اللّباب في علوم الكتاب - ج ٥

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ٥

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 2-7451-2298-3
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٦٣٢

ينيلهم خيرا ، وليس المقصود منه النظر بتقليب الحدقة إلى المرئيّ ـ تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا ـ (وَلا يُزَكِّيهِمْ) أي : لا يطهرهم من دنس الذنوب بالمغفرة.

وقيل : لا يثني عليهم كما يثني على أوليائه ـ كثناء المزكّي للشاهد والتزكية من الله قد تكون على ألسنة الملائكة ، كقوله تعالى : (وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ) [الرعد : ٢٣ ، ٢٤] وقد تكون من غير واسطة ، أما في الدنيا فكقوله : (التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ) [التوبة : ١١٢]. وأما في الآخرة فكقوله : (سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ) [يس : ٥٨]. ثم قال : (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) لما بين حرمانهم من الثواب ، بيّن كونهم في العقاب الشديد المؤلم.

فصل

قال القرطبيّ : «دلّت هذه الآية والأحاديث على أن حكم الحاكم لا يحلّ المال في الباطن بقضاء الظاهر إذا علم المحكوم له بطلانه ، وروت أم سلمة قالت : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنكم تختصمون إليّ ، وإنما أنا بشر ، ولعلّ بعضكم أن يكون ألحن بحجّته من بعض ، وإنما أقضي بينكم على نحو ما أسمع ، فمن قضيت له من حقّ أخيه شيئا ، فلا يأخذه ؛ فإنما أقطع له قطعة من النار يأتي بها يوم القيامة.

قوله : (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) في هذه اللام قولان :

أحدهما : أنها بمعنى الاستحقاق ، أي : يستحقّون العذاب الأليم.

الثاني : كما تقول : المال لزيد ، فتكون لام التمليك ، فذكر ملك العذاب لهم ، تهكّما بهم.

قوله تعالى : (وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ)(٧٨)

هذه الآية تدل على أن التي قبلها نزلت في اليهود.

وقوله : «يلوون» صفة ل «فريقا» فهي في محل نصب ، وجمع الضمير اعتبارا بالمعنى ؛ لأنه اسم جمع ـ كالقوم والرهط ـ.

قال أبو البقاء (١) : «ولو أفرد على اللفظ لجاز» وفيه نظر ؛ إذ لا يجوز : القوم جاءني ، والعامة على (يَلْوُونَ) بفتح الياء ، وسكون اللام ، وبعدها واو مضمومة ، ثم أخرى ساكنة مضارع لوى أي : فتل.

وقرأ أبو جعفر وشيبة بن نصاح وأبو حاتم ـ عن نافع ـ «يلوّون» بضم الياء ، وفتح

__________________

(١) ينظر : الإملاء ١ / ١٤٠.

٣٤١

اللام ، وتشديد الواو الأولى (١) ـ من «لوّى» مضعّفا ، والتضعيف فيه للتكثير والمبالغة ، لا للتعدية ؛ إذ لو كان لها لتعدى لآخر ؛ لأنه متعدّ لواحد قبل ذلك ، ونسبها الزمخشريّ لأهل المدينة ، وهو كما قال ، فإن هؤلاء رؤساء قرّاء المدينة.

وقرأ حميد «يلون» ـ بفتح الياء ، وضم اللام ، بعدها واو مفردة ساكنة (٢) ـ ونسبها الزمخشريّ لمجاهد وابن كثير ، ووجّهها هو بأن الأصل (يَلْوُونَ) ـ كقراءة العامة ـ ثم أبدلت الواو المضمومة همزة ، وهو بدل قياسيّ ـ كأجوه وأقّتت. ثم خفّفت الهمزة بإلقاء حركتها على الساكن قبلها وهو اللام ـ وحذفت الهمزة ، فبقي وزن «يلون» يفون ـ بحذف اللام والعين ـ وذلك لأن اللام ـ وهي الياء ـ حذفت لالتقاء الساكنين ؛ لأن الأصل «يلويون» كيضربون ، فاستثقلت الضمة على الياء فحذفت ، فالتقى ساكنان ـ الياء وواو الضمير ـ فحذفت الياء لالتقائهما ، ثم حذفت الواو التي هي عين الكلمة.

و (أَلْسِنَتَهُمْ) جمع لسان ، وهذا على لغة من ذكّره ، وأما على لغة من يؤنثه ـ فيقول : هذه لسان ـ فإنه يجمع على «ألسن» ـ نحو ذراع وأذرع وكراع وأكرع.

وقال الفرّاء : لم نسمعه من العرب إلا مذكّرا. ويعبّر باللسان عن الكلام ؛ لأنه ينشأ منه ، وفيه ـ والمراد به ذلك ـ التذكير والتأنيث ـ ، والليّ : الفتل ، يقال : لويت الثوب ، ولويت عنقه ـ أي فتلته ـ والليّ : المطل ، لواه دينه ، يلويه ليّا ، وليّانا : مطله. والمصدر : اللّيّ واللّيان.

قال الشاعر : [الرجز]

١٥٢٦ ـ قد كنت داينت بها حسّانا

مخافة إلافلاس واللّيانا (٣)

والأصل لوي ، ولويان ، فأعلّ بما تقدم في «ميّت» وبابه ثم يطلق اللّيّ على الإراغة والمراوغة في الحجج والخصومة ؛ تشبيها للمعاني بالأجرام. وفي الحديث : «ليّ الواجد ظلم» (٤).

وقال بعضهم : اللّيّ عبارة عن عطف الشيء ، وردّه عن الاستقامة إلى الاعوجاج يقال : لويت يده والتوى الشيء ـ إذا انحرف ـ والتوى فلان عليّ إذا غيّر أخلاقه عن الاستواء إلى ضده. ولوى لسانه عن كذا ـ إذا غيره ـ ولوى فلان فلانا عن رأيه ـ إذا أماله

__________________

(١) انظر : المحرر الوجيز ١ / ٤٦٠ ، والبحر المحيط ٢ / ٥٢٧ ، والدر المصون ٢ / ١٤٤.

(٢) انظر : المحرر الوجيز ١ / ٤٦٠ ، والبحر المحيط ٢ / ٥٢٧ ، والدر المصون ٢ / ١٤٥.

(٣) البيت لرؤبة ينظر ديوانه ص ١٨٧ والكتاب ١ / ٩٨ وشرح ابن عقيل ٢ / ١٠٥ والدرر ٢ / ٢٠٣ وابن الشجري ١ / ٢٢٨ وابن يعيش ٦ / ٦٥ وشرح الجمل ١ / ٥٤ والهمع ٢ / ١٤٥ وأوضح المسالك ٣ / ٢١٥ والمغني ٢ / ٩٦ والدر المصون ٢ / ١٤٥.

(٤) أخرجه النسائي (٧ / ٣١٦ ـ ٣١٧) كتاب البيوع وابن ماجه (٢٤٢٧) وأحمد (٤ / ٣٨٩) وابن حبان (١١٦٤ ـ موارد) من حديث الشريد.

٣٤٢

عنه ـ و (بِالْكِتابِ) متعلق ب (يَلْوُونَ ،) وجعله أبو البقاء حالا من الألسنة ، قال : وتقديره : ملتبسة بالكتاب ، أو ناطقة بالكتاب.

والضمير في (لِتَحْسَبُوهُ) يجوز أن يعود على ما تقدّم مما دل عليه ذكر اللّيّ والتحريف ، أي : لتحسبوا المحرف من التوراة. ويجوز أن يعود على مضاف محذوف ، دل عليه المعنى ، والأصل : يلوون ألسنتهم بشبه الكتاب ؛ لتحسبوا شبه الكتاب الذي حرفوه من الكتاب ، ويكون كقوله : (أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ) [النور : ٤٠] ثم قال : (يَغْشاهُ) والأصل أو كذي ظلمات ، فالضمير في (يَغْشاهُ) يعود على «ذي» المحذوفة. و «من الكتاب» هو المفعول الثاني للحسبان. وقرىء «ليحسبوه» ـ بياء الغيبة (١) ـ والمراد بهم المسلمون ـ أيضا ـ كما أريد بالمخاطبين في قراءة العامة ، والمعنى : ليحسب المسلمون أن المحرّف من التوراة.

