في إنكار شرع محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم على إنكار النسخ ، فأبطل الله ـ تعالى ـ عليهم ذلك بأن كل الطعام كان حلّا لبني إسرائيل ، إلا ما حرم إسرائيل على نفسه ، فذلك الذي حرمه على نفسه كان حلالا ، ثم صار حراما عليه وعلى أولاده ، فحصل النسخ ، وبطل قولكم : النسخ غير جائز ، فلما توجّه على اليهود هذا السؤال أنكروا أن تكون حرمة ذلك الطعام الذي حرّم بسبب أن إسرائيل حرّمه على نفسه ، بل زعموا أن ذلك كان حراما من زمان آدم إلى زمانهم ، فعند هذا طلب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم منهم أن يحضروا التوراة ؛ فإن التوراة ناطقة بأن بعض أنواع الطعام إنما حرّم بسبب أن إسرائيل حرّمه على نفسه ، فخافوا من الفضيحة ، وامتنعوا من إحضار التوراة ، فحصل عند ذلك أمور كثيرة تقوّي القول بنبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

منها : أن النسخ قد ثبت لا محيص عنه ، وهم ينكرونه.

ومنها : ظهور كذبهم للناس ، فيما نسبوه إلى التوراة.

ومنها : أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان أمّيّا ، لا يقرأ ولا يكتب ، فدل على أنه لم يعرف هذه المسألة الغامضة إلا بوحي من الله تعالى.

الوجه الثاني : أن اليهود قالوا له : إنك تدّعي أنك على ملة إبراهيم ، فكيف تأكل لحوم الإبل وألبانها مع أن ذلك كان حراما في دين إبراهيم ، فلست أنت على ملة إبراهيم ، فجعلوا ذلك شبهة طاعنة في صحة دعواه ، فأجابهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على هذه الشبهة ،

٣٨٩

وقال : إن ذلك كان حلالا لإبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب ، إلا أن يعقوب حرّمه على نفسه ، لسبب من الأسباب ، وبقيت تلك الحرمة في أولاده ، فأنكر اليهود ذلك ، وقالوا : ما نحرمه اليوم كان حراما على نوح وإبراهيم حتى انتهى إلينا ، فأنزل الله تعالى هذه الآية ، فأمرهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بإحضار التوراة ، وطالبهم بأن يستخرجوا منها آية تدل على أن لحوم الإبل وألبانها كانت محرمة على إبراهيم ، فعجزوا عن ذلك ، وافتضحوا ، فظهر كذبهم.

الوجه الثالث : أنه ـ تعالى ـ لما أنزل قوله : (وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ) [الأنعام : ١٤٦] ، قال تعالى : (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ) [النساء : ١٦٠] فدل ذلك على أنه إنما حرم على اليهود هذه الأشياء ـ جزاء لهم على بغيهم ـ وأنه لم يكن شيء من الطعام حراما ، غير الذي حرم إسرائيل على نفسه ، فشقّ ذلك على اليهود من وجهين :

أحدهما : أن ذلك يدل على تحريم هذه الأشياء بعد الإباحة ، وذلك يقتضي النسخ ، وهم ينكرونه.

والثاني : أن ذلك يدل على أنهم كانوا موصوفين بقبائح الأفعال ، فلما شقّ ذلك عليهم من هذين الوجهين ، أنكروا كون حرمة هذه الأشياء متجدّدة ، وزعموا أنها كانت محرّمة أبدا ، فطالبهم النبيّ بآية من التوراة تدل على صحّة قولهم فعجزوا وافتضحوا فهذا وجه النظم وسبب النزول.

فصل

قال الزمخشري : «كلّ الطّعام» كل المطعومات ، أو كل أنواع الطعام.

واختلف الناس في اللفظ المفرد المحلّى بالألف واللام ، هل يفيد العموم أم لا؟

فذهب قوم إلى أنه يفيده لوجوه :

الأول : أنه ـ تعالى ـ أدخل لفظ «كلّ» على لفظ «الطّعام» فلولا أن لفظ «الطّعام» قائم مقام المطعومات ، وإلا لما جاز ذلك.

والثاني : أنه استثنى ما حرم إسرائيل على نفسه ، والاستثناء يخرج من الكلام ما لولاه لدخل فلولا دخول كل الأقسام تحت لفظ : «الطّعام» ، وإلا لم يصحّ الاستثناء ، ويؤيده قوله تعالى : (وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا) [العصر : ١ ـ ٣].

