اللّباب في علوم الكتاب - ج ٤

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ٤

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٥٨

فصل

لما أمر الله تعالى بكتابة هذه المداينة ؛ اعتبر في الكتابة شرطين :

الأوّل : أن يكون الكاتب عدلا لقوله : (وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ) وذلك أنّ قوله تعالى : (فَاكْتُبُوهُ) ظاهره يقتضي أنّه يجب على كلّ أحد أن يكتب ، لكن ذلك غير ممكن ، فقد يكون ذلك الإنسان غير كاتب ، فصار معنى قوله : «فاكتبوه» ، أي : لا بدّ من حصول هذه الكتابة وهو كقوله تعالى : (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما) [المائدة : ٣٨] فإن ظاهره ، وإن كان يقتضي خطاب الكلّ بهذا الفعل ، إلّا أنّا علمنا أنّ المقصود منه أنّه لا بدّ من حصول قطع اليد من إنسان واحد ، إمّا الإمام ، أو نائبه أو المولى ، فكذا هاهنا.

ويؤكّد هذا قوله تعالى : (وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ) فإنّه يدلّ على أنّ المقصود حصول الكتابة من أيّ شخص كان.

قوله : «بالعدل» فيه أوجه :

أحدها : أن يكون الجارّ متعلّقا بالفعل قبله. قال أبو البقاء (١) : «بالعدل متعلّق بقوله : فليكتب ، أي : ليكتب بالحقّ ، فيجوز أن يكون حالا ، أي : ليكتب عادلا ، ويجوز أن يكون مفعولا به أي : بسبب العدل». قوله أولا : «بالعدل متعلّق بقوله فليكتب» يريد التعلق المعنوي ؛ لأنّه قد جوّز فيه بعد ذلك أن يكون حالا ، وإذا كان حالا تعلّق بمحذوف لا بنفس الفعل.

وقوله : «ويجوز أن يكون مفعولا» يعني فتتعلق الباء حينئذ بنفس الفعل.

والثاني : أن يتعلّق ب «كاتب». قال الزّمخشريّ : «متعلّق بكاتب صفة له ، أي : كاتب مأمون على ما يكتب» ، وهو كما تقدّم في تأويل قول أبي البقاء. وقال ابن عطيّة : «والباء متعلّقة بقوله : «وليكتب» ، وليست متعلّقة بقوله «كاتب» ؛ لأنه كان يلزم ألّا يكتب وثيقة إلا العدل في نفسه ، وقد يكتبها الصّبيّ والعبد».

الثالث : أن تكون الباء زائدة ، تقديره : فليكتب بينكم كاتب بالعدل.

فصل في معنى العدل

في تفسير العدل وجوه :

أحدها : أن يكتب بحيث لا يزيد ، ولا ينقص عنه ، ويكتب بحيث يصلح أن يكون حجّة له عن الحاجة إليه.

وثانيها : لا يخصّ أحدهما بالاحتياط له دون الآخر ، بل يكتبه بحيث يكون كل

__________________

(١) ينظر : الإملاء لأبي البقاء ١ / ١١٨.

٤٨١

واحد من الخصمين آمنا من تمكن الآخر من إبطال حقّه.

وثالثها : قال بعض الفقهاء : العدل أن يكون ما يكتبه متّفقا عليه بين أهل العلم ، بحيث لا يجد قاض من قضاة المسلمين سبيلا إلى إبطاله على قول بعض المجتهدين.

ورابعها : أن يحترز عن الألفاظ المجملة المتنازع في المراد بها ، فهذه الأمور لا يمكن رعايتها إلّا إذا كان الكاتب فقيها عارفا بمذاهب المجتهدين ، أديبا مميّزا بين الألفاظ المتشابهة.

قوله : (وَلا يَأْبَ كاتِبٌ) وهذا ظاهره نهي الكاتب عن الامتناع عن الكتابة وإيجاب الكتابة على كل من كان كاتبا ، وهذا على سبيل الإرشاد ، والمعنى : أنّ الله تعالى لمّا علمه الكتابة وشرفه بمعرفة أحكام الشّريعة ، فالأولى أن يكتب تحصيلا لمهمّ أخيه المسلم شكرا لتلك النّعمة ، فهو كقوله تعالى : (وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ) [القصص : ٧٧].

وقال الشعبي (١) : هو فرض كفاية ، فإن لم يوجد من يكتب غيره وجب عليه الكتابة ، وإن وجد غيره ؛ وجبت الكتابة على واحد منهم.

وقيل : كانت الكتابة واجبة على الكاتب ، ثمّ نسخت بقوله تعالى : (وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ).

وقيل : متعلّق الإيجاب ، هو أن يكتب كما علمه الله ، يعني : أنّه بتقدير أنه يكتب ، فالواجب أن يكتب كما علّمه الله ، ولا يخلّ بشرط من الشّرائط ، ولا يدرج فيه قيدا يخلّ بمقصود الإنسان.

قوله : (أَنْ يَكْتُبَ) مفعول به ، أي : لا يأب الكتابة.

قوله : (كَما عَلَّمَهُ اللهُ) يجوز أن يتعلّق بقوله : «أن يكتب» على أنه نعت لمصدر محذوف ، أو حال من ضمير المصدر على رأي سيبويه (٢) ، والتقدير : أن يكتب كتابة مثل ما علّمه الله ، أو أن يكتبه أي : الكتب مثل ما علّمه الله. ويجوز أن يتعلّق بقوله : «فليكتب» بعده.

قال أبو حيّان (٣) : «والظّاهر تعلّق الكاف بقوله : فليكتب» قال شهاب الدين رحمه‌الله تعالى : وهو قلق لأجل الفاء ، ولأجل أنه لو كان متعلّقا بقوله : «فليكتب» ، لكان النّظم: فليكتب كما علمه الله ، ولا يحتاج إلى تقديم ما هو متأخر في المعنى.

وقال الزّمخشريّ ـ بعد أن ذكر تعلّقه بأن يكتب ، وب «فليكتب» ـ «فإن قلت : أيّ فرق بين الوجهين؟ قلت : إن علّقته بأن يكتب فقد نهى عن الامتناع من الكتابة المقيّدة ، ثم قيل [له] : فليكتب تلك الكتابة لا يعدل عنها ، وإن علّقته بقوله : «فليكتب» فقد نهى

__________________

(١) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٧ / ٩٧.

(٢) ينظر : الكتاب لسيبويه ١ / ١١٦.

(٣) ينظر : البحر المحيط ٢ / ٣٦٠.

٤٨٢

عن الامتناع من الكتابة على سبيل الإطلاق ، ثم أمر بها مقيدة». فيكون التقدير : فلا يأب كاتب أن يكتب ، وهاهنا تمّ الكلام ، ثم قال بعده : «كما علّمه الله فليكتب» ، فيكون الأول أمرا بالكتابة مطلقا ، ثم أردفه بالأمر بالكتابة التي علمه الله إيّاها.

ويجوز أن تكون متعلقة بقوله : لا يأب ، وتكون الكاف حينئذ للتعليل. قال ابن عطيّة ـ رحمه‌الله ـ : «ويحتمل أن يكون «كما» متعلّقا بما في قوله «ولا يأب» من المعنى ، أي : كما أنعم الله عليه بعلم الكتابة ، فلا يأب هو ، وليفضل كما أفضل عليه». قال أبو حيّان : «وهو خلاف الظاهر ، وتكون الكاف في هذا القول للتعليل» قال شهاب الدين رحمه‌الله : وعلى القول بكونها متعلقة بقوله : «فليكتب» يجوز أن تكون للتعليل أيضا ، أي : فلأجل ما علّمه الله فليكتب.

وقرأ العامة : «فليكتب» بتسكين اللام كقوله : «كتف» في كتف ، إجراء للمنفصل مجرى المتّصل. وقد قرأ الحسن (١) بكسرها وهو الأصل.

قوله : «وليملل» أمر من أملّ يملّ ، فلمّا سكن الثاني جزما جرى فيه لغتان : الفكّ وهو لغة الحجاز وبني أسد ، والإدغام وهو لغة تميم ، وقيس ، ونزل القرآن باللّغتين.

قال تعالى في اللغة الثانية : (فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً) [الفرقان : ٥] وكذا إذا سكن وقفا نحو : أملل عليه وأملّ ، وهذا مطّرد في كل مضاعف وسيأتي تحقيق هذا إن شاء الله تعالى عند قراءتي : «من يرتدد ، ويرتدّ».

