اللّباب في علوم الكتاب - ج ٥

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ٥

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 2-7451-2298-3
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٦٣٢

الخامس : خلق الإنسان من تراب ، فيكون مطفئا لنار الشهوة ، والغضب ، والحرص ؛ فإن هذه النيران لا تنطفىء إلا بالتراب ، وإنما خلقه من الماء ليكون صافيا ، تتجلّى فيه صور الأشياء ، ثم إنه ـ تعالى ـ فرج بين الأرض والماء ليمتزج اللطيف بالكثيف ، فيصير طينا ، وهو قوله : (إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ) [ص : ٧١] ثم إنه في المرتبة الرابعة قال : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ) [المؤمنون : ١٢] والسلالة بمعنى المسلولة قال : فعالة بمعنى مفعولة ؛ لأنها هي التي من ألطف أجزاء الطين ، ثم إنه في المرتبة الخامسة جعله طينا لازبا ، فقال: (إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ) [الصافات : ١١] ثم إنّه في المرتبة السادسة أثبت له ثلاثة أنواع من الصفات :

أحدها : أنّه صلصال ، والصلصال : اليابس الذي إذا حرّك تصلصل ، كالخزف الذي يسمع من داخله صوت.

الثاني : الحمأ ، وهو الذي استقر في الماء مدّة ، وتغيّر لونه إلى السّواد.

الثالث : تغير رائحته ، وهو المسنون ، قال تعالى : (فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ) [البقرة : ٢٥٩] ، أي : لم يتغيّر.

قوله : (الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) يجوز أن تكون هذه الجملة مستقلة برأسها والمعنى أنّ الحقّ الثابت الذي لا يضمحلّ هو من ربك ، ومن جملة ما جاء من ربك قصة عيسى وأمه ، فهو حقّ ثابت.

ويجوز أن يكون «الحقّ» خبر مبتدأ محذوف أي : ما قصصنا عليك من خبر عيسى وأمه ، وحذف لكونه معلوما. و (مِنْ رَبِّكَ) على هذا ـ فيه وجهان :

أحدهما : أنه حال فيتعلق بمحذوف.

والثاني : أنه خبر ثان ـ عند من يجوز ذلك وتقدم نظير هذه الجملة في البقرة.

وقال بعضهم : «الحق رفع بإضمار فعل ، أي : جاءك الحق».

وقيل : إنه مرفوع بالصفة ، وفيه تقديم وتأخير ، تقديره : من ربك الحق.

والامتراء : الشك. قال ابن الأنباريّ : هو مأخوذ من قول العرب : مريت الناقة والشاة ـ إذا حلبتهما ـ فكأن الشاك يجتذب بشكّه شرّا ـ كاللبن الذي يجتذب عند الحلب.

ويقال قد مارى فلان فلانا ـ إذا جادله ـ كأنه يستخرج غضبه ، قال ابن عبّاس لعمر رضي الله عنها : لا أماريك أبدا.

ومنه قيل : الشكر يمتري المزيد ؛ أي : يجلبه.

فصل

هذا الخطاب ـ في الظاهر ـ مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم واختلف في تأويله :

٢٨١

فقيل إن هذا الخطاب ـ وإن كان ظاهره مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلا أنه في المعنى مع الأمة ؛ لأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يكن شاكا في أمر عيسى ، فهو كقوله : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ) [الطلاق : ١].

وقيل إنه خطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومعناه أنه من باب الإلهاب والتهييج على الثبات على ما هو عليه من الحق أي : دم على يقينك وعلى ما أنت عليه من ترك الامتراء.

فصل

ومعنى الآية فيه قولان :

أحدهما : قال أبو مسلم : معناه أن هذا الذي أنزلت عليك ـ من حبر عيسى ـ هو الحقّ ، لا ما قالت النصارى واليهود ، فالنصارى قالوا : إن مريم ولدت إلها ، واليهود رموا مريم عليها‌السلام بالإفك ، ونسبوها إلى يوسف بن يعقوب النجار ، فالله ـ تعالى ـ بيّن أن هذا الذي نزل في القرآن هو الحق ، ثم نهى عن الشك فيه.

الثاني : ما ذكرنا من المثل ـ وهو قصة آدم ـ فإنه لا بيان لهذه المسألة ، ولا برهان أقوى من التمسّك بهذه الواقعة.

قوله تعالى : (فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللهِ عَلَى الْكاذِبِينَ)(٦١)

يجوز في «من» وجهان :

أحدهما : أن تكون شرطية ـ وهو الظاهر ـ أي : إن حاجّك أحد فقل له كيت وكيت.

ويجوز أن تكون موصولة بمعنى : «الذي» وإنما دخلت الفاء في الخبر لتضمّنه معنى الشرط [والمحاجة مفاعلة وهي من اثنين ، وكان الأمر كذلك](١).

«فيه» متعلق ب «حاجّك» أي : جادلك في شأنه ، والهاء فيها وجهان :

أولهما : وهو الأظهر ـ عودها على عيسى عليه‌السلام.

الثاني : عودها على «الحقّ» ؛ لأنه أقرب مذكور ، والأول أظهر ؛ لأنّ عيسى هو المحدّث عنه ، وهو صاحب القصة. قوله : (مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ) متعلق ب «حاجّك» ـ أيضا ـ و «ما» يجوز أن تكون موصولة اسمية ، ففاعل «جاءك» ضمير يعود عليها ، أي : من بعد الذي جاءك هو. (مِنَ الْعِلْمِ) حال من فاعل «جاءك».

ويجوز أن تكون موصولة حرفيّة ، وحينئذ يقال : يلزم من ذلك خلوّ الفعل من الفاعل ، أو عود الضمير على الحرف ؛ لأن «جاءك» لا بد له من فاعل ، وليس معنا شيء يصلح عوده عليه إلا «ما» وهي حرفية.

__________________

(١) سقط في ب.

٢٨٢

والجواب : أنه يجوز أن يكون الفاعل قوله : (مِنَ الْعِلْمِ) و «من» مزيدة ـ أي : من بعد ما جاءك العلم ـ وهذا إنما يتخرج على قول الأخفش ؛ لأنه لا يشترط في زيادتها شيئا. و «من» في قوله : «من العلم» يحتمل أن تكون تبعيضيّة ـ وهو الظاهر ـ وأن تكون لبيان الجنس. والمراد بالعلم هو أنّ عيسى عبد الله ورسوله ، وليس المراد ـ هاهنا ـ بالعلم نفس العلم ؛ لأن العلم الذي في قلبه لا يؤثر في ذلك ، بل المراد بالعلم ، ما ذكره من الدلائل العقلية ، والدلائل الواصلة إليه بالوحي.

فصل

ورد لفظ «العلم» في القرآن على أربعة [أضرب](١) :

الأول : العلم القرآن ، قال تعالى : (فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ) [آل عمران : ٦١].

الثاني : النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال تعالى : (فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ) [الجاثية : ١٧] أي : محمد ، لما اختلف فيه أهل الكتاب.

الثالث : الكيمياء ، قال تعالى ـ حكاية ـ عن قارون ـ : (إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي) [القصص : ٧٨].

الرابع : الشرك ، قال تعالى : (فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ) [غافر : ٨٣] أي من الشرك.

فصل

قال ابن الخطيب : لما كنت بخوارزم أخبرت أنه جاء نصرانيّ يدّعي التحقيق والتعمق في مذهبهم ، فذهبت إليه ، وشرعنا في الحديث ، فقال : ما الدليل على نبوّة محمد؟ فقلت كما نقل إلينا ظهور الخوارق على يد موسى وعيسى وغيرهما من الأنبياء نقل إلينا ظهور الخوارق على يد محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإن رددنا التواتر ، وقلنا : إن المعجز لا يدل على الصدق فحينئذ بطل نبوة سائر الأنبياء ـ عليهم‌السلام ـ وإن اعترفنا بصحة التواتر ، واعترفنا بدلالة المعجز على الصدق ، فهما حاصلان في محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فوجب الاعتراف قطعا بنبوة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ضرورة أن عند الاستواء في الدليل لا بدّ من الاستواء في حصول المدلول. فقال النصرانيّ : أنا لا أقول في عيسى ـ إنه كان نبيا بل أقول : إنه كان إلها.