الثالث : أنه ـ تعالى ـ وصف هذا اللفظ المفرد بما يوصف به لفظ الجمع ، فقال : (وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ) [ق : ١٠] ، فعلى هذا لا يحتاج إلى الإضمار الذي ذكره الزمخشريّ.

ومن قال : إنه لا يفيد العموم ، يحتاج إلى الإضمار.

٣٩٠

فصل

الطعام : اسم لكل ما يؤكل ويطعم.

وزعم بعض الحنفيّة : أنه اسم للبرّ خاصّة ، وهذه الآية حجّة عليهم ؛ لأنه استثنى من لفظ «الطّعام» : ما حرم إسرائيل على نفسه ، وأجمع المفسرون على أن ذلك الذي حرّمه على نفسه كان غير الحنطة وما يتّخذ منها ، ويؤكد ذلك قوله ـ في صفة الماء ـ : (وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي) [البقرة : ٢٤٩] ، وقوله : (وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ) [المائدة : ٥٥] ، وأراد الذبائح ، وقالت عائشة : «ما لنا طعام إلّا الأسودان» (١) والمراد: التمر والماء.

فصل في المراد بالذي حرم إسرائيل على نفسه

اختلفوا في الذي حرّمه إسرائيل على نفسه وفي سببه :

قال أبو العالية وعطاء ومقاتل والكلبيّ : روى ابن عباس أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إنّ يعقوب مرض مرضا شديدا ، فنذر لئن عافاه الله ليحرّمنّ أحبّ الطعام والشّراب إليه ، وكان ذلك لحمان الإبل وألبانها» (٢).

قال ابن عباس ومجاهد وقتادة والسّدّيّ والضّحّاك : هي العروق ، وكان السبب فيه ، أنه اشتكى عرق النسا ، وكان أصل وجعه (٣) ـ فيما روى جويبر ومقاتل عن الضحاك ـ أن يعقوب كان قد نذر إن وهبه الله اثني عشر ولدا ، وأتى بيت المقدس صحيحا ، أن يذبح آخرهم ، فتلقاه ملك من الملائكة ، فقال : يا يعقوب ، إنك رجل قويّ ، فهل لك في الصّراع؟ فصارعه فلم يصرع واحد منهما صاحبه ، فغمزه الملك غمزة ، فعرض له عرق النسا من ذلك ، ثم قال له الملك : أما إني لو شئت أن أصرعك لفعلت ، ولكن غمزتك هذه الغمزة ؛ [لأنك كنت نذرت إن أتيت بيت المقدس صحيحا أن تذبح آخر ولدك ، فجعل الله له بهذه الغمزة] مخرجا ، فلما قدم يعقوب بيت المقدس أراد ذبح ولده ، ونسي قول الملك ، فأتاه الملك ، وقال : إنما غمزتك للمخرج ، وقد وفى نذرك ، فلا سبيل لك إلى ولدك.

وقال عباس ومجاهد وقتادة والسّدّيّ : أقبل يعقوب من : «حرّان» يريد بيت

__________________

(١) أخرجه البخاري (٥ / ٢٣٣) كتاب الهبة : باب (١) حديث (٢٥٦٧) ومسلم (٤ / ٢٢٨٣) كتاب الزهد ، باب (١) رقم (٢٨ / ٢٩٧٢) من حديث عائشة.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ١٠) عن ابن عباس.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ١١) والحاكم (٢ / ٢٩٢) وصححه وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٩١) وعزاه لعبد بن حميد والفريابي والبيهقي وابن المنذر وابن أبي حاتم من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس وأخرجه الطبري (٧ / ١٢ ـ ١٣) عن قتادة والسدي ومجاهد والضحاك.

٣٩١

المقدس ، حين هرب من أخيه عيصو ، وكان رجلا بطيشا ، قويّا ، فلقيه ملك ، فظنّ يعقوب أنه لصّ ، فعالجه ليصرعه فلم يصرع واحد منهما صاحبه ، فغمز الملك فخذ يعقوب ، ثم صعد إلى السماء ، ويعقوب ينظر إليه ، فهاج به عرق النسا ، ولقي من ذلك بلاء وشدّة ، وكان لا ينام الليل من الوجع ويبيت وله زقاء : أي صياح ، فحلف لئن شفاه الله أن لا يأكل عرقا ولا طعاما فيه عرق ، فحرّمه على نفسه ، فكان بنوه ـ بعد ذلك ـ يتّبّعون العروق ، ويخرجونها من اللحم(١).

وروى جبير عن الضحاك عن ابن عباس : لما أصاب يعقوب عرق النسا ، وصف له الأطباء أن يجتنب لحمان الإبل ، فحرّمها يعقوب على نفسه (٢).

