اللّباب في علوم الكتاب - ج ٥

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ٥

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 2-7451-2298-3
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٦٣٢

الثاني : أنها بدل من «بآية» فيكون محلّها الجرّ ، أي : وجئتكم بأني أخلق لكم ، وهذا نفسه آية من الآيات.

وهذا البدل يحتمل أن يكون كلّا من كلّ ـ إن أريد بالآية شيء خاصّ ـ وأن يكون بدل بعض من كل إن أريد بالآية الجنس.

الثالث : أنها خبر مبتدأ مضمر ، تقديره : هي أني أخلق ، أي : الآية التي جئت بها أني أخلق وهذه الجملة ـ في الحقيقة ـ جواب لسؤال مقدر ، كأن قائلا قال : وما الآية؟ فقال ذلك.

الرابع : أن تكون منصوبة بإضمار فعل ، وهو ـ أيضا ـ جواب لذلك السؤال ، كأنه قال: أعني أني أخلق.

وهذان الوجهان يلاقيان ـ في المعنى ـ قراءة نافع ـ على بعض الوجوه ـ فإنهما استئناف.

قوله : (أَخْلُقُ لَكُمْ) أقدّر لكم وأصوّر ، وقد تقدم في قوله : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ) [البقرة : ٢١] أن الخلق هو التقدير ، ويدل عليه وجوه :

أحدها : قوله : (فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) [المؤمنون : ١٤] أي : المقدّرين ، وقد ثبت أن العبد لا يكون خالقا بمعنى التكوين والإبداع ، فوجب أن يكون بالتقدير والتسوية.

وثانيها : أن لفظ الخلق : يطلق على الكذب ، قال تعالى : (إِنْ هذا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ) [الشعراء : ١٣٧] وقال : (وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً) [العنكبوت : ١٧] وقال : (إِنْ هذا إِلَّا اخْتِلاقٌ) [ص : ٧]. والكاذب إنما سمّي خالقا ، لأنه يقدّر الكذب في خاطره ويصوّره.

وثالثها : هذه الآية.

ورابعها : قوله تعالى : (خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ) [البقرة : ٢٩] إشارة إلى الماضي ، فلو حملنا قوله : «خلق» على الإيجاد والإبداع لكان المعنى : أن كل ما في الأرض الآن فهو ـ تعالى ـ كان قد أوجده في الزمان الماضي ، وذلك باطل ، فوجب حمل الخلق على التقدير ـ حتى يصحّ الكلام ـ وهو أنه ـ تعالى ـ قدّر في الماضي كلّ ما وجد الآن في الأرض.

وخامسها : قول الشاعر : [الكامل]

١٤٧٤ ـ ولأنت تفري ما خلقت وبع

ض القوم يخلق ثمّ لا يفري (١)

وقال الآخر : [البسيط]

__________________

(١) تقدم برقم ٢٧٥.

٢٤١

١٤٧٥ ـ ولا يئطّ بأيدي الخالقين ولا

أيدي الخوالق إلّا جيّد الأدم (١)

وسادسها : أنه يقال : خلق الفعل إذا قدرها وسواها بالمقياس ، والخلاق : المقدار من الخير ، وفلان خليق بكذا ، أي : له هذا المقدار من الاستحقاق ، والصخرة الخلقاء : الملساء ؛ لأن الملاسة استواء وفي الخشونة اختلاف ، فثبت أن الخلق عبارة عن التقدير والتسوية.

وقال أبو عبد الله البصريّ : لا يجوز إطلاق «الخالق» على الله ـ تعالى ـ في الحقيقة ؛ لأن التقدير والتسوية عبارة عن الظن والتخيّل ، وذلك على الله تعالى محال.

وأجيب بقوله تعالى : (هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللهِ) [فاطر : ٣] والتقدير والتسوية عبارة عن العلم والظن ، لكن الظن كان محالا في حق الله تعالى فالعلم ثابت.

إذا عرفت هذا فقوله : (أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ) معناه : أقدّر وأصوّر.

قوله : (لَكُمْ) متعلق ب «أخلق» واللام للعلة ، أي : لأجلكم ـ بمعنى لتحصيل إيمانكم ، ودفع تكذيبكم إياي ـ وإلا فالذوات لا تكون عللا ، بل أحداثها. و (مِنَ الطِّينِ) متعلق به ـ أيضا ـ و «من» لابتداء الغاية ، وقول من قال : إنها للبيان تساهل ؛ إذ لم يسبق مبهم تبينه.

قوله : (كَهَيْئَةِ) في موضع هذه الكاف ثلاثة أوجه :

أحدها : أنها نعت لمفعول محذوف ، تقديره : أني أخلق لكم هيئة مثل هيئة الطير. والهيئة إما أن تكون في الأصل مصدرا ، ثم أطلقت على المفعول ـ أي : المهيّأ ـ كالخلق بمعنى : المخلوق ، وإما أن تكون اسما لحال الشيء وليست مصدرا ، والمصدر : التّهييء ـ والتّهيّؤ ـ والتّهيئة.

ويقال : هاء الشيء يهيء هيئا وهيئة ـ إذا ترتب واستقر على حال مخصوص ـ ويتعدى بالتضعيف ، قال تعالى : (وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقاً) [الكهف : ١٦] ، والطين معروف ، يقال : طانه الله على كذا وطلمه ـ بإبدال النون ميما ـ أي : جبله عليه ، والنفخ معروف.

الثاني : أن الكاف مفعول به ؛ لأنها اسم كسائر الأسماء ـ وهذا رأي الأخفش ، حيث يجعل الكاف اسما حيث وقعت وغيره من النحاة لا يقول بذلك إلا إذا اضطر إليه ـ كوقوعها مجرورة بحرف جر ، أو إضافة ، أو وقوعها فاعلة أو مبتدأ. وقد تقدم ذلك.

الثالث : أنها نعت لمصدر محذوف ، قاله الواحديّ نقلا عن أبي عليّ بعد كلام طويل : «ويكون الكاف موضع نصب على أنه صفة للمصدر المراد ، تقديره : أنّي أخلق لكم من الطّين خلقا مثل هيئة الطّير».

__________________

(١) البيت لإبراهيم بن علي بن هرمة ينظر ديوانه ص ٢١١ ومفاتيح الغيب ٨ / ٤٩ وفيه ولا يعطى.

٢٤٢

وفيما قاله نظر من حيث المعنى ؛ لأن التحدّي إنما يقع في أثر الخلق ـ وهو ما ينشأ عنه من المخلوقات ـ لا في نفس الخلق ، اللهم إلا أن نقول : المراد بهذا المصدر المفعول به فيئول إلى ما تقدم.

قال الزمخشري : أي أقدّر لكم شيئا مثل هيئة الطّير. وهذا تصريح منه بأنها صفة لمفعول محذوف وقوله : «أقدر» تفسير للخلق ؛ لأن الخلق هنا ـ التقدير ـ كما تقدم ـ وليس المراد الاختراع ، فإنه مختص بالباري ـ تعالى ـ.

وقرأ الزهريّ : «كهيئة» ـ بنقل حركة الهمزة إلى الياء.

وقرأ أبو جعفر : «كهيئة الطّائر» (١).

قوله : (فَأَنْفُخُ فِيهِ) في هذا الضمير ستة أوجه :

أحدها : أنه عائد على الكاف ؛ لأنها اسم ـ عند من يرى ذلك ـ أي : فأنفخ في مثل هيئة الطير.

الثاني : أنه عائد على «هيئة» ، لأنها في معنى الشيء المهيّأ ، فلذلك عاد الضمير عليها مذكّرا وإن كانت مؤنثة ـ اعتبارا بمعناها دون لفظها ، ونظيره قوله تعالى : (وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ) [النساء : ٨] ثم قال (فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ) فأعاد الضمير في «منها» على (الْقِسْمَةَ) لما كانت بمعنى المقسوم.

الثالث : أنه عائد على ذلك المفعول المحذوف ، أي : فأنفخ في ذلك الشيء المماثل لهيئة الطير.

الرابع : أنه عائد على ما وقعت عليه الدلالة في اللفظ. وهو أني أخلق. ويكون الخلق بمنزلة المخلوق.