فقلت له : الكلام في النبوة لا بد وأن يكون مسبوقا بمعرفة الإله وهذا الذي تقوله باطل ، ويدل عليه وجوه :

الأول : أنّ الإله عبارة عن موجود واجب الوجود لذاته ـ بحيث لا يكون جسما ولا

__________________

(١) في أ : معان.

٢٨٣

متحيّزا ولا عرضا ـ وعيسى عبارة عن هذا الشخص البشريّ الجسمانيّ الذي وجد بعد أن كان معدوما ، وقتل ـ على قولكم ـ بعد أن كان حيا ، وكان طفلا ـ أولا ـ ثم صار مترعرعا ، ثم صار شابا ، ويشرب ويحدث وينام ويستيقظ وقد تقرّر في بداهة العقول أنّ المحدث لا يكون قديما والمحتاج لا يكون غنيّا ، والممكن لا يكون واجبا والمتغير لا يكون دائما.

الثاني : أنّكم تعترفون أنّ اليهود قتلوه وأخذوه ، وصلبوه ، وتركوه حيّا على الخشبة ، وقد مزّقوا ضلعه ، وأنه كان يحتال في الهرب منهم ، وفي الاختفاء عنهم ، وحين عاملوه بتلك المعاملات أظهر الجزع الشديد. فإن كان إلها ، أو كان الإله حالّا فيه ، أو كان جزء من إله حالّا فيه ، فلم لم يدفعهم عن نفسه؟ ولم لم يهلكهم بالكلية؟ وأيّ حاجة إلى إظهار الجزع منهم ، والاحتيال في الفرار منهم؟ وبالله إني لأتعجّب جدا من أن العاقل كيف يليق به أن يقول هذا القول ، ويعتقد صحته ، وبداهة العقل تكاد أن تشهد بفساده؟

الثالث : أن يقال : إن الإله إمّا أن يكون هذا الشخص الجسمانيّ المشاهد ، أو يقال : إن الإله بكليته فيه ، أو حل بعض الإله فيه. والأقسام الثلاثة باطلة : أما الأول فإن إله العالم لو كان هو ذلك الجسم ، فحين قتله اليهود كان ذلك قولا بأن اليهود قتلوا إله العالم ، فكيف بقي العالم بعد ذلك من غير إله؟ ثم إن أشدّ الناس ذلّا ودناءة اليهود ، فالإله الذي تقتله اليهود إله في غاية العجز. وأما الثاني : ـ وهو أن الإله بكليته حلّ في هذا الجسم ـ فهو أيضا ـ فاسد ؛ لأن الإله إن لم يكن جسما ولا عرضا امتنع حلوله في الجسم ، وإن كان جسما فحينئذ يكون حلوله في جسم آخر ، عبارة عن اختلاط أجزائه بأجزاء ذلك الجسم ، وذلك يوجب وقوع التفرّق في أجزاء ذلك الإله ، وإن كان عرضا كان محتاجا إلى المحلّ ، وحينئذ يكون الإله محتاجا إلى غيره ، وكل ذلك سخف.

وأما الثالثة : وهو أنه حلّ فيه بعض من أبعاض الإله وجزء من أجزائه ، وذلك ـ أيضا ـ محال ؛ لأن ذلك الجزء إن كان معتبرا في الإلهية فعند انفصاله عن الإله ، وجب أن لا يبقى الإله إلها. وإن كان معتبرا في تحقق الإلهية لم يكن جزءا من إله فثبت فساد هذه الأقسام.

الوجه الرابع ـ في بطلان قول النصارى ـ ما ثبت بالتواتر أن عيسى عليه‌السلام كان عظيم الرغبة في العبادة والطاعة لله ـ تعالى ـ ولو كان إلها لاستحال ذلك ؛ لأن الإله لا يعبد نفسه ، ثم قلت للنصراني : ما الذي دلّك على كونه إلها؟ فقال دلّ عليه ظهور العجائب عليه من إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص وذلك لا يمكن حصوله إلا بقدرة الإله ـ تعالى ـ فقلت له : تسلم أنّه لا يلزم من عدم الدليل عدم المدلول ، أم لا؟ فإن لم تسلّم لزمك من نفي العالم في الأزل نفي الصانع وإن سلّمت أنّه لا يلزم من عدم الدليل عدم المدلول فأقول : لمّا جوّزت حلول الإله في بدن عيسى عليه‌السلام فكيف عرفت أنّ

٢٨٤

الإله ما حل في بدني وفي بدنك ، وفي بدن كلّ حيوان ، ونبات وجماد؟ فقال : الفرق ظاهر ؛ وذلك أني إنما حكمت بذلك الحلول ؛ لأنّه ظهرت تلك الأفعال العجيبة عليه ، والأفعال العجيبة ما ظهرت على يديّ وعلى يديك ، فعلمنا أنّ ذلك الحلول ـ هاهنا ـ مفقود ، فقلت له : تبين الآن أنك ما عرفت معنى قولي : إنه لا يلزم من عدم الدليل عدم المدلول ، وذلك أنّ ظهور تلك الخوارق دالة على حلول الإله في بدن عيسى ، فعدم ظهور الخوارق مني ومنك ليس فيه إلا أنه لم يوجد ذلك الدليل فإذا تبيّنّا أنه لا يلزم من عدم الدليل عدم المدلول لا يلزم من عدم ظهور تلك الخوارق مني ومنك عدم الحلول في حقي وفي حقك ، بل في حقّ الكلب والسّنّور والفأر ، ثم قلت: إن مذهبا يؤدي إلى تجويز القول بحلول ذات الله في بدن الكلب والذباب لفي غاية الخسّة والرّكاكة.

الوجه الخامس : أن قلب العصا حيّة أبعد في العقل من إعادة الميت حيّا ؛ لأن المشاكلة بين بدن الحي وبدن الميت أكثر من المشاكلة بين الخشبة وبين بدن الثعبان ، فإذا لم يوجب قلب العصا حية كون موسى إلها ، ولا ابنا للإله ، فبأن لا يدل إحياء الموتى على الإلهية كان أولى.

قوله : (تَعالَوْا) العامة على فتح اللام ؛ لأنه أمر من تعالى يتعالى ـ كترامى يترامى ـ وأصل ألفه ياء وأصل هذه [الياء](١) واو ؛ وذلك أنه مشتقّ من العلوّ ـ وهو الارتفاع كما سيأتي بيانه في الاشتقاق ـ والواو متى وقعت رابعة فصاعدا قلبت ياء فصار «تعالوا» تعالي ، فتحرك حرف العلّة ، وانفتح ما قبله ، فقلبت ألفا فصار «تعالي» ـ كترامى وتعادى ـ فإذا أمرت منه الواحد ، قلت : تعال يا زيد ـ بحذف الألف ـ وكذا إذا أمرت الجمع المذكر قلت : تعالوا ؛ لأنك لما حذفت الألف لأجل الأمر أبقيت الفتحة مشعرة بها. وإن شئت قلت : الأصل : تعاليوا ، وأصل هذه الياء واو ـ كما تقدم ـ ثم استثقلت الضمة على الياء ، فحذفت ضمتها ، فالتقى ساكنان ، فحذف أوّلهما ـ وهو الياء ـ لالتقاء الساكنين ونزلت الفتحة على حالها.

وإن شئت قلت : لما كان الأصل تعاليوا تحرك حرف العلّة ، وانفتح ما قبله ـ وهو الياء ـ فقلب ألفا ، فالتقى ساكنان ، فحذف أولهما ـ وهو الألف ـ وبقيت الفتحة دالة عليه.

والفرق بين هذا وبين الوجه الأول أن الألف ـ في الوجه الأول ـ حذفت لأجل الأمر ـ وإن لم تتصل به واو ضمير ، وفي هذا حذفت لالتقائها مع واو الضمير.

وكذلك إذا أمرت الواحدة تقول لها : تعالي ، فهذه الياء ، هي ياء الفاعلة من جملة الضمائر ، والتصريف كما تقدم ، إلا أنك تقول هنا : الكسرة على الياء بدل الضمة هناك.