وقال الحسن : حرّم يعقوب على نفسه لحم الجزور ، تعبّدا لله تعالى ، فسأل ربه أن يجيز له ذلك ، ومنعها الله على ولده.

فإن قيل : التحريم والتحليل إنما يثبت بخطاب الله ـ تعالى ـ وظاهر الآية يدل على أن إسرائيل حرم ذلك على نفسه ، فكيف صار ذلك سببا لحصول الحرمة؟

فالجواب من وجوه :

الأول : أنه لا يبعد أن الإنسان إذا حرّم شيئا على نفسه ، فإن الله يحرّمه عليه كما أن الإنسان يحرم امرأته بالطلاق ، ويحرم جاريته بالعتق ، فكذلك يجوز أن يقول الله تعالى : إن حرّمت شيئا على نفسك فأنا ـ أيضا ـ أحرّمه عليك.

الثاني : أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ربما اجتهد ، فأدّى اجتهاده إلى التحريم ، فقال بتحريمه ، والاجتهاد جائز من الأنبياء ؛ لعموم قوله : (فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ) [الحشر : ٢] ، ولقوله : (لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ) [النساء : ٨٣] ، ولقوله ـ لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : (عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ) [التوبة : ٤٣] ، فدل على أنه كان بالاجتهاد.

وقوله تعالى : (إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ) يدل على أنه إنما حرّمه على نفسه بالاجتهاد ؛ إذ لو كان بالنصّ لقال : إلّا ما حرّمه الله على إسرائيل.

الثالث : يحتمل أن التحريم في شرعه كالنذر في شرعنا ، فكما يجب علينا الوفاء بالنذر ـ وهو بإيجاب العبد على نفسه ـ كان يجب في شرعه الوفاء بالتحريم.

الرابع : قال الأصم : لعل نفسه كانت مائلة إلى تلك الأنواع كلّها ، فامتنع من أكلها ؛ قهرا للنّفس ، وطلبا لمرضاة الله ، كما يفعله كثير من الزّهّاد.

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ٩) عن السدي وذكره الفخر الرازي في «التفسير الكبير» (٨ / ١٢١ ـ ١٢٢).

(٢) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٩٢) وعزاه للبخاري في تاريخه وابن المنذر وابن أبي حاتم من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس.

٣٩٢

فصل

ترجم ابن ماجه في سننه «دواء عرق النساء» وروى بسنده عن أنس بن مالك قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «شفاء عرق النّسا ألية شاة ، [أعرابية] تذاب ، ثمّ تجزّأ ثلاثة أجزاء ، ثمّ تشرب على الرّيق في كلّ يوم جزءا» (١).

وفي رواية عن أنس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ في عرق النسا ـ : «تؤخذ ألية كبش عربيّ ـ لا صغير ولا كبير ـ فتقطّع صغارا ، فتخرج إهالته ، فتقسّم ثلاثة أقسام ، قسم في كلّ يوم على الرّيق» (٢) قال أنس : فوصفته لأكثر من مائة ، فبرئوا ـ بإذن الله عزوجل ـ ، وروى شعبة قال : حدثني شيخ ـ في زمن الحجّاج بن يوسف ـ في عرق النسا ، يمسح على ذلك الموضع ، ويقول أقسم لك بالله الأعلى ، لئن لم تنته لأكويّنك بنار ، أو لأحلقنّك بموسى.

قال شعبة : قد جرّبته ، لقوله : وتمسح على ذلك الموضع.

فصل

دلّت هذه الآية على جواز الاجتهاد للأنبياء ؛ ولأنه إذا شرع الاجتهاد لغيرهم ، فهم أولى ؛ لأنهم أكمل من غيرهم ، ومنع بعضهم ذلك ؛ لأنهم متمكنون من الوحي ، وقال تعالى : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ) [التحريم : ١].

فصل

ظاهر الآية يدل على أنّ الذي حرمه إسرائيل على نفسه ، قد حرّمه الله على بني إسرائيل ؛ لقوله تعالى : (كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ ،) فحكم بحلّ كل أنواع المطعومات لبني إسرائيل ، ثم استثنى منها ما حرمه إسرائيل على نفسه ، فوجب ـ بحكم الاستثناء ـ أن يكون ذلك حراما عليهم.

فصل

ومعنى قوله : (مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ) أي : قبل نزول التوراة كان حلّا لبني إسرائيل كلّ المطعومات سوى ما حرمه إسرائيل على نفسه ، أما بعد نزول التوراة ، فلم يبق كذلك بل حرم الله ـ تعالى ـ عليهم أنواعا كثيرة.