قال ابن الخطيب : «ليّ اللسان شبيه بالتشدّق والتنطّع والتكلّف ـ وذلك مذموم ـ فعبّر الله عن قراءتهم لذلك الكتاب الباطل بليّ اللسان ؛ ذمّا لهم ، ولم يعبّر عنها بالقراءة. والعرب تفرّق بين ألفاظ المدح والذم في الشيء الواحد ، فيقولون ـ في المدح ـ : خطيب مصقع ، وفي الذم : مكثار ، ثرثار فالمراد بقوله : (يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ) أي : بقراءة ذلك الكتاب الباطل».

فصل

قال القفّال : معنى قوله : (يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ) أن يعمدوا إلى اللفظة ، فيحرفونها عن حركات الإعراب تحريفا يتغيّر به المعنى ، وهذا كثير في لسان العرب ، فلا يبعد مثله في العبرانية ، فكانوا يفعلون ذلك في الآيات الدالة على نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم في التوراة.

وروي عن ابن عباس قال : إن النفر الذين لا يكلمهم الله يوم القيامة ، ولا ينظر إليهم ، كتبوا كتابا شوّشوا فيه نعت محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وخلطوه بالكتاب الذي كان فيه نعت محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم قالوا : هذا من عند الله.

فصل

قال جمهور المفسّرين : هذا النفر هم : كعب بن الأشرف ، ومالك بن الصيف ، وحيي بن أخطب ، وأبو ياسر ، وشعبة بن عمرو الشاعر. (يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ) يعطفونها بالتحريف والتغيير ، وهو ما غيّروا من صفة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وآية الرجم ، وغير ذلك. (لِتَحْسَبُوهُ) أي : لتظنوا ما حرفوا (مِنَ الْكِتابِ) الذي أنزله الله ـ عزوجل ـ (وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) أنّهم الكاذبون.

__________________

(١) ينظر : الشواذ ٢١ ، والبحر المحيط ٢ / ٥٢٨ ، والدر المصون ٢ / ١٤٥.

٣٤٣

وروى الضحاك عن ابن عباس أن الآية نزلت في اليهود والنصارى جميعا ، وذلك أنهم حرّفوا التوراة والإنجيل ، وألحقوا بكتاب الله ما ليس منه.

فإن قيل : كيف يمكن إدخال التحريف في التوراة ، مع شهرتها العظيمة؟

فالجواب : لعله صدر هذا العمل عن نفر قليل ، يجوز تواطؤهم على التحريف ، ثم إنهم عرضوا ذلك المحرّف على بعض العوامّ ، وعلى هذا التقدير يكون هذا التحريف ممكنا.

قال ابن الخطيب : «والأصوب ـ عندي ـ في الآية أن الآيات الدّالّة على نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يحتاج فيها إلى تدقيق النظر والتأمّل ، والقوم كانوا يوردون عليها الأسئلة المشوشة ، والاعتراضات المظلمة ، فكانت تصير تلك الدلائل مشتبهة على السّامعين ، واليهود كانو يقولون : مراد الله من هذه الآيات ما ذكرناه ـ لا ما ذكرتم ـ فكان هذا هو المراد بالتحريف وليّ الألسنة ، كما أن المحقّ ـ في زمننا ـ إذا استدل بآية فالمبطل يورد عليه الأسئلة والشبهات ، ويقول : ليس مراد الله ـ تعالى ـ ما ذكرت ، بل ما ذكرناه ، فكذا هنا ، والله أعلم».

فإن قيل : ما الفرق بين قوله : (لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ) وبين قوله : (وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ)؟

فالجواب : أن المغايرة حاصلة ؛ لأنه ليس كل ما لم يكن في الكتاب لم يكن من عند الله تعالى ؛ فإن الحكم الشرعيّ قد ثبت تارة بالكتاب ، وتارة بالسنّة ، وتارة بالإجماع ، وتارة بالقياس ، والكل من عند الله تعالى ـ فقوله : (لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ) هذا نفي خاصّ ، ثم عطف النفي العام فقال : (وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ) فلا يكون تكرارا.

وأيضا يجوز أن يكون المراد من الكتاب التوراة ، ويكون المراد من قولهم : (هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ) أنه موجود في كتاب سائر الأنبياء عليهم‌السلام مثل شعيب وأرميا ؛ وذلك لأن القوم في نسبة ذلك التحريف إلى الله تعالى كانوا متحيرين فإن وجدوا قوما من الأغمار والبله الجاهلين بالتوراة نسبوا ذلك المحرّف إلى أنه من عنده ، وإن من وجدوا قوما عقلاء أذكياء زعموا أنه موجود في كتب سائر الأنبياء ، الذين جاءوا بعد موسى عليه‌السلام.

قوله تعالى : (ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللهِ وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (٧٩) وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)(٨٠)

قال مقاتل والضّحّاك (ما كانَ لِبَشَرٍ) يعني عيسى ـ عليه‌السلام ـ وذلك أن نصارى

٣٤٤

نجران كانوا يقولون : إن عيسى أمرهم أن [يتخذوه](١)(٢) ربّا ، فأنزل الله هذه الآية.

وقال ابن عباس وعطاء : (ما كانَ لِبَشَرٍ) يعني محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم (أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتابَ) أي : القرآن وذلك أن أبا رافع القرظي ـ من اليهود ، والرئيس ـ من نصارى نجران ، قالا : يا محمد ، أتريد أن نعبدك ونتخذك ربا؟ قال : «معاذ الله أن نأمر بعبادة غير الله ، ما بذلك بعثني الله ، ولا بذلك أمرني الله». فأنزل الله هذه الآية.

قال ابن عباس : لما قالت اليهود : عزير ابن الله وقالت النصارى : المسيح ابن الله نزلت هذه الآية.

والبشر جميع بني آدم ، لا واحد له من لفظه ـ كالقوم والجيش ـ ويوضع موضع الواحد ، والجمع ، قال القرطبي : «لأنه بمنزلة المصدر».

قوله : (أَنْ يُؤْتِيَهُ) اسم «كان» و «البشر» خبرها. وقوله : (ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ) عطف على «يؤتيه» ، وهذا العطف لازم من حيث المعنى ؛ إذ لو سكت عنه لم يصحّ المعنى ؛ لأن الله ـ تعالى ـ قد آتى كثيرا من البشر الكتاب والحكم والنبوة ، وهذا كما يقولون ـ في بعض الأحوال والمفاعيل ـ : إنها لازمة فلا غرو ـ أيضا ـ في لزوم المعطوف.

وإنما بينا هذا ؛ لأجل قراءة تأتي ـ إن شاء الله تعالى ـ ومعنى مجيء هذا النّفي في كلام العرب ، نحو : «ما كان لزيد أن يفعل» ، كقوله تعالى : (ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا) [النور : ١٦]. وقوله : (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً) [النساء : ٩٢] وقوله: (ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ) [مريم : ٣٥] أي : ما ينبغي لنا ، ونحوه بنفي الكون والمراد نفي خبره ، وهو على قسمين :

قسم يكون النفي فيه من جهة العقل ، ويعبّر عنه بالنفي التام ـ كهذه الآية ـ لأن الله ـ تعالى ـ لا يعطي الكتاب بالحكم والنبوة لمن يقول هذه المقالة الشنعاء ، ونحوه : (ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها) [النمل : ٦٠] وقوله : (وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) [آل عمران : ١٤٥].

وقسم يكون النفي فيه على سبيل الانتفاء ، كقول أبي بكر : ما كان لابن أبي قحافة أن يتقدم فيصلي بين يدي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويعرف القسمان من السياق.

وقرأ العامة «يقول» ـ بالنصب ـ نسقا على «يؤتيه» والتقدير : لا يجتمع النبوة وهذا القول. والعامل فيه «أن» وهو معطوف عليه بمعنى : ثم أن يقول.

والمراد بالحكم : الفهم والعلم. وقيل : إمضاء الحكم عن الله ـ عزوجل ـ. و (الْكِتابَ) القرآن.

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) في ب : يتخذهم.

٣٤٥

وقرأ ابن كثير ـ في رواية شبل بن عباد ـ وأبو عمرو ـ في رواية محبوب ـ : «يقول» ـ بالرفع (١) ـ وخرّجوها على القطع والاستئناف ، وهو مشكل ؛ لما تقدم من أن المعنى على لزوم ذكر هذا المعطوف ؛ إذ لا يستقل ما قبله ؛ لفساد المعنى ، فكيف يقولون : على القطع والاستئناف.

قوله : (عِباداً) حكى الواحديّ ـ عن ابن عباس ـ أنه قال في قوله تعالى : (كُونُوا عِباداً لِي) أنه لغة مزينة ويقولون للعبيد : عباد.

