اللّباب في علوم الكتاب - ج ٥

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ٥

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 2-7451-2298-3
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٦٣٢

فامتنع في قراءة حمزة أن تكون «ما» شرطية ، كما امتنع ـ في قراءة الجمهور ـ أن تكون مصدرية.

وأما قراءة التشديد ففيها أوجه :

أحدها : أن «لمّا» هنا ـ ظرفية ، بمعنى «حين» ثم القائل بظرفيتها اختلف تقديره في جوابها ، فذهب الزمخشري إلى أن الجواب مقدّر من جنس جواب القسم ، فقال : «لمّا» ـ بالتشديد ـ بمعنى «حين» أي حين آتيتكم الكتاب والحكمة ، ثم جاءكم رسول ، وجب عليكم الإيمان به ، ونصرته.

وقال ابن عطية : ويظهر أن «لمّا» هذه هي الظرفية ، أي : لما كنتم بهذه الحال رؤساء الناس وأماثلهم أخذ عليكم الميثاق ؛ إذ على القادة يؤخذ ، فيجيء على هذا المعنى كالمعنى في قراءة حمزة فقدر ابن عطية جوابها من جنس ما سبقها ، وهذا الذي ذهب إليه مذهب مرجوح ، قال به الفارسيّ والجمهور وسيبويه وأتباعه والجمهور.

وقال الزجّاج : أي : لما آتاكم الكتاب والحكمة ، أي : أخذ عليكم الميثاق وتكون لما يؤول إلى الجزاء ، كما تقول : لما جئتني أكرمتك.

وهذه العبارة لا يؤخذ منها كون «لما» ظرفية ، ولا غير ذلك ، إلا أن فيها عاضدا لتقدير ابن عطية جوابها من جنس ما تقدمها ، بخلاف تقدير الزمخشريّ.

الثاني : أن «لمّا» حرف وجوب لوجوب ، وهو مذهب سيبويه ، وجوابها كما تقدم من تقديري ابن عطية والزمخشري ، وفي قول ابن عطية : فيجيء على هذا المعنى كالمعنى في قراءة حمزة ـ نظر ؛ إذ قراءة حمزة فيها تعليل ، وهذه القراءة لا تعليل فيها ، اللهم إلا أن يقال : لما كانت «لمّا» تحتاج إلى جواب أشبه ذلك العلة ومعمولها ؛ لأنك إذا قلت : لما جئتني أكرمتك ؛ في قوة : أكرمتك لأجل مجيئي إليه ، فهي من هذه الجهة كقراءة حمزة.

والثالث : أن الأصل : لمن ما ، فأدغمت النون في الميم ، لأنها تقاربها ، والإدغام ـ هنا ـ واجب ، ولما اجتمع ثلاث ميمات : ميم «من» وميم «ما» والميم التي انقلبت من نون ـ من أجل الإدغام ـ فحصل ثقل في اللفظ ، قال الزمخشريّ : «فحذفوا إحداها».

قال أبو حيّان : وفيه إبهام ، وقد عيّنها ابن جني بأن المحذوف هي الأولى ، وفيه نظر ؛ لأن الثقل إنما حصل بما بعد الأولى ، ولذلك كان الصحيح في نظائره إنما هو حذف الثاني ، في نحو (تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ) [القدر : ٤] وقد ذكر أبو البقاء أن المحذوفة هي النافية ، قال : «لضعفها بكونها بدلا ، وحصول التكرير بها» و «من» هذه التي في لمن ما زائدة في الواجب على رأي الأخفش ـ وهذا تخريج أبي الفتح ، وفيه نظر بالنسبة إلى ادّعائه زيادة «من» ، فإن التركيب يقلق على ذلك ، ويبقى المعنى غير ظاهر.

٣٦١

الرابع : أن الأصل ـ أيضا ـ لمن ما ، ففعل به ما تقدم من القلب والإدغام ، ثم الحذف ، إلا أن «من» ليست زائدة ، بل هي تعليلية ، قال الزمخشريّ : «ومعناه : لمن أجل ما آتيتكم لتؤمنن به ، وهذا نحو من قراءة حمزة في المعنى».

وهذا الوجه أوجه مما تقدمه ؛ لسلامته من ادّعاء زيادة «من» ولوضوح معناه.

وقرأ نافع «آتيناكم» بضمير المعظم نفسه ، كقوله : (وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً) [الإسراء : ٥٥] وقوله : (وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ) [مريم : ١٢] ، والباقون : «آتيتكم» ـ بضمير المتكلم وحده ـ وهو موافق لما قبله وما بعده من صيغة الإفراد في قوله : (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ) و (جاءَكُمْ) و (إِصْرِي).

وفي قوله : «آتيتكم» و «آتيناكم» على كلتا القراءتين ـ التفاتان :

الأول : الخروج من الغيبة إلى التكلم في قوله : «آتينا» أو «آتيت» لأن قبله ذكر الجلالة المعظمة في قوله : (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ).

والثاني : الخروج من الغيبة إلى الخطاب في قوله : «آتيناكم» لأنه قد تقدمه اسم ظاهر ، وهو (النَّبِيِّينَ) إذ لو جرى على مقتضي تقدّم الجلالة والنبيين لكان الترتيب : وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتاهم من كتاب. كذا قال بعضهم ، وفيه نظر ؛ لأن مثل هذا لا يسمّى التفاتا في اصطلاحهم ، وإنما يسمى حكاية الحال ، ونظيره قولك : حلف زيد ليفعلن ، ولأفعلن ، فالغيبة مراعاة لتقدم الاسم الظاهر ، والتكلّم حكاية لكلام الحالف. والآية الكريمة من هذا. وأصل : (لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ ،) لتؤمنوننّ به ولتنصرونن ، فالنون الأولى علامة الرفع ، والمشدّدة بعدها للتوكيد ، فاستثقل توالي ثلاثة أمثال ، فحذفوا نون الرفع ؛ لأنها ليست في القوة كالتي للتوكيد ، فالتقى ـ بحذفها ـ ساكنان ، فحذفت الواو ، لالتقاء الساكنين.

وقرأ عبد الله «مصدّقا» نصب على الحال من النكرة ، وقد قاسه سيبويه ، وإن كان المشهور عنه خلافه ، وحسّن ذلك هنا كون النكرة في قوة المعرفة من حيث إنّها أريد بها شخص معين ـ وهو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم واللام في «لما» ـ زائدة ؛ لأن العامل فرع ـ وهو «مصدّق» ـ والأصل مصدق ما معكم.

فصل

قال بعض العلماء : في الآية إضمار آخر ، وأراح نفسه من تلك التكلّفات المتقدمة ، فقال : تقدير الآية : وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لتبلّغنّ الناس ما آتيتكم من كتاب وحكمة. إلا أنه حذف «لتبلغن» لدلالة الكلام عليه ؛ لأن لام القسم إنما تقع على الفعل ، فلما دلّت هذه اللام على هذا الفعل جاز حذفه اختصارا ، ثم قال بعده : (ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ) وهو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ) وعلى هذا التقدير يستقيم النظم ، ولا

٣٦٢

يحتاج إلى تكلّف ، وإذا كان لا بد من التزام الإضمار ، فهذا الإضمار الذي ينتظم به الكلام نظما جليا أولى.

فصل

والمراد من الكتاب هو المنزّل ، المقروء ، والحكمة هي الوحي الوارد بالتكليف المفصّلة التي لم يشتمل الكتاب عليها.

وكلمة «من» ـ في قوله : (مِنْ كُتُبٍ) تبيين ل «ما» كقولك : ما عندي من الورق دانقان.

وقيل : هذا الخطاب إما أن يكون مع الأنبياء ، فجميع الأنبياء ، ما أوتوا الكتاب ، وإنما أوتي بعضهم ، وإن كان مع الأمم فالإشكال أظهر.

