اللّباب في علوم الكتاب - ج ٤

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ٤

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٥٨

١٠٧١ ـ خذي العفو منّي تستديمي مودّتي

ولا تنطقي في سورتي حين أغضب (١)

وقال طاوس (٢) : ما يسر ، والعفو اليسر من كل شيء ، ومنه قول تعالى (خُذِ الْعَفْوَ) [الأعراف : ٩٥] أي الميسور من أخلاق النّاس.

قال ابن الخطيب : ويشبه أن يكون العفو عن الذّنب راجع إلى التّيسير ، والتّسهيل ، قال ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ : «عفوت لكم عن صدقة الخيل ، والرّقيق ، فهاتوا عشر أموالكم» (٣) معناه : التّخفيف بإسقاط زكاة الخيل والرّقيق ، ويقال : أعفى فلان فلانا بحقّه : إذا أوصله إليه من غير إلحاح في المطالبة ، ويقال : أعطاه كذا عفوا صفوا : إذا لم يكدّره عليه بالأذى ، ويقال : خذ من النّاس ما عفي لك ، أي : ما تيسّر ، ومنه قوله تعالى : (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ) [الأعراف : ١٩٩] وجملة التأويل : أنّ الله ـ تعالى ـ أدّب النّاس في الإنفاق ، فقال : (وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ) [الإسراء : ٢٦ ، ٢٧] وقال : (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ) [الإسراء : ٢٩] وقال : (وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا) [الفرقان : ٦٧] وقال عليه الصّلاة والسّلام : «خير الصّدقة ما أنفقت عن غنى ، ولا تلام على كفاف» (٤).

وعن جابر بن عبد الله قال : بينما نحن عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذ جاءه رجل بمثل البيضة من ذهب فقال : يا رسول الله ؛ خذها صدقة ، فو الله ما أملك غيرها ، فأعرض عنه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم أتاه من بين يديه ، فقال : هاتها مغضبا ؛ فأخذها منه ، ثمّ حذفه بها ، لو أصابته لأوجعته ثم قال : «يأتيني أحدكم بماله لا يملك غيره ، ثمّ يتكفّف النّاس ، إنّما الصّدقة عن ظهر غنى ، خذها ، فلا حاجة لنا فيها» (٥). وكان عليه الصّلاة والسّلام يحبس لأهله قوت سنة (٦).

وقال الحكماء (٧) الفضيلة بين طرفي الإفراط والتّفريط.

__________________

(١) ينظر : اللسان (عفا) ، والبحر المحيط ٢ / ١٦٨.

(٢) ينظر : تفسير البغوي ١ / ١٩٤.

(٣) تقدم.

(٤) أخرجه البخاري (٧ / ١١٢) كتاب النفقات باب وجوب النفقات رقم (٥٣٥٥) ومسلم (٢ / ٧١٧) كتاب الزكاة : باب بيان أن اليد العليا خير من اليد السفلى وأن اليد العليا هي المنفقة رقم (٩٤ ـ ١٠٣٣ ، ٩٥ ـ ١٠٣٤) والنسائي (٢٥٤٣).

(٥) أخرجه أبو داود (١٦٧٣) والحاكم (١ / ٤١٣) والبيهقي (٤ / ١٥٤) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ٥٥٤) وزاد نسبته لابن سعد.

(٦) أخرجه البخاري (٩ / ٤١٢) كتاب النفقات : باب حبس الرجل قوت سنة لأهله حديث (٥٣٥٧) ومسلم (٣ / ١٣٧٩) كتاب الجهاد : باب حكم الفيء حديث (٥٠ / ١٧٥٧) من حديث عمر بن الخطاب.

(٧) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٦ / ٤٢.

٤١

وقال عمرو بن دينار : الوسط من غير إسراف ولا إقتار.

فصل في ورد العفو في القرآن

قال أبو العباس المقرئ : ورد لفظ «العفو» في القرآن بإزاء ثلاثة معان :

الأول : العفو : الفضل من الأموال قال تعالى : (وَيَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ) يعني الفضل من المال.

الثاني : «العفو» الترك ؛ قال تعالى : (إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ) [البقرة : ٢٣٧] أي يتركوا ، ومثله : (فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ) [الشورى : ٤٠] ، أي: ترك مظلمته.

الثالث : العفو بعينه ، قال تعالى : (وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ) [آل عمران : ١٥٥].

فصل

واختلفوا في هذا الإنفاق ؛ هل المراد به الواجب ، أو التطوّع على قولين :

الأول : قال أبو مسلم (١) : يجوز أن يكون العفو هو الزّكوات وذكرها هاهنا على سبيل الإجمال في السّنة الأولى ؛ لأنّ هذه الآية قبل نزول آية الصّدقات ، وأنزل تفاصيلها في السّنة الثّانية فالنّاس كانوا مأمورين بأن يأخذوا من مكاسبهم ، ما يكفيهم في عامهم ، ثمّ ينفقون الباقي ، ثمّ صار هذا منسوخا بآية الزّكاة.

القول الثاني : أنّ المراد به صدقة التّطوّع.

قالوا : لأنّه لو كان مفروضا لبين الله مقداره ، فلمّا لم يبيّنه ، وفوّضه إلى رأي المخاطب ؛ علمنا أنّه ليس بفرض.

وأجيب ، بأنه لا يبعد أن يوجب الله ـ تعالى ـ شيئا على سبيل الإجمال ، ثمّ يذكر تفصيله وبيانه.

قول تعالى : (كَذلِكَ يُبَيِّنُ) الكاف في محلّ نصب : إمّا نعتا لمصدر محذوف ، أي : تبيينا مثل ذلك التّبيين يبيّن لكم ، وإمّا حالا من المصدر المعرفة ، أي : يبيّن التبيين مماثلا ذلك التّبيين. والمشار إليه يبيّن حال المنفق ، أو يبيّن حكم الخمر ، والميسر ، والمنفق المذكور بعدهما. وأبعد من خصّ اسم الإشارة ببيان حكم الخمر ، والميسر ، وأبعد منه من جعله إشارة إلى جميع ما سبق في السّورة من الأحكام.

و «لكم» متعلّق ب «يبيّن». وفي اللّام وجهان ، أظهرهما أنّها للتبليغ كالتي في : قلت لك.

__________________

(١) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٦ / ٤٣.

٤٢

والثاني : أنها للتّعليل وهو بعيد. والكاف في «كذلك» تحتمل وجهين :

أحدهما : أن تكون للنّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو للسامع ، فتكون على أصلها من مخاطبة المفرد.

والثاني : أن تكون خطابا للجماعة ، فيكون ذلك ممّا خوطب به الجمع بخطاب المفرد ، ويؤيّده قوله «لكم» ، و «لعلّكم» ، وهي لغة للعرب ، يخاطبون في اسم الإشارة بالكاف مطلقا ، وبعضهم يستغني عن الميم بضمّة الكاف ؛ قال : [الرجز]

١٠٧٢ ـ وإنّما الهالك ثمّ التّالك

ذو حيرة ضاقت به المسالك

كيف يكون النّوك إلّا ذلك (١)

فصل

قوله تعالى : (فِي الدُّنْيا) : فيه خمسة أوجه :

أظهرها : أن يتعلّق بيتفكّرون على معنى : يتفكّرون في أمرهما ، فيأخذون ما هو الأصلح ، ويؤثرون ما هو أبقى نفعا.

والثاني : أن يتعلّق ب «يبيّن» ، ويروى معناه عن الحسن ، وحينئذ يحتمل أن يقدّر مضاف ، أي : في أمر الدّنيا والآخرة ، ويحتمل ألّا يقدّر ، لأنّ بيان الآيات ، وهي العلامات يظهر فيها. وجعل بعضهم قول الحسن من التّقديم ، والتأخير ، أي : لذلك يبيّن الله لكم الآيات في أمر الدنيا والآخرة لعلّكم تتفكّرون في الدنيا وزوالها وفنائها ، فتزهدون فيها ، وفي إقبال الآخرة ، ووقوعها ، فترغبون فيها. ثم قال : ولا حاجة لذلك ، لحمل الكلام على ظاهره ، يعني من تعلّق في الدّنيا ب «تتفكّرون». وهذا ليس من التّقديم والتّأخير في شيء ؛ لأنّ جملة التّرجّي جارية مجرى العلّة فهي متعلّقة بالفعل معنى ، وتقديم أحد المعمولات على الآخر ، لا يقال فيه تقديم وتأخير ويحتمل أن تكون اعتراضية ، فلا تقديم ، ولا تأخير.