قال ابن عطية : ومن جموعه : عبيد وعبدّى.

قال بعض اللغويين : هذه الجموع كلّها بمعنى.

وقال بعضهم : العباد لله ، والعبيد والعبدّى للبشر.

وقال بعضهم : العبدّى إنما تقال في العبد من العبيد ، كأنه مبالغة تقتضي الإغراق في العبودية ، والذي استقرأت في لفظ «العباد» أنه جمع عبد متى سيقت اللفظة في مضمار الترفّع والدلالة على الطاعة دون أن يقترن بها معنى التحقير ، وتصغير الشأن ، وانظر قوله : (وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ* بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ) [الأنبياء : ٢٦] وقوله : (قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ) [الزمر : ٥٣] وقول عيسى في معنى الشفاعة والتعريض (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ) [المائدة : ١١٨] ، وأما العبيد ، فتستعمل في تحقيره.

ومنه قول امرىء القيس :

١٥٢٧ ـ قولا لدودان عبيد العصا

ما غرّكم بالأسد الباسل (٢)

وقال حمزة بن عبد المطلب : «وهل أنتم إلّا عبيد لأبي»؟ ومنه قوله : (وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) [فصلت : ٤٦] لأنه مكان تشفيق وإعلام بقلة أنصارهم ومقدرتهم ، وأنه ـ تعالى ـ ليس بظلام لهم مع ذلك. ولما كانت «العباد» تقتضي الطاعة لم تقع هنا ، ولذلك أتى بها في قوله تعالى : (قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ) [الزمر : ٥٣] فهذا النوع من النظر يسلك به سبيل العجائب في فصاحة القرآن على الطريقة العربية.

قال أبو حيّان : «وفيه بعض مناقشة ، أما قوله : ومن جموعه عبيد وعبدّى ، فأما عبيد ، فالأصح أنه جمع ، وقيل اسم جمع. وأما عبدّى فإنه اسم جمع ، وألفه للتأنيث».

قال شهاب الدّين : «لا مناقشة ، فإنه إنما يعني جمعا معنويّا ، ولا شك أن اسم الجمع جمع معنويّ».

__________________

(١) ينظر : المحرر الوجيز ١ / ٤٦٢ ، والبحر المحيط ٢ / ٥٢٩ ، والدر المصون ٢ / ١٤٦.

(٢) ينظر البيت في ديوانه (١١٩) وابن الشجري ١ / ٢٦٤ والشعر والشعراء ١ / ١٢٢ والتاج ٧ / ٢٢٧ والبحر المحيط ٢ / ٥٢٩ والدر المصون ٢ / ١٤٦.

٣٤٦

قال : وأما ما استقرأه من أن «عبادا» يساق في [مضمار](١) الترفّع والدلالة على الطاعة ، دون أن يقترن بها معنى التحقير والتصغير ، وإيراده ألفاظا في القرآن بلفظ «العباد» وأما قوله : وأما العبيد ، فيستعمل في تحقيره ـ وأنشد بيت امرىء القيس ، وقول حمزة : «وهل أنتم إلا عبيد أبي» ، وقوله تعالى : (وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) [فصلت : ٤٦] فاستقراء ليس بصحيح ، إنما كثر استعمال «عباد» دون «عبيد» لأن «فعالا» في جمع «فعل» غير الياء والعين قياس مطّرد ، وجمع فعل على «فعيل» لا يطّرد.

قال سيبويه : «وربما جاء «فعيلا» وهو قليل ـ نحو الكليب والعبيد». فلما كان «فعال» مقيسا في جمع «عبد» جاء «عباد» كثيرا ، وأما (وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) [فصلت : ٤٦] فحسّن مجيئه هنا ـ وإن لم يكن مقيسا ـ أنه جاء لتواخي الفواصل ، ألا ترى أن قبله : (أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) [فصلت : ٤٤] وبعده (قالُوا آذَنَّاكَ ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ) [فصلت : ٤٧] فحسّن مجيئه بلفظ العبيد مؤاخاة هاتين الفاصلتين. ونظير هذا ـ في سورة ق ـ (وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) [ق : ٢٩] لأن قبله : (وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ) [ق : ٢٨]. وبعده : (يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ) [ق : ٣٠] وأما مدلوله فمدلول «عباد» سواء ، وأما بيت امرىء القيس فلم يفهم التحقير من لفظ «عبيد» إنما فهم من إضافتهم إلى العصا ، ومن مجموع البيت. وكذلك قول حمزة : هل أنتم إلا عبيد؟ إنما فهم التحقير من قرينة الحال التي كان عليها ، وأتى في البيت وفي قول حمزة على أحد الجائزين.

وقال شهاب الدين : «ردّه عليه استقراءه من غير إثباته ما يجرّم الاستقراء مردود ، وأما ادّعاؤه أن التحقير مفهوم من السياق ـ دون لفظ ـ «عبيد» ـ ممنوع ؛ لأنه إذا دار إحالة الحكم بين اللفظ وغيره ، فالإحالة على اللفظ أولى».

قوله : «لي» صفة ل «عباد». و (مِنْ دُونِ اللهِ) متعلق بلفظ «عبادا» لما فيه من معنى الفعل ، ويجوز أن يكون صفة ثانية ، وأن يكون حالا ؛ لتخصّص النكرة بالوصف.

قوله : (وَلكِنْ كُونُوا) أي : ولكن يقول : كونوا ، فلا بد من إضمار القول هنا ، ومذهب العرب جواز الإضمار إذا كان في الكلام ما يدل عليه ، كقوله تعالى : (فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ) [آل عمران : ١٠٦] أي : يقال لهم ذلك.

والربانيون : جمع ربّانيّ ، وفيه قولان :

أحدهما : قال سيبويه : إنه منسوب إلى الرّبّ ، يعني كونه عالما به ، ومواظبا على طاعته ، كما يقال : رجل إلهيّ إذا كان مقبلا على معرفة الإله وطاعته ، والألف والنون فيه زائدتان في النسب ، دلالة على المبالغة كرقباني وشعراني ، ولحياني ـ للغليظ الرقبة ،

__________________

(١) في أ : معنى.

٣٤٧

والكثير الشعر ، والطويل اللحية ـ ولا تفرد هذه الزيادة عن النسب أما إذا نسبوا إلى الرقبة والشعر واللحية ـ من غير مبالغة : قالوا : : رقبيّ وشعريّ ولحويّ.

الثاني : قال المبرّد : الربانيون : أرباب العلم ، منسوب إلى ربّان ، والربان : هو المعلّم للخير ، ومن يوسوس للناس ويعرّفهم أمر دينهم ، فالألف والنون والتاء على زيادة الوصف ، كهي في عطشان وريان وجوعان ووسنان ، ثم ضمت إليه ياء النسب ـ كما قيل : لحيانيّ ورقبانيّ ـ وتكون النسبة ـ على هذا ـ في الوصف نحو أحمري ، قال : [الرجز]

١٥٢٨ ـ أطربا وأنت قنّسريّ

والدّهر بالإنسان دوّاري (١)

وقال سيبويه : زادوا ألفا ونونا في الربانيّ ؛ لأنهم أرادوا تخصيصا بعلم الرّبّ دون غيره من العلوم ، وهذا كما يقال : شعرانيّ ولحيانيّ ورقبانيّ.

قال الواحديّ : فعلى قول سيبويه الرباني منسوب إلى الربّ مأخوذ من التربية.

وفي التفسير : كونوا فقهاء ، علماء ، عاملين. قاله عليّ وابن عباس (٢) والحسن.

وقال قتادة : حكماء ، علماء (٣) وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس : فقهاء ، معلمين(٤).

وقال عطاء : علماء ، حكماء ، نصحاء لله في خلقه (٥).

وقيل : الرّبّانيّ : الذي يربّي الناس بصغار العلم قبل كباره.

وقال سعيد بن جبير : الرباني : العالم الذي يعمل بعلمه (٦).

وقيل : الربانيون فوق الأحبار ، والأحبار : العلماء ، والربانيون : الذين جمعوا مع العلم البصارة لسياسة الناس ، ولما مات ابن عبّاس قال محمد بن الحنفية : اليوم مات ربّانيّ هذه الأمة.

وقال ابن زيد : الربانيّ : هو الذي يربّ النّاس ، والربانيون هم : ولاة الأمة والعلماء ، وذكروا هذا ـ أيضا ـ في قوله تعالى : (لَوْ لا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ) [المائدة : ٦٣] أي : الولاة والعلماء ، وهما الفريقان اللذان يطاعان.

