اللّباب في علوم الكتاب - ج ٥

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ٥

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 2-7451-2298-3
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٦٣٢

وقيل : اشتقاقه من حار يحور ـ أي : رجع. قال تعالى : (إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ) [الانشقاق : ١٤]. أي لن يرجع ، فكأنهم الراجعون إلى الله تعالى حار يحور حورا ـ أي : رجع ـ وحار يحور حورا ـ إذا تردّد في مكانه ومنه : حار الماء في القدر ، وحار في أمره ، وتحيّر فيه ، وأصله تحيور ، فقلبت الواو ياء ، فوزنه تفيعل ، لا تفعّل ؛ إذ لو كان تفعّل لقيل : تحوّر نحو تجوّز ومنه قيل للعود الذي تشدّ عليه البكرة : محور ؛ لتردّده ، ومحارة الأذن ، لظاهره المنقعر ـ تشبيها بمحارة الماء ؛ لتردّد الهواء بالصوت كتردّد الماء في المحارة ، والقوم في حوارى أي : في تردّد إلى نقصان ، ومنه : «نعوذ بالله من الحور بعد الكور» وفيه تفسيران : أحدهما : نعوذ بالله من التردّد في الأمر بعد المضيّ فيه والثاني : نعوذ بالله من النقصان والتردّد في الحال بعد الزيادة فيها.

ويقال : حار بعد ما كان. والمحاورة : المرادة في [الكلام](١) ، وكذلك التحاور ، والحوار ، ومنه : (وَهُوَ يُحاوِرُهُ) [الكهف : ٣٤] و (وَاللهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما) [المجادلة : ٥١] ومنه أيضا : كلمته فما رجع إليّ حوارا وحويرا ومحورة وما يعيش بحور ـ أي : بعقل يرجع إليه. والحور : ظهور قليل بياض في العين من السواد ، وذلك نهاية الحسن في العين ، يقال ـ منه ـ : أحورت عينه ، والمذكر أحور ، والمؤنث حوراء والجمع فيهما حور ـ نحو حمر في جمع أحمر وحمراء ـ.

وقيل : سمّيت الحوراء حوراء لذلك.

وقيل : اشتقاقهم من نقاء القلب وخلوصه وصدقه ، قاله أبو البقاء والضّحّاك ، وهو راجع للمعنى الأول من خلوص البياض ، فهو مجاز عن التنظيف من الآثام ، وما يشوب الدين.

قاله ابن المبارك : سمّوا بذلك ؛ لما عليهم من أثر العبادة (٢) ونورها.

وقال روح بن قاسم : سألت قتادة عن الحواريّين ، فقال : هم الذين تصلح لهم الخلافة (٣) ، وعنه أنه قال : الحواريون هم الوزراء (٤)(٥).

والياء في «حواريّ وحواليّ» ليست للنسب ، بل زيادة كزيادتها في كرسيّ ، وقرأ العامة (الْحَوارِيُّونَ) بتشديد الياء في جميع القرآن ، وقرأ الثّقفي والنخعيّ بتخفيفها في جميع القرآن ، قالو : لأن التشديد ثقيل.

__________________

(١) في أ : اللفظ.

(٢) في أ : الدنيا.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٤٥٠) عن قتادة.

(٤) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٦٣) عن قتادة وعزاه لابن أبي حاتم وعبد الرزاق.

(٥) وفي رواية عن ابن عامر.

ينظر : شواذ القراءات ٢١ ، والمحرر الوجيز ١ / ٤٤٣ ، والبحر المحيط ٢ / ٢٩٥ ، والدر المصون ٢ / ١١٤.

٢٦١

وكان قياس هذه القراءة أن يقال فيها : الحوارون ؛ وذلك أنه يستثقل الضمة على الياء المكسور ما قبلها ، فتنتقل ضمة الياء إلى ما قبلها ، فتسكن الياء ، فيلتقي ساكنان ، فيحذفوا الياء ؛ لالتقاء الساكنين ، وهذا نحو جاء القاضون ، الأصل : القاضيون ، ففعلوا به ما ذكر. قالوا : وإنما أقرّت ضمة الياء عليها ؛ تنبيها على أن التشديد مراد ؛ لأن التشديد يتحمل الضمة ، كما ذهب الأخفش في «يستهزيون» إذ أبدل الهمزة ياء مضمومة ، وإنما بقيت الضمة ؛ تنبيها على الهمزة.

فصل في المراد ب «الحواريين»

اختلفوا في الحواريين ، فقال مجاهد والسّدّيّ : كانوا صيادين يصطادون السمك وسمّوا حواريين ؛ لبياض ثيابهم ، وذلك أن عيسى لما خرج سائحا مرّ بجماعة يصطادون السمك وكان فيهم شمعون ويعقوب ويوحنّا بني رودي وهم منه جملة الحواريين الاثني عشر ، فقال لهم عيسى : أنتم تصيدون السمك ، فإن اتبعتموني صرتم بحيث تصيدون الناس بحياة الأبد ، قالوا : ومن أنت؟ قال : عيسى ابن مريم عبد الله ورسوله فطلبوا منه المعجز ، وكان شمعون قد رمى شبكته تلك الليلة ، فما اصطاد شيئا ، فأمره عيسى بإلقاء شبكته في الماء مرة أخرى فاجتمع في تلك الشبكة ما كادت تتمزق ، واستعانوا بأهل سفينة أخرى وملئوا سفينتين ، فعند ذلك آمنوا بعيسىصلى‌الله‌عليه‌وسلم (١).

وقال الحسن : كانوا قصّارين ، سمّوا بذلك لأنهم كانوا يحوّرون الثياب ، أي يبيّضونها (٢).

وقيل : كانوا ملّاحين وكانوا اثني عشر رجلا ، اتّبعوا عيسى ، وكانوا إذا جاعوا قالوا : يا روح الله جعنا ، فيضرب بيده الأرض ، فيخرج لكل واحد رغيفان ، وإذا عطشوا قالوا : عطشنا ، فيضرب بيده الأرض فيخرج الماء ، فيشربون ، فقالوا : من أفضل منا ؛ إذا شئنا أطعمنا ، وإذا شئنا استقينا ، وقد آمنا بك؟ فقال : أفضل منكم من يعمل بيده ، ويأكل من كسبه ، قال : فصاروا يغسلون الثياب بالكراء ، فسمّوا حواريّين (٣).

وقيل : كانوا ملوكا ، وذلك أن واحدا من الملوك صنع طعاما ، وجمع الناس عليه ، وكان عيسى عليه‌السلام على قصعة منها ، فكانت القصعة لا تنقص ، فذكروا هذه الواقعة لذلك الملك ، فقال : أتعرفونه؟ قالوا : نعم فذهبوا ، فجاءوا بعيسى ، فقال : من أنت؟ قال عيسى ابن مريم ، قال : وأنا أترك ملكي وأتبعك ، فتبعه ذلك الملك مع أقاربه ، فأولئك هم الحواريون (٤).

وقيل : إن أمة سلّمته إلى صبّاغ ، فكان إذا أراد أن يعلّمه شيئا كان هو أعلم به منه ،

__________________

(١) ذكره البغوي في تفسيره ١ / ٣٠٥ ، ٣٠٦.

(٢) ذكره البغوي في تفسيره ١ / ٣٠٦.

(٣) ذكره الرازي في «التفسير الكبير» (٨ / ٥٦).

(٤) ينظر المصدر السابق.

٢٦٢

فأراد الصباغ أن يغيب يوما لبعض مهمّاته ، فقال له : ها هنا ثياب مختلفة ، وقد جعلت على كل واحد علامة معينة ، فاصبغها بتلك الألوان حتى يتم المقصود عند رجوعي ، ثم غاب ، فطبخ عيسى صلى‌الله‌عليه‌وسلم جبّا واحدا ، وجعل الجميع فيه ، وقال : كوني بإذن الله كما أريد ، فرجع الصباغ ، وسأله ، فأخبره بما فعل ، فقال : أفسدت عليّ الثياب ، قال : قم فانظر ، فكان يخرج ثوبا أخضر ، وثوبا أصفر ، وثوبا أحمر ، ـ كما كان يريد ـ إلى أن أخرج الجميع على الألوان التي أرادها ، فتعجب الحاضرون منه وآمنوا به ، وهم الحواريّون (١).