والجواب من وجهين :

الأول : أن جميع الأنبياء أوتوا الكتاب بمعنى كونه مهتديا به ، داعيا إلى العمل به ، وإن لم ينزل عليه.

الثاني : أشرف الأنبياء هم الذين أوتوا الكتاب ، فوصف الكل بوصف أشرفهم.

فإن قيل : ما وجه قوله : (ثُمَّ جاءَكُمْ) والرسول لا يجيء إلى النبيين ، وإنما يجيء إلى الأمم؟

فالجواب : أما إن حملنا قوله تعالى : (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ) على أخذ ميثاق أممهم ، فالسؤال قد زال ، وإن حملناه على أخذ ميثاق النبيين من أنفسهم ، كان قوله : (ثُمَّ جاءَكُمْ) أي : ثم جاءكم في زمانكم.

فإن قيل : كيف يكون محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم مصدقا لما معهم ـ مع مخالفة شرعه لشرعهم ـ؟

فالجواب : أن المراد به حصول الموافقة في التوحيد والنبوات وأصول الشرائع ، أما تفاصيلها فإن وقع خلاف فيها فذاك في الحقيقة ليس بخلاف ؛ لأن جميع الأنبياء متفقون على أن الحق في زمان موسى ليس إلا شرعه ، وأنّ الحقّ في زمان محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليس إلا شرعه ، فهذا وإن كان يوهم الخلاف فهو في الحقيقة وفاق.

وأيضا فالمراد بقوله : (مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ) هو أن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم مصدق لما معهم من صفته ، وأحواله المذكورة في التوراة والإنجيل ، فلما ظهر على أحوال مطابقة لما ذكر في تلك الكتب كان نفس مجيئه تصديقا لما معهم.

والميثاق يحتمل وجهين :

أحدهما : هو أن يكون ما قرر في عقولهم من الدلائل الدالة على أن الانقياد لأمر الله واجب ، فإذا جاء الرسول فهو إنما يكون رسولا عند ظهور المعجزات الدّالّة على

٣٦٣

صدقه ، فإذا أخبرهم بعد ذلك أن الله أمر الخلق بالإيمان به عرفوا ـ عند ذلك ـ وجوبه ، فتقرير هذا الدليل في عقولهم هو المراد من الميثاق.

ويحتمل أن المراد بأخذ الميثاق أنه ـ تعالى ـ شرح صفاته في كتب الأنبياء المتقدّمين ، وإذا صارت مطابقة لما في كتبهم المتقدمة ، وجب الانقياد له ، فقوله تعالى : (ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ) يدل على هذين الوجهين ، أما على الأول فقوله : «رسول» ، وأما على الثاني فقوله (مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ).

قوله : (قالَ أَأَقْرَرْتُمْ) فاعل «قال» يجوز أن يكون ضمير الله ـ تعالى ـ وهو الظاهر ـ وأن يكون ضمير النبي الذي هو واحد النبيين ، خاطب بذلك أمّته ، ومتعلّق الإقرار محذوف ، أي : أقررتم بذلك كله؟ والاستفهام ـ على الأول ـ مجاز ؛ إذ المراد به التقرير والتوكيد عليهم ؛ لاستحالته في حق الباري تعالى ، وعلى الثاني : هو استفهام حقيقة.

و «إصري» على الأول ـ الياء لله ـ تعالى ـ وعلى الثاني للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقرأ العامة (إِصْرِي) بكسر الهمزة ، وهي الفصحى ، وقرأ أبو بكر عن عاصم ـ في رواية ـ «أصري» (١) بضمها ثم المضموم الهمزة يحتمل أن يكون لغة في المكسور ـ وهو الظاهر ـ ويحتمل أن يكون جمع إصار ومثله أزر في جميع إزار ، والإصر : الثقل الذي يلحق الإنسان ؛ لأجل ما يلزمه من عمل ، قال الزمخشري : «سمّي العهد إصرا ؛ لأنه مما يؤصر ، أي : يشدّ ، ويعقد ، ومنه الإصار الذي يعقد به» وتقدم الكلام عليه في آخر البقرة.

فصل

إذا قلنا : إن الله ـ تعالى ـ هو الذي أخذ الميثاق على النبيين كان قوله (أَأَقْرَرْتُمْ) معناه : أأقررتم بالإيمان به ، والنّصر له.

وذلك حين استخرج الذرية من صلب آدم والأنبياء فيهم كالمصابيح ـ وأخذ عليهم الميثاق في أمر محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم قال : (أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي؟) أي قبلتم على ذلكم عهدي.

والإصر : العهد الثقيل ؛ والإقرار في اللغة منقول بالألف من قرّ الشيء يقرّ إذا ثبت ولزم مكانه ، وأقره غيره ، والمقرّ بالشيء ، يقرّه على نفسه ، أي : يثبته.

والأخذ بمعنى القبول كثير في كلامهم ، قال تعالى : (وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ) [البقرة : ٤٨] أي : لا تقبل فدية.

__________________

(١) انظر : السبعة ٢١٤ ، والحجة ٣ / ٧٠ ، والمحرر الوجيز ١ / ٤٦٧ ، والبحر المحيط ٢ / ٥٣٥ ، ٥٣٦ ، والدر المصون ٢ / ١٥٧.

٣٦٤

وقال : (وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ) [التوبة ؛ ١٠٤] أي : يقبلها.

وقوله : (أَقْرَرْنا) أي : بالإيمان به ، وبنصرته ، وفي الكلام حذف جملة ، حذفت لدلالة ما تقدم عليها ؛ إذ التقدير : قالوا : أقررنا ، وأخذنا إصرك على ذلك كلّه.

وقوله : (فَاشْهَدُوا) هذه الفاء عاطفة على جملة مقدّرة ، والتقدير : قال : أأقررتم؟ فاشهدوا ، ونظير ذلك : ألقيت زيدا؟ قال : لقيته ، قال : فأحسن إليه. التقدير : ألقيت زيدا ، فأحسن إليه ، فما فيه الفاء بعض المقول ، ولا جائز أن يكون كل المقول ؛ لأجل الفاء ، ألا ترى قوله : (قالَ أَأَقْرَرْتُمْ) وقوله : (قالُوا أَقْرَرْنا).

لو كان كلّ المقول لم تدخل الفاء ، قاله أبو حيان.

فصل

في معنى قوله : (فَاشْهَدُوا) وجوه :

الأول : فليشهد بعضكم على بعض بالإقرار ، (وَأَنَا مَعَكُمْ) أي : وأنا على إقراركم ، وإشهاد بعضكم بعضا (مِنَ الشَّاهِدِينَ) وهذا توكيد وتحذير من الرجوع إذا علموا شهادة الله ، وشهادة بعضهم على بعض.

الثاني : أن هذا خطاب للملائكة بأن يشهدوا عليهم ، قاله سعيد بن المسيّب.

الثالث : أن قوله : (فَاشْهَدُوا) إشهاد على نفسه ، ونظيره قوله : (وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا) [الأعراف : ١٧٢] وهذا باب من المبالغة.

الرابع : فاشهدوا ، أي : بيّنوا هذا الميثاق للخاصّ والعامّ ؛ لكي لا يبقى لأحد عذر في الجهل به ، وأصله أن الشاهد يبيّن صدق الدّعوى.

الخامس : قال ابن عبّاس : (فَاشْهَدُوا) أي : فاعلموا ، واستيقنوا ما قررته عليكم من هذا الميثاق ، وكونوا فيه كالمشاهد للشيء المعاين له.

السادس : إذا قلنا : إنّ أخذ الميثاق كان من الأمم ، فقوله : (فَاشْهَدُوا) خطاب للأنبياء بأن يكونوا شاهدين عليهم. قوله : (مِنَ الشَّاهِدِينَ) هذا هو الخبر ؛ لأنه محط الفائدة. وأما قوله : (مَعَكُمْ) فيجوز أن يكون حالا ، أي : وأنا من الشاهدين مصاحبا لكم ، ويجوز أن يكون منصوبا ب «الشّاهدين» ظرفا له عند من يرى تجويز ذلك ـ ويمتنع أن يكون هذا هو الخبر ؛ إذ الفائدة به غير تامة في هذا المقام.

