اللّباب في علوم الكتاب - ج ٤

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ٤

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٥٨

والمفضّل عليه محذوف لفهم المعنى ، أي : أقسط وأقوم ، وأدنى لكذا من عدم الكتب ، وحسّن الحذف كون أفعل خبرا للمبتدأ بخلاف كونه صفة ، أو حالا. وقرأ السّلميّ (١) : «ألّا يرتابوا» بياء الغيبة كقراءة : «ولا يسئموا أن يكتبوه» وتقدّم توجيهه.

فصل في فوائد الإشهاد والكتابة

اعلم أنّ الكتابة ، والاستشهاد تشتمل على ثلاث فوائد :

الأولى : قوله : (أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ) ، أي : أعدل عند الله وأقرب إلى الحقّ.

والثانية : قوله : (أَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ) ، أي : أبلغ في استقامته التي هي ضد الاعوجاج ؛ لأنّ المنتصب القائم ضدّ المنحني المعوج ، وإنّما كانت أقوم للشّهادة ؛ لأنها سبب للحفظ والذكر ، فكانت أقرب إلى الاستقامة.

والفرق بين الفائدة الأولى والثانية أن الأولى تتعلّق بتحصيل مرضاة الله ، والثانية تتعلّق بتحصيل مصلحة الدّنيا ، ولهذا قدمت الأولى عليها ؛ لأن تقديم (٢) مصلحة الدّين على مصلحة الدّنيا واجب.

الفائدة الثالثة (٣) : قوله : (وَأَدْنى أَلَّا تَرْتابُوا) يعني أقرب إلى زوال الشّكّ والارتياب عن قلوب المتداينين ، فالفائدة الأولى إشارة إلى تحصيل مصلحة الدّين.

والثّانية : إشارة إلى تحصيل مصلحة الدّنيا.

والثالثة : إشارة إلى دفع الضّرر عن النّفس وعن الغير ، أمّا عن النّفس فلأنه يبقى في الفكران (٤) ، أنّ هذا الأمر كيف كان ، وهذا الذي قلت : هل كان صدقا ، أو كذبا ، أمّا عن الغير ، فلأنّ ذلك الغير ربّما نسبه إلى الكذب ، فيقع في عقاب الغيبة.

قوله : (إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً) في هذا الاستثناء قولان :

أحدهما : أنه متّصل قال أبو البقاء (٥) : «والجملة المستثناة في موضع نصب ؛ لأنّه استثناء [من الجنس] لأنه أمر بالاستشهاد في كلّ معاملة ، فالمستثنى منها التجارة الحاضرة ، والتّقدير : إلّا في حال حضور التّجارة».

والثاني : أنّه منقطع ، قال مكي بن أبي طالب (٦) : «و «أن» في موضع نصب على الاستثناء المنقطع» وهذا هو الظّاهر ، كأنه قيل : لكنّ التّجارة الحاضرة ، فإنّه يجوز عدم الاستشهاد والكتب فيها.

__________________

(١) انظر : المحرر الوجيز ١ / ٣٨٣ ، البحر المحيط ٢ / ٣٦٨ ، والدر المصون ١ / ٦٨٣.

(٢) في ب : تحصيل.

(٣) في ب : الثانية.

(٤) في ب : الفكر.

(٥) ينظر : الإملاء لأبي البقاء ١ / ١٢٠.

(٦) ينظر : المشكل لمكي ١ / ١١٩.

٥٠١

وقرأ (١) عاصم هنا «تجارة» بالنّصب ، وكذلك «حاضرة» ؛ لأنها صفتها ، ووافقه الأخوان ، والباقون قرءوا بالرّفع فيهما. فالرّفع فيه وجهان :

أحدهما : أنها التامة ، أي : إلا أن تحدث ، أو تقع تجارة ، وعلى هذا فتكون «تديرونها» في محلّ رفع صفة لتجارة أيضا ، وجاء هنا على الفصيح ، حيث قدّم الوصف الصريح على المؤول.

والثاني : أن تكون النّاقصة ، واسمها «تجارة» والخبر هو الجملة من قوله : «تديرونها» كأنه قيل : إلا أنّ تكون تجارة حاضرة مدارة ، وسوّغ مجيء اسم كان نكرة وصفه ، وهذا مذهب الفراء (٢) و [تابعه] آخرون.

وأمّا قراءة عاصم ، فاسمها مضمر فيها ، فقيل : تقديره : إلا أن تكون المعاملة ، أو المبايعة ، أو التجارة. وقدّره الزّجاج (٣) إلّا أن تكون المداينة ، وهو أحسن. وقال الفارسيّ : «ولا يجوز أن يكون [التّداين] اسم كان ؛ لأنّ التّداين معنى ، والتّجارة الحاضرة يراد بها العين ، وحكم الاسم أن يكون الخبر في المعنى ، والتّداين حقّ في ذمة المستدين ، للمدين المطالبة به ، وإذا كان كذلك لم يجز أن يكون اسم كان لاختلاف التّداين ، والتّجارة الحاضرة» وهذا الرد لا يظهر على الزجاج ، لأنّ التّجارة أيضا مصدر ، فهي معنى من المعاني لا عين من الأعيان ، وأيضا فإنّ من باع ثوبا بدرهم في الذّمّة بشرط أن يؤدى الدّرهم في هذه السّاعة ، كان مداينة ، وتجارة حاضرة.

وقال الفارسيّ أيضا : ولا يجوز أيضا أن يكون اسمها «الحقّ» الذي في قوله : «فإن كان الّذي عليه الحقّ» للمعنى الذي ذكرنا في التّداين ، لأنّ ذلك الحقّ دين ، وإذا لم يجز هذا لم يخل اسم كان من أحد شيئين :

أحدهما : أنّ هذه الأشياء التي اقتضت من الإشهاد ، والارتهان قد علم من فحواها التبايع ، فأضمر التّبايع لدلالة الحال عليه كما أضمر لدلالة الحال فيما حكى سيبويه رحمه‌الله (٤) : «إذا كان غدا فأتني» ؛ وينشد على هذا : [الطويل]

١٢٩٠ ـ أعينيّ هلّا تبكيان عفاقا

إذا كان طعنا بينهم وعناقا (٥)

أي : إذا كان الأمر.

__________________

(١) انظر : السبعة ١٩٤ ، والكشف ١ / ٣٢١ ، والحجة ٢ / ٤٣٦ ، وحجة القراءات ١٥١ ، وشرح الطيبة ٤ / ١٣٦ ، وشرح شعلة ٣٠٥ ، وإعراب القراءات ١ / ١٠٤ ، ١٠٥ ، وإتحاف ١ / ٤٦٠.

(٢) ينظر : معاني القرآن للفراء ١ / ١٨٥.

(٣) ينظر : معاني القرآن للزجاج ١ / ٣٦٦.

(٤) ينظر : الكتاب لسيبويه ١ / ١١٤.

(٥) ينظر : معاني الفراء ١ / ١٨٦ ، الدر المصون ١ / ٦٨٣.

٥٠٢

والثاني : أن يكون أضمر التّجارة ؛ كأنه قيل : إلّا أن تكون التّجارة تجارة ؛ ومثله ما أنشده الفرّاء رحمه‌الله : [الطويل]

١٢٩١ ـ فدّى لبني ذهل بن شيبان ناقتي

إذا كان يوما ذا كواكب أشهبا (١)

وأنشد الزمخشريّ : [الطويل]

١٢٩٢ ـ بني أسد هل تعلمون بلاءنا

إذا كان يوما ذا كواكب أشنعا (٢)

أي : إذا كان اليوم يوما ، و «بينكم» ظرف لتديرونها.

قوله : «فليس» قال أبو البقاء (٣) : «دخلت الفاء في «فليس» إيذانا بتعلّق ما بعدها بما قبلها» قال شهاب الدين رحمه‌الله تعالى : هي عاطفة هذه الجملة على الجملة من قوله : (إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً) إلى آخرها ، والسّببيّة فيها واضحة أي : بسبب عن ذلك رفع الجناح في عدم الكتابة.

وقوله : «أن لا تكتبوها» أي : «في أن لا» ، فحذف حرف الجر فبقي في موضع «أن» الوجهان.

فصل

التّجارة عبارة عن التّصرّف في المال سواء كان حاضرا أو في الذّمّة لطلب الرّبح ، يقال : تجر الرّجل يتجر تجارة ، فهو تاجر.

قال النّوويّ في «التّهذيب» (٤) : «ويقال : اتّجر يتّجر تجرا ، وتجارة فهو تاجر ، والجمع تجار كصاحب ، وصحاب ، ويقال أيضا : تجّار بتشديد الجيم كفاجر ، وفجّار».