__________________

(١) أخرجه ابن ماجه (٢ / ١١٤٧) كتاب الطب باب دواء عرق النساء رقم (٣٤٦٣) والحاكم (٤ / ٢٠٦) عن أنس بن مالك وقال الحاكم : صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ووافقه الذهبي وقال البوصيري في «زوائد ابن ماجه» (٣ / ١٢٤) : هذا إسناد صحيح رجاله ثقات.

(٢) أخرجه الحاكم في مستدركه (٤ / ٢٠٧) من طريق هشام بن حسان عن أنس بن مالك مرفوعا. وقال صحيح على شرط الشيخين وصححه الذهبي.

٣٩٣

وقال السدي : حرم الله عليهم في التوراة ما كانوا يحرّمونه قبل نزولها.

قال ابن عطية : إنما كان محرّما عليهم بتحريم إسرائيل ؛ فإنه كان قد قال : إن عافاني الله لا يأكله لي ولد ، ولم يكن محرّما عليهم في التوراة.

وقال الكلبي : لم يحرّمه الله عليهم في التوراة ، وإنما حرّم عليهم بعد التوراة بظلمهم ، كما قال تعالى : (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ) [النساء : ١٦٠] ، وقال : (وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ) [الأنعام : ١٤٦] روي أن بني إسرائيل كانوا إذا أتوا بذنب عظيم ، حرّم الله عليهم نوعا من أنواع الطعام ، أو سلط عليهم سببا لهلاك أو مضرّة.

وقال الضحاك : لم يكن شيئا من ذلك محرّما عليهم ، ولا حرّمه الله في التوراة ، وإنما حرموه على أنفسهم ؛ اتباعا لأبيهم ، ثم أضافوا تحريمه إلى الله ـ عزوجل ـ فكذبهم الله ، فقال : «قل» : يا محمد (فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها) حتى يتبين أنه كما قلتم (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ،) فلم يأتوا بها ، فقال ـ الله عزوجل ـ : (فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ ،) «من» يجوز أن تكون شرطيّة ، أو موصولة ، وحمل على لفظها في قوله : «افترى» فوحّد الضمير ، وعلى معناها فجمع في قوله : (فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ،) والافتراء مأخوذ من الفري ، وهو القطع ، والظالم هو الذي يضع الشيء في غير موضعه.

وقوله : (مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) أي : من بعد ظهور الحجة ، (فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) المستحقون لعذاب الله.

قوله : (مِنْ بَعْدِ) فيه وجهان :

أحدهما : ـ وهو الظاهر ـ : أن يتعلق ب «افترى».

الثاني : قال أبو البقاء : يجوز أن يتعلق بالكذب ، يعني : الكذب الواقع من بعد ذلك.

وفي المشار إليه ثلاثة أوجه :

أحدهما : استقرار التحريم المذكور في التوراة عليهم ؛ إذ المعنى : إلا ما حرم إسرائيل على نفسه ، ثم حرم في التوراة ؛ عقوبة لهم.

الثاني : التلاوة ، وجاز تذكير اسم الإشارة ؛ لأن المراد بها بيان مذهبهم.

الثالث : الحال بعد تحريم إسرائيل على نفسه ، وهذه الجملة ـ أعني : قوله : (فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ ـ) يجوز أن تكون استئنافية ، فلا محل لها من الإعراب ، ويجوز أن تكون منصوبة المحل ؛ نسقا على قوله : (فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ ،) فتندرج في المقول.

قوله تعالى : (قُلْ صَدَقَ اللهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ)(٩٥)

أي قل لهم.

٣٩٤

والعامة على إظهار لام «قل» مع الصاد.

وقرأ أبان بن تغلب (١) بإدغامها فيها ، وكذلك أدغم اللام في السين في قوله : (قُلْ سِيرُوا) [الأنعام : ١١] وسيأتي أن حمزة والكسائيّ وهشاما أدغموا اللام في السين في قوله : (بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ) [يوسف : ١٨].

قال أبو الفتح : «علّة ذلك فشوّ هذين الحرفين في الضم ، وانتشار الصوت المنبثّ عنهما ، فقاربتا بذلك مخرج اللام ، فجاز إدغامها فيهما» ، وهو مأخوذ من كلام سيبويه ، فإن سيبويه قال : «والإدغام ، يعني : إدغام اللام مع الصاد والطاء وأخواتهما ، جائز ، وليس ككثرته مع الراء ؛ لأن هذه الحروف تراخين عنها ، وهن من الثنايا ؛ قال : وجواز الإدغام أنّ آخر مخرج اللام قريب من مخرجها». انتهى.