والجملة من قوله : (وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ) يجوز ألا يكون لها محل ؛ لاستئنافها. ويجوز أن تكون في محل نصب على الحال من فاعل (فَاشْهَدُوا) والمقصود من هذا الكلام التأكيد ، وتقوية الإلزام. قوله : (فَمَنْ تَوَلَّى) يجوز أن تكون «من» شرطية ، فالفاء ـ في «فأولئك» جوابها. والفعل الماضي ينقلب مستقبلا في الشرط. وأن تكون موصولة ، ودخلت الفاء لشبه المبتدأ باسم الشرط ، فالفعل بعدها على الأول ـ في محل جزم ،

٣٦٥

وعلى الثاني لا محل له ؛ لكونه صلة ، وأما «فأولئك» ففي محل جزم أيضا ـ على الأول ، ورفع الثاني ، لوقوعه خبرا و «هم» يجوز أن يكون فصلا ، وأن يكون مبتدأ.

ومعنى الآية : من أعرض عن الإيمان بهذا الرسول ، وبنصرته ، والإقرار له (فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) الخارجون عن الإيمان.

قوله تعالى : (أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ)(٨٣)

الجمهور يجعلون الهمزة مقدّمة على الفاء ، للزومها الصدر ، والزمخشري يقرها على حالها ، ويقدّر محذوفا قبلها ، وهنا جوّز وجهين :

أحدهما : أن تكون الفاء عاطفة جملة على جملة ، والمعنى : فأولئك هم الفاسقون ، فغير دين الله يبغون ، ثم توسطت الهمزة بينهما.

والثاني : أن تعطف على محذوف ، تقديره أيتولون ، فغير دين الله يبغون؟ لأن الاستفهام إنما يكون عن الأفعال والحوادث ، وهو استفهام استنكار ، وقدم المفعول ـ الذي هو «غير» ـ على فعله ؛ لأنه أهم من حيث أن الإنكار ـ الذي هو معنى الهمزة ـ متوجّه إلى المعبود الباطل ، هذا كلام الزمخشريّ.

قال أبو حيان : «ولا تحقيق فيه ؛ لأن الإنكار ـ الذي هو معنى الهمزة ـ لا يتوجه إلى الذوات ، وإنما يتوجه إلى الأفعال التي تتعلق بالذوات ، فالذي أنكر إنما هو الابتغاء ، الذي متعلقه غير دين الله ، وإنما جاء تقديم المفعول من باب الاتساع ، ولشبه «يبغون» بالفاصلة ، فأخّر الفعل».

وقرأ أبو عمرو وحفص عن عاصم (١) «يبغون» من تحت ـ نسقا على قوله : (هُمُ الْفاسِقُونَ) والباقون بتاء الخطاب ، التفاتا لقوله : (لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ) ولقوله: (أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ).

وأيضا فلا يبعد أن يقال للمسلم والكافر ، ولكل أحد : أفغير دين الله تبغون مع علمكم أنه أسلم له من في السموات والأرض وأن مرجعكم إليه؟ ونظيره قوله : (وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ) [آل عمران : ١٠١].

قال ابن الخطيب : ذكر المفسّرون في سبب النزول أن أهل الكتاب اختصموا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فادّعى كلّ واحد من الفريقين أنه على دين إبراهيم ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم كلا الفريقين بريء من إبراهيم ، فغضبوا وقالوا : والله لا نرضى بقضائك ، ولا نأخذ بدينك ، فنزل قوله : (أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ).

__________________

(١) انظر : السبعة ٢١٤ ، والكشف ١ / ٢٥٣ ، والعنوان ٨٠ ، والحجة للقراء السبعة ٣ / ٦٩ ، وحجة القراءات ١٧٠ ، وشرح شعلة ٣٢٠ ، وشرح الطيبة ٤ / ١٦٢ ، وإتحاف ١ / ٤٨٤.

٣٦٦

قال ابن الخطيب : ويبعد عندي حمل هذه الآية على هذا السبب ؛ لأن على هذا التقدير ـ الآية منقطعة عما قبلها ، والاستفهام على سبيل الإنكار يقتضي تعلّقها بما قبلها ، وإنما الوجه في الآية أن هذا الميثاق لما كان مذكورا في كتبهم ، وهم كانوا عارفين بذلك ، وعالمين بصدق محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم في النبوة ، فلم يبق كفرهم إلا مجرد عناد وحسد وعداوة ، فصاروا كإبليس حين دعاه الحسد إلى الكفر ، فأعلمهم ـ تعالى ـ أنهم متى كانوا كذلك كانوا طالبين دينا غير دين الله ـ تعالى ـ ثم بيّن لهم أن التمرّد على الله ، والإعراض عن حكمه مما لا يليق بالعقل ، فقال : (وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ).

قوله : «وله أسلم من في السموات» جملة حالية ، أي : كيف يبغون غير دينه ، والحال هذه ، وفي قوله : (طَوْعاً وَكَرْهاً) وجهان :

أحدهما : أنهما مصدران في موضع الحال ، والتقدير : طائعين وكارهين.

الثاني : أنهما مصدران على غير المصدر ، قال أبو البقاء : «لأن «أسلم» بمعنى انقاد ، وأطاع» وتابعه أبو حيان على هذا.

وفيه نظر ؛ من حيث إن هذا ماش في «طوعا» لموافقته معنى الفعل قبله ، وأما «كرها» ، كيف يقال فيه ذلك؟ والقول بأنه يغتفر في التوالي ما لا يغتفر في الأوائل ، غير نافع هنا.

ويقال يطاع يطوع ، وأطاع يطيع بمعنى ، قاله ابن السّكيت ، وقول : طاعه يطوعه : انقاد له ، وأطاعه ، أي : رضي لأمره ، وطاوعه ، أي : وافقه.

قرأ الأعمش : «وكرها» ـ بالضم (١) ـ وسيأتي أنها قراءة الأخوين في سورة النساء.

قال الحسن : أسلم من في السموات طوعا ، وأسلم من في الأرض بعضهم طوعا ، وبعضهم خوفا من السيف والسّبي (٢).

وقال مجاهد (٣) : «طوعا» المؤمن ، و «كرها» ظل الكافر ، بدليل قوله : (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ) [الرعد : ١٥].

وقيل هذا يوم الميثاق ، حين قال : (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى) [الأعراف : ١٧٢] فقال بعضهم طوعا ، وبعضهم كرها.

قال قتادة (٤) : المؤمن أسلم طوعا فنفعه ، والكافر أسلم كرها في وقت اليأس ، فلم

__________________

(١) انظر : البحر المحيط ٢ / ٥٣٩ ، والدر المصون ٢ / ١٥٨.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٥٦٧) عن الحسن.

(٣) البغوي ١ / ٣٢٣.

(٤) المصدر السابق.

٣٦٧

ينفعه ، قال تعالى : (فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا) [غافر : ٨٥].

قال الشعبي (١) : وهو استعاذتهم به عند اضطرارهم ، كقوله : (فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) [العنكبوت : ٦٥].

قال الكلبيّ : «طوعا» الذي ولد في الإسلام «وكرها» الذين أجبروا على الإسلام.

قال ابن الخطيب : كل أحد منقاد ـ طوعا أو كرها ـ فالمسلمون منقادون لله طوعا فيما يتعلق بالدّين ، ومنقادون له فيما يخالف طباعهم من الفقر والمرض والموت وأشباهه. وأما الكافرون ، فهم منقادون لله كرها على كل حال ؛ لأنهم لا ينقادون لله فيما يتعلق بالدّين ، وفي غير ذلك مستسلمون له ـ سبحانه ـ كرها ، لا يمكنهم دفع قضائه وقدره.