قال القفّال : ويجوز أن يكون بعض هؤلاء الحواريين الاثني عشر من الملوك ، وبعضهم من صيادي السّمك ، وبعضهم من القصّارين ، وبعضهم من الصبّاغين ، والكل سموا بالحواريين ؛ لأنهم كانوا أنصار عيسى ـ عليه‌السلام ـ وأعوانه ، والمخلصين في محبته وطاعته.

قوله : (قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ) أي : أنصار أنبيائه ؛ لأن نصرة الله ـ في الحقيقة ـ محال. (آمَنَّا بِاللهِ) هذا يجري مجرى ذكر العلة ، والمعنى : أنه يجب علينا أن نكون من أنصار الله ؛ لأجل أن آمنا به ؛ فإن الإيمان بالله يوجب نصرة دين الله ، والذّبّ عن أوليائه ، والمحاربة لأعدائه ، ثم قالوا : (وَاشْهَدْ) يا عيسى (بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) أي : منقادون لما تريد منا من نصرتك.

ويحتمل أن يكون ذلك إقرارا منهم بأن دينهم الإسلام ، وأنه دين كلّ الأنبياء ـ عليهم‌السلام ـ ولما أشهدوا عيسى على إيمانهم تضرّعوا إلى الله ، وقالوا : (رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ) عيسى (فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ) الذين شهدوا لأنبيائك بالصدق.

وقال عطاء : مع النبيين ؛ لأن كل نبي شاهد أمته ، وقد أجاب الله دعاءهم ، وجعلهم مثل الأنبياء والرسل وأحيوا الموتى كما صنع عيسى ـ عليه‌السلام ـ.

قال ابن عباس : مع محمد وأمته ، قال تعالى : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) [البقرة : ١٤٣].

وقيل : اجعلنا من تلك الفرقة الذين قرنت ذكرهم بذكرك في قولك : (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ) [آل عمران : ١٨]. قوله : (مَعَ الشَّاهِدِينَ) حال من مفعول (فَاكْتُبْنا) وفي الكلام حذف ، أي : مع الشاهدين لك بالوحدانية. قوله : (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ) من باب المقابلة ، أي : لا يجوز أن يوصف ـ تعالى ـ بالمكر إلّا لأجل ما ذكر معه من لفظ آخر مسند لمن يليق به. هكذا قيل ، وقد جاز ذلك من غير مقابلة في قوله : (أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ) [الأعراف : ٩٩] والمكر في اللغة أصله الستر ، يقال : مكر اللّيل ، أي أظلم وستر بظلمته ما فيه.

__________________

(١) ينظر المصدر السابق.

٢٦٣

قال القرطبي : وأصل المكر في اللغة : الاحتيال والخداع ، والمكر : خدالة الساق ، والمكر : ضرب من النبات ويقال : بل هو المغرة ، حكاه ابن فارس ، قالوا : واشتقاقه من المكر ، وهو شجر ملقف ، تخيلوا منه أن المكر يلتفّ بالممكور به ويشتمل عليه ، وامرأة ممكورة الخلق ، أي : ملتفة الجسم ، وكذا ممكورة البطن. ثم أطلق المكر على الخبث والخداع ، ولذلك عبر عنه بعض أهل اللغة بأنه السعي بالفساد ، قال الزّجّاج هو من مكر الليل وأمكر أي أظلم ، وعبر بعضهم عنه فقال هو صرف الغير عما يقصده بحيلة ، وذلك ضربان : محمود ، وهو أن يتحرّى به فعل جميل ، وعلى ذلك قوله : (وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ). ومذموم ، وهو أن يتحرّى به فعل قبيح ، نحو : (وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ) [فاطر : ٤٣].

فصل

أمّا مكرهم بعيسى ـ عليه‌السلام ـ فهو أن عيسى لما خرج عن قومه ـ هو وأمه ـ عاد إليهم مع الحواريين ، وصاح فيهم بالدعوة ، فهمّوا بقتله ، فذلك مكرهم به. وأما مكر الله بهم ففيه وجوه:

أحدها : أن مكر الله استدراج العبد ، وأخذه بغتة من حيث لا يعلم ، كما قال (سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ) [القلم : ٤٤].

وقال الزّجّاج : «مكر الله» مجازاتهم على مكرهم ، فسمّى الجزاء باسم الابتداء ؛ لأنه في مقابلته ، كقوله : (اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) [البقرة : ١٥] وقوله : (وَهُوَ خادِعُهُمْ). ومكر الله ـ تعالى ـ خاصة بهم في هذه الآية هو أنه رفع عيسى عليه‌السلام إلى السماء وذلك أن اليهود أرادوا قتل عيسى ، وكان جبريل لا يفارقه ساعة واحدة ، وهو معنى قوله : (وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ) [البقرة : ٨٧] فلما أرادوا ذلك أمره جبريل أن يدخل بيتا فيه روزنة ، فلما دخلوا أخرجه جبريل من تلك الروزنة ، وكان قد ألقي شبهه على غيره ، فأخذ ، وصلب ، فتفرّق الحاضرون ثلاث فرق:

فرقة قالوا : كان الله فينا فذهب. والأخرى قالت : ابن الله. والثالثة قالت : كان عبد الله ورسوله فأكرمه بأن رفعه إلى السماء فصار لكل فرقة جمع ، وظهرت الفرقتان الكافرتان على المؤمنة إلى أن بعث الله محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

الثاني : أن الحواريين كانوا اثني عشر ، وكانوا مجتمعين في بيت ، فنافق واحد منهم ، ودل اليهود عليه فألقى الله شبهه عليه ، ورفع عيسى ، فأخذوا ذلك المنافق الذي كان منهم وقتلوه ، وصلبوه على ظن أنه عيسى عليه‌السلام ، ثم قالوا : وجهه يشبه وجه عيسى ، وبدنه يشبه بدن عيسى صاحبنا ، فإن كان هذا عيسى فأين صاحبنا؟ وإن كان هذا صاحبنا فأين عيسى؟ فوقع بينهم قتال عظيم ، حتى قتل بعضهم ، فذلك هو مكر الله بهم.

الثالث : قال محمد بن إسحاق : إن اليهود عذبوا الحواريين بعد أن رفع عيسى عليه

٢٦٤

السلام ، ولقوا منهم الجهد ، فبلغ ذلك ملك الروم ، وكان ملك اليهود من رعيته ، فقيل له : إن رجلا من بني إسرائيل ممن تحت أمرك كان يخبرهم أنه رسول الله ، وأراهم إحياء الموتى ، وإبراء الأكمه والأبرص ، وفعل وفعل ، فقال : لو علمت ذلك ما خلّيت بينهم وبينه. ثم بعث إلى الحواريين ، فانتزعهم من أيديهم وسألهم عن عيسى ، فأخبروه وبايعوه على دينهم ، وأنزل المصلوب ، فغيبه ، وأخذ الخشبة ، فأكرمها وصانها ، ثم غزا بني إسرائيل وقتل منهم خلقا عظيما ، ومنه ظهر أصل النصرانية في الروم وكان اسم هذا الملك طباريس ، وصار نصرانيا إلا أنه ما أظهر ذلك ، ثم جاء بعده ملك آخر يقال طبطيوس غزا بيت المقدس بعد رفع عيسى بنحو من أربعين سنة ، فقتل وسبى ، ولم يترك في مدينة بيت المقدس حجرا على حجر ، فخرج عند ذلك قريظة والنضير إلى الحجاز ، فهذا كله مما جازاهم الله تعالى به على تكذيب المسيح والهمّ بقتله.

الرابع : أن الله تعالى سلّط عليهم ملك فارس ، فقتلهم ، وسباهم ، وهو قوله : (بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ) [الإسراء : ٥] فهذا هو مكر الله ـ تعالى ـ بهم.

الخامس : يحتمل أن يكون المراد منهم أنهم مكروا في إخفاء أمره ، وإبطال دينه ، ومكر الله بهم ، حيث أعلى دينه ، وأظهر شريعته ، وقهر بالذل أعداءه ـ وهم اليهود.

وفي قوله : (وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ) إيقاع الظاهر موقع المضمر ؛ إذ الأصل : ومكروا ومكر الله ، وهو خير بالماكرين

قوله : (إِذْ قالَ اللهُ) في ناصبه ثلاثة أوجه :

أحدها : قوله : (وَمَكَرَ اللهُ) أي : مكر الله بهم في هذا الوقت.