وقال في «المهذّب» في آخر «باب زكاة الزّرع» يجب العشر والخراج ، ولا يمنع أحدهما الآخر كأجرة المتجر ، وزكاة التجارة ، فالمتجر بفتح الميم ، وإسكان التّاء ، وفتح الجيم ، والمراد به المخزون وصرّح به صاحب «المهذّب» في كتابه «الخلاف» فقال : كأجرة المخزون ، وكذا ذكره غيره من أصحابنا.

فصل

وسواء كانت المبايعة بدين ، أو بعين ، فالتّجارة تجارة حاضرة فقوله : (إِلَّا أَنْ تَكُونَ

__________________

(١) ينظر : معاني الفراء ١ / ١٨٦ ، والدر المصون ١ / ٦٨٤.

(٢) البيت لعمرو بن شأس ينظر الكتاب ١ / ٤٧ ، وشرح أبيات سيبويه ١ / ٦٣ ، وخزانة الأدب ٨ / ٥٢١ ، والأزهية ص ١٨٦ ، ولحصين بن حمام ينظر المعاني الكبير ص ٩٧٣ ، ولسان العرب (شهب) ، والمقتضب ٤ / ٩٦ ، والدر المصون ١ / ٦٨٤.

(٣) ينظر : الإملاء لأبي البقاء ١ / ١٢٠.

(٤) ينظر : التهذيب للنوي ٣ / ٤٠.

٥٠٣

تِجارَةً حاضِرَةً) لا يمكن حمله على ظاهره ، بل المراد من التّجارة ما يتجر فيه من الأبدال ، ومعنى إدارتها بينهم معاملتهم فيها يدا بيد ، ومعنى نفي الجناح ، أي : لا مضرّة عليكم في ترك الكتابة ، ولم يرد نفي الإثم ، لأنّه لو أراد الإثم ؛ لكانت الكتابة المذكورة واجبة عليهم ، ويأثم صاحب الحقّ بتركها ، وقد ثبت خلافه ، وبيان أنّه لا مضرّة عليهم في تركها ؛ لأنّ التّجارة الحاضرة تقع كثيرا ، فلو تكلّفوا فيها الكتابة ، والإشهاد ؛ يشقّ عليهم ، وأيضا فإنّ كلّ واحد من المتعاملين إذا أخذ حقّه من صاحبه في المجلس ؛ لم يكن هناك خوف التّجاحد ، فلا حاجة إلى الكتابة ، والإشهاد.

قوله : (وَأَشْهِدُوا) : هذا أمر إرشاد إلى طريق الاحتياط.

قال أكثر المفسّرين : إنّ الكتابة ، وإن رفعت عنهم في التّجارة الحاضرة ؛ فلا يرفع الإشهاد ؛ لأن الإشهاد بلا كتابة تخف مؤنته.

قوله : (إِذا تَبايَعْتُمْ) يجوز أن تكون شرطية ، وجوابها : إمّا متقدّم عند قوم ، وإمّا محذوف لدلالة ما تقدّم عليه تقديره : إذا تبايعتم فأشهدوا ، ويجوز أن تكون ظرفا محضا ، أي : افعلوا الشّهادة وقت التبايع.

قوله : (وَلا يُضَارَّ) العامّة على فتح الرّاء جزما ، ولا ناهية ، وفتح الفعل لما تقدّم في قراءة حمزة : «إن تضلّ». ثمّ هذا الفعل يحتمل أن يكون مبنيّا للفاعل ، والأصل : «يضارر» بكسر الرّاء الأولى ، فيكون «كاتب» ، و «شهيد» فاعلين نهيا عن مضارّة المكتوب له ، والمشهود له ، نهي الكاتب عن زيادة حرف يبطل به حقّا أو نقصانه ، ونهي الشّاهد عن كتم الشّهادة ، واختاره الزجاج (١) ، ورجّحه بأنّ الله تعالى قال : (فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ) ، ولا شكّ أنّ هذا من الكاتب والشّاهد فسق ، ولا يحسن أن يكون إبرام الكاتب والشهيد والإلحاح عليهما فسقا. لأنّ اسم الفسق بمن يحرف الكتابة ، وبمن يمتنع عن الشّهادة ؛ حتّى يبطل الحقّ بالكليّة أولى منه بمن أضرّ الكاتب والشّهيد ؛ ولأنه تبارك وتعالى قال فيمن يمتنع عن أداء الشّهادة (وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ) [البقرة : ٢٨٣] والإثم والفسق متقاربان وهذا في التّفسير منقول عن ابن عبّاس ـ رضي الله عنه ـ ومجاهد وطاوس ، والحسن وقتادة. ونقل الدّاني عن ابن عمر ، وابن عبّاس ، ومجاهد ، وابن أبي إسحاق أنهم قرءوا الرّاء (٢) الأولى بالكسر ، حين فكّوا.

ويحتمل أن يكون الفعل فيها مبنيّا للمفعول ، والمعنى : أنّ أحدا لا يضارر الكاتب ولا الشّاهد ، ورجّح هذا بأنه لو كان النّهي متوجّها للكاتب والشّهيد لقال : «وإن تفعلا فإنه فسوقّ بكما» ، ولأنّ السياق من أول الآيات إنما هو للمكتوب له والمشهود له بأن يودّهما

__________________

(١) ينظر : معاني القرآن للزجاج ١ / ٣٦٧.

(٢) وذكر هذه القراءة ابن عطية ١ / ٣٨٥ عن عكرمة.

وانظر : البحر المحيط ٢ / ٣٧٠ ، والدر المصون ١ / ٦٨٤.

٥٠٤

ويمنعهما من مهمّاتها ، وإذا كان خطابا للذين يقدمون على المداينة ، فالمنهيّون عن الضّرار هم ، وهذا قول ابن عباس وعطاء ومجاهد وابن مسعود. ونقل الداني أيضا عن ابن عمر وابن عباس ومجاهد أنهم قرءوا (١) الراء الأولى بالفتح. فالآية عندهم محتملة للوجهين ففسروا وقرءوا بهذا المعنى تارة وبالآخر أخرى.

وقرأ (٢) أبو جعفر ، وعمرو بن عبيد : «ولا يضارّ» بتشديد الرّاء ساكنة وصلا ، وفيها ضعف من حيث الجمع بين ثلاث سواكن ، لكنّه لمّا كانت الألف حرف مدّ ؛ قام مدّها مقام حركة ، والتقاء السّاكنين مغتفر في الوقف ، ثم أجري الوصل مجرى الوقف في ذلك.

وقرأ عكرمة (٣) : «ولا يضارر كاتبا ولا شهيدا» بالفكّ ، وكسر الراء الأولى ، والفاعل ضمير صاحب الحق ، ونصب «كاتبا» ، و «شهيدا» على المفعول به ، أي : لا يضارر صاحب حقّ كاتبا ولا شهيدا بأن يجبره ويبرمه بالكتابة والشهادة ؛ أو بأن يحمله على ما لا يجوز.

وقرأ (٤) ابن محيصن : «ولا يضارّ» برفع الرّاء ، وهو نفي فيكون الخبر بمعنى النهي كقوله : (فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ) [البقرة : ١٩٧].

وقرأ عكرمة في رواية مقسم : «ولا يضارّ» بكسر الرّاء مشدّدة على أصل التقاء الساكنين. وقد تقدّم تحقيق هذه عند قوله : (لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها) [البقرة : ٢٣٣].

قوله : (وَإِنْ تَفْعَلُوا) ، أي : تفعلوا شيئا ممّا نهى الله عنه ، فحذف المفعول به للعلم به. والضّمير في «فإنّه» يعود على الامتناع ، أو الإضرار. و «بكم» متعلّق بمحذوف ، فقدّره أبو البقاء (٥) : «لاحق بكم» ، وينبغي أن يقدّر كونا مطلقا ؛ لأنه صفة ل «فسوق» ، أي : فسوق مستقرّ بكم ، أي : ملتبس بكم ولا حق بكم.

قوله : (وَاتَّقُوا اللهَ) ، يعني : فيما حذّر منه هاهنا ، وهو المضارة ، أو يكون عاما ، أي : اتّقوا الله في جميع أوامره ، ونواهيه.

قوله : (وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ) يجوز في هذه الجملة الاستئناف ـ وهو الظّاهر ـ ويجوز أن تكون حالا من الفاعل في «اتّقوا» قال أبو البقاء (٦) : «تقديره : واتقوا الله مضمونا لكم

__________________

(١) انظر : السابق.

(٢) انظر : السابق.

(٣) انظر : المحرر الوجيز ١ / ٣٨٥ ، والبحر المحيط ٢ / ٣٧٠ ، والدر المصون ١ / ٦٨٤.

