اللّباب في علوم الكتاب - ج ٥

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ٥

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 2-7451-2298-3
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٦٣٢

وزكريا في هذه القراءة مفعول ثان أيضا كقراءة الكوفيين. وقرأ حفص والأخوان «زكريا» ـ بالقصر ـ حيث ورد في القرآن ، وباقي السبعة بالمدّ والمدّ والقصر في هذا الاسم لغتان فاشيتان عن أهل الحجاز. وهو اسم أعجمي فكان من حقه أن يقولوا فيه : منع من الصرف للعلمية ، والعجمة ـ كنظائره ـ وإنّما قالوا منع من الصرف لوجود ألف التّأنيث فيه : إما الممدودة كحمراء ، وإما المقصورة كحبلى ، وكأن الذي اضطرهم إلى ذلك أنهم رأوه ممنوعا ـ معرفة ونكرة ـ قالوا : فلو كان منعه للعلمية والعجمة لانصرف نكرة لزوال أحد سببي المنع ، لكن العرب منعته نكرة ، فعلمنا أن المانع غير ذلك ، وليس معناه ـ هنا ـ يصلح مانعا من صرفه إلا ألف التأنيث ـ يعنون للشبه بألف التأنيث ـ وإلا فهذا اسم أعجمي لا يعرف له اشتقاق ، حتى يدّعى فيه أنّ الألف فيه للتأنيث.

على أن أبا حاتم قد ذهب إلى صرفه نكرة ، وكأنه لحظ المانع فيه ما تقدم من العلميّة والعجمة ، لكنهم غلطوه وخطئوه في ذلك ، وأشبع الفارسيّ القول فيه فقال : «لا يخلو من أن تكون الهمزة فيه للتأنيث ، أو للإلحاق أو منقلبة ، ولا يجوز أن تكون منقلبة ؛ لأن الانقلاب لا يخلو من أن يكون من حرف أصلي ، أو من حرف الإلحاق ؛ لأنه ليس في الأصول شيء يكون هذا ملحقا به ، وإذا ثبت ذلك ثبت أنها للتأنيث وكذلك القول في الألف المقصورة».

قال شهاب الدّين : «وهذا ـ الذي قاله أبو علي ـ صحيح ، لو كان فيما يعرف له اشتقاق ويدخله تصريف ، ولكنهم يجرون الأسماء الأعجميّة مجرى العربية بمعنى أنّ هذا لو ورد في لسان العرب كيف يكون حكمه».

وفيه ـ بعد ذلك ـ لغتان أخريان :

إحداهما : زكريّ ـ بياء مشددة في آخره فقط دون ألف ـ وهو في هذه اللغة منصرف ، ووجّه أبو علي ذلك فقال : «القول فيه أنّه حذف منه الياءان اللتان كانتا فيه ـ ممدودا ومقصورا ـ وما بعدها ، وألحق بياء النّسب ، ويدل على ذلك صرف الاسم ، ولو كانت الياءان هما اللتان كانتا فيه لوجب أن لا ينصرف ؛ للعجمة والتعريف ، وهذه لغة أهل نجد ومن والاهم».

الثانية : زكر ـ بوزن عمرو ـ حكاه الأخفش.

والكفالة أي : الضمان ـ في الأصل ـ ثم يستعار للضّمّ والأخذ ، يقال منه : كفل يكفل ، وكفل يكفل ، كعلم يعلم ـ كفالة وكفلا ، فهو كافل وكفيل ، والكافل : هو الذي ينفق على إنسان ويهتم بإصلاح حاله ، وفي الحديث : «أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة» (١) وقال تعالى : (أَكْفِلْنِيها).

__________________

(١) أخرجه البخاري (٧ / ٩٤) كتاب الطلاق باب اللعان رقم (٥٣٠٣) ، (٨ / ١٥) كتاب الأدب باب فضل ـ

١٨١

واختلفوا في كفالة زكريا ـ عليه الصلاة والسلام ـ إياها ، فقال الأكثرون : كان ذلك حال طفولتها ، وبه جاءت الروايات.

وقال بعضهم : بل إنما كفلها بعد أن طمثت ، واحتجوا بوجهين :

أحدهما : قوله تعالى : (وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً) ثم قال : (وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا) وهذا يوهم أن تلك الكفالة بعد ذلك النبات الحسن.

الثاني : أنه ـ تعالى ـ قال : (وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ) وهذا يدل على أنها كانت قد فارقت الرضاع في وقت تلك الكفالة.

وأجيبوا عن الأول بأن الواو لا توجب الترتيب ، فلعل الإنبات الحسن وكفالة زكريا حصلا معا. وعن الثاني بأن دخول زكريا عليها ، وسؤاله لها هذا السؤال لعله وقع في آخر زمان الكفالة.

قوله : (كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ) «المحراب» فيه وجهان :

أحدهما : وهو مذهب سيبويه أنه منصوب على الظرف ، وشذ عن سائر أخواته بعد «دخل» خاصّة ، يعني أن كل ظرف مكان مختص لا يصل إليه الفعل إلا بواسطة «في» نحو صليت في المحراب ـ ولا تقول : صليت المحراب ـ ونمت في السوق ـ ولا تقول : السوق ـ إلا مع دخل خاصة ، نحو دخلت السوق والبيت ... الخ. وإلا ألفاظا أخر مذكورة في كتب النحو.

والثاني مذهب الأخفش وهو نصب ما بعد «دخل» على المفعول به لا على الظرف فقولك : دخلت البيت ، كقولك : هدمت البيت ، في نصب كل منهما على المفعول به ـ وهو قول مرجوح ؛ بدليل أن «دخل» لو سلّط على غير الظّرف المختص وجب وصوله بواسطة «في» تقول : دخلت في الأمر ـ ولا تقول : دخلت الأمر ـ فدل ذلك على عدم تعدّيه للمفعول به بنفسه.

__________________

ـ من يعول يتيما رقم (٦٠٠٥) وفي «الأدب المفرد» (١٣٥ ، ١٣٧) ومسلم (٤ / ٢٢٧٨) كتاب الزهد باب الإحسان إلى الأرملة (٤٢ ـ ٢٩٨٣) وأبو داود (٥١٥٠) والبيهقي (٦ / ٢٨٣) ومالك في «الموطأ» (٩٤٨) والبغوي في «شرح السنة» (٦ / ٤٥٠ ـ ٤٥١) وأبو يعلى (١٣ / ٥٤٦) رقم (٧٥٥٣) والقضاعي في «مسند الشهاب (١ / ٢١٧) رقم (٣٣٢) عن سهل بن سعد الساعدي.

وأخرجه أبو يعلى (٨ / ٢٨٠) رقم (٤٨٦٦) والطبراني في «الأوسط» كما في «مجمع الزوائد» (٨ / ١٦٠).

وقال الهيثمي : رواه أبو يعلى والطبراني في «الأوسط» وفيه ليث بن أبي سليم وهو مدلس وبقية رجاله ثقات.

وذكره ابن حجر في «المطالب العالية» (٢ / ٣٨٧) وعزاه لأبي يعلى.

وأخرجه الحميدي (٢ / ٣٧٠) عن أم سعيد بنت مرة الفهري عن أبيها مرفوعا.

وعزاه الحافظ في «المطالب العالية» (٢ / ٣٨٤) للحارث ومسدد.

١٨٢

والجواب : قال أبو عبيدة : هو سيّد المجالس ومقدّمها وأشرفها ، وكذلك هو من المسجد.

وقال أبو عمرو بن العلاء : هو القصر ؛ لعلوّه وشرفه.

وقال الأصمعيّ : هو الغرفة.

وأنشد لامرىء القيس : [الطويل]

١٤٢١ ـ وماذا عليه أنّ ذكرت أو أنسا

كغزلان رمل في محاريب أقيال (١)

قالوا معناه : في غرف أقيال. وأنشد غيره ـ لعمر بن أبي ربيعة : [السريع]

١٤٢٢ ـ ربّة محراب إذا ما جئتها

لم أدن حتّى أرتقي سلّما (٢)

وقيل : هو المحراب من المسجد المعهود ، وهو الأليق بالآية.

