اللّباب في علوم الكتاب - ج ٥

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ٥

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 2-7451-2298-3
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٦٣٢

المرتبة الثانية لأبي عمرو وقالون عن نافع : بألف بعد الهاء ، وهمزة مسهّلة بين بين بعدها.

المرتبة الثالثة لورش ، وله وجهان :

أحدهما : بهمزة مسهلة بين بين بعد الهاء دون ألف بينهما.

الثاني : بألف صريحة بعد الهاء بغير همزة بالكلية.

المرتبة الرابعة لقنبل بهمزة مخفّفة بعد الهاء دون ألف.

فصل

اختلف الناس في هذه الهاء : فمنهم من قال : إنها «ها» التي للتنبيه الداخلة على أسماء الإشارة ، وقد كثر الفصل بينها وبين أسماء الإشارة بالضمائر المرفوعة المنفصلة ، نحو : ها أنت ذا قائما ، وها نحن ، وها هم ، وهؤلاء ، وقد تعاد مع الإشارة بعد دخولها على الضمائر ؛ توكيدا ، كهذه الآية ، ويقل الفصل بغير ذلك كقوله : [البسيط]

١٥٠٠ ـ تعلّمن ها ـ لعمر الله ـ ذا قسما

فاقدر بذرعك وانظر أين تنسلك (١)

وقول النابغة : [البسيط]

١٥٠١ ـ ها ـ إنّ ـ ذي عذرة إن لا تكن قبلت

فإنّ صاحبها قد تاه في البلد (٢)

ومنهم من قال : إنها مبدلة من همزة الاستفهام ، والأصل : أأنتم؟ وهو استفهام إنكار ، وقد كثر إبدال الهمزة هاء ـ وإن لم ينقس ـ قالوا هرقت ، وهرحت ، وهنرت ، وهذا قول أبي عمرو بن العلاء ، وأبي الحسن الأخفش ، وجماعة ، وأستحسنه أبو جعفر ، وفيه نظر ؛ من حيث إنه لم يثبت ذلك في همزة الاستفهام ، لم يسمع : هتضرب زيدا ـ بمعنى أتضرب زيدا؟ وإذا لم يثبت ذلك فكيف يحمل هذا عليه؟

هذا معنى ما اعترض به أبو حيان على هؤلاء الأئمة ، وإذا ثبت إبدال الهمزة هاء هان الأمر ، ولا نظر إلى كونها همزة استفهام ، ولا غيرها ، وهذا ـ أعني كونها همزة استفهام أبدلت هاء ـ ظاهر قراءة قنبل ، وورش ؛ لأنهما لا يدخلان ألفا بين الهاء وهمزة «أنتم» ؛ لأن إدخال الألف لما كان لاستثقال توالي همزتين ، فلما أبدلت الهمزة هاء زال الثقل لفظا ؛ فلم يحتج إلى فاصلة ، وقد جاء إبدال همزة الاستفهام ألفا في قول الشاعر : [الكامل]

__________________

(١) تقدم.

(٢) ينظر : ديوانه (٢٨) ، وخزانة الأدب ٥ / ٤٥٩ ، وشرح المفصل ٨ / ١١٣ ، والجنى الداني ص ٣٤٩ ، والدرر ٥ / ١١٩ ، ولسان العرب (عذر) ، (تا) ، (ها) ، وشرح الأشموني ١ / ٦٦ ، وشرح شافية ابن الحاجب ١ / ١٨٠ ، وهمع الهوامع ٢ / ٧٠ ، والدر المصون ٢ / ١٢٧.

٣٠١

١٥٠٢ ـ وأتت صواحبها ، وقلن هذا الّذي

منح المودّة غيرنا وجفانا (١)

يريد أذا الذي؟

ويضعف جعلها ـ على قراءتهما ـ «ها» التي للتنبيه ؛ لأنه لم يحفظ حذف ألفها ، لا يقال : هذا زيد ـ بحذف ألف «ها» ـ كذا قيل.

قال شهاب الدّين : «وقد حذفها ابن عامر في ثلاثة مواضع ـ إلا أنه ضم الهاء الباقية بعد حذف الألف ـ فقرأ ـ في الوصل ـ : يأيه الساحر [الزخرف : ٤٩] و (وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ) [النور : ٣١] ، و (سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ) [الرحمن : ٣١] ، ولكن إنما فعل ذلك اتباعا للرسم ؛ لأن الألف حذفت في مرسوم مصحف الشام في هذه الثلاثة ، وعلى الجملة فقد ثبت حذف ألف «ها» التي للتنبيه. وأمّا من أثبت الألف بين الهاء وبين همزة «أنتم» فالظاهر أنها للتنبيه ، ويضعف أن تكون بدلا من همزة الاستفهام ؛ لما تقدم من أن الألف إنما تدخل لأجل الثقل ، والثقل قد زال بإبدال الهمزة هاء ، وقال بعضهم : الذي يقتضيه النظر أن تكون «ها» ـ في قراءة الكوفيين والبزّيّ وابن ذكوان ـ ، للتنبيه ؛ لأن الألف في قراءتهم ثابتة ، وليس من مذهبهم أن يفصلوا بين الهمزتين بألف ، وأن تكون في قراءة قنبل وورش ـ مبدلة من همزة ؛ لأن قنبلا يقرأ بهمزة بعد الهاء ، ولو كانت «ها» للتنبيه لأتى بألف بعد الهاء ، وإنما لم يسهّل الهمزة ـ كما سهّلها في (أَأَنْذَرْتَهُمْ) ونحوه لأن إبدال الأولى هاء أغناه عن ذلك ، ولأن ورشا فعل فيه ما فعل في : (أَأَنْذَرْتَهُمْ) ونحوه من تسهيل الهمزة ، وترك إدخال الألف ، وكان الوجه في قراءته بالألف ـ أيضا ـ الحمل على البدل كالوجه الثاني في (أَأَنْذَرْتَهُمْ) ونحوه.

وما عدا هؤلاء المذكورين ـ وهم أبو عمرو وهشام وقالون ـ يحتمل أن تكون «ها» للتنبيه ، وأن تكون بدلا من همزة الاستفهام.

أما الوجه الأول فلأن «ها» التنبيه دخلت على «أنتم» فحقّق هشام الهمزة كما حققها في «هؤلاء» ونحوها ، وخفّفها قالون وأبو عمرو ؛ لتوسّطها بدخول حرف التنبيه عليها ، وتخفيف الهمزة المتوسطة قويّ.

الوجه الثاني : أن تكون الهاء بدلا من همزة الاستفهام ؛ لأنهم يفصلون بين الهمزتين بألف ، فيكون أبو عمرو وقالون على أصلهما (٢) ـ في إدخال الألف والتسهيل ـ وهشام

__________________

(١) البيت لجميل بثينة ينظر ديوانه ص ١٩٦ ، ولسان العرب (ذا) ، (ها) ، والمقرب ٢ / ١٧٩ ، وشرح المفصل ١٠ / ٤٢ ، ٤٣ ، وشرح شافية ابن الحاجب ٣ / ٢٢٤ ، وشرح شواهد الشافية ص ٤٧٧ ، وسر صناعة الإعراب ٢ / ٥٥٤ ، وجواهر الأدب ص ٣٣٤ ، ورصف المباني ص ٤٠٣ ، والجنى الداني ص ١٥٣ ، والمحتسب ١ / ١٨١ ، ومغني اللبيب ١ / ٣٤٨ ، والممتع في التصريف ١ / ٤٠٠.

(٢) في أ : أحدهما.

٣٠٢

على أصله ـ في إدخال الألف والتحقيق ـ ولم يقرأ بالوجه الثاني ـ وهو التسهيل ـ لأن إبدال الهمزة الأولى هاء مغن عن ذلك.

وقال آخرون : إنه يجوز أن تكون «ها» ـ في قراءة الجميع ـ مبدلة من همزة ، وأن تكون التي للتنبيه دخلت على «أنتم» ذكر ذلك أبو علي الفارسي والمهدوي ومكيّ في آخرين.

فأما احتمال هذين الوجهين ـ في قراءة أبي عمرو وقالون عن نافع ، وهشام عن ابن عامر ـ فقد تقدم توجيهه ، وأما احتمالهما في قراءة غيرهم ، فأما الكوفيون والبزّيّ وابن ذكوان فقد تقدم توجيه كون «ها» ـ عندهم ـ للتنبيه ، وأما توجيه كونها بدلا من الهمزة ـ عندهم ـ أن يكون الأصل أنه أأنتم ، ففصلوا بالألف ـ على لغة من قال : [الطويل]

١٥٠٣ ـ ...........