(٤) السابق ، وإتحاف فضلاء البشر ١ / ٤٦٠ ، وقال ابن مجاهد : ولا أدري ما هذه القراءة. انظر : المحرر الوجيز ١ / ٣٨٥.

(٥) ينظر : الإملاء لأبي البقاء ١ / ١٢١.

(٦) ينظر : الإملاء لأبي البقاء ١ / ١٢١.

٥٠٥

التّعليم ، أو الهداية ، ويجوز أن تكون حالا مقدّرة». قال شهاب الدين : وفي هذين الوجهين نظر ، لأنّ المضارع المثبت لا تباشره واو الحال ، فإن ورد ما ظاهره ذلك يؤوّل ، لكن لا ضرورة تدعو إليه ههنا.

فصل

المعنى : يعلمكم ما يكون إرشادا ، أو احتياطا في أمر الدّنيا ، كما يعلّمكم ما يكون إرشادا في أمر الدّين ، (وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) ، أي : عالم بجميع مصالح الدّنيا ، والآخرة.

قوله تعالى : (وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ)(٢٨٣)

قوله : (وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ).

قال أهل اللّغة (س ف ر) تركيب هذه الحروف للظّهور ، والكشف ، والسفر هو الكتاب ؛ لأنه يبيّن الشيء ويوضحه ، وسمي السّفر سفرا ؛ لأنّه يسفر عن أخلاق الرّجال ، أي : يكشف ، أو لأنه لمّا خرج من الكن (١) إلى الصّحراء فقد انكشف للنّاس ؛ أو لأنه لمّا خرج إلى الصّحراء فقد صارت أرض البيت منكشفة خالية ، وأسفر الصّبح : إذا ظهر ، وأسفرت المرأة عن وجهها : إذا كشفته ، وسفرت عن القوم أسفر سفارة ، أي : كشفت ما في قلوبهم ، وسفرت أسفر ، أي : كنست ، والسّفر : الكنس ، وذلك لأنك إذا كنست ، فقد أظهرت ما كان تحت الغبار ، والسّفر من الورق ما سفر به الرّيح ، ويقال لبقية بياض النّهار بغد مغيب الشّمس سفر لوضوحه.

فصل في بيان وجه النّظم

اعلم أنّه تعالى جعل البياعات في هذه الآية على ثلاثة أقسام :

بيع بكتاب وشهود ، وبيع برهن مقبوضة ، وبيع بالأمانة ، ولما أمر في آخر الآية المتقدّمة بالكتاب ، والإشهاد ، وأعلم أنّه ربما تعذّر ذلك في السّفر إمّا ألّا يوجد الكاتب (٢) ، أو إن وجد لكنّه لا توجد آلات الكتابة ، ذكر نوعا آخر من الاستيثاق وهو أخذ الرّهن ، فهذا وجه النّظم ، وهذا أبلغ في الاحتياط من الكتابة والإشهاد.

قوله : (وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً) في هذه الجملة ثلاثة أوجه :

أحدها : أنّها عطف على فعل الشّرط ، أي : (وَإِنْ كُنْتُمْ) ، (وَلَمْ تَجِدُوا) فتكون في

__________________

(١) في ب : البادية.

(٢) في ب : الكتاب.

٥٠٦

محلّ جزم لعطفها على المجزوم تقديرا.

والثّاني : أن تكون معطوفة على خبر «كان» ، أي : وإن كنتم لم تجدوا كاتبا.

والثالث : أن تكون الواو للحال ، والجملة بعدها نصب على الحال ، فهي على هذين الوجهين الأخيرين في محلّ نصب.

والعامة على «كاتبا» اسم فاعل. وقرأ أبي ومجاهد ، وأبو العالية (١) : «كتابا» ، وفيه وجهان :

أحدهما : أنّه مصدر أي ذا كتابة.

والثاني : أنه جمع كاتب ، كصاحب وصحاب. ونقل الزمخشريّ هذه القراءة عن أبيّ وابن عبّاس فقط ، وقال : «وقال ابن عباس : أرأيت إن وجدت الكاتب ، ولم تجد الصّحيفة والدّواة». وقرأ ابن عباس (٢) والضّحّاك : «كتّابا» على الجمع [اعتبارا] بأنّ كلّ نازلة لها كاتب. وقرأ (٣) أبو العالية : «كتبا» جمع كتاب ، اعتبارا بالنّوازل ، قال شهاب الدين : قول ابن عباس : «أرأيت إن وجدت الكاتب ... إلخ» ترجيح للقراءة المرويّة عنه واستبعاد لقراءة غيره «كاتبا» ، يعني أن المراد الكتاب لا الكاتب.

قوله : «فرهان» فيه ثلاثة أوجه :

أحدها : أنه مرفوع بفعل محذوف ، أي : فيكفي عن ذلك رهن مقبوضة.

الثاني : أنه مبتدأ والخبر محذوف ، أي : فرهن مقبوضة تكفي.

الثالث : أنّه خبر مبتدأ محذوف تقديره : فالوثيقة ، أو فالقائم مقام ذلك رهن مقبوضة.

وقرأ (٤) ابن كثير ، وأبو عمرو : «فرهنّ» بضم الرّاء ، والهاء ، والباقون «فرهان» بكسر الرّاء وألف بعد الهاء ، روي عن ابن كثير ، وأبي عمرو تسكين الهاء في رواية.

فأمّا قراءة ابن كثير ، فجمع رهن ، وفعل يجمع على فعل نحو : سقف وسقف. ووقع في أبي البقاء (٥) بعد قوله : «وسقف وسقف. وأسد وأسد ، وهو وهم» ولكنّهم قالوا : إنّ فعلا جمع فعل قليل ، وقد أورد منه الأخفش (٦) ألفاظا منها : رهن ورهن ،

__________________

(١) ونسبها ابن عطية ١ / ٣٨٦ ، إلى ابن عباس وانظر : البحر المحيط ٢ / ٣٧١ ، والدر المصون ١ / ١٨٥.

(٢) ونسبها ابن عطية ١ / ٣٨٦ إلى ابن عباس.

وانظر : البحر المحيط ٢ / ٣٧١ ، والدر المصون ١ / ٦٨٥.

(٣) السابق.

(٤) انظر : السبعة ١٩٤ ، والكشف ١ / ٣٢٢ ، والحجة ٢ / ٤٤٢ ، وحجة القراءات ١٥٢ ، وإعراب القراءات ١ / ١٠٥ ، والعنوان ٧٦ ، شرح الطيبة ٤ / ١٣٧ ، وشرح شعلة ٣٠٦ ، وإتحاف ١ / ٤٦٠.

(٥) ينظر : الإملاء لأبي البقاء ١ / ١٢١.

(٦) ينظر : معاني القرآن للأخفش ١ / ١٩٠ ـ ١٩١.

٥٠٧

ولحد القبر ، ولحد ، وقلب النّخلة ، وقلب ، ورجل ثطّ وقوم ثطّ ، وفرس ورد ، وخيل ورد ، وسهم حشر وسهام حشر. وأنشد أبو عمرو حجة لقراءته قول قعنب : [البسيط]

١٢٩٣ ـ بانت سعاد وأمسى دونها عدن

وغلقت عندها من قبلك الرّهن (١)

وقال أبو عمرو : «وإنما قرأت فرهن للفصل بين الرهان في الخيل وبين جمع «رهن» في غيرها» ومعنى هذا الكلام أنما اخترت هذه القراءة على قراءة «رهان» ؛ لأنه لا يجوز له أن يفعل ذلك كما ذكر دون اتّباع رواية.

واختار الزّجّاج (٢) قراءته هذه قال : «وهذه القراءة وافقت المصحف ، وما وافق المصحف وصحّ معناه ، وقرأت به القرّاء فهو المختار». قال شهاب الدين : إن الرسم الكريم «فرهن» دون ألف بعد الهاء ، مع أنّ الزّجّاج يقول : «إنّ فعلا جمع فعل قليل» ، وحكي عن أبي عمرو أنه قال : «لا أعرف الرّهان إلا في الخيل لا غير». وقال يونس : «الرّهن والرّهان : عربيان ، والرّهن في الرّهن أكثر ، والرّهان في الخيل أكثر» وأنشدوا أيضا على رهن ورهن قوله : [الكامل]

١٢٩٤ ـ آليت لا نعطيه من أبنائنا

رهنا فيفسدهم كمن قد أفسدا (٣)

وقيل : إنّ رهنا جمع رهان ، ورهان جمع رهن ، فهو جمع الجمع ، كما قالوا في ثمار جمع ثمر ، وثمر جمع ثمار ، وإليه ذهب الفراء (٤) وشيخه ، ولكنّ جمع الجمع غير مطرّد عند سيبويه (٥) وجماهير أتباعه.