الخامس : أنه عائد على ما دلّت عليه الكاف من معنى المثل ؛ لأن المعنى : أخلق من الطّين مثل هيئة الطّير وتكون الكاف في موضع نصب على أنه صفة للمصدر المراد تقديره : أني أخلق لكم خلقا مثل هيئة الطير. قاله الفارسي ؛ وقد تقدم الكلام معه في ذلك.

السادس : أنه عائد على الطين ، قاله أبو البقاء ، وأفسده الواحديّ ، قال : «ولا يجوز أن تعود الكناية على «الطّين» لأن النفخ إنما يكون في طين مخصوص وهو ما كان مهيّئا منه ـ والطين المتقدم ذكره عام فلا تعود إليه الكناية ، ألا ترى أنه لا ينفخ في جميع الطين».

وفي هذا الرّد نظر ؛ إذ لقائل أن يقول : لا نسلّم عموم الطين المتقدم ، بل المراد

__________________

(١) ينظر : المحرر الوجيز ١ / ٤٣٩ ، والبحر المحيط ٢ / ٤٨٧ ، والدر المصون ٢ / ١٠٥.

٢٤٣

بعضه. ولذلك أدخل عليه «من» التي تقتضي التبعيض ، فإذا صار المعنى : أني أخلق بعض الطين ، عاد الضّمير عليه من غير إشكال ، ولكنّ الواحدي جعل «من» في الطين لابتداء الغاية ، وهو الظّاهر.

قال أبو حيّان : «وقرأ بعض القرّاء «فأنفخها» (١). أعاد الضمير على الهيئة المحذوفة ؛ إذ يكون التقدير : هيئة كهيئة الطير ، أو على الكاف ـ على المعنى ـ إذ هي بمعنى مماثلة هيئة الطير ، فيكون التأنيث هنا كما هو في آية المائدة : (فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً) ويكون في هذه القراءة قد حذف حرف الجر ، كما حذف في قوله : [البسيط]

١٤٧٦ ـ ما شقّ جيب ولا قامتك نائحة

ولا بكتك جياد عند أسلاب (٢)

وقول النابغة : [البسيط]

١٤٧٧ ـ ............

كالهبرقيّ تنحّى ينفخ الفحما (٣)

يريد ولا قامت عليك ، وينفخ في الفحم. وهي قراءة شاذة ، نقلها الفرّاء».

قال شهاب الدين : «وعجبت منه ، كيف لم يعزها ، وقد عزاها صاحب الكشّاف إلى عبد الله ، قال : وقرأ : «أعبد الله» فأنفخها» (٤).

قوله : (فَيَكُونُ) في «يكون» وجهان :

أحدهما : أنها تامة ، أي : فيوجد ، ويكون «طيرا» ـ على هذا ـ حالا.

والثاني : أنها ناقصة ، و «طيرا» خبرها. وهذا هو الذي ينبغي أن يكون ؛ لأن في وقوع اسم الجنس حالا لا حاجة إلى تأويل ، وإنما يظهر ذلك على قراءة نافع «طائرا» ؛ لأنه ـ حينئذ ـ اسم مشتق.

وإذا قيل بنقصانها ، فيجوز أن تكون على بابها ، ويجوز أن تكون بمعنى «صار» الناقصة ، كقوله : [الطويل]

١٤٧٨ ـ بتيهاء قفر والمطيّ كأنّها

قطا الحزن قد كانت فراخا بيوضها (٥)

أي صارت.

__________________

(١) انظر : البحر المحيط ٢ / ٤٨٨ ، والدر المصون ٢ / ١٠٥.

(٢) البيت ليزيد بن ربيعة ينظر ديوانه ص ٨٣ وضرائر الشعر ص ١٤٦ ومعاني القرآن للفراء ١ / ٢١٥ والبحر ٢ / ٤٨٨ والدر المصون ٢ / ١٠٥.

(٣) عجز بيت وصدره :

مولي الريح روقيه وجيهته

ينظر ديوانه (١١٠) والكشاف ١ / ٤٣١ والدر المصون ٢ / ١٠٥ والبحر المحيط ٢ / ٤٨٨.

(٤) ينظر : الكشاف ١ / ٣٦٤.

(٥) تقدم برقم ٣٨٧.

٢٤٤

وقال أبو البقاء : «فيكون ـ أي فيصير ـ فيجوز أن يكون «كان» هنا ـ التامة ؛ لأن معناها «صار» بمعنى : انتقل ، ويجوز أن تكون الناقصة ، و «طائرا» ـ على الأول ـ حال ، وعلى الثاني ـ خبر».

قال شهاب الدّين : «ولا حاجة إلى جعله إياها ـ في حال تمامها ـ بمعنى «صار» التامة التي معناها معنى «انتقل» بل النحويون إنما يقدرون التامة بمعنى حدث ، ووجد ، وحصل ، وشبهها وإذا جعلوها بمعنى «صار» فإنما يعنون «صار» الناقصة».

وقرأ نافع ويعقوب (١) فيكون طائرا ـ هنا وفي المائدة ـ والباقون «طيرا» في الموضعين.

فأما قراءة نافع فوجّهها بعضهم بأنّ المعنى على التوحيد ، والتقدير : فيكون ما أنفخ فيه طائرا ولا يعترض عليه بأن الرسم الكريم إنما هو «طيرا» ـ دون ألف ـ لأن الرسم يجوّز حذف مثل هذه الألف تخفيفا ويدل على ذلك أنه رسم قوله تعالى : (وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ) [الأنعام : ٣٨٣] ولا طير ـ دون ألف ـ ولم يقرأه أحد «طائر» ـ بالألف ـ فالرسم محتمل ، لا مناف.

قال بعضهم كالشارح لما تقدم ـ : ذهب نافع إلى نوع واحد من الطير ؛ لأنه لم يخلق غير الخفّاش ، وزعم آخرون أن معنى قراءته : يكون كل واحد مما أنفخ فيه طائرا ، قال : كقوله تعالى : (فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً) [النور : ٤] أي اجلدوا كل واحد منهم وهو كثير من كلامهم.

وأما قراءة الباقين فمعناها يحتمل أن يراد به اسم الجنس ـ أي : جنس الطير ـ ويحتمل أن يراد به الواحد فما فوقه ، ويحتمل أن يراد به الجمع ، ولا سيما عند من يرى أن طيرا صيغة جمع نحو ركب وصحب وتجر ؛ جمع راكب وصاحب وتاجر ـ وهو الأخفش ـ وأما عند سيبويه فهي عنده أسماء جموع ، لا جموع صريحة وتقدم الكلام على ذلك في البقرة. وحسن قراءة الجماعة لموافقتها لما قبلها ـ في قوله : (مِنَ الطَّيْرِ) ـ ولموافقة الرسم لفظا ومعنى.

قوله : (بِإِذْنِ اللهِ) يجوز أن يتعلق ب «طيرا» ـ على قراءة نافع ، وأما على قراءة غيره فلا يتعلق به ؛ لأن «طيرا» اسم جنس ، فيتعلق بمحذوف على أن صفة ل «طيرا» أي : طيرا ملتبسا بطذن الله ـ بتمكينه وإقداره.

قال أبو البقاء : متعلق ل «يكون». وهذا إنما يظهر إذا جعل «كان» تامة ، وأما إذا جعلها ناقصة ففي تعلّق الظرف بها الخلاف المشهور.

__________________

(١) انظر : السبعة ٢٠٦ ، والكشف ١ / ٣٤٥ ، والحجة ٣ / ٤٤ ، والعنوان ٧٩ ، وحجة القراءات ١٦٤ ، وشرح شعلة ٣١٥ ، وإعراب القراءات ١ / ١١٣ ، وشرح الطيبة ٤ / ١٥٩ ، وإتحاف ١ / ٤٧٩.

٢٤٥

فصل

روي أن عيسى ـ عليه‌السلام ـ لما ادّعى النبوة ، وأظهر المعجزات ، طالبوه بخلق خفاش فأخذ طينا ، فصوّره ، فنفخ فيه ، فإذا هو يطير بين السماء والأرض (١).