والثالث : أن تتعلّق بنفس «الآيات» لما فيها من معنى الفعل ، وهو ظاهر قول مكي فيما فهمه عنه ابن عطيّة. قال مكّيّ : «معنى الآية أنه يبيّن للمؤمنين آيات في الدّنيا ، والآخرة يدلّ عليها ، وعلى منزلتها لعلّهم يتفكّرون في تلك الآيات» قال ابن عطيّة : «فقوله : في الدنيا ، يتعلّق على هذا التّأويل بالآيات» وما قاله عنه ليس بظاهر ؛ لأنّ شرحه الآية لا يقتضي تعلّق الجار بالآيات. ثمّ إن عنى ابن عطية بالتعلّق التعلّق الاصطلاحي ، فقال أبو حيان «فهو فاسد ، لأنّ «الآيات» لا تعمل شيئا ألبتّة ، ولا يتعلّق بها ظرف ، ولا مجرور» وقال شهاب الدّين : وهذا من الشّيخ فيه نظر ، فإنّ الظّروف تتعلّق بروائح الأفعال ، ولا شكّ أنّ معنى الآيات العلامات الظّاهرة ، فيتعلّق بها الظّرف على هذا. وإن

__________________

(١) ينظر : الهمع ١ / ٨٧ ، الدرر ١ / ٢٣٩ ، والدر المصون ١ / ٢٣٨.

٤٣

عنى التّعلّق المعنويّ ، وهو كون الجارّ من تمام معنى : «الآيات» ، فذلك لا يكون إلّا إذا جعلنا الجارّ حالا من «الآيات» ، ولذلك قدّرها مكّيّ نكرة فقال : «يبيّن لهم آيات في الدّنيا» ليعلم أنّها واقعة موقع الصّفة لآيات ، ولا فرق في المعنى بين الصّفة والحال ، فيما نحن بصدده ، فعلى هذا تتعلّق بمحذوف لوقوعها صفة.

الرابع : أن تكون حالا من «الآيات» كما تقدّم تقريره الآن.

الخامس : أن تكون صلة للآيات ، فتتعلّق بمحذوف أيضا ، وذلك مذهب الكوفيين ، فإنّهم يجعلون من الموصولات الاسم المعرّف بأل ؛ وأنشدوا : [الطويل]

١٠٧٣ ـ لعمري لأنت البيت أكرم أهله

وأقعد في أفيائه بالأصائل (١)

ف «البيت» عندهم موصول.

وجوابهم مذكور في غير هذا الكتاب.

والتّفكّر : تفعل من الفكر ، والفكر : الذّهن ، فمعنى تفكّر في كذا : أجال ذهنه فيه وردّده.

قوله تعالى : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ).

قال ابن عبّاس : إنّ أهل الجاهليّة كانوا قد اعتادوا الانتفاع بأموال اليتامى ، وربّما تزوّجوا باليتيمة طمعا في مالها أو يزوجها من ابن له لئلّا يخرج مالها عن يده ، فلمّا نزل قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً) [النساء : ١٠] وقوله : (وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) ، وقوله : (وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ فِي يَتامَى النِّساءِ اللَّاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ كانَ بِهِ عَلِيماً) [النساء : ١٢٧] فعند ذلك ترك القوم مخالطة اليتامى ، والمقاربة من أموالهم والقيام بأمورهم ، وتحرّج المسلمون من أموال اليتامى تحرّجا شديدا ، وعزلوا أموال اليتامى عن أموالهم ، حتّى كان يصنع لليتيم طعاما ، فيفضل منه شيء ، فيتركونه ، ولا يأكلونه حتّى يفسد ، وكان صاحب اليتيم يفرد له منزلا ، وطعاما ، وشرابا ، فعظم ذلك على ضعفة المسلمين ، فقال عبد الله بن رواحة : يا رسول الله ما كلّنا يجد منازل يسكنها الأيتام ، ولا كلّنا يجد طعاما ، وشرابا ، يفردهما لليتيم فنزلت هذه الآية (٢).

__________________

(١) البيت لأبي ذؤيب الهذلي ينظر في إصلاح المنطق ص ٣٢٠ ، وخزانة الأدب ٥ / ٤٨٤ ، ٤٨٥ ، ٤٩١ ، ٤٩٧ ، والدرر ١ / ٢٧٣ ، وشرح أشعار الهذليين ١ / ١٤٢ ، ولسان العرب (أصل) ، والأزمنة والأمكنة ٢ / ٢٥٩ ، والإنصاف ٢ / ٧٢٣ ، وخزانة الأدب ٦ / ١٦٦ ، وهمع الهوامع ١ / ٨٥ ، والدر المصون ١ / ٥٣٩.

(٢) أخرجه أبو داود (٣ / ١٥٥) رقم (٢٨٧١) والنسائي (٦ / ٢٥٦) والحاكم (٢ / ١٠٣) والبيهقي (٦ / ٢٨٤) والطبري في «تفسيره» (٤ / ٣٥٠ ـ ٣٥١) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ٤٥٦) وزاد نسبته لابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس.

٤٤

قوله : (إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ) ، «إصلاح» مبتدأ ، وسوّغ الابتداء به أحد شيئين : إمّا وصفه بقوله : «لهم» ، وإمّا تخصيصه بعمله فيه ، و «خير» خبره. و «إصلاح» مصدر حذف فاعله ، تقديره : إصلاحكم لهم ، فالخيريّة للجانبين أعني جانب المصلح ، والمصلح له ، وهذا أولى من تخصيص أحد الجانبين بالإصلاح كا فعل بعضهم.

قال أبو البقاء (١) : «فيجوز أن يكون التّقدير : خير لكم ، ويجوز أن يكون : خير لهم» ، أي : إصلاحهم نافع لكم.

قال بعض العلماء : هذه الكلمة تجمع النّظر في إصلاح اليتيم بالتّقويم والتّأديب وغيرهما لكي ينشأ على علم وأدب وفضل ، والنّظر في إصلاح حاله ، وتجمع أيضا النّظر في حال الولي ، أي : هذا العمل خير له من أن يكون مقصّرا في حقّ اليتيم.

وقال بعضهم : الخير عائد إلى الولي ، يعني إصلاح مالهم من غير عوض ، ولا أجرة ، خير للولي ، وأعظم أجرا.

وقال آخرون : الخير عائد إلى اليتيم ، والمعنى : أنّ مخالطتهم بالإصلاح خير لهم من التّفرّد عنهم ، والإعراض عن مخالطتهم.

فصل في هل يتصرف في مال اليتيم

قال القرطبيّ (٢) لما أذن الله عزوجل في مخالطة الأيتام مع قصد الإصلاح بالنّظر إليهم وفيهم ، كان ذلك دليلا على جواز التّصرف في مال اليتيم تصرف الوصيّ في البيع ، والقسمة ، وغير ذلك على الإطلاق لهذه الآية ، فإذا كفل الرّجل اليتيم ، وحازه ، وكان في نظره ، جاز عليه فعله وإن لم يقدّمه وال عليه ؛ لأنّ الآية مطلقة والكفالة ولاية عامّة ، ولم يؤثر عن أحد من الخلفاء أنّه قدّم أحدا على يتيم مع وجودهم في أزمنتهم ، وإنّما كانوا يقتصرون على كونهم عندهم.

قوله : (وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ) المخالطة : الممازجة ، وقيل : جمع يتعذر فيه التّمييز ومنه يقال للجماع : الخلاط ، ويقال : خولط الرجل إذا جنّ ، والخلاط : الجنون ؛ لاختلاط الأمر على صاحبه بزوال عقله.

قوله : «فإخوانكم» الفاء جواب الشّرط ، و «إخوانكم» خبر مبتدأ محذوف ، أي : فهم إخوانكم. والجملة في محلّ جزم جواب الشّرط ، والجمهور على الرّفع ، وقرأ أبو مجلز : «فإخوانكم» نصبا بفعل مقدّر ، أي : فقد خالطتم إخوانكم ، والجملة الفعليّة أيضا في محلّ جزم ، وكأن هذه القراءة لم يطّلع عليها الفراء وأبو البقاء فإن الفراء [قال] ولو

__________________

(١) ينظر : الإملاء لأبي البقاء ١ / ٩٣.