آأنت أم أمّ سالم (١)

ولم يعبئوا بإبدال الهمزة الأولى هاء ؛ لكون البدل فيها عارضا ، وهؤلاء ، وإن لم يكن من مذهبهم الفصل لكنهم جمعوا بين اللغتين.

وأما توجيه كونها بدلا من الهمزة ـ في قراءة قنبل وورش ـ فقد تقدم ، وأما توجيه كونها للتنبيه في قراءتهما ـ وإن لم يكن فيها ألف ـ أن تكون الألف حذفت لكثرة الاستعمال ، وعلى قول من أبدل كورش حذفت إحدى الألفين ؛ لالتقاء الساكنين.

قال أبو شامة : الأولى في هذه الكلمة ـ على جميع القراءات فيها ـ أن تكون «ها» للتنبيه ؛ لأنا إن جعلناها بدلا من همزة كانت الهمزة همزة استفهام ، و (ها أَنْتُمْ) أينما جاءت في القرآن إنما جاءت للخبر ، لا للاستفهام ، ولا مانع من ذلك إلا تسهيل من سهّل ، وحذف من حذف ، أما التسهيل فقد سبق تشبيهه بقوله : (لَأَعْنَتَكُمْ) [البقرة : ٢٢٠] وشبهه ، وأما الحذف فنقول : «ها» مثل «أما» ـ كلاهما حرف تنبيه ـ وقد ثبت جواز حذف ألف «أما» فكذا حذف ألف «ها» وعلى ذلك قولهم : أم والله لأفعلنّ.

وقد حمل البصريون قولهم : «هلمّ» على أن الأصل «هالمّ» ، ثم حذف ألف «ها» فكذا (ها أَنْتُمْ). وهو كلام حسن ، إلا أنّ قوله : إن (ها أَنْتُمْ) ـ حيث جاءت ـ كانت خبرا ، لا استفهاما ممنوع ، بل يجوز ذلك ، ويجوز الاستفهام ، انتهى.

ذكر الفرّاء أيضا ـ هنا ـ بحثا بالنسبة إلى القصر والمد ، فقال : من أثبت الألف في «ها» ، واعتقدها للتنبيه ، وكان مذهبه أن يقصر في المنفصل ، فقياسه هنا قصر الألف سواء حقّق الهمزة ، أو سهلها ، وأمّا من جعلها للتنبيه ، ومذهبه المد في المنفصل ، أو جعل الهاء مبدلة من همزة استفهام ـ فقياسه أن يمد ـ سواء حقق الهمزة أو سهلها ـ.

__________________

(١) تقدم برقم ١٥٥.

٣٠٣

وأما ورش فقد تقدم عنه وجهان : إبدال الهمزة ـ من «أنتم» ـ ألفا ، وتسهيلها بين بين ، فإذا أبدل مدّ ، وإذا سهّل قصر ، إذا عرف هذا ففي إعراب هذه الآية أوجه :

أحدها : أنّ «أنتم» مبتدأ ، و «هؤلاء» خبره ، والجملة من قوله : (حاجَجْتُمْ) جملة مستأنفة ، مبينة للجملة الأولى ، يعني أنتم هؤلاء الأشخاص الحمقى ، وبيان حماقتكم ، وقلة عقولكم ، أنكم جادلتم فيما لكم به علم بما نطق به التوراة والإنجيل (فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ؟) ذكر ذلك الزمخشريّ.

الثاني : أن يكون (ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ) مبتدأ وخبرا ، والجملة من (حاجَجْتُمْ) في محل نصب على الحال يدل على ذلك تصريح العرب بإيقاع الحال موقعها ـ في قولهم : ها أنا ذا قائما ، ثم هذه الحال عندهم ـ من الأحوال اللازمة ، التي لا يستغني الكلام عنها.

الثالث : أن يكون (ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ) على ما تقدم ـ أيضا ـ ولكن هؤلاء هنا موصول ، لا يتم إلا بصلة وعائد ، وهما الجملة من قوله : (حاجَجْتُمْ ،) ذكره الزمخشريّ.

وهذا إنما يتجه عند الكوفيين ، تقديره : ها أنتم الذين حاججتم.

الرابع : أن يكون «أنتم» مبتدأ ، و «حاججتم» خبره ، و «هؤلاء» منادى ، وهذا إنما يتّجه عند الكوفيين أيضا ؛ لأن حرف النداء لا يحذف من أسماء الإشارة ، وأجازه الكوفيون وأنشدوا : [البسيط]

١٥٠٤ ـ إنّ الألى وصفوا قومي لهم فبهم

هذا اعتصم تلق من عاداك مخذولا (١)

يريد يا هذا اعتصم ، وقول الآخر : [الخفيف]

١٥٠٥ ـ لا يغرّنّكم أولاء من القو

م جنوح للسّلم فهو خداع (٢)

يريد : يا أولاء.

الخامس : أن يكون «هؤلاء» منصوبا على الاختصاص بإضمار فعل. و «أنتم» مبتدأ ، و «حاججتم» خبره ، وجملة الاختصاص معترضة.

السادس : أن يكون على حذف مضاف ، تقديره : ها أنتم مثل هؤلاء ، وتكون الجملة بعدها مبيّنة لوجه الشبه ، أو حالا.

السابع : أن يكون «أنتم» خبرا مقدما ، و «هؤلاء» مبتدأ مؤخرا.

وهذه الأوجه السبعة قد تقدم ذكرها ، وذكر من نسبت إليه والردّ على بعض القائلين

__________________

(١) تقدم برقم ٦٢٩.

(٢) ينظر : شواهد التوضيح والتصحيح ص ٢١١ ، الأشموني ٣ / ١٣٦ ، شرح الكافية الشافية ٣ / ١٢٩٢ ، البحر ٢ / ٥١١ ، الدر المصون ٢ / ١٣٠.

٣٠٤

ببعضها ، بما يغني عند إعادته في سورة البقرة عند قوله تعالى : (ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ) [البقرة : ٨٥] فليلتفت إليه.

قوله : (فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ) «ما» يجوز أن تكون معنى «الذي» وأن تكون نكرة موصوفة.

ولا يجوز أن تكون مصدرية ؛ لعود الضمير عليها ، وهي حرف عند الجمهور ، و «لكم» يجوز أن يكون خبرا مقدما ، و «علم» مبتدأ مؤخرا ، والجملة صلة ل «ما» أو صفة ، ويجوز أن يكون لكم وحده صلة ، أو صفة ، و «علم» فاعل به ؛ لأنه قد اعتمد ، و «به» متعلق بمحذوف ؛ لأنه حال من «علم» إذ لو تأخّر عنه لصحّ جعله نعتا له ، ولا يجوز أن يتعلق ب «علم» لأنه مصدر ، والمصدر لا يتقدم معموله عليه ، فإن جعلته متعلّقا بمحذوف يفسّره المصدر جاز ذلك ، وسمي بيانا.

فصل

وأما المعنى فقال قتادة والسّدّيّ والربيع وغيرهم : إن الذي لهم به علم هو دينهم وجدوه في كتبهم ، وثبتت صحته لديهم ، والذي ليس لهم به علم هو شريعة إبراهيم ، وما عليه مما ليس في كتبهم ، ولا جاءت به إليهم رسلهم ، ولا كانوا معاصريه ، فيعلمون دينه ، فجدالهم فيه مجرّد عناد ومكابرة.

قيل : الذي لهم به علم هو أمر نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأنه موجود عندهم في كتبهم بنعته ، والذي ليس به علم هو أمر إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ.

قال الزمخشريّ : «يعني أنتم هؤلاء الأشخاص الحمقى ، وبيان حماقتكم ، أنكم جادلتم فيما لكم به علم ومما نطق به التوراة والإنجيل ، (فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ) ولا نطق به كتابكم من إبراهيم».

