اللّباب في علوم الكتاب - ج ٥

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ٥

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 2-7451-2298-3
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٦٣٢

١
٢

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة آل عمران

حكى النّقاش : أنّ هذه السورة اسمها في التوراة «طيبة» مدنية بالإتفاق ، وهي مائتا آية ، وثلاثة آلاف وأربعمائة وثمان كلمات ، وأربعة عشر ألفا وخمسمائة وعشرون حرفا.

قوله تعالى : (الم (١) اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (٢) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (٣) مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ)(٤)

قوله : (الم) قد تقدم الكلام على هذا مشبعا ، ونقل الجرجانيّ ـ هنا ـ أن «الم» إشارة ، إلى حروف المعجم ، كأنه يقول : هذه الحروف كتابك ـ أو نحو هذا ـ ويدل (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ) على ما ترك ذكره من خبر هذه الحروف ، وذلك في نظمه مثل قوله تعالى : (أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ)؟ وترك الجواب لدلالة قوله : (فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللهِ) [الزمر : ٢٢] عليه ؛ تقديره : كمن قسا قلبه.

ومنه قول الشاعر : [الطويل]

١٣١٥ ـ فلا تدفنوني إنّ دفني محرّم

عليكم ولكن خامري أمّ عامر (١)

أي : ولكن اتركوني للتي يقال لها خامري أم عامر «انتهى».

قال ابن عطية (٢) : يحسن في هذا القول ـ يعني قول الجرجانيّ ـ أن يكون «نزّل» خبر ، قوله : «الله» حتى يرتبط الكلام إلى هذا المعنى.

قال أبو حيّان (٣) : وهذا الذي ذكره الجرجاني فيه نظر ؛ لأن مثليته ليست صحيحة الشبه بالمعنى الذي نحا إليه ، وما قاله في الآية محتمل ، ولكن الأبرع في [نظم](٤) الآية أن يكون «الم» لا يضمّ ما بعدها إلى نفسها في المعنى ، وأن يكون قوله (٥)(اللهُ لا إِلهَ إِلَّا

__________________

(١) البيت للشنفرى ـ ينظر الأغاني ٢١ / ١٣٦ والحماسة بشرح التبريزي ٢ / ٦٣ والصناعتين ص ١٣٨ وذيل الأمالي ٣٦ والشعر والشعراء ١ / ٢٦ وأمالي المرتضى ٢ / ٧٢ والبحر المحيط ٢ / ٣٩١ والدر المصون ٢ / ٣.

(٢) ينظر : المحرر الوجيز ١ / ٣٩٦.

(٣) البحر المحيط ٢ / ٣٩١.

(٤) سقط في أ.

(٥) في أ : وأن يكون قوله.

٣

هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) كلاما مبتدأ جملة رادة على نصارى نجران.

قال شهاب الدين (١) : وهذا الذي ردّه الشيخ على الجرجانيّ هو الذي اختاره الجرجانيّ وجعله أحسن الأقوال التي حكاها في كتابه «نظم القرآن».

قوله : (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) يجور أن تكون هذه الجملة خبر الجلالة ، و (نَزَّلَ عَلَيْكَ) خبر آخر ، ويجوز أن يكون (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) معترضة بين المبتدأ والخبر ، ويجوز أن يكون حالا ، وفي صاحبه احتمالان :

أحدهما : أن يكون لفظ الجلالة.

والثاني : أن يكون الضمير في «نزّل» تقديره : نزّل عليك الكتاب متوحّدا بالربوبية (٢). ذكره مكّيّ ، والأوّل أولى.

وقرأ الجمهور «الم الله» بفتح الميم ، وإسقاط همزة الجلالة ، واختلفوا في فتحة هذه الميم على ستة أوجه :

أحدها : أنها حركة التقاء الساكنين ، وهو مذهب سيبويه (٣) ، وجمهور الناس.

فإن قيل : أصل التقاء الساكنين الكسر ، فلم عدل عنه؟

فالجواب : أنهم لو كسروا لكان ذلك مفضيا إلى ترقيق الميم لام الجلالة ، والمقصود تفخيمها للتعظيم ، فأوثر الفتح لذلك ، وأيضا : فقبل هذه (٤) ياء [وهي أخت الكسرة وأيضا فصل هذه الياء كسرة](٥) ، فلو كسرنا الميم الأخيرة لالتقاء الساكنين لتوالى ثلاث متجانسات (٦) ، فحركوها بالفتح كما حركوا في نحو : من الله ، وأما سقوط الهمزة فواضح ، وبسقوطها التقى الساكنان.

الثاني : أن الفتحة لالتقاء الساكنين [أيضا ولكن الساكنين](٧) هما الياء التي قبل الميم ، والميم الأخيرة ، فحرّكت بالفتح لئلا يلتقي ساكنان ، ومثله : أين وكيف [وكيت ، وذيت](٨) ، وما أشبهها.

__________________

(١) ينظر : الدر المصون ٢ / ٣.

(٢) قال مكي في «المشكل» ١ / ١٤٨ «وقيل : هو ابتداء وخبر في موضع الحال من «الله» وقيل من المضمر في «نزل» تقديره : نزل الله عليك الكتاب متوحدا بالربوبية».

(٣) ينظر : الكتاب ٢ / ٢٧٥.

(٤) سقط في أ.

(٥) سقط في ب.

(٦) المراد بالمتجانسات الثلاث هي كسرة الميم الأولى ، والياء ، وكسرة الميم الثانية لو كسرت ؛ لأن الكسرة من جنس الياء والحركات أبعاض الحروف ينظر الزجاج ١ / ٣٧٣.

(٧) سقط في ب.

(٨) سقط في ب.

٤

وهذا على قولنا : إنّه لم ينو الوقف على هذه الحروف المقطّعة ، وهذا خلاف القول الأول: فإنه ينوى فيه الوقف على الحروف المقطعة ، فسكنت أواخرها ، وبعدها ساكن آخر ، وهو لام الجلالة ، وعلى هذا القول الثاني ليس لإسقاط الهمزة تأثير في التقاء الساكنين ، بخلاف الأول ، فإن التقاء الساكنين إنما نشأ من حذفها درجا.

الثالث : أن هذه الفتحة ليست لالتقاء الساكنين ، بل هي حركة نقل ، أي : نقلت حركة الهمزة التي قبل لام التعريف على الميم الساكنة نحو (قَدْ أَفْلَحَ) ، [طه : ٦٤] وهي قراءة (١) ورش وحمزة ـ في بعض طرقه ـ في الوقف ، وهو مذهب الفراء ، واحتج على ذلك بأن هذه الحروف النيّة بها الوقف ، وإذا كان النية بها الوقف ، فسكن أواخرها ، والنية بما بعدها الابتداء والاستئناف ، فكأن همزة الوصل جرت مجرى همزة القطع ؛ إذ النية بها الابتداء ، وهي تثبت ابتداء ليس إلّا ، فلما كانت الهمزة في حكم الثّابتة ، وما قبلها ساكن صحيح قابل لحركتها خففوها بأن ألقوا حركتها على الساكن قبلها ورد بعضهم قول الفراء بأن وضع هذه الحروف على الوقف لا يوجب قطع ألف الوصل وإثباتها في المواضع التي تسقط فيها ، وأنت إذا ألقيت حركتها على الساكن قبلها فقد وصلت الكلمة التي هي فيها بما قبلها وإن كان ما قبلها موضوعا على الوقف ، فقولك : ألقيت حركته عليه بمنزلة قولك : وصلته ، ألا ترى أنك إذا خففت : من أبوك؟ قلت : من أبوك ، فوصلت ، ولو وقفت لم تلق الحركة عليها ، وإذا وصلتها بما قبلها لزم إسقاطها ، وكان إثباتها مخالفا لأحكامها في سائر متصرفاتها.