وأمّا قراءة الباقين «رهان» ، فرهان جمع «رهن» وفعل وفعال مطرد كثير نحو : كعب ، وكعاب ، وكلب وكلاب ، ومن سكّن ضمة الهاء في «رهن» فللتخفيف وهي لغة ، يقولون : سقف في سقف جمع سقف.

والرّهن في الأصل مصدر رهنت ، يقال : رهنت زيدا ثوبا أرهنه رهنا أي : دفعته إليه رهنا عنده ، قال : [الوافر]

١٢٩٥ ـ يراهنني فيرهنني بنيه

وأرهنه بنيّ بما أقول (٦)

وأرهنت زيدا ثوبا ، أي : دفعته إليه ليرهنه ، ففرّقوا بين فعل وأفعل. وعند الفرّاء رهنته وأرهنته بمعنى ، واحتجّ بقول همّام السّلوليّ : [المتقارب]

__________________

(١) ينظر : اللسان رهن ، الدر المصون ١ / ٦٨٦.

(٢) ينظر : معاني القرآن للزجاج ١ / ٣٦٨.

(٣) البيت للأعشى : ينظر ديوانه (٢٢٩) ، اللسان : رهن ، البحر ٢ / ٣٧١ ، الدر المصون ١ / ٦٨٦.

(٤) ينظر : معاني القرآن للفراء ١ / ١٨٨.

(٥) ينظر : الكتاب لسيبويه ٢ / ٢٠٠.

(٦) البيت لأحيحة بن الجلاح ينظر اللسان : رهن ، الدر المصون ١ / د ٦٨.

٥٠٨

١٢٩٦ ـ فلمّا خشيت أظافيرهم

نجوت وأرهنتهم مالكا (١)

وأنكر الأصمعيّ هذه الرّواية ، وقال : إنّما الرّواية : «وأرهنهم مالكا» والواو للحال ؛ كقولهم : «قمت وأصكّ عينه» وهو على إضمار مبتدأ.

وقيل : أرهن في السّلعة إذا غالى فيها حتّى أخذها بكثير الثّمن ، ومنه قوله : [البسيط]

١٢٩٧ ـ يطوي ابن سلمى بها من راكب بعدا

عيديّة أرهنت فيها الدّنانير (٢)

ويقال : رهنت لساني بكذا ، ولا يقال فيه «أرهنت» ثم أطلق الرّهن على المرهون من باب إطلاق المصدر على اسم المفعول كقوله تعالى : (هذا خَلْقُ اللهِ) [لقمان : ١١] ، و «درهم ضرب الأمير» ، فإذا قلت : «رهنت زيدا ثوبا رهنا» فرهنا هنا مصدر فقط ، وإذا قلت «رهنت زيدا رهنا» فهو هنا مفعول به ؛ لأن المراد به المرهون ، ويحتمل أن يكون هنا «رهنا» مصدرا مؤكدا أيضا ، ولم يذكر المفعول الثّاني اقتصارا كقوله : (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ) [الضحى : ٤].

و «رهن» ممّا استغني فيه بجمع كثرته عن جمع قلّته ، وذلك أنّ قياسه في القلة أفعل كفلس ، وأفلس ، فاستغني برهن ورهان عن أرهن.

وأصل الرّهن : الثّبوت والاستقرار يقال : رهن الشّيء ، فهو راهن إذا دام واستقر ، ونعمة راهنة ، أي : دائمة ثابتة ، وأنشد ابن السّكّيت : [البسيط]

١٢٩٨ ـ لا يستفيقون منها وهي راهنة

إلّا بهات وإن علّوا وإن نهلوا (٣)

ويقال : «طعام راهن» أي : مقيم دائم ؛ قال : [البسيط]

١٢٩٩ ـ الخبز واللّحم لهم راهن

 ..........(٤)

أي : دائم مستقرّ ، ومنه سمّي المرهون «رهنا» لدوامه واستقراره عند المرتهن.

فصل في إثبات الرهن في الحضر والسفر

جمهور الفقهاء على أنّ الرهن في الحضر ، والسّفر سواء ، وفي حال وجود الكاتب ، وعدمه ، وذهب مجاهد : إلى أنّ الرهن لا يجوز إلّا في السقر ؛ لظاهر الآية ، ولا عمل عليه ، وإنّما قيدت الآية بالسفر ؛ لأنّ الغالب في السفر عدم الكاتب ؛ فهو

__________________

(١) تقدم برقم ٤٤٥.

(٢) البيت لرداد الكلبي ينظر : الدر المصون ١ / ٦٨٧.

(٣) البيت للأعشى ينظر اللسان : رها ، الدر المصون ١ / ٦٨٧.

(٤) صدر بيت وعجزه :

وقهوة راووقها ساكب

ينظر القرطبي ٣ / ٤٠٩ ، اللسان : رهن ، الدر المصون ١ / ٦٨٧.

٥٠٩

كقوله : (فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ) [النساء : ١٠١] وليس الخوف من شرط جواز القصر ؛ ويدلّ عليه ما روي عن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أنّه رهن درعه عند أبي الشّحم اليهوديّ ولم يكن ذلك في سفر.

قوله : (فَإِنْ أَمِنَ) قرأ أبي (١) فيما نقله عنه الزّمخشريّ «أومن» مبنيّا للمفعول ، قال الزّمخشريّ : أي : «أمنه الناس ووصفوا المديون بالأمانة والوفاء» قلت : وعلام تنتصب بعضا؟ والظاهر نصبه بإسقاط الخافض على حذف مضاف ، أي : فإن أومن بعضكم على متاع بعض ، أو على دين بعض.

وفي حرف أبيّ (٢) : «فإن اؤتمن» يعني : وإن كان الذي عليه الحقّ أمينا عند صاحب الحقّ ؛ فلم يرتهن منه شيئا ؛ لحسن ظنه به.

قوله : (فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ) إذا وقف على الّذي ، وابتدئ بما بعدها قيل : «اوتمن» بهمزة مضمومة ، بعدها واو ساكنة ، وذلك لأنّ أصله اؤتمن ؛ مثل اقتدر بهمزتين : الأولى للوصل ، والثّانية فاء الكلمة ، ووقعت الثانية ساكنة بعد أخرى مثلها مضمومة ؛ فوجب قلب الثانية لمجانس حركة الأولى ، فقلت : اوتمن ؛ فأمّا في الدّرج ، فتذهب همزة الوصل ؛ فتعود الهمزة إلى حالها ؛ لزوال موجب قلبها واوا ، بل تقلب ياء صريحة في الوصل ؛ في رواية ورش.

وروي عن عاصم : «الّذي اؤتمن» برفع الألف ويشير بالضّمّة إلى الهمزة ، قال ابن مجاهد (٣) : «وهذه الترجمة غلط» وروى سليم عن حمزة إشمام الهمزة الضّمّ ، وفي الإشارة ، والإشمام المذكورين نظر.

وقرأ عاصم (٤) أيضا في شاذّه : «الّذي اتّمن» بإدغام الياء المبدلة من الهمزة في تاء الافتعال ، قال الزمخشريّ : قياسا على : «اتّسر» في الافتعال من اليسر ، وليس بصحيح ؛ لأنّ الياء منقلبة عن الهمزة ، فهي في حكم الهمزة ، واتّزر عامّيّ ، وكذلك «ريّا» في «رؤيا».

قال أبو حيّان (٥) : وما ذكره الزمخشريّ فيه : أنّه ليس بصحيح ، وأنّ «اتّزر» عامّيّ ـ يعني أنه من إحداث العامّة لا أصل له في اللغة ـ قد ذكره غيره أنّ بعضهم أبدل ، وأدغم : «اتّمن واتّزر» ، وأنّ ذلك لغة رديئة ، وكذلك «ريّا» في رؤيا ، فهذا التشبيه إمّا أن يعود على قوله : «واتّزر عامّيّ» ، فيكون إدغام «ريّا» عامّيّا ، وإمّا أن يعود إلى قوله «فليس بصحيح»

__________________

(١) انظر : الكشاف ١ / ٣٢٩ ، البحر المحيط ٢ / ٣٧٢ ، الدر المصون ١ / ٦٨٨.

(٢) ينظر : تفسير البغوي ١ / ٢٧٠.

(٣) ينظر : السبعة ١٩٥.

(٤) انظر : البحر المحيط ٢ / ٣٧٢ ، والدر المصون ١ / ٦٨٨ ، وإتحاف ١ / ٤٦١.

(٥) ينظر : البحر المحيط ٢ / ٣٧٢.

٥١٠

أي : وكذلك إدغام «ريّا» ليس بصحيح ، وقد حكى الكسائيّ الإدغام في «ريّا».