فصل

اعلم أنهم زعموا أن شريعة التوراة والإنجيل مخالفة لشريعة القرآن ، وهو المراد بقوله (حاجَجْتُمْ فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ) ثم قال : (فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ) وهو ادّعاؤكم أن شريعة إبراهيم كانت مخالفة لشريعة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقد تقدم أقوال العلماء فيه ثم يحتمل في قوله : (ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ) فكيف تحاجّونه فيما لا علم لكم به ألبتة؟ ثم حقّق ذلك بقوله : (وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) كيفية تلك الأحوال من المخالفة والموافقة ، ثم ذكر ـ تعالى ـ ذلك مفصّلا ، مبيّنا ، فقال : (ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا) فكذبّهم فيما ادّعوه ـ من موافقته لهما ـ بدأ باليهود ؛ لأن شريعتهم أقدم وكرر «لا» ـ في قوله : (وَلا نَصْرانِيًّا) ـ توكيدا ، وبيانا أنه كان منفيّا عن كل واحد من الدينين على حدته.

قال القرطبيّ : «دلّت الآية على المنع من جدال من لا علم له ، وقد ورد الأمر

٣٠٥

بالجدال لمن علم وأتقن ، قال تعالى : (وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [النحل : ١٢٥] ، وروي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه أتاه رجل وولده ، فقال : يا رسول الله ، إنّ امرأتي ولدت غلاما أسود ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : هل لك من إبل؟ قال : نعم ، قال : فما ألوانها؟ قال : حمر ، قال : فهل فيها من أورق؟ قال : نعم ، قال : من أين أتاها ذلك؟ قال : لعلّ عرقا نزعه ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : وهذا الغلام لعلّ عرقا نزعه (١).

وهذه حقيقة الجدال ، والنهاية في تبيين الاستدلال من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم».

قوله : «ولكن» استدراك لما كان عليه ، ووقعت ـ هنا ـ أحسن موقع ؛ إذ هي بين نقيضين بالنسبة إلى اعتقاد الحقّ والباطل.

ولما كان الخطاب مع اليهود والنصارى أتى بجملة تنفي أخرى ؛ ليدل على أنه لم يكن على دين أحد من المشركين ، كالعرب عبدة الأوثان ، والمجوس عبدة النار ، والصابئة عبدة الكواكب.

بهذا يطرح سؤال من قال : أيّ فائدة في قوله : (وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) بعد قوله : (ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا)؟ وأتى بخبر «كان» مجموعا ، فقال : (وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) بكونه فاصلة ، ولو لا مراعاة ذلك لكانت المطابقة مطلوبة بينه وبين ما استدرك عنه في قوله : (يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا) فيتناسب النفيان.

وقيل : قوله : (وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) تعريض بكون النصارى مشركين في قولهم بإلهية المسيح ، وكون اليهود مشركين في قولهم بالتشبيه.

والحنيف : المائل عن الأديان كلّها إلى الدّين المستقيم.

وقيل : الحنيف : الذي يوحّد ، ويحج ، ويضحّي ، ويختتن ، ويستقبل القبلة (٢). وتقدم الكلام عليه في البقرة.

فإن قيل : قولكم : إبراهيم على دين الإسلام ، أتريدون به الموافقة في الأصول ، أو في الفروع؟

فإن كان الأول لم يكن هذا مختصّا بدين الإسلام ، بل نقطع بأنّ إبراهيم أيضا على دين اليهود ـ [ذلك الدين الذي جاء به موسى ـ وكان أيضا ـ نصرانيا](٣) أعني تلك

__________________

(١) أخرجه البخاري كتاب الطلاق باب إذا عرض بنفي الولد (٥٣٠٥) وكتاب المحاربين باب التعريض رقم (٦٨٤٧) وكتاب الاعتصام باب من شبه له أصلا ... رقم (٦٨٤٧) ومسلم (١١٣٧) وأبو داود (٢٢٦٠) والترمذي (٢١٢٨) والنسائي (٦ / ١٧٨ ـ ١٧٩) وابن ماجه (٢٠٠٢ ، ٢٠٠٣) وأحمد (٢ / ٢٣٩ ، ٤٠٩ ، ٣ / ١٤) والبيهقي (٤ / ١٨٦) ، (٧ / ٤١١) ، (٨ / ٢٥٢ ، ١٠ / ١٥٩ ، ٢٦٤) عن أبي هريرة.

وذكره الحافظ ابن حجر في «الفتح» (٥ / ٢٤٣ ، ٩ / ٤٤٢ ، ١٢ / ١٧٥).

(٢) في ب : الكعبة.

(٣) سقط في أ.

٣٠٦

النصرانية التي جاء بها عيسى ـ فإنّ أديان الأنبياء كلّها لا يجوز أن تكون مختلفة في الأصول ، وإن أردتم به الموافقة في الفروع لزم أن لا يكون محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم صاحب شرع ألبتة ، بل كان مقرّرا لدين غيره ، وأيضا فمن المعلوم بالضرورة أن التعبّد بالقرآن ما كان موجودا في زمان إبراهيم ، وتلاوة القرآن مشروعة في صلاتنا ، وغير مشروعة في صلاتهم.

فالجواب : أنه يجوز أن يكون المراد به الموافقة في الأصول والغرض منه بيان أنه ما كان موافقا في أصول الدين لمذهب هؤلاء الذين هم اليهود والنصارى في زماننا هذا.

ويجوز أن يقال : المراد به الموافقة في الفروع ، وذلك لأن الله نسخ تلك الشرائع بشرع موسى ، ثم زمان محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم نسخ شرع موسى بتلك الشرائع التي كانت ثابتة في زمان إبراهيم عليه‌السلام ـ وعلى هذا التقدير يكون ـ عليه‌السلام ـ صاحب الشريعة ، ثم لمّا كان غالب شرع محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم موافقا لشرع إبراهيم ، جاز إطلاق الموافقة عليه ، ولو وقعت المخالفة في القليل لم يقدح ذلك في حصول الموافقة.

قوله : (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ ،) «إبراهيم» متعلّق به «أولى» و «أولى» أفعل تفضيل ، من الولي ، وهو القرب ، والمعنى : إنّ أقرب الناس به ، وأخصهم ، فألفه منقلبة عن ياء ، لكون فائه واوا ، قال أبو البقاء : وألفه منقلبة عن ياء ، لأن فاءه واو ، فلا تكون لامه واوا ؛ إذ ليس في الكلام ما فاؤه ولامه واوان إلا واو ـ يعني اسم حرف التهجّي ـ كالوسط من قول ـ أو اسم حرف المعنى ـ كواو النسق ـ ولأهل التصريف خلاف في عينه ، هل هي واو ـ أيضا ـ أو ياء.

و (لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ) خبر «إن» و (وَهذَا النَّبِيُ) نسق على الموصول ، وكذلك : (وَالَّذِينَ آمَنُوا ،) والنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنون ـ رضي الله عنهم ـ وإن كانوا داخلين فيمن اتبع إبراهيم إلا أنهم خصّوا بالذّكر ؛ تشريفا ، وتكريما ، فهو من باب قوله تعالى : (وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ) [البقرة : ٩٨].

حكى الزمخشريّ أنه قرىء : (وَهذَا النَّبِيُ) ـ بالنصب والجر (١) ـ فالنصب نسقا على مفعول (اتَّبَعُوهُ) فيكون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد اتّبعه غيره ـ كما اتبع إبراهيم ـ والتقدير : للذين اتبعوا إبراهيم وهذا النبيّ ، ويكون قوله : (وَالَّذِينَ آمَنُوا) نسقا على قوله : (لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ).

والجر نسقا على «إبراهيم» أي : إن أولى الناس بإبراهيم وبهذا النبي ، للّذين اتّبعوه ، وفيه نظر من حيث إنه كان ينبغي أن يثنّى الضمير في «اتّبعوه» فيقال : اتبعوهما ، اللهم إلا

__________________

(١) ينظر : الكشاف ١ / ٣٧١ ، ونسب ابن خالويه في الشواذ ٢١ رواية النصب إلى أبي السمال العدوي.

٣٠٧

أن يقال : هو من باب : (وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ ،) ثم قال : (وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ) بالنصر والمعونة والتوفيق والإكرام.