وقد ذكرناه عمن تقدم فإنما يعنون به : المحراب من حيث هو ، وأما في هذه الآية فلا يظهر بينهم خلاف في أنه المحراب المتعارف عليه. واستدل الأصمعيّ على أن المحراب هو الغرفة بقوله تعالى : (إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ) والتسوّر لا يكون إلا من علو. يروى أنها لما صارت شابة بنى زكريا ـ عليه‌السلام ـ لها غرفة في المسجد ، وجعل بابها في وسطها ، لا يصعد إليها إلا بسلّم ، ويقال للمسجد ـ أيضا ـ المحراب.

قال المبرد : «لا يكون المحراب : إلا أن يرتقى إليه بدرج».

واشتقاقه من الحرب ؛ لتحارب الناس عليه.

قال ابن ذكوان ـ عن ابن عامر ـ «المحراب» في هذه السورة ـ موضعين ـ بلا خلاف ؛ لكونه أن فيه سبب الإمالة ، وذلك أن الألف تقدمها كسرة ، وتأخرت عنها كسرة أخرى ، فقوى داعي الإمالة ، وهذا بخلاف المحراب غير المجرور فإنه نقل عن ابن ذكوان فيه الوجهان : الإمالة وعدمها ، نحو قوله : (إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ) [ص : ٢١] فوجه الإمالة تقدم الكسرة ، ووجه التّفخيم أنه الأصل.

قوله : (وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً) «وجد» هذه بمعنى أصاب ولقي وصادف ، فيتعدى لواحد وهو «رزقا» و «عندها» الظاهر أنه ظرف للوجدان.

وأجاز أبو البقاء أن يكون حالا من «رزقا» ؛ لأنه يصلح أن يكون صفة له في الأصل ، وعلى هذا فيتعلق بمحذوف ، ف «وجد» هو الناصب ل «كلّما» لأنها ظرفية ، وأبو البقاء سمّاه جوابها ؛ لأنها عنده الشرط كما سيأتي.

__________________

(١) ينظر البيت في ديوانه (٣٤) واللسان (حرب) والبحر ٢ / ٤٥١ ، والدر المصون ٢ / ٧٨.

(٢) البيت لوضاح اليمن لا كما قال المصنف ينظر معاني القرآن للزجاج ١ / ٤٦ واللسان (حرب) والجمهرة ١ / ٢١٩ ومجاز القرآن ٢ / ١٤٤ و ١٨٠ ومجمع البيان ٢ / ٦٨ والاشتقاق ص ٧٥ والتاج ١ / ٢٠٦ والدر المصون ٢ / ٧٨.

١٨٣

قوله : (قالَ يا مَرْيَمُ) فيه وجهان :

أحدهما : أنه مستأنف ، قال أبو البقاء : «ولا يجوز أن يكون بدلا من «وجد» ؛ لأنه ليس بمعناه».

الثاني : أنه معطوف بالفاء ، فحذف العاطف ، قال أبو البقاء : «كما حذفت في جواب الشرط في قوله تعالى : (وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ) [الأنعام : ١٢١] ، وكذلك قول الشاعر : [البسيط]

١٤٢٣ ـ من يفعل الحسنات الله يشكرها

 ............(١)

وهذا الموضع يشبه جواب الشرط ، لأن «كلّما» تشبه الشرط في اقتضائها الجواب.

قال شهاب الدين (٢) : وهذا ـ الذي قاله ـ فيه نظر من حيث إنه تخيّل أن قوله تعالى : (وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ) أن جواب الشرط هو نفس (إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ) حذفت منه الفاء ، وليس كذلك ، بل جواب الشرط محذوف ، و ـ (إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ) جواب قسم مقدر قبل الشرط وقد تقدم تحقيق هذه المسألة ، وليس هذا مما حذفت منه فاء الجزاء ألبتة ، وكيف يدّعي ذلك ، ويشبّههه بالبيت المذكور ، وهو لا يجوز إلا في ضرورة؟

ثم الذي يظهر أن الجملة من قوله : «وجد» في محل نصب على الحال من فاعل «دخل» ويكون جواب «كلّما» هو نفس «قال» والتقدير : كلما دخل عليها زكريا المحراب واجدا عندها الرزق.

قال : وهذا بيّن.

ونكر «رزقا» تعظيما ، أو ليدل به على نوع «ما».

قوله : (أَنَّى لَكِ هذا) «أنى» خبر مقدم ، و «هذا» مبتدأ مؤخر ومعنى أنى هذا : من أين؟ كذا فسّره أبو عبيدة.

قيل : ويجوز أن يكون سؤالا عن الكيفية ، أي : كيف تهيأ لك هذا؟

قال الكميت : [المنسرح]

١٤٢٥ (٣) ـ أنّى ومن أين هزّك الطّرب

من حيث لا صبوة ولا ريب (٤)

وجوّز أبو البقاء في «أنّى» أن ينتصب على الظرف بالاستقرار الذي في «ذلك». و «لك» رافع ل «هذا» يعني بالفاعلية. ولا حاجة إلى ذلك ، وتقدم الكلام على «أنى» في «البقرة» (٥).

__________________

(١) تقدم برقم ١٤٩.

(٢) ينظر : الدر المصون ٢ / ٧٩.

(٣) سقط سهوا عند الترقيم الرقم ١٤٢٤.

(٤) ينظر شرح شواهد الألفية ص ٣١٠ ، وشرح المفصل ٤ / ١٠٩ ، ١١١ ، والصاحبي في فقه اللغة ص ١٤٢ ، وشرح شافية ابن الحاجب ٣ / ٢٧ ، والدر المصون ٢ / ٧٩.

(٥) آية ٢٢٣.

١٨٤

فصل

قال الرّبيع بن أنس : إن زكريا كان إذا خرج من عندها غلق عليها سبعة أبواب ، فإذا دخل عليها غرفتها وجد عندها رزقا ـ أي : فاكهة في غير حينها ـ فاكهة الصّيف في الشتاء ، وفاكهة الشتاء في الصيف ، فيقول يا مريم ، أنى لك هذا (١)؟

قال أبو عبيدة : معناه من أين لك هذا ، وأنكر بعضهم عليه وقال : معناه من أي جهة لك هذا ؛ لأن أنّى للسؤال عن الجهة ، وأين للسؤال عن المكان.

فصل

احتجوا على صحة القول بكرامات الأولياء بهذه الآية ؛ فإنّ حصول الرزق عندها إمّا أن يكون خارقا للعادة أو لا يكون ، فإن كان غير خارق للعادة ، فذلك باطل من خمسة أوجه :

الأول : أنه على هذا التقدير لا يكون ذلك الرزق عند مريم دليلا على علوّ شأنها ، وامتيازها عن سائر الناس بتلك الخاصّيّة ، وهو المعنى المراد من الآية.

الثاني : قوله : (هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ) والقرآن دلّ على أنه كان آيسا من الولد ؛ بسبب شيخوخته وشيخوخة زوجته ، فلما رأى خرق العادة في حق مريم طمع في حصول الولد ، فيستقيم قوله : (هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ). ولو كان الذي شاهده في حق مريم غير خارق لم تكن مشاهدة ذلك سببا لطمعه في انخراق العادة له بحصول الولد من المرأة الشيخة العاقر.

الثالث : تنكير الرزق في قوله : «رزقا» فإنه يدل على تعظيم حال ذلك الرزق كأنه قيل : رزق وإنه رزق عجيب فلولا أنه خارق للعادة لم يفد الغرض اللائق بسياق الآية.

الرابع : أنه ـ تعالى ـ قال : (وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ) [الأنبياء : ٣١] ولو لا أنه ظهر عليها الخوارق وإلا لم يصح ذلك.

الخامس : تواتر الروايات على أن زكريا ـ عليه‌السلام ـ كان يجد عندها فاكهة الصيف في الشتاء ، وفاكهة الشتاء في الصيف فثبت أن الذي ظهر في حق مريم عليها الصلاة والسلام كان خارقا للعادة ، وإذا ثبت ذلك فنقول : إمّا أنه كان معجزة لبعض الأنبياء أو ما كان كذلك ، والأول باطل ؛ لأن النبيّ الموجود في ذلك الزمان زكريا ـ عليه‌السلام ـ ولو كان ذلك معجزة له لكان عالما بحاله ، ولم يشتبه أمره عليه ، ولم يقل ل «مريم» أنّى لك هذا؟ وأيضا فقوله (هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ) مشعر بأنه لما سألها ذكرت له أن ذلك من عند الله ، فهنالك طمع في انخراق العادة في حصول الولد من المرأة الشيخة

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٣٥٥) عن الربيع بن أنس.