__________________

(١) البيت للعجاج. ينظر ديوانه (١ / ٤٨٠) والكتاب ١ / ٢٣٨ والمخصص ١ / ٤٥ والمحتسب ١ / ٣١٠ وابن الشجري ١ / ١٦٢ وابن يعيش ٣ / ١٣٩ والخزانة ١١ / ٢٧٤ والدرر ١ / ١٦٥ والهمع ١ / ١٩٢ والمنصف ٢ / ١٧٩ والأشموني ٤ / ٢٠٣ والمغني ١ / ١٨ وديوان الحماسة ٤ / ١٨٨٨ وفقه اللغة ص ٧٥ وإعراب ثلاثين سورة ص ١٩ واللسان (قنس) والمقرب (ص ٤٠٨) والدر المصون ٢ / ١٤٧.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٥٤٢) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٨٣) وزاد نسبته لابن أبي حاتم من طريق الضحاك عن ابن عباس.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٥٤٠) عن أبي رزين.

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٥٤٢) من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس.

(٥) ذكره أبو حيان في «البحر المحيط» (٢ / ٥٣٠) عن عطاء.

(٦) انظر المصدر السابق.

٣٤٨

ومعنى الآية ـ على هذا التقدير ـ لا أدعوكم إلى أن تكونوا عبادا لي ، ولكن أدعوكم إلى أن تكونوا ملوكا وعلماء باستعمالكم أمر الله تعالى ، ومواظبتكم على طاعته.

قال القفال : يحتمل أن يكون الوالي ، سمّي ربانيّا ؛ لأنه يطاع كالربّ ، فنسب إليه.

قال أبو عبيدة : أحسب أن هذه الكلمة ليست بعربية ، إنما هي عبرانية ، أو سريانية ، وسواء كانت عبرانية ، أو سريانية ، أو عربية فهي تدل على الإنسان الذي علم وعمل بما علم ، ثم اشتغل بتعليم الخير.

قوله : (بِما كُنْتُمْ) الباء سببية ، أي : كونوا علماء بسبب كونكم ، وفي متعلق هذه الباء ثلاثة أقوال :

أحدها : أنها متعلقة ب «كونوا» ذكره أبو البقاء ، والخلاف مشهور.

الثاني : أن تتعلق ب «ربّانيّين» لأن فيه معنى الفعل.

الثالث : أن تتعلق بمحذوف على أنها صفة ل «ربّانيّين» ذكره أبو البقاء ، وليس بواضح المعنى ، و «ما» مصدرية ، فتكون مع الفعل بتأويل المصدر ، أي : بسبب كونكم عالمين ، نظيره قوله : (الْيَوْمَ نَنْساكُمْ كَما نَسِيتُمْ) [الجاثية : ٣٤]. وظاهر كلام أبي حيان أنه يجوز أن تكون غير ذلك ؛ فإنه قال : و «ما» الظاهر أنها مصدرية ، فهذا يوم تجويز غير ذلك ـ وفي جوازه بعد ـ وهو أن تكون موصولة ، وحينئذ تحتاج إلى عائد وهو مقدر ، أي بسبب الذي تعلمون به الكتاب ، وقد نقص شرط ، وهو اتحاد المتعلّق ، فلذلك لم يظهر جعلها غير مصدرية. و «كنتم» معناه «أنتم» كقوله : (مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا) [مريم : ٢٩] أي من هو في المهد.

قوله : (تُعَلِّمُونَ) قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو (١) «تعلمون» مفتوح حرف المضارعة ، ساكن العين مفتوح اللام من علم يعلم ، أي : تعرفون ، فيتعدى لواحد ، وباقي السبعة بضم حرف المضارعة ، وفتح العين وتشديد اللام مكسورة ، فيتعدى لاثنين ، أولهما محذوف ، تقديره : تعلّمون الناس والطالبين الكتاب. ويجوز أن لا يراد مفعول ، أي : كنتم من أهل التعليم ، وهو نظير : أطعم الخبز ، المقصود الأهم إطعام الخبز من غير نظر إلى من يطعمه ، فالتضعيف فيه للتعدية.

وقد رجح جماعة هذه القراءة على قراءة نافع ، بأنها أبلغ ؛ وذلك أن كل معلّم عالم ، وليس كلّ عالم معلما ، فالوصف بالتعليم أبلغ ، وبأن قبله ذكر الربانيين ، والرباني يقتضي أن يعلم ، ويعلّم غيره ، لا أن يقتصر بالعلم على نفسه.

ورجح بعضهم الأولى بأنه لم يذكر إلا مفعول واحد ، والأصل عدم الحذف ـ

__________________

(١) ينظر : السبعة ٢١٣ ، والكشف ١ / ٣٥١ ، والحجة ٢ / ٥٨ ، ٥٩ ، وحجة القراءات ١٦٧ ، والعنوان ٨٠ ، وشرح شعلة ٣١٨ ، وإعراب القراءات ١١٧ ، وشرح الطيبة ٤ / ١٦٠ ، وإتحاف ١ / ٤٨٣.

٣٤٩

والتخفيف مسوّغ لذلك ، بخلاف التشديد ، فإنه لا بدّ من تقدير مفعول. وأيضا فهو أوفق ل «تدرسون». والقراءتان متواترتان ، فلا ينبغي ترجيح إحداهما على الأخرى.

وقرأ الحسن ومجاهد (١) «تعلّمون» ـ بفتح التاء والعين ، واللام مشددة ـ من تعلم ، والأصل تتعلمون ـ بتاءين ـ فحذفت إحداهما.

قوله : (وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ) كالذي قبله ، والعامة (٢) على «تدرسون» ـ بفتح التاء ، وضم الراء ـ من الدرس ، وهو مناسب «تعلمون» من علم ـ ثلاثيا.

قال بعضهم (٣) : كان حق من يقرأ «تعلّمون» ـ بالتشديد ـ أن يقرأ «تدرّسون» ـ بالتشديد وليس بلازم ؛ إذ المعنى : صرتم تعلّمون غيركم ، ثم تدرّسون ، وبما كنتم تدرسون عليهم ـ أي : تتلونه عليهم ، كقوله : (لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ) [الإسراء : ١٠٦].

قال أبو حيوة ـ في إحدى الرواتين عنه ـ «تدرسون» ـ بكسر الراء ـ وهي لغة ضعيفة ، يقال : درس العلم يدرسه ـ بكسر العين في المضارع ـ وهما لغتان في مضارع «درس» وقرأ هو ـ أيضا ـ في رواية «تدرّسون» من درّس ـ بالتشديد (٤) ـ وفيه وجهان :

أحدهما : أن يكون التضعيف فيه للتكثير موافقا لقراءة «تعلمون» بالتخفيف.

الثاني : أن التضعيف للتعدية ، ويكون المفعولان محذوفين ؛ لغهم المعنى ، والتقدير : تدرّسون غيركم العلم ، أي : تحملونهم على الدرس. وقرىء «تدرسون» من أدرس ـ كيكرمون من أكرم ـ على أن أفعل بمعنى فعل (٥) ـ بالتشديد ـ فأدرس ودرّس واحد كأكرم وكرّم ، وأنزل ونزّل.

والدرس : التكرار والإدمان على الشيء. ومنه : درس زيد الكتاب والقرآن ، يدرسه ويدرسه ، أي : كرر عليه ، ويقال درست الكتاب ، أي : تناولت أثره بالحفظ ، ولما كان ذلك بمداومة القرآن عبر عن إدامة القرآن بالدرس. ودرس المنزل : ذهب أثره ، وطلل عاف ودارس بمعنى.

قوله : (وَلا يَأْمُرَكُمْ) قرأ ابن عامر وعاصم وحمزة بنصب «يأمركم» والباقون بالرفع (٦) وأبو عمرو على أصله من جواز تسكين الراء والاختلاس ، وهي قراءة واضحة ،

__________________

(١) انظر : السابق.

(٢) ونسبها في الشواذ ٢١ إلى سعيد بن جبير.

وانظر : المحرر الوجيز ١ / ٤٦٣ ، والبحر المحيط ٢ / ٥٣٠ ، والدر المصون ٢ / ١٤٨.

(٣) وهي قراءة أبي حيوة.

انظر : المحرر الوجيز ١ / ٤٦٣ ، والبحر المحيط ٢ / ٥٣٠ ، والدر المصون ٢ / ١٤٨.

(٤) انظر : السابق.