فصل

روى الكلبيّ وابن إسحاق حديث هجرة الحبشة لما هاجر جعفر بن أبي طالب ، وأناس من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الحبشة ، واستقرّت بهم الدّار ، وهاجر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى المدينة ، وكان من أمر بدر ما كان ، اجتمعت قريش في دار الندوة ، وقالوا : إن لنا في الذين عند النجاشي ـ من أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ثأرا ممن قتل منكم ببدر ، فاجمعوا مالا ، وأهدوه إلى النجاشيّ ؛ لعله يدفع إليكم من عنده من قومكم ، ولينتدب لذلك رجلان من ذوي رأيكم ، فبعثوا عمرو بن العاص ، وعمارة بن الوليد مع الهدايا ، فركبا البحر ، وأتيا الحبشة ، فلما دخلا على النجاشيّ سجدا له ، وسلما عليه ، وقالا له : إنّ قومنا لك ناصحون شاكرون ، ولصلاحك محبّون ، وإنهم بعثونا لنحذّرك هؤلاء الذين قدموا عليك ؛ لأنهم قوم رجل كذّاب ، خرج فينا يزعم أنه رسول الله ، ولم يتابعه أحد منا إلّا السّفهاء ، وإنا كنا ضيّقنا عليهم الأمر ، وألجأناهم إلى شعب بأرضنا ، لا يدخل عليهم أحد ، ولا يخرج منهم أحد ، حتى قتلهم الجوع والعطش ، فلمّا اشتدّ عليهم الأمر بعث إليك ابن عمّه ، ليفسد عليك دينك وملكك ورعيّتك ، فاحذرهم ، وادفعهم إلينا ، لنكفيكهم ، قالوا : وآية ذلك أنهم إذا دخلوا عليك لا يسجدون لك ، ولا يحيّونك بالتحية التي يحيّيك بها الناس رغبة عن دينك وسنّتك.

فدعاهم النجاشيّ ، فلمّا حضروا صاح جعفر بالباب : يستأذن عليك حزب الله ، فقال النجاشيّ : مروا هذا الصائح فليعد كلامه ، ففعل جعفر ، فقال النجاشيّ : نعم ، فليدخلوا بأمان الله وذمته ، فنظر عمرو بن العاص إلى صاحبه ، فقال : ألا تسمع؟ يرطنون ب «حزب الله» وما أجابهم به النجاشي!!! فساءهما ذلك ، ثم دخلوا عليه ولم يسجدوا له ، فقال عمرو بن العاص ألا ترى أنهم يستكبرون أن يسجدوا لك؟ فقال لهم النجاشيّ : ما منعكم أن تسجدوا لي وتحيّوني بالتحية التي يحييني بها من أتاني من الآفاق؟ قالوا : نسجد لله الذي خلقك وملكك ، وإنما كانت تلك التحية لنا ونحن نعبد الأصنام ، فبعث الله فينا نبيّا صادقا ، وأمرنا بالتحية التي رضيها الله ، وهي السلام ، وتحية أهل الجنّة ، فعرف النجاشيّ أن ذلك حقّ ، وأنه في التوراة والإنجيل ، فقال : أيكم الهاتف : يستأذن عليك حزب الله؟ قال جعفر : أنا ، قال : فتكلم ، قال : إنك ملك من ملوك أهل الأرض ، ومن أهل الكتاب ، ولا يصلح عندك كثرة الكلام ، ولا الظلم ، وأنا أحب أن أجيب عن أصحابي ، فمر هذين الرجلين ، فليتكلّم أحدهما ، ولينصت الآخر ، فيسمع محاورتنا ، فقال عمرو لجعفر : تكلّم ، فقال جعفر للنجاشيّ : سل هذين الرجلين أعبيد نحن أم أحرار؟ فإن كنا عبيدا أبقنا من أربابنا فارددنا إليهم ، فقال النجاشيّ : أعبيد هم أم أحرار؟

٣٠٨

فقال لا ، بل أحرار كرام ، فقال النجاشيّ : نجوا من العبوديّة ، ثم قال جعفر : سلهما هل لهم فينا دماء بغير حق ، فيقتصّ منا؟ فقال عمرو : لا ، ولا قطرة.

قال جعفر : سلهما ، هل أخذنا أموال الناس بغير حق ، فعلينا قضاؤها ـ قال النجاشيّ : إن كان قنطارا فعلي قضاؤه ـ فقال عمرو : لا ، ولا قيراط ، فقال النجاشيّ : فما تطلبون منهم؟ قال عمرو كنا وهم على دين واحد ـ دين آبائنا ـ فتركوا ذلك ، واتّبعوا غيره ، فبعثنا إليك قومنا لتدفعهم إلينا ، فقال النجاشيّ : ما هذا الدين الذي كنتم عليه ، الدين الذي اتبعتموه؟

قال : أما الدين الذي كنا عليه فتركناه فهو دين الشيطان ، كنا نكفر بالله ، ونعبد الحجارة ، وأما الدين الذي تحوّلنا إليه فدين الله الإسلام ، جاءنا به من الله رسول ، وكتاب مثل كتاب ابن مريم ، موافقا له.

فقال النجاشيّ : يا جعفر ، تكلمت بأمر عظيم ، فعلى رسلك ، ثم أمر النجاشيّ ، فضرب بالنّاقوس ، قد اجتمع إليه كلّ قسّيس وراهب ، فلما اجتمعوا عنده ، قال النجاشيّ : أنشدكم الله الذي أنزل الإنجيل على عيسى ، هل تجدون بين عيسى وبين يوم القيامة نبيّا مرسلا؟ فقالوا : اللهم نعم ، قد بشرنا به عيسى ، وقال : من آمن به فقد آمن بي ، ومن كفر به فقد كفر بي.

قال النجاشيّ لجعفر : ماذا يقول لكم هذا الرجل؟ وما يأمركم به ، وما ينهاكم عنه؟ قال: يقرأ علينا [كتاب الله](١) ، ويأمرنا بالمعروف ، وينهانا عن المنكر ، ويأمر بحسن الجوار ، وصلة الرّحم ، وبرّ اليتيم ، وأمرنا أن لا نعبد إلا الله وحده لا شريك له ، فقال : اقرأ عليّ مما يقرأ عليكم ، فقرأ سورتي العنكبوت والرّوم ، ففاضت عينا النجاشيّ وأصحابه من الدّمع ، وقالوا : زدنا يا جعفر من هذا الحديث الطيب ، فقرأ عليهم سورة الكهف ، فأراد عمرو أن يغضب النجاشيّ ، فقال : إنهم يشتمون عيسى ابن مريم وأمّه ، فقال النجاشيّ : ما تقولون في عيسى وأمّه ، فقرأ عليهم جعفر سورة «مريم» ، فلما أتى على ذكر مريم وعيسى رفع النجاشيّ نفاثة من سواكه قدر ما يقذي العين قال : والله ما زاد المسيح على قول هذا ، ثم أقبل على جعفر وأصحابه ، فقال : اذهبوا فأنتم شيوم بأرضي ، آمنون ، من سبّكم وآذاكم غرم ، ثم قال : أبشروا ، ولا تخافوا ، فلا دهورة اليوم على حزب إبراهيم ، قال عمرو : يا نجاشيّ ، ومن حزب إبراهيم؟ قال : هؤلاء الرهط وصاحبهم الذي جاءوا من عنده ومن اتبعهم ، فأنكر ذلك المشركون ، وادّعوا في دين إبراهيم ، ثم ردّ النجاشيّ على عمرو وصاحبه المال الذي حملوه ، وقال : إنما هديّتكم إليّ رشوة ، فاقبضوها ؛ فإن الله ـ تعالى ـ ملّكني ولم يأخذ مني رشوة ، قال جعفر :

__________________

(١) سقط في أ.

٣٠٩

فانصرفنا ، فكنا في خير دار ، وأكرم جوار ، فأنزل الله ذلك اليوم على رسوله في خصومتهم في إبراهيم ـ وهو في المدينة ـ قوله ـ عزوجل : (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ)(١).

وروى ابن مسعود أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إنّ لكلّ نبيّ ولاة من النّبيّين ، وإنّ ولييّ منهم أبي ، وخليل ربّي» ثم قرأ : (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ)(٢).

قوله تعالى : (وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَما يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ)(٦٩)

في «من» وجهان :

أظهرهما : أنها تبعيضيّة.

والثاني : أنها لبيان الجنس.

قال ابن عطيّة : ويعني أن المراد ب «طائفة» جميع أهل الكتاب ، قال أبو حيّان : وهذا بعيد من دلالة اللفظ ، وهذا الجار ـ على القول بأنها تبعيضية ـ في محلّ رفع ، صفة ل «طائفة» ، وعلى القول بأنها بيانية تتعلق بمحذوف.