وقيل : كل الخلق منقادون للإلهية طوعا ، بدليل قوله : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ) [لقمان : ٢٥] ومنقادون لتكاليفه وإيجاده للآلام كرها.

قوله : (وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ) يجوز أن تكون هذه الجملة مستأنفة ، فلا محل لها ، وإنما سيقت للإخبار بذلك ؛ لتضمنها معنى التهديد العظيم ، والوعيد الشديد. ويجوز أن تكون معطوفة على الجملة من قوله : (وَلَهُ أَسْلَمَ) فتكون حالا ـ أيضا ـ ويكون المعنى : أنه نعى عليهم ابتغاء غير دين من أسلم له جميع من في السموات والأرض ـ طائعين ومكرهين ـ ومن مرجعهم إليه.

قرأ حفص ـ عن عاصم ـ «يرجعون» بياء الغيبة ـ ويحتمل ذلك وجوها :

أحدها : أن يعود الضمير على من (أَسْلَمَ).

الثاني : أن يعود على من عاد عليه الضمير في «يبغون» في قراءة من قرأ بالغيبة ، ولا التفات في هذين.

والثالث : أن يعود على من عاد عليه الضمير في «تبغون» ـ في قراءة الخطاب ـ فيكون التفاتا حينئذ. وقرأ الباقون ـ «تبغون» ـ بالخطاب ـ وهو واضح ، ومن قرأه بالغيبة كان التفاتا منه.

ويجوز أن يكون التفاتا من قوله : (مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ).

قوله تعالى : (قُلْ آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَما أُنْزِلَ عَلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ)(٨٤)

وفي هذه الآية احتمالان :

__________________

(١) المصدر السابق.

٣٦٨

أحدهما : أن يكون المأمور بهذا القول ـ وهو «آمنّا» إلى آخره ـ هو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم في ذلك معنيان :

أحدهما : أن يكون هو وأمته مأمورين بذلك ، وإنما حذف معطوفه ؛ لفهم المعنى ، والتقدير: قل يا محمد أنت وأمتك : آمنا بالله ، كذا قدّره ابن عطية.

والثاني : أن المأمور بذلك نبينا وحده ، وإنما خوطب بلفظ الجمع ؛ تعظيما له.

قال الزمخشري : «ويجوز أن يؤمر بأن يتكلم عن نفسه كما يتكلم الملوك ؛ إجلالا من الله ـ تعالى ـ لقدر نبيّه».

والاحتمال الثاني : أن يكون المأمور بهذا القول من تقدم ، والتقدير : قل لهم : قولوا : آمنا ، ف «آمنّا» منصوب ب «قل» على الاحتمال الأول ، وب «قولوا» المقدّر على الاحتمال الثاني ، وذلك القول المضمر منصوب المحل.

وهذه الآية شبيهة بالتي في البقرة ، إلا أنّ هنا عدّى «أنزل» ب «على» وهناك عدّاه ب «إلى».

قال الزمخشري : لوجود المعنيين جميعا ؛ لأن الوحي ينزل من فوق ، وينتهي إلى الرسل ، فجاء تارة بأحد المعنيين ، وأخرى بالآخر.

قال ابن عطية : «الإنزال على نبيّ الأمة إنزال عليها» وهذا ليس بطائل بالنسبة إلى طلب الفرق.

قال الراغب : «إنما قال ـ هنا ـ «على» ، لأن ذلك لما كان خطابا للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكان واصلا إليه من الملأ الأعلى بلا واسطة بشرية ، كان لفظ «على» المختص بالعلوّ أولى به ، وهناك لما كان خطابا للأمة ، وقد وصل إليهم بواسطة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان لفظ «إلى» المختص بالاتصال أولى.

ويجوز أن يقال : «أنزل عليه» ، إنما يحمل على ما أمر المنزّل عليه أن يبلّغه غيره. وأنزل إليه ، يحمل على ما خصّ به في نفسه ، وإليه نهاية الإنزال ، وعلى ذلك قال تعالى : (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ) [العنكبوت : ٥١] وقال : (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) [النحل : ٤٤] خص هنا ب «إلى» لما كان مخصوصا بالذكر الذي هو بيان المنزل ، وهذا كلام في الأولى لا في الوجوب».

وهذا الذي ذكره الراغب ردّه الزمخشريّ ، فقال : «ومن قال : إنما قيل : «علينا» لقوله : «قل» و «إلينا» لقوله : «قولوا» ، تفرقة بين الرسول والمؤمنين ؛ لأن الرسول يأتيه الوحي عن طريق الاستعلام ، ويأتيهم على وجه الانتهاء ، فقد تعسّف ؛ ألا ترى إلى قوله : (بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) [البقرة : ٤] وقوله : (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ) [المائدة : ٤٨] وقوله : (آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ) [آل عمران : ٧٢] وفي البقرة : (وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ)

٣٦٩

[البقرة : ١٣٦] وهنا : «والنّبيّون» ، لأن التي في البقرة لفظ الخطاب فيها عام ، ومن حكم خطاب العام البسط دون الإيجاز ، بخلاف الخطاب هنا ، لأنه خاص ، فلذلك اكتفى فيه بالإيجاز دون الإطناب».

قال ابن الخطيب : قدّم الإيمان بالله على الإيمان بالأنبياء ؛ لأن الإيمان بالله أصل الإيمان بالنبوة ، ثم في المرتبة الثانية قدم ذكر الإيمان بما أنزل عليه ؛ لأن كتب سائر الأنبياء حرّفوها وبدّلوها ، فلا سبيل إلى معرفة أحوالها إلا بالإيمان بما أنزل على محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فكأن ما أنزل على محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم كالأصل لما أنزل على سائر الأنبياء ، فلذا قدّمه ، وفي المرتبة الثالثة ذكر بعض الأنبياء ، وهم الأنبياء الذين يعترف أهل الكتاب بوجودهم ، ويختلفون في نبوتهم ، والأسباط : هم أسباط يعقوب الذين ذكر الله ـ تعالى ـ أممهم الاثنتي عشرة في سورة الأعراف.

فصل

قوله : (وَالنَّبِيُّونَ) بعد قوله : (وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى) من باب عطف العامّ على الخاص.

اختلف العلماء في كيفية الإيمان بالأنبياء المتقدّمين الذين نسخت شرائعهم. وحقيقة الخلاف أن شرعه لما صار منسوخا ، فهل تصير نبوّته منسوخة؟ فمن قال : إنها تصير منسوخة قال : نؤمن بأنهم كانوا أنبياء ورسلا ، ولا نؤمن بأنهم أنبياء ورسل في الحال.

ومن قال : إن نسخ الشريعة لا يقتضي نسخ النبوة ، قال : نؤمن بأنهم أنبياء ورسل في الحال ، فتنبّه لهذا الموضع.

فصل

قال ابن الخطيب : اختلفوا في معنى قوله : (لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ) فقال الأصمّ : الفرقان قد يكون بتفضيل البعض على البعض ، وقد يكون بالقول بأنهم كانوا على سبيل واحد في الطاعة لله ـ تعالى ـ والمراد أن تفرقاتهم بأسرها كانت على دين واحد في الدعوة إلى الله ـ تعالى ـ وفي الانقياد لتكاليف الله ـ وهذا هو المراد.

وقال بعضهم : (لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ) بأن نؤمن ببعض دون بعض ـ كما فرّقت اليهود والنصارى.

وقال أبو مسلم : لا نفرق ما جمعوا ، وهو كقوله تعالى : (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا) [آل عمران : ١٠٣] وذمّ قوما ووصفهم بالتفرّق ، فقال : (لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) [الأنعام : ٩٤].