قال وهب : كان يطير ما دام الناس ينظرون إليه ، فإذا غاب عن أعينهم سقط ميّتا ، ليتميز فعل الخلق من فعل الخالق.

قيل : خلق الخفّاش ، لأنه أكمل الطير خلقا (٢) ، وأبلغ في القدرة ؛ لأن لها ثديا وأسنانا وأذنا ، وهي تحيض وتطهر وتلد.

وقيل : إنما طالبوه بخلق خفّاش ؛ لأنه أعجب من سائر الخلق ، ومن عجائبه أنه لحم ودم ، يطير بغير ريش ويلد كما يلد الحيوان ، ولا يبيض كما يبيض سائر الطّيور ، ويكون له الضرع يخرج منه اللبن ، ولا يبصر في ضوء النهار ، ولا في ظلمة الليل ، وإنما يرى في ساعتين : بعد غروب الشمس ساعة ، وبعد طلوع الفجر ساعة ـ قبل أن يسفر جدّا ـ ويضحك كما يضحك الإنسان ، ويحيض كما تحيض المرأة. قال قوم إنه لم يخلق غير الخفاش. وقال آخرون : إنه خلق أنواعا من الطير.

فصل

قال بعض المتكلمين : دلت الآية على أن الروح جسم رقيق ، كأنه الريح ؛ لأنه وصفها بالنفخ ، ثم هاهنا بحث ، وهو أنه هل يجوز أن يقال : إنه ـ تعالى ـ أودع في نفس عيسى ـ عليه‌السلام ـ خاصية ، بحيث إذا نفخ في شيء كانت نفخته فيه موجبة لصيرورة ذلك الشيء حيّا؟

ويقال : إن الله ـ تعالى ـ كان يخلق الحياة في ذلك الجسم بصورته ، عند نفخ عيسى على سبيل إظهار المعجزات ، وهذا الثاني هو الحق ؛ لقوله تعالى : (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ) [الملك : ٢] وقال إبراهيم عليه‌السلام لمناظريه : (رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ) [البقرة : ٢٥٨] فلو حصل لغيره هذه الصفة لبطل ذلك الاستدلال. وقوله : (بِإِذْنِ اللهِ) معناه : بتكوين الله وتخليقه ؛ لقوله تعالى : (وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) [آل عمران : ١٤٥] أي بأن يوجد الله الموت.

فصل

القرآن دل على أنه ـ عليه‌السلام ـ إنما تولد من نفخ جبريل ـ عليه‌السلام ـ في مريم وجبريل روح محض وروحاني محض ، فكانت نفخة عيسى عليه‌السلام سببا للحياة والروح.

__________________

(١) أخرجه أبو الشيخ عن ابن عباس كما في «الدر المنثور» (٢ / ٥٧).

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٤٢٦) عن ابن جريج وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٥٧).

٢٤٦

قوله : «وأبرىء الأكمه» وأبرىء عطف على «أخلق» فهو داخل في خبر «أنّي». يقال : أبرأت زيد عن العاهة ومن الدّين ، وبرّأتك من الدين ـ بالتضعيف. وبرأت من المرض أبرأ وبرئت ـ أيضا ـ وأما برئت من الدّين ومن الذّنب ، فبرئت لا غير.

وقال الأصمعيّ : برئت من المرض لغة تميم ، وبرأت لغة الحجاز.

قال الراغب : «برأت من المرض وبرئت ، وبرأت من فلان» ، فالظاهر من هذا أنه لا يقال الوجهان ـ أعني فتح الراء وكسرها ـ إلا في البراءة من المرض ونحوه. وأما الدّين والذّنب ونحوهما ، فالفتح ليس إلا.

والبراءة : التخلص من الشيء المكروه مجاورته ؛ وكذلك التّبري والبراء.

فصل

من ولد أعمى ، يقال : كمه يكمه فهو أكمه.

قال رؤبة : [الرجز]

١٤٧٩ ـ فارتدّ عنها كارتداد الأكمه (١)

يقال : كمهتها ، أي : أعميتها.

قال الزمخشريّ والراغب وغيرهما : «الأكمه : من ولد مطموس العينين» ، وهو قول ابن عباس وقتادة.

قال الزمخشري : «ولم يوجد في هذه الأمة أكمه غير قتادة صاحب التفسير».

قال الراغب : «وقد يقال لمن ذهبت عينه : أكمه».

قال سويد : [الرمل]

١٤٨٠ ـ كمهت عيناه حتّى ابيضّتا

 .......... (٢)

قال الحسن والسّدّيّ : هو الأعمى (٣).

__________________

(١) جزء بيت وتمامه :

وكيد مطال وخصم منده

هرجت فارتد ارتداد الأكمه

ينظر ديوانه (٢٧) ومجاز القرآن ١ / ٩٣ والطبري ٣ / ١٧٣ واللسان (كمه ـ هرج) والسيرة النبوية ١ / ٥٨١ والبحر المحيط ١ / ٤٧٦ والدر المصون ٢ / ١٠٧.

(٢) صدر بيت وتمامه :

فهو يلحى نفسه لما ندع

ينظر المفضليات (٢٠٠) تفسير الطبري ٦ / ٤٣٠ وشرح المفضليات ٢ / ٧٤٠ واللسان (كمه) والبحر ٢ / ٤٧٥ والدر المصون ٢ / ١٠٧.

(٣) أخرجه الطبري (٦ / ٤٢٩) عن الحسن والسدي وابن عباس وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٥٧) عن ابن عباس وزاد نسبته لابن أبي حاتم وابن المنذر من طريق الضحاك عن ابن عباس.

٢٤٧

وقال عكرمة : هو الأعمش (١).

وقال مجاهد : هو الذي يبصر بالنهار ولا يبصر بالليل (٢).

والبرص : داء معروف ، وهو بياض يعتري الإنسان ، ولم تكن العرب تنفر من شيء نفرتها منه ، ويقال : برص يبرص برصا ، أي : أصابه ذلك ، ويقال له : الوضح ، وفي الحديث : «وكان بها وضح». والوضّاح من ملوك العرب هابوا أن يقولوا له : الأبرص. ويقال للقمر : أبرص ؛ لشدة بياضه.

وقال الراغب «وللنكتة التي عليه» وليس بظاهر ، فإنّ النّكتة التي عليه سوداء ، والوزغ سامّ أبرص ، سمّي بذلك ؛ تشبيها بالبرص ، والبريص : الذي يلمع لمعان البرص ويقارب البصيص.

فصل

إنما خصّ هذين المرضين لأنهما أعيا الأطباء ، وكان الغالب في زمن عيسى ـ عليه‌السلام ـ الطبّ ، فأراهم الله المعجزة من جنس ذلك.

قال وهب : ربّما اجتمع على عيسى عليه‌السلام من المرضى ـ في اليوم الواحد ـ خمسون ألفا ، من أطاق منهم أن يبلغه بلغه ، ومن لم يطق مشى إليه عيسى ، وكان يداويهم بالدّعاء ـ على شرط الإيمان ـ ويحيي الموتى.

قال الكلبيّ : كان عيسى يحيي الموتى ب «يا حيّ يا قيّوم ، أحي عازر» وكان صديقا له ، ودعا سام بن نوح من قبره فخرج حيّا ، ومرّ على ابن عجوز ميت ، فدعا الله عيسى ، فنزل عن سريره حيّا ، ورجع إلى أهله وبقي وولد له ، وبنت العاشر أحياها ، وولدت بعد ذلك. وأما العازر فإنه كان توفّي قبل ذلك بأيام فدعا الله ، فقام ـ بإذن الله ـ وودكه يقطر ، وعاش ، وولد له. وأما ابن العجوز ، فإنه مر به محمولا على سريره ، فدعا الله ، فقام ، ولبس ثيابه وحمل السرير على عنقه إلى أهله ، وأما ابنة العاشر فكان أتى عليها ليلة ، فدعا الله ، فعاشت بعد ذلك ، وولد لها. فلما رأوا ذلك قالوا : إنك تحيي من كان موته قريبا ، ولعله لم يمت ، بل أصابتهم سكتة فأحي لنا سام بن نوح ، فقال : دلوني على قبره ، فخرجوا وخرج معهم ، حتى انتهى إلى قبره ، فدعا الله ، فخرج من قبره ، قد شاب رأسه ، فقال له عيسى : كيف شاب رأسك ولم يكن في زمانكم شيب؟ فقال : يا روح الله ، إنك دعوتني ، فسمعت صوتا يقول : أجب روح الله ، فظننت أن القيامة قد قامت ، فمن هول

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٤٢٩) عن عكرمة وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٥٧) وزاد نسبته لابن أبي حاتم وعبد بن حميد وابن الأنباري.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٤٢٨) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٥٧) وزاد نسبته لأبي عبيد والفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن الأنباري في «كتاب الأضداد».