__________________

(١) في ب : الكلمة.

٢٨٥

وأما إذا أمرت المثنى فإن الياء تثبت فتقول : يا زيدان تعاليا ، ويا هندان تعاليا ـ أيضا يستوي فيه المذكران والمؤنثان ـ وكذلك أمر جماعة الإناث تثبت فيه الياء تقول : يا نسوة تعالين ، قال تعالى : (فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَ) [الأحزاب : ٢٨] ؛ إذ لا مقتضي للحذف ، ولا للقلب ؛ وهو ظاهر بما تمهد من القواعد.

وقرأ الحسن وأبو السّمّال وأبو واقد (١) : تعالوا ـ بضم اللام ـ ووجهوها على أن الأصل : تعاليوا ـ كما تقدم فاستثقلت الضمة على الياء ، فنقلت إلى اللام ـ بعد سلب حركتها ـ فبقي تعالوا ـ بضم اللام.

قال الزمخشريّ في سورة النساء : وعلى هذه القراءة قال الحمدانيّ : [الطويل]

١٤٩١ ـ ...........

تعالي أقاسمك الهموم تعالي (٢)

بكسر اللام ـ وقد غاب بعض الناس عليه في استشهاده بشعر هذا المولّد المتأخّر وليس بعيب ؛ فإنه ذكره استئناسا.

وهذا كما تقدم في أول البقرة ـ عندما أنشد لحبيب : [الطويل]

١٤٩٢ ـ هما أظلما حاليّ ثمّت أجليا

ظلاميهما عن وجه أمرد أشيب (٣)

واعتذر هو عن ذلك فكيف يعاب عليه بشيء عرفه ، ونبّه عليه ، واعتذر عنه؟

والذي يظهر في توجيه هذه القراءة أنهم تناسوا الحرف المحذوف ، حتى كأنهم توهّموا أن الكلمة بنيت على ذلك ، وأنّ اللام هي الآخر في الحقيقة ، فلذلك عوملت معاملة الآخر حقيقة ، فضمّت قبل واو الضمير وكسرت قبل يائه ، ويدل على ما قلناه أنهم قالوا : ـ في لم أبله ـ : إن الأصل : أبالي ؛ لأنه مضارع «بالى» فلما دخل الجازم حذفوا له حرف العلة ـ على القاعدة ـ ثم تناسوا ذلك الحرف ، فسكنوا للجازم اللام ؛ لأنها كالأخير حقيقة ، فلما سكنت اللام التقى ساكنان ـ هي والألف قبلها ـ فحذفت الألف ؛ لالتقاء الساكنين.

وهذا التعليل أولى ؛ لأنه يعمّ هذه القراءة والبيت المذكور ، وعلى مقتضى تعليله هو أن يقال : الأصل تعاليي ، فاستثقلت الكسرة على الياء ، فنقلت إلى اللام ـ بعد سلبها حركتها ـ ثم حذفت الياء ؛ لالتقاء الساكنين.

__________________

(١) ينظر : الشواذ ٢١ ، والبحر المحيط ٢ / ٥٠٢ ، والدر المصون ٢ / ١٢١.

(٢) عجز بيت وصدره :

أيا جارتا ما أنصف الدهر بيننا

ينظر ديوانه (٣٢٥) وشذور الذهب ص ٢٣ والكشاف ١ / ٥٣٦ وحاشية السجاعي على القطر ص ١٧ والدر المصون ٢ / ١٢١.

(٣) تقدم برقم ٢٦٥.

٢٨٦

وتعال فعل صريح ، وليس باسم فعل ؛ لاتصال الضمائر المرفوعة البارزة به.

قيل : وأصله طلب الإقبال من مكان مرتفع ؛ تفاؤلا بذلك وإدناء للمدعو ؛ لأنه من العلو والرّفعة. ثم توسّع فيه ، فاستعمل في مجرد طلب المجيء ، حتى يقال ذلك لمن تريد إهانته ـ كقولك للعدو : تعال ـ ولمن لا يعقل كالبهائم ونحوها.

وقيل : هو الدعاء لمكان مرتفع ، ثم توسّع فيه ، حتى استعمل في طلب الإقبال إلى كل مكان ، حتى المنخفض.

و «ندع» جزم على جواب الأمر ؛ إذ يصحّ أن يقال : فتعالوا ندع.

قوله : «أبناءنا». قيل : أراد الحسن والحسين ويؤيده قوله تعالى : (وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ) إلى قوله : (وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى) [الأنعام : ٨٤ ـ ٨٥] ومعلوم أن عيسى إنما انتسب إلى إبراهيم بالأم ـ لا بالأب ـ فثبت أن ابن البنت قد يسمى ابنا. و «نساءنا» فاطمة ، «وأنفسنا» عني نفسه وعليا ، والعرب تسمي ابن العم نفسه كما قال : (وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ) [الحجرات : ١١] يريد إخوانكم.

وقيل هو على العموم لجماعة أهل الدين.

قوله : (ثُمَّ نَبْتَهِلْ) قال ابن عبّاس : نتضرع في الدعاء (١).

وقال الكلبي : نجتهد (٢) ونبالغ في الدعاء وقال الكسائيّ وأبو عبيدة : نلتعن. والابتهال : افتعال ، من البهلة ، وهي ـ بفتح الباء وضمها ـ اللعنة ، قال الزمخشريّ : ثم نتباهل بأن نقول لعنة الله على الكاذب منا ومنكم والبهلة ـ بالفتح والضم ـ اللعنة ، وبهله الله : لعنه وأبعده من رحمته من قولك : أبهله إذا أهمله ، وناقة باهل : لا صرار عليها ، أي : مرسلة مخلّاة ـ كالرجل الطريد المنفي ـ وإذا كان البهل هو الإرسال والتخلية ، فمن بهله الله فقد خلاه ، ووكله إلى نفسه ، فهو هالك لا شك فيه ـ كالناقة الباهل التي لا حافظ لها ، فمن شاء حلبها ، لا تقدر على الدفع عن نفسها هذا أصل الابتهال ، ثم استعمل في كل دعاء مجتهد فيه ـ وإن لم يكن التعانا ـ [يعني أنه اشتهر في اللغة : فلان يبتهل إلى الله ـ تعالى ـ في قضاء حاجته ، ويبتهل في كشف كربته](٣).

قال شهاب الدّين : ما أحسن ما جعل «الافتعال» ـ هنا ـ بمعنى التفاعل ؛ لأن المعنى لا يجيء إلا على ذلك ، وتفاعل و «افتعل» أخوان في مواضع ، نحو اجتوروا وتجاوروا ، واشتوروا وتشاوروا ، واقتتل القوم وتقاتلوا ، واصطحبوا وتصاحبوا ، لذلك صحت واو اجتوروا واشتوروا.

__________________

(١) ذكره أبو حيان في «البحر المحيط» (٢ / ٥٠٣) عن ابن عباس.

(٢) ذكره أبو حيان في «البحر المحيط» (٢ / ٥٠٤) عن الكلبي وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٧٠) من طريق ابن جريج عن ابن عباس وعزاه لابن المنذر وابن أبي حاتم.

(٣) سقط في أ.

٢٨٧

قال الراغب : وأصل البهل : كون الشيء غير مراعى ، والباهل : البعير المخلّى عن قيده والناقة المخلّى ضرعها عن صرار ، وأنشد لامرأة : أتيتك باهلا غير ذات صرار.

وأبهلت فلانا : خليته وإرادته ؛ تشبيها بالبعير الباهل. والبهل والابتهال في الدعاء : الاسترسال فيه والتضرع ، نحو (ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ) ومن فسر الابتهال باللعن فلأجل أن الاسترسال في هذا المكان لأجل اللعن.

قال الشاعر : (وهو لبيد) : [الرمل]

١٤٩٣ ـ من قروم سادة في قومهم

نظر الدّهر إليهم فابتهل (١)

وظاهر هذا أن الابتهال عام في كل دعاء ـ لعنا كان أو غيره ـ ثم خصّ في هذه الآية باللعن ، وظاهر عبارة الزمخشري أن أصله خصوصيته باللعن ، ثم تجوّز فيه ، فاستعمل في كل اجتهاد في دعاء ـ لعنا كان ، أو غيره ـ والظاهر من أقوال اللغويين ما ذكره الراغب.