وقوله : تقدم أنه يجوز أن تكون مصدرية ، وأن تكون على بابها ـ من كونها حرفا لما كان سيقع لوقوع غيره.

قال أبو مسلم الأصبهاني : «ودّ» بمعنى تمنّى ، فيستعمل معها «لو» و «أن» وربما جمع بينهما ، فيقال : وددت أن لو فعلت ، ومصدره الودادة ، والاسم منه ودّ وبمعنى «أحبّ» فيتعدّى «أحب» والمصدر المودة ، والاسم منه ود وقد يتداخلان في المصدر والاسم.

وقال الراغب : «إذا كان بمعنى «أحب» لا يجوز إدخال «لو» فيه أبدا».

وقال الرمانيّ : «إذا كان «ودّ» بمعنى تمنّى صلح للحال والاستقبال [والماضي ، وإذا كان بمعنى الهمة والإرادة لم يصلح للماضي ؛ لأن الإرادة لاستدعاء الفعل ، وإذا كان للحال والمستقبل جاز وتجوز «لو» ، وإذا كان للماضي لم يجز «أن» لأن «أن» للمستقبل](٣).

__________________

(١) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٧٣ ـ ٧٤) وعزاه لعبد بن حميد من طريق شهر بن حوشب حدثني ابن غنم ... فذكره.

(٢) أخرجه الترمذي (٤ / ٨٠ ـ ٨١) والطبري في «تفسيره» (٦ / ٤٩٨) والحاكم (٢ / ٢٩٢) عن عبد الله بن مسعود.

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٧٤) وزاد نسبته لسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.

وقال الحاكم : هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.

(٣) سقط في أ.

٣١٠

وفيه نظر ، لأن «أن» توصل بالماضي.

فصل

لما بيّن ـ تعالى ـ أن من طريقة أهل الكتاب العدول عن الحق ، والإعراض عن قبول الحجة بيّن ـ هنا ـ أنهم لا يقتصرون على هذا القدر ، بل يجتهدون في إضلال المؤمنين بإلقاء الشبهات ، كقولهم : إن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم مقرّ بموسى وعيسى ، وكقولهم : إن النسخ يفضي إلى البداء والغرض منه : تنبيه المؤمنين على ألّا يغترّوا بكلام اليهود ، ونظيره قوله تعالى في سورة البقرة : (وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً) [البقرة : ١٠٩] ، وقوله : (وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَواءً) [النساء : ٨٩].

فصل

قيل : نزلت هذه الآية في معاذ بن جبل وعمار بن ياسر وحذيفة حين دعاهم اليهود إلى دينهم ، فنزلت (١).

«ودت» تمنّت طائفة جماعة (مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) يعني اليهود (لَوْ يُضِلُّونَكُمْ) ، ولم يقل : أن يضلوكم ؛ لأن «لو» أوفق للتمني ؛ فإن قولك : لو كان كذا ، يفيد التمني ، ونظيره قوله : (يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ) [البقرة : ٩٦] ، ثم قال تعالى : (وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ) وهو يحتمل وجوها منها :

إهلاكهم أنفسهم باستحقاق العقاب على قصدهم إضلال الغير ، كقوله : (وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) [البقرة : ٥٧] ، وقوله : (وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ) [العنكبوت : ١٣] ، وقوله : و (لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ) [النحل : ٢٥].

ومنها : إخراجهم أنفسهم عن معرفة الهدى والحق ؛ لأن الذاهب عن الاهتداء ضالّ.

[ومنها : أنهم اجتهدوا في إضلال المؤمنين ، ثم إن المؤمنين لم يلتفتوا إليهم ، فهم قد صاروا خائبين خاسرين ؛ حيث اعتقدوا شيئا ، ولاح لهم أن الأمر بخلاف ما تصوّروه](٢).

ثم قال تعالى : (وَما يَشْعُرُونَ ،) أي : وما يعلمون أن هذا يضرّهم ، ولا يضر المؤمنين.

__________________

(١) ذكره أبو حيان في «البحر المحيط» (٢ / ٥١٣) وانظر تفسير البغوي (١ / ٣١٥) وزاد المسير (١ / ٤٠٤) لابن الجوزي.

(٢) سقط في أ.

٣١١

قوله تعالى : (يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ ()٧٠)

«لم» أصلها «لما» لأنها «ما» التي للاستفهام ، دخلت عليها اللام ، فحذفت الألف ؛ لطلب الخفة لأن حرف الجر صار كالعوض عنها ، ولأنها وقعت طرفا ، ويدل عليها الفتحة ؛ وعلى هذا قوله تعالى : (عَمَّ يَتَساءَلُونَ) [النبأ : ١] وقوله : (فَبِمَ تُبَشِّرُونَ) [الحجر : ٥٤] والوقف على [هذه الحروف](١) يكون بالهاء نحو فبمه ، لمه.

قوله : (بِآياتِ اللهِ) فيه وجوه :

أحدها : أن المراد بها ما في التوراة والإنجيل ، وعلى هذا يحتمل أن يكون المراد ما في هذين الكتابين من البشارة بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ونعته ، ويحتمل أن يكون المراد بما في هذين الكتابين من أن إبراهيم كان حنيفا مسلما.

ويحتمل أن يكون ما فيهما من أن الدين عند الله الإسلام ؛ وقائل هذا القول المحتمل لهذه الوجوه ، يقول : إن الكفر بآيات الله يحتمل وجهين :

أحدهما : أنهم ما كانوا كافرين بالتّوراة ، بل كانوا كافرين بما تدل عليه التوراة ، فأطلق اسم الدليل على المدلول ، على سبيل المجاز.

الثاني : أنهم كانوا كافرين بنفس التوراة ؛ لأنهم كانوا يحرّفونها ، وكانوا ينكرون وجود تلك الآيات الدالة على نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

الوجه الثاني : أن المراد بآيات الله [هو](٢) القرآن وبيان نعته صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ) أن نعته مذكور في التوراة والإنجيل ، وتنكرون عند العوام كون القرآن معجزة ، ثم تشهدون بقلوبكم وعقولكم بكونه معجزا.

الوجه الثالث : أن المراد بآيات الله جملة المعجزات التي ظهرت على يد [النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعلى هذا قوله : (وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ) معناه : وأنكم لما اعترفتم بدلالة المعجزات التي ظهرت على](٣) سائر الأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ الدالة على صدقهم ، من حيث إنّ المعجز قائم مقام التصديق من الله وإذا شهدتم بأن المعجز دليل على صدق الأنبياء عليهم‌السلام ، وأنتم قد شاهدتم المعجز في حق محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فكان إصراركم على إنكار نبوته ورسالته مناقضا لما شهدتم بحقيقته من دلالة معجزات سائر الأنبياء ـ عليهم‌السلام ـ.

قوله تعالى : (يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ)(٧١)

قرأ العامة : (تَلْبِسُونَ) بكسر الباء ، من لبس عليه يلبس ، أي : خلطه ، وقرأ

__________________

(١) في ب : هذا الحرف.

(٢) في أ : يعني.

(٣) سقط في أ.

٣١٢

يحيى بن وثّاب بفتحها (١) جعله من لبست الثوب ألبسه ـ على جهة المجاز ، وقرأ أبو مجلز «تلبّسون» ـ بضم التاء ، وكسر الباء وتشديدها (٢) ـ من لبّس «بالتشديد» ، ومعناه التكثير.

والباء في «الباطل» للحال ، أي : متلبسا بالباطل.

فصل في معنى : تلبسون الحق

(تَلْبِسُونَ) تخلطون (الْحَقَّ بِالْباطِلِ) الإسلام باليهودية والنصرانية (٣).

وقيل : تخلطون الإيمان بعيسى ـ وهو الحق ـ بالكفر بمحمد ـ وهو الباطل ـ.

وقيل : التوراة التي أنزل الله على موسى بالباطل ، الذي حرّفتموه ، وكتبتموه بأيدكم ، قاله الحسن وابن زيد (٤).

وقال ابن عباس وقتادة : تواضعوا على إظهار الإسلام أول النهار ، ثم الرجوع عنه في آخر النهار تشكيكا للناس (٥).

قال القاضي : أن يكون في التوراة ما يدل على نبوته صلى‌الله‌عليه‌وسلم من البشارة والنعت والصفة ، ويكون في التوراة ـ أيضا ـ ما يوهم خلاف ذلك ، فيكون كالمحكم والمتشابه ، فيلبسون على الضعفاء أحد الأمرين بالآخر.

