اللّباب في علوم الكتاب - ج ٥

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ٥

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 2-7451-2298-3
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٦٣٢

عدا الجدّة ، وقد قضى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بابنة حمزة لجعفر ـ وكانت خالتها عنده ـ وقال : «الخالة بمنزلة الأمّ».

قوله تعالى : (وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ) في هذا الظرف أوجه :

أحدها : أن يكون منتصبا ب «يختصمون».

الثاني : أنه بدل من «إذ يختصمون» وهو قول الزجاج.

وفي هذين الوجهين بعد ؛ حيث يلزم اتحاد زمان الاختصام ، وزمان قول الكلام ، ولم يكن ذلك ؛ لأن وقت الاختصام كان صغيرا جدّا ، ووقت قول الملائكة بعد ذلك بأحيان.

قال الحسن : إنها كانت عاقلة في حال الصّغر ، وإن ذلك كان من كراماتها. فإن صحّ ذلك صحّ الاتحاد ، وقد استشعر الزمخشريّ هذا السؤال ، فأجاب بأن الاختصام والبشارة وقعا في زمان واسع ، كما تقول : لقيته سنة كذا ، يعني أن اللقاء إنما يقع في بعض السنة فكذا هذا.

الثالث : أن يكون بدلا من (وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ) ـ أولا ـ وبه بدأ الزمخشريّ ـ كالمختار له ـ وفيه بعد لكثرة الفاصل بين البدل والمبدل منه.

الرابع : نصبه بإضمار فعل.

الخامس : قال أبو عبيدة : «إذ ـ هنا ـ صلة زائدة». والمراد بالملائكة هنا : جبريل عليه‌السلام لما قررناه وقد تقدم الكلام في البشارة.

فصل

قال القرطبيّ : «قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ) دليل على نبوتها مع ما تقدم من كونها أفضل نساء العالمين ، وأن الملائكة قد بلّغتها الوحي عن الله ـ عزوجل ـ بالتكليف والإخبار والبشارة كما بلّغت سائر الأنبياء ، فهي إذا نبيّة ، والنبيّ أفضل من الوليّ». وقال ابن الخطيب : ذلك كرامة لها ؛ إذ ليست نبية ؛ لاختصاص النبوة بالرجال ، وقال جمهور المعتزلة ؛ ذلك معجزة لعيسى ـ عليه‌السلام ـ.

قال ابن الخطيب : وهو عندنا إرهاص لعيسى ، أو كرامة لمريم.

قوله : (بِكَلِمَةٍ مِنْهُ) في محل جر ؛ صفة ل «كلمة» و «من» ليست للتبعيض ؛ إذ لو كان كذلك ، لكان الله ـ تعالى ـ متبعّضا متجزّئا ـ تعالى الله عن ذلك ـ بل لابتداء الغاية ؛ لأن كلمة الله مبدأ لظهوره وحدوثه ، والمراد بالكلمة ـ هنا ـ عيسى ـ لوجوده بها وهو قوله : كن فهو من باب إطلاق السبب على المسبّب.

فإن قيل : أليس كل مخلوق ، فهو يخلق بهذه الكلمة؟

٢٢١

فالجواب : نعم ، إلا أن ما هو السبب المتعارف كان مفقودا في حق عيسى ـ عليه‌السلام ـ فكان إضافة حدوثه إلى الكلمة أكمل وأتم ، فجعل هذا التأويل كأنه نفس الكلمة ، كمن غلب عليه الجود والكرم يقال على سبيل المبالغة ـ : إنه نفس الجود ومحض الكرم ، فكذا ها هنا.

وأيضا فإن السلطان قد يوصف بأنه ظلّ الله ، ونور الله ـ إذا أظهر لهم ظل العدل ، ونور الإحسان ، فكذا عيسى ـ عليه‌السلام ـ لما كان سببا لظهور كلام الله ـ تعالى ـ بكثرة بياناته ، وإزالة الشبهات والتحريفات عنه ، فسمّي بكلمة الله على هذا التأويل.

فصل

حدوث الولد من غير نطفة الأب ممكن ، أما على أصول المسلمين ، فظاهر ؛ لأنّ الله تعالى قادر على كل الممكنات ، وإذا خلق آدم من غير أمّ ولا أب ، فخلقه عيسى ـ عليه‌السلام ـ من غير أب أولى ، وأما على أصول الفلاسفة فإنهم اتفقوا على أنه لا يمتنع حدوث الإنسان على سبيل التولّد ؛ لامتزاج العناصر الأربعة على القدر الذي يناسب بدن الإنسان ، وعند امتزاجها يجب حدوث الكيفية المزاجية ، وعند حصول الكيفية المزاجية ، يجب تعلّق النفس ، فثبت أن حدوث الإنسان ـ على سبيل التولد ـ معقول ممكن ، وأيضا إنا نشاهد حدوث كثير من الحيوانات على سبيل التولد ـ كتولّد الفأر عن المدر ، والحيّات عن الشعر ، والعقارب عن الباذروج ـ وإذا كان كذلك فتولّد الولد لا عن أب أولى ألا يكون ممتنعا. وأيضا ، فإن التخيّلات الذهنية كثيرا ما تكون أسبابا لحدوث الحوادث الكثيرة كما أن تصور حدوث المنافي ، يوجب حصول كيفية الغضب ، ويوجب حصول السخونة الشديدة في البدن ، وكما أن اللوح الطويل إذا كان موضوعا على الأرض ، قدر الإنسان على المشي عليه ، ولو جعل كالقنطرة على وهدة لم يقدر على المشي عليه ، بل كلما يمشي سقط ، وما ذاك إلا لأن تصور السقوط يوجب حصول السقوط ، وقد ذكر الفلاسفة أمثلة كثيرة لهذا الباب ، فما المانع أن يقال : إنها لما تخيلت صورة جبريل عليه‌السلام [كفى ذلك في علوق](١) الولد في رحمها ، وإذا كانت هذه الوجوه ممكنة كان القول بحدوث عيسى ـ من غير أب ـ غير ممتنع.

قوله : (اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى) اسمه مبتدأ ، والمسيح خبره ، وعيسى بدل منه ، أو عطف بيان.

قال أبو البقاء : «ولا يجوز أن يكون خبرا آخر ؛ لأن تعدد الأخبار يوجب تعدد المبتدأ ، والمبتدأ مفرد ـ وهو قوله : اسمه ـ ولو كان «عيسى» خبرا آخر لكان أسماؤه أو أسماؤها ـ على تأنيث الكلمة» وأما من يجيز ذلك فقد أعرب «عيسى» خبرا ثانيا ، وأعربه

__________________

(١) في أ : إن حصل.

٢٢٢

بعضهم خبر مبتدأ محذوف ـ أي : هو عيسى.

ويجوز على هذا الوجه وجه رابع ، وهو النّصب بإضمار أعني ؛ لأن كل ما جاز قطعه رفعا جاز قطعه نصبا ، والألف واللام في المسيح للغلبة كهي في الصعق والعيّوق وفيه وجهان :

أحدهما : أنه فعيل بمعنى فاعل ، فحوّل منه مبالغة.

قيل : لأنه يمسح الأرض بالسياحة ، أي : يقطعها ومنه : مسح القسام الأرض وعلى هذا المعنى يجوز أن يقال لعيسى : مسّيح ـ بالتشديد ـ على المبالغة ، كما يقال : رجل شريب.

وقيل : لأنه يمسح ذا العاهة فيبرأ ـ قاله ابن عباس.

وقيل : كان يمسح رأس اليتيم (١).

وقيل : يلبس المسح فسمي بما يئوب إليه.

وقيل : إنه فعيل بمعنى مفعول ؛ لأنه مسح بالبركة (٢).

وقيل لأنه مسح من الأوزار والآثام (٣) ، أو لأنه مسيح القدم لا أخمص له (٤).