٢٤٨

ذلك شاب رأسي. فسأله عن النزع ، فقال : يا روح الله ، إن مرارة النزع لم تذهب من حنجرتي ـ وكان قد مر على وقت موته أكثر من أربعة آلاف سنة ـ ثم قال للقوم : صدّقوه ؛ فإنه نبيّ ، فآمن به بعضهم ، وكذّبه بعضهم ، وقالوا : هذا سحر.

فصل

قيّد قوله : (أَنِّي أَخْلُقُ) بإذن الله ؛ لأنه خارق عظيم ، فأتى به ؛ دفعا لتوهّم الإلهية ، ولم يأت فيه فيما عطف عليه في قوله : (وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ) ثم قيّد الخارق الثالث ـ أيضا ـ بإذن الله ؛ لأنه خارق عظيم أيضا ـ وعطف عليه قوله : (وَأُنَبِّئُكُمْ) من غير تقييد له ونبهه على عظم ما قبله ، ودفعا لوهم من يتوهم فيه الإلهيّة ، أو يكون قد حذف القيد من المعطوفين ؛ اكتفاء به في الأول والأول أحسن.

قوله : (بِما تَأْكُلُونَ) يجوز في «ما» أن تكون موصولة ـ اسميّة أو حرفيّة ـ أو نكرة موصوفة. فعلى الأول والثالث تحتاج إلى عامل بخلاف الثاني ـ عند الجمهور ـ وكذلك «ما» في قوله : (وَما تَدَّخِرُونَ) محتملة لما ذكر. وأتى بهذه الخوارق الأربع بلفظ المضارع ؛ دلالة على تجدّد ذلك كلّ وقت طلب منه.

قوله : (تَدَّخِرُونَ) قراءة العامة بدال مشدّدة مهملة ، وأصله : تذتخرون ـ تفتعلون ـ من الذخر ، وهو التخبية ، يقال : ذخر الشيء يذخره ذخرا ، فهو ذاخر ومذخور ـ أي : خبّأه.

قال الشاعر : [البسيط]

١٤٨١ ـ لها أشارير من لحم تتمّره

من الثّعالي وذخر من أرانيها (١)

الذخر : فعل بمعنى المذخور ، نحو الأكل بمعنى المأكول ، وبعض النحويين يصحّف هذا البيت فيقول : ووخز ـ بالواو والزاي ـ وقوله : من الثّعالي ، وأرانيها ، يريد : الثعالب ، وأرانبها ، فأبدل الباء الموحدة باثنتين من تحتها.

ولما كان أصله : تذتخرون ، اجتمعت الذال المعجمة مع تاء الافتعال ، فأبدلت تاء الافتعال دالا مهملة ، فالتقى بذلك متقاربان ـ الدال والذال ـ فأبدل الذال ـ المعجمة ـ دالا ، وأدغمها في الذال المعجمة ـ فصار اللفظ : تدّخرون.

وقد قرأ السوسيّ ـ في رواية عن أبي عمرو ـ تذدخرون (٢) بقلب تاء الافتعال دالا مهملة من غير إدغام ، وهذا وإن كان جائزا إلا أن الإدغام هو الفصيح.

__________________

(١) البيت لأبي كاهل اليشكري. ينظر الكتاب ١ / ٣٤٤ وابن يعيش ٢ / ٢٥٨ ومجالس ثعلب ٢٢٩ واللسان (تمر) والمقتضب ١ / ٣٨٢ والهمع ١ / ١٨١ و ٢ / ١٥٧ وضرائر الشعر ص ٢٢٦ وشرح شواهد الشافية ص ٤٤٣ والبحر المحيط ٢ / ٤٧٦ والدر المصون ٢ / ٢ / ١٠٨.

(٢) انظر : البحر المحيط ٢ / ٤٩٠ ، والدر المصون ٢ / ١٠٨.

٢٤٩

وقرأ الزهري ومجاهد وأبو السّمّال وأيوب السختياني (١) «تذخرون» ـ بسكون الذّال المعجمة ، وفتح الخاء جاءوا به مجردا على فعل ، يقال : ذخرته ـ أي : خبّأته.

ومن العرب من يقلب تاء الافتعال ـ في هذا النحو ـ ذالا معجمة ، فيقول : اذّخر يذخر ـ بذال معجمة مشددة ، ومثله اذّكر فهو مذّكر. وسيأتي إن شاء الله تعالى.

قال أبو البقاء : والأصل في «تدّخرون» تذتخرون ، إلّا أنّ الذال مجهورة ، والتاء مهموسة ، فلم يجتمعا ، فأبدلت التاء دالا ؛ لأنها من مخرجها ؛ لتقرب من الذال ، ثم أبدلت الذال دالا ، وأدغمت. و «في بيوتكم» متعلق ب «تدّخرون».

فصل

في الآية قولان :

أحدهما : قال السّديّ : كان عيسى عليه‌السلام في الكتّاب يحدّث الغلمان بما يصنع آباؤهم ، ويقول للغلام : انطلق فقد أكل أهلك كذا وكذا ، ورفعوا لك كذا وكذا ، فينطلق الصبيّ إلى أهله ، ويبكي لهم ، حتى يعطوه ذلك الشيء ، فيقولون من أخبرك بهذا؟ فيقول : عيسى ، فحبسوا صبيانهم عنه ، وقالوا : لا تلعبوا مع هذا الساحر ، فجمعوهم في بيت فجاء عيسى ، وطلبهم ، فقالوا : ليسوا هاهنا. فقال : ما في هذا البيت قالوا : خنازير ، قال عيسى : كذلك يكونون ، ففتحوا عليهم فإذا هم خنازير ، ففشا ذلك في بني إسرائيل ، فهمت به بنو إسرائيل ، فلما خافت عليه أمّه ، حملته على حمار لها ، وخرجت هاربة به إلى مصر (٢).

قال قتادة : إنما كان هذا في المائدة ، وكان خوانا ينزل عليهم أينما كانوا كالمنّ والسّلوى وأمروا أن لا يخونوا ولا يخبئوا لغد ، فخانوا وخبّأوا ، فجعل عيسى يخبرهم بما أكلوا من المائدة وبما ادّخروا ، فمسخهم الله خنازير (٣).

وقال القرطبيّ : إنه لمّا أحيا لهم الموتى طلبوا منه آية أخرى ، وقالوا : أخبرنا بما نأكل في بيوتنا ، وبما ندخر للغد ، فأخبرهم ، فقال : يا فلان ، أكلت كذا وكذا ، وادّخرت كذا وكذا ، وأنت يا فلان ، أكلت كذا وكذا وادّخرت كذا وكذا.

فصل

اعلم أن الإخبار عن الغيب على هذا الوجه معجزة ؛ وذلك لأن المنجّمين الذين

__________________

(١) انظر المحرر الوجيز ١ / ٤٤٠ ، والبحر المحيط ٢ / ٤٩٠ ، والدر المصون ٢ / ١٠٨.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٤٣٤ ـ ٤٣٥) عن السدي وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٦١) عن سعيد بن جبير وعزاه لسعيد بن منصور وابن جرير وابن أبي حاتم.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٤٣٥ ـ ٤٣٦) عن قتادة وأخرجه أيضا (٦ / ٤٣٦) عن عمار بن ياسر.

وذكر أثر عمار السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٦١) وزاد نسبته لعبد الرزاق وابن المنذر وابن أبي حاتم.