قال شهاب الدين : «وهذا الرد مردود بأن ذلك معامل معاملة الموقوف عليه والابتداء بما بعده لا أنه موقوف عليه ، ومبتدأ بما بعده حقيقة ، حتى يردّ عليه بما ذكره» ، وقد قوّي جماعة قول الفراء بما حكاه سيبويه (٢) من قولهم : ثلثهربعة ، والأصل : ثلاثة أربعة ، فلما وقف على ثلاثة أبدل التاء هاء كما هو اللغة المشهورة (٣) ، ثم أجرى الوصل مجرى الوقف ، فترك الهاء على حالها في الوصل ، ثم نقل حركة الهمزة إلى الهاء فكذلك هذا.

ورد بعضهم هذا الدليل وقال : الهمزة في «أربعة» همزة قطع ، فهي ثابتة ابتداء ودرجا فلذلك نقلت حركتها ، بخلاف همزة الجلالة ، فإنها واجبة السقوط ، فلا تستحق نقل حركتها إلى ما قبلها ، فليس وزان ما نحن فيه.

__________________

(١) ستأتي في «المؤمنون» ١ وينظر : شرح الطيبة ٤ / ١٤٥.

(٢) قال سيبويه في الكتاب ٣ / ٢٦٥ وزعم من يوثق به : أنه سمع من العرب من يقول : «ثلاثة أربعه» طرح همزة أربعه على الهاء ففتحها ، ولم يحوّلها تاء ؛ لأنّه جعلها ساكتة والساكن لا يتغير في الإدراج ، تقول : اضرب ، ثم تقول : اضرب زيدا.

(٣) ينظر : الكتاب ٤ / ١٦٦.

٥

قال شهاب الدين (١) : «وهذا من هذه الحيثية ـ صحيح ، والفرق لائح ، إلا أن لفظ الفرّاء فيه أنه أجرى فيه الوصل مجرى الوقف من حيث بقيت الهاء المنقلبة عن التاء وصلا لا وقفا واعتد بذلك ، ونقل إليها حركة الهمزة ، وإن كانت همزة قطع».

وقد اختار الزمخشري مذهب الفراء ، وسأل وأجاب فقال : «ميم» حقها أن يوقف عليها كما يوقف على ألف ولام ، وأن يبتدأ بما بعدها ، كما تقول : واحد. اثنان ، وهي قراءة عاصم (٢) ، وأما فتحتها فهي حركة الهمزة ألقيت عليها حين أسقطت للتخفيف.

فإن قلت : كيف جاز إلقاء حركتها عليها ، وهي همزة وصل لا تثبت في درج الكلام ، فلا تثبت حركتها ؛ لأن ثبات حركتها كثباتها؟

قلت : هذا ليس بدرج ، لأن «ميم» في حكم الوقف والسكون ، والهمزة في حكم الثابت ، وإنما حذفت تخفيفا وألقيت حركتها على الساكن قبلها ؛ ليدل عليها ، ونظيره : واحد اثنان بإلقائهم حركة الهمزة على الدال.

قال أبو حيّان : «وجوابه ليس بشيء ؛ لأنه ادّعى أن الميم ـ حين حرّكت ـ موقوف عليها ، وأن ذلك ليس بدرج ، بل هو وقف ، وهذا خلاف ما أجمعت عليه العرب ، والنحاة من أنه لا يوقف على متحرك ألبتة سواء كانت حركته إعرابية ، أم بنائية ، أم نقلية ، أم لالتقاء الساكنين ، أم للإتباع ، أم للحكاية ، فلا يجوز في (قَدْ أَفْلَحَ) إذا حذفت الهمزة ، ونقلت حركتها إلى دال «قد» أن تقف على دال «قد» بالفتحة ، بل تسكنها ـ قولا واحدا.

وأما قوله : ونظير ذلك واحد اثنان ـ بإلقاء حركة الهمزة على الدال ـ فإن سيبويه ذكر أنهم يشمّون آخر «واحد» لتمكنه (٣) ، ولم يحك الكسر لغة ، فإن صحّ الكسر فليس «واحد» موقوفا عليه ـ كما زعم الزمخشريّ ـ ولا حركته حركة نقل من همزة الوصل ، ولكنه موصول بقولهم : اثنان ، فالتقى ساكنان دال «واحد» وثاء «اثنين» ، فكسرت الدال ؛ لالتقاء الساكنين ، وحذفت همزة الوصل ؛ لأنها لا تثبت في الوصل».

قال شهاب الدين : «ومتى ادّعى الزمخشري أنه يوقف على «ميم» من «الم» ـ وهي متحركة ـ حتى يلزمه بمخالفة إجماع العرب والنحاة؟ إنما ادعى أن هذا في نية الموقوف عليه قبل تحريكه بحركة النقل ، لا أنه نقل إليه ، ثم وقف عليه ، هذا لم يقله ألبتة ، ولم يخطر له».

__________________

(١) ينظر : الدر المصون ٢ / ٣٥.

(٢) ينظر : السبعة ٢٠٠ ، والكشف ١ / ٣٣٤ ، والحجة ٣ / ٦ ، والبحر المحيط ٢ / ٣٨٩ ، والدر المصون ٢ / ٥.

(٣) قال سيبويه ٣ / ٦٥ «فإن قلت : ما بالي أقول : واحد اثنان ، فأشمّ الواحد ، ولا يكون ذلك في هذه الحروف فلأنّ الواحد اسم متمكّن ، وليس كالصوت ، وليست هذه الحروف مما يدرج وليس أصلها الإدراج ...».

٦

ثم قال الزمخشريّ : «فإن قلت : هلّا زعمت أنها حركة التقاء الساكنين؟

قلت : لأن التقاء الساكنين لا يبالى به في باب الوقف ، وذلك قولك : هذا إبراهيم ، وداود ، وإسحاق ، ولو كان التقاء الساكنين ـ في حال الوقف ـ يوجب التحريك لحرّك الميمان في ألف لام ميم ؛ لالتقاء الساكنين ، ولما انتظر ساكن آخر».

قال أبو حيّان : «وهو سؤال صحيح وجواب صحيح لكن الذي قال : إن الحركة هي لالتقاء الساكنين لا يتوهم أنه أراد التقاء الياء والميم من «الم» ـ في الوقف ـ وإنما عنى التقاء الساكنين اللذين هما ميم «ميم» الأخيرة ، ولام التعريف كالتقاء نون «من» ولام «الرجل» إذا قلت من الرّجل».

وهذا الوجه هو الذي تقدّم عن مكي (١) وغيره.

ثم قال الزمخشريّ : «فإن قلت : إنما لم يحركوا لالتقاء الساكنين في «ميم» لأنهم أرادوا الوقف وأمكنهم النطق بساكنين ، فإذا جاء ساكن ثالث لم يمكن إلا التحريك فحركوا.

قلت : الدليل على أن الحركة ليست لملاقاة الساكن ، أنه كان يمكنهم أن يقولوا : واحد. اثنان ـ بسكون الدال مع طرح الهمزة ـ فيجمعوا بين ساكنين ؛ كما قالوا : اصيمّ ومديقّ (٢) ، فلما حركوا الدال علم أن حركتها هي حركة الهمزة الساقطة لا غير ، وأنها ليست لالتقاء الساكنين».