قال أبو بكر بن دريد في مقصورته : [الرجز]

١٤٩٤ ـ لم أر كالمزن سواما بهّلا

تحسبها مرعيّة وهي سدى (٢)

بهلا جمع باهلة ـ أي : مهملة ، وفاعلة تجمع على فعّل ، نحو ضرّب. والسّدى : المهمل ـ أيضا ـ وأتى ب «ثمّ» هنا ، تنبيها على خطئهم في مباهلته ، كأنه يقول لهم : لا تعجلوا ، وتأنّوا ؛ لعلّه أن يظهر لكم الحق ، فلذلك أتى بحرف التراخي.

قوله : (فَنَجْعَلْ) هي المتعدية لاثنين ـ بمعنى نصير ـ و (عَلَى الْكاذِبِينَ) هو المفعول الثاني.

فصل

روي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما أورد الدلالة على نصارى نجران ، ثم إنهم أصرّوا على جهلهم ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنّ الله يأمرني ـ إن لم تقبلوا الحجّة ـ أن أباهلكم ، فقالوا : يا أبا القاسم ، بل نرجع ، فننظر في أمرنا ، ثم نأتيك غدا ، فخلا بعضهم ببعض ، فقالوا للعاقب وكان ذا رأيهم : يا عبد المسيح ، ما ترى؟ فقال : والله لقد عرفتم ـ يا معشر النصارى ـ أن محمدا نبي مرسل ، ولقد جاءكم بالكلام الحق في أمر صاحبكم ، والله ما باهل قوم نبيّا ـ قط ـ فعاش كبيرهم ولا صغيرهم ، ولأن فعلتم ذلك لنهلكن ، ولكان الاستئصال ، فإن أبيتم إلا الإصرار على دينكم والإقامة على ما أنتم عليه ، فوادعوا الرجل ، وانصرفوا إلى بلادكم ،

__________________

(١) ينظر البيت في ديوانه ١٩٧ وأساس البلاغة ص ٥٦ وأمالي المرتضى ١ / ٤٥ وجامع البيان ٦ / ٤٧٤ والتاج ٧ / ٢٣٩ والبحر المحيط ٢ / ٤٩٤ والدر المصون ٢ / ١٢٢.

(٢) ينظر البيت في ديوانه (١٢٨) والفوائد المحصورة في شرح المقصورة ص ٣١٧ والدر المصون ٢ / ١٢٣.

٢٨٨

فأتوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكان قد خرج وعليه مرط من شعر أسود ، وكان قد احتضن الحسين ، وأخذ بيد الحسن ، وفاطمة تمشي خلفه وعليّ خلفهما ، وهو يقول لهم : إذا دعوت فأمّنوا ، فقال أسقف نجران : يا معشر النصارى إنّي لأرى وجوها لو شاء الله أن يزيل جبلا من مكانه لأزاله بها ، فلا تباهلوا ، فتهلكوا ولا يبقى نصراني على وجه الأرض إلى يوم القيامة فقالوا : يا أبا القاسم ، قد رأينا أن لا نباهلك ، وأن نقرك على دينك ، ونثبت على ديننا ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإن أبيتم المباهلة فأسلموا يكن لكم ما للمسلمين وعليكم ما عليهم فأبوا ، فقال : فإنّي أنابذكم ، فقالوا ما لنا بحرب العرب طاقة ، ولكن نصالحك على أن لا تغزونا ، ولا تردّنا عن ديننا ، على أن نؤدّي إليك في كل عام ألفي حلّة ـ ألفا في صفر وألفا في رجب ـ وثلاثين درعا عادية من حديد ، فصالحهم على ذلك ، وقال : والّذي نفسي بيده إنّ العذاب قد تدلّى على أهل نجران ، ولو لاعنوا لمسخوا قردة وخنازير ، ولاضطرم عليهم الوادي نارا ، ولأستأصل الله نجران وأهله ـ حتّى الطّير على الشّجر ـ ولما حال الحول على النّصارى كلّهم حتى يهلكوا (١).

وروي أنه ـ عليه‌السلام ـ لما خرج في المرط الأسود ، فجاء الحسن ، فأدخله ، ثم جاء الحسين فأدخله ، ثمّ فاطمة ، ثم عليّ ، ثم قال : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ (٢) الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً)(٢) [الأحزاب : ٣٣].

فصل

قال بعض العلماء : إن القول ، بأن الابتهال هو الاجتهاد في الدعاء أولى ؛ لأنه يكون قوله : (ثُمَّ نَبْتَهِلْ) أي : ثم نجتهد في الدعاء ، ونجعل اللعنة على الكاذب ، وعلى القول بأنه الالتعان يصير التقدير : (ثُمَّ نَبْتَهِلْ) أي : نلتعن ، فنجعل لعنة الله على الكاذب ، هو تكرار. وهنا سؤالان :

السؤال الأول : الأولاد إذا كانوا صغارا لم يجز نزول العذاب بهم ، وقد ورد في الخبر أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أدخل في المباهلة الحسن والحسين ، فما الفائدة فيه؟

والجواب : أن عادة الله جارية بأن عقوبة الاستئصال إذا نزلت بقوم هلك معهم الأولاد والنساء ، فيكون ذلك في حق البالغين عقابا ، وفي حق النساء جاريا مجرى

__________________

(١) ذكره بنحوه السيوطي في الدر ٢ / ٦٩ وعزاه لأبي نعيم في الدلائل من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس وذكره بنحوه أيضا وعزاه لابن أبي شيبة وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وأبي نعيم عن الشعبي.

(٢) أخرجه أحمد (٦ / ٢٩٢) والطبراني في «الكبير» (٣ / ٥١ ، ١٢ / ١٠٤) والبخاري في «التاريخ الكبير» (٢ / ١٩٧) وابن أبي شيبة (١٢ / ٧٣) وابن عساكر (٤ / ٢٠٧ ـ تهذيب) وابن عدي (٧ / ٢٥٨٨) وذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (٩ / ١٢٢ ـ ١٢٣) وقال : رواه أحمد والطبراني في الكبير والأوسط باختصار ورجال أحمد رجال الصحيح غير أبي بلج الفزاري وهو ثقة وفيه لين.

٢٨٩

إماتتهم ، وإيصال الآلام إليهم ومعلوم أن شفقة الإنسان على أولاده ، وأهله شديدة جدا ، وربّما جعل الإنسان نفسه فداء لهم وإذا كان كذلك فهو ـ عليه‌السلام ـ أحضر صبيانه ونساءه معه ، وأمرهم بأن يفعلوا مثل ذلك ، ليكون ذلك أبلغ للزجر ، وأقوى في تخويف الخصم ، وأدل على وثوقه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن الحقّ معه.

السؤال الثاني : أليس أن بعض الكفار استعمل المباهلة مع نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم حيث قالوا : (اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ) [الأنفال : ٣٢] ثم إنه لم ينزل بهم عذاب ألبتة ـ فكذا هاهنا ـ وأيضا فبتقدير نزول العذاب يكون ذلك مناقضا لقوله تعالى : (وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ) [الأنفال : ٣٣].

الجواب : أن الخاص مقدّم على العام ، فلما أخبر ـ عليه‌السلام ـ بنزول العذاب في هذه القصة على التعيين ، وجب أن تعتقد أن الأمر كذلك.

فصل

دلت هذه الواقعة على صحة نبوته ـ عليه‌السلام ـ من وجهين :

أحدهما : أنه ـ عليه‌السلام ـ خوفهم بنزول العذاب ، ولو لم يكن واثقا بذلك لكان ذلك منه سعيا في إظهار كذب نفسه ؛ لأن بتقدير أن يرغبوا في مباهلته ، ثم لا ينزل العذاب ، فحينئذ يظهر كذبه ، فلما أصرّ على ذلك علمنا أنه إنما أصرّ عليه ؛ لكونه واثقا بنزول العذاب عليهم.