وقوله : «أمانته» يجوز أن تكون الأمانة بمعنى الشّيء المؤتمن عليه ؛ فينتصب انتصاب المفعول به بقوله : «فليؤدّ» ويجوز أن تكون مصدرا على أصلها ، وتكون على حذف مضاف ، أي : فليؤدّ دين أمانته ، ولا جائز أن تكون منصوبة على مصدر اؤتمن ، والضّمير في «أمانته» يحتمل أن يعود على صاحب الحقّ ، وأن يعود على «الّذي اؤتمن».

فصل

هذا هو القسم الثّالث من البياعات المذكورة في الآية ، وهو بيع الأمانة ، أعني : ما لا يكون فيه كتابة ، ولا شهود ، ولا يكون فيه رهن.

يقال : «أمن فلان غيره» إذا لم يخف منه.

قال تعالى : (هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ) [يوسف : ٦٤] فقوله : (فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً) أي : لم يخف خيانته وجحوده للحقّ (فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ) أي : فليؤدّ المديون الذي كان أمينا ، ومؤتمنا في ظنّ الدّائن ـ أمانته ، أي : حقّه ، كأنه يقول : أيّها المديون ، أنت أمين ، ومؤتمن في ظنّ الدّائن ، فلا تخلف ظنّه ، وأدّ إليه أمانته ، وحقه ، يقال : أمنته ، أو ائتمنته ، فهو مأمون ، ومؤتمن ، (وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ) أي : يتق الله ، ولا يجحد ، لأن الدّائن لمّا عامله المعاملة الحسنة ؛ حينئذ عوّل على أمانته ، ولم يطالبه بالوثائق من الكتابة ، والإشهاد ، والرهن ؛ فينبغي لهذا المديون أن يتّقي الله ، ويعامله أحسن معاملة ، بأن لا ينكر الحقّ ، ويؤديه إليه عند حلول الأجل.

وقيل : إنه خطاب للمرتهن بأن يؤدّي الرهن عند استيفاء المال ، فإنه أمانة في يده.

فصل

قال بعضهم : هذه الآية ناسخة للآيات المتقدمة الدالّة على وجوب الكتابة ، والإشهاد ، وأخذ الرهن.

واعلم أنّ التزام وقوع النسخ من غير دليل يلجئ إليه خطأ. [بل] تلك الأوامر محمولة على الإرشاد ، ورعاية الاحتياط ، وهذه الآية محمولة على الرخصة.

وعن ابن عباس ، أنه قال : ليس في آية المداينة نسخ (١).

قوله : (وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ) وفيه وجوه :

الأول : قال القفّال (٢) ـ رحمه‌الله ـ : إنه تعالى لما أباح ترك الكتابة والإشهاد ، والرهن عند اعتقاد أمانة المديون ، ثم كان من الجائز أن يكون المديون خائنا جاحدا

__________________

(١) ينظر : تفسير الفخر الرازي (٧ / ١٠٦).

(٢) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٧ / ١٠٦.

٥١١

للحقّ ، وكان من الجائز أيضا أن يكون بعض الناس مطّلعا على أحوالهم ، فهاهنا ندب الله ذلك المطلع إلى أن يسعى (١) في إحياء ذلك الحق ، وأن يشهد لصاحب الحق بحقه ، ومنعه من كتمان الشّهادة سواء عرف صاحب الحق تلك الشهادة ، أم لا ، وشدّد فيه بأن جعله آثم القلب بكتمانها.

وقد قال ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : «خير الشّهود من شهد قبل أن يستشهد» (٢).

الثاني : أنّ المراد من كتمان الشهادة أن ينكر العلم بتلك الواقعة ، ونظيره قوله تعالى : (أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطَ كانُوا هُوداً أَوْ نَصارى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللهُ) [البقرة : ١٤٠] والمراد الجحود وإنكار العلم.

الثالث : كتمان الشهادة : هو الامتناع من أدائها عند الحاجة إلى إقامتها ، كما تقدّم في قوله : (وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا) ؛ لأنه متى امتنع عن إقامة الشهادة صار كالمبطل لحقه ، وحرمة مال المسلم كحرمة دمه ، فلهذا بالغ في وعيده.

وقرأ أبو عبد الرحمن (٣) «ولا يكتموا» بياء الغيبة ؛ لأن قبله غيبا وهم من ذكر في قوله : «كاتب ولا شهيد».

قوله : (فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ) في هذا الضمير وجهان :

أحدهما : أنه ضمير الشأن ، والجملة بعده مفسّر له.

والثاني : أنه ضمير «من» في قوله : (وَمَنْ يَكْتُمْها) وهذا هو الظاهر.

وأمّا (آثِمٌ قَلْبُهُ) ففيه أوجه :

أظهرها : أنّ الضمير في «إنّه» ضمير «من» و «آثم» خبر «إنّ» ، و «قلبه» فاعل ب «آثم» ، نحو قولك : «زيد إنّه قائم أبوه» ، وعمل اسم الفاعل هنا واضح ؛ لوجود شروط الإعمال ، ولا يجيء هذا الوجه على القول بأنّ الضمير ضمير الشأن ؛ لأنّ ضمير الشأن لا يفسّر إلا بجملة ، واسم الفاعل مع فاعله عند البصريّين مفرد ، والكوفيّون يجيزون ذلك.

الثاني : أن يكون «آثم» خبرا مقدّما ، و «قلبه» مبتدأ مؤخرا ، والجملة خبر «إنّ» ، ذكره الزمخشريّ وأبو البقاء (٤) وغيرهما وهذا لا يجوز على أصول الكوفيّين ؛ لأنه لا يعود عندهم الضّمير المرفوع على متأخّر لفظا ، و «آثم» قد تحمّل ضميرا ، لأنه وقع خبرا ؛

__________________

(١) في ب : يبقى.

(٢) أخرجه ابن ماجه (٢ / ٧٩٢) كتاب الأحكام باب الرجل عنده الشهادة لا يعلم بها صاحبها رقم (٢٣٦٤) وأحمد (٥ / ٢٦٥) والطبراني في «الكبير» (٥ / ٢٦٥) عن زيد بن خالد الجهني.

وأخرجه عبد الرزاق في مصنفه كما في «كنز العمال» (٧ / ١٦) رقم (١٧٧٤٩) عن ابن ميسرة بلاغا.

(٣) انظر : البحر المحيط ٢ / ٣٧٣ ، الدر المصون ١ / ٦٩٠.

(٤) ينظر : الإملاء لأبي البقاء ١ / ١٢١.

٥١٢

وعلى هذا الوجه : فيجوز أن تكون الهاء ضمير الشأن ، وأن تكون ضمير «من».

والثالث : أن يكون «آثم» خبر «إنّ» ، وفيه ضمير يعود على ما تعود عليه الهاء في «إنّه» ، و «قلبه» بدل من ذلك الضمير المستتر بدل بعض من كلّ.

الرابع : [أن يكون] «آثم» مبتدأ ، و «قلبه» فاعل سدّ مسدّ الخبر ، والجملة خبر «إنّ» ، قاله ابن عطية ، وهو لا يجوز عند البصريّين ؛ لأنّه لا يعمل عندهم اسم الفاعل ، إلا إذا اعتمد على نفي ، أو استفهام ؛ نحو : ما قائم أبواك ، وهل قائم أخواك؟ وما قائم قومك ، وهل ضارب إخوتك؟ وإنما يجوز هذا عند الفراء من الكوفيين ، والأخفش من البصريّين ؛ إذ يجيزان : قائم الزّيدان ، وقائم الزّيدون ، فكذلك في الآية الكريمة.

وقرأ ابن أبي عبلة (١) : «قلبه» بالنصب ، نسبها إليه ابن عطيّة.

وفي نصبه ثلاثة أوجه :

أحدها : أنه بدل من اسم «إنّ» بدل بعض من كلّ ، ولا محذور في الفصل [بالخبر ـ وهو آثم ـ بين البدل والمبدل منه ، كما لا محذور في الفصل] به بين النعت والمنعوت ، نحو : زيد منطلق العاقل مع أنّ العامل في النعت والمنعوت واحد ؛ بخلاف البدل والمبدل منه ؛ فإنّ الصحيح أنّ العامل في البدل غير العامل في المبدل منه.

الثاني : أنه منصوب على التشبيه بالمفعول به ؛ كقولك : «مررت برجل حسن وجهه» ، وفي هذا الوجه خلاف مشهور :

فمذهب الكوفيين : الجواز مطلقا ، أعني نظما ونثرا. ومذهب المبرد المنع مطلقا ، ومذهب سيبويه : منعه في النثر ، وجوازه في الشعر ، وأنشد الكسائي على ذلك : [الرجز]

١٣٠٠ ـ أنعتها إنّي من نعّاتها

مدارة الأخفاف مجمرّاتها (٢)

غلب الرّقاب وعفرنيّاتها

كوم الذّرى وادقة سرّاتها

ووجه ضعفه عند سيبويه في النثر تكرار الضمير.