(٥) قرأ بها أبو حيوة كما نسبها إليه القرطبي ٤ / ٧٩.

(٦) انظر : السبعة ٢١٣ ، والكشف ١ / ٣٥٠ ، والحجة ٣ / ٥٧ ، وحجة القراءات ١٦٨ ، والعنوان ٨٠ ، ـ

٣٥٠

سهلة التخريج ، والمعنى ، وذلك أنها على القطع والاستئناف.

أخبر تعالى ـ بأن ذلك الأمر لا يقع ، والفاعل فيه احتمالان :

أحدهما : هو ضمير الله ـ تعالى ـ.

الثاني : هو ضمير الموصوف المتقدم.

والمعنى : ولا يأمركم الله ، وقال ابن جريج وجماعة : ولا يأمركم محمد أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا (١) وقيل : لا يأمركم عيسى.

وقيل : لا يأمركم الأنبياء أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا ، كفعل قريش والصابئين ـ حيث قالوا في المسيح هو العزير.

والمعنى على عوده على «بشر» أنه لا يقع من بشر موصوف بما وصف به أن يجعل نفسه ربّا ، فيعبد ، ولا يأمر ـ أيضا ـ أن تعبد الملائكة والنبيون من دون الله ، فانتفى أن يدعو الناس إلى عبادة نفسه ، وإلى عبادة غيره ـ والمعنى ـ على عوده على الله ـ تعالى ـ أنه تعالى أخبر أنه لم يأمر بذلك ، فانتفى أمر الله وأمر أنبيائه بعبادة غيره تعالى.

وأما قراءة النصب ففيها وجوه :

أحدها : قول أبي علي وغيره ، وهو أن يكون المعنى : دلالة أن يأمركم ، فقدروا «أن» مضمرة بعده وتكون «لا» مؤكّدة لمعنى النفي السابق ، كما تقول : ما كان من زيد إتيان ولا قيام وأنت تريد انتفاء كل واحد منهما عن زيد ، ف «لا» للتوكيد لمعنى النفي السابق ، وبقي معنى الكلام : ما كان من زيد إتيان ، ولا منه قيام.

الثاني : أن يكون نصبه لنسقه على (أَنْ يُؤْتِيَهُ) قال سيبويه : والمعنى : وما كان لبشر أن يأمركم أن تتخذوا الملائكة.

قال الواحديّ : ويقوي هذا الوجه ما ذكرنا من أن اليهود قالوا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أتريد يا محمد أن نتخذك ربّا؟ فنزلت.

الثالث : أن يكون معطوفا على «يقول» في قراءة العامة ـ قاله الطّبريّ.

قال ابن عطية : «وهذا خطأ لا يلتئم به المعنى» ، ولم يبين أبو محمد وجه الخطأ ، ولا عدم التآم المعنى.

قال أبو حيّان (٢) : «وجه الخطأ أنه إذا كان معطوفا على «يقول» وجعل «لا» للنفي ـ على سبيل التأسيس لا على سبيل التأكيد ـ فلا يمكن أن يقدّر الناصب ـ وهو «أن» ـ إلا

__________________

ـ وإعراب القراءات ١ / ١١٦ ، وشرح الطيبة ٤ / ١٦١ ، وشرح شعلة ٣١٩ ، وإتحاف ١ / ٤٨٣.

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٥٤٩) عن ابن جريج وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٨٣) وزاد نسبته لابن المنذر.

(٢) ينظر : البحر المحيط ٢ / ٥٣١.

٣٥١

قبل «لا» النافية ، وإذا قدرها قبلها انسبك منها ومن الفعل المنفي ب «لا» مصدر منفي ، فيصير المعنى : ما كان لبشر موصوف بما وصف به انتفاء أمره باتخاذ الملائكة والنبيين أربابا ـ وإذا لم يكن له انتفاء الأمر بذلك كان له ثبوت الأمر بذلك ، وهو خطأ بيّن.

أما إذا جعل «لا» لتأكيد النفي لا لتأسيسه فلا يلزم خطأ ، ولا عدم التئام المعنى ؛ وذلك أنه يصير النفي مستحبا على المصدرين المقدّر ثبوتهما ، فينتفي قوله : (كُونُوا عِباداً لِي) وينتفي أيضا أمره باتخاذ الملائكة والنبيين أربابا. ويوضّح هذا المعنى وضع «غير» موضع «لا» فإذا قلت : ما لزيد فقه ولا نحو. كانت «لا» لتأكيد النفي ، وانتفى عنه الوصفان ، ولو جعلت «لا» لتأسيس النفي كانت بمعنى «غير» فيصير المعنى انتفاء الفقه عنه ، وثبوت النحو له ؛ إذ لو قلت : ما لزيد فقه غير نحو ، كان في ذلك إثبات النحو له ، كأنك قلت : ما له غير نحو ، ألا ترى أنك إذا قلت : جئت بلا زاد ، كان المعنى : جئت بغير زاد وإذا قلت : ما جئت بغير زاد ، معناه أنك جئت بزاد ؛ لأن «لا» هنا لتأسيس النفي ، فإطلاق ابن عطية الخطأ وعدم التئام المعنى إنما يكون على أحد التقديرين ، وهو أن يكون «لا» لتأسيس النفي لا لتأكيده ، وأن يكون من عطف المنفي ب «لا» على المثبت الداخل عليه النفي نحو : ما أريد أن تجهل وألا تتعلم ، تريد : ما أريد أن لا تتعلم».

وتابع الزمخشريّ الطبريّ في عطف «يأمركم» على «يقول» وجوّز في «لا» الداخلة عليه وجهين :

أحدهما : أن يكون لتأسيس النفي.

الثاني : أنها مزيدة لتأكيده ، فقال : وقرىء (وَلا يَأْمُرَكُمْ) بالنصب ؛ عطفا على «ثمّ يقول» (١) وفيه وجهان :

أحدهما : أن تجعل «لا» مزيدة لتأكيد معنى النفي في قوله : (ما كانَ لِبَشَرٍ). والمعنى : ما كان لبشر أن يستنبئه الله تعالى ، وينصّبه للدعاء إلى اختصاص الله بالعبادة وترك الأنداد ، ثم يأمر الناس بأن يكونوا عبادا لهم ، ويأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا ، كقولك : ما كان لزيد أن أكرمه ، ثم يهينني ولا يستخف بي.

والثاني : أن يجعل «لا» غير مزيدة ، والمعنى أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان ينهى قريشا عن عبادة الملائكة واليهود والنصارى عن عبادة عزير والمسيح ، فلما قالو له : أنتخذك ربّا؟ قيل لهم : ما كان لبشر أن يستنبئه الله ثم يأمر الناس بعبادته ، وينهاكم عن عبادة الملائكة والأنبياء.

قال شهاب الدين : «وكلام الزمخشري صحيح ، ومعناه واضح على كلا تقديري كون «لا» لتأسيس النفي وتأكيده فكيف يجعل الشيخ كلام الطبريّ فاسدا على أحد

__________________

(١) ينظر : الكشاف ١ / ٣٧٨.

٣٥٢

التقديرين ـ وهو كونها لتأسيس النفي فقد ظهر صحة كلام الطبريّ بكلام الزمخشريّ ، وظهر أن ردّ ابن عطية عليه مردود».

وقد رجح الناس قراءة الرفع على النصب.

قال سيبويه : ولا يأمركم منقطعة مما قبلها ؛ لأن المعنى ولا يأمركم الله.

قال الواحدي : ومما يدل على الانقطاع من الأول قراءة عبد الله «ولن يأمركم» (١).

وقال الفرّاء : فهذا دليل على انقطاعها من النسق ، وأنها مستأنفة ، فلما وقعت «لا» موقع «لن» رفعت كما قال تعالى : (إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ) [البقرة : ١١٩] وفي قراءة ، عبد الله : ولن تسأل.

قال الزمخشريّ : والقراءة بالرفع على ابتداء الكلام أظهر ، ويعضدها قراءة عبد الله : «لن يأمركم» وقد تقدم أن الضمير في «يأمركم» يجوز أن يعود على «الله» وأن يعود على البشر الموصوف بما تقدم والمراد به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو أعم من ذلك.

وسواء قرىء برفع (وَلا يَأْمُرَكُمْ) أو بنصبه إذا جعلناه معطوفا على «يقول» فإن الضمير يعود على «بشر» لا غير ، [ويؤيد هذا قول بعضهم : ووجه القراءة بالنصب أن يكون معطوفا على الفعل المنصوب قبله ، فيكون الضمير المرفوع ل «بشر» لا غير يعني بما قبله «ثمّ يقول».