وقرئ هنا شاذّا (٢) : «وليملّ» بالإدغام ، ويقال : أملّ يملّ إملالا ، وأملى يملي إملاء ؛ ومن الأولى قوله : [الطويل]

١٢٧٩ ـ ألا يا ديار الحيّ بالسّبعان

أملّ عليها بالبلى الملوان (٣)

ويقال : أمللت وأمليت ، فقيل : هما لغتان ، وقيل : الياء بدل من أحد المثلين ، وأصل المادتين : الإعادة مرة بعد أخرى.

و «الحقّ» يجوز أن يكون مبتدأ ، و «عليه» خبر مقدم ، ويجوز أن يكون فاعلا بالجارّ قبله لاعتماده على الموصول ، والموصول هو فاعل «يملل» ومفعوله محذوف ،

__________________

(١) ونسبها في الشواذ ١٨ إلى عيسى وابن أبي إسحاق. وانظر : البحر المحيط ٢ / ٢٦٠ ، والدر المصون ١ / ٦٧٣.

(٢) انظر : البحر المحيط ٢ / ٣٦٠ ، والدر المصون ١ / ٦٧٣.

(٣) البيت لابن أحمر ينظر ديوانه ص ١٨٨ ، وشرح الأشموني ٣ / ٨٤٩ ، ولابن مقبل ينظر ديوانه ص ٣٣٥ ، وإصلاح المنطق ص ٣٩٤ ، وخزانة الأدب ٧ / ٣٠٢ ، ٣٠٣ ، ٣٠٤ ، وسمط اللآلي ص ٥٣٣ ، وشرح أبيات سيبويه ٢ / ٤٢٢ ، وشرح التصريح ٢ / ٣٢٩ ، ٣٨٤ ، والكتاب ٤ / ٢٥٩ ، ولسان العرب (سبع) (ملل) ، (ملا) ، ومعجم ما استعجم ص ٧١٩ ، ولأحدهما في معجم البلدان ٣ / ١٨٥ (السبعان) ، والمقاصد النحوية ٤ / ٥٤٢ ، والخصائص ٣ / ٢٠٢ ، وأوضح المسالك ٤ / ٣٣٣.

٤٨٣

أي : وليملل الديّان الكاتب ما عليه من الحقّ ، فحذف المفعولين للعلم بهما. ويتعدّى ب «على» إلى أحدهما فيقال : أمللت عليه كذا ، ومنه الآية الكريمة.

فصل

اعلم أنّ الكتابة ، وإن وجب أن يختار لها العالم بكيفية كتب الشّروط والسّجلات ، لكن ذلك لا يتمّ إلّا بإملاء من عليه الحق ؛ فيدخل في جملة إملائه اعترافه بالحقّ في قدره ، وجنسه وصفته ، وأجله ، وغير ذلك.

ثم قال : (وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ) بأن يقرّ بمبلغ المال ، «ولا يبخس منه شيئا» ، أي : لا ينقص منه شيئا.

قوله : (وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ) يجوز في «منه» وجهان :

أحدهما : أن يكون متعلقا بيبخس ، و «من» لابتداء الغاية ، والضمير في «منه» للحقّ.

والثاني : أنّها متعلقة بمحذوف ؛ لأنها في الأصل صفة للنكرة ، فلمّا قدّمت على النكرة نصبت حالا.

و «شيئا» : إمّا مفعول به ، وإمّا مصدر.

والبخس : النّقص ، يقال منه : بخس زيد عمرا حقّه يبخسه بخسا ، وأصله من : بخست عينه ، فاستعير منه بخس الحق ، كما قالوا : «عورت حقّه» استعارة من عور العين. ويقال : بخصه بالصّاد. والتباخس في البيع : التناقص ، لأنّ كلّ واحد من المتبايعين ينقص الآخر حقّه.

قوله : (فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ) إدخال حرف «أو» بين هذه الألفاظ الثلاثة يقتضي تغايرها ؛ لأنّ معناه : أنّ الذي عليه الحقّ كان متّصفا بإحدى هذه الصّفات الثلاثة (فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ) وإذا ثبت تغايرها وجب حمل السّفيه على الضعيف الرّأي النّاقص العقل من البالغين الذين لا يحسنون الأخذ لأنفسهم ، ولا الإعطاء منها أخذا من الثّوب السّفيه وهو خفيف النّسج ، والبذيء اللسان يسمى سفيها ، لأنّه لا يكاد أن تتفق البذاءة إلّا في جهّال النّاس ، وأصحاب العقول الخفيفة ، والعرب تسمي الضعيف العقل سفيها ؛ قال الشاعر : [السريع]

١٢٨٠ ـ نخاف أن تسفه أحلامنا

ويجهل الدّهر مع الحالم (١)

والضّعيف على الصّغير ، والمجنون ، والشّيخ الخرف وهم الذين فقدوا العقل

__________________

(١) ينظر : القرطبي ٣ / ٢٤٩.

٤٨٤

بالكلية ، «والّذي لا يستطيع أن يملّ» من يضعف لسانه عن الإملاء لخرس ، أو لجهله بما عليه ، وله.

فهؤلاء لا يصحّ منهم الإملاء ، ولا الإقراء ، فلا بدّ ممّن يقوم مقامهم.

فقال تعالى : (فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ).

قيل : الضّعف بضم الضّاد في البدن ، وبفتحها في الرأي.

وقيل : هما لغتان.

قال القرطبيّ (١) : والأول أصحّ.

قوله : (أَنْ يُمِلَّ هُوَ) أن ، وما في حيّزها في محل نصب مفعولا به ، أي : لا يستطيع الإملال ، و «هو» تأكيد للضمير المستتر. وفائدة التوكيد به رفع المجاز الذي كان يحتمله إسناد الفعل إلى الضمير ، والتّنصيص على أنه غير مستطيع بنفسه ، قاله أبو حيان.

وقرئ بإسكان هاء : «هو» وهي قراءة (٢) ضعيفة ؛ لأنّ هذا الضمير كلمة مستقلة منفصلة عما قبلها. ومن سكّنها أجرى المنفصل مجرى المتصل ، وقد تقدّم هذا في أول هذه السورة ، قال أبو حيّان ـ رحمه‌الله ـ : «وهذا أشذّ من قراءة من قرأ : (ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ) [القصص : ٦١].

قال شهاب الدين : فجعل هذه القراءة (٣) شاذة وهذه أشذّ منها ، وليس بجيد ، فإنّها قراءة متواترة قرأ بها نافع بن أبي نعيم قارئ أهل المدينة فيما رواه عنه قالون ، وهو أضبط رواته لحرفه ، وقرأ بها الكسائي (٤) أيضا وهو رئيس النحاة.

والهاء في «وليّه» للذي عليه الحقّ ، إذا كان متصفا بإحدى الصّفات الثلاث ؛ لأن وليّه هو الّذي يقر عليه بالدّين كما يقرّ بسائر أموره ، وقال ابن عبّاس ، ومقاتل والرّبيع : المراد بوليّه : وليّ الدّين وهذا بعيد ؛ لأنّ قول المدّعي لا يقبل ، فإن اعتبرنا قوله ، فأيّ حاجة إلى الكتابة ، والإشهاد؟

وقوله : «بالعدل» تقدّم نظيره.

فصل

واعلم أنّ المقصود من الكتابة : هو الاستشهاد ؛ لكي يتمكّن صاحب الحقّ بالشّهود إلى

تحصيل حقّه عند الجحود.

__________________

(١) ينظر : تفسير القرطبي ٣ / ٢٤٩.

(٢) وقرأ بها أبو جعفر ، وقالون بخلاف عنهما.

انظر : إتحاف ١ / ٤٥٩ ، والبحر المحيط ٢ / ٣٦١ ، والدر المصون ١ / ٦٧٤.

(٣) ستأتي في القصص ٦١.

(٤) ستأتي في القصص.

٤٨٥

وقوله : «فاستشهدوا» يجوز أن تكون السّين على بابها من الطّلب ، أي : اطلبوا شهيدين ، ويجوز أن يكون استفعل بمعنى أفعل ، نحو : استعجل بمعنى أعجل ، واستيقن بمعن أيقن فيكون «استشهدوا» بمعنى شهدوا ، يقال أشهدت الرّجل واستشهدته بمعنى واحد ، والشّهيدان : هما الشّاهدان ، فعيل بمعنى فاعل.

وفي قوله : «شهيدين» تنبيه على أنّه ينبغي أن يكون الشّاهد ممّن تتكرّر منه الشّهادة ، حيث أتى بصيغة المبالغة.

قوله : (مِنْ رِجالِكُمْ) يجوز أن يتعلّق باستشهدوا ، وتكون «من» لابتداء الغاية ، ويجوز أن يتعلّق بمحذوف ، على أنّه صفة لشهيدين ، و «من» تبعيضية.

فصل

في المراد بقوله : «من رجالكم» ثلاثة أقوال :

أحدها : قال أكثر العلماء : المراد الأحرار المسلمون.