قوله : (وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) فيه وجوه :

الأول : أن إقرارنا بنبوّة هؤلاء الأنبياء إنما كان لأننا منقادون لله ـ تعالى ـ

٣٧٠

مستسلمون لحكمه ، وفيه تنبيه على أن حاله على خلاف الذين خاطبهم الله بقوله : (أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ).

قال أبو مسلم : (وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) أي : مستسلمون لأمره بالرضا ، وترك المخالفة ، وتلك صفة المؤمنين بالله ، وهم أهل السلم ، والكافرون أهل الحرب ، لقوله تعالى : (إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ) [المائدة : ٣٣].

قال ابن الخطيب : (وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) يفيد الحصر ، والتقدير : له أسلمنا لا لغرض آخر من سمعة ، ورياء ، وطلب مال ، وهذا تنبيه على أن حالهم بالضّدّ من ذلك.

قوله تعالى : (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ)(٨٥)

العامة يظهرون هذين المثلين في (يَبْتَغِ غَيْرَ) لأن بينهما فاصلا فلم يلتقيا في الحقيقة ، وذلك الفاصل هو الياء التي حذفت للجزم.

وروي عن أبي عمرو فيها الوجهان :

الإظهار على الأصل ، ولمراعاة الفاصل الأصليّ.

والإدغام ؛ مراعاة للفظ ؛ إذ يصدق أنهما التقيا في الجملة ، ولأن ذلك مستحقّ الحذف لعامل الجزم.

وليس هذا مخصوصا بهذه الآية ، بل كل ما التقى فيه مثلان بسبب حذف حرف لعلة اقتضت ذلك جرى فيها الوجهان ، نحو : (يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ) [يوسف : ٩] وقوله : (وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ) [غافر : ٢٨].

وقد استشكل على هذا نحو (وَيا قَوْمِ ما لِي أَدْعُوكُمْ) [غافر : ٨٤] ونحو : (وَيا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي) [هود : ٣٠] فإنه لم يرو عن أبي عمرو خلاف في إدغامها ، وكان القياس يقتضي جواز الوجهين ، لأن ياء المتكلم فاصلة تقديرا.

قوله : «دينا» فيه ثلاثة أوجه :

أحدها : أنه مفعول «يبتغ» و «غير الإسلام» حال ؛ لأنها في الأصل صفة له ، فلما قدّمت نصبت حالا.

الثاني : أن يكون تمييزا ل «غير» لإبهامها ، فميّزت كما ميّزت «مثل» و «شبه» وأخواتهما ، وسمع من العرب : إن لنا غيرها إبلا وشاء.

والثالث : أن يكون بدلا من «غير». وعلى هذين الوجهين ف (غَيْرَ الْإِسْلامِ) هو المفعول به ل «يبتغ».

وقوله : (وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ) يجوز أن لا يكون لهذه الجملة محلّ ؛

٣٧١

لاستئنافها ، ويجوز أن تكون في محل جزم ؛ نسقا على جواب الشرط ـ وهو (فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ) ـ ويكون قد ترتب على ابتغاء غير الإسلام دينا الخسران وعدم القبول.

فصل

لما تقدم قوله تعالى : (وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) بيّن أن الدين ليس إلا الإسلام ، وأن كل دين غيره ليس بمقبول ؛ لأن معنى قبول العمل أن يرضى الله ذلك العمل ، ويثيب فاعله عليه ، قال تعالى (إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) [المائدة : ٢٧] وما لم يكن مقبولا كان صاحبه من الخاسرين في الآخرة بحرمان الثواب ، وحصول العقاب ، مع الندامة على ما فاته من العمل الصالح ، مع التعب والمشقة في الدنيا في ذلك الدين الباطل.

فصل

قال المفسرون : نزلت هذه الآية في اثني عشر رجلا ارتدّوا عن الإسلام ، وخرجوا من المدينة ، وأتوا مكة كفّارا منهم الحرث بن سويد الأنصاريّ ، فنزل قول الله تعالى : (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ) والخسران في الآخرة يكون بحرمان الثّواب ، وحصول العقاب ، والتأسّف على ما فاته في الدنيا من العمل الصالح ، والتحسّر على ما تحمّله من التعب والمشقة في تقرير دينه الباطل.

وظاهر هذه الآية يدل على أن الإيمان هو الإسلام ؛ إذ لو كان غيره لوجب أن لا يكون الإيمان مقبولا ؛ لقوله تعالى : (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ) إلا أن ظاهر قوله تعالى : (قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا) [الحجرات : ١٤] يقتضي التغاير بينهما ، ووجه التوفيق بينهما أن تحمل الآية الأولى على العرف الشرعيّ ، والآية الثانية على الموضع اللغويّ.

قوله تعالى : (كَيْفَ يَهْدِي اللهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)(٨٦)

الاستفهام فيه كقوله : (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ) [البقرة : ٢٨].

وقيل : الاستفهام ـ هنا ـ معناه النّفي كقوله : [الخفيف]

١٥٣٢ ـ كيف نومي على الفراش ولمّا

تشمل الشّام غارة شعواء؟ (١)

وقول الآخر : [الطويل]

__________________

(١) البيت لعبيد الله بن قيس الرقيات. ينظر ديوانه (٩٥) وابن يعيش ٩ / ٣٦ وابن الشجري ١ / ٣٨٣ ومقاييس اللغة ٣ / ١٩٠ والخزانة ٧ / ٢٨٧ و ١١ / ٣٧٧ وتذكرة النحاة ص ٤٤٤ ومعاني الفراء ٣ / ٣٠٠ واللسان (شعا) والعقد الفريد ٤ / ٤٠٦ والبحر المحيط ٢ / ٥٤١ والدر المصون ٢ / ١٦٠.

٣٧٢

١٥٣٣ ـ فهذي سيوف يا صديّ بن مالك

كثير ، ولكن كيف بالسّيف ضارب؟ (١)

يعني : أين بالسيف؟

(وَشَهِدُوا) في هذه الجملة ثلاثة أوجه :

أحدها : أنها معطوفة على «كفروا» و «كفروا» في محل نصب ؛ نعتا ل «قوما» أي: كيف يهدي من جمع بين هذين الأمرين ، وإلى هذا ذهب ابن عطية والحوفيّ وأبو البقاء ، وردّه مكيّ ، فقال : لا يجوز عطف «شهدوا» على «كفروا» لفساد المعنى. ولم يبيّن جهة الفساد ، فكأنه فهم الترتيب بين الكفر والشهادة ، فلذلك فسد المعنى عنده. وهذا غير لازم ؛ فإن الواو لا تقتضي ترتيبا ، ولذلك قال ابن عطية : «المعنى مفهوم أن الشهادة قبل الكفر ، والواو لا ترتّب».

الثاني : أنها في محل نصب على الحال من واو «كفروا» فالعامل فيها الرافع لصاحبها ، و «قد» مضمرة معها على رأي ـ أي كفروا وقد شهدوا ، وإليه ذهب جماعة كالزمخشريّ ، وأبي البقاء وغيرهما.

قال أبو البقاء : «ولا يجوز أن يكون العامل «يهدي» ؛ لأنه يهدي من شهد أن الرسول حق».

يعني أنه لا يجوز أن يكون حال من «قوما» والعامل في الحال «يهدي» لما ذكر من فساد المعنى.

الثالث : أن يكون معطوفا على «إيمانهم» لما تضمّنه من الانحلال لجملة فعلية ؛ إذ التقدير : بعد أن آمنوا وشهدوا ، وإلى هذا ذهب جماعة.

قال الزمخشريّ : أن يعطف على ما في «إيمانهم» من معنى الفعل ؛ لأن معناه : بعد أن آمنوا ، كقوله : (فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ) [المنافقون : ١٠] وقول الشاعر : [الطويل]

١٥٣٤ ـ مشائيم ليسوا مصلحين عشيرة

ولا ناعب إلّا ببين غرابها (٢)

وجه تنظيره ذلك بالآية والبيت يوهم ما يسوّغ العطف عليه في الجملة ، كذا يقول النحاة : جزم على التوهم أي لسقوط الفاء ؛ إذ لو سقطت لانجزم في جواب التحضيض ، ولذا يقولون : توهّم وجود الباء فجرّ.