[قال أبو حيّان (٣) : «وفي سؤاله تعمية في قوله : فإن قلت : إنما لم يحركوا لالتقاء الساكنين](٤) ـ ويعني بالساكنين الياء والميم في «ميم» ـ وحينئذ يجيء التعليل بقوله : لأنهم أرادوا الوقف وأمكنهم النطق بساكنين ـ يعني الياء والميم ـ ثم قال : فإن جاء بساكن ثالث ـ يعني لام التعريف ـ لم يمكن إلا التحريك ـ يعني في الميم ـ فحركوا ـ يعني الميم ـ ؛ لالتقائها ساكنة مع لام التعريف ؛ إذ لو لم يحركوا لاجتمع ثلاث سواكن ، وهو لا يمكن ، هذا شرح السؤال ، وأما جواب الزمخشري فلا يطابق ؛ لأنه استدل على أن الحركة ليست لملاقاة ساكن بإمكانية الجمع بين ساكنين في قولهم : واحد ، اثنان ـ بأن يسكنوا الدال والثاء ساكنة ، وتسقط الهمزة ، فعدلوا عن هذا الإسكان إلى نقل حركة الهمزة إلى الدال ـ وهذه مكابرة في المحسوس ؛ إذ لا يمكن ذلك أصلا ، ولا هو في قدرة البشر أن يجمعوا في النطق بين سكون الدال وسكون الثاء وطرح الهمزة ، وأما قوله فجمعوا بين ساكنين ، فلا يمكن الجمع ؛ لما قلناه ، وأما قوله : كما قالوا : أصيمّ ومديقّ فهذا ممكن كما هو في راد وضالّ ؛ لأن في ذلك التقاء الساكنين على حدهما المشروط

__________________

(١) ينظر : المشكل ١ / ١٢٣.

(٢) ينظر : الكتاب ٢ / ١٠٧.

(٣) ينظر : البحر المحيط ٢ / ٣٩١.

(٤) سقط في ب.

٧

في النحو ، فأمكن ذلك ، وليس مثل ذلك «واحد» «اثنان» ؛ لأن الساكن الأول ليس حرف مدّ ، ولا الثاني مدغما ، فلا يمكن الجمع بينهما ، وأما قوله : فلما حركوا الدال ، علم أن حركتها هي حركة الهمزة الساقطة لا غير وأنها ليست لالتقاء الساكنين [ويعني بالساكنين الياء والميم] ؛ لما بنى على أن الجمع بين الساكنين في «واحد» «اثنان» ممكن ، وحركة التقاء الساكنين إنما هي فيما لا يمكن أن يجتمعا في اللفظ ادعى أن حركة الدال هي حركة الهمزة الساقطة».

قال شهاب الدين (١) : «وهذا الذي ردّ به عليه صحيح ، وهو معلوم بالضرورة ؛ إذ لا يمكن النطق بما ذكر».

ونصر بعضهم رأي الفرّاء واختيار الزمخشري بأن هذه الحروف جيء بها لمعنى في غيرها ، فأواخرها موقوفة ، والنية بما بعدها الاستئناف ، فالهمزة في حكم الثابت كما في أنصاف الأبيات ، كقول حسان : [البسيط]

١٣١٦ ـ لتسمعنّ وشيكا في دياركم

ألله أكبر يا ثارات عثمانا (٢)

ورجحه بعضهم أيضا بما حكي عن المبرد : أنه يجيز : الله أكبر الله أكبر ـ بفتح الراء الأولى ـ قال : لأنه في نية الوقف على «أكبر» والابتداء بما بعده ، فلما وصلوا مع قصدهم التنبيه على الوقف على آخر كل كلمة من كلمات التكبير نقلوا حركة الهمزة الداخلة على لام التعريف إلى الساكن قبلها ؛ التفاتا لما ذكر من قصدهم ، وإذا كانوا قد فعلوا ذلك في حركات الإعراب وأتوا بغيرها ـ مع احتياجهم إلى الحركة من حيث هي ـ فلأن يفعلوا ذلك فيما كان موقوف [الأخير] من باب أولى.

الرابع : أن تكون الفتحة فتحة إعراب على أنه مفعول بفعل مقدّر ، أي اقرءوا «الم» وإنما منعه من الصرف العلمية والتأنيث المعنويّ إذ أريد به اسم السورة ، نحو قرأت هود ، وقد قالوا هذا الوجه بعينه في قراءة (٣) من قرأ صاد والقرءان ذى الذكر [ص : ١] بفتح الدال من صاد ، فهذا يجوز أن يكون مثله.

الخامس : أن الفتحة علامة الجر ، والمراد بألف لام ميم أيضا السورة ، وأنها مقسم بها ، فحذف حرف القسم ، وبقي عمله ، وامتنع من الصرف لما تقدم ، وهذا الوجه ـ أيضا ـ مقول في قراءة من قرأ صاد (٤) ـ بفتح الدال ـ ، إلا أن القراءة هناك شاذّة ، وهنا متواترة.

والظاهر أنها حركة التقاء الساكنين ـ كما هو مذهب سيبويه وأتباعه ـ.

__________________

(١) ينظر : الدر المصون ٢ / ٦.

(٢) ينظر ديوانه ص ٢١٦ ، ولسان العرب (ثور) ، وخزانة الأدب ٧ / ٢١٠ ، ورصف المباني ص ٤١ والمصنف ١ / ٦٨ ، والدر المصون ٢ / ٦.

(٣) قرأ بها عيسى بن عمر كما في الشواذ ١٢٩ ، وستأتي في سورة «ص» آية ١ ، ٢.

(٤) تقدمت.

٨

السادس : قال ابن كيسان : «ألف «الله» وكل ألف مع لام التعريف [ألف](١) قطع بمنزلة «قد» وحكمها حكم ألف القطع ؛ [لأنهما حرفان جاءآ لمعنى](٢) ، وإنما وصلت لكثرة الاستعمال ، فمن حرك الميم ألقى عليها حركة الهمزة التي بمنزلة القاف من «قد» ففتحها بفتح الهمزة» ، نقله عنه مكّي (٣).

فعلى هذا هذه حركة نقل من همزة قطع ، وهذا المذهب مشهور عن الخليل بن أحمد ، حيث يعتقد أن التعريف حصل بمجموع «أل» (٤) ، كالاستفهام يحصل بمجموع «هل» ، وأن الهمزة ليست مزيدة ، لكنه مع اعتقاده ذلك يوافق على سقوطها في الدّرج ؛ إجراء لها مجرى همزة الوصل ، لكثرة الاستعمال ، لذلك قد تثبت ضرورة ؛ لأن الضرورة ترد الأشياء إلى أصولها.

ولما نقل أبو البقاء (٥) هذا القول ولم يعزه ، قال : «وهذا يصح على قول من جعل أداة التعريف «أل» ـ يعني الخليل ؛ لأنه المشهور بهذه المقالة».

وقد تقدم النقل عن عاصم أنه يقرأ بالوقف على «ميم» ويبتدىء ب (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) كما هو ظاهر عبارة الزمخشري عنه ، وغيره يحكي عنه أنه يسكن الميم ويقطع الهمزة ـ من غير وقف منه على الميم ـ كأنه يجري الوصل مجرى الوقف ، وهذا هو الموافق لغالب نقل القرّاء عنه.

وقرأ عمرو (٦) بن عبيد ـ فيما نقل الزمخشري ـ وأبو حيوة والرّواسي فيما نقل ابن عطية «الم الله» ـ بكسر الميم ـ.

قال الزمخشريّ : «وما هي بمقبولة عنه» ، والعجب منه كيف تجرأ على عمرو بن عبيد وهو عنده معروف المنزلة ، وكأنه يريد : وما هي بمقبولة عنه ، أي : لم تصحّ عنه.

وكأن الأخفش لم يطلع على أنها قراءة فقال : «لو كسرت الميم ؛ لالتقاء الساكنين ـ فقيل : «الم الله» ـ لجاز».

قال الزّجّاج (٧) : وهذا غلط من أبي الحسن ، لأن قبل الميم ياء مكسورا ما قبلها فحقها الفتح ، لالتقاء الساكنين ، وذلك لثقل الكسر مع الياء. وهذا ـ وإن كان كما قال ـ

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) سقط في أ.

(٣) ينظر : المشكل ١ / ١٢٣.

(٤) ينظر : الكتاب ٣ / ٣٢٤.

(٥) ينظر : الإملاء ١ / ١٢٢.

(٦) ينظر : الكشاف ١ / ٣٣٥ ، المحرر الوجيز ١ / ٣٩٧ ، والبحر المحيط ٢ / ٣٨٩ ، الدر المصون ٢ / ٧. وأمّا رد الفارسي لكلام أبي إسحاق الزجاج وانتصاره للأخفش فلم أجده في «الحجة» في مظنته ، بل إنه لم يحك مذهب كسر الميم.