الثاني : قال شريح ، وابن سيرين : المراد المسلمون ؛ فيدخل العبيد (١).

الثالث : من رجالكم الّذين تعدونهم للشّهادة ، بسبب العدالة. حجّة شريح ، وابن سيرين : عموم الآية ؛ ولأنّ العدالة لا تختلف بالحريّة والرّقّ ، واحتجّ الآخرون بقوله تعالى : (وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا) ، وهذا يقتضي : أنّ الشّاهد ؛ يجب عليه الذّهاب إلى موضع أداء الشّهادة ، ويحرم عليه الامتناع والإجماع على أنّ العبد لا يجب عليه الذّهاب ، فلا يكون شاهدا ، وهذا مذهب الشّافعي ، وأبي حنيفة.

والجواب عن قوله : (مِنْ رِجالِكُمْ) ، أي : الذين تعدّونهم لأداء الشّهادة ، كما قدّمناه.

قوله : (فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ) ، جوّزوا في : «كان» هذه أن تكون النّاقصة ، وأن تكون التامة ، وبالإعرابين يختلف المعنى : فإن كانت ناقصة فالألف اسمها ، وهي عائدة على الشّهيدين أي : فإن لم يكن الشّاهدان رجلين ، والمعنى على هذا : إن أغفل ذلك صاحب الحقّ ، أو قصد أن لا يشهد رجلين لغرض له ، وإن كانت تامّة فيكون «رجلين» نصبا على الحال المؤكّدة كقوله : (فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ) [النساء : ١٧٦] ، ويكون المعنى على هذا أنه لا يعدل إلى ما ذكر إلا عند عدم الرّجال. والألف في «يكونا» عائدة على «شهيدين» ، تفيد الرجولية.

فصل

قال القرافيّ : العلماء يقولون : إذا ورد النّصّ بصيغة «أو» فهو للتّخيير ، كقوله تعالى : (فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ) [المائدة :

__________________

(١) انظر : تفسير القرطبي (٣ / ٢٥٢ ، ٢٥٣ ، ٢٥٤) والبحر المحيط (٢ / ٣٦٢).

٤٨٦

٨٩] ، وإن ورد النّصّ بصيغة الشّرط كقوله : (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ) الآية فهو على التّرتيب ، وهذا غير صحيح لهذه الآية ؛ لأنّ قوله تعالى : (فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ) يقتضي على قولهم ألّا يجوز استشهاد رجل وامرأتين إلّا عند عدم الرّجلين ، وقد أجمعت الأمّة على جواز ذلك ، عند وجود الرّجلين ، وأنّ عدمهما ليس بشرط ، واستفدنا من هذه الآية سؤالين عظيمين.

الأول : أنّ الصّيغة لا تقتضي التّرتيب.

الثاني : أنّه لا يلزم من عدم الشّرط عدم المشروط ، وهو خلاف الإجماع ، وهو هناك كذلك.

قولنا : إذا لم يكن العدد زوجا ، فهو فرد ، وإن لم يكن فردا ، فهو زوج مع أنّه لا تتوقّف زوجيّته على عدم الفرديّة ، ولا فرديته على عدم الزّوجيّة. بل هو واجب الثّبوت في نفسه ، وجد الآخر أم لا ، وإذا تقرّر هذا ، فالمراد من الآية : انحصار الحجّة التّامّة من الشّهادة ، بعد الرّجلين في الرّجل ، والمرأتين ، فإنّه لا حجّة تامّة من الشّهادة في الشّريعة ، إلّا الرّجلين ، والرّجل ، والمرأتين ، هذا هو المجمع عليه من البيّنة الكاملة ، في الأموال ، فإذا فرض عدم إحداهما ، قبل الحصر في الأخرى ، وقد وضح أنّ الشّرط كما يستعمل في الترتيب ؛ كذلك يستعمل في الحصر ، والكل حقيقة لغوية ، فضابط ما يتوقّف فيه المشروط على الشّرط ، هو الّذي لا يراد به الحصر ، فمتى أريد به الحصر فلا يدلّ على التّرتيب ، بل لا بدّ من قرينة.

قوله : (فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ) يجوز أن يرتفع ما بعد الفاء على الابتداء ، والخبر محذوف تقديره : فرجل ، وامرأتان ، يكفون في الشّهادة ، أو مجزئون ، ونحوه. وقيل : هو خبر والمبتدأ محذوف تقديره : فالشّاهد رجل ، وامرأتان وقيل : مرفوع بفعل مقدّر تقديره : فيكفي رجل ، أي : شهادة رجل ، فحذف المضاف للعلم به ، وأقيم المضاف إليه مقامه. وقيل : تقدير الفعل : فليشهد رجل ، وهو أحسن ، إذ لا يحوج إلى حذف مضاف ، وهو تقدير الزّمخشريّ.

وقيل : هو مرفوع بكان النّاقصة ، والتّقدير : فليكن ممّن يشهدون رجل وامرأتان ، وقيل : بل بالتّامّة وهو أولى ؛ لأنّ فيه حذف فعل فقط بقي فاعله ، وفي تقدير النّاقصة حذفها مع خبرها ، وقد عرف ما فيه ، وقيل : هو مرفوع على ما لم يسمّ فاعله ، تقديره : فليستشهد رجل. قال أبو البقاء : «ولو كان قد قرئ بالنّصب لكان التّقدير : فاستشهدوا» وهو كلام حسن.

وقرئ (١) : «وامرأتان» بسكون الهمزة التي هي لام الكلمة ، وفيها تخريجان.

__________________

(١) انظر : المحرر الوجيز ١ / ٣٨١ ، والبحر المحيط ٢ / ٣٦٢ ، والدر المصون ١ / ٦٧٥.

٤٨٧

أحدهما : أنه أبدل الهمزة ألفا ، وليس قياس تخفيفها ذلك ، بل بين بين ، ولمّا أبدلها ألفا همزها كما همزت العرب نحو : العألم ، والخأتم ؛ وقوله : [الرجز]

١٢٨١ ـ وخندف هامة هذا العألم (١)

وقد تقدّم تحقيقه في سورة الفاتحة ، وسيأتي له مزيد بيان إن شاء الله ـ تعالى ـ في قراءة ابن ذكوان : «منسأته» في سبأ.

وقال أبو البقاء (٢) في تقرير هذا الوجه ، ونحا إلى القياس فقال : ووجهه أنه خفّف الهمزة ـ يعني بين بين ـ فقربت من الألف ، والمقرّبة من الألف في حكمها ؛ ولذلك لا يبتدأ بها ، فلمّا صارت كالألف ، قلبها همزة ساكنة كما قالوا : خأتم وعألم.

والثاني : أن يكون قد استثقل توالي الحركات ، والهمزة حرف يشبه حرف العلة فتستثقل عليها الحركة فسكّنت لذلك. قال أبو حيّان رحمه‌الله : ويمكن أنه سكّنها تخفيفا لتوالي كثرة الحركات ؛ وقد جاء تخفيف نظير هذه الهمزة في قول الشّاعر : [الطويل]

١٢٨٢ ـ يقولون جهلا ليس للشّيخ عيّل

لعمري لقد أعيلت وأن رقوب (٣)

يريد : وأنا رقوب ، فسكّن همزة «أنا» بعد الواو ، وحذف ألف «أنا» وصلا على القاعدة. قال شهاب الدين : قد نصّ ابن جني على أن هذا الوجه لا يجوز فقال : «ولا يجوز أن يكون سكّن الهمزة ؛ لأنّ المفتوح لا يسكّن لخفة الفتحة» وهذا من أبي الفتح محمول على الغالب ، وإلا فقد تقدّم لنا في قراءة الحسن «ما بقي من الرّبا» ، وقبل ذلك أيضا الكلام على هذه المسألة ، وورود ذلك في ألفاظ نظما ونثرا ، حتّى في الحروف الصّحيحة السّهلة ، فكيف بحرف ثقيل يشبه السّفلة؟

قوله : (مِمَّنْ تَرْضَوْنَ) ممن (الشُّهَداءِ) فيه أوجه :

أحدها : أنه في محلّ رفع نعتا لرجل وامرأتين.

والثاني : أنه في محلّ نصب ؛ لأنه نعت لشهيدين. واستضعف أبو حيّان هذين الوجهين قال : «لأنّ الوصف يشعر اختصاصه بالموصوف ، فيكون قد انتفى هذا الوصف عن شهيدين» ، واستضعف الثّاني أبو البقاء (٤) رحمه‌الله تعالى قال : للوصف الواقع بينهما.

الوجه الثالث : أنه بدل من قوله : (مِنْ رِجالِكُمْ) بتكرير العامل ، والتقدير :

__________________

(١) تقدم برقم ٩٠.