ولما ذكر سيبويه قراءة الرفع جعل الضمير عائدا على «الله» تعالى ولم يذكر غير ذلك ، فيحتمل أن يكون هو الأظهر عنده ، ويحتمل أنه لا يجوز غيره ، والأول أولى.

قال بعضهم : وفي الضمير المنصوب في «يأمركم» ـ على كلتا القراءتين ـ خروج من الغيبة إلى الخطاب على طريق الالتفات ، فكأنه توهم أنه لما تقدم في قوله ذكر النافي ـ في قوله : (ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ) كان ينبغي أن يكون النظم ولا يأمرهم ؛ جريا على ما تقدم ، وليس كذلك ، بل هذا ابتداء خطاب ، لا التفات فيه.

قوله : (أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ) الهمزة للاستفهام بمعنى الإنكار ، يعني أنه لا يفعل ذلك.

قوله : (بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) «بعد» متعلق ب «يأمركم» وبعد ظرف زمان مضاف لظرف زمان ماض وقد تقدّم أنه لا يضاف إليه إلا الزمان ، نحو حينئذ ويومئذ. و (أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) في محلّ خفض بالإضافة ؛ لأن «إذ» تضاف إلى الجملة مطلقا.

قال الزمخشريّ : «بعد إذ أنتم مسلمون» دليل على أن المخاطبين كانوا مسلمين ، وهم الذين استأذنوا الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يسجدوا له.

__________________

(١) انظر : إعراب القراءات السبع ١ / ١١٦ ، والكشاف ١ / ٣٧٨ ، والبحر المحيط ٢ / ٥٣١ ، والدر المصون ٢ / ١٥٠.

٣٥٣

قوله تعالى : (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (٨١) فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ)(٨٢)

العامل في «إذ» وجوه :

أحدها : «اذكر» إن كان الخطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

الثاني : «اذكروا» إن كان الخطاب لأهل الكتاب.

الثالث : اصطفى ، فيكون معطوفا على «إذ» المتقدمة قبلها ، وفيه بعد ؛ بل امتناع ؛ لبعده.

الرابع : أن العامل فيه «قال» في قوله : (قالَ أَأَقْرَرْتُمْ) وهو واضح.

وميثاق ، يجوز أن يكون مضافا لفاعله ، أو لمفعوله ، وفي مصحف أبيّ وعبد الله وقراءتهما (١) : (مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ)، كما في آخر السورة [الآية : ١٨٧]. وعن مجاهد كذلك ، وقال : أخطأ الكاتب.

قال شهاب الدين : «وهذا خطأ من قائله ـ كائنا من كان ـ ولا أظنه عن مجاهد ؛ فإنه قرأ عليه مثل ابن كثير وأبي عمرو بن العلاء ، ولم ينقل عنه واحد منهما شيئا من ذلك».

والمعنى على القراءة الشهيرة صحيح ، وقد ذكروا فيها أوجها :

أحدها : أن الكلام على ظاهره ، وأن الله تعالى ـ أخذ على الأنبياء مواثيق أنهم يصدّقون بعضهم بعضا وينصر بعضهم بعضا ، بمعنى : أنه يوصي قومه أن ينصروا ذلك النبي الذي يأتي بعده ، ولا يخذلوه وهذا قول سعيد بن جبير والحسن وطاووس (٢).

وقيل هذا الميثاق مختص بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهذا مرويّ عن عليّ وابن عباس وقتادة والسدي (٣) ، واحتج القائلون بهذا بقوله تعالى : (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ) [آل عمران : ٨١] وهذا يدل على أن الآخذ [هو الله ـ تعالى ـ والمأخوذ منهم هم النبيون ، وليس في الآية ذكر الأمة ، فلم يحسن صرف الميثاق إلى الأمة](٤).

__________________

(١) انظر : المحرر الوجيز ١ / ٤٦٤ ، والبحر المحيط ٢ / ٥٣٢ ، والدر المصون ٢ / ١٥١.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٥٥٥) عن ابن عباس وطاووس وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٨٤) عن ابن عباس وزاد نسبته لابن المنذر وابن أبي حاتم.

وذكره أيضا عن طاووس (٢ / ٨٤) وزاد نسبته لعبد الرزاق وابن المنذر وابن أبي حاتم وعبد بن حميد.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٥٥٥) عن علي بن أبي طالب وقتادة والسدي. وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٨٤) عن قتادة وزاد نسبته لعبد بن حميد.

وذكره أيضا عن السدي (٢ / ٨٤) وزاد نسبته لابن أبي حاتم.

(٤) سقط في أ.

٣٥٤

وأجيب بأن على الوجه الذي قلتم يكون الميثاق مضافا إلى الموثق عليه. وعلى قولنا إضافته [إليهم إضافة الفعل إلى الفاعل ـ وهو الموثق ـ وإضافة الفعل إلى الفاعل أقوى من إضافته](١) إلى المفعول ؛ فإن لم يكن فلا أقل من المساواة ، وهو كما يقال : ميثاق الله وعهده ، فيكون التقدير : وإذ أخذ الله الميثاق الذي وثقه الأنبياء على أممهم.

ويمكن أن يراد ميثاق أولاد النبيين ـ وهم بنو إسرائيل ـ على حذف مضاف [وهو كما يقال : «فعل بكر بن وائل كذا» ، و «فعل معد بن عدنان كذا» ، والمراد أولادهم وقومهم ، فكذا ههنا](٢).

ويحتمل أن يكون المراد من لفظ «النّبيّين» أهل الكتاب ، فأطلق لفظ «النّبيّين» عليهم ؛ تهكّما بهم على زعمهم ؛ لأنهم كانوا يقولون : نحن أولى بالنبوة من محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأنا أهل الكتاب ، ومنا النبيون ، قاله الزمخشريّ.

ويمكن أنه ذكر النبي والمراد أمته كقوله : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَ) [الطلاق : ١].

واحتجوا ـ أيضا ـ بما روي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لقد جئتكم بها بيضاء نقيّة ، أما والله لو كان موسى بن عمران حيّا لما وسعه إلّا اتّباعي» (٣).

وبما روي عن علي ـ رضي الله عنه ـ أنه قال : «إن الله ـ تعالى ـ ما بعث آدم ومن بعده من الأنبياء عليهم‌السلام إلا أخذ العهد عليه لئن بعث محمد وهو حيّ ليؤمننّ به ، ولينصرنه».

القول الثاني : أن الميثاق مضاف لفاعله ، والموثق عليه غير مذكور ؛ لفهم المعنى ، والتقدير : ميثاق النبيّين على أممهم ، ويؤيده قراءة أبيّ وعبد الله ، ويؤيده ـ أيضا ـ قوله : (فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذلِكَ) [آل عمران : ٨٢] والمراد من الآية أن الأنبياء كانوا يأخذون الميثاق من أممهم بأنه إذا بعث محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يؤمنوا به وينصروه وهو قول مجاهد والربيع ، واحتجوا بقوله : (ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ) [آل عمران : ٨١] وإنما كان محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم مبعوثا إلى أهل الكتاب دون النبيين.

وقال أبو مسلم : ظاهر الآية يدل على أن الذين أخذ الله الميثاق منهم ، يجب عليهم الإيمان بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم عند مبعثه وكل الأنبياء يكونون عند مبعثه عليه‌السلام من زمرة الأموات والميت لا يكون مكلفا ، فعلمنا أن المأخوذ عليهم الميثاق ليسوا هم النبيين بل

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) سقط في ب.

(٣) أخرجه بهذا اللفظ أحمد (٣ / ٣٧٨) وابن أبي عاصم في «السنة» (١ / ٢٧) عن جابر بن عبد الله.

وأخرجه ابن الضريس عن عمر كما في «الدر المنثور» (٥ / ١٤٩). والحديث ذكره ابن كثير في «تفسيره» (٤ / ٢٩٦) وابن حجر في «الفتح» (١٣ / ٣٣٤).

٣٥٥

أممهم ، ويؤكّد هذا أنه ـ تعالى ـ حكم على من أخذ عليهم الميثاق أنهم لو تولوا كانوا فاسقين ، وهذا الوصف لا يليق بالأنبياء ، وإنما يليق بالأمم.