الثاني : (خَيْرُ الْماكِرِينَ).

الثالث : أنه «اذكر» ـ مقدّرا ـ فيكون مفعولا به كما تقدم تقريره.

قوله : (إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ ،) فيه وجهان :

أحدهما : وهو الأظهر ـ أن يكون الكلام على حاله ـ من غير ادعاء تقديم وتأخير فيه ـ بمعنى إني مستوفي أجلك ومؤخرك وعاصمك من أن يقتلك الكفار ، إلى أن تموت حتف أنفك ـ من غير أن تقتل بأيدي الكفار ـ ورافعك إلى سمائي.

الثاني : أن في الكلام تقديما وتأخيرا ، والأصل : رافعك إليّ ومتوفيك ؛ لأنه رفع إلى السماء ، ثم يتوفى بعد ذلك ، والواو للجمع ، فلا فرق بين التقديم والتأخير قاله أبو البقاء.

ولا حاجة إلى ذلك مع إمكان إقرار كل واحد في مكانه مما تقدم من المعنى ، إلا

٢٦٥

أن أبا البقاء حمل التوفي على الموت ، وذلك إنما هو بعد رفعه ، ونزوله إلى الأرض ، وحكمه بشريعة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما ثبت في الحديث. فعلى الأول ففيه وجوه :

أحدها : إني متمم عمرك ، وإذا تمّ عمرك فحينئذ أتوفّاك كما قدمناه.

الثاني : إني مميتك ، والمقصود منه ألا يصل أعداؤه من اليهود إلى قتله. وهو مروي عن ابن عبّاس ومحمد بن إسحاق ، وهؤلاء اختلفوا على ثلاثة أوجه :

الأول : قال وهب : توفّي ثلاث ساعات ، ثم رفع وأحيي (١).

الثاني : قال محمد بن إسحاق : توفي سبع ساعات ، ثم أحياه الله ورفعه (٢).

الثالث : قال الربيع بن أنس : إنه ـ تعالى ـ أنامه حال رفعه إلى السماء (٣) ، قال تعالى (اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها) [الزمر : ٤٢].

وثالثها : أن الواو لا تفيد الترتيب ، فالأمر فيه موقوف على الدليل ، وقد ثبت أنه حي ، وأنه ينزل ويقتل الدجال ثم يتوفاه الله بعد ذلك.

رابعها : إني متوفيك عن شهواتك ، وحظوظ نفسك ، فيصير حاله كحال الملائكة ـ في زوال [الشهوات](٤) والغضب والأخلاق الذميمة ـ.

خامسها : أن التّوفّي أخذ الشيء وافيا ، ولما علم الله أن من الناس من يخطر بباله أن الذي رفعه الله هو روحه ، لا جسده ، ذكر ذلك ؛ ليدل على أنه ـ عليه‌السلام ـ رفع بتمامه إلى السماء ـ بروحه وجسده.

وسادسها : إني متوفيك ، أي جاعلك كالمتوفى ؛ لأنه إذا رفع إلى السماء ، وانقطع خبره ، وأثره عن الأرض كان كالمتوفى ، وإطلاق اسم الشيء على ما يشابهه في أكثر خواصه وصفاته جائز حسن.

وسابعها : أن التوفّي هو القبض ، يقال : فلان وفاني دراهمي ، ووافاني ، وتوفيتها منه ، كما يقال سلم فلان دراهمي إلي ، وتسلمتها منه. فإن قيل : فعلى هذا يكون التوفي في عين الرفع ، فيصير قوله : (وَرافِعُكَ إِلَيَ) تكرارا ، فالجواب : أن قوله (إِنِّي مُتَوَفِّيكَ) يدل على حصول التّوفّي ، وهو جنس تحته أنواع ، بعضها بالموت وبعضها بالإصعاد ، فلما قال : (وَرافِعُكَ إِلَيَ) صار تعيينا للنوع ، فلم يكن تكرارا.

ثامنها : أن يقدر حذف مضاف ، أي : متوفي عملك ، بمعنى مستوفي عملك ،

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٤٥٧) عن وهب بن منبه وذكره القرطبي في «تفسيره» (٤ / ٦٤) وزاد نسبته لابن أبي حاتم.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٤٥٨) عن ابن إسحاق.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٤٥٥) عن الربيع بن أنس.

(٤) في أ : الشهوة.

٢٦٦

ورافعك إليّ ، أي : ورافع عملك إليّ ، كقوله : (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) [فاطر : ١٠] والمراد منه : أنه تعالى بشره بقبول طاعاته وأعماله ، وعرّفه أن ما يصل إليه من المتاعب والمشاق ـ في نشر دينه ، وإظهار شريعته من الأعداء فهو لا يضيع أجره ، ولا يهدر ثوابه.

وروى أبو هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «والّذي نفسي بيده ليوشكنّ أن ينزل فيكم ابن مريم حكما عدلا ، يكسر الصّليب ، ويقتل الخنزير ، ويضع الجزية ، فيفيض المال ، حتّى لا يقبله أحد» (١).

وروى أبو هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في نزول عيسى : «ويهلك في زمانه الملل كلّها إلّا الإسلام ويهلك الدّجّال ، فيمكث في الأرض أربعين سنة ، ثمّ يتوفّى فيصلّي عليه المسلمون» (٢).

وقيل للحسين بن الفضل : هل تجد نزول عيسى في القرآن؟ قال : نعم ، قوله : (وَكَهْلاً) وهو لم يكتهل في الدنيا ، وإنما معناه : (وَكَهْلاً) بعد نزوله من السماء (٣).

فصل

قال القرطبيّ : «والصحيح أن الله تعالى ـ رفعه من غير وفاة ولا نوم ـ كما قال الحسن وابن زيد ـ وهو اختيار الطبريّ ، وهو الصحيح عن ابن عباس».

وقال الضحاك : وكانت القصة أنهم لما أرادوا قتل عيسى عليه‌السلام اجتمع الحواريّون في غرفة ـ وهم اثنا عشر رجلا ، فدخل عليهم المسيح من مشكاة الغرفة ، فأخبر إبليس جميع اليهود ، فركب منهم أربعة آلاف رجل ، فأخذوا بباب الغرفة ، فقال المسيح للحواريين : أيّكم يخرج ، ويقتل ، ويكون معي في الجنة؟ فقال واحد منهم أنا يا نبيّ الله ، فألقى إليه مدرعة من صوف ، وعمامة من صوف ، وناوله عكّازه ، وألقي عليه شبه عيسى ، فخرج على اليهود فقتلوه ، وصلبوه ، وأما عيسى فكساه الله الرّيش ، وألبسه النور ، وقطع عنه شهوة المطعم والمشرب ، فطار مع الملائكة ، ثم إن أصحابه تفرقوا ثلاث فرق :

فقالت فرقة : كان الله فينا ، ثم صعد إلى السماء ، وهم اليعقوبية.

__________________

(١) أخرجه البخاري (٦ / ٥٦٦) كتاب الأنبياء باب نزول عيسى ابن مريم عليه‌السلام (٣٤٤٨) ومسلم (١ / ١٣٥) كتاب الإيمان : باب نزول عيسى ابن مريم (٢٤٢ ـ ١٥٥) والترمذي (٢٢٣٣) وأحمد (٢ / ٥٣٨) والبيهقي (١ / ٢٤٤ ، ٩ / ١٨٠) وعبد الرزاق (٢٠٨٤٠) والبغوي في «شرح السنة» (٧ / ٤٥٤) عن أبي هريرة.

(٢) أخرجه مسلم (١ / ٣٥) كتاب الإيمان : باب نزول عيسى ابن مريم (٢٤٣ ـ ١٥٥) والبغوي في «شرح السنة» (٧ / ٤٥٥).

(٣) ذكره الرازي في «التفسير الكبير» (٨ / ٤٦) عن الحسين بن الفضل.

٢٦٧

وقالت فرقة : كان فينا ابن الله ـ ما شاء الله ـ ثم رفعه الله إليه ـ وهم النسطورية.

وقالت فرقة : كان فينا عبد الله ورسوله ـ ما شاء الله ـ ثم رفعه الله إليه ـ وهؤلاء هم المسلمون (١).