(٢) ينظر : تفسير القرطبي ٣ / ٤٣.

٤٥

نصب كان صوابا ، وقال أبو البقاء : «ويجوز النّصب في الكلام ، أي : فقد خالطتم إخوانكم».

فصل في بيان وجوه المخالطة

في هذه المخالطة (١) وجوه :

أحدها : المراد بالمخالطة في الطّعام ، والشّراب ، والسّكنى ، والخدم ؛ لأن القوم ميّزوا طعامهم ، وشرابهم ، ومسكنهم عن طعام اليتيم ، وشرابه ، وسكنه فأمرهم الله تعالى بخلط الطّعامين والشّرابين ، والاجتماع في السّكن الواحد كما يفعله المرء بمال ولده ، فإنّ هذا أدخل في حسن العشرة والمؤالفة.

الثاني : المراد بهذه المخالطة أن ينتفعوا بأموالهم بقدر ما يكون أجرة المثل في ذلك العمل. والقائلون بهذا القول ، منهم من جوّز ذلك سواء كان القيم غنيّا ، أو فقيرا ، ومنهم من قال إن كان القيم غنيا لم يأكل من ماله ؛ لأن ذلك فرض عليك وطلب الأجرة على العمل الواجب لا يجوز ، واحتجوا بقوله : (وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ) [النساء : ٦] وإن كان القيّم فقيرا قالوا : يأكل بقدر الحاجة ، ويرده إذا أيسر فإن لم يوسر تحلله من اليتيم.

وروي عن عمر أنّه قال : أنزلت نفسي من مال الله بمنزلة وليّ اليتيم إن استغنيت استعففت ، وإن افتقرت أكلت قرضا بالمعروف ثمّ قضيت (٢).

وعن مجاهد : إذا كان فقيرا ، وأكل بالمعروف ، فلا قضاء عليه (٣).

الثالث : أنّ المراد بهذه «المخالطة» المصاهرة بالنّكاح ، وهو اختيار أبي مسلم (٤) قال : لقوله : (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ) [النساء : ٣] وقوله : (وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ فِي يَتامَى النِّساءِ) [النساء : ١٢٧] وهذا القول راجح على غيره من وجوه (٥) :

أحدها : أنّ هذا خلط لليتيم نفسه ، والشّركة خلط لماله.

وثانيها : أنّ الشّركة داخلة في قوله : «قل إصلاح لهم خير» ، والخلط من جهة النّكاح ، وتزويج البنات منهم لم يدخل في ذلك فحمل الكلام على هذا الخلط أقرب.

__________________

(١) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٦ / ٤٥.

(٢) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٢١٦) وعزاه لعبد الرزاق وسعيد بن منصور وابن سعد وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن أبي الدنيا والنحاس في ناسخه وابن المنذر من طرق عن عمر بن الخطاب.

(٣) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٢١٦) وعزاه لابن أبي حاتم عن مجاهد.

(٤) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٦ / ٤٥.

(٥) ينظر : المصدر السابق.

٤٦

وثالثها : أن قوله تعالى (فَإِخْوانُكُمْ) يدلّ على أنّ المراد هو هذا النّوع ؛ لأنّ اليتيم لو لم يكن من أولاد المسلمين لوجب أن يتحرى إصلاح أمواله كما يتحراه إذا كان مسلما ؛ فوجب أن تكون الإشارة بقوله «فإخوانكم» إلى نوع آخر من المخالطة.

ورابعها : أنّ المخالطة المندوب إليها هي في اليتامى الذين هم إخوان لكم بالإسلام ، فهم الذين ينبغي أن تناكحوهم ، ليتأكد الاختلاط فإن كان اليتيم من المشركين ، فلا تفعلوا ذلك.

قال القرطبيّ (١) : ما ينفقه الوصيّ والكفيل له حالتان :

حالة لا يمكنه الإشهاد عليها ، فقوله مقبول بغير بيّنة.

وحالة يمكنه الإشهاد عليها ، فمهما اشترى من العقار ، وما جرت العادة بالتّوثق فيه ، لم يقبل قوله بغير بيّنة.

وفرّق أصحابنا بين أن يكون اليتيم في دار الوصيّ ، وينفق عليه فلا يكلف الإشهاد على نفقته ، وكسوته ، لأنّه يتعذر عليه الإشهاد على ما يأكله ، ويلبسه في كلّ وقت ، ولكن إذا قال : انفقت نفقة لسنة ، قبل منه ، وبين أن يكون عند أمّه ، أو حاضنته فيدعي الوصي أنّه كان ينفق عليه ، أو كان يعطي الأمّ أو الحاضنة فلا يقبل منه إلّا ببيّنة أنّها كانت تقبض ذلك له مشاهرة أو مساناة.

فصل

قال أبو عبيد : هذه الآية عندي أصل لما يفعله الرّفقاء في الأسفار ، فإنّهم يتقاسمون النّفقات بينهم بالسّويّة ، وقد يتفاوتون في قلّة المطعم ، وكثرته ، وليس كلّ من قلّ مطعمه تطيب نفسه بالتّفضّل على رفيقه ، فلمّا كان هذا في أموال اليتامى واسعا ؛ كان في غيرهم أوسع ، ولو لا ذلك لخفت أن يضيّق فيه الأمر على النّاس.

قوله تعالى : (وَاللهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ) ؛ أي : المفسد لأموالهم من المصلح لها ، يعني : الذي يقصد بالمخالطة الخيانة ، وإفساد مال اليتيم ، وأكله بغير حقّ من الذي يقصد الإصلاح.

وقيل : «يعلم» ضمير من أراد الإفساد ، والطّمع في مالهم بالنّكاح من المصلح ، يعني : إنّكم إذا أظهرتم من أنفسكم إرادة الإصلاح ، فإذا لم تريدوا ذلك بقلوبكم ، بل كان المراد منه عرضا آخر [فالله مطّلع](٢) على ضمائركم عالم بما في قلوبكم ، وهذا تهديد عظيم ؛ وذلك لأنّ اليتيم لا يمكنه رعاية الغبطة لنفسه ، وليس له أحد يراعيها ، فكأنّه تعالى قال : لما لم يكن أحد يتكفّل بمصالحه ، فأنا متكفّل به ، وأنا المطالب لوليّه بذلك.

__________________

(١) ينظر : تفسير القرطبي ٣ / ٤٣.

(٢) في ب : فاستطلع.

٤٧

تقدم الكلام في قوله : «يعلم المفسد من المصلح» في قوله : (إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ) [البقرة : ١٤٣] ، والمفسد والمصلح جنسان هنا ، وليس الألف واللام لتعريف المعهود ، وهذا هو الظّاهر. وقد يجوز أن تكون للعهد أيضا.

وفي قوله : «تخالطوهم» التفات من ضمير الغيبة في قوله : «ويسألونك» إلى الخطاب لينبّه السّامع إلى ما يلقى إليه. ووقع جواب السّؤال بجملتين :

إحداهما من مبتدأ ، وخبر ، وأبرزت ثبوتية منكّرة المبتدإ لتدلّ على تناوله كلّ إصلاح على طريق البدليّة ، ولو أضيف لعمّ ، أو لكان معهودا في إصلاح خاص ، وكلاهما غير مراد ، أمّا العموم ، فلا يمكن ، وأمّا المعهود فلا يتناول غيره ؛ فلذلك أوثر التّنكير الدّالّ على عموم البدل ، وأخبر عنه ب «خير» الدّالّ على تحصيل الثّواب ، ليتبادر المسلم إليه. والآخر من شرط ، وجزاء ، دالّ على جواز الوقوع لا على طلبه وندبيّته.

قوله : (وَلَوْ شاءَ اللهُ) مفعول «شاء» محذوف ، أي : إعناتكم. وجواب لو : «لأعنتكم».

[والمشهور قطع همزة «لأعنتكم»] ؛ لأنّها همزة قطع. وقرأ البزيّ (١) عن ابن كثير في المشهور بتخفيفها بين بين ، وليس من أصله ذلك ، وروي سقوطها ألبتّة ، وهي كقراءة : (فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) [البقرة : ١٧٣] شذوذا وتوجيها. ونسب بعضهم هذه القراءة إلى وهم الرّاوي ، باعتبار أنه اعتقد في سماعه التّخفيف إسقاطا ، لكنّ الصّحيح ثبوتها شاذة.