وثانيهما : أن القوم ـ لما تركوا مباهلته ـ لولا أنهم عرفوا من التوراة والإنجيل ما يدل على نبوته لما أحجموا عن مباهلته.

فإن قيل : لم لا يجوز أن يقال : إنهم كانوا شاكّين ، فتركوا مباهلته ؛ خوفا من أن يكون صادقا ، فينزل بهم ما ذكر من العذاب؟

فالجواب : أن هذا مدفوع من وجهين :

الأول : أن القوم كانوا يبذلون النفوس والأموال في المنازعة مع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولو كانوا شاكّين لما فعلوا ذلك.

الثاني : أنه قد نقل عن أولئك النصارى أنهم قالوا : إنه والله هو النبي المبشّر به في التوراة والإنجيل وإنكم لو باهلتموه لحصل الاستئصال ، فكان تصريحا منهم بأن الامتناع من المباهلة كان لأجل علمهم بأنه نبي مرسل من عند الله تعالى.

فصل

قال ابن الخطيب : كان في الرّيّ رجل يقال له محمود بن الحسن الحمصيّ ، وكان معلم الاثني عشرية ، وكان يزعم أن عليّا ـ رضي الله عنه ـ أفضل من جميع الأنبياء ـ

٢٩٠

سوى محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ قال : والذي يدل على ذلك قوله : (وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ،) وليس المراد بقوله : (وَأَنْفُسَنا) نفس محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ لأن الإنسان لا يدعو نفسه ، بل المراد به غيره ، وأجمعوا على أن ذلك الغير كان علي بن أبي طالب ، فدلت الآية على أن نفس علي هي نفس محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا يمكن أن يكون المراد منه أن هذه النفس هي عين تلك النفس ، فالمراد : أن هذه النفس مثل تلك النفس ، وذلك يقتضي الاستواء في جميع الوجوه ، ترك العمل بهذا العموم في حق النبوة وفي حق الفضل ؛ لقيام الدلائل على أن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان نبيا ، وما كان عليّ كذلك ، ولانعقاد الاجماع على أن محمدا كان أفضل من علي ، فيبقى فيما وراءه معمولا به ، ثم الإجماع دلّ على أنّ محمدا كان أفضل من سائر الأنبياء ، فيلزم أن يكون عليّ أفضل من سائر الأنبياء ، فهذا وجه الاستدلال بظاهر هذه الآية ، ثم قال : ويؤكد هذا الاستدلال الحديث المقبول ـ عند الموافق والمخالف ـ وهو قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من أراد أن يرى آدم في علمه ، ونوحا في طاعته ، وإبراهيم في خلّته ، وموسى في هيبته ، وعيسى في صفوته فلينظر إلى عليّ بن أبي طالب» (١).

فالحديث دل على أنه اجتمع فيه ما كان متفرّقا فيهم ، وذلك يدل على أن عليّا أفضل من جميع الأنبياء سوى محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

أما سائر الشيعة فقد كانوا ـ قديما وحديثا ـ يستدلون بهذه الآية على أن عليّا أفضل من سائر الصحابة ؛ وذلك لأنّ الآية لمّا دلّت على أن نفس عليّ مثل محمّد ـ إلا ما خصه الدليل ـ وكان نفس محمد أفضل من الصحابة ـ رضوان الله عليهم أجمعين ـ فوجب أن يكون نفس عليّ أفضل من سائر الصحابة ، هذا تقرير كلام الشيعة.

فالجواب : أنه كما انعقد الإجماع بين المسلمين على أن محمدا أفضل من عليّ ، فكذلك انعقد الإجماع بينهم ـ قبل ظهور هذا الإنسان ـ على أن النبيّ أفضل ممن ليس بنبيّ ، وأجمعوا على أن عليّا ما كان نبيّا ، فلزم القطع على أن ظاهر الآية ، كما أنه مخصوص في حق محمد ، فكذلك مخصوص في حق سائر الأنبياء ـ عليهم‌السلام ـ.

قوله تعالى : (إِنَّ هذا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ اللهُ وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٦٢) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ)(٦٣)

قال أبو مسلم : هذا الكلام متصل بما قبله ، ولا يجوز الوقف على قوله : (الْكاذِبِينَ) ، وتقدير الآية : فنجعل لعنة الله على الكاذبين بأن هذا هو القصص الحق ، وعلى هذا التقدير كان حق «إنّ» أن تكون مفتوحة ، إلا أنها كسرت ؛ لدخول اللّام في

__________________

(١) أخرجه الحاكم في «تاريخه» كما في «تنزيه الشريعة» (١ / ٣٨٥) ومن طريقه ابن الجوزي في «الموضوعات» (١ / ٣٧٠) عن أبي الحمراء مولى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قال ابن الجوزي : وفيه أبو عمر الأزدي متروك.

٢٩١

قوله : (لَهُوَ الْقَصَصُ ،) كما في قوله : (إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ) [العاديات : ١١].

قال الباقون : الكلام تمّ عند قوله : (عَلَى الْكاذِبِينَ) وما بعده جملة أخرى مستقلة غير متعلّقة بما قبلها ، فقوله : (هذا) الكلام إشارة إلى ما تقدم من الدلائل والدعاء إلى المباهلة ، وأخبار عيسى.

وقيل : هو إشارة لما بعده ـ وهو قوله : (وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللهُ) ـ وضعف هذا بوجهين:

أحدهما : أنّ هذا ليس بقصص.

الثاني : أنه مقترن بحرف العطف.

واعتذر بعضهم عن الأول ، فقال : إن أراد بالقصص الخبر ، فيصح على هذا ، ويكون التقدير : إن الخبر الحق (ما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللهُ) ولكن الاعتراض الثاني باق ، لم يجب عنه.

و «هو» يجوز أن يكون فصلا ، و «القصص» خبر «إن» ، و «الحقّ» صفته ، ويجوز أن يكون «هو» مبتدأ و «القصص» خبره ، والجملة خبر «إنّ».

والقصص مصدر قولهم : قصّ فلان الحديث ، يقصّه ، قصّا ، وقصصا وأصله : تتبع الأثر ، يقال : فلان خرج يقصّ أثر فلان ، أي : يتبعه ، ليعرف أين ذهب ، ومنه قوله : (وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ) [القصص : ١١] ، أي : اتبعي أثره ، وكذلك القاصّ في الكلام ، لأنه يتتبع خبرا بعد خبر. وقد تقدم التنبيه على قراءتي «لهو» بسكون الهاء وضمها ؛ إجراء لها مجرى عضد.

قال الزمخشريّ : فإن قلت : لم جاز دخول اللام على الفصل؟

قلت : إذا جاز دخولها على الخبر كان دخولها على الفصل أجود ؛ لأنه أقرب إلى المبتدأ منه وأصلها أن تدخل على المبتدأ.

قوله : (وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللهُ) يجوز فيه وجهان :

أحدهما : أن (مِنْ إِلهٍ) مبتدأ ، و «من» مزيدة فيه ، و «إلّا الله» خبره ، تقديره : ما إله إلا الله ، وزيدت «من» للاستغراق والعموم.

قال الزمخشريّ : و «من» ـ في قوله : (وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللهُ) ـ بمنزلة البناء على الفتح في : لا إله إلا الله ـ في إفادة معنى الاستغراق.

قال شهاب الدين : الاستغراق في : لا إله إلّا الله ، لم نستفده من البناء على الفتح ، بل استفدناه من «من» المقدّرة ، الدالة على الاستغراق ، نصّ النحويون على ذلك ، واستدلوا عليه بظهورها في قول الشاعر : [الطويل]

١٤٩٥ ـ فقام يذود النّاس عنها بسيفه

وقال : ألا لا من سبيل إلى هند (١)

__________________

(١) تقدم برقم ١٠٦.

٢٩٢

الثاني : أن يكون الخبر مضمرا ، تقديره : وما من إله لنا إلا الله ، و (إِلَّا اللهُ) بدل من موضع (مِنْ إِلهٍ ،) لأن موضعه رفع بالابتداء ، ولا يجوز في مثله الإبدال من اللفظ ، لئلّا يلزم زيادة «من» في الواجب ، وذلك لا يجوز عند الجمهور.