فتظاهرت الكافرتان على المسلمة فقتلوها ، فلم يزل الإسلام طامسا حتى بعث الله محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم (فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ) [الصف : ١٤] الآية على ما سيأتي من السورة إن شاء الله تعالى.

قوله : (وَرافِعُكَ إِلَيَ) تمسّك القائلون بالاستعلاء بهذه الآية ، وأجيبوا عنها بوجوه :

أحدها : أن المراد إلى محل كرامتي ، كقول إبراهيم : «إنّي ذاهب إلى ربّي سيهدين» وإنما

ذهب إبراهيم عليه‌السلام من «العراق» إلى «الشام» ، ويسمّى الحجّاج زوّار الله ، والمجاورون جيران الله ، والمراد من كل ذلك التفخيم والتعظيم ، فكذا هاهنا.

وثانيها : أن معناه [رافعك إلى مكان](٢) لا يملك الحكم عليه فيه غير الله ؛ لأن في الأرض قد يتولى الخلق أنواع الحكّام ، أمّا السموات فلا حاكم هناك ـ في الظاهر وفي الحقيقة ـ إلا الله.

وثالثها : أن القول بأن الله في مكان لم يكن ارتفاع عيسى إلى ذلك المكان سببا لانتفاعه ، بل إنما ينتفع بذلك لو وجد هناك مطلوبه من الثواب والرّوح والريحان والراحة ، فلا بد من حمل اللفظ على أن المراد : ورافعك إلى محل ثوابك ومجازاتك ، وإذا كان لا بد من إضمار ما ذكرناه لم يبق في الآية دلالة على ما ذكروه.

قوله : (وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) معناه مخرجك من بينهم ، ومنجّيك ، فكما عظّم شأنه بلفظ الرفع ، أخبر عن معنى التخليص بلفظ التطهير ، وكل ذلك مبالغة في إعلاء شأنه وتعظيم منصبه عند الله تعالى.

قوله : (وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ) فيه قولان :

أظهرهما : أنه خطاب لعيسى عليه‌السلام.

الثاني : أنه خطاب لنبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيكون الوقف على قوله : (مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) تاما ، والابتداء بما بعده ، وجاز هذا ؛ لدلالة الحال عليه. و (فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا) ثاني مفعولي (وَجاعِلُ) لأنه بمعنى مصيّر فقط.

و (إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) متعلق بالجعل ، يعني أن هذا الجعل مستمر إلى ذلك اليوم. ويجوز أن يتعلق الاستقرار المقدّر في فوق أي : جاعلهم قاهرين لهم ، إلى يوم القيامة ،

__________________

(١) ذكره البغوي في تفسيره ١ / ٣٠٧ ، ٣٠٨ عن قتادة.

(٢) سقط في ب.

٢٦٨

يعني أنهم ظاهرون على اليهود ، وغيرهم من الكفار بالغلبة في الدنيا ، فأما يوم القيامة ، فيحكم الله بينهم ، فيدخل الطائع الجنّة ، والعاصي النّار وليس المعنى على انقطاع ارتفاع المؤمنين على الكافرين بعد الدنيا ، وانقضائها ؛ لأن لهم استعلاء آخر غير هذا الاستعلاء.

قال أبو حيّان : «والظاهر أن «إلى» تتعلق بمحذوف وهو العامل في «فوق» وهو المفعول الثاني ل «جاعل» إذ معنى «جاعل» هنا مصيّر ، فالمعنى كائنين فوقهم إلى يوم القيامة. وهذا على أن الفوقية مجاز ، أما إن كانت الفوقية حقيقة ـ وهي الفوقية في الجنة ـ فلا تتعلق «إلى» بذلك المحذوف ، بل بما تقدم من «متوفّيك» أو من «رافعك» أو من «مطهّرك» إذ يصح تعلّقه بكل واحد منها ، أما تعلقه ب «رافعك» أو ب «مطهّرك» فظاهر ، وأما ب «متوفّيك» فعلى بعض الأقوال».

يعني ببعض الأقوال أن التوفي يراد به : قابضك من الأرض من غير موت ، وهو قول جماعة ـ كالحسن والكلبي [وابن جريج](١) وابن زيد وغيرهم (٢). أو يراد به ما ذكره الزمخشريّ : وهو مستوف أجلك ، ومعناه : إني عاصمك من أن يقتلك الكفار ، ومؤخّرك إلى أجل كتبته لك ، ومميتك حتف أنفك لا قتلا بأيدي الكفار ، وإن على قول من يقول : إنه توفّ حقيقة فلا يتصوّر تعلّقه به ؛ لأن القائل بذلك لم يقل باستمرار الوفاة إلى يوم القيامة ، بل قائل يقول : إنه توفّي ثلاث ساعات ، بقدر ما رفع إلى سمائه حتّى لا يلحقه خوف ولا ذعر في اليقظة. وعلى هذا الذي ذكره أبو حيان يجوز أن تكون المسألة من الإعمال ، ويكون قد تنازع في هذا الجار ثلاثة عوامل ، وإذا ضممنا إليها كون الفوقية مجازا تنازع فيها أربعة عوامل ، والظاهر أنه متعلق ب «جاعل». وقد تقدم أن أبا عمرو يسكن ميم «أحكم» ونحوه قبل الباء.

فصل

قال قتادة والربيع والشعبيّ ومقاتل والكلبيّ : الذين اتبعوه هم أهل الإسلام الذين صدقوه (٣) واتبعوا دينه في التوحيد من أمّة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فهم فوق الذين كفروا ظاهرين بالعزة ، والمنعة ، والحجّة.

قال الضحاك : يعني الحواريين.

وقيل : هم الروم (٤).

__________________

(١) في أ : ابن جرير.

(٢) تقدم.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٤٦٢ ـ ٤٦٣) عن قتادة والحسن والربيع والسدي وابن جريج.

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٦٥) عن قتادة وزاد نسبته لعبد بن حميد.

وأخرجه ابن أبي حاتم عن الحسن كما في «الدر المنثور» (٢ / ٦٥).

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٤٦٣) عن السدي.

٢٦٩

وقيل : النصارى ، فهم فوق اليهود إلى يوم القيامة (١) ، فإن اليهود قد ذهب ملكهم ، وملك النصارى يدوم إلى قريب من قيام الساعة. وعلى هذا الاتباع بمعنى الادعاء والمحبة لا اتباع الدين ، فإن النصارى ـ وإن أظهروا من أنفسهم موافقته فهم مخالفون له أشدّ مخالفة ؛ لأن صريح العقل يشهد بأن عيسى ما كان يرضى بشيء مما يقوله هؤلاء الجهّال ، ومع ذلك فإنا نرى دولة النصارى في الدنيا أعظم وأقوى من أمر اليهود ، ولا نرى في طرف من أطراف الدنيا ملكا يهوديّا ولا بلدة مملوءة من اليهود ، بل يكونون ـ أينما كانوا ـ في الذلة والمسكنة ، والنصارى بخلاف ذلك.

فصل

قال أهل التّاريخ : حملت مريم بعيسى ولها ثلاث عشرة سنة ، وولدت عيسى ببيت لحم لمضيّ خمس وستين سنة من غلبة الاسكندر على أهل بابل ، وأوحى الله إليه على رأس ثلاثين سنة ورفعه من بيت المقدس ليلة القدر في شهر رمضان وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة ، فكانت نبوته ثلاث سنين ، وعاشت أمّه مريم بعد رفعه ست سنين.

فصل

قال ابن الخطيب : في مباحث هذه الآية موضع مشكل ، وهو أن نصّ القرآن يدل على أنه ـ تعالى ـ حين رفعه ألقى شبهه على غيره ، على ما قال : (وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ) [النساء : ١٠٧] والأخبار واردة أيضا بذلك ، إلا أن الروايات اختلفت ، فتارة يروى أن الله تعالى ألقى شبهه على بعض الأعداء الذين دلّوا اليهود على مكانه ، فقتلوه وصلبوه ، وتارة يروى أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم رغّب أحد خواصّ أصحابه في أن يلقي الله شبهه عليه حتى يقتل في مكانه ، وبالجملة ففي إلقاء شبهه على الغير إشكالات :

الأول : أنا لو جوّزنا إلقاء شبه إنسان على إنسان آخر ، لزم السفسطة ؛ فإني إذا رأيت ولدي ، ثم زينته ثانيا فحينئذ أجوّز أن يكون هذا الذي أراه ثانيا ليس ولدي ، بل هو إنسان آخر ألقي شبهه عليه وحينئذ يرتفع الأمان عن المحسوسات.