قال أبو البقاء عبارة توضّح ما تقدم ، وهي : «لأن الصاد فيها انبساط ، وفي اللام انبساط ، بحيث يتلاقى طرفاهما ، فصارا متقاربين». وقد تقدم إعراب قوله : ملة إبراهيم حنيفا.

فصل

(قُلْ صَدَقَ اللهُ) يحتمل وجوها :

أحدها : قل : صدق الله في أن ذلك النوع من الطعام ، صار حراما على بني إسرائيل ، وأولاده بعد أن كان حلالا لهم ، فصحّ القول بالنسخ ، وبطلت شبهة اليهود.

وثانيها : قل : صدق الله في أن لحوم الإبل ، وألبانها كانت محلّلة لإبراهيم ، وإنما حرّمت على بني إسرائيل ؛ لأن إسرائيل حرّمها على نفسه ، فثبت أن محمدا لما أفتى بحلّ لحوم الإبل ، وألبانها ، فقد أفتى بملة إبراهيم.

وثالثها : صدق الله في أن سائر الأطعمة ، كانت محلّلة لبني إسرائيل ، وإنما حرّمت على اليهود ؛ جزاء على قبائح أفعالهم.

وقوله : (فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ) أي : اتبعوا ما يدعوكم إليه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم من ملة إبراهيم.

وسواء قال : (مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً) أو قال : «ملة إبراهيم الحنيف» ؛ لأن الحال والصفة في المعنى سواء.

وقوله : (وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) أي : لم يدع مع الله إلها آخر ، كما فعله العرب من عبادة الأوثان ، أو كما فعله اليهود من أن عزيرا ابن الله ، أو كما فعله النصارى من ادّعاء أن المسيح ابن الله.

والمعنى : إن إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ لم يكن من الطائفة المشركة في وقت من

__________________

(١) انظر : الشواذ ٢١ ، والمحرر الوجيز ١ / ٤٧٤ ، والبحر المحيط ٣ / ٦ ، والدر المصون ٢ / ١٦٧.

٣٩٥

الأوقات ، والغرض منه بيان أن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم على دين إبراهيم في الفروع والأصول ؛ لأن محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يدعو إلا إلى التوحيد ، والبراءة عن كل معبود سوى الله تعالى.

قوله تعالى : (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ (٩٦) فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ)(٩٧)

في اتصال هذه الآية بما قبلها وجوه :

الأول : أن المراد منه : الجواب عن شبهة أخرى من شبه اليهود في إنكار نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وذلك لأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لمّا حوّل إلى الكعبة ، طعن اليهود في نبوّته ، وقالوا : إنّ بيت المقدس أفضل من الكعبة وأحق بالاستقبال ؛ لأنه وضع قبل الكعبة ، وهو أرض المحشر ، وقبلة جملة الأنبياء ، وإذا كان كذلك فتحويل القبلة منه إلى الكعبة باطل ، وأجابهم الله بقوله : (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ) هو الكعبة ، فكان جعله قبلة أولى.

الثاني : أن المقصود من الآية المتقدمة بيان النسخ ، هل يجوز أم لا؟ واستدلّ ـ عليه‌السلام ـ على جوازه ، بأن الأطعمة كانت مباحة لبني إسرائيل ، ثم إن الله تعالى حرّم بعضها ، والقوم نازعوه فيه ، وأعظم الأمور التي أظهر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نسخه هو القبلة ، فذكر الله ـ في هذه الآيات ـ بيان ما لأجله حوّلت القبلة إلى الكعبة ، وهو كون الكعبة أفضل من غيرها.

الثالث : أنه ـ تعالى ـ لما قال في الآية المتقدمة : (فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ ،) وكان من أعظم شعائر ملة إبراهيم الحجّ ـ ذكر في هذه الآية فضل البيت ؛ ليفرّع عليه إيجاب الحجّ.

الرابع : أنه لما تقدّم مناظرة اليهود والنصارى ، وزعموا أنهم على ملة إبراهيم ، فبيّن الله كذبهم في هذه الآية من حيث إن حجّ الكعبة كان ملة إبراهيم ، وهم لا يحجّون ، فدل ذلك على كذبهم.

قوله : (وُضِعَ لِلنَّاسِ) هذه الجملة في موضع خفض ؛ صفة ل «بيت».