(٧) ينظر معاني القرآن للزجاج ١ / ٣٢٧. وفي ب الذي حكاه الأخفش من كسر الميم ـ خطأ لا يجوز ، ولا تقوله العرب لثقله.

٩

إلا أن الفارسيّ انتصر لأبي الحسن ، وردّ على أبي إسحاق ردّه فقال : «كسر الميم لو ورد (١) بذلك سماع لم يدفعه قياس ، بل كان يثبته ويقوّيه (٢) ـ ؛ لأن الأصل في التحريك ـ لالتقاء الساكنين ـ الكسر ، وإنما يبدل إلى غير ذلك لما يعرض من علّة وكراهة ، فإذا جاء الشيء على بابه فلا وجه لردّه ، ولا مساغ لدفعه ، وقول أبي إسحاق ؛ إن ما قبل الميم ياء مكسورا ما قبلها ، فحقها الفتح منقوض بقولهم : جير ، حيث (٣) حرّك الساكن ـ بعد الياء ـ بالكسر ، كما حرك بعدها بالفتح في أين ، ويدل على جواز التحريك لالتقاء الساكنين بالكسر ـ فيما كان قبله ياء ، ـ جواز تحريكه بالضم نحو قولهم : حيث ، وإذا جاز الضم كان الكسر أجوز وأسهل».

فصل في بيان سبب النزول

في سبب نزول هذه الآية قولان :

الأول : أنها نزلت في اليهود (٤) ، وقد ذكرناه في تفسير قوله تعالى : (الم ذلِكَ الْكِتابُ) [البقرة : ١ ، ٢].

الثاني : أنها من أولها إلى آية المباهلة (٥) في نصارى نجران.

قال الكلبي ، والربيع بن أنس ـ وهو قول محمد بن إسحاق ـ : قدم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفد نجران (٦) ـ ستون راكبا ـ فيهم أربعة عشر رجلا من أشرافهم ، وثلاثة منهم كانوا

__________________

(١) وهذا الطعن عندي ضعيف ، لأن الكسرة حركة فيها بعض الثقل والياء أختها ، فإذا اجتمعا ، عظم الثقل ، ثم يحصل الانتقال منه إلى النطق بالألف في قولك : «الله» وهو في غاية الخفة ، فيصير اللسان منتقلا من أثقل الحركات إلى أخف الحركات ، والانتقال من الضد إلى الضد دفعة واحدة صعب على اللسان ، أما إذا جعلنا الميم مفتوحة ، انتقل اللسان من فتحة الميم إلى الألف في قولنا : «الله» فكان النطق بها سهلا ، فهذا وجه تقرير قول سيبويه والله أعلم. ينظر الرازي ٧ / ١٣٤.

(٢) (١٠) في أ : وبقوله.

(٣) سقط في أ.

(٤) روي ذلك عن مقاتل ، وذكره أبو حيان في البحر المحيط ٢ / ٣٨٩.

(٥) آية ٦١ من سورة آل عمران. والبهل : اللّعن. وفي حديث ابن الصّبغاء قال : الذي بهله بريق أي الذي لعنه ودعا عليه رجل اسمه بريق. وبهله الله بهلا : لعنه. وعليه بهلة الله وبهلته أي لعنته. وفي حديث أبي بكر : من ولي من أمور الناس شيئا فلم يعطهم كتاب الله فعليه بهلة الله أي لعنة الله ، وتضم باؤها وتفتح. وباهل القوم بعضهم بعضا وتباهلوا وابتهلوا : تلاعنوا. والمباهلة : الملاعنة. يقال : باهلت فلانا أي لاعنته ، ومعنى المباهلة أن يجتمع القوم إذا اختلفوا في شيء فيقولوا : لعنة الله على الظالم منا. وفي حديث ابن عباس : من شاء باهلته أن الحقّ معي.

ينظر : اللسان (بهل).

(٦) (نجران) بفتح النون وسكون الجيم : بلد كبير على سبع مراحل من مكة إلى جهة اليمن ، يشتمل على ثلاثة وسبعين قرية مسيرة يوم للراكب السريع ، كذا في زيادات يونس بن بكير بإسناد له في المغازي ، ـ

١٠

أكابر القوم ، أحدهم أميرهم ، وصاحب مشورتهم ، يقال له : العاقب ، واسمه عبد المسيح ، والثاني مشيرهم ووزيرهم ، وكانوا يقولون له : السيد ، واسمه الأيهم ، والثالث حبرهم وأسقفهم ، وصاحب مدراسهم ، يقال له : أبو حارثة بن علقمة ـ أحد بني بكر بن وائل ـ وكان ملوك الروم قد أكرموه وشرّفوه ، وموّلوه ؛ لما بلغهم عنه من علمه واجتهاده في دينهم ، فلما قدموا من «نجران» ركب أبو حارثة بغلته ، وكان إلى جنبه أخوه كرز بن علقمة ، فبينما بغلة أبي حارثة تسير إذ عثرت ، فقال كرز : تعسا للأبعد ـ يريد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فقال أبو حارثة : بل تعست أمّك ، فقال : ولم يا أخي؟ فقال : إنه ـ والله ـ النبيّ الذي كنا ننتظره ، فقال له أخوه كرز : فما يمنعك عنه وأنت تعلم هذا؟

قال : لأن هؤلاء الملوك أعطونا أموالا كثيرة ، وأكرمونا ، فلو آمنّا بمحمد لأخذوا منّا كلّ هذه الأشياء ، فوقع ذلك في قلب أخيه كرز ، وكان يضمره إلى أن أسلم ؛ فكان يحدّث بذلك ، ثم دخلوا مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين صلى العصر ـ عليهم ثياب الحبرات (١) جبب وأردية ـ ، وقد حانت صلاتهم ، فقاموا للصلاة [العاقب والسيد والحبر](٢) في مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال رسول الله : دعوهم ، فصلوا إلى المشرق ، ثم

__________________

ـ وذكر ابن إسحق أنهم وفدوا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمكة وهم حينئذ عشرون رجلا ، لكن أعاد ذكرهم في الوفود بالمدينة فكأنهم قدموا مرتين. وقال ابن سعد : كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كتب إليهم ، فخرج إليه وفدهم في أربعة عشر رجلا من أشرافهم ، وعند ابن إسحق أيضا من حديث كرز بن علقمة : أنهم كانوا أربعة وعشرين رجلا ، وسرد أسماءهم.

وفي قصة أهل نجران من الفوائد أن إقرار الكافر بالنبوة لا يدخل في الإسلام ، حتى يلتزم أحكام الإسلام ، وفيها جواز مجادلة أهل الكتاب ، وقد تجب إذا تعينت مصلحته ، وفيها مشروعية مباهلة المخالف إذا أصر بعد ظهور الحجة ، وقد دعا ابن عباس إلى ذلك ثم الأوزاعي ، ووقع ذلك لجماعة من العلماء ، ومما عرف بالتجربة أن من باهل وكان مبطلا لا تمضي عليه سنة من يوم المباهلة ، ووقع لي ذلك مع شخص كان يتعصب لبعض الملاحدة ، فلم يقم بعدها غير شهرين ، وفيها مصالحة أهل الذمة على ما يراه الإمام من أصناف المال ، ويجري ذلك مجرى ضرب الجزية عليهم ؛ فإن كلّا منهما مال يؤخذ من الكفار على وجه الصغار في كل عام ، وفيها بعث الإمام الرجل العالم الأمين إلى أهل الهدنة في مصلحة الإسلام ، وفيها منقبة ظاهرة لأبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه ، وقد ذكر ابن إسحق أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعث عليا إلى أهل نجران ؛ ليأتيه بصدقاتهم وجزيتهم ، وهذه القصة غير قصة أبي عبيدة ؛ لأن أبا عبيدة توجه معهم ، فقبض مال الصلح ورجع ، وعلي أرسله النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد ذلك يقبض منهم ما استحق عليهم من الجزية ، ويأخذ ممن أسلم منهم ما وجب عليه من الصدقة والله أعلم. ينظر فتح الباري ٨ / ٤٢٨ ، ٤٢٩.