قال الشاعر : [الرجز]

١٤٦٠ ـ بات يقاسيها غلام كالزّلم

مدملج السّاقين ممسوح القدم (٥)

أو لمسح وجهه بالملاحة ، قال : [الطويل]

١٤٦١ ـ على وجه ميّ مسحة من ملاحة

 .......... (٦)

أو لأنه كان ممسوحا بدهن طاهر مبارك ، تمسح به الأنبياء ، ولا يمسح به غيرهم ، قالوا : وهذا الدهن من مسح به وقت الولادة فإنه يكون نبيّا ، أو لأنه مسحه جبريل بجناحه

__________________

(١) ذكره الرازي في «التفسير الكبير» (٨ / ٤٤).

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٤١٤) عن سعيد بن جبير.

(٣) ذكره الرازي في «التفسير الكبير» (٨ / ٤٤).

(٤) انظر المصدر السابق.

(٥) البيت لشريح بن شرحبيل ونسب للأغلب العجلي ونسب للأخفش بن شهاب ونسب لرشيد بن رميض ينظر تفسير الطبري ٩ / ٤٧٣ وزاد المسير ٢ / ٢٧١ والصحاح ٥ / ١٩٤٣ والبحر المحيط ٢ / ٤٦٠ وتاج العروس ٨ / ٣٢٧ والدر المصون ٢ / ٩٤.

(٦) صدر بيت لذي الرمة وعجزه :

وتحت الثياب الخزي إن كان باديا

ينظر ديوانه ٣ / ١٩٢١ والخزانة ١ / ٥٢ والأغاني ١٦ / ١٢٠ وأمالي الزجاجي (٥٧) والشعر والشعراء ١ / ٥٣٤ والتهذيب ٤ / ٣٤٩ ومعاهد التنصيص ٣ / ٢٦١ والدر المصون ٢ / ٩٤.

٢٢٣

وقت الولادة ؛ صونا له عن مسّ الشيطان. أو لأنه خرج من بطن أمه ممسوحا بالدّهن.

والثاني : أنّ وزنه مفعل ـ من السياحة ـ وعلى هذا تكون الميم فيه زائدة ، وعلى هذا كلّه ، فهو منقول من الصفة.

وقال أبو عمرو بن العلاء : المسيح : الملك.

وقال النّخعيّ : المسيح : الصديق. ويكون المسيح بمعنى : الكذّاب ، وبه سمّي الدجال ، والحرف من الأضداد.

وسمي الدجّال مسيحا لوجهين.

أحدهما : أنه ممسوح إحدى العينين.

الثاني : أنه يمسح الأرض ـ أي يقطعها ـ في المدة القليلة ، قالوا : ولهذا قيل له : دجّال ؛ لضربه الأرض ، وقطعه أكثر نواحيها. يقال : قد دجل الرجل ـ إذا فعل ذلك.

وقيل : سمّي دجّالا من دجّل الرجل إذا موّه ولبّس.

قال أبو عبيد واللّيث : أصله ـ بالعبرانية ـ مشيحا ، فغيّر.

قال أبو حيان : «فعلى هذا يكون اسما مرتجلا ، ليس مشتقا من المسح ، ولا من السياحة».

قال شهاب الدين : «قوله : ليس مشتقا صحيح ، ولكن لا يلزم من ذلك أن يكون مرتجلا ولا بد ، لاحتمال أن يكون في لغتهم منقولا من شيء عندهم».

وعيسى أصله : يسوع ، كما قالوا في موسى : أصله موشى ، أو ميشا ـ بالعبرانية.

فيكون من الاشتقاق الأوسط لأنه يشترط فيه وجود الحروف لا ترتيبها ، والأكبر يشترط فيه أن يكون في الفرع حرفان ، والأصغر يشترط فيه أن يكون في الفرع حروف الأصل مرتّبة.

وعيسى اسم أعجمي ، فلذلك لم ينصرف ـ في معرفة ولا نكرة ـ لأنّ فيه ألف تأنيث ، ويكون مشتقا من عاسه يعوسه ، إذا ساسه وقام عليه.

وأتى الضمير مذكّرا في قوله : «اسمه» وإن كان عائدا على الكلمة ؛ مراعاة للمعنى ؛ إذا المراد بها مذكّر.

وقيل ـ في الدّجّال ـ : مسّيح ـ بكسر الميم وشد السين ، وبعضهم يقوله كذا بالخاء المعجمة ، وبعضهم يقوله بفتح الميم والخاء المعجمة ـ مخفّفا ـ والأول هو المشهور ؛ لأنه يمسح الأرض ـ أي : يطوفها ـ ويدخل جميع بلدانها إلا مكة والمدينة وبيت المقدس ، فهو فعيل بمعنى فاعل. والدّجّال يمسح الأرض محنة وابن مريم يمسحها منحة. وإن كان سمّي مسيحا ؛ لأنه ممسوح العين فهو فعيل بمعنى مفعول.

٢٢٤

قال الشاعر : [الرجز]

١٤٦٢ ـ ............

إذا المسيح يقتل المسيحا (١)

فصل

«ابن مريم» يجوز أن يكون صفة ل «عيسى» قال ابن عطية : وعيسى خبر لمبتدأ محذوف ، ويدعو إلى هذا كون قوله : «ابن مريم» صفة لعيسى ؛ إذ قد أجمع الناس على كتبه دون ألف. وأما على البدل ، أو عطف البيان فلا يجوز أن يكون «ابن مريم» صفة ل «عيسى» لأن الاسم ـ هنا ـ لم يرد به الشخص. هذه النزعة لأبي علي. وفي صدر الكلام نظر. انتهى.

قال شهاب الدّين : «فقد حتّم كونه صفة ؛ لأجل كتبه بغير ألف ، وأما على البدل ، أو عطف البيان فلا يكون «ابن مريم» صفة ل «عيسى» يعني : بدل عيسى من المسيح ، فجعله غير صفة له مع وجود الدليل الذي ذكره ، وهو كتبه بغير ألف».

وقد منع أبو البقاء أن يكون «ابن مريم» بدلا أو صفة ل «عيسى» قال : لأن «ابن مريم» ليس بالاسم ألا ترى أنك لا تقول : اسم هذا الرجل ابن عمرو ـ إلا إذا كان قد علّق علما عليه».

قال شهاب الدين : «وهذا التعليل الذي ذكره إنما ينهض دليلا في عدم كونه بدلا ، وأما كونه صفة ، فلا يمنع ذلك ، بل إذا كان اسما امتنع كونه صفة ؛ إذ يصير في حكم الأعلام ، وهي لا يوصف بها ، ألا ترى أنك إذا سميت رجلا ب «ابن عمرو» امتنع أن يقع «ابن عمرو» صفة والحالة هذه».

قال الزمخشريّ : «فإن قلت : لم قيل : (اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ) وهذه ثلاثة أشياء ، الاسم عيسى ، وأما المسيح والابن فلقب ، وصفة؟

قلت : الاسم للمسمّى يعرف بها ، ويتميّز من غيره ، فكأنه قيل : الذي يعرف به ويتميز ممن سواه مجموع هذه الألفاظ الثلاثة».

فظهر من كلامه أن مجموع الألفاظ الثلاثة أخبار عن اسمه ، بمعنى أنّ كلّا منها ليس مستقلا بالخبريّة ، بل هو من باب : هذا حلو حامض [وهذا أعسر يسرا](٢).

ونظيره قول الشاعر : [الخفيف]

١٤٦٣ ـ كيف أصبحت كيف أمسيت ممّا

يزرع الودّ في فؤاد الكريم (٣)

__________________

(١) ينظر : مجمع البيان ٣ / ٨٠ ، واللسان (مسح) ، وتهذيب اللغة ٤ / ٣٤٧ ، والقرطبي ٤ / ٨٩.

(٢) سقط في ب.

(٣) ينظر : الخصائص ١ / ٢٩٠ ، ٢ / ٢٨٠ ، والدرر ٦ / ١٥٥ ، والأشباه والنظائر ٨ / ١٣٤ ، وشرح الأشموني ٢ / ٤٣١ ، وشرح عمدة الحافظ ص ٦٤١ ، وديوان المعاني ٢ / ٢٢٥ ، وهمع الهوامع ٢ / ١٤٠ ، ورصف المباني ص ٤١٤ ، والدر المصون ٢ / ٩٥.