__________________

(١) ينظر ابن الشجري ١ / ٢٦٧ ومعاني الفراء ١ / ١٦٤ والبحر المحيط ٢ / ٥٤١ والأشباه والنظائر ٤ / ١٩٢ والمذكر والمؤنث ١ / ٢٠٤ والدر المصون ٢ / ١٦١.

(٢) البيت للفرزدق وقيل للأحوص الرياحي. ينظر الكتاب (١ / ١٦٥) ، (٣ / ٢٩) والإنصاف ١ / ١٩٣ والخصائص (٢ / ٣٥٤) والمغني (٢ / ٤٧٥) والجاحظ في البيان ٢ / ٢٦١ وروح المعاني ١٢ / ٩٨ والخزانة ٤ / ١٥٨ والأشموني ٢ / ٢٣٥ وابن يعيش ٢ / ٥٢ والكشاف ١ / ٤٤٢ و ٢ / ٢٨١ ورغبة الآمل ٤ / ٩٣ وضرائر الشعر ص ٢٨٠ والدر المصون ٢ / ١٦١.

٣٧٣

وفي العبارة ـ بالنسبة إلى القرآن ـ سوء أدب ، ولكنهم لم يقصدوا ذلك.

وكان تنظير الزمخشري بغير ذلك أولى ، كقوله : (إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ وَأَقْرَضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً) [الحديد : ١٨].

إذ هو في قوة : إن الذين تصدقوا وأقرضوا.

وقال الواحدي : «عطف الفعل على المصدر ؛ لأنه أراد بالمصدر الفعل ، تقديره : كفروا بالله بعد أن آمنوا ، فهو عطف على المعنى ، كقوله : [الوافر]

١٥٣٥ ـ للبس عباءة وتقرّ عيني

أحبّ إليّ من لبس الشّفوف (١)

معناه : لأن ألبس عباءة وتقرّ عيني».

وظاهر عبارة الزمخشري والواحدي أن الأول مؤوّل لأجل الثاني ، وهذا ليس بظاهر ؛ لأنا إنما نحتاج إلى ذلك لكون الموضع يطلب فعلا ، كقوله : (إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ) لأن الموصول يطلب جملة فعلية ، فاحتجنا أن نتأول اسم الفاعل بفعله ، وعطفنا عليه و «أقرضوا» وأما «بعد إيمانهم» وقوله : «للبس عباءة» ، فليس الاسم محتاجا إلى فعل ، فالذي ينبغي هو أن نتأوّل الثاني باسم ؛ ليصحّ عطفه على الاسم الصريح قبله ، وتأويله بأن تأتي معه ب «أن» المصدريّة مقدّرة ، تقديره : بعد إيمانهم وأن شهدوا أي وشهادتهم ، ولهذا تأول النحويون قوله : للبس عباءة وتقرّ : وأن تقرّ ، إذ التقدير : وقرة عيني ، وإلى هذا ذهب أبو البقاء ، فقال : «التقدير : بعد أن آمنوا وأن شهدوا ، فيكون في موضع جر ، يعني أنه على تأويل مصدر معطوف على المصدر الصحيح المجرور بالظرف».

وكلام الجرجاني فيه ما يشهد لهذا ، ويشهد لتقدير الزمخشريّ ؛ فإنه قال : قوله : «وشهدوا» منسوق على ما يمكن في التقدير ، وذلك أن قوله : «بعد إيمانهم» يمكن أن يكون : بعد أن آمنوا ، و «أن» الخفيفة مع الفعل بمنزلة المصدر ، كقوله : (وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ) [البقرة : ١٨٤] ، أي : والصوم.

ومثله مما حمل فيه على المعنى قوله تعالى : (وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ) [الشورى : ٥١] فهو عطف على قوله : «إلا وحيا» ويمكن فيه : إلّا أن يوحي إليه ، فلما كان قوله : «إلا وحيا» بمعنى : إلا أن يوحي إليه ، حمله على ذلك.

ومثله من الشعر : [الطويل]

١٥٣٦ ـ فظلّ طهاة اللّحم من بين منضج

صفيف شواء أو قدير معجّل (٢)

__________________

(١) تقدم برقم ٧٦٢.

(٢) البيت لامرىء القيس ينظر ديوانه ص ٢٢ ، وجمهرة اللغة ص ٩٢٩ ، وجواهر الأدب ص ٢١١ ، وخزانة الأدب ١١ / ٤٧ ، ٢٤٠ ، والدرر ٦ / ١٦١ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٨٥٧ ، وشرح عمدة ـ

٣٧٤

خفض قوله : قدير ؛ لأنه عطف على ما يمكن في قوله : منضج ؛ لأنه أمكن أن يكون مضافا إلى الصفيف ، فحمله على ذلك ، فإتيانه بهذا البيت نظير إتيان الزمخشريّ بهذه الآية الكريمة والبيت المتقدمين ؛ لأنه جر «قدير» ـ هنا ـ على التوّهم ، كأنه توهّم إضافة اسم الفاعل إلى مفعوله ؛ تخفيفا ، فجرّ على التوهّم كما توهم الآخر وجود الباء في قوله : ليسوا مصلحين ؛ لأنها كثيرا ما تزاد في خبر «ليس».

فإن قيل : إذا كان تقدير الآية : كيف يهدي الله قوما كفروا بعد الإيمان وبعد الشهادة بأن الرسول حق ، وبعد أن جاءهم البيّنات ، فعطف الشهادة بأن الرسول حقّ يقتضي أنه مغاير للإيمان.

فالجواب : أن الإيمان هو التصديق بالقلب ، والشهادة هي الإقرار باللسان ، فهما متغايران.

وقوله : «أن الرسول» الجمهور على أنه وصف بمعنى المرسل ، وقيل : هو بمعنى الرسالة ، فيكون مصدرا ، وقد تقدم.

فصل

في سبب النزول أقوال :

الأول : قال ابن عباس : نزلت في عشرة رهط ، كانوا آمنوا ، ثم ارتدّوا ، ولحقوا بمكة ، ثم أخذوا يتربصون به ريب المنون ، فأنزل الله فيهم هذه الآية ، وكان منهم من آمن ، فاستثنى التائب منهم بقوله : «إلّا الذين تابوا» (١).

الثاني : روي ـ أيضا ـ عن ابن عباس أنها نزلت في يهود قريظة والنضير ، ومن دان بدينهم ، كفروا بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد أن كانوا مؤمنين به قبل بعثه ، وكانوا يشهدون له بالنبوة ، فلما بعث ، وجاءهم بالبينات والمعجزات كفروا بغيا وحسدا (٢).

الثالث : نزلت في الحرث بن سويد الأنصاري حين ندم على ردّته ، فأرسل إلى قومه أن سلوا : هل لي من توبة؟ فأرسل إليه أخوه بالآية ، فأقبل إلى المدينة ، وتاب ، وقبل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم توبته. قال (٣) القفال : للناس في هذه الآية قولان :

__________________

ـ الحافظ ص ٦٢٨ ، ولسان العرب ٩ / ١٩٥ (صفف) ، ١٥ / ١٦ (طها) والمقاصد النحوية ٤ / ١٤٦ ، والاشتقاق ص ٢٣٣ ، وشرح الأشموني ٢ / ٤٢٤ ، ومغني اللبيب ٢ / ٤٦٠ ، وهمع الهوامع ٢ / ١٤١ ، والدر المصون ٢ / ١٦٢.

(١) ذكره الرازي في التفسير الكبير ٨ / ١١١.