١٨٥

العقيم العاقر وذلك يدل على أنه ما وقف على تلك الأحوال إلا من إخبار مريم ، وإذا كان كذلك ، وإذا ثبت أن تلك الخوارق ما كانت معجزة لزكريا ـ عليه‌السلام ـ فلم يبق إلّا أنها كانت لمريم عليها‌السلام إما بسبب ابنها أو لعيسى عليه الصلاة والسلام كرامة لمريم ، وعلى التقديرين فالمقصود حاصل.

قال أبو علي الجبائي : لم لا يجوز أن يقال تلك الخوارق كانت معجزات زكريا ـ عليه‌السلام ـ لوجهين :

الأول : أن زكريا دعا لها على الإجمال أن يوصل الله إليها رزقها ، وأنه كان غافلا عما يأتيها من الأرزاق من عند الله ، فإذا رأى شيئا بعينه في وقت معيّن قال لها : أنّى لك هذا؟ فقالت هو من عند الله ، فعند ذلك يعلم أن الله أظهر بدعائه تلك المعجزة.

الثاني : يحتمل أن يكون زكريا شاهد عند مريم رزقا معتادا ، إلا أنه كان يأتيها من السماء ، وكان زكريا يسألها عن ذلك ، حذرا من أن يكون يأتيها من عند إنسان يبعثه إليها ، فقالت : هو من عند الله لا من عند غيره.

وأيضا لا نسلم أنه كان قد ظهر على مريم شيء من الخوارق ، بل معنى الآية أن الله ـ تعالى ـ كان قد سبب لها رزقا على أيدي المؤمنين الذين كانوا يرغبون في الانفاق على الزاهدات العابدات ، فكأن زكريا عليه الصلاة والسلام لمّا رأى شيئا من ذلك خاف أنه ربّما أتاها ذلك الرزق من جهة لا ينبغي ، فكان يسألها عن كيفية الحال.

والجواب عن الأول والثاني : أنه لو كان معجزا لزكريا لكان زكريا مأذونا له من عند الله في طلب ذلك ، ومتى كان مأذونا له في ذلك الطلب كان عالما ـ قطعا ـ بأنه يحصل ، وإذا علم ذلك امتنع أن يطلب منها كيفية الحال ، ولم يكن لقول : (هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ) فائدة.

والجواب عن الثالث : أنه ـ على هذا التقدير ـ لا يبقى لاختصاص مريم بمثل هذه الواقعة وجه.

أيضا فإن كان في قلبه احتمال أنه ربما أتاها هذا الرزق من الوجه الذي لا يليق ، فبمجرد إخبارها كيف يعقل زوال تلك التهمة؟ فسقطت هذه الأسئلة.

واحتج المعتزلة على امتناع الكرامات بأنها دلالات صدق الأنبياء ، ودليل النّبيّ لا يوجد مع غير النبي ، كما أن الفعل المحكم ـ لما كان دليلا على العلم لا جرم ـ لا يوجد في حقّ غير العالم.

والجواب من وجوه :

الأول : أن ظهور الفعل الخارق للعادة دليل على صدق المدّعي ، فإن ادّعى صاحبه النبوة ، فذلك الفعل الخارق للعادة يدل على كونه نبيّا ، وإن ادّعى الولاية ، فذلك يدل على كونه وليّا.

١٨٦

والثاني : قال بعضهم : «الأنبياء مأمورون بإظهارها ، والأولياء مأمورون بإخفائها».

والثالث : أن النبي يدّعي المعجزة ويقطع به ، والولي لا يمكنه القطع به.

الرابع : أن المعجزة يجب انفكاكها عن المعارضة ، والكرامة لا يجب انفكاكها عن المعارضة.

قوله : (إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ) يحتمل أن يكون من جملة كلام مريم ـ عليها‌السلام ـ فيكون منصوبا.

ويحتمل أن يكون مستأنفا ، من كلام الله تعالى ، وتقدم الكلام على نظيره.

القصّة الثانية

قوله تعالى : (هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ (٣٨) فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (٣٩) قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عاقِرٌ قالَ كَذلِكَ اللهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ (٤٠) قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ)(٤١)

«هنا» هو الاسم ، واللام للبعد ، والكاف حرف خطاب ، وهو منصوب على الظرف المكاني ب «دعا» وزان «ذلك» ، وهو منصوب على الظرف المكاني ، ب «دعا» أي : في ذلك المكان الذي رأى فيه ما رأى من أمر مريم ، وهو ظرف لا يتصرف بل يلزم النصب على الظرفية ب «من» و «إلى».

قال الشاعر : [الرجز]

١٤٢٦ ـ قد وردت من أمكنه

من هاهنا ومن هنه (١)

وحكمه حكم «ذا» من كونه يجرّد من حرف التنبيه ، ومن الكاف واللام ، نحو «هنا» وقد يصحبه «ها» التنبيه ، نحو هاهنا ، ومع الكاف قليلا ، نحو ها هناك ، ويمتنع الجمع بينها وبين اللام. وأخوات «هنا» بتشديد النون مع فتح الهاء وكسرها ـ و «ثمّ» بفتح الثاء ـ وقد يقال : «هنّت». ولا يشار ب «هنالك» وما ذكر معه إلا للأمكنه ، كقوله : (فَغُلِبُوا هُنالِكَ وَانْقَلَبُوا صاغِرِينَ) [الأعراف : ١١٩] وقوله : (هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِ) [الكهف : ٤٤] وقوله : (دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً) [الفرقان : ١٣].

__________________

(١) ينظر ابن يعيش ٣ / ١٣٨ و ٩ / ٨١ والهمع ١ / ٧٨ والمنصف ٢ / ١٥٦ والدرر ١ / ٥٢ واللسان (للكميت) وضرائر الشعر ص ٢٣٢ والدرر اللوامع ١ / ٥٢ و ٢ / ٢١٤ و ٢٣٣ وشرح شواهد الشافية ص ٤٧٩ والدر المصون ٢ / ٨٠.

١٨٧

وقد زعم بعضهم أن «هنا» و «هناك» و «هنالك» للزمان ، فمن ورود «هنالك» بمعنى الزمان عند بعضهم ـ هذه الآية أي : في ذلك الزمان دعا زكريا ربه ، ومثله : (هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ ،) وقوله : (فَغُلِبُوا هُنالِكَ) ومنه قول زهير : [الطويل]

١٤٢٧ ـ هنالك إن يستخبلوا المال يخبلوا

 ........... (١)

ومن «هنا» قوله : [الكامل]

١٤٢٨ ـ حنّت نوار ولات هنّا حنّت

وبدا الّذي كانت نوار أجنّت (٢)

لأن «لات» لا تعمل إلا في الأحيان.

وفي عبارة السجاوندي أن «هناك» في المكان ، و «هنالك» في الزمان ، وهو سهو ؛ لأنها للمكان سواء تجردت ، أو اتصلت بالكاف واللام معا ، أم بالكاف من دون اللام.

فصل

ذكر المفسّرون أن زكريا ـ عليه‌السلام ـ لما رأى خوارق العادة عند مريم طمع في خرق العادة في حقه ، فرزقه الله الولد من الشيخة العاقر.

فإن قيل : لم قلتم : إنّ زكريا ـ عليه‌السلام ـ ما كان عالما بأن الله قادر على خرق العادة إلا عند مشاهدة تلك الكرامات عند مريم ، وهذه النسبة شكّ في قدرة الله ـ تعالى ـ من زكريا ، وإن قلتم بأنه كان عالما بقدرة الله تعالى على ذلك لم تكن المشاهدة سببا لزيادة علمه بقدرة الله ـ تعالى ـ فلم يكن لمشاهدته لتلك الكرامات أثر في السببية؟

فالجواب : أنه كان عالما قبل ذلك بالخوارق ، أما أنّه هل تقع أم لا؟ فلم يكن عالما به ، فلما شاهد وعلم أنه إذا وقع كرامة لوليّ فبأن يجوز وقوع معجزة لنبيّ كان أولى ، فلا جرم قوي طمعه عند ذلك.