وأيضا فالصحابة الذين رأوا محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم يأمرهم ، وينهاهم ، وجب أن لا يعرفوا أنه محمد ؛ لاحتمال أنه ألقي شبهه على الغير ، وذلك يفضي إلى سقوط الشرائع.

وأيضا فمدار الأمر في الأخبار المتواترة على أن يكون المخبر الأول إنما أخبر عن المحسوس ، فإذا [جاز](٢) الغلط في المبصرات كان سقوط الخبر المتواتر أولى ، وبالجملة ، ففتح هذا الباب أوله السفسطة ، وآخره إبطال النبوات بالكلّيّة.

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٤٦٣) عن ابن زيد.

(٢) في أ : وقع.

٢٧٠

الإشكال الثاني : أن الله ـ تعالى ـ كان قد أمر جبريل عليه الصلاة والسلام بأن يكون معه في أكثر الأحوال ، كذا قاله المفسّرون في تفسير قوله تعالى : (إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ) [المائدة : ١١٠] ثم إن طرف جناح واحد من أجنحة جبريل عليه‌السلام كان يكفي للعالم من البشر ، فكيف لم يكف في منع أولئك اليهود عنه.

وأيضا إنه عليه‌السلام ـ لمّا كان قادرا على إحياء الموتى ، وإبراء الأكمه والأبرص ، فكيف لم يقدر على إماتة اليهود الذين قصدوه بالسوء ، وعلى إسقامهم ، وإلقاء الزمانة والفلج عليهم حتى يصيروا عاجزين عن التعرّض له؟

الإشكال الثالث : أنه ـ تعالى ـ كان قادرا على تخليصه من أولئك الأعداء بأن يدفعه عنهم ، ويرفعه إلى السماء فما الفائدة في إلقاء الشبه على الغير؟ وهل فيه إلا إلقاء مسكين في القتل من غير فائدة ألبتة؟

الإشكال الرابع : أنه إذا ألقي شبهه على الغير ، ثم إنه رفع بعد ذلك إلى السماء فالقوم اعتقدوا فيه أنه عيسى عليه‌السلام مع أنه ما كان عيسى ، فهذا كان إلقاء لهم في الجهل والتلبيس وهذا لا يليق بحكمة الله تعالى.

الإشكال الخامس : أن النصارى ـ على كثرتهم في مشارق الأرض ومغاربها وشدة محبتهم للمسيح ، وغلوّهم في أمره ـ أخبروا أنهم شاهدوه مقتولا ، مصلوبا ، فلو أنكرنا ذلك ، طعنّا فيما ثبت بالتواتر ، والطعن في التواتر يوجب الطعن في نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكل ذلك باطل.

الإشكال السادس : أنه ثبت بالتواتر أن المصلوب بقي حيّا زمانا طويلا فلو لم يكن ذلك عيسى ـ بل كان غيره ـ لأظهر الجزع ، ولقال : إني لست بعيسى ـ بل إنما أنا غيره ـ ولبالغ في تعريف هذا المعنى ، ولو ذكر ذلك لاشتهر عند الخلق هذا المعنى ، فلما لم يوجد شيء من هذا علمنا أنه ليس الأمر على ما ذكرتم.

والجواب عن الأول : أنه كل من أثبت القادر المختار سلّم أنه ـ تعالى ـ قادر على أن يخلق إنسانا آخر على صورة زيد ـ مثلا ـ ثم إن هذا التجويز لا يوجب الشك المذكور ، فكذا القول فيما ذكرتم.

والجواب عن الثاني : أن جبريل عليه‌السلام لو دفع الأعداء عنه ، أو أقدر الله عيسى على دفع الأعداء عن نفسه لبلغت معجزته إلى حد الإلجاء ، وذلك غير جائز ، وهذا هو الجواب عن الإشكال الثالث ؛ فإنه ـ تعالى لو رفعه إلى السماء ، وما ألقى شبهه على الغير لبلغت تلك المعجزة إلى حدّ الإلجاء.

والجواب عن الرابع : أن تلامذة عيسى كانوا حاضرين ، وكانوا عالمين بكيفية الواقعة ؛ وهم كانوا يزيلون ذلك التلبيس.

٢٧١

والجواب عن الخامس : أن الحاضرين في ذلك الوقت كانوا قليلين ، ودخول الشبهة على الجمع القليل جائز ، والتواتر إذا انتهى في حد الأمر إلى الجمع القليل ، لم يكن مفيدا للعلم.

والجواب عن السادس : أن بتقدير أن يكون الذي ألقي شبه عيسى عليه كان مسلما ، وقبل ذلك عن عيسى عليه‌السلام جاز أن يسكت عن تعريف حقيقة الحال في تلك الواقعة.

وبالجملة فالأسئلة المذكورة أمور تتطرق إليها الاحتمالات من بعض الوجوه ، ولما ثبت بالمعجز القاطع صدق محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم في كل ما أخبر عنه امتنع صيرورة هذه الأسئلة المحتملة معارضة للنص القاطع عن الله.

قوله : (ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ) في الآخرة (فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) من الدّين ، وأمر عيسى عليه‌السلام ؛ التفات من غيبة إلى خطاب ؛ وذلك أنه ـ تعالى ـ قدّم ذكر من كذّب بعيسى وافترى عليه ـ وهم اليهود ـ وقدّم ـ أيضا ـ ذكر من آمن به ـ وهم الحواريون رضي الله عنهم ـ وقفّى بعد ذلك بالإخبار بأنه يجعل متّبعي عيسى فوق مخالفيه ، فلو جاء النظم على هذا السياق ـ من غير التفات ، لكان : ثم إليّ مرجعهم ، فأحكم بينهم فيما كانوا ، ولكنه التفت إلى الخطاب ؛ لأنه أبلغ في البشارة ، وأزجر في النذارة. وفي ترتيب هذه الأخبار الأربعة ـ أعني : إني متوفّيك ورافعك ومطهّرك وجاعل ـ هذا الترتيب معنى حسن جدّا ؛ وذلك أنه ـ تعالى ـ بشّره ـ أولا ـ بأنه متوفيه ، ومتولّي أمره ، فليس للكفار المتوعّدين له بالقتل عليه سلطان ولا سبيل ، ثم بشّره ـ ثانيا ـ بأنه رافعه إليه ـ أي : إلى سمائه محل أنبيائه وملائكته ، ومحل عبادته ؛ ليسكن فيها ، ويعبد ربّه مع عابديه ـ ثم ـ ثالثا ـ بتطهيره من أوضار الكفرة وأذاهم وما قذفوه به ، ثم رابعا ـ برفعة تابعيه على من خالفهم ؛ ليتمّ بذلك سروره ، ويكمل فرحه. وقدم البشارة بما يتعلق بنفسه على البشارة بما يتعلق بغيره ؛ لأن ـ الإنسان بنفسه أهم ، وبشأنه أعنى ، كقوله : (قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً) [التحريم : ٦] وفي الحديث : «ابدأ بنفسك ثمّ بمن تعول»(١).

قوله : (فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا) في محل هذا الموصول قولان :

أظهرهما ـ وهو الأظهر ـ : أنه مرفوع على الابتداء ، والخبر الفاء وما بعدها.

الثاني : أنه منصوب بفعل مقدّر ، على أن المسألة من باب الاشتغال ، إذ الفعل بعده قد عمل في ضميره ، وهذا وجه ضعيف ؛ لأن «أمّا» لا يليها إلا المبتدأ وإذا لم يلها إلا المبتدأ

__________________

(١) أخرجه البخاري كتاب النفقات باب وجوب النفقة ... رقم (٥٣٥٥) ومسلم كتاب الزكاة (٩٥ ، ٩٧ ، ١٠٦) والنسائي (٥ / ٦٩) وأحمد (٢ / ٤ ، ٩٤ ، ١٥٢) والبيهقي (١ / ١٩٨ ، ٤ / ١٨٠ ، ١٨٢) والدارمي (١ / ٣٨٩) وابن أبي شيبة (٣ / ٢١٢) وابن الجارود (٧٥١) والحميدي (١٠٥٨).