(٢) ينظر الرازي في التفسير الكبير ٨ / ١١١.

(٣) أخرجه الطبري (٦ / ٥٧٣) ومسدد في «مسنده» كما في «المطالب العالية» (٣ / ٣١٤) رقم (٣٥٦٩) عن مجاهد.

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٨٧) وزاد نسبته لعبد الرزاق وابن المنذر والباوردي في «معرفة الصحابة».

٣٧٥

منهم من قال : إنّ قوله تعالى : (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً) وما بعده إلى قوله : (وَأُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ) نزل جميعه في قصة واحدة ، ومنهم من قال : ابتداء القصة من قوله «إلا الذين تابوا» إلى «إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار» على التقديرين ففيها ـ أيضا ـ قولان :

أحدهما : أنها في أهل الكتاب.

والثاني : أنها في قوم مرتدين عن الإسلام ، آمنوا ثم ارتدوا.

فصل

قالت المعتزلة : أصولنا تشهد بأن الله هدى جميع الخلق إلى الدّين ؛ بمعنى : التعريف ووضع الدلائل وفعل الألطاف ، فلو لم يعمّ الكلّ بهذه الأشياء لصار الكافر والضالّ معذورا ، ثم إنه تعالى ـ حكم بأنه لم يهد هؤلاء الكفار ، فلا بد من تفسير هذه الهداية بشيء آخر سوى نصب الدلائل ، ثم ذكروا فيه وجوها :

الأول : أن المراد من هذه الهداية منع الألطاف التي يؤتيها المؤمنين ؛ ثوابا لهم على إيمانهم ، كقوله : (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا) [العنكبوت : ٦٩] وقوله : (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً) [محمد : ١٧] وقوله : (يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ) [المائدة : ١٦] فهذه الآيات تدل على أن المهتدي قد يزيده الله هدى.

الثاني : أن المراد أنه ـ تعالى ـ لا يهديهم إلى الجنة ، قال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ) [النساء : ١٦٨ ـ ١٦٩] وقال : (يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ) [يونس : ٩].

والثالث : أنه لا يمكن أن يكون المراد من الهداية خلق المعرفة فيه ؛ لأنه ـ على هذا التّقدير ـ يلزم أن يكون الكفر ـ أيضا ـ من الله ؛ لأنه ـ تعالى ـ إذا خلق المعرفة فيه كان مؤمنا مهتديا ، وإذا لم يخلقها كان كافرا ضالا ، وإذا كان الكفر من الله ـ تعالى ـ لم يصحّ أن يذمّهم الله ـ تعالى ـ على الكفر ، ولم يصحّ أن يضاف الكفر إليهم ، لكن الآية ناطقة بأنهم مذمومون بسبب الكفر ، وكونهم فاعلين للكفر ، فإنه قال : (كَيْفَ يَهْدِي اللهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ)؟ فأضاف الكفر إليهم ، وذمّهم عليه.

وقال أهل السنة : المراد من الهداية خلق المعرفة ، وقد جرت سنّة الله في دار التكليف أن كلّ فعل يقصد العبد إلى تحصيله ، فإن الله ـ تعالى ـ يخلقه عقيب القصد من العبد ، فكأنه ـ تعالى ـ قال : كيف يخلق الله فيهم المعرفة والهداية وهم قصدوا تحصيل الكفر وأرادوه؟

فإن قيل : قال ـ في أول الآية ـ : (كَيْفَ يَهْدِي اللهُ قَوْماً كَفَرُوا) وقوله في آخرها : (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) يقتضي التكرار.

٣٧٦

فالجواب : أن الأول مخصوص بالمرتد ، والثاني عمّ ذلك الحكم في المرتد والكافر الأصلي ، وسمي الكافر ظالما ؛ لقوله : (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) [لقمان : ١٣] والسبب فيه أن الكافر أورد نفسه موارد البلاء والعقاب ؛ بسبب ذلك الكفر ، فكان ظالما لنفسه.

قال القرطبي : «فإن قيل : ظاهر الآية يقتضي أن من كفر بعد إسلامه لا يهديه الله ، ومن كان ظالما لا يهديه الله ، وقد رأينا كثيرا من المرتدين أسلموا وهداهم الله ، وكثيرا من الظالمين تابوا عن الظّلم.

فالجواب : أن معناه لا يهديهم الله ما داموا مقيمين على كفرهم وظلمهم ولا يقبلون على الإسلام ، فأما من أسلموا وتابوا فقد وفّقهم الله لذلك».

قوله تعالى : (أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (٨٧) خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (٨٨) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)(٨٩)

وفي قوله : (جَزاؤُهُمْ) وجهان :

أحدهما : أن يكون مبتدأ ثانيا ، و (أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللهِ) في محل رفع ؛ خبرا ل «جزاؤهم» والجملة خبر ل «أولئك».

والثاني : أن يكون «جزاؤهم» بدلا من «أولئك» بدل اشتمال ، و (أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللهِ) خبر «أولئك».

وقال هنا : (جَزاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللهِ) وقال ـ هناك ـ : (أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللهِ) [البقرة : ١٦١] دون «جزاؤهم» قيل : لأن هناك وقع الإخبار عمن توفّي على الكفر ، فمن ثمّ حتم الله عليه اللعنة ، بخلافه هنا ، فإن سبب النزول في قوم ارتدوا ثم رجعوا للإسلام ، ومعنى : «جزاؤهم» أي : جزاء كفرهم وارتدادهم ، وتقدم القول في قراءة الحسن «النّاس أجمعون» وتخريجها.

قوله : «خالدين» حال من الضمير في «عليهم» والعامل فيها الاستقرار ؛ أو الجارّ ؛ لقيامه مقام الفعل ، والضمير في «فيها» للّعنة ، ومعنى الخلود في اللعن فيه وجهان :

الأول : أنهم يوم القيامة لا تزال تلعنهم الملائكة والمؤمنون ، ومن معهم في النار ، ولا يخلو حال من أحوالهم من اللعنة.

الثاني : أن اللّعن يوجب العقاب ، فعبّر عن خلود أثر اللعن بخلود اللعن ، ونظيره قوله : (مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وِزْراً خالِدِينَ فِيهِ) وقال ابن عباس : قوله : «خالدين فيها» أي في «جهنم» ، فعلى هذا الكناية عن غير مذكور. و (لا يُخَفَّفُ) جملة حالية أو مستأنفة ، و (إِلَّا الَّذِينَ) استثناء متصل.

٣٧٧

فصل

اعلم أن لعنة الله مخالفة للعنة الملائكة ؛ لأن لعنته بالإبعاد من الجنة ، وإنزال العذاب ، واللعنة من الملائكة ، ومن الناس هي بالقول ، وكل ذلك مستحق لهم بسبب ظلمهم وكفرهم.

فإن قيل : لم عمّ جميع النّاس ، ومن يوافقه لا يلعنه؟ فالجواب من وجوه :

أحدها : قال أبو مسلم : له أن يلعنه ، وإن كان لا يلعنه.

الثاني : أنّهم في الآخرة يلعن بعضهم بعضا ، لقوله تعالى : (كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها) [الأعراف : ٣٨] وقال : (ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً) [العنكبوت : ٢٥] وعلى هذا فقد حصل اللّعن للكفار ومن يوافقهم.

الثالث : كأن الناس هم المؤمنون ، والكفّار ليسوا من النّاس.

الرابع : وهو الأصح ـ أنّ جميع الخلق يلعنون المبطل والكافر ، ولكنّه يعتقد في نفسه أنّه ليس بمبطل ولا بكافر فإذا لعن الكافر ـ وكان هو في علم الله كافرا ـ فقد لعن نفسه ، وهو لا يعلم ذلك.