وقرأ العامة (وُضِعَ) مبنيّا للمفعول. وعكرمة وابن السميفع «وضع» مبنيّا للفاعل(١).

وفي فاعله قولان :

أحدهما : ـ وهو الأظهر ـ أنه ضمير إبراهيم ؛ لتقدّم ذكره ؛ ولأنه مشهور بعمارته.

والثاني : أنه ضمير الباري تعالى ، و «للنّاس» متعلق بالفعل قبله ، واللام فيه للعلة.

و «للذي ببكّة» خبر «إنّ» وأخبر ـ هنا ـ بالمعرفة ـ وهو الموصول ـ عن النكرة ـ

__________________

(١) انظر : البحر المحيط ٣ / ٧ ، والدر المصون ٢ / ١٦٨.

٣٩٦

وهو «أول بيت» ـ لتخصيص النكرة بشيئين : الإضافة ، والوصف بالجملة بعده ، وهو جائز في باب «إن» ، ومن عبارة سيبويه : إن قريبا منك زيد ، لما تخصص «قريبا» بوصفه بالجار بعده ساغ ما ذكرناه ، وزاده حسنا ـ هنا ـ كونه اسما ل «إنّ» ، وقد جاءت النكرة اسما ل «إنّ» ـ وإن لم يكن تخصيص ـ كقوله : [الطويل]

١٥٣٨ ـ وإنّ حراما أن أسبّ مجاشعا

بآبائي الشّمّ الكرام الخضارم (١)

وببكة صلة ، والباء فيه ظرفية ، أي : في مكة.

وبكة فيها أربعة أوجه :

أحدها : أنها مرادفة ل «مكة» فأبدلت ميمها باء ، قالوا : والعرب تعاقب بين الباء والميم في مواضع ، قالوا : هذا على ضربة لازم ، ولازب ، وهذا أمر راتب ، وراتم ، والنبيط والنميط وسبد رأسه وسمدها ، وأغبطت الحمى ، وأغمطت.

وقيل : إنها اسم لبطن مكة ، ومكة اسم لكل البلد.

وقيل : إنها اسم لمكان البيت.

وقيل : إنها اسم للمسجد نفسه ، وأيدوا هذا بأن التباكّ وهو : الازدحام إنما يحصل عند الطواف ، يقال : تباكّ الناس ـ أي : ازدحموا ، ويفسد هذا القول أن يكون الشيء ظرفا لنفسه ، كذا قال بعضهم ، وهو فاسد ، لأن البيت في المسجد حقيقة.

وقال الأكثرون : بكة : اسم للمسجد والمطاف ، ومكة : اسم البلد ، لقوله تعالى : (لَلَّذِي بِبَكَّةَ) فدل على أن البيت مظروف في بكة ، فلو كان بكة اسما للبيت لبطل كون بكة ظرفا له.

وسميت بكة ؛ لازدحام الناس ، قاله مجاهد وقتادة (٢) ، وهو قول محمد بن علي الباقر.

وقال بعضهم : رأيت محمد بن علي الباقر يصلي ، فمرت امرأة بين يديه ، فذهبت أدفعها ، فقال : دعها ، فإنها سمّيت بكة ، لأنه يبكّ بعضهم بعضا ، تمر المرأة بين يدي الرجل وهو يصلي ، والرجل بين يدي المرأة وهي تصلي ، ولا بأس بذلك هنا (٣).

وقيل : لأنها تبكّ أعناق الجبابرة ـ أي : تدقها.

قال قطرب : تقول العرب : بككته ، أبكّه ، بكّا ، إذا وضعت منه.

__________________

(١) البيت للفرزدق ينظر ديوانه ٢ / ٣٠٠ ، وخزانة الأدب ٩ / ٢٨٥ ، والدرر ٢ / ٧٤ ، وشرح أبيات سيبويه ١ / ١٩١ ، والمقتضب ٤ / ٧٤ ، وهمع الهوامع ١ / ١١٩ ، والدر المصون ٢ / ١٦٨.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ٢٤) عن قتادة.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ٢٤) عن أبي جعفر دون ذكر محمد بن علي الباقر.

٣٩٧

وسميت مكة ـ من قولهم : مككت المخ من العظم ، إذا استقصيته ولم تترك فيه شيئا.

ومنه : مكّ الفصيل ما في ضرع أمّه ـ إذا لم يترك فيه لبنا ، وروي أنه قال : «لا تمكّكوا على غرمائكم» (١).

وقيل : لأنها تمكّ الذنوب ، أي : تزيلها كلّها.