ويجوز في مثل هذا التركيب نصب ما بعد «إلّا» على الاستثناء ، ولكن لم يقرأ به ، إلا أنّه جائز لغة أن يقال لا إله إلّا الله ـ برفع لفظ الجلالة بدلا من الموضع ، ونصبها على الاستثناء من الضمير المستكن في الخبر المقدر ؛ إذ التقدير : لا إله استقر لنا إلا الله.

وقال بعضهم : دخلت «من» لإفادة تأكيد النفي ؛ لأنك لو قلت : ما عندي من الناس أحد ، أفاد أن عندك بعض الناس. فإذا قلت : ما عندي من الناس من أحد ، أفاد أن ليس عندك بعضهم وإذا لم يكن عندك بعضهم فبأن لا يكون عندك كلهم أولى ، فثبت أن قوله : (وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللهُ) مبالغة في أنه لا إله إلا الله الواحد الحقّ.

قوله : (وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) كقوله : (إِنَّ هذا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُ) وفيه إشارة إلى الجواب عن شبهات النّصارى ، لأن اعتمادهم على أمرين :

أحدهما : أنه قدر على إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص ، فكأنه ـ تعالى ـ قال : هذا القدر من القدرة لا يكفي في الإلهية ، بل لا بدّ وأن يكون عزيزا ، غالبا ، لا يدفع ، ولا يمنع ، وأنتم اعترفتم بأن عيسى ـ عليه‌السلام ـ ما كان كذلك ، بل قلتم : إنّ اليهود قتلوه.

والثاني : أنهم قالوا : إنه كان يخبر عن الغيوب وغيرها ، فكأنه ـ تعالى ـ قال : هذا القدر من العلم لا يكفي في الإلهية ، بل لا بد وأن يكون حكيما ، أي : عالما بجميع المعلومات ، وبجميع عواقب الأمور.

فذكر العزيز الحكيم ـ هاهنا ـ إشارة إلى الجواب عن هاتين الشبهتين ، ونظير هذه الآية ما ذكر تعالى في أول السورة من قوله : (هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [آل عمران : ٦].

وقوله : (فَإِنْ تَوَلَّوْا) يجوز أن يكون مضارعا ـ حذفت منه إحدى التاءين ، تخفيفا ـ على حدّ قراءة : (تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ) [القدر : ٤] و (تَذَكَّرُونَ) [الأنعام : ١٥٢] ـ ويؤيد هذا نسق الكلام ، ونظمه في خطاب من تقدم في قوله : (تَعالَوْا) ثم جرى معهم في الخطاب إلى أن قال لهم : فإن تولّوا.

قال أبو البقاء : «ويجوز أن يكون مستقبلا ، تقديره : تتولوا ـ ذكره النّحّاس ـ وهو ضعيف ؛ لأن حرف المضارعة لا يحذف».

قال شهاب الدين : «وهذا ليس بشيء ؛ لأن حرف المضارعة يحذف ـ في هذا النحو ـ من غير خلاف. وسيأتي من ذلك طائفة كثيرة».

٢٩٣

وقد أجمعوا على الحذف في قوله : (تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها) [القدر : ٤].

ويجوز أن يكون ماضيا ، أي : فإن تولّى وفد نجران المطلوب مباهلتهم ، ويكون ـ على ذلك ـ في الكلام التفات ؛ إذ فيه انتقال من خطاب إلى غيبة.

قوله : (بِالْمُفْسِدِينَ) من وقوع الظاهر موقع المضمر ، تنبيها على العلة المقتضية للجزاء ، وكان الأصل : فإن الله عليم بكم ـ على الأول ـ وبهم ـ على الثاني.

فصل

ومعنى الآية : فإن تولوا عما وصفت لهم من أنه الواحد ، وأنه يجب أن يكون عزيزا غالبا ، قادرا على جميع المقدورات ، حكيما ، عالما بالعواقب ـ مع أن عيسى ما كان كذلك ـ فاعلم أن تولّيهم وإعراضهم ليس إلّا على سبيل العناد ، فاقطع كلامك عنهم ، وفوّض أمرك إلى الله ؛ فإنه عليم بالمفسدين الذين يعبدون غير الله ، مطّلع على ما في قلوبهم من الأغراض الفاسدة ، قادر على مجازاتهم.

قوله تعالى : (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) (٦٤)

قوله : (إِلى كَلِمَةٍ) متعلّق ب «تعالوا» فذكر مفعول «تعالوا» بخلاف «تعالوا» قبلها ، فإنه لم يذكر مفعوله ؛ فإن المقصود مجرّد الإقبال ، ويجوز أن يكون حذفه للدلالة عليه ، تقديره : تعالوا إلى المباهلة.

وقرأ العامة (كَلِمَةٍ) ـ بفتح الكاف وكسر اللام ـ وهو الأصل ، وقرأ أبو السّمّال «كلمة» (١) بوزن سدرة و «كلمة» كضربة وتقدم هذا قريبا.

وكلمة مفسّرة بما بعدها ـ من قوله : (أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ) ـ فالمراد بها كلام كثير ، وهذا من باب إطلاق الجزء والمراد به الكل ، ومنه تسميتهم القصيدة جميعا قافية ـ والقافية جزء منها قال : [الوافر]

١٤٩٦ ـ أعلّمه الرّماية كلّ يوم

فلمّا اشتدّ ساعده رماني

وكم علّمته نظم القوافي

فلمّا قال قافية هجاني (٢)

ويقولون كلمة الشهادة ـ يعنون : لا إله إلا الله ، محمد رسول الله ـ وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أصدق كلمة قالها شاعر كلمة لبيد».

__________________

(١) تقدم في الآية ٣٩.

(٢) البيتان لمعمر بن أوس ونسب لغيره ينظر العيني ١ / ٢٠ والبيان ٣ / ٢٣١ ومجمع الأمثال ٣ / ١٣٠ والدر المصون ٢ / ١٢٤.

٢٩٤

يريد : [الطويل]

١٤٩٧ ـ ألا كلّ شيء ما خلا الله باطل

وكلّ نعيم ـ لا محالة ـ زائل (١)

وهذا كما يسمون الشيء بجزئه في الأعيان ، لأنه المقصود منه ، قالوا لرئيس القوم ـ وهو الذي ينظر لهم ما يحتاجون إليه ـ : عين ، فأطلقوا عليه «عينا».

وقال بعضهم : وضع المفرد موضع الجمع ، كما قال : [الطويل]

١٤٩٨ ـ بها جيف الحسرى ، فأمّا عظامها

فبيض ، وأمّا جلدها فصليب (٢)

وقيل : أطلقت الكلمة على الكلمات ؛ لارتباط بعضها ببعض ، فصارت في قوة الكلمة الواحدة ـ إذا اختلّ جزء منها اختلت الكلمة ؛ لأن كلمة التوحيد ـ لا إله إلا الله ـ هي كلمات لا تتم النسبة المقصودة فيها من حصر الإلهية في «الله» إلا بمجموعها.

وقرأ العامة «سواء» بالجر ؛ نعتا ل «كلمة» بمعنى عدل ، ويدل عليه قراءة عبد الله : إلى كلمة عدل ، وهذا تفسير لا قراءة.

وسواء في الأصل ـ مصدر ، ففي الوصف التأويلات الثلاثة المعروفة ، ولذلك لم يؤنث كما لم تؤنث ب «امرأة عدل» ؛ لأن المصادر لا تثنّى ، ولا تجمع ، ولا تؤنّث ، فإذا فتحت السين مددت ، وإذا كسرت أو ضممت قصرت ، كقوله : (مَكاناً سُوىً) [طه : ٥٨].

وقرأ الحسن «سواء» بالنصب (٣) ، وفيها وجهان :

أحدهما : نصبها على المصدر.

قال الزمخشريّ : «بمعنى : استوت استواء» ، وكذا الحوفيّ.

والثاني : أنه منصوب على الحال ، وجاءت الحال من النكرة ، وقد نصّ عليه سيبويه.