و «العنت» : المشقّة و «الإعنات» الحمل على مشقّة لا تطاق ، يقال : أعنت فلان فلانا ، إذا أوقعه فيما لا يستطيع الخروج منه ، وتعنّته تعنّتا : إذا لبّس عليه في سؤاله ، وعنت العظم المجبور : إذا انكسر بعد الجبر ، وأكمة عنوت : إذا كانت شاقّة كدودا ، وعنت الدّابّة تعنّت عنتا : إذا حدث في قوائمها كسر بعد جبر ، لا يمكنها معه الجري. قال ابن الأنباري (٢) : أصل العنت الشّدّة ؛ تقول العرب : فلان يتعنت فلانا ، ويعنته إذا شدّد عليه ، وألزمه ما يصعب عليه أداؤه. وقال تعالى : (عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ) [التوبة : ١٢٨] ، أي : شديد عليه ما شقّ عليكم.

ويقال : أعنتني في السّؤال ، أي : شدّد علي وطلب عنتي وهو الإضرار.

قال ابن عباس : لو شاء الله لجعل ما أصبتم من أموال اليتامى موبقا لكم (٣).

__________________

(١) انظر الشواذ ١٣ ، والبحر المحيط ٢ / ١٧٢ ، والدر المصون ١ / ٥٤٠.

(٢) ينظر : تفسير القرطبي ٣ / ٤٥.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٤ / ٣٥٩) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ٤٥٧) وزاد نسبته لعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس.

٤٨

وقال عطاء : ولو شاء الله لأدخل عليكم المشقّة كما أدخلتم على أنفسكم ، ولضيّق الأمر عليكم في مخالطتهم (١).

وقال الزّجّاج (٢) : ولو شاء الله لكلفكم ما شقّ عليكم.

والعزيز الذي يأمر بعزة سهل على العبد ، أو شقّ.

والحكيم الذي يتصرّف في ملكه بما يريده لا حجّة عليه ، أو يضع الأشياء في مواضعها.

فصل في بيان التكليف بما لا يطاق

احتجّ الجبّائيّ (٣) بهذه الآية على أنّه تعالى لم يكلّف العبد ما لا يقدر عليه ؛ لأنّ قوله : (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَأَعْنَتَكُمْ) يدلّ على أنّه لم يفعل الإعنات ، ولا ضيق في التّكليف ، ولو كلّف العبد ما لا يقدر عليه ؛ لكان قد تجاوز حدّ الإعنات ، والتّضييق ؛ لأنّ كلمة «لو» تفيد امتناع الشّيء لامتناع غيره.

فإن قيل : الآية وردت في حقّ اليتيم.

قلنا : الاعتبار بعموم اللّفظ ، لا بخصوص السّبب.

واحتجّ الكعبي (٤) بهذه الآية على أنّه تعالى قادر على خلاف العدل ؛ لأنه لو امتنع وصفه بالقدرة على الإعنات ، لم يجز أن يقول : (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَأَعْنَتَكُمْ) ، وللنّظّام (٥) أن يجيب بأنّ هذا معلّق على مشيئة الإعنات ، فلم قلتم بأنّ هذه المشيئة ممكنة الثّبوت في حقّه تعالى.

قوله تعالى : (وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللهُ يَدْعُوا إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ)(٢٢١)

الجمهور على فتح تاء المضارعة ، وقرأ الأعمش (٦) بضمّها من : أنكح الرباعي ،

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٤ / ٣٥٩) عن السدي وابن زيد بمعناه.

(٢) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٦ / ٤٦.

(٣) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٦ / ٤٦.

(٤) ينظر : المصدر السابق.

(٥) ينظر : المصدر السابق.

(٦) انظر : الشواذ ١٣ ، والمحرر الوجيز ١ / ٢٩٦ ، والبحر المحيط ٢ / ١٧٣ ، والدر المصون ١ / ٥٤٠ ، والتخريجات النحوية ٢٣٠.

٤٩

فالهمزة فيه للتّعدية ، وعلى هذا فأحد المفعولين محذوف ، وهو المفعول الأوّل ؛ لأنه فاعل معنّى تقديره : ولا تنكحوا أنفسكم المشركات.

والنّكاح في الأصل عند العرب : لزوم الشّيء ، والإكباب عليه ؛ ومنه : «نكح المطر الأرض» ، حكاه ثعلب عن أبي زيد ، وابن الأعرابي.

قال الزّجّاجيّ : «النّكاح في الكلام بمعنى الوطء ، والعقد جميعا ، موضوع (ن. ك. ح) على هذا التّرتيب في كلامهم للفرد والشّيء راكبا عليه هذا كلام العرب الصّحيح».

أصله المداخلة ؛ ومنه : تناكحت الشّجر : أي : تداخلت أغصانها ؛ ويطلق النّكاح على العقد ؛ كقول الأعشى : [الطويل]

١٠٧٤ ـ ولا تقربنّ جارة إنّ سرّها

حرام عليك فانكحن أو تأبّدا (١)

أي : فاعقد ، أو توحّش ، وتجنّب النّساء ، ويطلق أيضا على الوطء ؛ كقوله : [البسيط]

١٠٧٥ ـ الباركين على ظهور نسوتهم

والنّاكحين بشطّ دجلة البقرا (٢)

وحكى الفرّاء «نكح المرأة» بضمّ النّون على بناء «القبل» ، و «الدّبر» ، وهو بضعها ، فمعنى قولهم : «نكحها» أي أصاب ذلك الموضع ، نحو : كبده ، أي أصاب كبده ، وقلّما يقال : ناكحها ، كما يقال باضعها.

وقال أبو علي : فرّقت العرب بين العقد والوطء بفرق لطيف ، فإذا قالوا : «نكح فلان فلانة ، أو ابنة فلان» ، أرادوا عقد عليها ، وإذا قالوا : نكح امرأته ، أو زوجته ، فلا يريدون غير المجامعة ، وهل إطلاقه عليهما بطريق الحقيقة فيكون من باب الاشتراك ، أو بطريق الحقيقة والمجاز؟ الظّاهر : الثاني ، فإنّ المجاز خير من الاشتراك ، وإذا قيل بالحقيقة ، والمجاز فأيهما حقيقة؟ ذهب قوم إلى أنّه حقيقة في العقد واحتجوا بوجوه :

منها : قوله عليه الصّلاة والسّلام : «لا نكاح إلّا بوليّ وشهود» (٣) ، وقّف النّكاح

__________________

(١) ينظر ديوانه (١٣٧) ، اللسان (نكح) ، الدر المصون ١ / ٥٤٠.

(٢) ينظر البحر ٢ / ١٦٥ ، الدر المصون ١ / ٥٤٠.

(٣) أخرجه بهذا اللفظ ابن عساكر (١ / ٤٠٢) والخطيب (٢ / ٢٢٤) وأخرجه بلفظ لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل : أبو داود (٢٠٨٥) والترمذي (١ / ٢٠٣ ـ ٢٠٤) والدارمي (٢ / ١٣٧) والطحاوي (٢ / ٥) وابن أبي شيبة (٤ / ١٣٠) وابن الجارود (٧٠٢) وابن حبان (١٢٤٣) والدار قطني (٣ / ٢١٩) والحاكم (٢ / ١٧٠) والبيهقي (٧ / ١٠٧) وأحمد (٤ / ٣٩٤ ، ٤١٣) عن أبي موسى.

وأخرجه ابن ماجه (١٨٨٠) والبيهقي (٧ / ١٠٩ ـ ١١٠) وأحمد ١ / ٢٥٠ ، عن ابن عباس.

وأخرجه الطبراني في «الأوسط» عن جابر كما في «المجمع» (٤ / ٢٨٦) وقال الهيثمي : وفيه عمرو بن عثمان الرقي وهو متروك وقد وثقه ابن حبان.

٥٠

على الوليّ ، والشّهود ، والمراد به العقد ، وقوله ـ عليه الصّلاة والسلام ـ : «ولدت من نكاح ، ولم أولد من سفاح» (١) فجعل النّكاح ، كالمقابل للسّفاح.

ومعلوم أنّ السّفاح مشتمل على الوطء ، فلو كان النّكاح اسما للوطء ، لامتنع كون النّكاح مقابلا للسّفاح ، وقال تعالى : (وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ) [النور : ٣٢] ولا يمكن حمله إلّا على العقد.