٢٢٥

أي مجموع كيف أصبحت ، وكيف أمسيت.

فكما جاز تعدّد المبتدأ لفظا ـ من غير عاطف ـ والمعنى على المجموع ، فكذلك في الخبر.

وقد أنشدوا عليه أبياتا كقوله : [الرجز]

١٤٦٤ ـ من يك ذا بتّ فهذا بتّي

مقيّظ ، مصيّف ، مشتّي (١)

وقد زعم بعضهم أن «المسيح» ليس باسم لقب له ، بل هو صفة كالضّارب والظريف ، قال : وعلى هذا ففي الكلام تقديم وتأخير ؛ إذ «المسيح» صفة ل «عيسى» والتقدير : اسمه عيسى المسيح». وهذا لا يجوز أعني : تقديم الصفة على الموصوف ـ لكنه يعني : أنه صفة له في الأصل ، والعرب إذا قدّمت ما هو صفة في الأصل جعلوه مبينا على العامل قبله ، وجعلوا الموصوف بدلا من صفته في الأصل ، نحو قوله : [الرجز]

١٤٦٥ ـ وبالطّويل العمر عمرا حيدرا

 .......... (٢)

الأصل : وبالعمر الطويل ، هذا في المعارف ، وأما في النّكرات ، فينصبون الصفة حالا.

وقال أبو حيّان : «ولا يصح أن يكون «المسيح» ـ في هذا التّركيب ـ صفة ؛ لأن المخبر به ـ على هذا لفظ «عيسى» والمسيح من صفة المدلول ، لا من صفة الدّالّ ؛ إذ لفظ «عيسى» ليس المسيح».

ومن قال : إنهما اسمان ، قال : تقدّم المسيح على عيسى ؛ لشهرته.

قال ابن الأنباريّ : وإنما بدأ بلقبه ؛ لأن المسيح أشهر من عيسى ؛ لأنه قلّ أن يقع على سميّ ، فيشتبه به ، وعيسى قد يقع على عدد كثير ، فقدّمه لشهرته ، ألا ترى أن ألقاب الخلفاء أشهر من أسمائهم ، فهذا يدل على أن المسيح عند ابن الأنباري لقب ، لا اسم.

قال أبو إسحاق : «عيسى معرب من أيسوع ، وإن جعلته عربيا لم ينصرف في معرفة ولا نكرة ؛ لأن فيه ألف التأنيث ، ويكون مشتقا من عاسه يعوسه : إذا ساسه وقام عليه».

قال الزمخشريّ : «ومشتقّهما ـ يعني المسيح وعيسى ـ من المسح والعيس كالراقم على الماء» ، وقد تقدم الكلام على عيسى ومريم واشتقاقهما في سورة البقرة (٣).

وقوله : (وَجِيهاً) حال ، وكذلك قوله : (وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ) وقوله : (وَيُكَلِّمُ) وقوله : (مِنَ الصَّالِحِينَ) هذه أربعة أحوال انتصبت عن قوله : «بكلمة». وإنما ذكّر الحال ؛ حملا

__________________

(١) البيت لرؤبة ينظر ديوانه ص ١٨٩ والدرر ١ / ٨ ، والأشموني ١ / ٢٢٢ والكتاب ٢ / ٤. وابن يعيش ١ / ٩٩ والهمع ١ / ١٠٨ ومجاز القرآن ٢ / ٢٤٧ والإنصاف ٢ / ٧٢٥ والجمهرة ١ / ٢٢ والدر المصون ٢ / ٩٥.

(٢) تقدم.

(٣) آية ٨٧.

٢٢٦

على المعنى ؛ إذ المعنى المراد بها : الولد والمكوّن ، كما ذكّر الضمير في «اسمه».

فالحال الأولى جيء بها على الأصل ـ اسما صريحا ـ والباقية في تأويله. والثانية : جار ومجرور ، وأتى بها هكذا ؛ لوقوعها فاصلة في الكلام ، ولو جيء بها اسما صريحا ، لفات مناسبة الفواصل. والثالثة جملة فعليّة ، وعطف الفعل على الاسم ؛ لتأويله به ، وهو كقوله : (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ) [الملك : ١٩] ، أي : وقابضات ، ومثله في عطف الاسم على الفعل ؛ لأنه في تأويله ، قول النابغة : [الطويل]

١٤٦٦ ـ فألفيته يوما يبير عدوّه

ومجر عطاء يستحقّ المعابرا (١)

وقال الآخر : [الرجز]

١٤٦٧ ـ بات يغشّيها بعضب باتر

يقصد في أسوقها وجائر (٢)

والمعنى : مبيرا عدوه ، وقاصدا.

وجاء بالثالثة جملة فعلية ؛ لأنها في رتبتها ، إذ الحال وصف في المعنى ، وقد تقدم أنه إذا اجتمع صفات مختلفة في الصراحة والتأويل قدّم الاسم ، ثمّ الظرف ـ أو عديله ـ ثم الجملة. فكذا فعل هنا ، فقدم الاسم ـ وهو (وَجِيهاً ـ) ثم الجار والمجرور ، ثم الفعل ، وأتى به مضارعا ؛ لدلالته على التجدّد وقتا مؤقتا ، بخلاف الوجاهة ، فإنّ المراد ثبوتها واستقرارها ، والاسم متكفّل بذلك ، والجار قريب من المفرد ، فلذلك ثنّى به ، إذ المقصود ثبوت تقريبه.

والتضعيف في «المقرّبين» للتعدية ، لا للمبالغة ؛ لما تقدم من أن التضعيف للمبالغة لا يكسب الفعل مفعولا ، وهذا قد أكسبه مفعولا ـ كما ترى ـ بخلاف : قطّعت الأثواب ، فإنّ التعدي حاصل قبل ذلك.

وجيء بالرابعة ـ بقوله : (مِنَ الصَّالِحِينَ) مراعاة للفاصلة ، كما تقدم في «المقرّبين».

والمعنى : إنّ الله يبشّرك بهذه الكلمة موصوفة بهذه الصفات الجميلة.

ومنع أبو البقاء أن تكون أحوالا من «المسيح» أو من «عيسى» أو من «ابن مريم» قال : «لأنها أخبار ، والعامل فيها الابتداء ، أو المبتدأ ، أو هما ، وليس شيء من ذلك يعمل في الحال».

ومنع أيضا ـ كونها حالا من الهاء في «اسمه» قال : «للفصل الواقع بينهما ، ولعدم العامل في الحال».

__________________

(١) ينظر البيت في ديوانه ص ٧١ ، رصف المباني ص ٤١١ ، شرح ابن عقيل ص ٥٠٥ ، المقاصد النحوية ٤ / ١٧٦ والدر المصون ٢ / ٩٦.

(٢) ينظر الأشموني ٣ / ١٢٠ ومعاني الفراء ١ / ٢١٣ وابن الشجري ٢ / ١٦٧ والخزانة ٥ / ١٤٠ وشرح الكافية ١ / ٢٢٨ ومعاني الزجاج ١ / ٤١٧ والدر المصون ٢ / ٩٦.

٢٢٧

قال شهاب الدين (١) : «ومذهبه ـ أيضا ـ أنّ الحال لا يجيء من المضاف إليه ، وهو مراده بقوله : ولعدم العامل. وجاءت الحال من النكرة ؛ لتخصّصها بالصفة بعدها. وظاهر كلام الواحديّ ـ فيما نقله عن الفرّاء ـ أنّها يجوز أن تكون أحوالا من «عيسى» فإنّه قال : والقرّاء تسمّي هذا قطعا ، كأنه قال : عيسى ابن مريم الوجيه ، قطع منه التعريف. فظاهر هذا يؤذن بأنّ (وَجِيهاً) من صفة «عيسى» في الأصل ، فقطع عنه ، والحال وصف في المعنى».