٢٥٠

يدعون استخراج الجنيّ لا يمكنهم ذلك إلا عن تقدم سؤال يستعينون عند ذلك بآلة ، ويتوصّلون بها إلى معرفة أحوال الكواكب ، ثم يعترفون بأنهم يغلطون كثيرا ، فأما الإخبار عن الغيب من غير استعانة بآلة ولا تقدم مسألة فلا يكون إلا بوحي من الله تعالى.

قوله : (إِنَّ فِي ذلِكَ) إشارة إلى جميع ما تقدم من الخوارق ، وأشير إليها بلفظ الإفراد ـ وإن كانت جمعا في المعنى ـ بتأويل ما ذكر.

وقد تقدم أن مصحف عبد الله وقراءته «لآيات» ـ بالجمع ؛ مراعاة لما ذكرنا من معنى الجمع ، وهذه الجملة يحتمل أن تكون من كلام عيسى ، وأن تكون من كلام الله تعالى.

قوله : (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) جوابه محذوف ، أي : إن كنتم مؤمنين انتفعتم بهذه الآية ، وتدبّرتموها. وقدر بعضهم صفة محذوفة ل «آية» أي : لآية نافعة. قال أبو حيّان : «حتى يتّجه التعلّق بهذا الشرط» وفيه نظر ؛ إذ يصحّ التعلّق بالشرط دون تقدير هذه الصفة.

قوله : (مُصَدِّقاً) نسق على محل بآية ، لأن محل «بآية» في محل نصب على الحال ؛ إذ التقدير وجئتكم متلبسا بآية ومصدقا.

وقال الفراء والزّجّاج : نصب «مصدّقا» على الحال ، المعنى : وجئتكم مصدّقا لما بين يديّ ، وجاز إضمار «جئتكم» ، لدلالة أول الكلام عليه ـ وهو قوله : (أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) ـ ومثله في الكلام : جئته بما يحبّ ومكرما له.

قال الفراء : «ولا يجوز أن يكون «مصدّقا» معطوفا على «وجيها» ؛ لأنه لو كان كذلك لقال : أو مصدقا لما بين يديه ، يعني : أنه لو كان معطوفا عليه ؛ لأتى معه بضمير الغيبة ، لا بضمير التكلّم». وذكر غير الفرّاء ، ومنع ـ أيضا ـ أن يكون منسوقا على «رسولا» قال : لأنه لو كان مردودا عليه لقال : ومصدقا لما بين يديك ؛ لأنه خاطب بذلك مريم ، أو قال : بين يديه.

يعني أنه لو كان معطوفا على «رسولا» لكان ينبغي أن يؤتى بضمير الخطاب ؛ مراعاة لمريم ، أو بضمير الخطاب مراعاة للاسم الظاهر.

قال أبو حيّان : وقد ذكرنا أنه يجوز في «رسولا» أن يكون منصوبا بإضمار فعل ـ أي : وأرسلت رسولا ـ فعلى هذا التقدير يكون «مصدّقا» معطوفا على «رسولا».

قوله : (مِنَ التَّوْراةِ) فيه وجهان :

أحدهما : أنه حال من «ما» الموصولة ، أي : الذي بين يدي حال كونه من التوراة ، فالعامل فيه مصدقا لأنه عامل في صاحب الحال.

الثاني : أنه حال من الضمير المستتر في الظرف الواقع صلة. والعامل فيه الاستقرار المضمر في الظرف أو نفس الظرف ؛ لقيامه مقام الفعل.

٢٥١

فصل

اعلم أنه يجب على كل نبيّ أن يكون مصدّقا لجميع الأنبياء ؛ لأن الطريق إلى ثبوت نبوتهم هو المعجزة ، فكل من حصلت له المعجزة ، وجب الاعتراف بنبوته.

قوله : (وَلِأُحِلَ) فيه أوجه :

أحدها : أنه معطوف على معنى «مصدّقا» إذ المعنى : جئتكم لأصدّق ما بين يديّ ولأحلّ لكم ، ومثله من الكلام : جئته معتذرا إليه ولأجتلب رضاه ـ أي : جئت لأعتذر ولأجتلب ـ كذا قال الواحديّ ، وفيه نظر ؛ لأن المعطوف عليه حال ، وهذا تعليل.

قال أبو حيّان (١) ـ بعد أن ذكر هذا الوجه ـ : «وهذا هو العطف على التوهّم وليس هذا منه ؛ لأن معقولية الحال مخالفة لمعقوليّة التعليل ، والعطف على التوهّم لا بدّ أن يكون المعنى متّحدا في المعطوف والمعطوف عليه ، ألا ترى إلى قوله تعالى : (فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ) كيف اتحد المعنى من حيث الصلاحية لجواب التحضيض.

وكذلك قول الشاعر : [الطويل]

١٤٨٢ ـ تقيّ نقيّ ، لم يكثّر غنيمة

بنهكة ذي قربى ولا بحقلّد (٢)

كيف اتخذ معنى النفي في قوله : لم يكثّر ، وفي قوله : ولا بحقلّد ، أي : ليس بمكثر ولا بحقلد. وكذلك ما جاء منه».

قال شهاب الدّين (٣) : «ويمكن أن يريد هذا القائل أنه معطوف على معنى «مصدّقا» أي : بسبب دلالته على علة محذوفة ، هي موافقة له في اللفظ ، فنسب العطف على معناه ، باعتبار دلالته على العلة المحذوفة لأنها تشاركه في أصل معناه ـ أعني مدلول المادة ـ وإن كانت دلالة الحال غير دلالة العقل».

الثاني : أنه معطوف على علّة مقدرة ، أي : جئتكم بآية ، ولأوسّع عليكم ولأحلّ ، أو لأخفّف عنكم ولأحلّ ، ونحو ذلك.

الثالث : أنه معمول لفعل مضمر ؛ لدلالة ما تقدم عليه ، أي : وجئتكم لأحلّ ، فحذف العامل بعد الواو.

والرابع : أنه متعلق بقوله : (وَأَطِيعُونِ) والمعنى اتبعوني لأحلّ لكم. وهذا بعيد جدّا أو ممتنع.

الخامس : أن يكون (وَلِأُحِلَّ لَكُمْ) ردا على قوله : «بآية». قال الزمخشريّ : (وَلِأُحِلَ) ردّ على قوله (بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) أي : جئتكم بآية من ربكم ولأحلّ.

__________________

(١) ينظر : البحر المحيط ٢ / ٤٧٦.

(٢) تقدم.

(٣) ينظر : الدر المصون ٢ / ١٠٩.

٢٥٢

قال أبو حيان : «ولا يستقيم أن يكون (وَلِأُحِلَّ لَكُمْ) ردّا على «بآية» ، لأن «بآية» في موضع حال و «لأحل» تعليل ، ولا يصحّ عطف التعليل على الحال ؛ لأن العطف بالحرف المشرك في الحكم يوجب التشريك في جنس المعطوف عليه ، فإن عطفت على مصدر ، أو مفعول به ، أو ظرف ، أو حال ، أو تعليل وغير ذلك شاركه في ذلك المعطوف».

قال شهاب الدين : ويحتمل أن يكون جوابه ما تقدم من أنه أراد ردا على «بآية» من حيث دلالتها على عمل مقدر.

قوله : (بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ) المراد ب «بعض» مدلوله في الأصل.

قال أبو عبيدة : إنها ـ هنا ـ بمعنى «كل».

مستدلّا بقول لبيد : [الكامل]

١٤٨٣ ـ ترّاك أمكنة إذا لم أرضها

أو يعتلق بعض النّفوس حمامها (١)

يعني كلّ النفوس.

وقد يرد الناس عليه بأنه كان يلزم أن يحلّ لهم الزنا ، والسرقة ، والقتل ؛ لأنها كانت محرّمة عليهم ، فلو كان المعنى : ولأحلّ لكم كلّ الذي حرّم عليكم لأحلّ لهم ذلك كلّه.

واستدل بعضهم على أن «بعضا» بمعنى «كلّ» بقول الآخر : [الطويل]

١٤٨٤ ـ أبا منذر أفنيت فاستبق بعضنا

حنانيك بعض الشّرّ أهون من بعض (٢)

أي : أهون من كل شر.