قال ابن الأنباري : وسمّيت مكة لقلّة مائها وزرعها ، وقلة خصبها ، فهي مأخوذة من مككت العظم ، إذا لم تترك فيه شيئا.

وقيل : لأن من ظلم فيها مكّه الله ، أي : استقصاه بالهلاك.

وقيل : سمّيت بذلك ؛ لاجتلابها الناس من كل جانب من الأرض ، كما يقال : امتكّ الفصيل ـ إذا استقصى ما في الضّرع.

وقال الخليل : لأنها وسط الأرض كالمخ وسط العظم.

وقيل : لأن العيون والمياه تنبع من تحت مكة ، فالأرض كلها تمك من ماء مكة ، والمكوك : كأس يشرب به ، ويكال به ـ ك «الصّواع».

قال القفال : لها أسماء كثيرة ، مكة ، وبكة ، وأمّ رحم ، ـ بضم الراء وإسكان الحاء ـ قال مجاهد : لأن الناس يتراحمون فيها ، ويتوادعون ـ والباسّة ؛ قال الماوردي : لأنها تبس من ألحد فيها ، أي : تحطّمه وتهلكه ، قال تعالى : (وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا) [الواقعة : ٥].

ويروى : الناسّة ـ بالنون ـ قال صاحب المطالع : ويقال : الناسّة ـ بالنون ـ. قال الماورديّ : لأنها تنس من ألحد فيها ـ أي : تطرده وتنفيه.

ونقل الجوهري ـ عن الأصمعي ـ : النّسّ : اليبس ، يقال : جاءنا بخبزة ناسّة ، ومنه قيل لمكة : الناسّة ؛ لقلة مائها. والرأس ، والعرش ، والقادس ، والمقدّسة ـ من التقديس ـ وصلاح ـ بفتح الصاد وكسر الحاء ـ مبنيّا على الكسر كقطام وحذام ، والبلد ، والحاطمة ؛ لأنها تحطم من استخفّ بها ، وأم القرى ؛ لأنها أصل كل بلدة ، ومنها دحيت الأرض ، ولهذا المعنى تزار من جميع نواحي الأرض.

فصل

الأوّل : هو الفرد السابق ، فإذا قال : أوّل عبد أشتريه فهو حرّ ، فلو اشترى عبدين في المرة الأولى لم يعتق واحد منهما ؛ لأن الأول هو الفرد ، ثم لو اشترى بعد ذلك ما شاء لم يعتق ؛ لأن شرط الأوّليّة قد عدم.

__________________

(١) ذكره ابن الأثير في النهاية ٤ / ٣٤٩.

٣٩٨

إذا عرف هذا ، فقوله : (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ) لا يدل على أنه أوّل بيت خلقه الله تعالى ، ولا أنه أول بيت ظهر في الأرض ، بل يدل على أنه أول بيت وضع للناس ، فكونه موضوعا للناس يقتضي كونه مشتركا فيه بين جميع الناس ، وكونه مشتركا فيه بين كل الناس ، لا يحصل إلا إذا كان البيت موضعا للطاعات ، وقبلة للخلق ، فدلّت الآية على أن هذا البيت وضعه الله ـ تعالى ـ للطاعات والعبادات ، فيدخل فيه كونه قبلة للصلوات ، وموضعا للحجّ.

فإن قيل : كونه أولا في هذا الوصف يقتضي أن يكون له ثان ، فهذا يقتضي أن يكون بيت المقدس يشاركه في هذا الصفات ، التي منها وجوب حجّه ، ومعلوم أنه ليس كذلك.

فالجواب من وجهين :

الأول : أن لفظ «الأوّل» ـ في اللغة ـ اسم للشيء الذي يوجد ابتداء ، سواء حصل بعده شيء آخر ، أو لم يحصل ، يقال : هذا أول قدومي مكة ، وهذا أول مال أصبته ، ولو قال : أول عبد أملكه فهو حرّ ، فملك عبدا عتق ـ وإن لم يملك بعده آخر ـ فكذا هنا.

الثاني : أن المراد منه : أول بيت وضع لطاعات الناس وعباداتهم ، وبيت المقدس يشاركه في كونه موضوعا للطاعات والعبادات ، لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا تشدّ الرّحال إلّا لثلاثة مساجد : المسجد الحرام ، والمسجد الأقصى ، ومسجدي هذا» ، وهذا القدر يكفي في صدق كون الكعبة أول بيت وضع للناس ، فأما أن يكون بيت المقدس مشاركا له في جميع الأمور ، حتى في وجوب الحجّ ، فهذا غير لازم.