الثالث : أنه منصوب على التمييز حكاه مكيّ (٣) وغيره ؛ وضعّفوه بأنّ التمييز لا يكون إلا نكرة ، وهذا عند البصريّين ، وأمّا الكوفيون فلا يشترطون تنكيره ، ومنه عندهم : (إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ) [البقرة : ١٣٠] و (بَطِرَتْ مَعِيشَتَها) [القصص : ٥٨] ؛ وأنشدوا قوله : [الوافر]

__________________

(١) انظر : المحرر الوجيز ١ / ٣٨٨ ، البحر المحيط ٢ / ٣٧٣ ، والدر المصون ١ / ٦٨٩.

(٢) البيتان لعمرو بن لحي ينظر شرح المفصل (٦ / ٨٣) ، المقرب ١ / ١٤٠ ، الأشموني ٣ / ١١ ، الدر المصون ١ / ٦٨٩.

(٣) ينظر : المشكل لمكي ١ / ١٢١.

٥١٣

١٣٠١ ـ إلى ردح من الشّيزى ملاء

لباب البرّ يلبك بالشّهاد (١)

وقرأ ابن أبي عبلة (٢) ـ فيما نقل عنه الزمخشريّ ـ «أثّم قلبه» جعل «أثّم» فعلا ماضيا مشدّد العين ، وفاعله مستتر فيه ، و «قلبه» مفعول به ، أي : جعل قلبه آثما ، أي : أثم هو ؛ لأنه عبّر بالقلب عن ذاته كلّها ؛ لأنه أشرف عضو فيها. وهو ، وإن كان بلفظ الإفراد ، فالمراد به الجمع ، ولذلك اعتبر معناه في قراءة أبي عبد الرحمن ، فجمع في قوله : «ولا يكتموا».

وقد اشتملت هذه الآيات على أنواع من البديع : منها : التجنيس المغاير في (تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ) ، ونظائره ، والمماثل في قوله : (وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْها) ، والطباق في «تضلّ» و «تذكّر» و «صغيرا وكبيرا» ، وقرأ (٣) السّلميّ أيضا : «والله بما يعملون» بالغيبة ؛ جريا على قراءته بالغيبة.

و «الآثم» : الفاجر روي أنّ عمر كان يعلّم أعرابيّا (إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعامُ الْأَثِيمِ) [الدخان : ٤٣ ، ٤٤] فكان يقول : «طعام اليتيم» فقال له عمر : طعام الفاجر (٤) ، وهذا يدلّ على أنّ الإثم يكون بمعنى الفجور. قيل (٥) : ما وعد الله على شيء كإيعاده على كتمان الشهادة ؛ قال : «فإنّه آثم قلبه» وأراد به مسخ القلب ؛ نعوذ بالله من ذلك.

وقوله : (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) تحذير من الإقدام على الكتمان ؛ لأنّ المكلّف إذا علم أنّ الله تعالى لا يعزب عن علمه ضمير قلبه ، كان خائفا حذرا من مخالفة أمر الله تعالى.

قوله تعالى : (لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)(٢٨٤)

في كيفية النّظم وجوه :

الأول : قال الأصمّ (٦) : إنه تعالى لمّا جمع في هذه السّورة أشياء كثيرة من علم الأصول : من دلائل التّوحيد ، والنّبوة ، والمعاد ، وبيان الشّرائع ، والتكاليف ؛ كالصلاة

__________________

(١) البيت لأمية بن أبي الصلت ينظر ديوانه (٢٧٠) ، الهمع ١ / ٨٠ ، المقرب ١ / ١٦٣ ، الدرر ١ / ٥٣ ، أساس البلاغة ص ١٥٩ ، جمهرة اللغة ص ٥٠٢ ، سمط اللآلي ص ٣٦٣ ، المعاني الكبير ١ / ٣٨٠ ، المستقصى ١ / ٢٨١ ، الدرر ١ / ٢٤٩ ، المقرب ١ / ١٦٣ ، اللسان شيز ، الدر المصون ١ / ٦٩٠.

(٢) انظر : الكشاف ١ / ٣٣٠ ، والبحر المحيط ٢ / ٣٧٣ ، والدر المصون ١ / ٦٩٠.

(٣) انظر : البحر المحيط ٢ / ٣٧٤ ، والدر المصون ١ / ٦٩٠.

(٤) ذكره الفخر الرازي في «التفسير الكبير» (٧ / ١٠٧) عن عمر بن الخطاب.

(٥) ينظر : تفسير البغوي ١ / ٢٧١.

(٦) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٧ / ١٠٧.

٥١٤

والزكاة ، والصوم ، والحجّ ، والقصاص ، والجهاد ، والحيض ، والطّلاق ، والعدّة ، والصّداق ، والخلع ، والإيلاء ، والرّضاعة ، والبيع ، والرّبا ، وكيفيّة المداينة ـ ختم هذه السورة بهذه الآية على سبيل التّهديد.

قال ابن الخطيب (١) : لمّا كان أكمل الصفات هو العلم والقدرة عبّر عن كمال قدرته بقول (لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) ملكا وملكا ، وعبّر عن كمال علمه ، وإحاطته بالكلّيّات ، والجزئيّات بقوله : (وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ) ، وإذا اختصّ بكمال العلم ، والقدرة ، فكل من في السموات والأرض عبيد مربوبون له ، وجدوا بتخليقه ، وتكوينه ، وهذا غاية الوعد للمطيعين ، ونهاية الوعيد للمذنبين ، ولهذا ختم السورة بهذه.

الثاني : قال أبو مسلم (٢) : إنه تعالى لمّا نزّل في آخر الآية المتقدّمة : «إنه (بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) ، ذكر عقيبه ما يجري مجرى الدليل العقلي فقال : (لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) ومعنى هذا الملك أنّ هذه الأشياء لمّا كانت محدثة ، فقد وجدت بتكوينه ؛ وإبداعه ، ومن أتقن هذه الأفعال العجيبة الغريبة المشتملة على الحكم المتكاثرة ؛ والمنافع العظيمة ، فلا شكّ أنّ ذلك من أعظم الأدلّة على كونه عالما محيطا بأجزائها.

الثالث : قال القاضي (٣) : إنه تعالى لمّا أمر بهذه الوثائق ـ أعني الكتابة ، والإشهاد ، والرهن ، وكان المقصود من الأمر بها صيانة الأموال ، والاحتياط في حفظها ـ بيّن تعالى أن المقصود من ذلك إنما يرجع لمنفعة الخلق ، لا لمنفعة تعود إليه سبحانه ، فإنّ له ملك السّموات ، والأرض.

الرابع : قال الشعبيّ ، وعكرمة ، ومجاهد : إنه تعالى لما نهى عن كتمان الشهادة ، وأوعد عليه ، بيّن أنّ له ملك السموات ، والأرض ؛ فيجازي على الكتمان ، والإظهار (٤).

فصل في بيان سبب النّزول

قال مقاتل : نزلت فيمن يتولّى الكافرين من المؤمنين ، يعني : وإن تعلنوا ما في أنفسكم من ولاية الكفّار ، أو تسّروه ، يحاسبكم به الله (٥) ، كما ذكر في سورة آل عمران

__________________

(١) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٧ / ١٠٨.

(٢) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٧ / ١٠٨.

(٣) ينظر : المصدر السابق.

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ١٠٢) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ٦٦٠) وزاد نسبته لسعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي حاتم من طريق مجاهد عن ابن عباس.

(٥) ينظر : تفسير القرطبي (٣ / ٢٧٣).

٥١٥

(لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ) [آل عمران : ٢٨] ، إلى أن قال : (قُلْ إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللهُ) [آل عمران : ٢٩].

وذهب الأكثرون إلى أنّها عامّة.

فصل

روي عن ابن عبّاس ؛ أنه قال : لمّا نزلت هذه الآية ، جاء أبو بكر وعمر ، وعبد الرّحمن بن عوف ، ومعاذ ، وناس إلى النّبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ثم بركوا على الرّكب ، فقالوا : يا رسول الله ، كلّفنا من الأعمال ما نطيق ؛ الصلاة ، والصّيام ، والجهاد ، والصّدقة ، وقد أنزلت عليك هذه الآية ولا نطيقها ، إنّ أحدنا ليحدّث نفسه بما لا يحبّ أن يثبت في قلبه وإنّ له الدّنيا ، فقال ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : «أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم : سمعنا وعصينا؟ بل قولوا : (سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) فلمّا قرأها القوم ، ذلّت بهم أنفسهم ، فأنزل الله في إثرها «آمن الرّسول بما أنزل إليه من ربّه والمؤمنون كلّ آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرّق بين أحد من رسله ، وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربّنا وإليك المصير» فمكثوا في ذلك حولا ، واشتدّ ذلك عليهم ، فأنزل الله ـ تعالى ـ (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) [البقرة : ٢٨٦] فنسخت هذه الآية ، فقال النّبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : «إنّ الله تجاوز عن أمّتي ما حدّثوا به أنفسهم ما لم يعملوا أو يتكلّموا به» (١).