والوجيه : ذو الجاه ، وهو القوة ، والمنعة ، والشرف.

وجمع «وجيه» وجهاء ، ووجاه ، يقال : وجه الرّجل يوجه وجاهة ، فهو وجيه ـ إذا صارت له منزلة رفيعة عند الناس.

وقال بعضهم : الوجيه : الكريم.

و «كهلا» من قولهم : اكتهلت الدوحة ، إذا عمّها النّور ـ والمرأة كهلة.

وقال الراغب : «والكهل : من وخطه الشّيب ، واكتهل النبات : إذا شارف اليبوسة مشارفة الكهل الشّيب».

وأنشد قول الأعشى ـ في وصف روضة بأكمل أحوالها ـ : [البسيط]

١٤٦٨ ـ يضاحك الشّمس منها كوكب شرق

مؤزّر بعميم النّبت مكتهل (٢)

وقد تقدم الكلام في تنقّل أحوال الولد من لدن كونه في البطن إلى شيخوخته ، عند ذكر «غلام».

وقال بعضهم : «ما دام في بطن أمّه ، فهو جنين ، فإذا ولد فوليد ، فإذا لم يستتمّ الأسبوع فصديغ ؛ وما دام يرضع فهو رضيع ، ثم هو فطيم ـ عند الفطام ـ وإذا لم يرضع ؛ فجحوش ، فإذا دبّ ونما : فدراج ، فإذا سقطت رواضعه فثغور ومثغور ، [فإذا نبتت أسنانه بعد السقوط فمتّغر ـ بالتاء والثاء](٣) ، فإذا جاوز العشر : فمترعرع ، وناشىء. فإذا راهق الحلم : فيافع ، ومراهق. فإذا احتلم فحزوّر. والغلام يطلق عليه في جميع أحواله بعد الولادة ، فإذا اخضر شاربه ، وسال عذاره : فباقل ، فإذا صار ذا لحية : ففتى وشارخ ، فإذا اكتملت لحيته ؛ فمجتمع ، ثم هو من الثلاثين إلى الأربعين شابّ ، ومن الأربعين إلى ستين كهل» ، ولأهل اللغة عبارات مختلفة في ذلك ، وهذا أشهرها.

فإن قيل : المستغرب إنما هو كلام الطفل في المهد ، وأما كلام الكهول فغير مستغرب.

__________________

(١) ينظر : الدر المصون ٢ / ٩٦.

(٢) ينظر البيت في ديوانه (٥٧) والمشكل (١٣٦) والصناعتين ٢١٢ واللسان (كهل) وأمالي المرتضى ١ / ٢٢١ والدر المصون ٢ / ٩٧.

(٣) سقط في أ.

٢٢٨

فالجواب من وجوه :

أحدها : قالوا : لم يتكلم صبيّ في المهد ، وعاش ، أو لم يتكلم أصلا ، بل يبقى أخرس أبدا ، فبشّر الله مريم بأن هذا يتكلم طفلا ، ويعيش حتى يكلم الناس في كهولته ، ففيه تطمين لخاطرها.

وثانيها : قال الزّمخشريّ وأبو مسلم : «يكلم الناس طفلا وكهلا ومعناه يتكلم في هاتين الحالتين كلام الأنبياء ، من غير تفاوت بين حال الطفولة وحال الكهولة».

وثالثها : يكلم الناس مرة واحدة في المهد ؛ لإظهار براءة أمّه ، ثم عند الكهولة يتكلم بالوحي والنبوة.

ورابعها : قال الأصمّ : المراد منه : بيان أنه يبلغ من [الصّبا ، إلى](١) الكهولة.

وخامسها : أنّ المراد منه الرد على وفد نجران في قولهم : إن عيسى كان إلها ، فإنه منقلب في الأحوال من الصّبا إلى الكهولة ، والتغيّر على الإله محال.

فإن قيل : قد نقل أن عمر عيسى ـ لما رفع ـ كان ثلاثا وثلاثين سنة وأشهرا ، وعلى هذا التقدير ، فلم يبلغ سنّ الكهولة.

فالجواب : قد بيّنّا أن الكهل ـ في اللّغة ـ عبارة عن الكامل التام ، وأكمل أحوال الإنسان ما بين الثلاثين إلى الأربعين ـ فصحّ وصفه بكونه كهلا.

وقال الحسين بن الفضل البجليّ : «ويكون كهلا بعد أن ينزل من السماء في آخر الزمان ، ويكلم الناس ، ويقتل الدّجّال ، قال : وفي الآية نص على أنه ـ عليه‌السلام ـ سينزل إلى الأرض».

و «وجيها» اشتقاقه من الوجه ؛ لأنه أشرف الأعضاء. والجاه مقلوب منه ، فوزنه «عفل».

قوله : (فِي الدُّنْيا) متعلق ب «وجيها» ؛ لما فيه من معنى الفعل ، ومعنى كونه (وَجِيهاً فِي الدُّنْيا) بسبب النبوة ، و «في الآخرة» بسبب علوّ المنزلة.

وقوله : (فِي الدُّنْيا) بأنه مستجاب الدعاء ، ويحيي الموتى ، ويبرىء الأكمه والأبرص بدعائه ، وفي الآخرة بأنه يشفع في المحقّين من أمته.

وقيل : في الدنيا ؛ لأنه مبرأ من العيوب التي وصفته اليهود بها ، وفي الآخرة بكثرة ثوابه وعلوّ درجته.

فإن قيل : كيف كان وجيها في الدنيا ، واليهود عاملوه بما عاملوه؟

والجواب : أنه ـ تعالى ـ سمّى موسى ـ عليه‌السلام ـ بالوجيه ، مع أن اليهود طعنوا

__________________

(١) في أ : حال.

٢٢٩

فيه ، وآذوه إلى أن برأه الله مما قالوا ، ولم يقدح ذلك في وجاهته ، فكذا هنا.

قوله : (وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ) قيل : كان هذا مدحا عظيما للملائكة ؛ لأنه ألحقه بمثل منزلتهم ، وهو دليل لمن جعل الملائكة أفضل.

وقيل : معناه : سيرفع إلى السماء بمصاحبة الملائكة.

وقيل : ليس كل وجيه في الآخرة يكون مقرّبا ؛ لأن أهل الجنة تتفاوت درجاتهم.

وقوله : (وَيُكَلِّمُ النَّاسَ) الواو للعطف على قوله : «وجيها» ، والتقدير : وجيها ومكلّما.

قال ابن الخطيب : وهذا عندي ضعيف ؛ لأن عطف الجملة الفعلية على الاسمية غير جائز إلا لضرورة [أو لفائدة](١) ، والأولى أن يقال : تقدير الآية : إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم ، الوجيه في الدنيا والآخرة ، المعدود من المقرّبين ، وهذا المجموع جملة واحدة ، ثم قال : (وَيُكَلِّمُ النَّاسَ). فقوله : (وَيُكَلِّمُ النَّاسَ) عطف على قوله : (إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ).

وأجيب بأن هذا خطأ ؛ لأنه إن أراد العطف على جملة (إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ) فهي جملة اسمية فقد عطف الفعلية على الاسمية ، فوقع فيما فرّ منه. وإن أراد العطف على «يبشّرك» فهو خطأ ؛ لأن المعطوف على الخبر خبر ـ و «يبشّرك» خبر ـ فيصير التقدير : إن الله يكلم الناس في المهد ، والصواب ما قالوه من كونه حالا ، وأن الجملة الحالية إذا كانت فعلا فهي مقدرة بالاسم ، فجاز العطف.

قوله : (فِي الْمَهْدِ) يجوز فيه وجهان :

أظهرهما : أنه متعلق بمحذوف ؛ على أنه حال من الضمير في (وَيُكَلِّمُ) أي : يكلمهم صغيرا ، و «كهلا» على هذا نسق على هذه الحال المؤوّلة فعلى هذا تكون خمسة أحوال.