قوله : (لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ) معنى الإنظار : التّأخير ، قال تعالى : (فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ) [البقرة : ٢٨٠] والمعنى : لا يخفّف ، ولا يؤخّر من وقت إلى وقت ، ثم قال : (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا) ثم بيّن أن التوبة وحدها لا تكفي ، حتّى يضاف إليها العمل الصالح ، فقال : (وَأَصْلَحُوا) أي : أصلحوا باطنهم مع الحق بالمراقبات ، ومع الخلق بالعبادات ، وذلك أنّ الحارث بن سويد لمّا لحق بالكفّار ندم ، وأرسل إلى قومه أن سلوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هل لي من توبة؟ ففعلوا فأنزل الله (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) فحملها إليه رجل من قومه ، وقرأها عليه ، فقال الحارث : إنك والله ما علمت ـ لصدوق ، وإنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأصدق منك ؛ وإنّ الله ـ عزوجل ـ لأصدق الثلاثة ، فرجع الحارث إلى المدينة ، وأسلم ، وحسن إسلامه.

وفي قوله : (غَفُورٌ رَحِيمٌ) وجهان :

الأول : أن الله غفور لقبائحهم في الدنيا بالستر ، رحيم في الآخرة بالعفو.

الثاني : غفور بإزالة العقاب ، رحيم بإعطاء الثواب ، ونظيره قوله : (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ) [الأنفال : ٣٨]. ودخلت الفاء في قوله : «فإن الله» لشبه الجزاء ؛ إذ الكلام قد تضمّن معنى : إن تابوا فإن الله يغفر لهم.

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ)(٩٠)

قوله : «كفرا» تمييز منقول من الفاعلية ، والأصل : ثم ازداد كفرهم ، والدال الأولى

٣٧٨

بدل من تاء الافتعال ؛ لوقوعها بعد الزاي ، كذا أعربه أبو حيان ، وفيه نظر ؛ إذ المعنى على أنه مفعول به ، وهي أن الفعل المتعدي لاثنين إذا جعل مطاوعا نقص مفعولا ، وهذا من ذاك ؛ لأن الأصل : زدت زيدا خيرا فازداده ، وكذلك أصل الآية الكريمة : زادهم الله كفرا فازدادوه ، ولم يؤت هنا بالفاء داخلة على «لن» وأتي بها في «لن» الثانية ، لأن الفاء مؤذنة بالاستحقاق بالوصف السابق ـ لأنه قد صرّح بقيد موتهم على الكفر ، بخلاف «لن» الأولى ، فإنه لم يصرّح معها به فلذلك لم يؤت بالفاء.

قال ابن الخطيب : دخول الفاء يدل على أن الكلام مبني على الشرط والجزاء ، وعند «عدم» الفاء لم يفهم من الكلام كونه شرطا وجزاء ، تقول : الذي جاءني له درهم ، فهذا لا يفيد أن الدرهم حصل له بسبب المجيء ، وذكر التاء يدل على أن عدم قبول الفدية معلل بالموت على الكفر.

وقرأ عكرمة «لن نقبل» بنون العظمة ، ونصب «توبتهم» وكذلك قرأ (١) «فلن نقبل من أحدهم ملء» بالنصب.

فصل

قال القرطبي : قال قتادة والحسن : نزلت هذه الآية في اليهود ، كفروا بعيسى عليه‌السلام ، والإنجيل بعد إيمانهم بأنبيائهم ، ثم ازدادوا كفرا بكفرهم بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم والقرآن (٢).

وقال أبو العالية : نزلت في اليهود والنصارى ، كفروا بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما رأوه بعد إيمانهم بنعته وصفته في كتبهم ، ثم ازدادوا كفرا يعني : ذنوبا ، يعني : في حال كفرهم (٣).

وقال مجاهد : نزلت في جميع الكفار ؛ أشركوا بعد إقرارهم بأن الله تعالى خالقهم ، ثم ازدادوا كفرا ، أي : أقاموا على كفرهم حتى هلكوا عليه.

وقيل : ازدادوا كفرا كلما نزلت آية كفروا بها ، فازدادوا كفرا.

وقيل : ازدادوا بقولهم : نتربص بمحمد ريب النون.

وقال الكلبي : نزلت في الأحد عشر أصحاب الحرث بن سويد ، لما رجع إلى الإسلام ، أقاموا هم على الكفر بمكة ، وقالوا : نقيم على الكفر ما بدا لنا ، فمتى أردنا الرجعة ينزل فينا ما نزل في الحرث ، فلما افتتح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مكة ، فمن دخل منهم في الإسلام قبلت توبته ، ونزلت فيمن مات منهم كافرا : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ) الآية.

__________________

(١) انظر : الشواذ ٢١ ، والبحر المحيط ٢ / ٥٤٣ ، والدر المصون ٢ / ١٦٣.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٥٧٨) عن الحسن وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٨٨).

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٥٧٩) عن أبي العالية وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٨٨) وزاد نسبته لابن المنذر وابن أبي حاتم.

٣٧٩

فإن قيل : قد وعد الله بقبول توبة من تاب ، فما معنى قوله : ف (لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ)؟

قيل : لن تقبل توبتهم إذا وقعوا في الحشرجة ، كما قال : (وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ) [النساء : ١٨] قاله الحسن وقتادة وعطاء.

وقيل : هذا مخصوص بأصحاب الحرث بن سويد حين أمسكوا عن الإسلام ، وقالوا : نتربّص بمحمد ، فإن ساعده الزمان نرجع إلى دينه ، لن يقبل ذلك منهم.

وقال القاضي والقفال وابن الأنباري : إنه ـ تعالى ـ لما قدّم ذكر من كفر بعد الإيمان ، وبيّن أنه أهل اللعنة إلا أن يتوب ، ذكر في هذه أنه لو كفر مرة أخرى بعد تلك التوبة الأولى ، فإن تلك التوبة الأولى تعتبر غير مقبولة ، وتصير كأنها لم تكن.

قال : وهذا الوجه أليق بالآية من سائر الوجوه ، لأن تقدير الآية : إلا الّذين تابوا وأصلحوا فإن الله غفور رحيم ، فإن كانوا كذلك ، ثم ازدادوا كفرا لن تقبل توبتهم.

وقال الزمخشري : قوله : (لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ) كناية عن الموت على الكفر ؛ لأن الذي لا تقبل توبته من الكفار هو الذي يموت على الكفر ، كأنه قيل : إن اليهود والمرتدين الذين فعلوا ما فعلوا ، ميتون (١) على الكفر داخلون في جملة من لا تقبل توبتهم.

وقيل : لعلّ المراد ما إذا تابوا عن تلك الزيادة ، ولا تصير مقبولة ما لم تحصل التوبة عن الأصل.

قال ابن الخطيب : «وهذه الجوابات إنما تتمشى على ما إذا حملنا قوله : «(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً») على المعهود السابق ، لا على الاستغراق ، وإلا فكم من مرتد تاب عن ارتداده توبة صحيحة ، مقرونة بالإخلاص في زمان التكليف ، فأما جواب القفال والقاضي ، فهو جواب مطرد ، سواء حملنا اللفظ على المعهود السابق ، أو على الاستغراق».

قوله : (وَأُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ) في هذه الجملة ثلاثة أوجه :

أحدها : أن تكون في محل رفع ؛ عطفا على خبر «إنّ» ، أي : إن الذين كفروا لن تقبل توبتهم ، وإنهم أولئك هم الضّالّون.

الثاني : أن تجعل معطوفة على الجملة المؤكّدة ب «إنّ» ، وحينئذ فلا محل لها من الإعراب ، لعطفها على ما لا محل له.

الثالث : هو إعرابها بأن تكون الواو للحال ، فالجملة بعدها في محل نصب على الحال ، والمعنى : لن تقبل توبتهم من الذنوب ، والحال أنهم ضالّون ، فالتوبة والضلال متنافيان ، لا يجتمعان ، قاله الراغب.

__________________

(١) في ب : ثابتون.

٣٨٠