قوله : (مِنْ لَدُنْكَ) فيه وجهان :

أحدهما : أنه يتعلق ب «هب» وتكون «من» لابتداء الغاية مجازا ، أي : يا رب هب

__________________

(١) صدر بيت وعجزه :

وإن يسألوا يعطوا وأن ييسروا يغلوا

ينظر الخصائص ١ / ٩٨ والمعاني الكبير ١ / ٥٣٩ ورغبة الآمل ١ / ١٢٤ ومجاز القرآن ٢ / ١٨٨ والصناعتين ص ١١٧ والدر المصون ٢ / ٨٠.

(٢) البيت لشبيب بن جعيل ينظر شواهد المغني ص ٩١٩ ، وخزانة الأدب ٤ / ١٩٥ ، والدرر ١ / ٢٤٤ ، ٢ / ١١٩ ، والمؤتلف والمختلف ص ٨٤ ، والمقاصد النحوية ١ / ٤١٨ ، ولحجل بن نضلة في الشعر والشعراء ص ١٠٢ ، وبلا نسبة في مغني اللبيب ص ٥٩٢ ، وجواهر الأدب ص ٢٤٩ ، وخزانة الأدب ٥ / ٤٦٣ ، وشرح الأشموني ١ / ٦٦ ، ١٢٦ ، وهمع الهوامع ١ / ٧٨ ، ١٢٦ ، والجنى الداني ص ٤٨٩ ، وتخليص الشواهد ص ١٣٠ ، وتذكرة النحاة ص ٧٣٤ والدر المصون ٢ / ٨٠.

١٨٨

لي من عندك. ويجوز أن يتعلق بمحذوف على أنه في الأصل صفة ل «ذرّيّة» فلما قدّم عليها انتصب حالا.

وتقدم الكلام على «لدن» وأحكامها.

قال ابن الخطيب : «وقول زكريا : (هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً) لما لم تكن أسباب الولادة في حقه موجودة ، قال : (مِنْ لَدُنْكَ) أي بمحض قدرتك ، من غير شيء من هذه الأسباب».

فصل

الذرية : النسل ، وهو يقع على الواحد والجمع والذكر والأنثى ، والمراد ـ هنا ـ ولد واحد ، وهو مثل قوله : (فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا)».

قوله : (طَيِّبَةً) إن أريد ب «ذرّية» الجنس ، فيكون التأنيث في «طيّبة» باعتبار تأنيث الجماعة ، وإن أريد به ذكر واحد فالتأنيث باعتبار اللفظ.

قال الفراء : وأنّث «طيّبة» لتأنيث لفظ «الذرية» كما قال القائل في ذلك البيت : [الوافر]

١٤٢٩ ـ أبوك خليفة ولدته أخرى

وأنت خليفة ذاك الكمال (١)

وهذا فيما لم يقصد به واحد معين ، أما لو قصد به واحد معيّن امتنع اعتبار اللفظ نحو طلحة وحمزة ، فيجوز أن يقال : جاءت طلحة ؛ لأن أسماء الأعلام لا تفيد إلا ذلك الشخص ، فإذا كان مذكّرا لم يجز فيه إلا التذكير ، وقد جمع الشاعر بين التذكير والتأنيث في قوله : [الطويل]

١٤٣٠ ـ فما تزدري من حيّة جبليّة

سكات إذا ما عضّ ليس بأدردا (٢)

قوله : (سَمِيعُ الدُّعاءِ) مثال مبالغة ، محوّل من سامع ، وليس بمعنى مسمع ؛ لفساد المعنى ؛ لأن معناه إنك سامعه ، وقيل : مجيبه ، كقوله : (إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ) أي : فأجيبوني ، وكقول المصلي : سمع الله لمن حمده ، يريد قبل الله حمد من حمده من المؤمنين.

فصل

قال القرطبيّ : دلّت هذه الآية على طلب الولد ، وهي سنّة المرسلين والصّدّيقين.

__________________

(١) ينظر معاني القرآن ١ / ٢٠٨ واللسان (خلف) ومجمع البيان ٢ / ٧١ والتاج ٦ / ٩٩ والبحر ٢ / ٤٦٣ والدر المصون ٢ / ٨١.

(٢) ينظر الطبري ٦ / ٣٦٢ واللسان (سلت) والبحر ٢ / ٤٦٣ والمذكر المؤنث ١ / ٧٠ و ٦٠٢ والتاج ١ / ٥٥٣ ومعاني القرآن للفراء ١ / ٢٠٨ والدر المصون ٢ / ٨١.

١٨٩

قال تعالى ـ حكاية عن إبراهيم ـ : (وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ).

وقال تعالى : (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ)[الفرقان : ٧٤] ودعا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأنس فقال : «اللهمّ أكثر ماله وولده ، وبارك له فيما أعطيته» (١) وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «تزوّجوا الودود ؛ فإنّي مكاثر بكم الأمم يوم القيامة» (٢) فدلّ على أن طلب الولد مندوب إليه ؛ لما يرجى من نفعه في الدنيا والآخرة ، وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا مات أحدكم انقطع عمله إلّا من ثلاث» فذكر «أو ولد صالح يدعو له» (٣).

فصل

ويجب على الإنسان أن يتضرّع إلى الله ـ تعالى ـ في هداية زوجته وولده بالتوفيق ، والهداية ، والصّلاح ، والعفاف ، وأن يكونا معينين له على دينه ودنياه ، حتى تعظم منفعتهما قال زكريا : (وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا) [مريم : ٦] ، وقال : (ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً) وقال تعالى : (هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ) [الفرقان : ٧٤].

قوله : (فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ) قرأ الأخوان (٤) «فناداه الملائكة» ـ من غير تأنيث ـ والباقون

__________________

(١) أخرجه البخاري (٨ / ١٣٢) كتاب الدعوات باب قول الله تعالى وصل عليهم (٦٣٣٤) ، (٨ / ١٣٥) كتاب الدعوات باب دعاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لخادمه (٦٣٤٤) ، (٨ / ١٤٦) كتاب الدعوات باب الدعاء بكثرة المال رقم (٦٣٨٠ ، ٦٣٨١) ومسلم رقم (٤٥٨) ، (١٩٢٨) والترمذي (٣٨٢٩) وأحمد (٣ / ١٩٤ ، ٢٤٨ ، ٦ / ٤٣٠) والبيهقي (٣ / ٩٦) والبخاري في «الأدب المفرد» (٨٨ ، ٦٥٣) وفي «التاريخ الكبير» (٨ / ١٢٧) وأبو نعيم في «الحلية» (٨ / ٢٦٧) والطيالسي (٢٥٢٤ ـ منحة) والبغوي في «شرح السنة» (٧ / ٢٥٣) والطبراني (١ / ٢٢١) وابن سعد (٧ / ١٢) والبيهقي في «دلائل النبوة» (٥ / ٣٣٢) عن أنس وأخرجه البخاري (٨ / ١٤٦) كتاب الدعوات باب الدعاء بكثرة المال (٦٣٧٨) والبغوي في «شرح السنة» (٧ / ٢٥٣) عن أم سليم.

(٢) أخرجه ابن حبان (١٢٢٨ ـ موارد) وأحمد (٣ / ١٥٨ ، ٢٤٥) وسعيد بن منصور (٤٩٠) والبيهقي (٧ / ٨١ ـ ٨٢) وأبو نعيم في «الحلية» (٤ / ٢١٩) والطبراني في «الأوسط» كما في «المجمع» (٤ / ٢٥٨) عن أنس بن مالك مرفوعا.

وقال الهيثمي في «المجمع» (٤ / ٢٥٨) : رواه أحمد والطبراني في الأوسط وإسناده حسن. وللحديث شاهد عن معقل بن يسار :

أخرجه أبو داود (٢٠٥٠) والنسائي (٦ / ٦٥ ـ ٦٦) وابن حبان (١٢٢٩ ـ موارد) والبيهقي (٧ / ٨١) وأبو نعيم في «الحلية» (٣ / ٦١ ـ ٦٢).

(٣) أخرجه مسلم (١ / ١٢٥٥) كتاب الوصية باب ما يلحق الإنسان من الثواب (١٤ / ١٦٣١) والنسائي (٦ / ٢٥١) كتاب الوصايا : باب فضل الصدقة عن الميت وأبو داود (٢٨٨٠) كتاب الوصايا : باب ما جاء في فضل الصدقة عن الميت.