والثاني : أنه ظرف ل «يكلّم» كسائر المنفصلات ، و «كهلا» على هذا نسق على «وجيها» فعلى هذا يكون خمسة أحوال.

والكهل : هو من بلغ سنّ الكهولة ، وأولها ثلاثون.

وقيل : اثنان وثلاثون.

وقيل : ثلاث وثلاثون.

وقيل : أربعون. وآخرها : خمسون.

وقيل : ستون. ثم يدخل في سن الشّيخوخة. واشتقاقه من : اكتهل النبات ـ إذا علا وارتفع ـ ومنه الكاهل.

__________________

(١) سقط في ب.

٢٣٠

وقال صاحب المجمل : «أكهل الرجل : وخطه الشّيب».

فصل

كلامه ـ عليه‌السلام ـ في المهد هو قوله : (إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا وَبَرًّا بِوالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا) [مريم : ٣٠ ـ ٣٣].

وحكي عن مجاهد قال : قالت مريم : كنت إذا خلوت أنا وعيسى حدّثني وحدّثته ، فإذا شغلني عنه إنسان كان يسبّح في بطني وأنا أسمع.

فصل

ذكر القرطبيّ في تفسيره عن ابن أبي شيبة بسنده ، قال : «لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة : عيسى ابن مريم ، وصاحب يوسف ، وصاحب جريج». [وفي صحيح مسلم عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة عيسى ابن مريم ، وصاحب جريج وصاحب الجبار» (١)](٢).

وقال الضّحّاك : «تكلم في المهد ستة شاهد يوسف ، وصبيّ ماشطة امرأة فرعون ، وعيسى ، ويحيى ، وصاحب جريج» (٣) ولم يذكر صاحب الأخدود ، فأسقط صاحب الأخدود ، وبه يكون المتكلمون سبعة.

قال القرطبيّ : «ولا معارضة بين هذا وبين قوله ـ عليه‌السلام ـ : «لم يتكلّم في المهد إلّا ثلاثة» بالحصر ـ فإنه أخبر بما كان في علمه مما أوحي إليه في تلك الحال ، ثم بعد هذا أعلمه الله ـ تعالى ـ بما شاء من ذلك ، فأخبر به.

والمهد : ما يهيّأ للصّبيّ أن يربى فيه ، من مهّدت له المكان ـ أي : وطّأته وليّنته له ـ وفيه احتمالان : أحدهما يحتمل أن يكون أصله المصدر ، فسمّي به المكان ، ويحتمل أن يكون بنفسه اسم مكان غير مصدر. وقد قرىء : مهدا ومهادا في طه كما سيأتي إن شاء الله تعالى.

قال ابن الخطيب [قوله : وكهلا يدل على أنه يكلم الناس بعد الكهولة ، وذلك بعد أن ينزل من السماء في آخر الزمان.

قال الحسين بن الفضل : في الآية نص على نزوله إلى الأرض وقد](٤) أنكرت النصارى كلام المسيح ـ عليه‌السلام ـ في المهد ، واحتجوا ـ على صحة قولهم بأن كلامه من أعجب الأمور وأغربها ، ولا شك أن هذه الواقعة لو وقعت لوجب أن يكون وقوعها

__________________

(١) أخرجه البخاري (٤ / ٣٢٠) كتاب الأنبياء : باب واذكر في الكتاب مريم (٣٤٣٦) ومسلم (٤ / ١٩٧٦) وأحمد (٢ / ٣٠١ ، ٣٠٧ ، ٣٠٨).

(٢) سقط في ب.

(٣) ذكره القرطبي في «تفسيره» «الجامع لأحكام القرآن» (٤ / ٥٩) عن الضحاك.

(٤) سقط في ب.

٢٣١

في حضور الجمع العظيم الذي يحصل القطع واليقين بقولهم ؛ لأن تخصيص مثل هذا المعجز بالواحد والاثنين لا يجوز ، ولو حدثت هذه الواقعة لتوفّرت الدواعي على نقلها ، فيصير ذلك بالغا حد التواتر ، يمتنع إخفاؤه. وأيضا فإن النصارى بالغوا في المسيح ، حتى ادّعوا ألوهيته ، ومن هذا شأنه في التعصّب يمتنع أن تخفى مناقبه ، فلما أنكروه ـ وهم أحق النّاس بإظهاره ـ علمنا أنه ما كان موجودا.

وأجاب المتكلمون بأن كلامه ـ حينئذ ـ إظهار لبراءة أمّه ، والحاضرون قليلون يجوز تواطؤهم على الإخفاء ، فنسبهم الناس إلى الكذب ، أو خافوا من ذلك الأمر إلى أن أخبر به محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وذلك يدل على معجزته ، وصدقه.

قوله : (قالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ) «يكون» يحتمل التمام والنقصان ، وتقدم إعراب هذه الجمل في قصة زكريا إلا أنه قال هناك : (يَفْعَلُ ما يَشاءُ) وقال هنا (يَخْلُقُ ما يَشاءُ) قيل : لأن قصّتها أغرب من قصته ؛ ذلك أنه لم يعهد ولد من عذراء لم يمسسها بشر ألبتة ، بخلاف الولد بين الشيخ والعجوز ، فإنه يستبعد ، وقد يعهد بمثله ـ وإن كان قليلا ـ فلذلك أتى ب «يخلق» المقتضي للإيجاد والاختراع من غير إحالة على سبب ظاهر ، وإن كانت الأشياء كلها بخلقه وإيجاده ـ وإن كان لها أسباب ظاهرة.

قوله : (وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ) هذه الجملة حال ، والبشر ـ في الأصل ـ مصدر كالخلق ، ولذلك يسوّى فيه بين المذكّر والمؤنّث ، والمفرد ، والمثنى ، والجمع ، تقول : هذه بشر ، وهذا بشر ، وهؤلاء بشر. كقولك : هؤلاء خلق.

قيل : واشتقاقه من البشرة ، وهي ظاهر الجلد ؛ لأنه الذي شأنه أن يظهر الفرح والغم في بشرته ، وتقدم اختلاف القرّاء في (فَيَكُونُ) وما ذكر في توجيهه.

فصل

قال المفسّرون : إنما قالت ذلك ؛ لأن البشرية تقتضي التعجّب مما وقع على خلاف العادة ؛ إذ لم تجر عادة بأن يولد ولد بلا أب.

فصل

قال القرطبيّ : «معنى قوله : (قالَتْ رَبِ) أي : يا سيدي ، تخاطب جبريل ـ عليه‌السلام ـ لأنه لما تمثّل لها ، قال لها : (إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا) [مريم : ١٩] فلما سمعت ذلك من قوله استفهمت عن طريق الولد ، فقالت : (أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ؟) أي : بنكاح ، وذلك : لأن العادة التي أجراها الله في خلقه أن الولد لا يكون إلا من نكاح ، [أو سفاح](١).

__________________

(١) سقط في أ.

٢٣٢

وقيل : إنها لم تستبعد من قدرة الله شيئا ، ولكن أرادت : كيف يكون هذا الولد؟ من قبل زوج في المستقبل؟ أم يخلقه الله ابتداء.

قوله : (إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ). تقدم الكلام فيه.

قال ابن جريج : نفخ جبريل في جيب درعها وكمّها ، فحملت من ساعتها بعيسى.

وقيل : وقع نفخ جبريل ـ عليه‌السلام ـ في رحمها ، فعلقت بذلك.

وقال بعضهم : لا يجوز أن يكون الخلق من نفخ جبريل ؛ لأن الولد يكون بعضه من الملائكة وبعضه من الإنس ؛ ولكن سبب ذلك ، أن الله تعالى لما خلق آدم وأخذ الميثاق من ذريته ، فجعل بعض الماء في أصلاب الآباء ، وبعضه في أرحام الأمّهات ، فإذا اجتمع الماءان صار ولدا ، وإن الله ـ تعالى ـ جعل الماءين جميعا في مريم ، بعضه في رحمها ، وبعضه في صلبها ، فنفخ جبريل ، ليهيج شهوتها ، فإن المرأة ما لم تهج شهوتها لم تحبل فلما هاجت شهوتها بنفخ جبريل وقع الماء ـ الذي كان في صلبها ـ في رحمها ، فاختلط الماءان ، فعلقت بذلك ، فذلك قوله تعالى : (إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ).