(١) والحبرة والحبرة : ضرب من برود اليمن منمّر ، والجمع حبر وحبرات. اللّيث : برود حبرة ضرب من البرود اليمانيّة. يقال برد حبير وبرد حبرة ، مثل عنبة. على الوصف والإضافة ؛ وبرود حبرة. قال : وليس حبرة موضعا أو شيئا معلوما إنما هو وشي كقولك ثوب قرمز. ينظر لسان العرب ٢ / ٧٤٩ ـ ٧٥٠ (حبر) ، النهاية في غريب الحديث ١ / ٣٢٨.

(٢) سقط في ب.

١١

تكلم أولئك الثلاثة مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على اختلاف من أديانهم ـ فتارة يقولون : عيسى هو الله ، وتارة يقولون : هو ابن الله ، وتارة يقولون : ثالث ثلاثة ، ويحتجون على قولهم : هو الله بأنه كان يحيي الموتى ، ويبرىء الأسقام ويخبر بالغيوب ، ويخلق من الطين كهيئة الطير ، فينفخ فيه ، فيطير ، ويحتجون على قولهم بأنه ابن الله بأنه لم يكن له أب يعلم ، ويحتجون على قولهم : ثالث ثلاثة بقوله تعالى : (فَعَلْنا ،) قلنا ، ولو كان واحدا لقال : فعلت ، قلت ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أسلموا ، قالوا : قد أسلمنا ، قال عليه‌السلام : كذبتم ؛ يمنعكم من الإسلام دعاؤكم لله ولدا ، وعبادتكم الصليب ، وأكلكم الخنزير ، فقالوا : إن لم يكن ولد الله فمن أبوه؟ فسكت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأنزل الله تعالى أول سورة آل عمران إلى بضع وثمانين آية ، منها أخذ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بناظرهم ، فقال : ألستم تعلمون أنّه لا يكون ولد إلا ويشبه أباه؟ قالوا : بلى ، قال : ألستم تعلمون أنّ ربّنا حيّ لا يموت ، وأنّ عيسى يأتي عليه الفناء؟ قالوا : بلى ، قال : ألستم تعلمون أنّ ربّنا قيّم على كلّ شيء ، يحفظه ويرزقه؟ قالوا : بلى ، قال : فهل يملك عيسى من ذلك شيئا؟ قالوا : لا ، قال : ألستم تعلمون أنّ الله تعالى لا يخفى عليه شيء في الأرض ، ولا في السّماء؟ قالوا : بلى ، قال : فهل يعلم عيسى شيئا من ذلك إلا ما علّم؟ قالوا : لا ، قال : فإن ربّنا صوّر عيسى في الرحم كيف شاء ، قال : ألستم تعلمون أنّ ربّنا لا يأكل ، ولا يشرب ولا يحدث؟ قالوا : بلى ، قال : ألستم تعلمون أن عيسى حملته أمّه كما تحمل المرأة ، ووضعته كما تضع المرأة ولدها ، ثم غذّي كما يغذّى الصبيّ ، ثم كان يطعم الطعام ، ويشرب الشراب ويحدث الحدث؟ قالوا : بلى ، قال : فكيف يكون هذا كما زعمتم؟ فسكتوا ، وأبوا إلا جحودا ، ثم قالوا : يا محمد ، ألست تزعم أنه كلمة الله وروح منه؟ قال : بلى ، قالوا : فحسبنا ، فأنزل الله تعالى : (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ) [آل عمران : ٧] ، ثم أمر الله محمدا بملاعنتهم ـ إن ردوا عليه ـ فدعاهم إلى الملاعنة ، فقالوا : يا أبا القاسم ، دعنا ننظر في أمرنا ، ثم نأتيك بما تريد أن تفعل ، فانصرفوا ، ثم قال بعض أولئك الثلاثة لبعضهم : ما ترى؟ فقال : والله يا معشر النصارى لقد عرفتم أن محمدا نبيّ مرسل ، ولقد جاءكم بفصل من خبر صاحبكم ، ولقد علمتم ما لا عن [قط](١) قوم نبيّا إلا وفني كبيرهم وصغيرهم ، وإنه الاستئصال منكم ـ إن فعلتم ـ وأنتم قد أبيتم إلا دينكم ، والإقامة على ما أنتم عليه فوادعوا الرجل ، وانصرفوا إلى بلادكم ، فأتوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا [أبا القاسم](٢) قد رأينا أن لا نلاعنك ، وأن نتركك على دينك ، وأن نرجع نحن على ديننا ، فابعث رجلا من أصحابك [معنا](٣) يحكم بيننا في أشياء قد اختلفنا فيها من أموالنا ؛ فإنّك عندنا رضى ، فقال عليه‌السلام : [ائتوني] في العشية أبعث معكم القويّ الأمين ، فكان عمر يقول : ما أحببت الإمارة قطّ

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) سقط في ب.

(٣) سقط في أ.

١٢

إلا يومئذ ؛ رجاء أن أكون صاحبها ، قال : صلينا مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم نظر عن يمينه ، وعن يساره ، وجعلت أتطاول له ؛ ليراني ، فلم يزل يردّد بصره ، حتى رأى أبا عبيدة بن الجرّاح ، فدعاه ، فقال : اخرج معهم واقض بينهم بالحقّ فيما اختلفوا فيه ، قال عمر : فذهب بها أبو عبيدة (١).

وهذه الرواية تدل على أن المناظرة في تقرير الدين حرفة الأنبياء ـ عليهم‌السلام ـ وأن مذهب الحشوية ـ في إنكار البحث والنظر ـ باطل قطعا.

فصل في بيان الرد على النصارى

«في وجه الرد على النصارى في هذه الآية» :

وهو أن الحيّ القيوم يمتنع أن يكون له ولد ؛ لأنه واجب الوجود لذاته ، وكلّ ما سواه فإنه ممكن لذاته ، محدث ، حصل بتكوينه وإيجاده ، وإذا كان الكلّ محدثا مخلوقا امتنع كون شيء منها ولدا له ، ولما ثبت أن الإله يجب أن يكون حيّا قيوما ، وثبت أن عيسى ما كان حيّا قيّوما ، لأنه ولد ، وكان يأكل ، ويشرب ، ويحدث. والنصارى زعموا أنه قتل ، ولم يقدر على دفع القتل عن نفسه ، وهذا يقتضي القطع بأنه ليس بإله.

قوله : (نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ) العامة على التشديد في «نزّل» ونصب «الكتاب» ، وقرأ الأعمش ، والنّخعيّ ، وابن أبي عبلة (٢)(نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ) بتخفيف الزاي ورفع الكتاب.

فأما القراءة الأولى فقد تقدم أن هذه الجملة تحتمل أن تكون خبرا ، وأن تكون مستأنفة.

وأما القراءة الثانية ، فالظاهر أن الجملة فيها مستأنفة ، ويجوز أن تكون خبرا ، والعائد محذوف ، وحينئذ تقديره : نزل عليك الكتاب من عنده.

قوله : (بِالْحَقِ) فيه وجهان :

أحدهما : أن تتعلق الباء بالفعل قبلها ، والباء ـ حينئذ ـ للسببية ، أي : نزله بسبب الحق.

ثانيهما : أن يتعلق بمحذوف ؛ على أنه حال ، إما من الفاعل ـ أي : نزّله محقّا ـ أو من المفعول ـ أي : نزله ملتبسا بالحق ـ نحو : جاء بكر بثيابه ، أي : ملتبسا بها.

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ١٥١ ـ ١٥٢) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٤) وزاد نسبته لابن اسحق وابن المنذر عن محمد بن جعفر بن الزبير وذكره أبو حيان في «البحر المحيط (٢ / ٣٨٩) وانظر «التفسير الكبير» للفخر الرازي (٧ / ١٥٤).