واستدل آخرون بقول الشّاعر : [البسيط]

١٤٨٥ ـ إنّ الأمور إذا الأحداث دبّرها

دون الشّيوخ ترى في بعضها خللا (٣)

أي : في كلها خللا ، ولا حاجة إلى إخراج اللفظ عن مدلوله مع إمكان صحة معناه ؛ إذ مراد لبيد ب «بعض النّفوس» نفسه هو والتبعيض في البيت الآخر واضح ؛ فإن الشر بعضه أهون من بعض آخر لا من كلّه ، وكذلك ليس كل أمر دبره الأحداث كان خللا ، بل قد يأتي تدبيره خيرا من تدبير الشيخ.

__________________

(١) ينظر البيت في ديوانه ص ٣١٣ ، والخصائص ١ / ٧٤ ، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي ص ٧٧ ، وشرح شواهد الشافية ص ٤١٥ ، والصاحبي في فقه اللغة ص ٢٥١ ، ومجالس ثعلب ص ٦٣ ، ٣٤٦ ، ٤٣٧ ، والمحتسب ١ / ١١١ ، وخزانة الأدب ٧ / ٣٤٩ ، والخصائص ٢ / ٣١٧ ، ٣٤١ ، والدر المصون ١ / ١١٠.

(٢) البيت لطرفة بن العبد ينظر ديوانه ص ٦٦ ، والكتاب ١ / ٣٤٨ ، والدرر ٣ / ٦٧ ، وهمع الهوامع ١ / ١٩٠ وجمهرة اللغة ص ١٢٧٣ ، وشرح المفصل ١ / ١١٨ ، والمقتضب ٣ / ٢٢٤ ، والدر المصون ١ / ١١٠ ولسان العرب [حنن].

(٣) ينظر البيت في الإنصاف ٢ / ٧٦٧. والدر المصون ١ / ١١٠.

٢٥٣

وقرأ العامة : «حرّم» بالبناء للمفعول ، والفاعل هو الله. وقرأ عكرمة «حرّم» مبنيّا للفاعل (١) وهو الله تعالى ، أو الموصول في قوله : «لما بين يديه» ؛ لأنه كتاب منزّل ، أو موسى ؛ لأنه هو صاحب التوراة ، فأضمر بالدلالة عليه بذكر كتابه.

وقرأ إبراهيم النّخعيّ : «حرم» (٢) ـ بوزن شرف وظرف ـ ونسب الفعل إليه مجازا للعلم بأن المحرّم هو الله.

فإن قيل : هذه الآية مناقضة للآية التي قبلها ؛ لأنها صريحة في أنه جاء ليحلّ لهم بعض الذي كان محرما عليهم في التوراة ، وهذا يقتضي أن يكون حكمه بخلاف حكم التوراة ، وهذا يناقض قوله : (وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ).

فالجواب : أنه لا مناقضة بين الكلام ؛ لأن التصديق بالتوراة ، لا معنى له إلّا اعتقاد أن كلّ ما فيه فهو حق وصواب ، فإذا لم يكن التأبيد مذكورا في التوراة لم يكن حكم عيسى بتحليل ما كان محرّما فيه مناقضا لكونه مصدّقا بالتوراة ، كما يرد النسخ في الشريعة الواحدة.

فصل

قال وهب : كان عيسى على شريعة موسى ، يقرّر السبت ، ويستقبل بيت المقدس (٣) ، ثم فسّر قوله : (وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ) بأمرين :

أحدهما : أن الأحبار كانوا قد وضعوا من عند أنفسهم شرائع باطلة ، ونسبوها إلى موسى ، فجاء عيسى ورفعها ، وأبطلها وأعاد الأمر إلى ما كان في زمن موسى ـ عليهما‌السلام ـ.

الثاني : أن الله ـ تعالى ـ كان قد حرّم عليهم بعض الأشياء ؛ عقوبة لهم على بعض ما صدر عنهم من الجنايات ، كما قال : (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ) [النساء : ١٦٠] ثم بقي ذلك التحريم مستمرا على اليهود ، فجاء عيسى ، ورفع عنهم تلك التشديدات.

وقال آخرون : إن عيسى رفع كثيرا من أحكام التوراة ، ولم يقدح ذلك في كونه مصدّقا بالتوراة ؛ لما بينا أن الناسخ والمنسوخ كلاهما حقّ وصدق ، فرفع السّبت ، وأقام الأحد مقامه.

قوله : (وَجِئْتُكُمْ) هذه الجملة يحتمل أن تكون تأكيدا للأولى ؛ لتقدّم معناها ولفظها قبل ذلك.

__________________

(١) انظر : المحرر الوجيز ١ / ٤٤١ ، والبحر المحيط ٢ / ٤٩٠ ، والدر المصون ٢ / ١١٠.

(٢) انظر : السابق.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٤٣٨) عن وهب.

٢٥٤

قال أبو البقاء : «هذا تكرير للتوكيد ؛ لأنه قد سبق هذا المعنى في الآية التي قبلها».

ويحتمل أن تكون للتأسيس ؛ لاختلاف متعلّقها ومتعلّق ما قبلها.

قال أبو حيّان : قوله : (وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) للتأسيس ، لا للتوكيد لاختلاف متعلقها لقوله : (قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) وتكون هذه الآية هي (إِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ ،) لأن هذا القول شاهد على صحة رسالته ؛ إذ جميع الرّسل كانوا عليه لم يختلفوا فيه ، وجعل هذا القول آية وعلامة ؛ لأنه رسول كسائر الرّسل ؛ حيث هداه للنظر في أدلّة العقل والاستدلال قاله الزمخشريّ ، [وهو صحيح](١).

وقال : (فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ) لأن طاعة الرسول من لوازم تقوى الله.

وقوله : (إِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ) قراءة العامة بكسر همزة «إن» على الإخبار المستأنف ؛ وهذا ظاهر على قولنا : إن (جِئْتُكُمْ) تأكيد.

أما إذا جعلناه تأسيسا ، وجعلت الآية هي قوله : (إِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ) ـ بالمعنى المذكور أولا ـ فلا يصح الاستئناف ، بل يكون الكسر على إضمار القول ، وذلك القول بدل من الآية ، كأن التقدير : وجئتكم بآية من ربكم قولي : (إِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ ،) ف «قولي» بدل من آية ، و «إنّ» وما في حيّزها معمول «قولي» ، ويكون قوله : (فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ) اعتراضا بين البدل والمبدل منه.

وقرىء بفتح الهمزة (٢) ، وفيه أوجه :

أحدها : أنه بدل من «آية» ، كأن التقدير : وجئتكم بأن الله ربي وربكم ، أي : جئتكم بالتوحيد.

وقوله : (فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ) اعتراض أيضا.

الثاني : أن ذلك على إضمار لام العلة ، ولام العلة متعلقة بما بعدها من قوله (فَاعْبُدُوهُ)، والتقدير : فاعبدوه لأن الله ربي وربكم كقوله : (لِإِيلافِ قُرَيْشٍ) [قريش : ١] إلى أن قال : (فَلْيَعْبُدُوا) إذ التقدير فليعبدوا ، لإيلاف قريش ، وهذا عند سيبويه وأتباعه ـ ممنوع ؛ لأنه متى كان المعمول أنّ وصلتها يمتنع تقديمها على عاملها لا يجيزون : أنّ زيدا منطلق عرفت ـ تريد عرفت أن زيدا منطلق ـ للفتح اللفظي ، إذ تصدّرها ـ لفظا ـ يقتضي كسرها.

الثالث : أن يكون على إسقاط الخافض ـ وهو على ـ و «على» يتعلق بآية بنفسها ، والتقدير : وجئتكم بآية على أن الله ، كأنه قيل : بعلامة ودلالة على توحيد الله ـ تعالى ـ

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) انظر : الكشاف ١ / ٣٦٥ ، والمحرر الوجيز ١ / ٤٤١ ، والبحر المحيط ٢ / ٤٩١ والدر المصون ٢ / ١١١.