قوله : (وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ) قرأ نافع وعاصم ويعقوب (وَيُعَلِّمُهُ) ـ بياء الغيبة (١) ـ والباقون بنون المتكلم المعظم نفسه ، وعلى كلتا القراتين ففي محل هذه الجملة أوجه :

أحدها : أنها معطوفة على «يبشّرك» أي : أن الله يبشرك بكلمة ويعلم ذلك المولود المعبّر عنه بالكلمة.

الثاني : أنها معطوفة على «يخلق» أي : كذلك الله يخلق ما يشاء ويعلمه. وإلى هذين الوجهين ، ذهب جماعة منهم الزمخشريّ وأبو علي الفارسيّ ، وهذان الوجهان ظاهران على قراءة الياء ، وأما قراءة النون ، فلا يظهر هذان الوجهان عليها إلا بتأويل الالتفات من ضمير الغيبة إلى ضمير المتكلم ، إيذانا بالفخامة والتعظيم.

فأما عطفه على «يبشّرك» فقد استبعده أبو حيّان جدّا ، قال : «لطول الفصل بين المعطوف ، والمعطوف عليه» ، وأما عطفه على «يخلق» فقال : «هو معطوف عليه سواء كانت ـ يعني «يخلق» خبرا عن الله أم تفسيرا لما قبلها ، إذا أعربت لفظ «الله» مبتدأ ، وما قبله خبر».

يعني أنه تقدم في إعراب (كَذلِكِ اللهُ) في قصة زكريا أوجه :

أحدها ما ذكره ـ ف «يعلّمه» معطوف على «يخلق» بالاعتبارين [المذكورين](٢) ؛ إذ

__________________

(١) وقرأ بها عاصم ، وأبو جعفر.

ينظر : السبعة ٢٠٦ ، والكشف ١ / ٣٤٤ ، والحجة ٣ / ٤٣ ، وحجة القراءات ١٦٣ ، وإتحاف ١ / ٨ ، ٤ ، والعنوان ٧٩ ، وإعراب القراءات ١ / ١١٣ ، وشرح الطيبة ٤ / ١٥٧ ، وشرح شعلة ٣١٤.

(٢) سقط في أ.

٢٣٣

لا مانع من ذلك ، وعلى هذا الذي ذكره أبو حيّان وغيره ، تكون الجملة الشرطية معترضة بين المعطوف والمعطوف عليه ، والجملة من «نعلّمه» ـ في الوجهين المتقدمين ـ مرفوعة المحل ، لرفع محل ما عطفت عليه.

الثالث : أن يعطف على «يكلّم» فيكون منصوبا على الحال ، والتقدير : يبشّرك بكلمة مكلّما ومعلّما الكتاب ، وهذا الوجه جوزه ابن عطيّة وغيره.

الرابع : أن يكون معطوفا على «وجيها» ؛ لأنه في تأويل اسم منصوب على الحال ، وهذا الوجه جوّزه الزمخشريّ.

واستبعد أبو حيّان هذين الوجهين الأخيرين ـ أعني الثالث والرابع ـ قال : «لطول الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه ، ولا يقع مثله في لسان العرب».

الخامس : أن يكون معطوفا على الجملة المحكية بالقول : ـ وهي (كَذلِكِ اللهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ).

قال أبو حيّان (١) : «وعلى كلتا القراءتين هي معطوفة على الجملة المقولة ؛ وذلك أن الضمير في (قال كذلك) لله ـ تعالى ـ والجملة بعده هي المقولة ، وسواء كان لفظ (الله) مبتدأ خبره ما قبله ، أم مبتدأ ، وخبره «يخلق» ـ على ما مر إعرابه في (قالَ كَذلِكَ اللهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ) ـ فيكون هذا من القول لمريم على سبيل الاغتباط ، والتبشير بهذا الولد ، الذي أوجده الله منها».

السادس : أن يكون مستأنفا ، لا محلّ له من الإعراب.

قال الزّمخشريّ ـ بعد أن ذكر فيه أنه يجوز أن يكون معطوفا على «يبشّرك» أو يخلق أو «وجيها» ـ : «أو هو كلام مبتدأ» يعني مستأنفا.

قال أبو حيّان (٢) : «فإن عنى أنه استئناف إخبار عن الله ، أو من الله ـ على اختلاف القراءتين ـ فمن حيث ثبوت الواو لابد أن يكون معطوفا على شيء قبله ، فلا يكون ابتداء كلام إلا أن يدّعى زيادة الواو في وتعلمه ، فحينئذ يصحّ أن يكون ابتداء كلام ، وإن عنى أنه ليس معطوفا على ما ذكر ، فكان ينبغي أن يبين ما عطف عليه ، وأن يكون الذي عطف عليه ابتداء كلام ، حتى يكون المعطوف كذلك».

قال شهاب الدين (٣) : «وهذا الاعتراض غير لازم ؛ لأنه لا يلزم من جعله كلاما مستأنفا أن يدّعى زيادة الواو ، ولا أنه لا بد من معطوف عليه ؛ لأن النحويين ، وأهل البيان نصّوا على أن الواو تكون للاستئناف ، بدليل أن الشعراء يأتون بها في أوائل أشعارهم ، من غير تقدّم شيء يكون ما بعدها معطوفا عليه ، والأشعار مشحونة بذلك ، ويسمونها واو

__________________

(١) ينظر : البحر المحيط ٢ / ٤٨٤.

(٢) ينظر : البحر المحيط ٢ / ٤٨٥.

(٣) ينظر : الدر المصون ٢ / ٩٩.

٢٣٤

الاستئناف ، ومن منع ذلك قدّر أنّ الشاعر عطف كلامه على شيء منويّ في نفسه ، ولكن الأول أشهر القولين».

وقال الطبريّ : قراءة الياء عطف على قوله : (يَخْلُقُ ما يَشاءُ ،) وقراءة النون ، عطف على قوله : (نُوحِيهِ إِلَيْكَ).

قال ابن عطية : «وهذا الذي قاله في الوجهين مفسد للمعنى». ولم يبين أبو محمد وجه إفساد المعنى.

قال أبو حيّان (١) : «أما قراءة النون ، فظاهر فساد عطفه على «نوحيه» من حيث اللفظ ومن حيث المعنى ، أما من حيث اللفظ فمثله لا يقع في لسان العرب ؛ لبعد الفصل المفرط ، وتعقيد التركيب وتنافي الكلام ، وأما من حيث المعنى فإنّ المعطوف بالواو شريك المعطوف عليه في المعنى ، فيصير المعنى بقوله : (ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ ،) أي : إخبارك يا محمد بقصة امرأة عمران وولادتها لمريم ، وكفالة زكريا ، وقصته في ولادة يحيى ، وتبشير الملائكة لمريم بالاصطفاء والتطهير كل ذلك من أخبار الغيب ـ نعلمه ، أي : نعلم عيسى الكتاب ، فهذا كلام لا ينتظم [معناه] مع معنى ما قبله.

أما قراءة الياء وعطف «ويعلّمه» على «يخلق» فليست مفسدة للمعنى ، بل هو أولى وأصحّ ما يحمل عطف «ويعلّمه» لقرب لفظه وصحة معناه ـ وقد ذكرنا جوازه قبل ـ ويكون الله أخبر مريم بأنه ـ تعالى ـ يخلق الأشياء الغريبة التي لم تجر العادة بمثلها ، مثلما خلق لك ولدا من غير أب ، وأنه ـ تعالى ـ يعلّم هذا الولد الذي يخلقه لك ما لم يعلّمه من قبله من الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل ، فيكون في هذا الإخبار أعظم تبشير لها بهذا الولد ، وإظهار بركته ، وأنه ليس مشبها أولاد الناس ـ من بني إسرائيل ـ بل هو مخالف لهم في أصل النشأة ، وفيما يعلمه ـ تعالى ـ من العلم ، وهذا يظهر لي أنه أحسن ما يحمل عليه عطف ويعلّمه» اه.