(٢) ينظر : الشواذ ١٩ ، المحرر الوجيز ١ / ٣٩٧ ، البحر المحيط ٢ / ٣٩٢ ، والدر المصون ٢ / ٨ والتخريجات النحوية ٢٤١.

١٣

وقال مكيّ (١) : «ولا تتعلق الباء ب «نزّل» ؛ لأنه قد تعدى إلى مفعولين ـ أحدهما بحرف فلا يتعدى إلى ثالث».

وهذا ـ الذي ذكره مكيّ ـ غير ظاهر ؛ فإن الفعل يتعدى إلى متعلقاته بحروف مختلفة على حسب ما يكون ، وقد تقدم أن معنى الباء السببية ، فأيّ مانع يمنع من ذلك؟

قوله : (مُصَدِّقاً) فيه أوجه :

أحدها : أن ينتصب على الحال من «الكتاب». فإن قيل بأن قوله : «بالحقّ» حال ، كانت هذه حالا ثانية عند من يجيز تعدد الحال ، وإن لم يقل بذلك كانت حالا أولى.

الثاني : أن ينتصب على الحال على سبيل البدلية من محل «بالحق» ، وذلك عند من يمنع تعدد الحال في غير عطف ، ولا بدليّة.

الثالث : أن ينتصب على الحال من الضمير المستكن في «بالحقّ» ـ إذا جعلناه حالا ـ لأنه حينئذ يتحمل ضميرا ؛ لقيامه مقام الحال التي تتحمله ، وعلى هذه الأقوال كلّها فهي حال مؤكّدة ؛ لأن الانتقال فيها غير متصوّر ، وذلك نظير قول الشاعر : [البسيط]

١٣١٧ ـ أنا ابن دارة معروفا بها نسبي

وهل بدارة ـ يا للنّاس ـ من عار (٢)

قوله : (لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) مفعول ل «مصدّقا» وزيدت اللام في المفعول : [تقوية] للعامل ؛ لأنه فرع له ؛ إذ هو اسم فاعل ، كقوله تعالى : (فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) [البروج : ١٦] ، وإنما ادّعينا ذلك ؛ لأنّ هذه المادة متعدية بنفسها.

فصل في تفسير «الحي» و «القيوم»

الحيّ : هو الفعّال الدرّاك ، والقيّوم : هو القائم بذاته ، والقائم بتدبير الخلق ، وقرأ عمر ـ رضي الله عنه ـ الحي القيّام (٣) ، والمراد ب «الكتاب» ـ هنا ـ هو القرآن.

قال الزمخشري : «وخص القرآن بالتنزيل ، والتوراة والإنجيل بالإنزال ؛ لأن التنزيل للتكثير والله تعالى نزّل القرآن منجّما ، فكان معنى التكثير حاصلا فيه ، وأنزل التوراة والإنجيل دفعة واحدة ، فلهذا خصّهما بالإنزال».

فإن قيل : يشكل هذا بقوله : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ) [الكهف : ١] ، وبقوله : (وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ) [الإسراء : ١٠٥].

فالجواب : أن المراد به كلّ نجم وحده.

[وسمي الكل باسم البعض مجازا ، أو نقول : «إن أنزل تشتمل على أمرين والتضعيف لا يشتمل إلّا الإنزال مرة واحدة».

__________________

(١) ينظر : المشكل ١ / ١٢٤.

(٢) تقدم برقم ٦٦٤.

(٣) وكذا قرأ ابن مسعود أخرجه عنه سعيد بن منصور والطبراني كما في «الدر المنثور» (٢ / ٥).

١٤

قال أبو حيّان : وقد تقدم الرّدّ على هذا القول في البقرة ، وأن التعدية بالتضعيف لا تدل على التكثير ، ولا على التنجيم ، وقد جاء في القرآن أنزل ، ونزّل قال تعالى : (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ) [النحل : ٤٤] (ونزلنا عليك الكتاب) [النحل : ٤٤] ويدل على أنهما بمعنى واحد قراءة من قرأ ما كان من نزل مشدّدا بالتخفيف إلّا ما استثني ، ولو كان أحدهما يدلّ على التنجيم والآخر يدل على النزول دفعة واحدة لتناقضت الأخبار ، وهو محال ، وقد سبق الزمخشريّ في هذا القول بعينه الواحديّ].

قوله : (بِالْحَقِ) قال أبو مسلم : يحتمل وجوها.

أحدها : أنه صدق فيما تضمنه من الأخبار عن الأمم السابقة.

الثاني : أن ما فيه من الوعد والوعيد يحمل المكلّف على اتباع الحقّ في العلم والعمل.

ثالثها : أنه حقّ ؛ بمعنى : أنه قول فصل وليس بالهزل.

رابعها : قال الأصمّ : أنزله بالحق الذي يجب له على خلقه من العبودية ، وشكر النعمة وما يجب لبعضهم على بعض من العدل ، والإنصاف.

خامسها : أنه أنزله بالحق لا بالمعاني المتناقضة الفاسدة ، كما قال : (أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً) [الكهف : ١] ، وقال : (وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) [النساء : ٨٢].

وقوله : (مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) معناه : مصدقا لكتب الأنبياء ، ولما أخبروا به عن الله ، وهذا دليل على صحة القرآن من وجهين :

أحدهما : أنه موافق لسائر الكتب ، ولو كان من عند غير الله لم يوافقها ، وهو ـ عليه‌السلام ـ لم يختلط بالعلماء ، ولا تتلمذ لأحد ، ولا قرأ على أحد شيئا [والمفتري] ـ إذا كان هكذا ـ يمتنع أن يسلم من الكذب والتحريف ، فلما لم يكن كذلك ثبت أنه إنما عرف هذه القصص من الله تعالى.

الثاني : قال أبو مسلم : إن الله تعالى لم يبعث نبيّا قط إلا بالدعاء إلى التوحيد والإيمان وتنزيه الإله عما لا يليق به ، والأمر بالعدل والإحسان وبالشرائع التي هي صلاح أهل كل زمان. والقرآن مصدق لكل الكتب في ذلك.

فإن قيل : كيف سمّي ما مضى بأنه بين يديه؟

فالجواب : أن تلك الأخبار ـ لغاية ظهورها ، وكونها موجودة ـ سماها بهذا الاسم.

فإن قيل : كيف يكون مصدقا لما تقدمه من الكتب مع أن القرآن ناسخ لأكثر تلك الأحكام؟

فالجواب : إذا كانت الكتب مشهورة بالرسل ، وأحكامها ثابتة إلى حين نزول القرآن

١٥

فإنها تصير منسوخة بنزول القرآن ، كان القرآن مصدقا لها ، وأيضا فدلائل المباحث الإلهية ، وأصول العقائد لا تختلف ، فلهذا كان مصدّقا لها.

قوله : (وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ) اختلف الناس في هذين اللفظين ، هل يدخلهما الاشتقاق والتصريف ، أم لا يدخلانهما ؛ [لكونهما أعجميّين؟](١).

فذهب الزمخشريّ وغيره إلى الثاني ، قالوا : لأن هذين اللفظين اسمان عبرانيان لهذين الكتابين الشريفين ، قال الزمخشريّ : «وتكلف اشتقاقهما من الوري والنّجل ، ووزنهما بتفعلة وإفعيل إنما يثبت بعد كونهما [عربيين](٢)».