٢٥٥

قاله ابن عطيّة ، وعلى هذا فالجملتان الأمريّتان اعتراض ـ أيضا ـ وفيه بعد.

قوله : (هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) «هذا» إشارة إلى التوحيد المدلول عليه بقوله (إِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ) أو إلى نفس (إِنَّ اللهَ) باعتبار هذا اللفظ هو الصراط المستقيم.

قوله تعالى : (فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ آمَنَّا بِاللهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (٥٢) رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ (٥٣) وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (٥٤) إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٥٥) فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٥٦) وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (٥٧) ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ)(٥٨)

الإحساس : الإدراك ببعض الحواسّ الخمس وهي الذوق والشمّ واللمس والسمع والبصر ـ يقال : أحسست بالشيء وبالشيء وحسسته وحسست به ، ويقال : حسيت ـ بإبدال سينه الثانية ياء ـ وأحست بحذف أول سينيه ـ.

قال الشاعر : [الوافر]

١٤٨٦ ـ سوى أنّ العتاق من المطايا

أحسن به فهنّ إليه شوس (١)

قال سيبويه : ومما شذّ من المضاعف ـ يعني في الحذف ـ فشبيه بباب أقمت ، وليس وذلك قولهم أحست وأحسن ـ يريدون : أحسست وأحسسن ، وكذلك تفعل به في كل بناء يبنى الفعل فيه ولا تصل إليه الحركة ، فإذا قلت : لم أحس ، لم تحذف.

وقيل : الإحساس : الوجود والرؤية ، يقال : هل أحسست صاحبك ـ أي : وجدته ، أو رأيته؟

قال أبو العباس المقرىء : ورد لفظ «الحسّ» في القرآن على أربعة أضرب :

الأول : بمعنى الرؤية ، قال تعالى : (فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ) [آل عمران : ٥٢] وقوله تعالى : (فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا) أي رأوه. وقوله : (هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ) [مريم : ٩٨] أي : هل ترى منهم؟

الثاني : بمعنى القتل ، قال تعالى : (إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ) [آل عمران : ١٥٢] أي :

__________________

(١) البيت لأبي زبيد الطائي. ينظر ديوانه ص ٩٦ وسمط اللآلىء ص ٤٣٨ واللسان (حسس) والمحتسب ١ / ١٢٣ والمنصف ٣ / ٨٤ والإنصاف ١ / ٢٧٣ والخصائص ٢ / ٤٣٨ وشرح المفصل ١٠ / ١٥٤ ومجالس ثعلب ٢ / ٤٨٦ والمقتضب ١ / ٢٤٥ والدر المصون ١ / ١١٢.

٢٥٦

تقتلونهم.

الثالث : بمعنى البحث ، قال تعالى : (فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ)[يوسف : ٨٧].

الرابع : بمعنى الصوت ، قال تعالى : (لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها) [الأنبياء : ١٠٢] أي: صوتها.

قوله : (مِنْهُمُ) فيه وجهان :

أحدهما : أن يتعلق ب «أحسّ» و «من» لابتداء الغاية أي : ابتداء الإحساس من جهتهم.

الثاني : أنه متعلق بمحذوف ، على أنه حال من الكفر ، أي : أحس الكفر حال كونه صادرا منهم.

فصل

في هذا الإحساس وجهان :

أحدهما : أنهم تكلّموا كلمة الكفر فأحسّوا ذلك بإذنه.

والثاني : أن يحمل على التأويل ، وهو أنه عرف منهم إصرارهم على الكفر وعزمهم على قتله ، ولما كان ذلك العلم علما لا شبهة فيه ، مثل العلم الحاصل من الحواس ـ لا جرم ـ عبر عنه بالإحساس ، واختلفوا في السبب الذي ظهر فيه كفرهم على وجوه :

أحدها : قال السّدّيّ : إنه ـ تعالى ـ لما بعثه إلى بني إسرائيل ، ودعاهم إلى دين الله تعالى فتمردوا وعصوا ، فخافهم واختفى عنهم.

وقيل : نفوه وأخرجوه ، فخرج هو وأمّه يسيحان في الأرض ، فنزلا في قرية على رجل ، فأضافهم ، وأحسن إليهم ، وكان بتلك المدينة ملك جبّار ، فجاء ذلك الرجل يوما حزينا ، مهتمّا ، ومريم عند امرأته ، فقالت مريم ما شأن زوجك؟ أراه كئيبا؟ قالت : لا تسأليني. فقالت : أخبريني ، لعل الله يفرّج كربته ، قالت : إن لنا ملكا يجعل على كل رجل منا يطعمه ويطعم جنوده ، ويسقيهم الخمر ، فإن لم يفعل ، عاقبه ، واليوم نوبتنا ، وليس لذلك عندنا سعة ، قالت : فقولي له : لا يهتم ؛ فإني آمر ابني فيدعو له ، فيكفى ذلك. فقالت مريم لعيسى يا ولدي ادع الله أن يكفيه ذلك ، فقال : يا أمّه ، إن فعلت ذلك كان فيه شر فقالت : قد أحسن إلينا وأكرمنا ، فقال عيسى : قولي له إذا قرب مجيء الملك فاملأ قدورك وجوابيك [ماءا] ثم أعلمني. ففعل ذلك ، فدعا الله تعالى ـ فتحوّل ما في القدور طبيخا ، وما في الجوابي خمرا ، لم يرى الناس مثله ، فلما جاء الملك أكل ، فلما شرب الخمر ، قال : من أين هذا الخمر؟ قال : من أرض كذا ، قال الملك : إن خمري من تلك الأرض وليست مثل هذه قال : هذه من أرض أخرى ، فلما خلط على الملك ، واشتد عليه ، قال : أنا أخبرك ، عندي غلام لا يسأل الله شيئا إلا أعطاه وإنه دعا الله فجعل الماء خمرا وكان للملك ابن يريد أن يستخلفه ، فمات قبل ذلك بأيام ـ وكان أحبّ الخلق إليه ـ فقال : إنه رجل دعا الله حتى جعل الماء خمرا ليستجابنّ له حتى يحيي ابني ، فدعا عيسى

٢٥٧

فكلمه في ذلك فقال عيسى : لا تفعل فإنه إن عاش وقع الشر فقال : ما أبالي ما كان ـ إذا رأيته ـ قال عيسى : فإن أحييته تتركني وأمي نذهب حيث شئنا؟ قال : نعم. فدعا الله تعالى ـ فعاش الغلام ، فلما رآه أهل مملكته قد عاش تنادوا بالسلاح وقالوا : أكلنا هذا ، حتى إذا دنا موته يريد أن يستخلف علينا ابنه فيأكلنا كما أكلنا أبوه؟ فاقتتلوا. وذهب عيسى وأمّه فمروا بالحواريّين ـ وهم يصطادون السمك ـ فقال ما تصنعون؟ قالوا : نصطاد السمك ، قال : أفلا تمشون حتى تصطادوا الناس؟ قالوا : من أنت؟ قال : عيسى ابن مريم ، عبد الله ورسوله ، (مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ؟) فآمنوا به وانطلقوا معه وصار أمر عيسى مشهورا في الخلق ، فقصد اليهود قتله ، وأظهروا الطعن فيه (١).

وثانيها : أن اليهود كانوا عارفين بأنه المسيح المبشّر به في التوراة ، وأنه ينسخ دينهم ، فكانوا هم أوّل طاعنين فيه ، طالبين قتله ، فلما أظهر الدعوة ، اشتد غضبهم ، وأخذوا في إيذائه وطلبوا قتله.

وثالثها : أن عيسى ـ عليه‌السلام ـ ظنّ من قومه الذين دعاهم إلى الإيمان أنهم لا يؤمنون به ، وأن دعوته لا تنجع فيهم ، فأحب أن يمتحنهم ، ليتحقق ما ظنه بهم ، فقال لهم : (مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ) فما أجابه إلا الحواريّون ، فعند ذلك أحس بأن من سوى الحواريين كافرون ، مصرون على إنكار دينه ، وطلب قتله.

قوله : (مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ؟) «أنصار» جمع نصير نحو شريف وأشراف.