(٢) انظر : الإملاء لأبي البقاء ١ / ١١٨.

(٣) ينظر : المحتسب ١ / ١٤٧ ، والبحر المحيط ٢ / ٣٤٦ ، والدر المصون ١ / ٦٧٥.

(٤) ينظر : الإملاء لأبي البقاء ١ / ١١٩.

٤٨٨

(وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ) ، ولم يذكر أبو البقاء تضعيفه. وكان ينبغي أن يضعّفه بما ضعّف وجه الصّفة ، وهو للفصل بينهما ، وضعّفه أبو حيّان (١) بأنّ البدل يؤذن أيضا بالاختصاص بالشّهيدين الرّجلين فيعرى عنه رجل وامرأتان قال شهاب الدين : وفيه نظر ؛ لأنّ هذا من بدل البعض إن أخذنا «رجالكم» على العموم ، أو الكلّ من الكلّ إن أخذناهم على الخصوص ، وعلى كلا التّقديرين ، فلا ينفي ذلك عمّا عداه ، وأمّا في الوصف فمسلّم ؛ لأنّ لها مفهوما على المختار.

الرابع : أن يتعلّق باستشهدوا ، أي : استشهدوا ممّن ترضون. قال أبو حيان (٢) : «ويكون قيدا في الجميع ، ولذلك جاء متأخّرا بعد الجميع».

قوله : (مِنَ الشُّهَداءِ) يجوز أن يتعلّق بمحذوف على أنّه حال من العائد المحذوف ، والتّقدير : ممّن ترضونه حال كونه بعض الشّهداء. ويجوز أن يكون بدلا من «من» بإعادة العامل ، كما تقدّم في نفس (مِمَّنْ تَرْضَوْنَ) ، فيكون هذا بدلا من بدل على أحد القولين في كلّ منهما.

فصل

قوله (مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ) كقوله تعالى في الطلاق : (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) [الطلاق : ٢] وهذه الآية تدلّ على أنّه ليس كلّ أحد يكون شاهدا ، والفقهاء شرطوا في الشّاهد الّذي تقبل شهادته عشرة شروط : أن يكون حرّا بالغا ، مسلما عدلا ، عالما بما شهد به ؛ ولا يجر بتلك الشّهادة منفعة إلى نفسه ، ولا يدفع بها مضرّة عن نفسه ، ولا يكون معروفا بكثرة الغلط ، ولا بترك المروءة ، ولا يكون بينه وبين من يشهد عليه عداوة.

وقيل : سبعة : الإسلام ، والحريّة ، والعقل ، والبلوغ ، والعدالة ، والمروءة وانتفاء التّهمة.

قوله : «أن تضلّ» قرأ حمزة (٣) بكسر «إن» على أنّها شرطيّة والباقون بفتحها ، على أنّها المصدرية النّاصبة ، فأمّا القراءة الأولى ، فجواب الشّرط فيها قوله «فتذكّر» ، وذلك أنّ حمزة رحمه‌الله يقرأ (٤) : «فتذكّر» بتشديد الكاف ورفع الراء ؛ فصحّ أن تكون الفاء ، وما في حيّزها جوابا للشّرط ، ورفع الفعل ؛ لأنّه على إضمار مبتدأ ، أي : فهي تذكّر ، وعلى هذه القراءة فجملة الشّرط والجزاء هل لها محلّ من الإعراب أم لا؟

__________________

(١) ينظر : البحر المحيط ٢ / ٣٦٣.

(٢) ينظر : المصدر السابق.

(٣) انظر : السبعة ١٩٤ ، والكشف ١ / ٣٢٠ ، والحجة ٢ / ٤١٨ ، وحجة القراءات ١٥٠ ، وشرح الطيبة ٤ / ١٣٤ ، ١٣٥ ، وشرح شعلة ٣٠٥ ، وإعراب القراءات ١٠٤ ، والعنوان ٧٦ ، وإتحاف ١ / ٤٥٩.

(٤) انظر : المصدر السابق.

٤٨٩

فقال ابن عطيّة : إنّ محلّها الرّفع صفة «لامرأتين» ، وكان قد تقدّم أنّ قوله : (مِمَّنْ تَرْضَوْنَ) صفة لقوله (فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ) قال أبو حيان (١) ـ رحمه‌الله ـ : «فصار نظير جاءني رجل ، وامرأتان عقلاء حبليان» وفي جواز مثل هذا التّركيب نظر ، بل الّذي تقتضيه الأقيسة تقديم «حبليان» على «عقلاء» ؛ وأمّا إذا قيل بأنّ «ممّن ترضون» بدل من رجالكم ، أو متعلّق باستشهدوا ، فيتعذّر جعله صفة لامرأتين للزوم الفصل بين الصّفة ، والموصوف بأجنبيّ. قال شهاب الدين ـ رحمه‌الله ـ : وابن عطيّة لم يبتدع هذا الإعراب ، بل سبقه إليه الواحديّ فإنه قال : وموضع الشّرط وجوابه رفع بكونهما ، وصفا للمذكورين وهما «امرأتان» في قوله : (فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ) لأنّ الشّرط والجزاء يوصف بهما ، كما يوصف بهما في قوله (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ) [الحج : ٤١].

والظاهر أنّ هذه الجملة الشّرطية مستأنفة للإخبار بهذا الحكم ، وهي جواب لسؤال مقدّر ، كأنّ قائلا قال : ما بال امرأتين جعلتا بمنزلة رجل؟ فأجيب بهذه الجملة.

وأمّا القراءة الثّانية ؛ ف «أن» فيها مصدريّة ناصبة للفعل بعدها ، والفتحة فيه حركة إعراب ، بخلافها في قراءة حمزة ، فإنها فتحة التقاء ساكنين ، إذ اللام الأولى ساكنة للإدغام في الثّانية ، مسكّنة للجزم ، ولا يمكن إدغام في ساكن ، فحرّكنا الثّانية بالفتحة هربا من التقائهما ، وكانت الحركة فتحة ؛ لأنّها أخفّ الحركات ، وأن وما في حيّزها في محلّ نصب ، أو جرّ بعد حذف حرف الجرّ ، وهي لام العلّة ، والتّقدير : لأن تضلّ ، أو إرادة أن تضلّ.

وفي متعلّق هذا الجارّ ثلاثة أوجه :

أحدها : أنّه فعل مضمر دلّ عليه الكلام السّابق ، إذا التّقدير : فاستشهدوا رجلا وامرأتين لئلا تضلّ إحداهما ، ودلّ على هذا الفعل قوله : (فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ ، فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ) ، قاله الواحديّ ولا حاجة إليه ؛ لأنّ الرّافع لرجل وامرأتين مغن عن تقدير شيء آخر ، وكذلك الخبر المقدّر لقولك : (فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ) إذ تقدير الأول : فليشهد رجل ، وتقدير الثاني : فرجل وامرأتان يشهدون ؛ لأن تضلّ ، وهذان التّقديران هما الوجه الثّاني والثّالث من الثّلاثة المذكورة. فإن قيل هل جعل ضلال إحداهما علّة لتطلّب الإشهاد أو مرادا لله تعالى ، على حسب التقديرين المذكورين أولا؟ وقد أجاب سيبويه (٢) رحمه‌الله وغيره بأن الضلال لمّا كان سببا للإذكار ، والإذكار مسبّبا عنه ، وهم ينزّلون كلّ واحد من السبب والمسبّب منزلة الآخر لالتباسهما ، واتّصالهما كانت إرادة الضّلال المسبّب عنه الإذكار إرادة للإذكار. فكأنه قيل : إرادة أن تذكّر إحداهما الأخرى إن ضلّت ، ونظيره قولهم : «أعددت الخشبة أن يميل الحائط فأدعمه ، وأعددت السّلاح أن يجيء عدوّ

__________________

(١) ينظر : البحر المحيط ٢ / ٣٦٥.

(٢) ينظر : الكتاب لسيبويه ١ / ٤٣٠.

٤٩٠

فأدفعه» فليس إعدادك الخشبة ؛ لأن يميل الحائط ، ولا إعدادك السلاح لأن يجيء العدو وإنما للإدغام إذا مال ، وللدفع إذا جاء العدو ، وهذا ممّا يعود إليه المعنى ويهجر فيه جانب اللفظ.

وقد ذهب الجرجانيّ في هذه الآية الكريمة إلى أنّ التقدير : مخافة أن تضلّ ؛ وأنشد قول عمرو : [الوافر]

١٢٨٣ ـ ..........