والترمذي (١٣٧٦) وأحمد (٢ / ٣٧٢) والبيهقي (٦ / ٢٧٨) والبغوي في «شرح السنة» (١ / ٢٢٧) والطحاوي في «مشكل الآثار (١ / ٩٥) والدولابي في «الكنى والأسماء» (١ / ١٩٠) عن أبي هريرة مرفوعا.

(٤) انظر : السبعة ٢٠٥ ، والكشف ١ / ٣٤٢ ، والحجة ٣ / ٣٧ ، والعنوان ٧٩ ، وحجة القراءات ١٦٢ ، وشرح شعلة ٣١٢ ، وإعراب القراءات ١ / ١١٢ ، وشرح الطيبة ٤ / ١٥٥ ، وإتحاف ١ / ٤٧٧.

١٩٠

«فنادته» بتاء التأنيث ـ باعتبار الجمع المكسّر ، فيجوز في الفعل المسند إليه التذكير باعتبار الجمع ، والتأنيث باعتبار الجماعة ، ولتأنيث لفظ «الملائكة» مع أن الذكور إذا تقدّم فعلهم ـ وهم جماعة ـ كان التأنيث فيه أحسن ؛ كقوله تعالى : (قالَتِ الْأَعْرابُ). ومثل هذا (إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ) [الأنفال : ٥٠] تقرأ بالتاء والياء ، وكذا قوله : (تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ) [المعارج : ٤].

قال الزجاج : يلحقها التأنيث للفظ الجماعة ، ويجوز أن يعبّر عنها بلفظ التذكير ؛ لأنه ـ تعالى جمع الملائكة ، وهكذا قوله : (وَقالَ نِسْوَةٌ) [يوسف : ٣٠].

وإنما حسن الحذف ـ هنا ـ للفصل بين الفعل وفاعله.

وقد تجرأ بعضهم على قراءة العامة ، فقال : «أكره التأنيث ؛ لما فيه من موافقة دعوى الجاهلية ؛ لأن الجاهلية زعمت أن الملائكة إناث».

روى إبراهيم قال : كان عبد الله بن مسعود يذكّر الملائكة في كلّ القرآن.

قال أبو عبيد : «نراه اختار ذلك ؛ خلافا على المشركين ؛ لأنهم قالوا : الملائكة بنات الله».

وروى الشعبيّ أن ابن مسعود قال : «إذا اختلفتم في الياء والتاء فاجعلوها ياء».

وتجرأ أبو البقاء على قراءة الأخوين ، فقال : وكره قوم قراءة التأنيث لموافقة الجاهلية ، ولذلك قرأ «فناداه» بغير تاء ـ والقراءة غير جيّدة ؛ لأن الملائكة جمع ، وما اعتلوا ليس بشيء ؛ لأن الإجماع على إثبات التاء في قوله : (وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ).

وهذان القولان ـ الصادران من أبي البقاء وغيره ـ ليسا بجيّدين ؛ لأنهما قراءتان متواترتان ، فلا ينبغي أن ترد إحداهما ألبتة.

والأخوان على أصلهما من إمالة «فناداه». والرسم يحتمل القراءتين معا ـ أعني : التذكير والتأنيث والجمهور على أن الملائكة المراد بهم واحد ـ وهو جبريل.

قال الزّجّاج : أتاه النداء من هذا الجنس الذين هم الملائكة ، كقولك : فلان يركب السّفن ـ أي : هذا الجنس كقوله تعالى : (يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ) [النحل : ٢] يعني جبريل «بالرّوح» يعني الوحي. ومثله قوله : (الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ) [آل عمران : ١٧٣] وهو نعيم بن مسعود ، وقوله : (إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ) يعني أبا سفيان. ولما كان جبريل ـ عليه‌السلام ـ رئيس الملائكة أخبر عنه إخبار الجماعة ؛ تعظيما له.

قيل : الرئيس لا بدّ له من أتباع ، فلذلك أخبر عنه وعنهم ، وإن كان النداء قد صدر منه ـ قاله الفضل بن سلمة ـ ويؤيد كون المنادي جبريل وحده قراءة عبد الله ـ وكذا في مصحفه ـ فناداه جبريل.

١٩١

والعطف بالفاء ـ في قوله «فنادته» ـ مؤذن بأن الدعاء متعقب بالتبشير.

والنداء : رفع الصوت ، يقال : نادى نداء ـ بضم النون وكسرها ـ والأكثر في الأصوات مجيئها على الضم ، نحو البكاء ، والصّراخ ، والدّعاء ، والرّغاء.

وقيل : المكسور مصدر ، والمضموم اسم. ولو عكس هذا لكان أبين ؛ لموافقته نظائره من المصادر.

قال يعقوب بن السكيت : إن ضمّيت نونه قصرته ، وإن كسرتها مددته.

وأصل المادة يدل على الرفع ، ومنه المنتدى والنادي ؛ لاجتماع القوم فيهما وارتفاع أصواتهم. وقالت قريش : دار الندوة ، لارتفاع أصواتهم عند المشاورة والمحاورة فيها ، وفلان أندى صوتا من فلان ـ أي : أرفع ـ هذا أصله في اللغة ، وفي العرف : صار ذلك لأحسنها نغما وصوتا ، والنّدى : المطر ، ومنه : ندي ، يندى ، ويعبّر به عن الجود ، كما يعبّر بالمطر والغيث عنه استعارة.

قوله : (وَهُوَ قائِمٌ) جملة حالية من مفعول النداء ، و «يصلّي» يحتمل أوجها :

أحدها : أن يكون خبرا ثانيا ـ عند من يرى تعدّده مطلقا ـ نحو : زيد شاعر فقيه.

الثاني : أنه حال من مفعول النداء ، وذلك ـ أيضا ـ عند من يجوّز تعدّد الحال.

الثالث : أنه حال من الضمير المستتر في «قائم» فيكون حالا من حال.

الرابع : أن يكون صفة ل «قائم».

قوله : (فِي الْمِحْرابِ) متعلق ب «يصلّي» ، ويجوز أن يتعلق ب «قائم» إذا جعلنا يصلّي حالا من الضمير في «قائم» ؛ لأن العامل فيه ـ حينئذ ـ وفي الحال شيء واحد ، فلا يلزم فيه فصل ، أما إذا جعلناه خبرا ثانيا أو صفة ل «قائم» أو حالا من المفعول لزم الفصل بين العامل ومعموله بأجنبيّ. هذا معنى كلام أبي حيّان.

قال شهاب الدّين (١) : والذي يظهر أنه يجوز أن تكون المسألة من باب التنازع ؛ فإن كلّا من «قائم» و «يصلّي» يصح أن يتسلّط على «في المحراب» وذلك على أي وجه تقدم من وجوه الإعراب.

والمحراب ـ هنا ـ : المسجد.

قوله : (أَنَّ اللهَ) قرأ نافع وحمزة وابن عامر (٢) بكسر «إنّ» والباقون بفتحها ، فالكسر عند الكوفيين ؛ لإجراء النداء مجرى القول ، فيكسر معه ، وعند البصريين ، على إضمار القول ـ أي : فنادته ، فقالت. والفتح والحذف ـ على حذف حرف الجر ، تقديره : فنادته

__________________

(١) ينظر : الدر المصون ٢ / ٨٢.

(٢) ينظر : السبعة ٢٠٥ ، والكشف ١ / ٣٤٣ ، والحجة ٣ / ٣٨ ، والعنوان ٧٩ ، وحجة القراءات ١٦٢ ، ١٦٣ ، وشرح طيبة النشر ٤ / ١٥٥ ، وشرح شعلة ٣١٢ ، وإتحاف ١ / ٤٧٧ ، وإعراب القراءات ١ / ١١٢.

١٩٢

بأن الله ، فلما حذف الخافض جرى الوجهان المشهوران في محلّها.

وفي قراءة عبد الله (١) : «فنادته الملائكة يا زكريا» فقوله : «يا زكريا» هو مفعول النداء ، وعلى هذه القراءة يتعين كسر «إن» ولا يجوز فتحها ؛ لاستيفاء الفعل معموليه ، وهما الضمير وما نودي به زكريا.