قال أبو حيّان : «ولكن المشهور غيره ، والذي حسّن مجيئها من النكرة ـ هنا ـ كون الوصف بالمصدر على خلاف الأصل ، والصفة والحال متلاقيان من حيث المعنى».

وكأن أبا حيان غض من تخريج الزمخشريّ والحوفيّ ، فقال : «والحال والصفة متلاقيان من حيث المعنى ، والمصدر يحتاج إلى إضمار عامل ، وإلى تأويل «سواء» بمعنى استواء».

والأشهر استعمال «سواء» بمعنى اسم الفاعل ـ أي : مستو.

قال شهاب الدين : «وبذلك فسّرها ابن عباس ، فقال : إلى كلمة مستوية».

__________________

(١) تقدم تخريج الحديث ، وتخريج البيت برقم ٤١٠.

(٢) تقدم برقم ١٦٥.

(٣) ينظر : الكشاف ١ / ٣٧١ ، والبحر المحيط ٢ / ٥٠٦ ، والدر المصون ٢ / ١٢٥.

٢٩٥

قوله : (أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ) فيه ستة أوجه :

أحدها : أنه بدل من «كلمة» ـ بدل كل من كل.

الثاني : بدل من «سواء» جوزه أبو البقاء ؛ وليس بواضح ، لأن المقصود إنما هو الموصوف لا صفته فنسبة البدلية إلى الموصوف أولى ، وعلى الوجهين ف «أن» وما في حيّزها في محل جرّ.

الثالث : أنه في محل رفع ؛ خبرا لمبتدأ مضمر ، والجملة استئناف ، جواب لسؤال مقدّر ، كأنه لما قيل : (تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ) قال قائل : ما هي؟ فقيل : هي أن لا نعبد إلا الله ، وعلى هذا الأوجه الثلاثة ف «بين» منصوب ب «سواء» ظرفا له ، أي : يقع الاستواء في هذه الجهة.

وقد صرّح بذلك [الشاعر] ، حيث قال : [الوافر]

١٤٩٩ ـ أروني خطّة لا عيب فيها

يسوّي بيننا فيها السّواء (١)

والوقف التام ـ حينئذ ـ عند قوله : (مِنْ دُونِ اللهِ ؛) لارتباط الكلام معنى وإعرابا.

الرابع : أن يكون «أن» وما في حيّزها في محل رفع بالابتداء ، والخبر : الظرف قبله.

الخامس : جوّز أبو البقاء أن يكون فاعلا بالظرف قبله ، وهذا إنما يتأتّى على رأي الأخفش ؛ إذا لم يعتمد الظرف.

وحينئذ يكون الوقف على «سواء» ثم يبتدأ بقوله : (بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ) وهذا فيه بعد من حيث المعنى ، ثم إنهم جعلوا هذه الجملة صفة ل «كلمة» ، وهذا غلط ؛ لعدم رابطة بين الصفة والموصوف ، وتقدير العائد ليس بالسهل.

وعلى هذا فقول أبي البقاء : وقيل : تم الكلام على «سواء» ، ثم استأنف ، فقال : (بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ ،) أي : بيننا وبينكم التوحيد ، فعلى هذا يكون (أَلَّا نَعْبُدَ) مبتدأ ، والظرف خبره ، والجملة صفة ل «الكلمة» ، غير واضح ؛ لأنه ـ من حيث جعلها صفة ـ كيف يحسن أن يقول : تم الكلام على «سواء» ثم استأنف؟ بل كان الصواب ـ على هذا الإعراب ـ أن تكون الجملة استئنافية ـ كما تقدم.

السادس : أن يكون : (أَلَّا نَعْبُدَ) مرفوعا بالفاعلية ب «سواء» ، وإلى هذا ذهب الرّمّانيّ ؛ فإن التقدير ـ عنده ـ إلى كلمة مستو فيها بيننا وبينكم عدم عبادة غير الله تعالى.

قال أبو حيّان : «إلا أن فيه إضمار الرابط ـ وهو فيها ـ وهو ضعيف».

فصل

لما أورد صلى‌الله‌عليه‌وسلم على نصارى نجران أنواع الدلائل ، دعاهم إلى المباهلة فخافوا ، وما

__________________

(١) تقدم برقم ١٥١.

٢٩٦

شرعوا فيها ، وقبلوا الصّغار بأداء الجزية ، وكان صلى‌الله‌عليه‌وسلم حريصا على إيمانهم ، فكأنه ـ تعالى ـ قال : يا محمد ، اترك ذلك المنهج من الكلام ، واعدل [إلى](١) منهج آخر يشهد كلّ ذي عقل سليم ، وطبع مستقيم أنه [متين](٢) مبنيّ على الإنصاف وترك الجدال «قل يا أهل الكتاب هلموا إلى كلمة سواء» فيها إنصاف لبعضنا من بعض ، ولا ميل فيها لأحد على صاحبه ، وهي : (أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً) فهذا وجه النّظم.

فصل

وفي المراد بأهل الكتاب ثلاثة أقوال :

أحدها : أن المراد : نصارى نجران.

الثاني : اليهود من المدينة.

الثالث : أنها نزلت في الفريقين ، ويدل على هذا وجهان :

الأول : أن ظاهر اللفظ يتناولهما.

الثاني : قال المفسّرون ـ في سبب النزول ـ : قدم وفد نجران المدينة ، فالتقوا مع اليهود ، واختصموا في إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ فزعمت النصارى أنه كان نصرانيّا ، وأنه على دينهم ، وأنهم وهم على دينه وأولى الناس به ، [وقالت](٣) اليهود : بل كان يهوديّا ، وأنهم على دينه ، وأولى الناس به ، فقال لهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : كلا الفريقين بريء من إبراهيم ودينه ؛ كان حنيفا مسلما ، وأنا على دينه فاتّبعوا دينه الإسلام فقالت اليهود : يا محمد ، ما تريد إلا أن نتخذك ربّا كما اتخذت النصارى عيسى ربّا ، وقالت النصارى : يا محمد ما تريد إلا أن نقول فيك ، كما قالت اليهود في عزيز ، فأنزل الله تعالى هذه الآية.

قال ابن الخطيب : «وعندي أن الأقرب حمله على النصارى ؛ لما بيّنّا في وجه النّظم أنه لما أورد ـ الدلالة عليهم أولا ، ثم باهلهم ثانيا ، فعدل عن هذا المقام إلى الكلام المبني على غاية الإنصاف ، وترك المجادلة ، وطلب الإقحام والإلزام ، ويدل عليه أنه خاطبهم ـ هنا ـ بقوله : (يا أَهْلَ الْكِتابِ) وهذا الاسم من أحسن الأسماء ، وأكمل الألقاب ؛ حيث جعلهم أهلا للكتاب ، ونظيره ما يقال لحافظ القرآن : حامل كتاب الله العزيز ، وللمفسّر يا مفسّر كلام الله ، فإن هذا اللقب يدل على أن قائله أراد المبالغة في تعظيم المخاطب ، وتطييب قلبه ، وذلك إنما يقال عند عدول الإنسان مع خصمه عن طريقة اللّجاج والنزاع إلى طريقة طلب الإنصاف».

قوله : (تَعالَوْا) هلمّوا (إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ) فيها إنصاف من بعضنا لبعض ، لا ميل فيه لأحد على صاحبه. والسواء : هو العدل والإنصاف ؛ لأن حقيقة الإنصاف إعطاء النصف ،

__________________

(١) في أ : في.

(٢) سقط في ب.

(٣) في أ : قال.

٢٩٧

فإن الواجب في العقول ترك الظلم على النفس وعلى الغير ، وذلك لا يحصل إلا بإعطاء النصف ؛ لكي يسوّي بين نفسه وبين الغير. ثم إنه تعالى ذكر ثلاثة أشياء :

الأول : أن لا نعبد إلا الله.

الثاني : أن لا نشرك به شيئا.

الثالث : أن لا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله.

ودون ـ هذه ـ بمعنى : «غير».