وأيضا قول الأعشى في البيت المتقدّم لا يحتمل إلّا الأمر بالعقد ؛ لأنه قال : «ولا تقربنّ جارة» يعني مقاربتها على الطّريق الّذي يحرم فاعقد وتزوّج ، وإلّا فتأيّم ، وتجنّب النّساء.

وقال الرّاغب (٢) : أصل النّكاح للعقد ، ثم استعير للجماع ، ومحال أن يكون في الأصل للجماع ، ثم استعير للعقد ، لأنّ أسماء الجماع كلّها كنايات لاستقباحهم ذكره ؛ كاستقباحهم تعاطيه ، ومحال أن يستعير من لا يقصد فحشا اسم ما يستفظعونه لما يستحسنونه ؛ قال تعالى : (فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ) [النساء : ٣].

وقال آخرون : هو حقيقة في الوطء ، واحتجوا بوجوه :

منها قوله تعالى : (فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ) [البقرة : ٢٣٠] نفي الحل ممتدّ إلى غاية النّكاح ، وليس هو العقد ؛ ومنها قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «حتّى تذوقي عسيلته ، ويذوق عسيلتك» (٣) ؛ فوجب أن يكون هو الوطء.

__________________

(١) أخرجه السهمي في «تاريخ جرجان» ص (٣١٨) وأبو نعيم في «أعلام النبوة» (١ / ١١) والعدني في «مسنده» كما في «الدر المنثور» (٢ / ٢٩٤) والطبراني في «الأوسط» كما في «المجمع» (٨ / ٢١٤) عن علي بن أبي طالب وقال الهيثمي : وفيه محمد بن جعفر بن محمد بن علي صحح له الحاكم في المستدرك وقد تكلم فيه وبقيه رجاله ثقات.

وأخرجه الطبري في «تفسيره» (١١ / ٥٦) والبيهقي (٧ / ١٩) وعبد الرزاق وابن أبي حاتم وأبو الشيخ كما في «الدر المنثور» (٢ / ٢٩٤) عن محمد الباقر وأخرجه ابن سعد (١ / ٣٢) من طريق عكرمة عن ابن عباس.

قال الذهبي في تاريخ الإسلام (١ / ٢٩) : هذا حديث ضعيف فيه متروكان الواقدي وأبو بكر بن أبي سبرة.

وأخرجه البيهقي (٧ / ١٩٠) والطبراني في «الكبير» كما في «المجمع» (٨ / ٢١٥) من طريق المديني عن أبي الحويرث عن ابن عباس.

قال الهيثمي : ولم أعرف المديني ولا شيخه وبقية رجاله وثقوا وأخرجه ابن سعد في «الطبقات الكبرى» (١ / ٣٢) عن عائشة بلفظ خرجت من نكاح غير سفاح.

(٢) ينظر : المفردات للراغب ٥٢٦.

(٣) أخرجه البخاري (٧ / ٧٦) كتاب الطلاق باب من أجاز طلاق الثلاث (٥٢٦٠) و (٧ / ١٠٠) كتاب الطلاق باب إذا طلقها ثلاثا ... رقم (٥٣١٧) و (٨ / ٤٢) رقم (٦٠٨٤) ومسلم (٤ / ١٥٤ ـ ١٥٥) ـ

٥١

وأجيب بأن امرأة رفاعة ، لم تفهم عند الإطلاق إلّا مجرّد العقد ؛ حتى قال لها عليه الصّلاة والسّلام : «لا حتّى تذوقي عسيلته».

ومنها : قوله عليه الصّلاة والسّلام : «ناكح اليد ملعون ، وناكح البهيمة ملعون» (١) أثبت النّكاح [مع عدم العقد.

والنّكاح] في اللّغة عبارة عن الضمّ ، والمداخلة كما تقدّم في المطر ، والأرض ، وتناكح الشّجر ، ونكح النّعاس عينه ، وفي المثل :

«نكحنا الفرى فسترى» والبيت المتقدم ، وقوله : [البسيط]

١٠٧٦ ـ أنكحت صمّ حصاها خفّ يعملة

تغشمرت بي إليك السّهل والجبلا (٢)

والضّمّ والوطء في المباشرة أتمّ منه في العقد.

وأجيب بأنّ هذه قرائن صارفة له عن حقيقته.

فصل في هل يتناول المشرك أهل الكتاب؟

لفظ «المشرك» ؛ هل يتناول أهل الكتاب؟

فالأكثرون على أنّ الكتابة تشمل لفظ المشرك ، ويدلّ عليه وجوه :

أحدها : قوله تعالى : (وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ) [التوبة : ٣٠] ، ثم قال بعد ذلك : (سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) [التوبة : ٣١] وهذا تصريح بأن اليهوديّ ، والنّصرانيّ مشرك.

وثانيها : قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) [النساء : ٤٨] ، فدلت هذه الآية على أنّ ما سوى الشّرك فقد يغفره الله تعالى في الجملة ، فلو كان كفر اليهوديّ والنّصرانيّ ليس بشرك ، لوجب أن يغفره الله تعالى في الجملة ، وذلك باطل ، فعلمنا أنّ كفرهما شرك.

وثالثها : قوله تعالى : (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ) [المائدة : ٧٣]

__________________

ـ والنسائي (٢ / ٨٠) والترمذي (١ / ٢٠٨ ـ ٢٠٩) والدارمي (٢ / ١٦١ ـ ١٦٢) وابن ماجه (١٩٣٢) وابن الجارود (٦٨٣) والبيهقي (٧ / ٣٧٣ ، ٣٧٤) والطيالسي (١٤٣٧ و ١٤٣٨) وأحمد (٦ / ٣٤ ، ٣٧) من طريق عروة عن عائشة.

وقال الترمذي : حديث حسن صحيح.

(١) ذكره بهذا اللفظ القاري في «الأسرار المرفوعة» رقم (١٠٢٢) وقال : قال الرهاوي في حاشيته : لا أصل له وتبعه العجلوني في كشف الخفاء (٢ / ٤٤٩).

وأورده الحافظ ابن حجر في «تلخيص الحبير» (٣ / ١٨٨) وعزاه لأبي الفتح الأزدي في «الضعفاء» عن الحسن بن عرفة في جزئه المشهور.

(٢) البيت للمتنبي ينظر شرح ديوانه للمعري ١ / ٦٧ ، الرازي ٦ / ٤٨.

٥٢

فهذا التّثليث إمّا أن يكون لاعتقادهم وجود صفات ثلاثة أو لاعتقادهم وجود ذوات ثلاثة.

والأول باطل ؛ لأن المفهوم من كونه تعالى عالما غير المفهوم من كونه قادرا ، ومن كونه حيّا ، وإذا كانت هذه المفهومات الثّلاثة لا بدّ من الاعتراف بها كان القول بإثبات صفات ثلاثة من ضرورات دين الإسلام ، فكيف يمكن تكفير النّصارى بسبب ذلك ؛ ولمّا بطل ذلك علمنا أنّه تعالى إنّما كفّرهم ؛ لأنّهم أثبتوا ذواتا ثلاثة قديمة مستقلّة ؛ وذلك لأنهم جوّزوا في أقنوم الكلمة أن يحلّ في عيسى ، والأقنوم عندهم عبارة عن حقيقة الشّيء ، وجوّزوا في أقنوم الحياة أن يحلّ في مريم ، ولولا أنّ هذه الأشياء المسمّاة عندهم بالأقانيم ذوات قامة بأنفسها ؛ لمّا جوّزوا عليه الانتقال من ذوات إلى ذات ، فثبت أنهم قائلون بإثبات ذوات قائمة بالنّفس قديمة أزليّة ، وهذا شرك. وإذا ثبت دخولهم تحت اسم الشّرك ، فاليهود كذلك إذ لا قائل بالفرق.

ورابعها : أنّه ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ أمّر أميرا ، وقال : إذا لقيت عدوّا من المشركين ؛ فادعهم إلى الإسلام ، فإن أجابوك ، فاقبل منهم وكفّ عنهم ، وإن أبوا ، فادعهم إلى الجزية ، وعقد الذّمّة» (١).

وخامسها : قال أبو بكر الأصمّ (٢) : كلّ من جحد الرّسالة ، والمعجزة ، فهو مشرك ؛ لأن تلك المعجزات إنّما ظهرت عن الله تعالى ، وكانوا يضيفونها إلى الجنّ والشّياطين ، ويقولون : إنّها سحر ، فقد أثبتوا لله شريكا في خلق هذه الأشياء الخارجة عن قدرة البشر.