قال ابن مسعود ، وابن عبّاس ، وابن عمر : هذه الآية منسوخة (٢) ، وإليه ذهب محمّد بن كعب القرظيّ ؛ ويدلّ عليه ما روى أبو هريرة ـ رضي الله عنه ـ عن النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : قال : «إنّ الله تجاوز عن أمّتي ما وسوست به أنفسها ما لم تتكلّم أو تعمل به» (٣).

__________________

(١) أخرجه مسلم (١ / ٤٦ ـ ٤٧) وأحمد (٢ / ٤١٢) والطبري في «تفسيره» (٦ / ١٠٤) وابن حبان (١ / ٢٢٥ ـ ٢٢٦) عن أبي هريرة وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ٦٦١) وزاد نسبته لابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي داود في «ناسخه».

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ١٠٨) وأحمد (٣٠٧١ ـ شاكر) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ٦٦١) وزاد نسبته لعبد الرزاق وابن المنذر من طريق مجاهد عن ابن عباس.

وأخرجه الطبري (٦ / ١٠٨) والحاكم (٢ / ٢٨٧) وأبو جعفر النحاس في «الناسخ والمنسوخ» ص : ٨٦ عن سالم أن أباه ـ عبد الله بن عمر ـ أقرأه هذه الآية ... فذكره وقال الحاكم : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ٦٦١) وزاد نسبته لابن أبي شيبة.

(٣) أخرجه البخاري (٣ / ٢٩٠) كتاب العتق باب الخطأ والنسيان رقم (٢٥٢٨) ، (٧ / ٨١) كتاب الطلاق باب الطلاق في الإغلاق رقم (٥٢٦٩) ، (٨ / ٢٤٣) كتاب الأيمان والنذور باب إذا حنث ناسيا (٦٦٦٤) ومسلم (١ / ١١٦) كتاب الإيمان : باب تجاوز الله عن حديث النفس (٢٠١ ـ ١٢٧) وأبو داود (٢٢٠٩) والنسائي (١٥٧٦) وابن ماجه (٢٠٤٠ ، ٢٠٤٧) عن أبي هريرة وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ٦٦٢) وزاد نسبته لسفيان بن عيينة وعبد بن حميد وابن المنذر.

٥١٦

وقال آخرون : الآية من باب الخبر ، والنّسخ لا يتطرّق إلى الأخبار ، إنما يرد على الأمر والنّهي ، وقوله : «يحاسبكم به الله» خبر ، وهؤلاء ذكروا في الآية وجوها :

الأول : أن الخواطر الواردة على النّفس قسمان :

منها : ما يعزم على فعله وإيجاده ، فيكون مؤاخذا به ؛ لقوله ـ تعالى ـ : (لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ) [البقرة : ٢٢٥] ، وقال بعد هذه الآية : (لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ) [البقرة : ٢٨٦] ، وقال : (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) [النور : ١٩].

ومنها : ما يخطر بالبال مع أنّ الإنسان يكرهها ولا يمكنه دفعها ، فهذا لا يؤاخذ به.

الثاني : أن كلّ ما كان في القلب ممّا لا يدخل في العمل ؛ فإنه في محلّ العفو.

وقوله : «إن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه» فالمراد منه أن يوجد ذلك العمل ، إمّا ظاهرا

وإمّا خفية ، وأمّا ما يوجد في القلب من العزائم والإرادات ، ولم تتّصل بعمل ، فذلك في محلّ العفو.

قال ابن الخطيب (١) : وهذا ضعيف ؛ لأن أكثر المؤاخذات إنّما تكون بأفعال القلوب ؛ ألا ترى أنّ اعتقاد الكفر والبدع ليس إلّا من أعمال القلوب ، وأعظم أنواع العقاب مترتّب عليه.

وأيضا : فأفعال الجوارح إذا خلت عن أفعال القلوب ، لا يترتّب عليها عقاب ؛ كأفعال النّائم والسّاهي.

الثالث : قال (٢) الحسن : كلّ من أسرّ عملا أو أعلنه من حركة من جوارحه ، أو همّة في قلبه ، إلّا يخبره الله به ويحاسبه عليه ، ثم يغفر ما يشاء ويعذّب من يشاء ؛ لأن الله ـ تعالى ـ أثبت للقلب كسبا ؛ فقال : (وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ) [البقرة : ٢٢٥].

الرابع : أن الله ـ تعالى ـ يحاسب خلقه بجميع ما أبدوا من أعمالهم أو أخفوه ، ويعاقبهم عليه ، غير أنّ معاقبته على ما أخفوه ممّا يعملوه هو ما يحدث لهم في الدّنيا من الهمّ والغمّ والمصائب ، والأمور التي يحزنون عليها.

روى الضّحّاك عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ : قالت : سألت رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ما حدّث العبد به نفسه من شرّ كانت محاسبة الله ـ تعالى ـ عليه ، فقال : يا عائشة ، هذه معاتبة الله ـ عزوجل ـ العبد بما يصيبه من الحمّى والنّكبة ، حتّى الشّوكة والبضاعة يضعها

__________________

(١) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٧ / ١٠٩.

(٢) ينظر : تفسير البغوي ١ / ٢٧٢.

٥١٧

في كمّه فيفقدها فيروع لها فيجدها في ضبنه حتّى إنّ المؤمن ليخرج من ذنوبه ؛ كما يخرج التّبر الأحمر من الكير (١).

وعن أنس بن مالك ، عن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أنه قال : «إذا أراد الله بعبده الخير عجّل له العقوبة في الدّنيا ، وإذا أراد الله بعبده الشّرّ أمسك عليه بذنبه حتّى يوافيه به يوم القيامة» (٢).

فإن قيل : كيف تحصل المؤاخذة في الدّنيا مع قوله : (الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ) [غافر : ١٧].

قلنا : هذا خاصّ ، فيقدّم على ذلك العامّ.

الخامس : أنه ـ تعالى ـ قال : «يحاسبكم» ولم يقل : «يؤاخذكم» وقد ذكرنا في معنى كونه حسيبا ومحاسبا وجوها كثيرة ، ومن جملتها كونه عالما بها ، فيرجع معنى الآية إلى كونه عالما بكلّ ما في الضّمائر والسّرائر.

والمراد من المحاسبة : الإخبار والتّعريف.

ومعنى الآية : وإن تبدوا ما في أنفسكم فتعملوا به أو تخفوه ممّا أضمرتم ونويتم ، يحاسبكم به الله ، ويخبركم به ، ويعرفكم إيّاه ثم يغفر للمؤمنين إظهارا لفضله ، ويعذّب الكافرين إظهارا لعدله.

وهذا معنى قول الضّحّاك ، ويروى عن ابن عبّاس ـ رضي الله عنهما ـ ؛ يدلّ عليه أنّه قال : (يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ) ولم يقل : «يؤاخذكم» ، والمحاسبة غير المؤاخذة.

وروي عن ابن عبّاس أنه ـ تعالى ـ إذا جمع الخلائق يخبرهم بما كان في نفوسهم ، فالمؤمن يخبره ويعفو عنه ، وأهل الذّنوب يخبرهم بما أخفوا من التّكذيب والذّنب (٣) روى صفوان بن محرز قال : كنت آخذا بيد عبد الله بن عمر ـ رضي الله عنهما ـ فأتاه رجل ، فقال : كيف سمعت رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ يقول في النّجوى؟ قال : قال رسول الله ـ

__________________

(١) أخرجه أبو داود الطيالسي (١٥٨٣) وأحمد (٦ / ٢١٨) والترمذي (٤ / ٧٨ ـ ٧٩) والطبري في «تفسيره» (٦ / ١١٧) وابن أبي حاتم كما في تفسير ابن كثير (٢ / ٨٥) والبيهقي في «شعب الإيمان» (٩٨٠٩) وقال الترمذي : هذا حديث حسن غريب من حديث عائشة لا نعرفه إلا من حديث حماد بن سلمة.

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ٦٦٣) وزاد نسبته لابن المنذر.

(٢) أخرجه الترمذي (٢٣٩٦) والحاكم (٤ / ٦٠٨) والبغوي في «تفسيره» (١ / ٣١٢) عن أنس بن مالك.