فعجّلنا القرى أن تشتمونا (١)

أي : «مخافة أن تشتمونا» وهذا صحيح لو اقتصر عليه من غير أن يعطف عليه قوله «فتذكّر» ؛ لأنه كان التّقدير : فاستشهدوا رجلا وامرأتين ، مخافة أن تضلّ إحداهما ، ولكنّ عطف قوله : «فتذكّر» يفسده ، إذا يصير التقدير : مخافة أن تذكّر إحداهما الأخرى ، [وإذكار إحداهما الأخرى] ليس مخوفا منه ، بل هو المقصود ، وقال أبو جعفر (٢) : «سمعت عليّ بن سليمان يحكي عن أبي العباس أنّ التقدير كراهة أن تضلّ» قال أبو جعفر رحمه‌الله تعالى : «وهو غلط إذ يصير المعنى : كراهة أن تذكّر إحداهما الأخرى».

وذهب الفرّاء (٣) إلى أن تقدير الآية الكريمة : «كي تذكّر إحداهما الأخرى إن ضلّت» ، فلمّا قدّم الجزاء اتّصل بما قبله ففتحت «أن» ، قال : ومثله من الكلام : «إنه ليعجبني أن يسأل السّائل فيعطى» معناه : إنه ليعجبني أن يعطى السّائل إن سأل ؛ لأنّه إنما يعجب الإعطاء لا السؤال ، فلمّا قدّموا السّؤال على العطيّة أصحبوه أن المفتوحة لينكشف المعنى ، فعنده «أن» في «أن تضلّ» للجزاء ، إلّا أنّه قدّم وفتح ، وأصله التأخير.

وردّ البصريّون هذا القول أبلغ ردّ. قال الزّجّاج (٤) : «لست أدري لم صار الجزاء [إذا تقدّم] وهو في مكانه وغير مكانه يوجب فتح أن». وقال الفارسيّ : ما ذكره الفرّاء دعوى لا دلالة عليها ، والقياس يفسدها ، ألا ترى أنّا نجد الحرف العامل ، إذا تغيّرت حركته ؛ لم يوجب ذلك تغيّرا في عمله ولا معناه ، كما روى أبو الحسن (٥) من فتح اللام الجارّة مع المظهر عن يونس ، وأبي عبيدة ، وخلف الأحمر ، فكما أنّ هذه اللام لمّا فتحت لم يتغيّر من عملها ومعناها شيء ، كذلك : «إن» الجزائيّة ينبغي ، إذا فتحت ألّا يتغيّر عملها ولا معناها ، وممّا يبعده أيضا أنّا نجد الحرف العامل لا يتغيّر عمله بالتقديم و [لا] بالتأخير ، تقول «مررت بزيد» وتقول : «بزيد مررت» فلم يتغيّر عمل الباء بتقديمها

__________________

(١) هو ابن كلثوم. وصدره :

نزلتم منزل الأضياف منا

ينظر : شرح القصائد العشر (٤٢٣) الشنقيطي (١٠٠) ، المفصل لابن يعيش ٨ / ١١٥ ، الدر المصون ١ / ٦٧٧.

(٢) ينظر : إعراب القرآن للنحاس ١ / ٢٩٩.

(٣) ينظر : معاني القرآن للفراء ١ / ١٨٤.

(٤) ينظر : معاني القرآن للزجاج ١ / ٣٦٤.

(٥) ينظر : معاني القرآن للأخفش ١ / ١٢٣.

٤٩١

من تأخير. وأجاب ابن الخطيب (١) فقال هاهنا غرضان :

أحدهما : حصول الإشهاد وهذا لا يتأتّى إلّا بتذكير إحدى المرأتين.

والثاني : بيان تفضيل الرّجل على المرأة حتّى يبين أنّ إقامة المرأتين مقام الرّجل الواحد هو العدل في القضيّة ، وذلك لا يتأتى إلّا بضلال إحدى المرأتين (٢) ، وإذا كان كلّ واحد من هذين أعني الإشهاد ، وبيان فضل الرّجل على المرأة مقصود ، فلا سبيل إلى ذلك إلّا بإضلال أحدهما وتذكر الأخرى ، لا جرم صار هذان الأمران مطلوبين.

فصل

لمّا كان النّسيان غالبا على طباع النّساء لكثرة البرد والرّطوبة في أمزجتهنّ ؛ أقيمت المرأتان مقام الرّجل الواحد ؛ لأن اجتماع المرأتين على النّسيان أبعد في العقل من صدور النّسيان عن المرأة الواحدة ؛ لأنّ إحداهما إذا نسيت ؛ ذكّرتها الأخرى ، والمراد بالضّلال هنا النّسيان قال أبو عبيدة : الضلال عن الشّهادة إنّما هو نسيانها.

قوله : «فتذكّر» وقرأ ابن كثير (٣) وأبو عمرو : «فتذكر» بتخفيف الكاف ، ونصب الرّاء من أذكرته أي : جعلته ذاكرا للشّيء بعد نسيانه ، فإنّ المراد بالضّلال هنا النسيان كقوله تعالى: (فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ) [الشعراء : ٢٠] وقال في ذلك الفرزدق : [الكامل]

١٢٨٤ ـ ولقد ضللت أباك يدعو دارما

كضلال ملتمس طريق وبار (٤)

فالهمزة في «أذكرته» للنقل والتّعدية ، والفعل قبلها متعدّ لواحد ؛ فلا بدّ من آخر ، وليس في الآية مفعول واحد ، فلا بدّ من اعتقاد حذف الثّاني ، والتقدير فتذكر إحداهما الأخرى الشّهادة بعد نسيانها إن نسيتها هذا مشهور قول المفسّرين.

وقد شذّ بعضهم قال : معنى فتذكر إحداهما الأخرى أي : فتجعلها ذكرا ، أي : تصيّر حكمها حكم الذّكر في قبول الشّهادة وروى الأصمعيّ عن أبي عمرو بن العلاء قال : «فتذكّر إحداهما الأخرى بالتّشديد فهو من طريق التّذكير بعد النّسيان ، تقول لها : هل تذكرين إذ شهدنا كذا يوم كذا في مكان كذا على فلان ، أو فلانة ، ومن قرأ «فتذكر» بالتّخفيف فقال : إذا شهدت المرأة ، ثم جاءت الأخرى ؛ فشهدت معها ، فقد أذكرتها لقيامها مقام ذكر» ولم يرتض المفسّرون وأهل اللّسان هذا من أبي عمرو ، بل لم يصحّحوا رواية ذلك عنه لمعرفتهم بمكانته في العلم ، وردّوه على قائله من وجوه :

__________________

(١) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٧ / ٩٩.

(٢) في ب : الروايتين.

(٣) انظر : السبعة ١٩٤ ، والحجة ٢ / ٤١٩ ، والعنوان ٧٦ ، وحجة القراءات ١٤٩ ـ ١٥١ ، وإتحاف ١ / ٤٥٩ ، وإعراب القراءات ١٠٤ ، وشرح شعلة ٣٠٥ ، وشرح طيبة النشر ٤ / ١٣٥.

(٤) ينظر : ديوانه ٢ / ٤٥٠ ، الدر المصون ١ / ٦٧٨.

٤٩٢

منها : أنّ الفصاحة تقتضي مقابلة الضّلال المراد به النّسيان بالإذكار والتّذكير ، ولا تناسب في المقابلة بما نقل عنه.

ومنها : أنّ النّساء لو بلغن ما بلغن من العدد لا بدّ معهنّ من رجل ، هكذا ذكروا ، وينبغي أن يكون ذلك فيما يقبل فيه الرجل مع المرأتين ، وإلّا فقد نجد النّساء يتمحّضن في شهادات من غير انضمام رجل إليهنّ.

ومنها : أنّها لو صيّرتها ذكرا ؛ لكان ينبغي أن يكون ذلك في سائر الأحكام ، ولا يقتصر به على ما فيه ماليّة وفيه نظر أيضا ، إذ هو مشترك الإلزام لأنه يقال : وكذا إذا فسّرتموه بالتّذكير بعد النّسيان لم يعمّ الأحكام كلّها ، فما أجيب به فهو جوابهم أيضا.

وقال الزمخشريّ : «ومن بدع التّفاسير : [فتذكّر] فتجعل إحداهما الأخرى ذكرا ، يعني أنهما إذا اجتمعتا كانتا بمنزلة الذّكر» انتهى. ولم يجعل هذا القول مختصا بقراءة دون أخرى.

وأمّا نصب الرّاء ؛ فنسق على «أن تضلّ» ؛ لأنّهما يقرآن : «أن تضلّ» بأن النّاصبة ، وقرأ الباقون (١) بتشديد الكاف من «ذكّرته» بمعنى جعلته ذاكرا أيضا ، وقد تقدّم أنّ حمزة وحده هو الّذي يرفع الرّاء.