وقال قوم : هو جمع نصر المراد به المصدر ، ويحتاج إلى حذف مضاف أي من أصحاب نصرتي؟ و «إلى» على بابها ، وتتعلق بمحذوف ؛ لأنها حال ، تقديره : من أنصاري مضافين إلى الله ، كذا قدره أبو البقاء.

وقال قوم إن «إلى» بمعنى مع أي : مع الله ، قال الفرّاء : وهو وجه حسن. وإنما يجوز أن تجعل «إلى» في موضع «مع» إذا ضممت الشيء إلى الشيء مما لم يكن معه ، كقول العرب : الذود إلى الذّود إبل ، أي : مع الذود. بخلاف قولك : قدم فلان ومعه مال كثير ، فإنه لا يصلح أن يقال : وإليه مال ، وكذا قوله : قدم فلان مع أهله ، ولو قلت إلى أهله لم يصح ، وجعلوا من ذلك أيضا قوله : (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ) [النساء : ٢].

وقد رد أبو البقاء كونها بمعنى : «مع» فقال : [وقيل : هي بمعنى : «مع»](٢) وليس بشيء ؛ فإن «إلى» لا تصلح أن تكون بمعنى «مع» ولا قياس يعضّده.

وقيل : إن «إلى» بمعنى اللام أي من أنصاري لله؟ كقوله : (يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ) ، كذا

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٤٤٥ ـ ٤٤٦) مطولا عن السدي.

(٢) سقط في أ.

٢٥٨

قدره الفارسي.

وقيل : ضمّن أنصاري معنى الإضافة ، أي : من يضيف نفسه إلى الله في نصرتي ، فيكون «إلى الله» متعلقا بنفس «أنصاري».

وقيل : متعلق بمحذوف على أنه حال من الياء في «أنصاري» أي : من أنصاري ذاهبا إلى الله ملتجئا إليه ، قاله الزمخشريّ.

وقيل : التقدير : من أنصاري إلى أن أبيّن أمر الله ، وإلى أن أظهر دينه ، ويكون «إلى» هاهنا غاية ؛ كأنه أراد : من يثبت على نصرتي إلى أن تتم دعوتي ، ويظهر أمر الله؟

وقيل : المعنى : من أنصاري فيما يكون قربة إلى الله ووسيلة إليه؟

وفي الحديث : أنه ـ عليه‌السلام ـ كان يقول ـ إذا ضحّى ـ : «اللهمّ منك وإليك» (١) أي تقرّبنا إليك.

وقيل : «إلى» بمعنى : «في» تقديره : من أنصاري في سبيل الله؟ قاله الحسن.

فصل

والحواريون ، جمع حواري ، وهو النّاصر ، وهو مصروف ـ وإن ماثل «مفاعل» ؛ لأن ياء النسب فيه عارضة ومثله حواليّ ـ وهو المحتال ـ وهذا بخلاف : قماريّ وبخاتيّ ، فإنهما ممنوعان من الصرف ، والفرق أن الياء في حواريّ وحواليّ ـ عارضة ، بخلافها في قماري وبخاتيّ فإنها موجودة ـ قبل جمعهما ـ في قولك قمريّ وبختيّ. والحواريّ : الناصر ـ كما تقدم ـ ويسمّى كل من تبع نبيا ونصره : حواريا ؛ تسمية له باسم أولئك ؛ تشبيها بهم ، وفي الحديث عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الزبير : «ابن عمتي وحواريّ أمتي» وفيه أيضا ـ «إنّ لكل نبي حواريّا وحواريي الزّبير» (٢) ، وقال معمر قال قتادة : إن الحواريّين كلهم من قريش : أبو بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعلي ، وحمزة ، وجعفر ، وأبو عبيدة بن الجراح ، وعثمان بن مظعون وعبد الرحمن بن عوف ، وسعد بن أبي وقّاص وطلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام (٣) ـ رضي الله عنهم أجمعين. وقيل : الحواريّ : هو صفوة الرجل وخالصته واشتقاقه من جرت الثوب ، أي : أخلصت بياضه بالغسل ، ومنه سمّي القصّار

__________________

(١) أخرجه الحاكم في «المستدرك» (١ / ٤٦٧) وأبو نعيم في «الحلية» (٨ / ١٧٨).

وقال الحاكم : صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.

(٢) أخرجه البخاري كتاب الجهاد والسير باب فضل الطليعة رقم (٢٨٤٦) ، كتاب الجهاد والسير باب سير الرجل وحده بالليل رقم (٢٩٩٧) كتاب المناقب باب مناقب الزبير رقم (٣٧١٩) ، وكتاب المغازي باب غزوة الخندق رقم (٤١١٣) والترمذي (٣٧٤٤) وأحمد (٣ / ٣١٤) وأبو نعيم في «الحلية» (٤ / ١٨٦) والبيهقي في «دلائل النبوة» (٣ / ٤٣١) عن جابر بن عبد الله.

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٦٣) وزاد نسبته لابن المنذر.

(٣) ذكره البغوي في «تفسيره» ١ / ٣٠٦.

٢٥٩

حواريا ؛ لتنظيفه الثياب ، وفي التفسير : إن أتباع عيسى كانوا قصارين (١).

قال أبو عبيدة : سمي أصحاب عيسى الحواريون للبياض وكانوا قصارين.

وقال الفرزدق : [البسيط]

١٤٨٧ ـ فقلت : إنّ الحواريّات معطبة

إذا تفتّلن من تحت الجلابيب (٢)

يعني النساء ؛ لبياضهن وصفاء لونهن ـ ولا سيما المترفّهات ـ يقال لهن : الحواريات ، ولذلك قال الزّمخشريّ : وحواري الرّجل : صفوته وخالصته ، ومنه قيل للحضريات : الحواريات ؛ لخلوص ألوانهن ونظافتهن.

[وأنشد لأبي حلزة اليشكري](٣) : [الطويل]

١٤٨٨ ـ فقل للحواريّات : يبكين غيرنا

ولا تبكنا إلا الكلاب النوابح (٤)

ومنه سميت الحور العين ؛ لبياضهن ونظافتهن ، والاشتقاق من الحور ، وهو تبيض الثياب وغيرها :

وقال الضّحّاك : هم الغسّالون وهم بلغة النبط ـ هواري ـ بالهاء مكان الحاء ـ.

قال ابن الأنباري : فمن قال بهذا القول قال : هذا حرف اشتركت فيه لغة العرب ولغة النبط وهو قول مقاتل بن سليمان إن الحواريين هم القصارون.

وقيل : «هم المجاهدون» كذا نقله ابن الأنباريّ.

وأنشد : [الطويل]

١٤٨٩ ـ ونحن أناس تملأ البيض هامنا

ونحن الحواريّون يوم نزاحف

جماجمنا يوم اللّقاء تروسنا

إلى الموت نمشي ليس فينا تجانف (٥)

قال الواحديّ : والمختار ـ من هذه الأقوال عند أهل اللغة ـ أن هذا الاسم لزمهم للبياض ثم ذكر ما تقدم عن أبي عبيدة.

وقال الراغب : حوّرت الشيء : بيّضته ودوّرته ، ومنه الخبز الحوّارى ، والحواريّون : أنصار عيسى.

__________________

(١) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٦٣) وعزاه لعبد بن حميد عن الحضاك. والقصار والمقصر : المحور للثياب لأنه يدقها بالقصرة التي هي القطعة من الخشب وحرفته القصارة (اللسان : قصر).

(٢) ينظر البيت في ديوانه (١ / ٥٢٤) واللسان (حور) والدر المصون ٢ / ١١٣.

(٣) في ب : قال الشاعر.

(٤) ينظر البيت في المؤتلف والمختلف (٧٩) ومعاني الزجاج ١ / ٤٢٣ ومجاز القرآن ١ / ٩٥ والجمهرة ١ / ٣٣٠ ، ٢ / ١٤٦ وجامع البيان ٦ / ٤٥١ والكشاف ١ / ٤٣٢ والبحر ٢ / ٤٩٣ والدر المصون ٢ / ١١٣.

(٥) ينظر البيتان في زاد المسير ١ / ٤١٠ والدر المصون ٢ / ١١٣.

٢٦٠