وقال أبو الحسن بن فارس : هم المشركون ؛ لأنّهم يقولون : القرآن كلام غير الله ، فقد أشركوا مع الله غير الله.

فإن قيل : إنّه تعالى فصل بين القسمين ، وعطف أحدهما على الآخر في قوله : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ) [البقرة : ٦٢] وقال : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصارى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا) [الحج : ١٧] وقال : (ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ) [البقرة : ١٠٥] وذلك يوجب التّغاير.

والجواب أنّ هذا كقوله تعالى : (وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ) [الأحزاب : ٧] وكقوله تعالى : (مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ) [البقرة : ٩٨] فإن قالوا : إنّما خصّ بالذّكر تنبيها على كمال الدّرجة في ذلك الوصف.

__________________

(١) أخرجه مسلم (٣ / ١٣٥٧) كتاب الجهاد : باب تأمير الإمام الأمراء على البعوث حديث (٣ / ١٧٣١) وأبو داود (٣ / ٣٧) كتاب الجهاد : باب في دعاء المشركين (٢٦١٢) والشافعي في «المسند» (٢ / ١١٤ ـ ١١٥) والبيهقي (٩ / ١٥) والبغوي في «شرح السنة» (٥ / ٥٤٥) من حديث بريدة بلفظ : إذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم ...

ولفظ الشافي في «المسند» إذا لقيت عدوا من المشركين ... إلى آخره.

(٢) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٦ / ٤٩.

٥٣

قلنا : وها هنا أيضا كذلك إنّما خصّ عبدة الأوثان في هذه الآيات بهذا الاسم تنبيها على كمال درجتهم في الكفر.

فصل في سبب النزول

سبب نزول هذه الآية : أنّ أبا مرثد بن أبي مرثد بعثه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى «مكّة» ، ليخرج منها ناسا من المسلمين سرّا فلما قدمها سمعت به امرأة مشركة يقال لها : «عناق» ؛ وكانت خليلته في الجاهليّة فأتته وقالت : يا أبا مرثد ألا تخلو؟ فقال لها : ويحك يا عناق إنّ الإسلام قد حال بيننا وبين ذلك. قالت : هل لك أن تتزوّج بي؟ قال : نعم ، ولكن أرجع إلى رسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأستأمره. فقالت : أبي تتبرم؟ ثم استغاثت ؛ فضربوه ضربا شديدا ، ثمّ خلّوا سبيله ، فلمّا قضى حاجته بمكّة ، وانصرف إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أعلمه الذي كان من أمره ، وأمر عناق ، وقال : يا رسول الله ؛ أيحلّ لي أن أتزوّجها ؛ فأنزل الله تعالى : (وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَ)(١) [البقرة : ٢٢١].

فصل في الآية هل هي ابتداء حكم أو تقرير سابق

واختلف المفسّرون (٢) في هذه الآية : هل هي ابتداء حكم وشرع ، أو هو متعلّق بما تقدّم ؛ فالأكثرون على أنّه ابتداء شرع في بيان ما يحلّ ، ويحرم.

وقال أبو مسلم : بل هو متعلّق بقصّة اليتامى ، فإنّ الله تعالى لما قال : (وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ) وأراد مخالطة النّكاح عطف عليه بما يبعث على الرّغبة في اليتامى ، وأنّ ذلك أولى ممّا كانوا يتعاطونه من الرّغبة في المشركات ، وبيّن أنّ أمة مؤمنة خير من مشركة ، فإنها بلغت النّهاية فيما يفضي إلى الرّغبة فيها ليدلّ بذلك على ما يبعث على التّزوّج باليتامى ، وعلى تزويج الأيتام عند البلوغ ليكون ذلك داعية لما أمر به من النّظر في صلاحهم وصلاح أموالهم. وعلى الوجهين ، فحكم الآية لا يختلف.

فصل في بيان جواز نكاح الكتابيّة

الأكثرون من الأمّة قالوا : يجوز للرّجل أن يتزوّج بالكتابيّة. وقال ابن عمر ، ومحمّد بن الحنفيّة ، والهادي ـ وهو أحد أئمّة الزّيديّة ـ إنّ ذلك حرام ، واستدلّ الجمهور بقوله تعالى في سورة المائدة : (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) [المائدة : ٥] وسورة المائدة كلها ثابتة لم ينسخ منها شيء أصلا.

فإن قيل : لم لا يجوز أن يكون المراد من آمن منهنّ بعد الكفر ، ومن كان على الإيمان من أول الأمر؟

__________________

(١) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ٤٥٨) وعزاه لابن أبي حاتم وابن المنذر عن مقاتل بن حيان.

(٢) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٦ / ٤٧.

٥٤

قلنا : قوله (مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ) يفيد حصول هذا الوصف في حال الإباحة ، ويدلّ على ذلك فعل الصحابة ، فإنهم كانوا يتزوّجون الكتابيّات ، ولم يظهر من أحد منهم إنكار ذلك وكان إجماعا على الجواز ، كما نقل أنّ حذيفة تزوّج يهوديّة ، أو نصرانيّة ، فكتب إليه : أتزعم أنّها حرام؟ فقال : لا ، ولكني أخاف أن تعاطوا المومسات منهنّ (١).

وتزوج عثمان نائلة بنت فرافصة ، وكانت نصرانيّة ؛ فأسلمت تحته ، وتزوّج طلحة بن عبيد الله يهوديّة (٢).

وعن جابر بن عبد الله أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «نتزوّج نساء أهل الكتاب ، ولا يتزوّجون نساءنا» (٣).

وروى عبد الرّحمن بن عوف أنّه عليه الصّلاة والسّلام قال في المجوس : «سنّوا بهم سنّة أهل الكتاب غير ناكحي نسائهم ، ولا آكلي ذبائحهم» (٤) ولو لم يكن نكاح نسائهم جائزا ، لكان هذا الاستثناء عبثا.

وقال قتادة وسعيد بن جبير : أراد ب «المشركات» في الآية الوثنيّات (٥).

واحتجّ القائلون بعدم الجواز بوجوه :

أحدها : أنّ لفظ «المشرك» يتناول الكتابيّة على ما بيّنّاه ، والتّخصيص والنّسخ خلاف الظّاهر.

قالوا : ويؤيّد ذلك قوله في آخر الآية : (أُولئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ) والوصف المناسب إذا ذكر عقيب الحكم أشعر بالعلّيّة ، وكأنه تعالى قال : حرّمت عليكم نكاح المشركات ؛ لأنّهم يدعون إلى النّار وهذه العلّة قائمة في الكتابيّة ، فوجب القطع بتحريمها.

وثانيها : أنّ ابن عمر لما سئل عن هذه المسألة تلا آية التّحريم وآية التّحليل ، ووجه

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٤ / ٣٦٦ ـ ٣٦٧) والبيهقي (٧ / ١٧٢) وذكره ابن كثير في «تفسيره» (١ / ٥٠٧) من رواية الطبري وقال : هذا إسناد صحيح.

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ٤٥٩) وزاد نسبته لعبد الرزاق.

(٢) انظر تفسير الطبري (٤ / ٣٦٤ ـ ٣٦٥).

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٤ / ٣٦٧) عن جابر بن عبد الله مرفوعا وقال : فهذا الخبر وإن كان في إسناده ما فيه فالقول به.

(٤) أخرجه مالك في «الموطأ» (١ / ٢٧٨) رقم (٤٢) والشافعي في «مسنده» (١١٨٢) والبيهقي (٩ / ١٨٩) عن عبد الرحمن بن عوف.

ورواه الطبراني عن السائب بن يزيد كما في «المجمع» (٦ / ١٣) بلفظ سنّوا بالمجوس سنة أهل الكتاب وقال الهيثمي : فيه من لم أعرفه وأورده ابن كثير في تفسيره (٣ / ٨٠) وقال : لم يثبت بهذا اللفظ.

(٥) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٤ / ٣٦٣ و ٣٦٤) عن قتادة وسعيد بن جبير.

٥٥

الاستدلال : أنّ الأصل في الأبضاع الحرمة فلما تعارض دليل الحلّ ، ودليل الحرمة تساقطا ؛ فوجب بقاء حكم الأصل ، وبهذا الطريق لما سئل عثمان عن الجمع بين الأختين في ملك اليمين قال : أحلّتهما آية ، وحرّمتهما آية (١) ، فحكم عند ذلك بالتّحريم للسّبب الذي ذكرناه ، فكذا هاهنا.