وخرج من مجموع الكلمتين أنّ القرّاء على ثلاث مراتب : فحمزة وحده : بكسر «إن» ويشدد الكاف ويرفع الرّاء ، وابن كثير : بفتح «أن» ويخفف الكاف وينصب الرّاء ، والباقون كذلك ، إلّا أنهم يشدّدون الكاف.

والمفعول الثّاني محذوف أيضا في هذه القراءة كما في قراءة ابن كثير وأبي عمرو ، وفعّل وأفعل هنا بمعنى : أكرمته وكرّمته ، وفرّحته وأفرحته. قالوا : والتّشديد في هذا اللّفظ أكثر استعمالا من التّخفيف ، وعليه قوله : [المتقارب]

١٢٨٥ ـ على أنّني بعد ما قد مضى

ثلاثون للهجر حولا كميلا

يذكّرنيك حنين العجول

ونوح الحمامة تدعو هديلا (٢)

__________________

(١) انظر : السبعة ١٩٤ ، والحجة ٢ / ٤١٩ ، والعنوان ٧٦ ، وحجة القراءات ١٤٩ ـ ١٥٠ ، وإتحاف ١ / ٤٥٩ ، وإعراب القراءات ١٠٤ ، وشرح شعلة ٣٠٥ ، وشرح طيبة النشر ٤ / ١٣٥.

(٢) البيتان للعباس بن مرداس ينظر ديوانه ص ١٣٦ ، وأساس البلاغة ص ٣٩٨ (كمل) ، وخزانة الأدب ٣ / ٢٩٩ ، والدرر ٤ / ٤٢ ، وشرح شواهد الإيضاح ص ١٩٨ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٩٠٨ ، والمقاصد النحوية ٤ / ٤٨٩ ، والإنصاف ١ / ٣٠٨ ، وخزانة الأدب ٦ / ٤٦٧ ، ٤٧٠ ، ٨ / ٢٥٥ ، وشرح الأشموني ٣ / ٥٧٥ ، وشرح عمدة الحافظ ص ٥٣٢ ، وشرح المفصل ٤ / ١٣٠ والكتاب ٢ / ١٥٨ ، ولسان العرب (كمل) (البيت الأول فقط) ، ومجالس ثعلب ٢ / ٤٩٢ ، ومغني اللبيب ٢ / ٥٧٢ ، والمقتضب ٣ / ٥٥ ، وهمع الهوامع ١ / ٢٥٤.

٤٩٣

وقرأ عيسى (١) بن عمر والجحدريّ : «تضلّ» مبنيّا للمفعول ، وعن الجحدريّ أيضا (٢) : «تضلّ» بضمّ التّاء ، وكسر الضّاد من أضلّ كذا ، أي : أضاعه ، فالمفعول محذوف أي : تضلّ الشّهادة. وقرأ حميد بن عبد الرحمن ومجاهد : «فتذكر» برفع الرّاء ، وتخفيف الكاف ، وزيد بن أسلم «فتذاكر» من المذاكرة.

وقوله : إحداهما» فاعل ، «والأخرى» مفعول ، وهذا ممّا يجب تقديم الفاعل فيه لخفاء الإعراب ، والمعنى نحو : ضرب موسى عيسى.

قال أبو البقاء (٣) : ف «إحداهما» فاعل ، و «الأخرى» مفعول ، ويصحّ العكس ، إلا أنه يمتنع على ظاهر قول النّحويّين في الإعراب ، لأنّه إذا لم يظهر الإعراب في الفاعل والمفعول ، وجب تقديم الفاعل فيما يخاف فيه اللّبس ، فعلى هذا إذا أمن اللّبس جاز تقديم المفعول كقولك : «كسر العصا موسى» ، وهذه الآية من هذا القبيل ، لأنّ النّسيان ، والإذكار لا يتعيّن في واحدة منهما ، بل ذلك على الإبهام ، وقد علم بقوله «فتذكّر» أنّ الّتي تذكّر هي الذّاكرة ، والتي تذكّر هي النّاسية ، كما علم من لفظ «كسر» من يصحّ منه الكسر ، فعلى هذا يجوز أن يجعل «إحداهما» فاعلا ، و «الأخرى» مفعولا وبالعكس انتهى. ولمّا أبهم الفاعل في قوله : (أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما) أبهم أيضا في قوله : (فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا) ؛ لأنّ كلّا من المرأتين يجوز [عليها ما يجوز] على صاحبتها من الإضلال ، والإذكار ، والمعنى : إن ضلّت هذه أذكرتها هذه ، فدخل الكلام معنى العموم.

قال أبو البقاء (٤) : فإن قيل : لم لم يقل : «فتذكّرها الأخرى»؟ قيل فيه وجهان :

أحدهما : أنّه أعاد الظّاهر ، ليدلّ على الإبهام في الذّكر والنّسيان ، ولو أضمر لتعيّن عوده على المذكور.

والثاني : أنه وضع الظّاهر موضع المضمر ، تقديره : «فتذكّرها» وهذا يدلّ على أن «إحداهما» الثانية مفعول مقدم ، ولا يجوز أن يكون فاعلا في هذا الوجه ؛ لأنّ المضمر هو المظهر بعينه ، والمظهر الأول فاعل «تضلّ» ، فلو جعل الضّمير لذلك المظهر ؛ لكانت النّاسية حقا هي المذكّرة ، وهو محال قال شهاب الدين ـ رحمه‌الله تعالى ـ : وقد يتبادر إلى الذهن أنّ الوجهين راجعان لوجه واحد قبل التأمّل ؛ لأنّ قوله : «أعاد الظّاهر» قريب من قوله : «وضع الظاهر موضع المضمر».

و «إحدى» تأنيث «الواحد» قال الفارسيّ : أنّثوه على غيره بنائه ، وفي هذا نظر ، بل

__________________

(١) انظر : المحرر الوجيز ١ / ٣٨٢ ، والبحر المحيط ٢ / ٣٦٥ ، والدر المصون ١ / ٦٧٩.

(٢) انظر : المصدر السابق.

(٣) ينظر : الإملاء لأبي البقاء ١ / ١١٩.

(٤) ينظر : الإملاء لأبي البقاء ١ / ١٢٠.

٤٩٤

هو تأنيث «أحد» ولذلك يقابلونها به في : أحد عشر وإحدى عشرة وأحد وعشرين وإحدى وعشرين ، وتجمع «إحدى» على «إحد» نحو : كسرة وكسر.

قال أبو العباس : «جعلوا الألف في الإحدى بمنزلة التاء في «الكسرة» ، فقالوا في جمعها : «إحد» ؛ كما قالوا : كسرة وكسر ؛ كما جعلوا مثلها في الكبرى والكبر ، والعليا والعلى ، فكما جعلوا هذه كظلمة ، وظلم جعلوا الأول كسدرة وسدر» قال : «وكما جعلوا الألف المقصورة بمنزلة التّاء فيما ذكر ؛ وجعلوا الممدودة أيضا بمنزلتها في قولهم «قاصعاء وقواصع» و «دامّاء ودوامّ» ، يعني : أنّ فاعلة نحو : ضاربة تجمع على ضوارب ، كذا فاعلاء ؛ نحو : قاصعاء ، وراهطاء تجمع على فواعل ؛ وأنشد ابن الأعرابيّ على إحدى وإحد قول الشاعر : [الرجز]

١٢٨٦ ـ حتّى استثاروا بي إحدى الإحد

ليثا هزبرا ذا سلاح معتدي (١)

قال : يقال : هو إحدى الإحد ، وأحد الأحدين ، وواحد الآحاد ، كما يقال : واحد لا مثل له ، وأنشد البيت.

واعلم أنّ «إحدى» لا تستعمل إلا مضافة إلى غيرها ؛ فيقال : إحدى الإحد وإحداهما ، ولا يقال : جاءتني إحدى ، ولا رأيت إحدى ، وهذا بخلاف مذكّرها.

و «الأخرى» تأنيث «آخر» الذي هو : أفعل التّفضيل ، وتكون بمعنى آخرة ؛ كقوله تعالى : (قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ) [الأعراف : ٣٨] ، ويجمع كلّ منهما على «أخر» ، ولكنّ جمع الأولى ممتنع من الصّرف ، وفي علّته خلاف ، وجمع الثانية منصرف ، وبينهما فرق يأتي إيضاحه إن شاء الله تعالى في الأعراف.

فصل

أجمع الفقهاء على أنّ شهادة النّساء جائزة مع الرّجال في الأموال ، حتى يثبت برجل وامرأتين ، واختلفوا في غير الأموال ، فقال سفيان الثّوريّ (٢) وأصحاب الرّأي : تجوز شهادتهنّ مع الرّجال في غير العقوبات.