إنما ذكر هذه الثلاثة ؛ لأن النصارى جمعوا بينها ، فعبدوا غير الله ـ وهو المسيح ـ وأشركوا بالله غيره ؛ لأنهم يقولون : إنه ثلاثة : أب وابن وروح القدس ، واتخذوا أحبارهم أربابا من دون الله ؛ لأنهم كانوا يطيعونهم في التحليل والتحريم ، وكانو يسجدون لهم ، ويطيعونهم في المعاصي ، قال تعالى : (اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ) [التوبة : ٣١].

قال أبو مسلم : ومذهبهم أن من صار كاملا في الرياضة والمجاهدة ظهر فيه أثر اللاهوت ، فيقدر على إحياء الموتى ، وإبراء الأكمه والأبرص ، فإنهم ـ وإن لم يطلقوا عليه لفظ «الرّبّ» ـ أثبتوا في حقه معنى الربوبية ، وهذه الأقوال الثلاثة باطلة.

أما الأول : فإن قبل المسيح ما كان المعبود إلا الله ، فوجب أن يبقى الأمر بعد ظهور المسيح على ما كان.

الثاني : والقول بالشرك باطل باتفاق الكلّ.

والثالث : ـ أيضا باطل ـ ؛ لأنه إذا كان الخالق والرازق والمنعم ـ بجميع النعم ـ هو الله وجب أن لا يرجع في التحليل ، والتحريم ، والانقياد ، والطاعة إلا إليه ، ـ دون الأحبار والرّهبان.

وقوله : (وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ) قال القرطبي : معنى قوله : (وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ) أي لا نتبعه في تحليل شيء أو تحريمه ، إلا فيما حلّله الله ـ تعالى ـ وهو نظير قوله تعالى : (اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ) أي : أنزلوهم منزلة ربهم في قبول تحريمهم وتحليلهم لما لم يحرمه الله ولم يحلله ، وهذا يدل على بطلان القول بالاستحسان المجرد الذي لا يستند إلى دليل شرعيّ.

قال إلكيا الطبريّ : «مثل [استحسانات](١) أبي حنيفة في التقديرات التي قدرها دون [مستندات بينة](٢)».

قال عكرمة : «هو سجود بعضهم لبعض» ، أي : لا نسجد لغير الله ، وكان السجود إلى زمان نبينا عليه‌السلام ـ ثم نهي عنه.

__________________

(١) في أ : استحسان.

(٢) في أ : دليل.

٢٩٨

وروى ابن ماجه ـ في سننه ـ عن أنس ، قال : «قلنا : يا رسول الله ، أينحني بعضنا لبعض؟ قال : لا ، قلنا : أيعانق بعضنا بعضا؟ قال : لا ، ولكن تصافحوا» (١).

وقيل : لا نطيع أحدا في معصية الله.

قوله : (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا).

قال أبو البقاء (٢) : هو ماض ، ولا يجوز أن يكون التقدير : «فإن تتولوا» لفساد المعنى ؛ لأن قوله : (فَقُولُوا اشْهَدُوا) خطاب للمؤمنين ، و «يتولّوا» للمشركين وعند ذلك لا يبقى في الكلام جواب الشرط ، والتقدير : فقولوا لهم وهذا ظاهر.

والمعنى : إن أبوا إلا الإصرار فقولوا لهم : اشهدوا بأنا مسلمون [مخلصون بالتوحيد](٣).

قوله تعالى : (يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلاَّ مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ)(٦٥)

قوله : (لِمَ تُحَاجُّونَ) هي «ما» الاستفهامية ، دخل عليها حرف الجر ، فحذفت ألفها وتقدم ذلك في البقرة ، واللام متعلقة بما بعدها ، وتقديمها على عاملها واجب ؛ لجرها ما له صدر الكلام.

قوله : (فِي إِبْراهِيمَ) لا بد من مضاف محذوف ، أي : في دين إبراهيم وشريعته ؛ لأن الذوات لا مجادلة فيها.

قوله : (وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ) الظاهر أن الواو للحال ، كهي في قوله : (لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ) [آل عمران ٧٠].

أي كيف تحاجون في شريعته والحال أن التوراة والإنجيل متأخران عنه؟

وجوزوا أن تكون عاطفة ، وليس بالبيّن ، وهذا الاستفهام للإنكار والتعجّب ، وقوله : (إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ) متعلق ب «أنزلت» ، وهو استثناء مفرّغ.

فصل

اعلم أن اليهود كانوا يقولون : إن إبراهيم كان على ديننا ، والنصارى كانوا يقولون : إن إبراهيم كان على ديننا ، فقيل لهم : كيف تقولون ذلك والتوراة والإنجيل إنما نزلا من بعده بزمان طويل؟ كان بين إبراهيم وبين موسى ألف سنة ، وبين موسى وعيسى ألف سنة ، فكيف يعقل أن يكون يهوديّا أو نصرانيا؟

__________________

(١) أخرجه أحمد (٣ / ١٩٨) وذكره المتقي الهندي في «كنز العمال» (٢٥٧٥٠) وعزاه للدارقطني وابن أبي شيبة.

(٢) ينظر : الإملاء ١ / ١٣٨.

(٣) سقط في ب.

٢٩٩

فإن قيل : فهذا ـ أيضا ـ لازم عليكم ؛ لأنكم تقولون : إن إبراهيم على دين الإسلام ، والإسلام إنما نزل بعده بزمان طويل ، فإن قلتم : المراد أن إبراهيم كان في أصول الدين على مذهب المسلمين الآن ، فنقول لهم : لم لا يجوز ـ أيضا ـ أن يقول اليهود : إن إبراهيم كان يهوديّا بمعنى أنه كان على الدين الذي عليه اليهود ، وتقول النصارى : إن إبراهيم كان نصرانيا بمعنى أنه كان على الدين الذي عليه النصارى؟ فكون التوراة والإنجيل نازلين بعد إبراهيم لا ينافي كونه يهوديا أو نصرانيا ، كما أن كون القرآن نازلا بعده لا ينافي كونه مسلما.

فالجواب : أن القرآن أخبر أن إبراهيم كان حنيفا مسلما ، وليس في التوراة والإنجيل أن إبراهيم كان يهوديا ، أو نصرانيا ، فظهر الفرق.

ثم نقول : أما كون النصارى ليسوا على ملة إبراهيم فظاهر ؛ لأن المسيح ما كان موجودا في زمان إبراهيم فما كانت عبادته مشروعة في زمان إبراهيم ـ لا محالة ـ فكان الاشتغال بعبادة المسيح مخالفة لإبراهيم ـ لا محالة ـ وأما كون اليهود ليسوا على ملة إبراهيم ، فلا شك أنه كان لله ـ تعالى ـ تكاليف على الخلق قبل مجيء موسى عليه‌السلام وكان قبله أنبياء ، وكانت لهم شرائع معيّنة ، فلما جاء موسى صلى الله على نبينا وعليه وسلم ، فإما أن يقال : إنّ موسى جاء بتقرير تلك الشرائع ، أو بغيرها ، فإن جاء بتقريرها لم يكن موسى صاحب الشريعة ، بل كان كالفقيه المقرّر لشرع من قبله ، واليهود لا يرضون بذلك.

وإذا كان جاء بشرع سوى شرع من تقدمه فقد قال بالنسخ ، فثبت أنه لا بد وأن يكون دين كلّ الأنبياء جواز القول بالنسخ ، وأن النسخ حق ـ واليهود ينكرون ذلك ، فثبت أن اليهود ليسوا على ملة إبراهيم ، فظهر بطلان قول اليهود.

قوله تعالى : (ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٦٦) ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٦٧) إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ) (٦٨)

القراء في هذه على أربع مراتب ، والإعراب متوقّف على ذلك :

المرتبة الأولى للكوفيين وابن عامر والبزّي عن ابن كثير (١) : ها أنتم ـ بألف بعد الهاء ، وهمزة مخففة بعدها.

__________________

(١) انظر في هذه القراءات : السبعة ٢٠٧ ، والكشف ١ / ٣٦٤ ، والحجة ٣ / ٤٦ ، وإعراب القراءات ١ / ١١٤ ، وحجة القراءات ١٦٥ ، والعنوان ٦٧٩ ، وشرح شعلة ٣١٥ ، ٣١٨ ، وإتحاف ١ / ٤٨٠ ، ٤٨١.

٣٠٠