٢٧٢

امتنع حمل الاسم بعدها على إضمار فعل ، ومن جوّز ذلك قال : بأنه يضمر الفعل متأخّرا عن الاسم ، ولا يضمر قبله. قال : لئلا يلي «أمّا» فعل ـ وهي لا يليها الأفعال ألبتة ـ فتقدّر ـ في قولك : أما زيدا فضربته ـ أما زيدا ضربت فضربته ، وكذا هنا يقدّر : فأما الذين كفروا أعذّب فأعذّبهم ؛ قدر العامل بعد الصلة ، ولا تقدره قبل الموصول ؛ لما ذكرناه. وهذا ينبغي أن لا يجوز ؛ لعدم الحاجة إليه مع ارتكاب وجه ضعيف جدّا في أفصح الكلام.

وقد قرىء شاذّا (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ) [فصلت : ٢٤] بنصب «ثمود» واستضعفها الناس.

فصل

عذاب الكفار ـ في الدنيا ـ بالقتل والسبي والجزية والذلة ، وفي الآخرة بالنار أي : في وقت الآخرة بالنار (وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ).

فإن قيل : وصف العقاب بالشدة يقتضي أن يكون عقاب الكافر في الدنيا أشد ، ولسنا نجد الأمر كذلك فإن الأمر تارة يكون على الكفار ، وأخرى على المسلمين ، ولا نجد بين الناس تفاوتا.

فالجواب : أن التفاوت في الدنيا موجود ؛ لأن الآية في بيان أمر اليهود الذين كذبوا بعيسى ـ عليه‌السلام ، ونرى الذّلّة والمسكنة لازمة لهم.

فإن قيل : أليس قد يمتنع على الأئمة وعلى المؤمنين قتل الكفار ؛ بسبب العهد وعقد الذّمّة؟

فالجواب : أن المانع من القتل هو العهد ، ولذلك إذا زال العهد حلّ قتله.

قوله : (وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا) الكلام فيه كالكلام في الموصول قبله.

وقد قرأ حفص عن عاصم والحسن (فَيُوَفِّيهِمْ) ـ بياء الغيبة ـ والباقون بالنون (١). فقراءة حفص على الالتفات من التكلّم إلى الغيبة ؛ تفنّنا في الفصاحة ، وقراءة الباقين جارية على ما تقدم من إتّساق النظم ، ولكن جاء هناك بالمتكلم وحده ، وهنا بالمتكلم وحده المعظم نفسه ؛ اعتناء بالمؤمنين ، ورفعا من شأنهم ؛ لمّا كانوا معظّمين عنده.

فصل

دلّت هذه الآية على أن العمل الصالح خارج عن مسمّى الإيمان وقد تقدم ذلك ، واستدلوا بالآية على أن العمل علة للجزاء ؛ لقوله : (فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ) فشبههم ـ في عبادتهم لأجل طلب الثوّاب بالمستأجر.

__________________

(١) ينظر : السبعة ٢٠٦ ، والكشف ١ / ٣٤٥ ، والحجة ٣ / ٤٤ ، ٤٥ ، والعنوان ٧٩ ، وحجة القراءات ١٦٤ ، وإعراب القراءات ١ / ١١٤ ، وشرح شعلة ٣١٥ ، وشرح الطيبة ٤ / ١٥٩ ، وإتحاف ١ / ٤٨٠.

٢٧٣

واحتج المعتزلة بقوله : (وَاللهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) ـ بمنزلة قوله : لا يريد ظلم الظالمين ـ على أنه تعالى ـ لا يريد الكفر والمعاصي ، قالوا : لأن مريد الشيء لا بد وأن يكون محبّا له إذا كان ذلك الشيء من الأفعال ، وإنما تخالف المحبة الإرادة إذا علقناهما بالأشخاص ، فقد يقال : أحبّ زيدا ، ولا يقال : أريده. فأما إذا علّقتا بالأفعال فمعناهما واحد ، إذا استعملتا على حقيقة اللغة ، فصار قوله : (وَاللهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) بمنزلة قوله : لا يريد ظلم الظالمين كذا قرره القاضي.

وأجيب بأن المحبة عبارة عن إرادة إيصال الخير إليه فهو ـ تعالى ـ وإن أراد كفر الكافر إلا أنه لا يريد إيصال الثواب إليه.

قوله : (ذلِكَ نَتْلُوهُ) يجوز أن يكون «ذلك» مبتدأ ، «نتلوه» الخبر «من الآيات» حال أو خبر بعد خبر.

ويجوز أن يكون «ذلك» منصوبا بفعل مقدّر يفسّره ما بعده ـ فالمسألة من باب الاشتغال ـ و «من الآيات» حال ، أو خبر مبتدأ مضمر [أي : هو من الآيات ، ولكنّ الأحسن الرفع بالابتداء ؛ لأنه لا يحوج إلى إضمار ، وعندهم «زيد ضربته» أحسن من «زيدا ضربته» ، ويجوز أن يكون ذلك خبر مبتدأ مضمر](١) ، يعني الأمر ذلك ، و «نتلوه» على هذا حال من اسم الإشارة ، و (مِنَ الْآياتِ) حال من مفعول «نتلوه».

ويجوز أن يكون «ذلك» موصولا بمعنى «الذي» و «نتلوه» صلة وعائد ، وهو مبتدأ خبره الجار بعده أي : الذي نتلوه عليك كائن من الآيات ، أي : المعجزات الدالة على نبوتك. جوّز ذلك الزّجّاج وتبعه الزمخشريّ ، وهذا مذهب الكوفيين.

أما البصريون فلا يجيزون أن يكون اسما من أسماء الإشارة موصولا إلا «ذا» خاصة ، بشروط تقدم ذكرها ؛ ويجوز أن يكون «ذلك» مبتدأ ، و «من الآيات» خبره ، و «نتلوه» جملة في موضع نصب على الحال ، والعامل معنى اسم الإشارة.

قوله : «نتلوه» فيه وجهان :

أحدهما : أنه وإن كان مضارعا لفظا فهو ماض معنى ، أي : الذي قدمناه من قصة عيسى وما جرى له تلوناه عليك ، كقوله : (وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ) [البقرة : ١٠٢].

والثاني : أنه على بابه ؛ لأن الكلام لم يتم ، ولم يفرغ من قصة عيسى ـ عليه‌السلام ـ إذ بقي منها بقية.

و «من» فيها وجهان :

أظهرهما : أنها تبعيضية ؛ لأن المتلوّ عليه ـ من قصة عيسى ـ بعض معجزاته وبعض

__________________

(١) سقط في ب.

٢٧٤

القرآن وهذا أوجه وأوضح. والمراد بالآيات ـ على هذا ـ العلامات الدالة على نبوتك.

والثاني : أنها لبيان الجنس ، وإليه ذهب ابن عطيّة وبدأ به.

قال أبو حيّان : ولا يتأتّى ذلك من جهة المعنى إلا بمجاز ؛ لأن تقدير «من» البيانية بالموصول ليس بظاهر ؛ إذ لو قلت : ذلك نتلوه عليك الذي هو الآيات والذكر الحكيم لاحتجت إلى تأويل ، وهو أن تجعل بعض الآيات والذكر آيات وذكرا [على سبيل المجاز](١).

والحكيم : صيغة مبالغة محول من «فاعل». ووصف الكتاب بذلك مجازا ؛ لأن هذه الصفة الحقيقية لمنزّله والمتكلم به ، فوصف بصفة من هو من سببه ـ وهو الباري تبارك وتعالى ـ أو لأنه ناطق بالحكمة أو لأنه أحكم في نظمه. وجوزوا أن تكون بمعنى «مفعل» أي : محكم ، كقوله : (كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ) [هود : ١] إلا أن «فعيل» بمعنى «مفعل» قليل ، قد جاءت منه أليفاظ ، قالوا : عقدت العسل فهو عقيد ومعقد وحبست الفرس [في سبيل الله](٢) فهو حبيس ومحبس. وفي قوله : «نتلوه» التفات من غيبة إلى تكلّم ؛ لأنه قد تقدمه اسم ظاهر ـ وهو قوله : (وَاللهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ـ) كذا قاله أبو حيّان ، وفيه نظر ؛ إذ يحتمل أن يكون قوله : (وَاللهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) جيء به اعتراضا بين أبعاض هذه القصّة.