وذهب جماعة إلى أنّ غير المال ، لا يثبت إلّا برجلين عدلين وذهب الشّافعيّ ، وأحمد إلى : أنّ ما يطلع عليه النّساء غالبا كالولادة والرّضاع ، والثّيوبة والبكارة ونحوها يثبت بشهادة رجل وامرأتين ، وبشهادة أربع نسوة.

وعن أحمد : يثبت بشهادة امرأة عدل ، واتّفقوا على أن شهادة النّساء لا تجوز في العقوبات.

__________________

(١) ينظر اللسان : «وحد» ، والدر المصون ١ / ٦٨٠.

(٢) ينظر : تفسير البغوي ١ / ٢٦٨.

٤٩٥

فصل

قال القرطبيّ (١) : لما جعل الله تعالى شهادة امرأتين بدل شهادة رجل ؛ وجب أن يكون حكمهما حكمه ، فكما له أن يحلف مع الشّاهد عندنا ، وعند الشّافعي ، كذلك يجب أن يحلف مع شهادة امرأتين بمطلق هذه العوضيّة ، وخالف في هذا أبو حنيفة ، وأصحابه ، فلم يروا اليمين مع الشّاهد.

قالوا : لأنّ الله تعالى قسم الشّهادة ، وعددها ، ولم يذكر الشّاهد مع اليمين ، فلا يجوز القضاء به ؛ لأنّه يكون قسما ثالثا على ما قسّمه الله ، وهذه زيادة على النّصّ ، فيكون نسخا ، وهذا قول الثّوري ، والأوزاعي والحكم بن عتيبة وطائفة.

قال بعضهم : الحكم باليمين مع الشّاهد منسوخ بالقرآن ، وزعم عطاء أنّ أوّل من قضى به عبد الملك بن مروان.

وقال الحكم : القضاء باليمين والشّاهد بدعة ، وهو كلّه غلط ، وليس في قوله تعالى : (وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ) الآية ما يرد به قضاء رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ باليمين ، والشاهد ؛ ولا أنّه لا يتوصل إلى الحقوق إلّا بما ذكر فيها لا غير ، فإنّ ذلك يبطل بنكول المطلوب ويمين الطّالب ، فإن ذلك يستحقّ به المال إجماعا ، وليس هو في الآية ، مع أنّ الخلفاء الأربعة : قضوا بالشّاهد واليمين ، وقضى به أبيّ بن كعب ، ومعاوية وشريح وعمر بن عبد العزيز ، وكتب به إلى عمّاله ، وإياس بن معاوية ، وأبو سلمة بن عبد الرحمن وأبو الزّناد وربيعة.

قال مالك : أترى هؤلاء تنقض أحكامهم ، ويحكم ببدعتهم مع ما روى ابن عباس أنّ النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : قضى بالشّاهد مع اليمين (٢).

قوله : (وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ) مفعوله محذوف لفهم المعنى ، أي : لا يأبون إقامة الشهادة ، وقيل : المحذوف مجرور لأن «أبي» بمعنى امتنع ، فيتعدّى تعديته أي من إقامة الشهادة.

قوله «إذا ما دعوا» ظرف ل «يأب» أي : لا يمتنعون في وقت [دعوتهم] لأدائها ، أو لإقامتها ، ويجوز أن تكون [متمحضة للظرف ، ويجوز أن تكون] شرطية والجواب محذوف أي : إذا دعوا فلا يأبوا.

__________________

(١) ينظر : تفسير القرطبي ٣ / ٢٥٣.

(٢) أخرجه مسلم (٥ / ١٢٨) وأبو داود (٣٦٠٨) وابن ماجه (٢٣٧٠) والطحاوي في «شرح معاني الآثار» (٢ / ٢٨٠) وابن الجارود (١٠٠٦) والبيهقي (١٠ / ١٦٧) والشافعي (٢ / ١٤٠) وأحمد (١ / ٢٤٨ ، ٣١٥ ، ٣٢٣) من طريق عمرو بن دينار عن ابن عباس به.

٤٩٦

فصل

في الآية وجوه :

أحدها : أنّ هذا نهي للشّاهد عن الامتناع عن أداء الشّهادة عند احتياج صاحب الحقّ إليها.

الثاني : أراد إذا دعوا لتحمل الشّهادة على الإطلاق ، وهو قول قتادة ، واختيار القفّال ، قال كما أمر الكاتب ألّا يأب الكتابة ، كذلك أمر الشّاهد ألّا يأب من تحمل الشّهادة ، لأنّ كلّ واحد منهما يتعلّق بالآخر وفي عدمها ضياع الحقوق ، وسمّاهم شهداء على معنى أنهم يكونون شهداء ، وهو أمر إيجاب عند بعضهم.

الثالث : المراد تحمّل الشّهادة إذا لم يوجد غيره ، فهو مخير ، وهو قول الحسن (١)

الرابع : قال الزّجّاج (٢) ، وهو مروي عن الحسن أيضا ، وهو قول مجاهد ، وعطاء ، وعكرمة ، وسعيد بن جبير : المراد مجموع الأمرين التحمّل أولا ، والأداء ثانيا.

قال الشعبي : الشّاهد بالخيار ما لم يشهد وقال قوم : هو أمر ندب ، وهو مخيّر في جميع الأحوال. قال القرطبيّ (٣) : قد يؤخذ من هذه الآية دليل على أنّه يجوز للإمام أن يقيم للنّاس شهودا ، ويجعل لهم من بيت المال كفايتهم ، فلا يكون لهم شغل إلّا تحمل حفظ حقوق النّاس ، وإن لم يكن ذلك ؛ ضاعت الحقوق وبطلت.

فصل

قال القرطبيّ (٤) : دلّت هذه الآية على أنّ الشّاهد يمشي إلى الحكم ، وهذا أمر بني الشّرع عليه ، وعمل به في كلّ مكان وزمان ، وفهمته كلّ أمّة.

وإذا ثبت هذا فالعبد خارج عن جملة الشّهداء ، فيخص عموم قوله : (مِنْ رِجالِكُمْ) ؛ لأنّه لا يمكنه أن يجيب ؛ لأنّه لا استقلال له بنفسه ، فلا يصحّ له أن يأتي فانحطّ عن منصب الشّهادة ، كما انحطّ عن منصب الولاية ، وكما انحطّ عن فرض الجمعة وعن الجهاد والحجّ.

قوله : (وَلا تَسْئَمُوا) والسّأم والسآمة : الملل من الشّيء والضّجر منه.

قوله : (أَنْ تَكْتُبُوهُ) مفعول به إن شئت جعلته مع الفعل مصدرا تقديره : «ولا تسأموا كتابته» ، وإن شئت بنزع الخافض والنّاصب له «تسأموا» ؛ لأنه يتعدّى بنفسه قال : [الطويل]

__________________

(١) ينظر : تفسير البغوي ١ / ٢٦٩.

(٢) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٧ / ١٠٠.

(٣) ينظر : تفسير القرطبي ٣ / ٣٥٧.

(٤) ينظر : المصدر السابق.

٤٩٧

١٢٨٧ ـ سئمت تكاليف الحياة ومن يعش

ثمانين حولا لا أبا لك يسأم (١)

وقيل : بل يتعدّى بحرف الجرّ ، والأصل : من أن تكتبوه ، فحذف حرف الجرّ للعلم به ، فيجري الخلاف المشهور في «أن» بعد حذفه ، ويدلّ على تعدّيه ب «من» قوله : [الكامل]

١٢٨٨ ـ ولقد سئمت من الحياة وطولها

وسؤال هذا النّاس كيف لبيد (٢)

والهاء : في «تكتبوه» يجوز أن تكون للدّين في أوّل الآية ، وأن تكون للحقّ في قوله : (إِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ) ، وهو أقرب مذكور ، والمراد به «الدّين» وقيل : يعود على الكتاب المفهوم من «تكتبوه» قاله الزّمخشريّ.

و «صغيرا أو كبيرا» حال ، أي : على أيّ حال كان الدّين قليلا أو كثيرا ، وعلى أيّ حال كان الكتاب مختصرا ، أو مشبعا ، وجوّز السّجاونديّ انتصابه على خبر «كان» مضمرة ، وهذا لا حاجة تدعو إليه ، وليس من مواضع إضمارها.

وقرأ السّلميّ (٣) : «ولا يسأموا أن يكتبوه» بالياء من تحت فيهما. والفاعل على هذه القراءة ضمير الشّهداء ، ويجوز أن يكون من باب الالتفات ، فيعود : إمّا على المتعاملين وإمّا على الكتّاب.

فصل

والمقصود من الآية الكريمة الحثّ على الكتابة قلّ المال ، أو كثر ، فإنّ النّزاع في المال القليل ربّما أدّى إلى فساد عظيم ، ولجاج شديد.