قال أبو البقاء (٢) : «يقرأ ـ نعلمه ـ بالنون ، حملا على قوله : (ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ) ويقرأ بالياء ؛ حملا على «يبشّرك» وموضعه حال معطوفة على «وجيها».

قال أبو حيّان (٣) : وقال بعضهم : «ونعلّمه» ـ بالنون ـ حملا على «نوحيه» ـ إن عني بالحمل العطف فلا شيء أبعد من هذا التقدير ، وإن عني بالحمل أنه من باب الالتفات فهو صحيح».

قال شهاب الدين (٤) : «يتعين أن يعني بقوله : حملا ؛ الالتفات ليس إلا ، ولا يجوز أن يعني به العطف لقوله : وموضعه حال معطوفة على «وجيها» وكيف يستقيم أن يريد

__________________

(١) ينظر : البحر المحيط ٢ / ٤٨٥.

(٢) ينظر : الإملاء ١ / ١٣٥.

(٣) ينظر : البحر المحيط ٢ / ٤٨٥.

(٤) ينظر : الدر المصون ٢ / ١٠٠.

٢٣٥

عطفه على «يبشّرك» أو على توجيهه مع حكمه عليه بأنه معطوف على «وجيها»؟ هذا ما لا يستقيم أبدا».

فصل في المراد ب «الكتاب»

المراد من «الكتاب» : تعليم الخط والكتابة ، ومن «الحكمة» تعليم العلوم ، وتهذيب الأخلاق : (وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ) كتابان إلهيان ، وذلك هو الغاية العليا في العلم ؛ لأنه يحيط بالأسرار العقلية والشرعية ، ويطّلع على الحكم العلويّة والسّفليّة.

قوله : (وَرَسُولاً) فيه وجهان :

أحدهما : أنه صفة ـ بمعنى مرسل ـ على «فعول» كالصّبور والشّكور.

والثاني : أنه ـ في الأصل ـ مصدر ، ومن مجيء «رسول» مصدرا قوله : [الطويل]

١٤٦٩ ـ لقد كذب الواشون ما بحت عندهم

يسرّ ولا أرسلتهم برسول (١)

وقال آخر : [الوافر]

١٤٧٠ ـ ألا أبلغ أبا عمرو رسولا

بأنّي عن فتاحتكم غنيّ (٢)

أي أبلغه رسالة.

ومنه قوله تعالى : (إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ) ـ على أحد التأويلين ـ أي : إنا ذوا رسالة ربّ العالمين. وعلى الوجهين يترتب الكلام في إعراب «رسولا» ، فعلى الأول يكون في نصبه ستة أوجه :

أحدها : أن يكون معطوفا على «يعلّمه» ـ إذا أعربناه حالا معطوفا على «وجيها» ـ إذ التقدير وجيها ومعلّما ومرسلا.

قاله الزمخشريّ وابن عطية.

وقال أبو حيّان : «وقد بيّنا ضعف إعراب من يقول : إن «ويعلّمه» معطوف على «وجيها» ؛ للفصل المفرط بين المتعاطفين [وهو مبني على إعراب «ويعلمه»](٣)».

الثاني : أن يكون نسقا على «كهلا» الذي هو حال من الضمير المستتر في «ويكلّم» ، أي : يكلم الناس طفلا وكهلا ومرسلا إلى بني إسرائيل ، وقد جوّز ذلك ابن عطية ، واستبعده أبو حيّان ؛ لطول الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه.

__________________

(١) تقدم برقم ٦٥١.

(٢) البيت للأسعر الجعفي ونسبه ابن دريد للأعشى وليس في ديوانه ينظر المفردات في غريب القرآن ص ٣٨٤ والجمهرة ٢ / ٤ واللسان (رسل) وزاد المسير ٣ / ٢٣٢ ومجاز القرآن ٢ / ٨٧.

(٣) سقط في ب.

٢٣٦

قال شهاب الدين (١) : «ويظهر أن ذلك لا يجوز ـ من حيث المعنى ـ إذ يصير التقدير : يكلم الناس في حال كونه رسولا إليهم وهو إنما صار رسولا بعد ذلك بأزمنة».

فإن قيل : هي حال مقدّرة ، كقولهم : مررت برجل معه صقر صائدا به غدا ، وقوله : (فَادْخُلُوها خالِدِينَ) [الزمر : ٧٣].

وقيل : الأصل في الحال أن تكون مقارنة ، ولا تكون مقدّرة إلا حيث لا لبس.

الثالث : أن يكون منصوبا بفعل مضمر لائق بالمعنى ، تقديره : ويجعله رسولا ، لما رأوه لا يصح عطفه على مفاعيل التعليم أضمروا له عاملا يناسب. وهذا كما قالوا في قوله : (وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ) [الحشر : ٩] وقوله : [مجزوء الكامل]

١٤٧١ ـ يا ليت زوجك قد غدا

متقلّدا سيفا ورمحا (٢)

وقول الآخر : [الكامل]

١٤٧٢ ـ فعلفتها تبنا وماء باردا

 ............(٣)

وقول الآخر : [الوافر]

١٤٧٣ ـ ............

وزجّجن الحواجب والعيونا (٤)

أي : واعتقدوا الإيمان ، وحاملا رمحا ، وسقيتها ماء باردا ، وكحّلن العيون. وهذا على أحد التأويلين في هذه الأمثلة.

الرابع : أن يكون منصوبا بإضمار فعل من لفظ «رسول» ويكون ذلك الفعل معمولا لقول مضمر ـ أيضا ـ هو من قول عيسى.

الخامس : أن الرسول ـ فيه ـ بمعنى النطق ، فكأنه قيل : وناطقا بأني قد جئتكم ، ويوضّح هذين الوجهين الأخيرين ، ما قاله الزمخشريّ : «فإن قلت : علام تحمل

__________________

(١) ينظر : الدر المصون ٢ / ١٠١.

(٢) تقدم برقم ١٦٠.

(٣) تقدم برقم ١٦١.

(٤) عجز بيت للراعي النميري وصدره :

وهزة نسوة من حيّ صدق

وفي رواية أخرى :

إذا ما الغانيات برزن يوما

ينظر الصناعتين (١٣٦) والشذور (٣٠٠) والمغني ٢ / ٣٥٧ وأساس البلاغة ١ / ٣٩٤ ومشكل ابن قتيبة ٢١٣ ومعاني الفراء ٣ / ١٢٣ وأوضح المسالك ١ / ٢٩٩ والخصائص ٢ / ٤٣٢ والتصريح ١ / ٣٤٦ والأشموني (٤٤٣) والإنصاف ٢ / ٦١٠ وتذكرة النحاة ص ٦١٧ والدرر اللوامع ٢ / ١٦٩ والارتشاف ٢ / ٢٨٩ والهمع ١ / ٢٢٢ ، و ٢ / ١٣٠ والدر المصون ٢ / ١٠١.

٢٣٧

«ورسولا» و «مصدّقا» من المنصوبات المتقدمة ، وقوله : (أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ) و «لما بين يديه» يأبى حمله عليها؟

قلت : هو من المضايق ، وفيه وجهان :

أحدهما : أن يضمر له «وأرسلت» ـ على إرادة القول ـ تقديره : ويعلمه الكتاب والحكمة ، ويقول : أرسلت رسولا بأني قد جئتكم ، ومصدقا لما بين يديّ.

الثاني : أن الرسول والمصدّق فيهما معنى النطق ، فكأنه قيل : وناطقا بأني قد جئتكم ، ومصدقا لما بين يدي». اه.