قوله : (يُبَشِّرُكَ) قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وعاصم (٢) الخمسة في هذه السورة (أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ) ـ في موضعين ـ وفي سورة الإسراء : (وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ) وفي سورة الكهف : (وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ) ـ بضم الياء ، وفتح الباء ، وكسر الشين مشددة ـ من بشّره ، يبشّره.

وقرأ نافع وابن عامر وعاصم ـ ثلاثتهم ـ كذلك في سورة الشورى ، وهو قوله : (ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللهُ عِبادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا) [الشورى : ٢٣].

وقرأ الجميع ـ دون حمزة (٣) ـ كذلك في سورة براءة : (يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ) [التوبة : ٢١] وفي الحجر ـ في قوله : (إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ) [الحجر : ٥٣] ـ ولا خلاف في الثاني ـ وهو قوله : (فَبِمَ تُبَشِّرُونَ) [الحجر : ٥٤] ـ أنه بالتثقيل.

وكذلك قرأ الجميع (٤) ـ دون حمزة ـ في سورة مريم ـ في موضعين ـ (إِنَّا نُبَشِّرُكَ) [مريم : ٧] وقوله : (لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ) [مريم : ٩٧]. وكل من لم يذكر من قرأ بالتقييد المذكور فإنه يقرأ بفتح حرف المضارعة ، وسكون الباء وضم الشين.

وإذا أردت معرفة ضبط هذا الفصل ، فاعلم أن المواضع التي وقع فيها الخلاف المذكور تسع كلمات ، والقرّاء فيه على أربع مراتب :

فنافع وابن عامر وعاصم ثقّلوا الجميع.

وحمزة خفّف الجميع إلا قوله : (فَبِمَ تُبَشِّرُونَ).

وابن كثير وأبو عمرو ثقلا الجميع إلا التي في سورة الشورى فإنهما وافقا فيها حمزة. والكسائي خفّف خمسا منها ، وثقّل أربعا ، فخفّف كلمتي هذه السورة ، وكلمات الإسراء والكهف والشورى. وقد تقدم أن في هذا الفعل ثلاث لغات : بشّر ـ بالتشديد ـ وبشر ـ بالتخفيف ـ.

__________________

(١) ينظر : المحرر الوجيز ١ / ٤٢٨ ، والبحر المحيط ٢ / ٤٦٥ ، والدر المصون ٢ / ٨٢.

(٢) انظر : السبعة ٢٠٥ ، والكشف ١ / ٣٤٣ ، والحجة ٣ / ٤١ ، ٤٢ ، وحجة القراءات ١٦٣ ، وإعراب القراءات ١ / ١١٢ ، والعنوان ٧٩ ، وشرح شعلة ٣١٣ ، ٣١٤ ، وإتحاف ١ / ٤٧٧ ، وشرح الطيبة ٤ / ١٥٦ ـ ١٥٨.

(٣) انظر القراءة السابقة.

(٤) ستأتي في مريم آية ٧.

١٩٣

وعليه ما أنشده الفراء قوله : [الطويل]

١٤٣١ ـ بشرت عيالي إذ رأيت صحيفة

أتتك من الحجّاج يتلى كتابها (١)

الثالثة : أبشر ـ رباعيا ـ وعليه قراءة بعضهم «يبشرك» ـ بضم الياء.

ومن التبشير قول الآخر : [الكامل]

١٤٣٢ ـ يا بشر حقّ لوجهك التّبشير

هلّا غضبت لنا وأنت أمير؟ (٢)

وقد أجمع على مواضع من هذه اللغات نحو (فَبَشِّرْهُمْ). (وَأَبْشِرُوا) [فصلت : ٣٠] ، (فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ) [هود : ٧١]. قالوا : (بَشَّرْناكَ بِالْحَقِّ). فلم يرد الخلاف إلا في المضارع دون الماضي.

وقد تقدم معنى البشارة واشتقاقها في سورة البقرة.

قوله : (بِيَحْيى) متعلق ب (يُبَشِّرُكَ) ولا بد من حذف مضاف ، أي : بولادة يحيى ؛ لأن الذوات ليست متعلقة للبشارة ، ولا بد في الكلام من حذف معمول قاد إليه السياق ، تقديره : بولادة يحيى منك ومن امرأتك ، دلّ على ذلك قرينة الحال وسياق الكلام.

و «يحيى» فيه قولان :

أحدهما ـ وهو المشهور عند المفسّرين ـ : أنه منقول من الفعل المضارع وقد سمّوا بالأفعال كثيرا ، نحو يعيش ويعمر ويموت.

قال قتادة : «سمّي (يحيى) لأن الله أحياه بالإيمان».

وقال الزّجاج : «حيي بالعلم» وعلى هذا فهو ممنوع من الصرف للعلميّة ووزن الفعل ، نحو يزيد ويشكر وتغلب.

والثاني : أنه أعجميّ لا اشتقاق له ـ وهو الظاهر ـ فامتناعه للعلمية والعجمة الشخصية.

وعلى كلا القولين يجمع على «يحيون» بحذف الألف وبقاء الفتحة تدلّ عليها.

وقال الكوفيون : إن كان عربيّا منقولا من الفعل فالأمر كذلك ، وإن كان أعجميا ضمّ ما قبل الواو ، وكسر ما قبل الياء ؛ إجراء له مجرى المنقوص ، نحو جاء القاضون ، ورأيت القاضين ، نقل هذا أبو حيّان عنهم. ونقل ابن مالك عنهم أن الاسم إن كانت ألفه زائدة ضمّ ما قبل الواو ، وكسر ما قبل الياء ، نحو : جاء حبلون ورأيت حبلين ، وإن كانت أصلية نحو دجون وجب فتح ما قبل الحرفين.

__________________

(١) تقدم برقم ١٠٢.

(٢) البيت لجرير بن عطية ينظر ديوانه ص ٣٦٨ والبحر ٢ / ٤٦٥ وجامع البيان ٦ / ٤٧٠ والدر المصون ٢ / ٨٣.

١٩٤

قالوا : فإن كان أعجميا جاز الوجهان ؛ لاحتمال أن تكون ألفه أصلية أو زائدة ؛ إذ لا يعرف له اشتقاق. ويصغر يحيى على «يحيى» وأنشد للشيخ أبي عمرو بن الحاجب في ذلك : [مجزوء الرمل]

١٤٣٣ ـ أيّها العالم بالتّصر

يف لا زلت تحيّا

قال قوم : إنّ يحيى

إن يصغّر فيحيّا

وأبى قوم فقالوا

ليس هذا الرّأي حيّا

إنّما كان صوابا

لو أجابوا بيحيّا

كيف قد ردّوا يحيّا

والّذي اختاروا يحيّا؟

أتراهم في ضلال

أم ترى وجها يحيّا؟ (١)

وهذا جار مجرى الألغاز في تصغير هذه اللفظة ، وذلك يختلف بالتصريف والعمل ، وهو أنه لما اجتمع في آخر الاسم المصغّر ثلاث ياءات جرى فيه خلاف بين النحاة بالنسبة إلى الحذف والإثبات ، وأصل المسألة تصغير «أحوى» وينسب إلى «يحيى» «يحييّ» ـ بحذف الألف ، تشبيها لها بالزائد ـ نحو حبليّ ـ في حبلى ـ و «يحيويّ» ـ بالقلب ؛ لأنها أصل كألف ملهويّ ، أو شبيهة بالأصل إن كان أعجميا ـ و «يحياويّ» ـ بزيادة ألف قبل قلب ألفه واوا.

وقرأ حمزة والكسائي «يحيى» بالإمالة ؛ لأجل الياء والباقون بالتفخيم.

قال ابن عباس : «سمّي» يحيى ؛ لأن الله أحيا به عقر أمّه (٢).

وقال قتادة : لأن الله أحيا قلبه بالإيمان (٣).

وقيل : لأن الله أحياه بالطاعة حتى إنه لم يعص الله ، ولم يهمّ بمعصية.

قال القرطبي : «كان اسمه ـ في الكتاب الأول ـ حيا ، وكان اسم سارة ـ زوجة إبراهيم ـ يسارة ، وتفسيره بالعربية : لا تلد ، فلما بشّرت بإسحاق قيل لها : سارة ، سمّاها بذلك جبريل ـ عليه‌السلام ـ فقالت : يا إبراهيم ، لم نقص من اسمي حرف؟ فقال إبراهيم ذلك لجبريل ـ عليه‌السلام ـ فقال : إن ذلك حرف زيد في اسم ابن لها من أفضل الأنبياء ، اسمه حيا ، فسمّي بيحيى».