وقيل إنهم كانوا يقولون : إنّ محمدا معترف بأن موسى حقّ ، ثم إنّ التوراة دالة على أن شرع موسى لا ينسخ ، وكل ذلك إلقاء للشبهات.

قوله : (وَتَكْتُمُونَ الْحَقَ) جملة مستأنفة ، ولذلك لم ينصب بإضمار «أن» في جواب الاستفهام ، وقد أجاز الزجاج (٦) ـ من البصريين ـ والفرّاء (٧) ـ من الكوفيين ـ فيه النصب ـ من حيث العربية ـ تسقط النون ، فينتصب على الصرف عند الكوفيين ، وبإضمار «أن» عند البصريين.

ومنع ذلك أبو علي الفارسيّ ، وأنكره ، وقال : الاستفهام واقع على اللبس فحسب ،

__________________

(١) ينظر : الشواذ ٢١ ، والبحر المحيط ٢ / ٥١٥ ، والدر المصون ٢ / ١٣٢.

(٢) ينظر : البحر المحيط ٢ / ٥١٥ ، والدر المصون ٢ / ١٣٢.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٥٠٤) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٧٥) وزاد نسبته لابن أبي حاتم عن الربيع بن أنس.

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٥٠٥) عن ابن زيد.

(٥) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٥٠٧ ـ ٥٠٨) عن قتادة والسدي وأخرجه ابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والضياء في «المختارة» من طريق أبي ظبيان عن ابن عباس كما في «الدر المنثور» (٢ / ٧٥ ـ ٧٦).

(٦) ينظر معاني القرآن للزجاج ١ / ٤٣٥.

(٧) معاني القرآن للفراء ١ / ٢٢١.

٣١٣

وأما «يكتمون» فخبر حتم ، لا يجوز فيه إلا الرفع. يعني أنه ليس معطوفا على (تَلْبِسُونَ)، بل هو استئناف ، خبّر عنهم أنهم يكتمون الحقّ مع علمهم أنه حق.

ونقل أبو محمد بن عطيّة عن أبي عليّ أنه قال : الصّرف ـ هنا ـ يقبح ، وكذلك إضمار «أن» لأن «تكتمون» معطوف على موجب مقرّر ، وليس بمستفهم عنه ، وإنما استفهم عن السبب في اللبس ، واللبس موجب ، فليست الآية بمنزلة قولهم : لا تأكل السمك وتشرب اللّبن ، وليس بمنزلة قولك : أيقوم فأقوم؟ والعطف على الموجب المقرّر قبيح متى نصب ـ إلا في ضرورة الشعر ـ كما روي : [الوافر]

١٥٠٦ ـ ...........

وألحق بالحجاز فأستريحا (١)

قال سيبويه ـ في قولك : أسرت حتى تدخلها ـ : لا يجوز إلا النّصب في «تدخلها» لأن السير مستفهم عنه غير موجب ، وإذا قلنا : أيهم سار حتى يدخلها؟ رفعت لأن السير موجب والاستفهام إنما وقع عن غيره.

قال أبو حيّان : وظاهر هذا النقل ـ عنه ـ معارضته لما نقل عنه قبله ؛ لأن ما قبله فيه أن الاستفهام رفع عن اللبس فحسب ، وأما «يكتمون» فخبر حتما ، لا يجوز فيه إلا الرفع ، وفيما نقله ابن عطية أنّ «يكتمون» معطوف على موجب مقرّر ، وليس بمستفهم عنه ، فيدل العطف على اشتراكهما في الاستفهام عن سبب اللبس ، وسبب الكتم الموجبين ، وفرق بين هذا المعنى ، وبين أن يكون (تَكْتُمُونَ) إخبارا محضا ، لم يشترك مع اللبس في السؤال عن السبب ، وهذا الذي ذهب إليه أبو علي من أن الاستفهام إذا تضمّن وقوع الفعل ، لا ينتصب الفعل بإضمار «أن» في جوابه وتبعه في ذلك جمال الدين ابن مالك ، فقال في تسهيله : «أو لاستفهام لا يتضمّن وقوع الفعل». فإن تضمن وقوع الفعل امتنع النصب عنده ، نحو : لم ضربت زيدا فيجازيك ؛ لأن الضرب قد وقع. ولم يشترط غيرهما ـ من النحويين ـ ذلك ، بل إذا تعذر سبك المصدر مما قبله ـ إمّا لعدم تقدّم فعل ، وأما لاستحالة سبك المصدر المراد به الاستقبال ؛ لأجل مضيّ الفعل ـ فإنما يقدر مصعد مقدّرا استقباله بما يدل عليه المعنى ، فإذا قلت : لم ضربت زيدا فأضربك؟ فالتقدير : ليكن منك إعلام بضرب زيد فمجازاة منا ، وأما ما ردّ به أبو علي الفارسي على الزجّاج والفرّاء ليس بلازم ؛ لأنه قد منع أن يراد بالفعل المضيّ معنى إذ ليس نصّا في ذلك ؛ إذ قد يمكن الاستقبال لتحقيق صدوره لا سيما على الشخص الذي صدر منه أمثال ذلك ، وعلى تقدير تحقّق المضي فلا يلزم ـ أيضا ـ لأنه ـ كما تقدم ـ إذا لم يمكن سبك مصدر مستقبل من الجملة الاستفهامية سبكناه من لازمها ، ويدل على إلغاء هذا الشرط ، والتأويل بما ذكرناه ما حكاه ابن كيسان من رفع المضارع بعد فعل ماض ، محقّق الوقوع ،

__________________

(١) تقدم برقم ٧٥٩.

٣١٤

مستفهم عنه ، نحو : أين ذهب زيد فنتّبعه؟ ومن أبوك فنكرمه؟ وكم مالك فنعرفه؟ كل ذلك متأوّل بما ذكرنا من انسباك المصدر المستقبل من لازم الجمل المتقدمة ، فإن التقدير : ليكن منك إعلام بذهاب زيد فاتباع منا ، وليكن منك إعلام بأبيك فإكرام له منا ، وليكن منك تعريف بقدر مالك فمعرفة منّا.

قال شهاب الدّين : «وهذا البحث الطويل على تقدير شيء لم يقع ، فإنه لم يقرأ ـ لا في الشاذ ولا في غيره ـ إلا ثابت النون ، ولكن للعلماء غرض في تطويل البحث ، تنقيحا للذهن».

ووراء هذا قراءة مشكلة ، رورها عن عبيد بن عمير (١) ، وهي : لم تلبسوا الحقّ بالباطل وتكتموا بحذف النون من الفعلين ـ وهي قراءة لا تبعد عن [لغط البحث](٢) ، كأنه توهم أن «لم» هي الجازمة ، فجزم بها ، وقد نقل المفسّرون عن بعض النّحاة ـ هنا ـ أنهم يجزمون بلم حملا على «لم» ـ نقل ذلك السجاونديّ وغيره عنهم ، ولا أظن نحويّا يقول ذلك ألبتة ، كيف يقولون في جار ومجرور : إنه يجزم؟ هذا ما لا يتفوّه به ألبتة ولا نطيق سماعه ، فإن ثبتت هذه القراءة ولا بد فلتكن مما حذف فيه نون الرفع تخفيفا ؛ حيث لا مقتضى لحذفها ، ومن ذلك قراءة بعضهم : «قالوا ساحران تظّاهرا» [القصص : ٤٨] ـ بتشديد الظاء ـ الأصل : تتظاهران ، فأدغم الثاني في الظاء ، وحذف النون تخفيفا ، وفي الحديث : «والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتّى تؤمنوا ، ولا تؤمنوا حتى تحابّوا ..» يريد ـ عليه‌السلام ـ : لا تدخلون ، ولا تؤمنون ؛ لاستحالة النهي معنى.

وقال الشاعر : [الرجز]

١٥٠٧ ـ أبيت أسري ، وتبيتي تدلكي

وجهك بالعنبر والمسك الذّكي (٣)

يريد تبيتين وتدلكين.

ومثله قول أبي طالب : [الطويل]

١٥٠٨ ـ فإن يك قوم سرّهم ما صنعتم

ستحتلبوها لاقحا غير باهل (٤)

__________________

(١) ينظر : البحر المحيط ٢ / ٥١٦ ، والدر المصون ٢ / ١٣٣.

(٢) في أ : الغلط.