فصل

قوله تعالى : (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ) يحتمل أن يكون المراد : أنه أول في الوضع والبناء ، وأن يكون أولا في كونه مباركا وهدى ، وفيه قولان للمفسرين.

فعلى الأول فيه أقوال :

أحدها : روى الواحدي في البسيط عن مجاهد أنه قال : خلق الله البيت قبل أن يخلق شيئا من الأرضين.

وفي رواية : «خلق الله موضع هذا البيت قبل أن يخلق شيئا من الأرضين بألفي سنة ، وإنّ قواعده لفي الأرض السّابعة السّفلى».

وروى النووي ـ في مناسكه ـ عن الأزرقيّ ـ في كتاب مكة ـ عن مجاهد قال : إن هذا البيت أحد أربعة عشر بيتا ، في كل سماء بيت ، وفي كل أرض بيت ، بعضهن مقابل بعض.

وروى أيضا عن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنهم ـ عن

٣٩٩

النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ عن الله ـ تعالى ـ قال : «إنّ الله بعث ملائكة ، فقال : ابنوا لي في الأرض بيتا على مثال البيت المعمور ، فبنوا له بيتا على مثاله ، واسمه الضّراح ، وأمر الله من في الأرض من الملائكة ـ الّذين هم سكّان الأرض ـ أن يطوفوا به كما يطوف أهل السّماء بالبيت المعمور وهذا كان قبل خلق آدم بألفي عام وكانوا يحجّونه ، فلمّا حجّه آدم ، قالت الملائكة : برّ حجّك ، حججنا هذا البيت قبلك بألفي عام» (١) ، وروي عن عبد الله بن عمر ومجاهد والسّدّيّ : أنه أول بيت وضع على وجه الماء ، عند خلق الأرض والسماء ، وقد خلقه الله قبل خلق الأرض بألفي عام ، وكان زبدة بيضاء على الماء ، ثم دحيت الأرض من تحته (٢).

قال القفال في تفسيره : روى حبيب بن أبي ثابت عن ابن عباس ، قال : وجد في كتاب ـ في المقام ، أو تحت المقام ـ أنا الله ، ذو بكّة ، وضعتها يوم وضعت الشمس والقمر ، وحرّمتها يوم وضعت هذين الحجرين ، وحففتها بسبعة أملاك حنفاء (٣).

روي : أن آدم لما أهبط إلى الأرض شكا الوحشة ، فأمره الله ـ تعالى ـ ببناء الكعبة ، وطاف بها وبقي ذلك إلى زمان نوح صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلمّا أرسل الله الطوفان ، رفع البيت إلى السماء السابعة ـ حيال الكعبة ـ تتعبد عنده الملائكة ، يدخله كلّ يوم سبعون ألف ملك ، سوى من دخل قبل فيه ، ثم بعد الطوفان اندرس موضع الكعبة ، وبقي مختفيا إلى أن بعث الله جبريل إلى إبراهيم ، ودلّه على مكان البيت ، وأمره بعمارته.

قال القاضي : القول بأنه رفع ـ زمان الطوفان ـ إلى السماء بعيد ؛ لأن موضع التشريف هو تلك الجهة المعينة ، والجهة لا يمكن رفعها إلى السماء ، ألا ترى أن الكعبة لو انهدمت ـ والعياذ بالله ـ ونقلت الحجارة والخشب والتراب إلى موضع آخر لم يكن له شرف ألبتة؟ ويكون شرف تلك الجهة باقيا بعد الانهدام ، ويجب على كل مسلم أن يصلّي إلى تلك الجهة بعينها ، وإذا كان كذلك ، فلا فائدة في رفع تلك الجدران إلى السماء. انتهى.

فدلت هذه الأقوال المتقدمة على أن الكعبة ، كانت موجودة في زمان آدم ـ عليه‌السلام ـ ويؤيده أن الصلوات كانت لازمة في جميع أديان الأنبياء ، لقوله : (أُولئِكَ الَّذِينَ

__________________

(١) ذكره الرازي في «التفسير الكبير» (٨ / ١٢٥) عن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عن أبيه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ٢٠) عن عبد الله بن عمرو والبيهقي في «شعب الإيمان» (٣٩٨٣) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٩٣) وزاد نسبته لابن المنذر والطبراني.

وأخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ٢١ ـ ٢٢) عن مجاهد والسدي مثله.

(٣) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٩٤) وعزاه للأزرقي في «تاريخ مكة» من طريق حبيب بن أبي ثابت عن ابن عباس.

٤٠٠