قال القفال عن هذا الاستدلال بأنه لا يجوز أن يكون المراد من الآية أن الأنبياء لو كانوا في الحياة لوجب عليهم الإيمان بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بل يكون هذا كقوله : (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) [الزمر : ٦٥] وقد علم الله تعالى أنه لا يشرك قط ، ولكن خرج هذا على سبيل الفرض والتقدير ، وكقوله : (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ) [الحاقة : ٤٤ ـ ٤٦] وكقوله في صفة الملائكة : (وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ) [الأنبياء : ٢٩] وكل ذلك على سبيل الفرض والتقدير ـ فكذا هنا ـ وقوله : إنه سماهم فاسقين فهو على تقدير التولي ، واسم الشرك أقبح من اسم الفسق ـ وقد ذكره ـ تعالى ـ على سبيل الفرض في قوله : (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) [الزمر : ٦٥].

واحتجوا ـ أيضا ـ بأن المقصود من الآية أن يؤمن الذين كانوا في زمان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإذا كان الميثاق مأخوذا عليهم كان ذلك أبلغ في تحصيل هذا المقصود من أن يكون مأخوذا على الأنبياء وأجيب عن ذلك بأن درجات الأنبياء أعلى وأشرف من درجات الأمم ، فإذا دلت الآية على أن الله أوجب على جميع الأنبياء أن يؤمنوا بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لو كانوا أحياء ـ وأنهم لو تركوا ذلك لصاروا من زمرة الفاسقين ، فلأن يكون الإيمان بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم واجبا على أممهم كان أولى.

واحتجوا أيضا بما روي عن ابن عباس قال : إنما أخذ الله ميثاق النّبيّين على قومهم. وبقوله تعالى : (اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ) [البقرة : ٤٠] وبقوله : (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) [آل عمران : ١٨٧].

وقال بعض أصحاب القول الأول : المعنى : أن الله أخذ ميثاق النبيين أن يأخذوا الميثاق على أممهم أن يؤمنوا بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وينصروه ، ويصدقوه ـ إن أدركوه.

قال بعضهم : إن الله أخذ الميثاق على النبيين وأممهم ـ جميعا ـ في أمر محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فاكتفى بذكر الأنبياء ؛ لأن العهد مع المتبوع عهد مع التابع ، وهذا معنى قول ابن عباس.

قرأ العامّة : «لما آتيتكم» بفتح لام «لما» وتخفيف الميم ، وحمزة ـ وحده ـ على كسر اللام (١). وقرأ الحسن وسعيد بن جبير «لمّا» بالفتح والتشديد (٢).

فأما قراءة العامة ففيها خمسة أوجه :

__________________

(١) انظر : السبعة ٢١٣ ، والكشف ١ / ٣٥١ ، والحجة ٣ / ٦٢ ، والعنوان ٨٠ ، وحجة القراءات ١٦٨ ، وإعراب القراءات ١ / ١١٦ وشرح الطيبة ٤ / ١٦١ ، وشرح شعلة ٣٢٠ ، وإتحاف ١ / ٤٨٣.

(٢) انظر : المحرر الوجيز ١ / ٤٦٥ ، والبحر المحيط ٢ / ٥٣٢ ، والدر المصون ٢ / ١٥٢.

٣٥٦

أحدها : أن تكون «ما» موصولة بمعنى الذي ، وهي مفعولة بفعل محذوف ، ذلك الفعل هو جواب القسم والتقدير : والله لتبلّغنّ ما آتيناكم من كتاب. قال هذا القائل : لأن لام القسم إنما تقع على الفعل فلما دلت هذه اللام على الفعل حذف. ثم قال تعالى : (ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ) وهو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : وعلى هذا التقدير يستقيم النّظم.

وقال شهاب الدين (١) : وهذا الوجه لا ينبغي أن يجوز ألبته ؛ إذ يمتنع أن تقول في نظيره من الكلام : «والله لزيدا» تريد : والله لتضربن زيدا.

الوجه الثاني : وهو قول أبي علي وغيره : أن تكون اللام ـ في «لما» ـ جواب قوله : (مِيثاقَ النَّبِيِّينَ) لأنه جار مجرى القسم ، فهي بمنزلة قولك : لزيد أفضل من عمرو ، فهي لام الابتداء المتلقّى بها القسم وتسمى اللام المتلقية للقسم. و «ما» مبتدأة موصولة و «آتيتكم» صلتها ، والعائد محذوف ، تقديره : آتيناكموه فحذف لاستكمال شرطه. و (مِنْ كُتُبٍ) حال ـ إما من الموصول ، وإما من عائده ـ وقوله : (ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ) عطف على الصلة ، وحينئذ فلا بد من رابط يربط هذه الجملة بما قبلها ؛ فإن المعطوف على الصلة صلة.

واختلفوا في ذلك ، فذهب بعضهم إلى أنه محذوف ، تقديره : جاءكم رسول به ، فحذف «به» لطول الكلام ودلالة المعنى عليه. وهذا لا يجوز ؛ لأنه متى جرّ العائد لم يحذف إلا بشروط ، وهي مفقودة هنا ، [وزعم هؤلاء أن هذا مذهب سيبويه ، وفيه ما قد عرفت ، ومنهم من](٢) قال : الربط حصل ـ هنا ـ بالظاهر ، لأن الظاهر ـ وهو قوله «لما معكم» صادق على قوله : «لما آتيناكم» فهو نظير : أبو سعيد الذي رويت عن الخدري ، والحجاج الذي رأيت أبو يوسف. وقال : [الطويل]

١٥٢٩ ـ فيا ربّ ليلى أنت في كلّ موطن

وأنت الّذي في رحمة الله أطمع (٣)

يريد رويت عنه ، ورأيته ، وفي رحمته. فأقام الظاهر مقام المضمر ، وقد وقع ذلك في المبتدأ والخبر ، نحو قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً) [الكهف : ٣٠] ولم يقل : إنا لا نضيع ، وقال تعالى : (إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) [يوسف : ٩٠] ولم يقل : لا يضيع أجره وهذا رأي أبي الحسن والأخفش. وقد تقدم البحث فيه.

ومنهم من قال : إن العائد يكون ضمير الاستقرار العامل في «مع» و «لتؤمنن به» جواب قسم مقدر ، وهذا القسم المقدّر وجوابه خبر للمبتدأ الذي هو «لما آتيناكم» والهاء

__________________

(١) ينظر : الدر المصون ٢ / ١٥٢.

(٢) سقط في ب.

(٣) البيت للمجنون ينظر الدرر ١ / ٢٨٦ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٥٥٩ ، والمقاصد النحوية ١ / ٤٩٧ ، وشرح التصريح ١ / ١٤٠ ، ومغني اللبيب ١ / ٢١٠ ، وشرح الأشموني ١ / ٦٧ ، وهمع الهوامع ١ / ٨٧.

والدر المصون ٢ / ١٥٢.

٣٥٧

ـ في «به» ـ تعود على المبتدأ ، ولا تعود على «رسول» لئلّا يلزم خلوّ الجملة الواقعة خبرا من رابط يربطها بالمبتدأ.

الوجه الثالث : كما تقدم ، إلا أن اللام في «لما» لام التوطئة ؛ لأن أخذ الميثاق في معنى الاستخلاف. وفي «لتؤمنن» لام جواب القسم ، هذا كلام الزمخشريّ. ثم قال : و «ما» تحتمل أن تكون المتضمنة لمعنى الشرط ، و «لتؤمننّ» سادّ مسدّ جواب القسم والشرط جميعا ، وأن تكون بمعنى الذي. وهذا الذي قاله فيه نظر ؛ من حيث إن لام التوطئة تكون مع أدوات الشرط ، وتأتي ـ غالبا ـ مع «إن» أما مع الموصول فلا يجوز في اللام أن تكون موطّئة وأن تكون للابتداء. ثم ذكر في «ما» الوجهين ، لحملنا كل واحد على ما يليق به.

الوجه الرابع : أن اللام هي الموطئة ، و «ما» بعدها شرطية ، ومحلها النصب على المفعول به بالفعل الذي بعدها ـ وهو «آتيناكم» ، وهذا الفعل مستقبل معنى ؛ لكونه في جزاء الشرط ، ومحله الجزم ، والتقدير : والله لأي شيء آتيتكم من كذا وكذا ليكونن كذا ، وقوله : (مِنْ كُتُبٍ)، كقوله : (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ) [البقرة : ١٠٦] وقد تقدم تقريره. وقوله : (ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ) عطف على الفعل قبله ، فيلزم أن يكون فيه رابط يربطه بما عطف عليه ، و «لتؤمننّ» جواب لقوله : (أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ) وجواب الشرط محذوف ، سدّ جواب القسم مسدّه ، والضمير في «به» عائد على «رسول» ، كذا قال أبو حيّان.