وثالثها : حكى ابن جرير الطّبريّ في «تفسيره» عن ابن عبّاس تحريم أصناف النّساء إلّا المؤمنات ، واحتجّ بقوله : (فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ)(٢) [المائدة : ٥] ، وإذا كان كذلك فالكتابيّة كالمرتدّة في أنه لا يجوز العقد عليها.

ورابعها : أنّ طلحة نكح يهوديّة ، وحذيفة نصرانيّة ، فغضب عمر عليهما غضبا شديدا ، فقالا : نطلق يا أمير المؤمنين ، فلا تغضب. فقال : إنّ من أحلّ طلاقهنّ ، فقد أحلّ نكاحهنّ ، ولكن أنتزعهنّ (٣) منكما.

وأجيب عن الأوّل بأنّ من قال : الكتابيّ لا يدخل تحت اسم المشرك ، فالإشكال عنه ساقط ، ومن سلّم ذلك ، قال إنّ قوله تعالى : (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ) [المائدة : ٥] أخص من هذه الآية ، فإذا كانت هذه الحرمة ثابتة ، ثم زالت كان قوله: «والمحصنات» ناسخا ، وإن لم تثبت الحرمة كانت مخصّصة ، وإن كان النّسخ والتّخصيص خلاف الأصل إلّا أنّه إنما لما كان لا سبيل إلى التّوفيق بين الآيتين إلّا بهذا الطّريق ؛ وجب المصير إليه.

وقولهم : إنّ نكاح الوثنيّة إنّما حرّم ؛ لأنّها تدعو إلى النّار ، وهذا المعنى موجود في الكتابيّة.

قلنا : الفرق بينهما أنّ المشركة متظاهرة بالمخالفة ، فلعلّ الزّوج يحبّها ، ثم إنّها تحمله على مقاتلة المسلمين ، وهذا المعنى غير موجود في الذّمّيّة ؛ لأنها مقهورة راضية بالذّلّة ، والمسكنة ، فلا يتضمّن نكاحها المقاتلة.

وقولهم : تعارضت آية التّحريم (٤) ، وآية التّحليل (٥). قلنا : آية التّحليل خاصّة ، ومتأخّرة بالإجماع ؛ فوجب تقديمها على آية التّحريم ، بخلاف الآيتين ، بالجمع بين الأختين في ملك اليمين ، لأنّ كلّ واحدة منهما أخصّ من الأخرى من وجه ، وأعمّ من وجه آخر ، فلم يحصل فيه سبب التّرجيح.

__________________

(١) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٦ / ٥٠.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٤ / ٣٦٤) عن ابن عباس وذكره ابن كثير في «تفسيره» (١ / ٥٠٧) وقال : هذا حديث غريب جدا.

(٣) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٦ / ٥٠ ـ ٥١.

(٤) في ب : التحليل.

(٥) في ب : التحريم.

٥٦

وأمّا التّمسّك بقوله : (فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ) فجوابه : أنّا لما فرّقناين الكتابيّة وبين المرتدّة في أحكام كثيرة ، فلم لا يجوز الفرق بينهما أيضا في هذا الحكم؟

أمّا تمسّكهم بأثر عمر ، فقد نقلنا عنه أنّه قال : ليس بحرام ، وإذا حصل التّعارض بينهما ؛ سقط الاستدلال بهما ، وسلم باقي الأدلّة.

فصل في نكاح الكتابيّات

قال القرطبيّ (١) : وأمّا نكاح أهل الكتاب إذا كانوا حربا ، فلا يحلّ.

وسئل ابن عبّاس عن ذلك ، فقال : لا تحلّ ، وتلا قوله تعالى : (قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ) [التوبة : ٢٩] قال الرّاوي : تحدّث بذلك إبراهيم النّخعيّ ، فأعجبه.

فصل

نقل عن الحسن أنّه قال : هذه الآية ناسخة لما كانوا عليه من تزويج المشركات (٢).

قال بعض العلماء : إن كان إقدامهم على نكاح المشركات من قبل العادة ، لا من قبل الشّرع ؛ امتنع كون هذه الآية ناسخة ؛ لأنّه ثبت في الأصول أنّ النّاسخ والمنسوخ يجب أن يكونا حكمين شرعيين (٣) ، وإن كان جواز نكاح المشركات ثابتا من جهة الشّرع ، كانت هذه الآية ناسخة.

قوله : (حَتَّى يُؤْمِنَّ) «حتّى» بمعنى : «إلى» فقط ، والفعل بعدها منصوب بإضمار «أن» ، أي : إلى أن يؤمنّ ، وهو مبنيّ على المشهور لاتصاله بنون الإناث ، والأصل : يؤمنن ، فأدغمت لام الفعل في نون الإناث.

فصل في بيان قوله تعالى (حَتَّى يُؤْمِنَّ)

اتّفق الكلّ على المراد من قوله (حَتَّى يُؤْمِنَّ) الإقرار بالشّهادة والتزام أحكام

__________________

(١) ينظر : تفسير القرطبي ٣ / ٤٧.

(٢) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٦ / ٥٢.

(٣) اعلم أن للنسخ شروطا بعضها متفق عليه ، وبعضها مختلف فيه. أما المتفق عليه : فكون الناسخ والمنسوخ حكمين شرعيين ، فإن العجز والموت كل واحد منهما يزيل التعبد الشرعي ، ولا يسمّى نسخا ؛ وكذا إزالة الحكم العقلي بالحكم الشرعي لا يسمى نسخا ، وكون الناسخ منفصلا عن المنسوخ متأخرا عنه ؛ فإن الاستثناء والغاية لا يسميان نسخا.

وقد تضمنت التعريفات المذكورة للنسخ سابقا هذه الشروط وأما المختلف فيه فاشتراط كون الناسخ والمنسوخ من جنس واحد واشتراط البدل للمنسوخ ، واشتراط كونه أخف من المنسوخ أو مثله. ومنها اشتراط التمكن من الفعل قبل نسخه. ويتفرع على بعض الشروط المختلف فيها مسائل ، فمن خالف في هذه الشروط ، خالف في تلك المسائل فلتنظر في كتب الأصول.

٥٧

الإسلام ، وإذا كان كذلك احتجّت الكرّاميّة بهذه الآية على أنّ الإيمان عبارة عن مجرّد الإقرار ؛ لأنّه غيّا التحريم إلى الإيمان ، وهو هنا الإقرار ؛ فثبت أنّ الإيمان في عرف الشّرع عبارة عن الإقرار ، وأجيبوا بوجوه :

منها : قوله تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ) [البقرة : ٨].

ومنها : قوله تعالى : (قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا) [الحجرات : ١٤] ؛ ولو كان الإيمان عبارة عن مجرّد الإقرار ، لكان قوله (قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا) كذبا. وأجيبوا عن التّمسّك بهذه الآية بأنّ التّصديق الذي في القلب لا يمكن الاطّلاع عليه ، فأقيم الإقرار باللّسان مقام التّصديق بالقلب.

قوله : (وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ). قال أبو مسلم (١) : اللام في قوله : «ولأمة» تشبه لام القسم في إفادة التّوكيد.

سوّغ الابتداء ب «أمة» شيئان : لام الابتداء والوصف. وأصل «أمة» : أمو ، فحذفت لامها على غير قياس ، وعوّض منها تاء التّأنيث ك «قلة» ، و «ثبة» يدلّ على أنّ لامها واو رجوعها في الجمع ؛ قال الكلابيّ : [البسيط]

١٠٧٧ ـ أمّا الإماء فلا يدعونني ولدا

إذا تداعى بنو الإموان بالعار (٢)

ولظهورها في المصدر أيضا ، قالوا : أمة بيّنة الأموّة وأقرّت له بالأموّة. وهل وزنها «فعلة» بتحريك العين ، أو «فعلة» بسكونها؟ قولان ، أظهرهما الأوّل ، وكان قياسها على هذا أن تقلب لامها ألفا لتحرّكها وانفتاح ما قبلها كفتاة وقناة ، ولكن حذفت على غير قياس.