(٣) ينظر البيت في الخصائص ١ / ٣٨٨ والمحتسب ٢ / ٢٢ واللسان (دلك) ورصف المباني ٣٦١ والهمع ١ / ٥١ والدر ١ / ٢٧ والتوضيح والتصحيح ص ١٧٣ والارتشاف ١ / ٤٢١ وشرح التصريح ١ / ١١١ وشرح الجمل ٢ / ٥٩٤ وضرائر الشعر ص ١١٠ ، والدرر اللوامع ١ / ٢٧ والخزانة ٨ / ٣٣٩ والدر المصون ٢ / ١٣٣.

(٤) ينظر البيت في شرح الكافية الشافية ١ / ٢١١ والسيرة النبوية ١ / ٢٧٨ والبحر المحيط ٢ / ٥١٦ وشواهد التوضيح ١٧٣ والدر المصون ٢ / ١٣٣.

٣١٥

يريد : ستحتلبونها.

ولا يجوز أن يتوهّم ـ في هذا البيت ـ أن يكون حذف النون لأجل جواب الشرط ؛ لأن الفاء مرادة وجوبا ؛ لعدم صلاحية «ستحتلبوها» جوابا ؛ لاقترانه بحرف التنفيس.

والمراد بالحق : الآيات الدالة على نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم في التوراة.

قوله : (وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) جملة حالية ، ومتعلق العلم محذوف ، إما اقتصارا ، وإما اختصارا ـ أي : وأنتم تعلمون الحق من الباطل ، أو نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو تعلمون أن عقاب من يفعل ذلك عظيم ، وتعلمون أنكم تفعلون ذلك عنادا وحسدا.

فصل في كلام القاضي

قال القاضي : قوله تعالى : (لِمَ تَكْفُرُونَ؟) و (لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ) يدل على أن ذلك فعلهم ؛ لأنه لا يجوز أن يخلقه فيهم ، ثم يقول : لم فعلتم؟

وجوابه : أن الفعل يتوقف على الداعية ، فتلك الداعية إن حدثت لا لمحدث لزم نفي الصانع ، وإن كان محدثها هو العبد افتقر إلى إرادة أخرى ، وإن كان محدثها هو الله ـ تعالى ـ لزمكم ما ألزمتموه علينا.

قوله تعالى : (وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)(٧٢)

حكي عنهم التلبيس ، فذكر منه هذا النوع.

قوله : (وَجْهَ النَّهارِ) منصوب على الظرف ؛ لأنه بمعنى : أول النهار ؛ لأن الوجه ـ في اللغة ـ مستقبل كل شيء ؛ لأنه أول ما يواجه منه ، كما يقال ـ لأول الثوب ـ : وجه الثوب.

روى ثعلب عن ابن الأعرابي : أتيته بوجه نهار ، وصدر نهار ، وشباب نهار ، أي : أوله.

وقال الربيع بن زياد العبسي : [الكامل]

١٥٠٩ ـ من كان مسرورا بمقتل مالك

فليأت نسوتنا بوجه نهار (١)

أي : بأوله ، وفي ناصب هذا الظرف وجهان :

أظهرهما : أنه فعل الأمر من قوله (آمِنُوا) أي : أوقعوا إيمانكم في أول النهار ، وأوقعوا كفركم في آخره.

__________________

(١) ينظر البيت في ديوان الحماسة ١ / ٤٩٤ واللسان (وجه) ومجاز القرآن ١ / ٩٧ وأمالي المرتضى ١ / ٢١١ والكشاف ١ / ٤٣٦ والأشباه والنظائر ٢ / ٨٢ وتذكرة النحاة ص ١٣٩ والاستغناء في أحكام الاستثناء ص ٦٣٢ والبحر المحيط ٢ / ٥١٧ والدر المصون ٢ / ١٣٤.

٣١٦

والثاني : أنه و (أُنْزِلَ) أي : آمنوا بالمنزّل في أول النهار ، وليس ذلك بظاهر ، بدليل المقابلة في قوله : (وَاكْفُرُوا آخِرَهُ). فإن الضمير يعود على النهار ، ومن جوّز الوجه الثاني جعل الضمير يعود على الذى (أُنْزِلَ) ، أي : واكفروا آخر المنزّل ، وأسباب النزول تخالف هذا التأويل وفي هذا البيت الذي أنشدناه فائدة ، وذلك أنه من قصيدة يرثي بها مالك بن زهير بن خزيمة العبسي ، وبعده : [الكامل]

١٥١٠ ـ يجد النّساء حواسرا يندبنه

يبكين قبل تبلّج الأسحار

قد كنّ يخبأن الوجوه تستّرا

فاليوم حين بدون للنّظّار

يخمشن حرّات الوجوه على امرىء

سهل الخليقة طيّب الأخبار (١)

ومعنى الأبيات يحتاج إلى معرفة اصطلاح العرب في ذلك ، وهو أنهم كانوا إذا قتل لهم قتيل لا تقوم عليه نائحة ولا تندبه نادبة ، حتى يؤخذ بثأره ، فقال هذا : من سرّه قتل مالك ، فليأت في أول النهار يجدنا قد أخذنا بثأره ، فذكر اللازم للشيء ، وهو من باب الكناية.

وحكي أن الشيباني سأل الأصمعي : كيف تنشد قول الربيع : ... حين بدأن ، أو بدين؟ فقال الأصمعيّ : بدأن ، فقال : أخطأت ، فقال : بدين ، فقال : أخطأت ، فغضب الأصمعيّ ، وكان الصواب أن يقول : بدون ـ بالواو ـ لأنه من باب : بدا يبدو ، أي : ظهر ـ فأتى الأصمعي يوما للشيباني ، وقال له : كيف تصغّر مختارا؟ فقال : مخيتير ، فضحك منه ، وصفّق بيديه ، وشنّع عليه في حلقته ، وكان الصواب أن يقول : مخيّر ـ بتشديد الياء ـ وذلك أنه اجتمع زائدان ـ ، الميم والتاء ـ والميم أولى بالبقاء ؛ لعلة ذكرها التصريفيّون ، فأبقاها ، وحذف التاء ، وأتى بياء التصغير ، فقلب ـ لأجلها ـ الألف ياء ، وأدغمها فيها ، فصار : مخيّرا ـ كما ترى ـ وهو يحتمل أن يكون اسم فاعل ، أو اسم مفعول ـ كما كان يحتملها مكبّره ، وهذا ـ أيضا ـ يلبس باسم الفاعل خيّر فهو مخيّر ، والقرائن تبينه.

ومفعول (يَرْجِعُونَ) محذوف ـ أيضا ـ اقتصارا ـ أي : لعلهم يكونون من أهل الرجوع ، أو اختصارا أي : يرجعون إلى دينكم وما أنتم عليه.

فصل

قال القرطبيّ : والطائفة : الجماعة ـ من طاف يطوف ـ وقد يستعمل للواحد على معنى: نفس طائفة ، ومعنى الآية يحتمل أن يكون المراد كلّ ما أنزل ، وأن يكون بعض ما أنزل أما الأول ففيه وجوه :

الأول : أن اليهود والنصارى استخرجوا حيلة في تشكيك ضعفة المسلمين في صحة

__________________

(١) ينظر : الدر المصون ٢ / ١٣٤.

٣١٧

الإسلام ، وهي أن يظهروا تصديق ما ينزل على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الشرائع في بعض الأوقات ، ثم يظهروا بعد ذلك تكذيبه فإن الناس متى شاهدوا هذا التكذيب قالوا : هذا التكذيب ليس لأجل الحسد والعناد ، وإلا لما آمنوا في أول الأمر ، فإذا لم يكن حسدا ، وجب أن يكون لأجل أنهم أهل الكتاب وقد تفكّروا في أمره ، واستقصوا في البحث عن دلائل نبوته ، فلاح لهم ـ بعد ذلك التأمل التام ، والبحث الوافي ـ أنه كذاب ، فيصر هذا الطريق شبهة لضعفة المسلمين في صحة نبوته.

قال الحسن والسّدّيّ : تواطأ اثنا عشر رجلا من أحبار خيبر وقرى عرينة ، وقال بعضهم ادخلوا في دين محمد أول النهار باللسان دون الاعتقاد ، ثم اكفروا آخر النهار ، وقولوا : إنّا نظرنا في كتابنا ، وشاورنا علماءنا ، فوجدنا محمدا ليس بذلك ، وظهر لنا كذبه ، فإذا فعلتم ذلك شكّ أصحابه في دينهم ، واتهموه ، وقالوا : إنهم أهل الكتاب ، وهم أعلم منا ، فيرجعون عن دينهم ، وهذا قول أبي مسلم الأصبهانيّ (١).