وقال الترمذي : هذا حديث حسن غريب.

وأخرجه ابن عدي (٣ / ١١٩٢) عن أبي هريرة.

وأخرجه هناد بن السريّ في «الزهد» عن الحسن مرسلا كما في «كنز العمال» (١١ / ١٠٢) رقم (٣٠٨٠٠).

(٣) ذكره الفخر الرازي في «التفسير الكبير» (٧ / ١١٠).

٥١٨

صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : «إنّ الله يدني المؤمن يوم القيامة حتّى يضع عليه كنفه يستره من النّاس ، فيقول : أي عبدي ، أتعرف ذنب كذا وكذا؟ فيقول : نعم أي ربّ ، ثم يقول : أي ربّ ، حتّى إذا قرّره بذنوبه ، ورأى في نفسه أنّه قد هلك ، قال : فإنّي قد سترتها عليك في الدّنيا وقد غفرتها اليوم ، ثمّ يعطى كتاب حسناته [بيمينه] ، وأمّا الكافر والمنافق فيقول الأشهاد هؤلاء الّذين كذبوا على ربّهم ألا لعنة الله على الظّالمين» (١).

السادس : أنه ـ تعالى ـ قال : (فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ) فيكون الغفران لمن كان كارها لورود تلك الخواطر ، والعذاب إن كان مصرّا على تلك الخواطر مستحسنا لها.

السابع : المراد كتمان الشّهادة ؛ وهذا ضعيف ، لعموم اللّفظ.

قوله تعالى : «فيغفر» : قرأ (٢) ابن عامر وعاصم برفع «يغفر» و «يعذّب» ، والباقون من السبعة بالجزم ، وقرأ ابن عباس (٣) والأعرج وأبو حيوة : «فيغفر» بالنصب.

فأمّا الرفع : فيجوز أن يكون رفعه على الاستئناف ، وفيه احتمالان :

أحدهما : أن يكون خبر مبتدأ محذوف ، أي : فهو يغفر.

والثاني : أنّ هذه جملة فعلية من فعل وفاعل ، عطفت على ما قبلها.

وأمّا الجزم فللعطف على الجزاء المجزوم.

وأمّا النصب : فبإضمار «أن» ، وتكون هي وما في حيّزها بتأويل مصدر معطوف على المصدر المتوهّم من الفعل قبل ذلك ، تقديره : تكن محاسبة ، فغفران ، وعذاب. وقد روي قول النابغة بالأوجه الثلاثة ، وهو : [الوافر]

١٣٠٢ ـ فإن يهلك أبو قابوس يهلك

ربيع النّاس والبلد الحرام

ونأخذ بعده بذناب عيش

أجبّ الظّهر ليس له سنام (٤)

__________________

(١) أخرجه البخاري (٣ / ٢٥٧) كتاب المظالم باب قول الله تعالى أَلا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ رقم (٢٤٤١) ومسلم كتاب التوبة باب قبول توبة القاتل رقم (٢٧٦٨) وأحمد (٢ / ٧٤) والبغوي في «تفسيره» (١ / ٣١٢) وابن أبي شيبة (١٣ / ١٨٩).

(٢) انظر : السبعة ١٩٥ ، والكشف ١ / ٣٢٣ ، وحجة القراءات ١٥٢ ، والعنوان ٧٦ ، وإعراب القراءت ١ / ١٠٥ ، وشرح الطيبة ٤ / ١٣٨ ، وشرح شعلة ٣٠٦ ، وإتحاف ١ / ٤٦١.

(٣) انظر : المحرر الوجيز ١ / ٣٩٠ ، والبحر المحيط ٢ / ٣٧٦ ، والدر المصون ١ / ٦٩٠.

(٤) البيت للنابغة الذبياني ينظر ديوانه ص ١٠٦ ، والكتاب ١ / ١٩٦ ، وشرح أبيات سيبويه ١ / ٢٨ ، وشرح المفصل ٦ / ٨٣ ، ٨٥ ، والمقاصد النحوية ٣ / ٥٧٩ ، ٤ / ٤٣٤ ، والأغاني ١١ / ٢٦ ، وخزانة الأدب ٧ / ٥١١ ، ٩ / ٣٦٣ ، وأسرار العربية ص ٢٠٠ ، ولسان العرب (حبب) ، (ذنب) ، والمقتضب ٢ / ١٧٩ ، والإنصاف ١ / ١٣٤ ، والاشتقاق ص ١٠٥ ، والأشباه والنظائر ٦ / ١١ ، وأمالي ابن الحاجب ١ / ٤٥٨ ، وشرح عمدة الحافظ ص ٣٥٨ ، وشرح ابن عقيل ص ٥٨٩ ، وشرح الأشموني ٣ / ٥٩١.

٥١٩

بجزم : «نأخذ» عطفا على «يهلك ربيع» ونصبه ورفعه ، على ما ذكر في «فيغفر» وهذه [قاعدة مطّردة ، وهي أنه إذا وقع بعد جزاء الشرط فعل بعد فاء أو واو جاز فيه هذه] الأوجه الثلاثة ، وإن توسّط بين الشرط والجزاء ، جاز جزمه ونصبه وامتنع رفعه ، نحو : إن تأتني فتزرني أو فتزورني ، أو وتزرني أو تزورني.

وقرأ الجعفي (١) وطلحة بن مصرّف وخلّاد : «يغفر» بإسقاط الفاء ، وهي كذلك في مصحف عبد الله ، وهي بدل من الجواب ؛ كقوله تعالى : (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ) [الفرقان : ٦٨ ـ ٦٩]. وقال أبو الفتح (٢) : «وهي على البدل من «يحاسبكم» ، فهي تفسير للمحاسبة» قال أبو حيان (٣) : «وليس بتفسير ، بل هما مترتّبان على المحاسبة». وقال الزمخشريّ : «ومعنى هذا البدل التفصيل لجملة الحساب ؛ لأنّ التفصيل أوضح من المفصّل ، فهو جار مجرى بدل البعض من الكلّ أو بدل الاشتمال ؛ كقولك : «ضربت زيدا رأسه» و «أحييت زيدا عقله» ، وهذا البدل واقع في الأفعال وقوعه في الأسماء ؛ لحاجة القبيلين إلى البيان».

قال أبو حيان (٤) : وفيه بعض مناقشة : أمّا الأول ؛ فقوله : «معنى هذا البدل التفصيل لجملة الحساب» ، ولس العذاب والغفران تفصيلا لجملة الحساب ؛ لأنّ الحساب إنما هو تعداد حسناته وسيئاته وحصرها ، بحيث لا يشذّ شيء منها ، والغفران والعذاب مترتّبان على المحاسبة ، فليست المحاسبة مفصّلة بالغفران والعذاب. وأمّا ثانيا ؛ فلقوله بعد أن ذكر بدل البعض من الكل وبدل الاشتمال : «وهذا البدل واقع في الأفعال وقوعه في الأسماء لحاجة القبيلين إلى البيان» ، أمّا بدل الاشتمال ، فهو يمكن ، وقد جاء ؛ لأنّ الفعل يدلّ على الجنس ، وتحته أنواع يشتمل عليها ، ولذلك إذا وقع عليه النفي ، انتفت جميع أنواعه ، وأمّا بدل البعض من الكلّ ، فلا يمكن في الفعل إذ الفعل لا يقبل التجزّؤ ؛ فلا يقال في الفعل له كلّ وبعض ، إلا بمجاز بعيد ، فليس كالاسم في ذلك ، ولذلك يستحيل وجود [بدل] البعض من الكلّ في حق الله تعالى ؛ إذ الباري لا يتقسّم ولا يتبعّض.

قال شهاب الدين (٥) : ولا أدري ما المانع من كون المغفرة والعذاب تفسيرا ، أو تفصيلا للحساب ، والحساب نتيجته ذلك ، وعبارة الزمخشريّ هي بمعنى عبارة ابن جنّي ، وأمّا قوله : «إنّ بدل البعض من الكلّ في الفعل متعذّر ، إذ لا يتحقّق فيه تجزّؤ» ، فليس بظاهر ؛ لأنّ الكلية والبعضية صادقتان على الجنس ونوعه ، فإنّ الجنس كلّ ، والنوع

__________________

(١) انظر : المحرر الوجيز ١ / ٣٩٠ ، البحر المحيط ٢ / ٣٧٦ ، الدر المصون ١ / ٦٩٠.

(٢) ينظر : المحتسب ١ / ١٤٩.

(٣) ينظر : البحر المحيط ٢ / ٣٧٦.

(٤) ينظر : البحر المحيط ٢ / ٣٧٧.

(٥) ينظر : الدر المصون ١ / ٦٩١.

٥٢٠