قال أبو حيّان (٣) : «وكلامه صحيح ، إلا أن فيه استدراكا ، وهو قوله «تفعلة» ولم يذكر مذهب البصريين وهو أن وزنها فوعلة ، ولم ينبه على «تفعلة» هل هي بكسر العين أو فتحها»؟

قال شهاب الدين (٤) : «لم يحتج إلى التنبيه على الشيئين لشهرتهما ، وإنما ذكر المستغرب» ، ويؤيد ما قاله الزمخشريّ من كونها أعجمية ما نقله الواحديّ ، وهو أن التوراة ، والإنجيل ، والزبور سريانية فعرّبوها (٥) ، ثم القائلون باشتقاقهما اختلفوا :

فقال بعضهم : التوراة مشتقة من قولهم : وري الزّند إذا قدح ، فظهر منه نار ، يقال : وري الزند وأوريته أنا ، قال تعالى : (أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ) [الواقعة : ٧١]؟ ، فثلاثيّه قاصر ، ورباعيه متعدّ ، وقال تعالى : (فَالْمُورِياتِ قَدْحاً) [العاديات : ٢] ، ويقال أيضا : وريت بك زنادي (٦) ، فاستعمل الثلاثي متعديا ، إلا أن المازني زعم أنه لا يتجاوز به هذا اللفظ ، يعني فلا يقاس عليه ، فيقال : وريت النار مثلا ، إذا تقرر ذلك ، فلما كانت التوراة فيها ضياء ونور ، يخرج به من الضلال إلى الهدى كما يخرج بالنور من الظلام إلى النور ، سمّي هذا الكتاب بالتوراة ، ويدل على هذا المعنى قوله تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً) [الأنبياء : ٤٨] وهذا قول الفراء و [مذهب](٧) جمهور الناس.

وقال آخرون : بل هي مشتقة من ورّيت في كلامي ، من التورية ، وهي التعريض ، وفي الحديث : «كان إذا أراد سفرا ورّى بغيره» (٨) ، وسميت التوراة بذلك : لأن أكثرها

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) في أ : عبريين.

(٣) ينظر : البحر المحيط ٢ / ٣٨٧.

(٤) ينظر : الدر المصون ٢ / ٩.

(٥) في أ : فعبروها.

(٦) هذا مثل يضرب إذا رأى الإنسان ما أحب. ينظر مجمع الأمثال ٣ / ٤٣٢ (٤٣٧٦).

(٧) سقط في ب.

(٨) أخرجه البخاري ٧ / ٧١٧ كتاب المغازي ، باب حديث كعب بن مالك (٤١٨) ومسلم ٤ / ٢١٢٨ كتاب التوبة ، باب حديث توبة كعب بن مالك (٥٤ ـ ٢٧٦٩) ضمن حديث طويل لكعب بن مالك بلفظ «... ولم يكن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يريد غزرة إلا ورّى بغيرها ...».

١٦

تلويحات ومعاريض ، وإلى هذا ذهب المؤرج السّدّوسي وجماعة ، وفي وزنها ثلاثة أقوال :

أحدها ـ وهو قول الخليل وسيبويه ـ أن وزنها فوعلة (١) ، وهذا الوزن قد وردت منه ألفاظ نحو الدّوخلة (٢) والقوصرة (٣) والدّوسرة (٤) والصّومعة ، والأصل : وورية ـ بواوين ؛ لأنها إما من وري الزّند ، وإما من ورّيت في كلامي ، فأبدلت الواو الأولى تاء ، وتحرك حرف العلة وانفتح ما قبله فقلب ألفا فصار اللفظ «توراة» ـ كما ترى ـ وكتبت بالياء ، تنبيها على الأصل ، كما أميلت لذلك ، وقد أبدلت العرب التاء من الواو في ألفاظ نحو تولج ، وتيقور ، وتخمة ، وتراث وتكأة (٥) وتجاه وتكلان ، من الولوج والوقار والوخامة والوراثة والوكاء والوجه والوكالة ، ونظير إبدال الواو تاء في التوراة إبدالها أيضا من قولهم ـ لما تراه المرأة في الطّهر بعد الحيض ـ : التّريّة ، هي فعيلة من لفظ الوراء ؛ لأنها ترى بعد الصّفرة والكدرة.

الثاني ، وهو قول الفراء : أن وزنها تفعلة ـ بكسر العين ـ فأبدلت الكسرة فتحة ، وهي لغة طائية ، يقولون في الناصية : ناصاة ، وفي جارية : جاراة ، وفي ناجية : ناجاة ، قال الشاعر : [الطويل]

__________________

(١) ينظر : الكتاب ٤ / ٣٣٣.

(٢) الدوخلة : البطنة اللسان ٢ / ١٣٤٢.

(٣) القوصرة والقوصرّة مخفف ومثقل وعاء من قصب يرفع فيه التمر من البواري ومما نسب إلى سيدنا علي كرم الله وجهه :

أفلح من كانت له قوصرّه

يأكل منها كلّ يوم مرّه

اللسان ٥ / ٣٦٥٠.

(٤) الدوسر : النوق العظيمة وقال الفراء : الدّوسري القويّ من الإبل ينظر اللسان ٢ / ١٣٧٢.

(٥) التّولج : كناس الظبي أو الوحش الذي يلج فيه ، التاء فيه مبدلة من الواو ، والدّولج لغة فيه ، داله عند سيبويه بدل من تاء ، فهو على هذا بدل من بدل ، وعدّه كراع فوعلا ؛ قال ابن سيده : وليس بشيء ؛ وأنشد يعقوب :

وبادر العفر تؤم الدّولجا

الجوهري : قال سيبويه التاء مبدلة من الواو ، وهو فوعل لأنك لا تجد في الكلام تفعل اسما ، وفوعل كثير ؛ وقال يصف ثورا تكنّس في عضاه ، وهو لجرير يهجو البعيث :

قد غبرت أمّ البعيث حججا

على السّوايا ما تحفّ الهودجا

فولدت أعشى ضروطا عنبجا

كأنه ذيخ إذا ما معجا

متّخذا في ضعوات تولجا

ينظر لسان العرب (ولج).

١٧

١٣١٨ ـ .............

فخرّت كناصاة الحصان المشهّر (١)

وقال آخر : [المنسرح]

١٣١٩ ـ .............

نفوسا بنت على الكرم (٢)

وأنشد الفرّاء : [الوافر]

١٣٢٠ ـ فما الدّنيا بباقاة لحيّ

وما حيّ على الدّنيا بباق (٣)

وقد رد البصريون ذلك بوجهين :

أحدهما : أن هذا البناء قليل جدّا ـ أعني بناء تفعلة ـ بخلاف فوعلة ، فإنه كثير ، فالحمل على الأكثر أولى.

الثاني : أنه يلزم منه زيادة التاء أولا ، والتاء لم تزد ـ أوّلا ـ إلا في مواضع ليس هذا منها ، بخلاف قلبها في أول الكلمة ، فإنه ثابت ، وذلك أن الواو إذا وقعت أولا قلبت إما همزة نحو أجوه وأقّتت وإشاح ـ في : وجوه ووقّتت ووشاح ـ وإما تاء نحو : تجاه وتخمة ، فاتباع ما عهد أولى من اتباع ما لم يعهد.

الثالث : أن وزنها «تفعلة» [بفتح العين](٤) ـ وهو مذهب الكوفيين ـ كما يقولون في تفعلة ـ بالضم ـ تفعلة ـ بالفتح ـ وهذا لا حاجة إليه ، وهو أيضا دعوى لا دليل عليها.

وأمال «التوراة» ـ حيث ورد في القرآن ـ إمالة محضة أبو عمرو (٥) والكسائي وابن عامر في رواية ابن ذكوان وأمالها بين بين حمزة وورش [عن نافع](٦) ، واختلف عن قالون ، فروي عنه بين بين والفتح ، وقرأها الباقون بالفتح فقط ، ووجه الإمالة إن قلنا إن ألفها [منقلبة عن ياء ظاهر ، وإن قلنا : إنها أعجمية لا اشتقاق لها ، فوجه الإمالة شبه ألفها

__________________

(١) البيت لحريث بن عتاب كما في اللسان وهو عجز بيت صدره :

لقد آذنت أهل اليمامة طيىء

ينظر لسان العرب : (نصا) ، والدر المصون ٢ / ٩.

(٢) هو جزء بيت لأحد بني بولان من طيىء وهو بتمامه :

نستوقد النبل بالحضيض ونص

طاد نفوسنا بنت على الكرم

ينظر الحماسة ١ / ١٠١ ، وشرح الرضي على الشافية ١ / ١٢٤ ، ٣ / ١١١ ، واللسان : بقي ، والدر المصون ٢ / ١٠.