فإن قيل : هل تدخل الحبة والقيراط (٤) في هذا الأمر؟

فالجواب : لا ، لعدم جريان العادة به.

قوله : (إِلى أَجَلِهِ) فيه ثلاثة أوجه :

أظهرها : أنه متعلّق بمحذوف ، أي : أن تكتبوه مستقرّا في الذّمّة إلى أجل حلوله.

والثاني : أنه متعلّق بتكتبوه ، قاله أبو البقاء (٥). وردّه أبو حيان فقال : «متعلق بمحذوف لا ب «تكتبوه» لعدم استمرار الكتابة إلى أجل الدّين ، إذ ينقضي في زمن يسير ، فليس نظير : سرت إلى الكوفة».

__________________

(١) البيت من معلقة زهير : ينظر ديوانه (٢٩) ، شرح الشنقيطي (٨٦) ، الدر المصون ١ / ٦٨٠.

(٢) البيت للبيد ينظر ديوانه (٣٥) ، المحتسب ١ / ١٨٩ ، البحر ٢ / ٣٦٧ ، الدر المصون ١ / ٦٨٠.

(٣) انظر : المحرر الوجيز ١ / ٣٨٣ ، البحر المحيط ٢ / ٣٦٧ ، الدر المصون ١ / ٦٨١.

(٤) في ب : والعبر.

(٥) ينظر : الإملاء لأبي البقاء ١ / ١٢٠.

٤٩٨

والثالث : أن يتعلّق بمحذوف على أنه حال من الهاء ، قاله أبو البقاء (١).

قوله : «ذلكم» مشار به لأقرب مذكور وهو الكتب.

وقال القفّال : إليه وإلى الإشهاد.

وقيل : إلى جميع ما ذكر وهو أحسن. و «أقسط» قيل : هو من أقسط إذا عدل ، ولا يكون من قسط ، [لأنّ قسط] بمعنى جار ، وأقسط بمعنى عدل ، فتكون الهمزة للسّلب ، إلا أنه يلزم بناء أفعل من الرباعي ، وهو شاذّ.

قال الزّمخشريّ : «فإن قلت ممّ بني أفعلا التّفضيل ـ أعني أقسط وأقوم؟ ـ قلت : يجوز على مذهب سيبويه أن يكونا مبنيّين من «أقسط» ، و «أقام» وأن يكون «أقسط» من قاسط على طريقة النّسب بمعنى : ذي قسط ؛ و «أقوم» من قويم». قال أبو حيّان رحمه‌الله : لم ينصّ سيبويه على أنّ أفعل التّفضيل يبنى من «أفعل» ، إنّما يؤخذ ذلك بالاستدلال ، فإنّه نصّ في أوائل كتابه على أنّ «أفعل» للتعجب يكون من فعل وفعل وفعل وأفعل ، فظاهر هذا أن «أفعل» للتعجب يبنى منه أفعل للتّفضيل ، فما جاز في التّعجب جاز [في] التّفضيل ، وما شذّ فيه شذّ فيه. وقد اختلف النّحويّون في بناء التّعجّب ، وأفعل التّفضيل من أفعل على ثلاثة مذاهب : الجواز مطلقا ، والمنع مطلقا ، والتفصيل بين أن تكون الهمزة للنّقل ، فيمتنع ، أو لا فيجوز ، وعليه يؤوّل الكلام ، أي : كلام سيبويه ، حيث قال : «إنه يبنى من أفعل» ، أي : الذي همزته لغير التّعدية. ومن منع مطلقا قال : «لم يقل سيبويه ، وأفعل بصيغة الماضي» إنّما قالها أفعل بصيغة الأمر ، فالتبس على السّامع ، يعني : أنه يكون فعل التّعجب على أفعل ، بناؤه من فعل ، وفعل ، وفعل ، وعلى أفعل. ولهذه المذاهب موضع هو أليق بالكلام عليها.

ونقل ابن عطيّة أنه مأخوذ من «قسط» بضمّ السّين نحو : «أكرم» من «كرم». وقيل : هو من القسط بالكسر وهو العدل ، وهو مصدر لم يشتقّ منه فعل ، وليس من الإقساط ؛ لأنّ أفعل لا يبنى من «الإفعال». وهذا كله بناء منهم على أنّ الثلاثيّ بمعنى الجور والرّباعيّ بمعنى العدل.

ويحكى أنّ سعيد بن جبير لمّا سأله الظّالم [الحجّاج] بن يوسف : ما تقول فيّ؟ فقال : «أقول إنّك قاسط عادل» ، فلم يفطن له إلا هو ، فقال : إنه جعلني جائرا كافرا ، وتلا قوله تعالى : (وَأَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً) [الجن : ١٥] (ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) [الأنعام : ١].

وأمّا إذا جعلناه مشتركا بين عدل ، وبين جار فالأمر واضح قال ابن القطّاع : «قسط ، قسوطا ، وقسطا : جار وعدل ضدّ». وحكى ابن السيّد في كتاب : «الاقتضاب» له عن ابن

__________________

(١) ينظر : المصدر السابق.

٤٩٩

السّكّيت في كتاب : «الأضداد» عن أبي عبيدة : «قسط : جار ، وقسط : [عدل] ، وأقسط بالألف عدل لا غير». وقال أبو القاسم الرّاغب (١) الأصبهاني : «القسط أن يأخذ قسط غيره ، وذلك جور ، والإقساط أن يعطي قسط غيره ، وذلك إنصاف ، ولذلك يقول : قسط إذا جار ، وأقسط إذا عدل».

والقسط : اسم ، والإقساط مصدر يقال : أقسط فلان في الحكم يقسط إقساطا ، إذا عدل ، فهو مقسط.

قال تعالى : (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) [المائدة : ٤٢] ويقال : هو قاسط إذا جار فقال تعالى : (وَأَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً) [الجن : ١٥] (ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) [الأنعام : ١] ، وأمّا إذا جعلناه مشتركا بين عدل وبين جار فالأمر واضح.

قال ابن القطّاع : قسط قسوطا ، وقسطا : جار ، وعدل ضدّ ، وسيأتي لهذا مزيد بيان في سورة النساء إن شاء الله تعالى.

قوله : «عند الله» ظرف منصوب ب «أقسط» ، أي في حكمه. وقوله : «وأقوم» إنّما صحّت الواو فيه ؛ لأنه أفعل تفضيل ، وأفعل التّفضيل يصحّ حملا على فعل التّعجّب ، وصحّ فعل التّعجّب لجريانه مجرى الأسماء لجموده وعدم تصرّفه.

و «أقوم» يجوز أن يكون من «أقام» الرّباعي المتعدّي ؛ لكنّه حذف الهمزة الزّائدة ، ثمّ أتى بهمزة [أفعل] كقوله تعالى : (أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى) [الكهف : ١٢] فيكون المعنى : أثبت لإقامتكم الشهادة ، ويجوز أن يكون من «قام» اللازم ويكون المعنى : ذلك أثبت لقيام الشّهادة ، وقامت الشهادة : ثبتت ، قاله أبو البقاء (٢).

قوله : «للشّهادة» متعلّق ب «أقوم» ، وهو مفعول في المعنى ، واللّام زائدة ولا يجوز حذفها ونصب مجرورها بعد أفعل التّفضيل إلّا لضرورة ؛ كقوله : [الطويل]

١٢٨٩ ـ ..........

وأضرب منّا بالسّيوف القوانسا (٣)

وقد قيل : «إن «القوانس» منصوب بمضمر يدلّ عليه أفعل التّفضيل ، هذا معنى كلام أبي حيّان (٤) ، وهو ماش على أنّ «أقوم» من أقام المتعدّي ، وأمّا إذا جعلته من «قام» بمعنى ثبت فاللّام غير زائدة.

قوله : (أَدْنى أَلَّا تَرْتابُوا) ، أي : أقرب ، وحرف الجرّ محذوف ، فقيل : هو اللّام أي : أدنى لئلّا ترتابوا ، وقيل هو «إلى» وقيل : هو «من» ، أي : أدنى إلى ألّا ترتابوا ، وأدنى من ألا ترتابوا. وفي تقديرهم : «من» نظر ، إذ المعنى لا يساعد عليه. و «ترتابوا» : تفتعلوا من الرّيبة ، والأصل : «ترتيبوا» ، فقلبت الياء ألفا لتحرّكها وانفتاح ما قبلها.

__________________

(١) ينظر : المفردات للراغب ٤١٨.

(٢) ينظر : الإملاء لأبي البقاء ١ / ١٢٠.

(٣) تقدم برقم ٣٦٨.

(٤) ينظر : البحر المحيط ٢ / ٣٦٨.

٥٠٠