فصل

التلاوة والقصص واحد ؛ لأن معناهما يرجع إلى شيء يذكر بعضه على أثر بعض ثم إنه تعالى أضاف القصص إلى نفسه فقال : (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ) [يوسف : ٣] كما أضاف التلاوة إلى نفسه في قوله : (نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى) [القصص : ٣] ، وذلك يدل على تشريف الملك وتعظيمه ؛ لأن التالي على النبي إنما هو الملك ، فجعل تلاوة الملك جارية مجرى تلاوته.

والمراد بالذكر الحكيم هو القرآن.

وقيل : هو اللّوح المحفوظ الّذي منه نقلت الكتب المنزلة على الأنبياء ـ عليهم‌السلام ـ أخبر ـ تعالى ـ أنّه أنزل هذه القصص مما كتب هنالك.

قوله تعالى : (إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٥٩) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ)(٦٠)

(إِنَّ مَثَلَ عِيسى) جملة مستأنفة لا تعلّق لها بما قبلها تعلقا صناعيا ، بل معنويّا. وزعم بعضهم أنها جواب القسم ، وذلك القسم هو قوله : (وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ) كأنه قيل :

__________________

(١) في أ : وهو مجاز.

(٢) سقط في ب.

٢٧٥

أقسم بالذكر الحكيم أنّ مثل عيسى ، فيكون الكلام قد تم عند قوله : (مِنَ الْآياتِ) ثم استأنف قسما ، فالواو حرف جرّ ، لا عطف وهذا بعيد ، أو ممتنع ؛ إذ فيه تفكيك لنظم القرآن ، وإذهاب لرونقه وفصاحته.

قوله : (خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ) في هذه الجملة وجهان :

أظهرهما : أنها مفسّرة لوجه الشبه بين المثلين ، فلا محلّ لها حينئذ من الإعراب.

الثاني : أنها في محل نصب على الحال من آدم عليه‌السلام و «قد» معه مضمرة ، والعامل فيها معنى التشبيه والهاء في «خلقه» عائدة على «آدم» ولا تعود على «عيسى» لفساد المعنى.

وقال ابن عطية : «ولا يجوز أن تكون خلقه [صفة](١) لآدم ولا حالا منه».

قال الزّجّاج : إذ الماضي لا يكون حالا أنت فيها ، بل هو كلام مقطوع منه مضمّن تفسير المثل ، كما يقال في الكلام : مثلك مثل زيد ، يشبه في أمر من الأمور ، ثم يخبر بقصة زيد ، فيقول : فعل كذا وكذا.

قال أبو حيّان (٢) : «وفيه نظر» ولم يبيّن وجه النظر.

قال شهاب الدّين (٣) : «والظاهر من هذا النظر أن الاعتراض ـ وهو قوله : لا يكون حالا أنت فيها غير لازم ؛ إذ تقدير «قد» تقرّبه من الحال. وقد يظهر الجواب عما قاله الزّجّاج من قول الزمخشريّ : قدره جسدا من طين (ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ) أي : أنشأه بشرا».

قال أبو حيّان (٤) : ولو كان الخلق بمعنى الإنشاء ـ لا بمعنى التقدير ـ لم يأت بقوله : «كن» ؛ لأن ما خلق لا يقال له : كن ، ولا ينشأ إلا إن كان معنى : (ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ) عبارة عن نفخ الرّوح فيه.

وقال الواحديّ : قوله (خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ) ليس بصلة لآدم ولا صفة ؛ لأن الصّلة للمبهمات ، والصفة للنّكرات ، ولكنه خبر مستأنف على وجه التفسير لحال آدم عليه‌السلام.

وعلى قول الزجّاج : (مِنْ تُرابٍ) فيه وجهان :

أظهرهما : أنه متعلق ب «خلقه» أي : ابتدأ خلقه من هذا الجنس.

الثاني : أنه حال من مفعول «خلقه» تقديره : خلقه كائنا من تراب ، وهذا لا يساعده المعنى.

والمثل هاهنا منهم من فسّره بمعنى الحال والشأن.

__________________

(١) في أ : صلة.

(٢) ينظر : البحر المحيط ٢ / ٥٠١.

(٣) ينظر : الدر المصون ٢ / ١١٨.

(٤) ينظر : البحر المحيط ٢ / ٥٠١.

٢٧٦

قال الزّمخشريّ : «إن شأن عيسى وحاله الغريبة كشأن آدم». وعلى هذا التفسير فالكاف على بابها ـ من كونها حرف تشبيه ـ وفسّر بعضهم المثل بمعنى الصفة ، كقوله : (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ) [الرعد : ٣] ، أي : صفة الجنة.

قال ابن عطيّة : وهذا عندي خطأ وضعف في فهم الكلام ، وإنما المعنى : أن المثل الذي تتصوره النفوس والعقول من عيسى هو كالمتصوّر من آدم ؛ إذ النّاس كلهم مجمعون على أن الله ـ تعالى ـ خلقه من تراب ، من غير فحل ، وكذلك قوله : (مَثَلُ الْجَنَّةِ) عبارة عن المتصوّر منها. والكاف في «كمثل» اسم على ما ذكرناه من المعنى.

قال أبو حيّان : «ولا يظهر لي فرق بين كلامه هذا وكلام من جعل المثل بمعنى الشأن والحال أو بمعنى الصفة».

[قال شهاب الدّين : قد تقدّم في أوّل البقرة أنّ المثل قد يعبّر به عن الصّفة ، وقد لا يعبّر به عنها ؛ فدلّ ذلك على تغايرهما ، وقد تقدّم كلام النّاس فيه ، ويدلّ على ذلك ما قاله صاحب «ريّ الظّمآن» عن الفارسيّ الجميع ، وقال : «المثل بمعنى الصّفة ، لا يمكن تصحيحه في اللّغة ، إنّما المثل التشبيه على هذا تدور تصاريف الكلمة ، ولا معنى للوصفية في التشابه ؛ ومعنى المثل](١) في كلامهم أنها كلمة يرسلها قائلها لحكمة تشبّه بها الأمور ، وتقابل بها الأحوال وقد فرق بين لفظ المثل في الاصطلاح وبين الصفة.

قال بعضهم : إن الكاف زائدة.

وقال آخرون : إنّ «مثلا» زائدة فحصل في الكاف ثلاثة أقوال :

قيل : أظهرها : أنها على بابها من الحرفية وعدم الزيادة وقد تقدم تحقيقه.

وقال الزمخشريّ : «فإن قلت : كيف شبّه به وقد وجد هو بغير أب ووجد آدم من غير أب ولا أمّ؟

قلت : هو مثله في أحد الطّرفين ، فلا يمنع اختصاصه دونه بالطرف الآخر من تشبيهه به ؛ لأن المماثلة مشاركة في بعض الأوصاف ، ولأنه شبّه به في أنه وجد وجودا خارجا عن العادة المستمرة ، وهما في ذلك يظهران ، ولأن الوجود من غير أب ولا أمّ أغرب وأخرق للعادة من الوجود من غير أب ، فشبّه الغريب بالأغرب ؛ ليكون أقطع للخصم ، وأحسم لمادة شبهته ، إذا نظّر فيما هو أغرب مما استغربه».

فصل

قال القرطبيّ : «دلّت هذه الآية على صحة القياس. والتشبيه واقع على أن عيسى خلق من غير أب كآدم ، لا على أنه خلق من تراب ، والشيء قد يشبّه بالشيء ـ وإن كان

__________________

(١) سقط في ب.

٢٧٧

بينهما فرق [كبير](١) ـ بعد أن يجتمعا في وصف واحد».

وعن بعض العلماء أنه أسر بالروم ، فقال لهم : لم تعبدون عيسى؟ قالوا : لأنه لا أب له.

قال : فآدم أولى ؛ لأنه لا أبوين له ، قالوا : فإنه كان يحيي الموتى؟ قال : فحزقيل أولى ؛ لأن عيسى أحيى أربعة نفر ، وحزقيل أحيى ثمانية آلاف ، قالوا : فإنه كان يبرىء الأكمه والأبرص.

قال : فجرجيس أولى ؛ لأنه طبخ ، وأحرق ، وخرج سالما.