قوله : (مُصَدِّقاً) حال من «يحيى» وهذه حال مقدرة.

__________________

(١) ينظر الأبيات في بغية الوعاة ٢ / ١٣٤ وغاية النهاية ١ / ٥٠٨ والدر المصون ٢ / ٨٣ و ٨٤.

(٢) ذكره البغوي في «تفسيره» (١ / ٢٩٨).

(٣) ذكره البغوي في «تفسيره» (١ / ٢٩٨).

١٩٥

وقال ابن عطية : «هي حال مؤكدة بحسب حال هؤلاء الأنبياء عليهم الصلاة والسلام». و «بكلمة» متعلق ب «مصدّقا».

وقرأ أبو السّمال (١) «بكلمة» ـ بكسر الكاف وسكون اللام ـ وهي لغة صحيحة ؛ وذلك أنه أتبع الفاء للعين في حركتها ، فالتقى بذلك كسرتان ، فحذف الثانية ؛ لأجل الاستثقال.

فصل

قيل : المراد بها الجمع ؛ إذ المقصود التوراة والإنجيل وغيرهما من كتب الله تعالى المنزّلة فعبّر عن الجمع ببعضه ، ومثل هذا قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أصدق كلمة قالها شاعر كلمة لبيد حيث قال : [الطويل]

١٤٣٤ ـ ألا كلّ شيء ما خلا الله باطل

 ..........(٢)

وذكر جابر ـ رضي الله عنه ـ الحويدرة فقال : لعن الله كلمته ـ يعني قصيدته.

وقال الجمهور : الكلمة : هي عيسى عليه‌السلام.

قال السديّ : لقيت أمّ عيسى ، أمّ يحيى ـ وهذه حامل بعيسى ، وتلك حامل بيحيى ـ فقالت أم يحيى : أشعرت أني حبلى؟ فقالت مريم : وأنا ـ أيضا ـ حبلى ، قالت امرأة زكريا : فإني وجدت ما في بطني يسجد لما في بطنك ، فذلك قوله (٣) : (مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ).

قال القرطبيّ : «روي أنها أحسّت بجنينها يخرّ برأسه إلى ناحية بطن مريم».

وقال ابن عبّاس : إن يحيى كان أكبر سنّا من عيسى بستة أشهر (٤).

وقيل : بثلاث سنين ، وكان يحيى أول من آمن به وصدق بأنه كلمة الله وروحه.

وسمي عيسى عليه‌السلام كلمة. قيل : لأنه خلق بكلمة من الله (كُنْ فَيَكُونُ) من غير واسطة أب فسمي لهذا كلمة ـ كما يسمى المخلوق خلقا ، والمقدور قدرة ، والمرجوّ رجاء ، والمشتهى شهوة ـ وهو باب مشهور في اللغة.

وقيل : هو بشارة الله مريم بعيسى ـ بكلامه على لسان جبريل عليه‌السلام.

__________________

(١) ينظر : البحر المحيط ٢ / ٤٦٦ ، والدر المصون ٢ / ٨٤.

(٢) أخرجه البخاري ٧ / ١٨٣ في مناقب الأنصار ، باب أيام الجاهلية (٣٨٤١) ، ومسلم ٤ / ١٧٦٨ في الشعر ، في أوله (٣ ـ ٢٢٥٦) من حديث أبي هريرة. وقد تقدم تخريج البيت برقم ٤١٠.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٣٧٣) عن ابن عباس ومجاهد والسدي وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٣٨).

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٣٧٣) عن ابن عباس.

١٩٦

وقيل : لأنه تكلم في الطفوليّة ، وأتاه الكتاب في زمن الطفوليّة ، فلهذا كان بالغا مبلغا عظيما ، فسمّي كلمة كما يقال : فلان جود وإقبال ـ إذا كان كاملا فيهما.

وقيل : لما وردت البشارة به في كتب الأنبياء قبله ، فلما جاء قيل : هذا هو تلك الكلمة ـ كما إذا أخبر عن حدوث أمر ، فإذا حدث ذلك الأمر ، قال : قد جاء قولي ، وجاء كلامي ـ أي : ما كنت أقول ، وأتكلم به ـ ونظيره قوله تعالى : (وَكَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ) [غافر : ٦] وقوله : (وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ) [الزمر : ٧١].

وقيل : لأن الإنسان قد يسمّى ب «فضل الله» و «لطف الله» وكذلك عيسى كان اسمه كلمة الله وروح الله.

واعلم أن كلمة الله ـ تعالى ـ كلامه ، وكلامه ـ على قول أهل السنة ـ صفة قديمة قائمة بذاته وفي قول المعتزلة : صفة يخلقها الله في جسم مخصوص ، دالة بالوضع على معاني مخصوصة.

وضروريّ حاصل بأن الصفة القديمة ، أو الأصوات التي هي أعراض غير باقية يستحيل أن يقال : إنها ذات عيسى ، ولما كان ذلك باطلا في بداهة العقول ، لم يبق إلا التأويل.

قوله : (مِنَ اللهِ) في محل جر ؛ صفة ل «كلمة» فيتعلق بمحذوف ، أي : بكلمة كائنة من الله (وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيًّا) أحوال أيضا ـ كمصدّقا. والسيد : فيعل ، والأصل سيود ، ففعل به ما فعل ب «ميت» ، كما تقدم ، واشتقاقه من ساد ، يسود ، سيادة ، وسؤددا ـ أي فاق نظراءه في الشرف والسؤدد.

ومنه قوله : [الرجز]

١٤٣٥ ـ نفس عصام سوّدت عصاما

وعلّمته الكرّ والإقداما

وصيّرته بطلا هماما (١)

وجمعه على «فعلة» شاذ قياسا ، فصيح استعمالا ؛ قال تعالى : (إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا) [الأحزاب : ٦٧].

وقال بعضهم : سمي سيّدا ؛ لأنه يسود سواد الناس أي : معظمهم وجلّهم. والأصل سودة ، و «فعلة» ل «فاعل» نحو كافر وكفرة ، وفاجر وفجرة ، وبارّ وبررة.

وقال ابن عباس : السّيّد : الحليم (٢).

__________________

(١) الأبيات للنابغة الذبياني ينظر ديوانه ص ١١٨ واللسان (عصم) ودلائل الإعجاز ص ٥٧ والاشتقاق ص ٥٤٤ والتاج ٨ / ٣٩٩ ومجمع الأمثال ٣ / ٣٦٩ والفاضل للمبرد ص ٨. والدر المصون ٢ / ٨٥.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٣٧٦) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٣٨) وزاد نسبته لابن أبي حاتم عن ابن عباس.

١٩٧

قال الجبائي : إنه كان سيدا للمؤمنين ، ورئيسا لهم في الدين ـ أعني : في العلم والحلم والعبادة والورع.

قال مجاهد : السّيّد : الكريم على الله تعالى (١).

وقال ابن المسيّب : السيّد : الفقيه العالم (٢).

وقال عكرمة : السيد : الذي لا يغلبه الغضب (٣).

وقيل : هو الرئيس الذي يتبع ، وينتهى إلى قوله.

وقال المفضل : السيد في الدين.

وقال الضحاك : الحسن الخلق (٤).

وقال سعيد بن جبير : هو الذي يطيع ربّه.

ويقول عن الضّحّاك : السيد : التقيّ (٥).

وقال سفيان : الذي لا يحسد.

وقيل : هو الذي يفوق قومه في جميع خصال الخير.

وقيل : هو القانع بما قسم الله له.

وقيل : هو السّخيّ.

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من سيدكم يا بني سلمة»؟ قالوا : جد بن قيس على بخله ، فقال : «وأي دواء أدوى من البخل ، لكن سيّدكم عمرو بن الجموح» (٦). وفي الآية بذلك دليل على جواز تسمية الإنسان سيدا كما تجوز تسميته عزيزا وكريما. وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم لبني قريظة : قوموا إلى سيّدكم (٧).