والثاني : قال به أبو الهيثم ، فإنّه زعم أنّ جمع الأمة أمو ، وأنّ وزنها فعلة بسكون العين ، فيكون مثل نخل ، ونخلة ، فأصلها أموة ، فحذفوا لامها إذ كانت حرف لين ، فلمّا جمعوها على مثل : نخلة ونخل لزمهم أن يقولوا : أمة ، وأم ، فكرهوا أن يجعلوها حرفين ، وكرهوا أن يردّوا الواو المحذوفة لمّا كانت آخر الاسم ، فقدّموا الواو وجعلوه ألفا بين الهمزة والميم ، فقالوا : أام. وما زعمه ليس بشيء إذ كان يلزم أن يكون الإعراب على الميم ، كما كان على لام «نخل» ، وراء «تمر» ، ولكنه على التّاء المحذوفة مقدّر كما سيأتي بيانه. وجمعت على «إموان» كما تقدّم ، وعلى إماء ، والأصل : إماو ، نحو رقبة ، ورقاب ، فقلبت الواو همزة لوقوعها طرفا بعد ألف زائدة ككساء. وفي الحديث : «لا

__________________

(١) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٦ / ٥٢.

(٢) ينظر ديوانه ص ٥٤ ، ٥٥ ، شرح أبيات سيبويه ٢ / ٢٧٣ ، الكتاب ٣ / ٤٠٢ ، ٦٠١ ، اللسان (أما) ، جمهرة اللغة ص ٢٤٨ ، ١٣٠٢ ، ابن الشجري ٢ / ٥٣ ، الدر المصون ١ / ٥٤١.

٥٨

تمنعوا إماء الله مساجد الله» (١) وعلى آم ، قال الشّاعر : [مجزوء الكامل]

١٠٧٨ ـ تمشي بها ربد النّعا

م تماشي الآم الزّوافر (٢)

والأصل «أأمو» بهمزتين ، الأولى مفتوحة زائدة ، والثّانية ساكنة هي فاء الكلمة نحو : أكمة ، وأأكم ، فوقعت الواو طرفا مضموما ما قبلها في اسم معرب ولا نظير له ، فقلبت الواو ياء والضّمّة كسرة لتصحّ الياء ، فصار الاسم من قبيل المنقوص نحو : غاز وقاض ، ثمّ قلبت الهمزة الثّانية ألفا ، لسكونها بعد أخرى مفتوحة ، فتقول : جاء آم ، ومررت بآم ، ورأيت آميا ، تقدّر الضّمّة والكسرة وتظهر الفتحة ، ونظيره في هذا القلب مجموعا : «أدل» و «أجر» جمع «دلو» و «جرو» وهذا التّصريف الذي ذكرناه يردّ على أبي الهيثم قوله المتقدّم ، أعني كونه زعم أن آميا جمع أموة بسكون العين ، وأنّه قلب ، إذ لو كان كذلك لكان ينبغي أن يقال جاء آم ، ومررت بآم ، ورأيت آما ، وجاء الآم ومررت بالآم ، فتعرب بالحركات الظاهرة.

والتّفضيل في قوله : «خير من مشركة» : إمّا على سبيل الاعتقاد ، لا على سبيل الوجود ، وإمّا لأنّ نكاح المؤمنة يشتمل على منافع أخرويّة ، ونكاح المشركة الحرّة يشتمل على منافع دنيويّة ، هذا إذا التزمنا بأنّ «أفعل» لا بدّ أن يدلّ على زيادة ما ، وإلّا فلا حاجة إلى هذا التأويل ، كما هو مذهب الفرّاء وجماعة.

وقوله : «من مشركة» يحتمل أن يكون «مشركة» صفة لمحذوف مدلول عليه بمقابله ، أي : من حرّة مشركة ، أو مدلول عليه بلفظه ، أي : من أمة مشركة ، على حسب الخلاف في قوله : «ولأمة» هل المراد المملوكة للآدميين ، أو مطلق النّساء ، لأنهنّ ملك لله تعالى ؛ كما قال ـ عليه‌السلام ـ «لا تمنعوا إماء الله مساجد الله». وكذلك الخلاف في قوله : (وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ).

وقال بعضهم ولأمة مؤمنة خير من حرّة مشركة (٣) ولا حاجة إلى هذا التقدير ، لأن اللّفظ مطلق. وأيضا فقوله : (وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ) يدلّ على صفة الحرّيّة ؛ لأنّ التّقدير : ولو أعجبتكم بحسنها ، أو مالها ، أو حرّيتها ، أو نسبها ، فكلّ ذلك داخل تحت قوله : (وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ).

__________________

(١) أخرجه أبو داود (٥٦٥) والدارمي (١ / ٢٩٣) وابن الجارود في «المنتقى» (١٦٩) والبيهقي (٣ / ١٣٢) وأحمد (٢ / ٤٣٨ ، ٤٧٥ ، ٥٢٨) من طرق عن أبي سلمة عن أبي هريرة مرفوعا.

وأخرجه أحمد (٦ / ٦٩ ـ ٧٠) من حديث عائشة وأخرجه أحمد (٥ / ١٩٢ ، ١٩٣) من حديث زيد بن خالد الجهني وأورده الهيثمي في «المجمع» (٢ / ٣٣) وقال : إسناده حسن.

(٢) البيت للكميت ينظر البحر ٢ / ١٦٥ ، اللسان : أما ، الدر المصون ١ / ٥٤١.

(٣) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٦ / ٥٢.

٥٩

فصل في سبب النّزول

نزلت هذه الآية في خنساء ، وهي وليدة سوداء ، كانت لحذيفة بن اليمان ، قال حذيفة : يا خنساء قد ذكرت في الملأ الأعلى على سوادك ودمامتك ؛ فأعتقها وتزوجها (١).

وقال السّدّيّ : نزلت في عبد الله بن رواحة كانت له أمة سوداء ، فغضب عليها ، ولطمها ، ثم أتى النّبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وأخبره بذلك ، فقال له ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ : «وما هي»؟ فقال : تشهد ألّا إله إلا الله ، وأنّك رسول الله ، وتحسن الوضوء وتصلّي فقال : «إنّ هذه مؤمنة» قال عبد الله : فو الّذي بعثك بالحقّ نبيّا ، لأعتقها ولأتزوجها ، ففعل ، فطعن عليه ناس من المسلمين ، وقالوا : تنكح أمة؟! وعرضوا عليه حرّة مشركة. فأنزل الله هذه الآية (٢).

فصل في بيان الخيريّة في الآية

والخير هاهنا النفع الحسن ، والمعنى : أنّ المشركة ـ وإن كانت ثابتة في المال ، والجمال ، والنّسب ـ فالأمة المؤمنة خير منها إلّا أن الإيمان يتعلّق بالدّين ، والمال ، والجمال ، والنّسب متعلّق بالدّين والدّنيا ، ولا شكّ أنّ الدّين خير من الدنيا ؛ لأنه أشرف الأشياء عند كل أحد ، فإذا اتفق الدين كملت المحبة فتكمل منافع الدنيا من الصحة والطاعة وحفظ الأموال والأولاد ، وعند اختلاف الدين لا يحصل شيء من ذلك.

فصل في تقرير مذهب أبي حنيفة في القادر على التزوّج بأمة مع وجود الحرة

قال الجبائي (٣) : دلت الآية على أن القادر على طول الحرة يجوز له التزوج بالأمة كمذهب أبي حنيفة ؛ لأن الآية دلت على أن الواجد لطول الحرة المشركة يكون ـ لا محالة ـ واجدا لطول الحرة المسلمة لأن سبب التفاوت في الإيمان والكفر لا يتفاوت في قدر المال المحتاج إليه في أهبة النكاح فيلزم ـ قطعا ـ أن يكون الواجد لطول الحرة المسلمة يجوز له نكاح الأمة ، وهو استدلال لطيف.

قوله : (وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ) ، وقوله : (وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ) هذه الجملة في محلّ نصب على الحال ، وقد تقدّم أنّ «لو» هذه في مثل هذا التّركيب شرطيّة بمعنى : «إن» نحو : «ردّوا السّائل ، ولو بظلف محرق» (٤) ، وأنّ الواو للعطف على حال محذوفة ، التّقدير : خير من

__________________

(١) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ٤٥٩) وعزاه لابن أبي حاتم عن مقاتل بن حيان.

(٢) أخرجه الواحدي من طريق السدي عن أبي مالك عن ابن عباس كما في «الدر المنثور» (١ / ٤٥٩).

وأخرجه الطبري في «تفسيره» (٤ / ٣٦٨ ـ ٣٦٩) عن السدي.

(٣) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٦ / ٥٢.

(٤) تقدم.

٦٠