(٣) تقدم برقم ١٢٦٤.

(٤) سقط في ب.

(٥) ينظر : السبعة ٢٠١ ، والحجة ٣ / ١٠ ، والعنوان ٧٨ ، وإعراب القراءات ١ / ١٠٨ ، وشرح شعلة ٣٠٨ ، وإتحاف ١ / ٤٦٨ ، ٤٦٩.

(٦) سقط في ب.

١٨

لألف](١) التأنيث من حيث وقوعها رابعة ، فسبب إمالتها ، إما الانقلاب ، وإما شبه ألف التأنيث.

والإنجيل ؛ قيل : إفعيل كإجفيل (٢) ، وفي وزنه أقوال :

أحدها : أنه مشتق من النّجل ، وهو الماء الذي ينز من الأرض ويخرج منها ، ومنه النجل للولد ، وسمي الإنجيل ؛ لأنه مستخرج من اللوح المحفوظ.

وقيل : من النجل وهو الأصل ، ومنه النجل للوالد ، فهو من الأضداد ؛ إذ يطلق على الولد والوالد ، قال الأعشى : [المنسرح]

١٣٢١ ـ أنجب أيّام والده به

إذ نجلاه فنعم ما نجلا (٣)

وقيل : من النجل ـ وهو التوسعة ـ ومنه العين النجلاء ، لسعتها ، ومنه طعنة نجلاء وسمي الإنجيل بذلك ؛ لأن فيه توسعة لم تكن في التوراة ؛ إذ حلل فيه أشياء كانت محرمة.

وقيل : هو مشتق من التناجل وهو : التنازع ، يقال : تناجل الناس أي : تنازعوا ، وسمّي الإنجيل بذلك لاختلاف الناس فيه ، قاله أبو عمرو الشيباني.

والعامة على كسر الهمزة من «إنجيل» ، وقرأ الحسن بفتحها (٤).

قال الزمخشري : وهذا يدل على أنه أعجمي ؛ لأن أفعيلا ـ بفتح الهمزة ـ قليل عديم في أوزان العرب. قلت : بخلاف إفعيل ـ بكسرها ـ فإنه موجود نحو : إجفيل وإخريط (٥) وإصليت(٦).

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) الإجفيل الجبان يقال : أجفل القوم إذا هربوا بسرعة اللسان ١ / ٦٤٣.

(٣) ينظر ديوانه ص ٢٨٥ ، والدرر ٥ / ٤٩ ، وشرح التصريح ٢ / ٥٨ ، ولسان العرب (نجل) ، والمحتسب ١ / ١٥٢ ، والمقاصد النحوية ٣ / ٤٧٧ ، وأوضح المسالك ٣ / ١٨٦ ، وشرح الأشموني ١ / ٣٢٨ ، وشرح عمدة الحافظ ص ٤٩٤ ، ومجالس ثعلب ص ٩٦ ، وهمع الهوامع ٢ / ٥٣ ، والدر المصون ٢ / ١٠.

(٤) ينظر : شواذ القراءات ١٩ ، والمحرر الوجيز ١ / ٣٩٩ ، والبحر المحيط ٢ / ٣٩٣ ، والدر المصون ٢ / ٢ / ١١ ، وإتحاف ١ / ٤٦٩.

(٥) الإخريط : نبات ينبت في الجدد ، له قرون كقرون اللّوبياء ، وورقه أصغر من ورق الرّيحان ، وقيل : هو ضرب من الحمض ، وقال أبو حنيفة : هو أصفر اللّون دقيق العيدان ضخم له أصول وخشب ؛ قال الرّمّاح :

بحيث يكنّ إخريطا وسذرا

وحيث عن التّفرّق يلتقينا

التهذيب : والإخريط من أطيب الحمض ، وهو مثل الرّغل ، سمي إخريطا لأنه يخرّط الإبل أي يرقّق سلحها ، كما قالوا لبقلة أخرى تسلح المواشي إذا رعتها : إسليح.

ينظر اللسان ٢ / ١١٣٦.

(٦) قالت : البارز المستوي. وسيف صلت ، ومنصلت ، وإصليت : منجرد ، ماض في الضّريبة ؛ وبعض ـ

١٩

قال ابن الخطيب : «وأمر هؤلاء الأدباء عجيب ؛ لأنهم أوجبوا في كل لفظ أن يكون مأخوذا من شيء آخر ، ولو كان كذلك لزم إما التسلسل ، وإما الدور ، ولما كانا باطلين وجب الاعتراف بأنه لا بد من ألفاظ موضوعة وضعا أوّلا ، حتى يجعل سائر الألفاظ مشتقة منها ، وإذا كان الأمر كذلك فلم لا يجوز في هذا اللفظ الذي جعلوه مشتقا من ذلك الآخر أن يكون الأصل هو هذا ، والفرع هو ذاك الآخر ، ومن الذي أخبرهم بأن هذا فرع وذاك أصل؟

وربما كان هذا الذي يجعلونه فرعا ومشتقا في غاية الشهرة ، وذاك الذي يجعلونه أصلا في غاية الخفاء ، وأيضا فلو كانت التوراة إنما سميت بذلك لظهورها ، والإنجيل إنما سمي إنجيلا لكونه أصلا وجب في كل ما ظهر أن يسمّى بالتوراة ، فوجب تسمية كل الحوادث بالتوراة ، ووجب في كل ما كان أصلا لشيء آخر أن يسمّى بالإنجيل ، فالطين أصل الكوز فوجب أن يكون الطين إنجيلا ، والذهب أصل الخاتم ، والغزل أصل الثوب ، فوجب تسمية هذه الأشياء بالإنجيل ، ومعلوم أنه ليس كذلك ، ثم إنهم عند إيراد هذه الإلزامات عليهم لا بد وأن يتمسكوا بالوضع ، ويقولوا : العرب خصصوا هذين اللفظين بهذين الشيئين على سبيل الوضع ، وإذا كان لا يتم المقصود في آخر الأمر إلا بالرجوع إلى وضع اللغة ، فلم لا نتمسك به في أول الأمر ، ونريح أنفسنا من الخوض في هذه الكلمات ، وأيضا فالتوراة والإنجيل اسمان أعجميان ، أحدهما بالعبرية ، والآخر بالسريانية [فقيل : التوراة بالعبرانية نور ، ومعناه الشريفة ، والإنجيل بالسريانية «إنكليون» ، ومعناه الإكليل](١) [فكيف يليق بالعاقل أن يشتغل بتطبيقها على أوزان لغة العرب؟ فظهر أنّ الأولى بالعاقل أن لا يلتفت إلى هذه المباحث»](٢).

قوله : «من قبل» متعلق ب «أنزل» والمضاف إليه الظرف محذوف ؛ لفهم المعنى ، تقديره : من قبلك ، أو من قبل الكتاب ، و «الكتاب» غلب على القرآن ، وهو ـ في الأصل ـ مصدر واقع موقع المفعول به ، [أي](٣) المكتوب.

وذكر المنزل عليه في قوله : (نَزَّلَ عَلَيْكَ ،) ولم يذكره في قوله : (وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ) تشريفا لنبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم. قوله : «هدى» فيه وجهان :

__________________

ـ يقول : لا يقال الصّلت إلّا لما كان فيه طول.

ويقال : أصلتّ السّيف أي جرّدته ؛ وربّما اشتقّوا نعت أفعل من إفعيل ، مثل إبليس ، لأنّ الله ، عزوجل ، أبلسه.

وسيف إصليت أي صقيل ، ويجوز أن يكون في معنى مصلت. وفي حديث غورث : فاخترط السّيف وهو في يده صلتا ، أي مجرّدا. ينظر لسان العرب ٤ / ٢٤٧٨.

(١) سقط في ب.

(٢) سقط في أ.

(٣) في ب : أو.

٢٠