إنما احتاج إلى إضمار ذلك كلّه تصحيحا للمعنى واللفظ ، وذلك أن ما قبله من المنصوبات ، لا يصح عطفه عليه في الظاهر ؛ لأن الضمائر المتقدمة غيّب ، والضميران المصاحبان لهذين المنصوبين في حكم المتكلم ؛ فاحتاج إلى ذلك التقدير ؛ ليناسب الضمائر.

وقال أبو حيان : «وهذا الوجه ضعيف ؛ إذ فيه إضمار القول ومعموله ـ الذي هو أرسلت ـ والاستغناء عنهما باسم منصوب على الحال المؤكّدة ، إذ يفهم من قوله : وأرسلت ، أنه رسول ، فهي ـ على هذا ـ حال مؤكّدة».

واختار أبو حيّان الوجه الثالث ، قال : «إذ ليس فيه إلا إضمار فعل يدل عليه المعنى ـ ويكون قوله : (أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ) معمولا ل «رسولا» أي : ناطقا بأني قد جئتكم ، على قراءة الجمهور».

الثالث : أن يكون حالا من مفعول «ويعلّمه» وذلك على زيادة الواو ـ كأنه قيل : ويعلمه الكتاب ، حال كونه رسولا. قاله الأخفش ، وهذا على أصل مذهبه من تجويزه زيادة الواو ، وهو مذهب مرجوح.

وعلى الثاني وهو كون «الرسول» مصدرا كالرسالة في نصبه وجهان :

أحدهما : أنه مفعول به ـ عطفا على المفعول الثاني ل «يعلّمه» ـ أي : ويعلمه الكتاب والرسالة معا ، أي : يعلمه الرسالة أيضا.

الثاني : أنه مصدر في موضع الحال ، وفيه التأويلات المشهورة في : رجل عدل.

وقرأ اليزيديّ «ورسول» بالجر (١) ـ وخرجها الزمخشريّ على أنها منسوقة على قوله : «بكلمة» أي : يبشرك بكلمة وبرسول.

وفيه بعد لكثرة الفصل بين المتعاطفين ، ولكن لا يظهر لهذه القراءة الشاذة غير هذا التخريج.

__________________

(١) ينظر : الشواذ ٢٠ ، والبحر المحيط ٢ / ٤٨٦ ، والدر المصون ٢ / ١٠٢.

٢٣٨

قوله : (إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ) فيه وجهان :

أحدهما : أن يتعلق بنفس «رسول» إذ فعله يتعدى ب «إلى».

والثاني : أن يتعلق بمحذوف على أنه صفة ل «رسولا» فيكون منصوب المحلّ في قراءة الجمهور ، مجرورة في قراءة اليزيديّ.

فصل

هذه الآية تدل على أنه ـ عليه‌السلام ـ كان رسولا إلى كل بني إسرائيل ، وقال بعض اليهود : إنه كان مبعوثا إلى قوم مخصوصين.

قيل : إنما كان رسولا بعد البلوغ ، وكان أول أنبياء بني إسرائيل يوسف وآخرهم عيسى ـ عليهما‌السلام ـ وقال القرطبيّ : وفي حديث أبي ذر الطويل : «... وأول أنبياء بني إسرائيل موسى ، وآخرهم عيسى» (١).

قوله : (أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ) قرأ العامّة (أَنِّي) بفتح الهمزة ، وفيه ثلاثة أوجه :

أحدها : أن موضعها جر ـ بعد إسقاط الخافض ـ ، إذ الأصل : بأني ، فيكون «بأنّي» متعلّقا ب «رسولا» وهذا مذهب الخليل والكسائي.

والثاني : أن موضعها نصب ، وفيه ثلاثة أوجه :

الأول : أنه نصب بعد إسقاط الخافض ـ وهو الباء ـ وهذا مذهب التلميذين : سيبويه والفرّاء.

الثاني : أنه منصوب بفعل مقدّر ، أي : يذكر ، فيذكر صفة ل «رسولا» حذفت الصفة ، بقي معمولها.

الثالث : أنه منصوب على البدل من «رسولا» ، أي : إذا جعلته مصدرا مفعولا به ، تقديره : ويسلمه الكتاب ويعلمه أني قد جئتكم.

وقرأ بعضهم بكسر الهمزة (٢) ، وفيها تأويلان :

أحدهما : أنها على إضمار القول ، أي قائلا : إني قد جئتكم ، فحذف القول ـ الذي هو حال في المعنى ، وأبقي معموله.

والثاني : أن «رسولا» بمعنى ناطق ، فهو مضمّن معنى القول ، وما كان مضمّنا معنى القول أعطي حكم القول. وهذا مذهب الكوفيين.

قوله : (بِآيَةٍ) يحتمل أن يكون متعلقا بمحذوف ، على أنه حال من فاعل

__________________

(١) ينظر : القرطبي ٤ / ٦٠.

(٢) ينظر : المحرر الوجيز ١ / ٤٣٨ ، والبحر المحيط ٢ / ٤٨٦ ، والدر المصون ٢ / ١٠٣.

٢٣٩

«جئتكم» ، أي : جئتكم [ملتبسا بآية](١). والثاني : أن يكون متعلقا بنفس المجيء ، أي : جاءتكم الآية .. والآية : العلامة.

فإن قيل : لم قال «بآية» وقد أتى بآيات؟

فالجواب : أن المراد بالآية : الجنس.

وقيل : لأن الكل دل على شيء واحد ، وهو صدقه في الرسالة.

قوله : (مِنْ رَبِّكُمْ) صفة ل «آية» فيتعلق بمحذوف ، أي : بآية من عند ربكم ، ف «من» للابتداء مجازا ، ويجوز أن يتعلق (مِنْ رَبِّكُمْ) بنفس المجيء ـ أيضا.

وقدر أبو البقاء الحال ـ في قوله : «بآية» ـ بقوله : «محتجا بآية ، إن عنى من جهة المعنى صح ، وإن عنى من جهة الصناعة لم يصحّ ؛ إذ لم يضمر في هذه الأماكن ، إلا الأكوان المطلقة».

وقرأ الجمهور (بِآيَةٍ) ـ بالإفراد ـ في الموضعين ، وابن مسعود (٢) ـ : بآيات ـ جمعا ـ في الموضعين.

قوله : (أَنِّي أَخْلُقُ) قرأ نافع بكسر (٣) الهمزة ، والباقون بفتحها ، فالكسر من ثلاثة أوجه :

أحدها : على إضمار القول ، أي : فقلت : إني أخلق.

الثاني : أنه على الاستئناف.

والثالث : على التفسير ، فسر بهذه الجملة قوله : «بآية» ، كأن قائلا قال : وما الآية؟

فقال هذا الكلام.

ونظيره قوله : (إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ) [آل عمران : ٥٩] ثم قال : (خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ) ف «خلقه» مفسرة للمثل ؛ ونظيره ـ أيضا قوله : (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) [المائدة : ٩] ثم فسر الوعد (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ). وهذا الوجه هو الصائر إلى الاستئناف ؛ فإن المستأنف يؤتى به تفسيرا به لمجرد الإخبار بما تضمنه ، وفي الوجه الثالث نقول : إنه متعلّق بما تقدمه ، مفسّر له.

وأما قراءة الجماعة ففيها أربعة أوجه :

أحدها : أنها بدل من (أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ) فيجيء ، فيها ما تقدم في تلك ؛ لأن حكمها حكمها.

__________________

(١) في أ : جاءتكم آية.

(٢) ينظر : المحرر الوجيز ١ / ٤٣٨ ، والبحر المحيط ٢ / ٤٨٧ ، والدر المصون ٢ / ١٠٣.

(٣) انظر : السبعة ٢٠٦ ، والكشف ١ / ٣٤٤ ، والحجة ٣ / ٤٣ ، والعنوان ٧٩ ، وإعراب القراءات ١ / ١١٣ ، وحجة القراءات ١٦٤ وشرح الطيبة ٤ / ١٥٨ ، وشرح شعلة ٣١٤ ، وإتحاف ١ / ٤٧٩.

٢٤٠