قوله : (كُنْ فَيَكُونُ) اختلفوا في المقول له : كن ، فالأكثرون على أنه آدم ـ عليه‌السلام ـ وعلى هذا يقع الإشكال في لفظ الآية ؛ لأنه إنما يقول له : كن قبل أن يخلقه لا بعده ، وهاهنا يقول : (خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ).

والجواب : أن الله ـ تعالى ـ أخبرنا ـ أولا ـ أنه خلق آدم من غير ذكر ، ولا أنثى ، ثم ابتدأ أمرا آخر ـ يريد أن يخبرنا به ـ فقال : إني مخبركم ـ أيضا بعد خبري الأول ـ أني قلت له : كن فكان ، فجاء «ثمّ» لمعنى الخبر الذي تقدم ، والخبر الذي تأخر في الذكر ؛ لأنّ الخلق تقدم على قوله : «كن». وهذا كما تقول : أخبرك أنّي أعطيك اليوم ألفا ثم أخبرك أني أعطيتك أمس ألفا ، ف «أمس» متقدم على «اليوم» وإنما جاء ب «ثمّ» ؛ لأنّ خبر «اليوم» متقدّم خبر «أمس» ؛ حيث جاء خبر «أمس» بعد مضيّ خبر «اليوم» ومثله قوله : (خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها) [النساء : ١] ـ وقد خلقنا بعد خلق زوجها ، ولكن هذا على الخبر دون الخلق ؛ لأنّ التأويل : أخبركم أني قد خلقتكم من نفس واحدة ـ ؛ لأن حواء قد خلقت من ضلعه ثم أخبركم أني خلقت زوجها منها.

ومثل هذا قول الشاعر : [الخفيف]

١٤٩٠ ـ إنّ من ساد ثمّ ساد أبوه

ثمّ قد ساد بعد ذلك جدّه (٢)

ومعلوم أن الأب متقدّم له ، والجدّ متقدم للأب ، فالترتيب يعود إلى الخبر لا إلى الوجود ، كقوله : (ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا) [البلد : ١٧] فكذا قوله : (خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ) أي : صيّره خلقا سويّا ، ثم إني أخبركم أني إنما خلقته بأن قلت له : كن. فالتراخي في الخبر ، لا في هذا المخبر عن ذلك المخبر.

ويجوز أن يكون المراد أنّه خلقه قالبا من تراب ، ثم قال له : كن بشرا.

__________________

(١) في أ : ما.

(٢) البيت لأبي نواس ينظر ديوانه ١ / ٣٥٥ ، وخزانة الأدب ١١ / ٣٣ ، ٤٠ ، ٤١ والدرر ٦ / ٩٣ ، والجنى الداني ص ٤٢٨ ، وجواهر الأدب ص ٣٦٤ ، ورصف المباني ص ١٧٤ ، ومغني اللبيب ١ / ١١٧ والدر المصون ١ / ١١٩.

٢٧٨

فإن قيل : الضمير في قوله : (خَلَقَهُ) راجع إلى آدم ، وحين كان ترابا لم يكن آدم موجودا.

فالجواب : أن ذلك الهيكل لما كان بحيث يصير آدم عن قريب سماه آدم ؛ تسمية للشيء بما يئول إليه.

قال أبو مسلم : «قد بيّنّا أن الخلق هو التقدير والتسوية ، ويرجع معناه إلى علم الله ـ تعالى ـ بكيفية وقوعه ، وإرادته لإيقاعه على الوجه المخصوص ، وكل ذلك متقدّم في الأزل ، وأما قوله : كن ، فهو عبارة عن إدخاله في الوجود ، فثبت أن خلق آدم متقدّم على قوله : كن».

وقال بعضهم : المقول له : كن هو عيسى ، ولا إشكال على هذا.

قوله : (فَيَكُونُ) يجوز أن يكون على بابه من كونه مستقبلا ، والمعنى : فيكون كما يأمر الله ـ تعالى ـ فيكون حكاية للحال التي يكون عليها آدم.

قال بعضهم : معناه : اعلم يا محمد أن ما قال له ربّك : كن فإنه يكون لا محالة.

ويجوز أن يكون (فَيَكُونُ) بمعنى : «فكان» وعلى هذا أكثر المفسّرين ، والنحويين ، وبهذا فسّره ابن عبّاس رضي الله عنه.

فصل

أجمع المفسّرون على أن هذه الآية نزلت عند حضور وفد نجران وذلك أنهم قالوا لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ما لك تشتم صاحبنا؟ قال : وما أقول؟ قالوا : تقول : إنه عبد ، قال : أجل ، هو عبد الله ورسوله ، وكلمته ألقاها إلى العذراء البتول ، فغضبوا ، وقالوا : هل رأيت إنسانا ـ قطّ ـ من غير أب؟ فقال «إنّ مثل عيسى عند الله كمثل آدم» (١) كأنهم قالوا : يا محمد لما سلمت أنه لا أب له من البشر وجب أن يكون أبوه هو الله ، فقال : إنّ آدم ما كان له أب ولا أمّ ولم يلزم أن يكون أبوه هو الله ، وأن يكون ابنا لله ، فكذا القول في عيسى ، وأيضا إذا جاز أن يخلق الله آدم من التراب ، فلم لا يجوز أن يخلق عيسى من دم مريم؟ بل هذا أقرب إلى العقل ، فإن تولّد الحيوان من الدم الذي يجتمع في رحم الأم أقرب من تولّده من التراب اليابس.

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٤٦٨ ـ ٤٦٠) عن ابن عباس وقتادة والسدي والشعبي.

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٦٦) من طريق العوفي عن ابن عباس وزاد نسبته لابن أبي حاتم.

وذكره أيضا (٢ / ٦٦) عن قتادة وزاد نسبته لعبد بن حميد.

وذكره أبو حيان في «البحر المحيط» (٢ / ٥٠٠) عن ابن عباس وعكرمة وقتادة والسدي وغيرهم.

وانظر تفسير البغوي (١ / ٣٠٩) وزاد المسير (١ / ٣٩٨) لابن الجوزي.

٢٧٩

فصل

اعلم أن العقل دل على أنه لا بد للناس من والد أول ، وإلا لزم أن يكون كل ولد مسبوقا بوالد لا إلى أول ، وهو محال ، والقرآن دل على أن ذلك الوالد الأول هو آدم. لقوله : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها) [النساء : ١] ثم إنه ـ تعالى ـ ذكر في كيفية خلق آدم وجوها كثيرة :

أحدها : أنه مخلوق من التراب ـ كما في هذه الآية.

الثاني : أنه مخلوق من الماء ، قال تعالى : (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً) [الفرقان: ٥٤].

الثالث : أنه مخلوق من الطين ، [قال تعالى : (وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ)](١) [السجدة : ٧].

رابعها : أنه مخلوق من سلالة من طين ، قال تعالى : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ) [المؤمنون : ١٢].

خامسها : أنه مخلوق من طين لازب ، قال تعالى : (إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ) [الصافات : ١١].

سادسها : أنه مخلوق من صلصال من حمأ مسنون.

سابعها : أنه [خلق](٢) من عجل.

ثامنها : قال تعالى : (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ) [البلد : ٤].

قال الحكماء : إنما خلق آدم من التراب ؛ لوجوه :

الأول : ليكون متواضعا.

الثاني : ليكون ستّارا.

الثالث : إذا كان من الأرض ليكون أشدّ التصاقا بالأرض ؛ لأنه إنما خلق لخلافة الأرض ؛ لقوله تعالى : (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) [البقرة : ٣٠].

الرابع : أراد الحق إظهار القدرة ، فخلق الشياطين من النار التي هي أضوأ الأجرام ، وابتلاهم بظلمات الضلالة ، وخلق الملائكة من الهواء الذي هو ألطف الأجرام ، وأعطاهم كمال الشدة والقوة ، وخلق آدم من التراب الذي هو أكثف الأجرام ، ثم أعطاهم المعرفة والنور والهداية ، وخلق السموات من أمواج مياه البحر ، وأبقاها معلّقة في الهواء ، حتى يكون خلقه هذه الأجرام برهانا باهرا ، ودليلا ظاهرا على أنه ـ تعالى ـ هو المدبر بغير احتياج.

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) في أ : مخلوق.

٢٨٠