قال الأصمّ : قال بعضهم لبعض : إن كذبتموه في جميع ما جاء به فإن عوامكم يعلمون كذبكم ؛ لأن كثيرا يعلمون ما جاء به حقّ ، ولكن صدّقوه في بعض ، وكذّبوه في بعض ، حتى يحمل الناس تكذيبكم على الإنصاف ، لا على العناد ، فيقبلوا قولكم.

وأما الاحتمال الثاني ـ وهو الإيمان بالبعض ـ ففيه وجهان :

أحدهما : قال ابن عباس : (وَجْهَ النَّهارِ) : أوله ، وهو صلاة الصبح ، (وَاكْفُرُوا آخِرَهُ) يعني : صلاة الظهر (٢) ، وتقديره : أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يصلي إلى بيت المقدس ـ بعد أن قدم المدينة ـ ففرح اليهود بذلك ، وطمعوا أن يكون منهم ، فلمّا حوله الله إلى الكعبة ـ وكان ذلك عند صلاة الظهر ـ قال كعب بن الأشرف وغيره : «ءامنوا بالذي أنزل على الذينءامنوا وجه النهار» يعني آمنوا بالقبلة التي صلى إليها صلاة الصبح ، فهي الحق ، (وَاكْفُرُوا) بالقبلة إلى الكعبة (لَعَلَّهُمْ) يقولون : إن هؤلاء أهل كتاب ، وهم أعلم ، فيرجعون إلى قبلتنا.

الثاني : قال بعضهم لبعض : صلّوا إلى الكعبة أول النهار ثم اكفروا بهذه القبلة في آخر النهار ؛ وصلوا إلى الصخرة لعلهم يقولون : إن أهل الكتاب أصحاب العلم ، فلو لا أنهم عرفوا بطلان هذه القبلة لما تركوها ، فحينئذ يرجعون عن هذه القبلة.

فصل في فوائد كشف حيلتهم

إخبار الله ـ تعالى ـ عن تواطئهم على هذه الحيلة فيه فائدة من وجوه :

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٥٠٧) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٧٥) وزاد نسبته لابن أبي حاتم عن السدي.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٥٠٩) عن قتادة والربيع.

٣١٨

الأول : أن ذلك إخبار عن الغيب ، فيكون معجزا ؛ لأنها كانت مخفيّة فيما بينهم ، وما أطلعوا عليه أحدا من الأجانب.

الثاني : أنه ـ تعالى ـ لما أطلع المؤمنين على هذه الحيلة لم يبق لها أثر في قلوب المؤمنين ، ولو لا هذا الإعلام لكان ربّما أثّرت في قلوب بعض [المؤمنين الذين](١) في إيمانهم ضعف.

الثالث : [أن القوم](٢) لما افتضحوا في هذه الحيلة صار ذلك رادعا لهم عن الإقدام على أمثالها من الحيل والتلبيس.

قوله تعالى : (وَلا تُؤْمِنُوا إِلاَّ لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللهِ أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٧٣) يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ)(٧٤)

اللام في «لمن» فيها وجهان :

أحدهما : أنها زائدة مؤكّدة ، كهي في قوله تعالى : (قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ) [النمل : ٧٢] أي : ردفكم وقول الآخر : [الوافر]

١٥١١ ـ فلمّا أن تواقفنا قليلا

أنخنا للكلاكل فارتمينا (٣)

وقول الآخر : [الكامل]

١٥١٢ ـ ما كنت أخدع للخليل بخلّة

حتّى يكون لي الخليل خدوعا (٤)

وقول الآخر : [الطويل]

١٥١٣ ـ يذمّون للدّنيا وهم يحلبونها

أفاويق حتّى ما يدرّ لها فضل (٥)

أي : أنخنا الكلاكل ، وأخدع الخليل ، ويذمون الدنيا ، ويروى : يذمون بالدنيا ، بالباء.

قال شهاب الدين (٦) : وأظن البيت : يذمون لي الدنيا ـ فاشتبه اللفظ على السامع ـ

__________________

(١) في أ : من كان.

(٢) في أ : أنهم.

(٣) البيت لعبد الشارق بن عبد العزى ، وقيل : لسلمة بن الحجاج ينظر المقرب ١ / ١١٥ ورصف المباني ١١٦ وضرائر الشعر ص ٦٧ وشرح الجمل ١ / ٣٠٨ و ٥١٤ وديوان الحماسة ١ / ٤٤٧ والدر المصون ٢ / ١٣٥.

(٤) ينظر : البحر المحيط ٢ / ٥١٨ ، والدر المصون ٢ / ١٣٥.

(٥) البيت لعبد الله بن همام السلولي ينظر إصلاح المنطق ٢١٣ والكامل ١ / ٥٥ ورغبة الآمل ٦ / ٥٢ وتاج العروس ٧ / ٥٤ وزاد المسير ١ / ٤٠٧ واللسان (فوق) والدر المصون ٢ / ١٣٥.

(٦) ينظر : الدر المصون ٢ / ١٣٥.

٣١٩

وكذا رأيته في بعض التفاسير ، وهذا الوجه ليس بالقوي.

الثاني : أن «آمن» ضمّن معنى أقرّ واعترف ، فعدّي باللام ، أي : ولا تقرّوا ، ولا تعترفوا إلا لمن تبع دينكم ، ونحوه قوله : (فَما آمَنَ لِمُوسى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ) [يونس : ٨٣] وقوله : (وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا) [يوسف : ١٧] وقال أبو علي : وقد يتعدّى آمن باللام في قوله : (فَما آمَنَ لِمُوسى) [يونس : ٨٣] ، وقوله : (آمَنْتُمْ لَهُ) [طه : ٧١] ، وقوله : (يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ) [التوبة : ٦١] فذكر أنه يتعدى بها من غير تضمين ، والصّواب التضمين وقد تقدم تحقيقه أول البقرة (١). وهنا استثناء مفرّغ.

وقال أبو البقاء : (إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ) فيه وجهان :

أحدهما : أنه استثناء مما قبله ، والتقدير : ولا تقرّوا إلا لمن تبع ، فعلى هذا اللام غير زائدة ولا يجوز أن تكون زائدة ويكون محمولا على المعنى ، أي اجحدوا كلّ أحد إلا من تبع دينكم.

والثاني : أن النية به التأخير ، والتقدير : ولا تصدّقوا أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم إلا من تبع دينكم ؛ فاللام على هذا ـ زائدة ، و «من» في موضع نصب على الاستثناء من أحد.

وقال الفارسيّ : الإيمان لا يتعدى إلى مفعولين ، فلا يتعلق ـ أيضا ـ بجارين ، وقد تعلّق بالجار المحذوف من قوله : (أَنْ يُؤْتى) فلا يتعلق باللام في قوله : (لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ) إلا أن يحمل اللام على معناه ، فيتعدى إلى مفعولين ، ويكون المعنى : ولا تقرّوا بأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم إلا لمن تبع دينكم ، كما تقول : أقررت لزيد بألف ، فتكون اللام متعلقة بالمعنى ، ولا تكون زائدة على حد : (رَدِفَ لَكُمْ) [النمل : ٧٢] و (إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ) [يوسف : ٤٣] وهذا تصريح من أبي علي بأنه ضمن «آمن» معنى «أقرّ».

فصل

اتفق المفسّرون على أن هذا بقية كلام اليهود ، وفيه وجهان :

الأول : أن معناه : ولا تصدّقوا إلا بنبي يقرّر شرائع التوراة ، ومن جاء بتغيير شرع من أحكام التوراة ، فلا تصدقوه ، وعلى هذا التفسير تكون اللام في (لِمَنْ تَبِعَ) صلة زائدة.

الثاني : معناه : لا تأتوا بذلك الإيمان إلا لأجل من تبع دينكم ، أي : ليس الغرض من الإتيان بذلك التلبيس إلا بقاء أتباعكم على دينكم ، فإنّ مقصود كلّ أحد حفظ أتباعه وأشياعه على متابعته.

__________________

(١) آية (٣).

٣٢٠