قال شهاب الدين : «وفيه نظر ؛ لأنه يمكن عوده على اسم الشرط ، ويستغنى ـ حينئذ ـ عن تقديره رابطا».

وهذا كما تقدم في الوجه الثاني ونظير هذا من الكلام أن نقول : أحلف بالله لأيهم رأيت ، ثم ذهب إليه رجل قرشي لأحسنن إليه ـ تريد إلى الرجل ـ وهذا الوجه هو مذهب الكسائي.

وقد سأل سيبويه الخليل عن هذه الآية ، فأجاب بأن «ما» بمنزلة الذي ، ودخلت اللام على «ما» كما دخلت على «إن» حين قلت : والله لئن فعلت لأفعلن ، فاللام التي في «ما» كهذه التي في «إن» واللام التي في الفعل كهذه اللام التي في الفعل هنا. هذا نصّ الخليل.

قال أبو علي : لم يرد الخليل بقوله : إنها بمنزلة الذي كونها موصولة ، بل إنها اسم كما أن «الذي» اسم وإما أن تكون حرفا كما جاءت حرفا في قوله : (وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ) [هود : ١١١] وقوله : (وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا) [الزخرف : ٣٥].

وقال سيبويه : ومثل ذلك (لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ) [الأعراف : ١٨] إنما دخلت اللام على نية اليمين. وإلى كونها شرطية ذهب جماعة كالمازني والزجّاج والفارسيّ والزمخشري.

٣٥٨

قال أبو حيّان : «وفيه خدش لطيف جدّا» وحاصل ما ذكر : أنهم إن أرادوا تفسير المعنى فيمكن أن يقال ، وإن أرادوا تفسير الإعراب فلا يصح ؛ لأن كلّا منهما ـ أعني : الشرط والقسم ـ بطلب جوابا على حدة ، ولا يمكن أن يكون هذا محمولا عليهما ؛ لأن الشرط يقتضيه على جهة العمل ، فيكون في موضع جزم ، والقسم يطلبه على جهة التعلّق المعنويّ به من غير عمل ، فلا موضع له من الإعراب ، ومحال أن يكون الشيء له موضع من الإعراب ولا موضع له من الإعراب. [وتقدم هذا الإشكال وجوابه](١).

الوجه الخامس : أن أصلها «لمّا» ـ بالتشديد ـ فخفّفت ، وهذا قول أبي إسحاق وسيأتي في قراءة التشديد ، وقرأ حمزة لما ـ بكسر اللام ، خفيفة الميم ـ أيضا ـ وفيها أربعة أوجه:

أحدها : وهو أغربها ـ أن تكون اللام بمعنى «بعد».

كقول النابغة : [الطويل]

١٥٣٠ ـ توهّمت آيات لها فعرفتها

لستّة أعوام وذا العام سابع (٢)

يريد : فعرفتها بعد ستة أعوام ، وهذا منقول عن صاحب النّظم.

قال شهاب الدين : «ولا أدري ما حمله على ذلك؟ وكيف ينتظم هذا كلاما؟ إذ يصير تقديره : وإذ أخذ الله ميثاق النبيين بعد ما آتيتكم ، ومن المخاطب بذلك؟».

الثاني : أن اللام للتعليل ـ وهذا الذي ينبغي أن لا يحاد عنه ـ وهي متعلّقة ب «لتؤمنن» و «ما» حينئذ ـ مصدرية.

قال الزمخشري : «ومعناه : لأجل إيتائي إياكم بعض الكتاب والحكمة ، ثم لمجيء رسول مصدق لتؤمنن به على أن «ما» مصدرية ، والفعلان معها ـ أعني : «آتيناكم» و «جاءكم» ـ في معنى المصدرين ، واللام داخلة للتعليل ، والمعنى : أخذ الله ميثاقهم ليؤمنن بالرسول ، ولينصرنه ، لأجل أن آتيتكم الكتاب والحكمة ، وأن الرسول الذي آمركم بالإيمان به ونصرته موافق لكم ، غير مخالف لكم».

قال أبو حيان : وظاهر هذا التعليل الذي ذكره ، والتقدير الذي قدره أنه تعليل للفعل المقسم فإن عنى هذا الظاهر ، فهو مخالف لظاهر الآية ؛ لأن ظاهر الآية يقتضي أن يكون تعليلا لأخذ الميثاق ، لا لمتعلّقه ـ وهو الإيمان ـ فاللام متعلقة ب «أخذ» وعلى ظاهر تقدير الزمخشريّ تكون متعلقة بقوله : (لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ) ويمتنع ذلك من حيث إن اللام المتلقّى بها القسم لا يعمل ما بعدها فيما قبلها تقول : والله لأضربن زيدا ، ولا يجوز : والله زيدا لأضربن ، فعلى هذا لا يجوز أن تتعلق اللام في «لما» بقوله : «لتؤمنن».

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) تقدم برقم ٤٢٢.

٣٥٩

وأجاز بعض النحويين في معمول الجواب ـ إذا كان ظرفا أو مجرورا ـ تقدّمه ، وجعل من ذلك قوله : (عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ) [المؤمنون : ٤٠].

وقوله : [الطويل]

١٥٣١ ـ ...........

بأسحم داج عوض لا نتفرّق (١)

فعلى هذا يجوز أن يتعلق بقوله : (لَتُؤْمِنُنَّ).

قال شهاب الدين «أما تعلّق اللام ب (لَتُؤْمِنُنَ) ـ من حيث المعنى ـ فإنه أظهر من تعلّقها ب «أخذ» فلم يبق إلا ما ذكر من منع تقديم معمول الجواب المقترن باللام عليه ، وقد يكون الزمخشريّ ممن يرى جوازه».

والثالث : أن تتعلق اللام ب «أخذ» ، أي لأجل إيتائي إياكم كيت وكيت ، أخذت عليكم الميثاق ، وفي الكلام حذف مضاف ، تقديره : رعاية ما آتيتكم.

الرابع : أن تتعلق ب «الميثاق» ، لأنه مصدر ، أي : توثقنا عليهم لذلك.

هذه الأوجه بالنسبة إلى اللام ، وأما «ما» ففيها ثلاثة أوجه :

أحدها : أن تكون مصدرية كما تقدم عن الزمخشريّ.

والثاني : أنها موصولة بمعنى «الذي» وعائدها محذوف ، و (ثُمَّ جاءَكُمْ)، عطف على الصلة ، والرابط بالموصول إما محذوف ، تقديره : به ، وإما قيام الظاهر مقام المضمر ، وهو رأي الأخفش ، وإما ضمير الاستقرار الذي تضمنه «معكم».

والثالث : أنها نكرة موصوفة ، والجملة بعدها صفتها ، وعائدها محذوف ، (ثُمَّ جاءَكُمْ) عطف على الصفة ، والكلام في الرابط كما تقدم فيها وهي صلة ، إلا أن إقامة الظاهر مقامه في الصفة ممتنع ، لو قلت : مررت برجل قام أبو عبد الله ـ على أن يكون : قام أبو عبد الله صفة لرجل ، والرابط أبو عبد الله ، إذ هو الرجل في المعنى ـ لم يجز ذلك ، وإن جاز في الصلة والخبر ، عند من يرى ذلك ـ فيتعين عود ضمير محذوف. وجواب قوله : (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ) قوله : (لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ) والضمير في «به» عائد على «رسول» ويجوز الفصل بين القسم والمقسم عليه بمثل هذا الجار والمجرور ، فلو قلت : أقسمت للخبر الذي بلغني عن عمرو لأحسننّ إليه ، جاز.

وقوله : (مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ) إما حال من الموصول ، أو من عائده ، وإمّا بيان له.

__________________

(١) هذا عجز بيت للأعشى وهو بتمامه :

رضيعي لبان ثدي أم تحالفا

بأسحم داج عوض لا نتفرق

ينظر ديوانه ٢٢٥ والإنصاف ٤٠١ والخصائص ١ / ٢٦٥ والهمع ١ / ٢١٣ والخزانة ٣ / ٢٠٩ وابن يعيش ٤ / ١٠٧ والمغني ١ / ١٣٢ وشرح أبيات المغني ٣ / ٣٢٤ وارتشاف الضرب ٢ / ٤٩٢ واللسان (عوض) والدر المصون ٣٢ / ١٥٤.

٣٦٠