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٣٧٥) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٣٩) وزاد نسبته لعبد بن حميد عن مجاهد.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٣٨٦) عن سعيد بن المسيب.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٣٧٦) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٣٩) وزاد نسبته لابن أبي الدنيا في «ذم الغضب» عن عكرمة.

(٤) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٣٩) وعزاه لأحمد في «الزهد» والخرائطي في «مكارم الأخلاق» عن الضحاك.

(٥) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٣٧٥) عن الضحاك.

(٦) أخرجه الحاكم (٣ / ٢١٩ ، ٤ / ١٦٣) والخرائطي في «مكارم الأخلاق» (٥٩) والخطيب في «تاريخ بغداد» (٤ / ٢١٧) وأبو نعيم في «تاريخ أصفهان» (٢ / ٢٥١).

وذكره الحافظ العراقي في «تخريج الإحياء» (٣ / ٢٥٤) وعزاه للطبراني في الصغير من حديث كعب بن مالك بإسناد حسن.

(٧) أخرجه البخاري (٣ / ٢٩٨) كتاب العتق باب كراهية التطاول (٢٥٤٩) ، (٤ / ١٥٨) كتاب الجهاد والسير باب إذا نزل العدو على حكم رجل (٣٠٤٣) ، (٥ / ٢٤٣) كتاب المغازي رقم (٤١٢١) ، (٨ / ١٠٦) ـ

١٩٨

وقال ـ في الحسن ـ : «إن ابني هذا سيّد ، فلعلّ الله يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين» (١).

قال الكسائي : السيّد من المعز : [المسّن]. وفي الحديث : «الثّنيّ من الضّأن خير من السّيّد من المعز المسنّ» (٢).

وقال الشاعر : [الطويل]

١٤٣٦ ـ سواء عليه شاة عام دنت له

ليذبحها للضّيف أم شاة سيّد (٣)

والحصور : فعول للمبالغة ، محوّل من حاصر ، كضروب.

وفي قوله : [الطويل]

١٤٣٧ ـ ضروب بنصل السّيف سوق سمانها

إذا عدموا زادا فإنّك حاصر (٤)

وقيل : بل هو فعول بمعنى : مفعول ، أي : محصور ، ومثله ركوب بمعنى : مركوب ، وحلوب بمعنى : محلوب.

والحصور : الذي يكتم سره.

قال جرير : [الكامل]

١٤٣٨ ـ ولقد تسقّطني الوشاة فصادفوا

حصرا بسرّك يا أميم ضنينا (٥)

__________________

ـ كتاب الاستئذان باب قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قوموا ... رقم (٦٢٦٢) ومسلم (كتاب الجهاد رقم ٦٤) وأبو داود (٥٢١٥) والترمذي (٨٥٦) وأحمد (٣ / ٢٢) والبيهقي (٦ / ٥٨) والطبراني في «الكبير» (٦ / ٦).

(١) أخرجه البخاري (٤ / ٢٤) كتاب الصلح باب قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم للحسن بن علي ... رقم (٢٧٠٤) ، (٩ / ١٠٢) كتاب الفتن باب قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم للحسن بن علي ... رقم (٧١٠٩) وأبو داود (٤٦٦٢) والنسائي (١ / ٢٠٨) والترمذي ٢ / ٣٠٦) والبيهقي (٦ / ١٦٥) والطيالسي (٨٧٤) وأحمد (٥ / ٣٧ ، ٤٤ ، ٤٧ ، ٤٩ ، ٥١) من طرق عن الحسن البصري عن أبي بكرة قال : «أخرج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذات يوم الحسن فصعد به على المنبر فقال ...» فذكره. وقال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح.

(٢) أخرجه أحمد في المسند ٢ / ٤٠٢ من حديث أبي هريرة رفعه «الجذع من الضأن خير من السيد من المعز ...».

والجذع من الضأن ابن سنة وابن تسعة أشهر.

(١٢) ينظر اللسان (سود) والتاج ٢ / ٣٨٥.

(٣) البيت لأبي طالب ينظر الكتاب ١ / ١١١ والهمع ٢ / ٩٧ وابن الشجري ٢ / ١٠٦ ، والدرر ٢ / ١٣٠ وأوضح المسالك ٢ / ٩ وشرح المفصل لابن يعيش ٦ / ٧١ والمقتضب ٢ / ١١٣ والتصريح ٢ / ٦٨ والأشموني ٢ / ٢٩٧ والخزانة ٤ / ٢٤٢ وشذور الذهب ص ٣٩٣ والدر المصون ٢ / ٨٥.

(٤) ينظر البيت في ديوانه ٥٧٨ واللسان (حصر) والبحر المحيط ٢ / ٤٦٨ وجامع البيان ٦ / ٣٧٧ ومجاز القرآن ١ / ٩٢ والتاج ٣ / ١٤٥ والدر المصون ٢ / ٨٥.

(٥) عجز بيت للأخطل وصدره :

وشارب مربع بالكأس نادمني

١٩٩

وهو البخيل ـ أيضا ـ قال : [البسيط]

١٤٣٩ ـ ............

لا بالحصور ولا فيها بسئّار (١)

وقد تقدم اشتقاق هذه المادة وهو مأخوذ من المنع ؛ وذلك لأن الحصور هو الذي لا يأتي النساء ـ إما لطبعه على ذلك ، وإما لمغالبته نفسه ـ قال ابن مسعود وابن عبّاس وسعيد بن جبير وقتادة وعطاء والحسن : الحصور : الذي لا يأتي النساء ولا يقربهنّ (٢) ، وهو ـ على هذا ـ بمعنى فاعل ، يعني أنه يحصر نفسه عن الشهوات.

قال سعيد بن المسيّب هو العنّين الذي لا ماء (٣) له ، فيكون بمعنى «مفعول» كأنه ممنوع من النساء.

واختيار المحققين أنه الذي لا يأتي النساء لا للعجز بل للعفة والزهد ـ مثل الشروب والظلوم والغشوم ـ والمنع إنما يحصل إذا كان المقتضي قائما ، والدفع إنما يحصل عند قوة الداعية والرغبة والغلمة. والكلام إنما خرج مخرج الثناء وأيضا فإنه أبعد من إلحاق الآفة بالأنبياء ـ والصفة التي ذكروها صفة نقص ، وذكر صفة النقصان في معرض المدح ، لا يجوز ، ولا يستحق به ثوابا ولا تعظيما.

فصل

احتجّ بعضهم ـ بهذه الآية ـ على أن ترك النكاح أفضل ؛ لأنه ـ تعالى ـ مدحه بترك النكاح ، فيكون تركه أفضل في تلك الشريعة ، فيجب أن يكون الأمر كذلك في شريعتنا ؛ للنص والمعقول أما النص فقوله تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ) [الأنعام : ٩٠].

__________________

ـ ينظر ديوانه (١٦٨) والمحتسب ٢ / ٢٤١ والمعاني الكبير ١ / ٤٦٤ ورغبة الآمل ٢ / ٤٩ وجمهرة أشعار العرب ص ٧٢٤ والتاج ٣ / ١٤٣ والكشاف ١ / ٣٦٠ ومجاز القرآن ١ / ٩٢ والدر المصون ٢ / ٨٥.

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٣٧٧) والبيهقي (٧ / ٨٣) وابن المنذر كما في «الدر المنثور» (٢ / ٣٩) عن عبد الله بن مسعود.

وأخرجه عبد الرزاق وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن عساكر كما في «الدر المنثور» (٢ / ٣٩) عن عبد الله بن عباس.

وأخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٣٧٨) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» وعزاه لابن أبي شيبة وأحمد في «الزهد» عن سعيد بن جبير.

وأخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٣٧٧ ـ ٣٧٨ ـ ٣٧٩) عن قتادة وعطاء والحسن.

(٢) أخرجه ابن المنذر عن ابن مسعود كما في «الدر المنثور» (٢ / ٣٩) وأخرجه الطبري (٦ / ٣٧٩) عن الضحاك مثله.

(٣) أخرجه بهذا اللفظ عبد الرزاق (١ ـ ٢٣٩) مرسلا وذكره العجلوني في «كشف الخفاء» (١ / ٣٨٠) وعزاه للبيهقي وعبد الرزاق مرسلا والحديث ذكره القرطبي في «تفسيره» (٥ / ٣٩١) والمتقي الهندي في «كنز العمال» (٤٤٤٤٢).

٢٠٠