اللّباب في علوم الكتاب - ج ٤

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ٤

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٥٨

والمقصود من هذا الكلام : أنّه عالم بأحوال الشّافع ، والمشفوع له ، فيما يتعلّق باستحقاق الثّواب والعقاب ؛ لأنّه عالم بجميع المعلومات (١) لا يخفى عليه شيء والشّفعاء لا يعلمون من أنفسهم أنّ لهم من الطّاعة (٢) ما يستحقّون به هذه المنزلة العظيمة عند الله ، ولا يعلمون أنّ الله هل (٣) أذن لهم في تلك الشّفاعة ، أم لا.

قوله : «بشيء» متعلّق ب «يحيطون». والعلم هنا بمعنى المعلوم ؛ لأنّ علمه تعالى الذي هو صفة قائمة بذاته المقدّسة لا يتبعّض ، ومن وقوع العلم موقع المعلوم قولهم : «اللهمّ اغفر لنا علمك فينا» وحديث موسى ، والخضر ـ عليهما الصّلاة والسّلام ـ «ما نقص علمي وعلمك من علمه إلّا كما نقص هذا العصفور من هذا البحر» (٤) ولكون العلم بمعنى المعلوم ، صحّ دخول التّبعيض ، والاستثناء عليه. و «من علمه» يجوز أن يتعلّق ب «يحيطون» ، وأن يتعلّق بمحذوف لأنه صفة لشيء ، فيكون في محلّ جر. و «بما شاء» متعلّق ب «يحيطون» أيضا ، ولا يضرّ تعلّق هذين الحرفين المتّحدين لفظا ومعنى بعامل واحد ؛ لأنّ الثاني ومجروره بدلان من الأول ، بإعادة العامل بطرق الاستثناء ، كقولك : «ما مررت بأحد إلّا بزيد» ، ومفعول «شاء» محذوف تقديره : إلا بما شاء أن يحيطوا به ، وإنما قدّرته كذلك لدلالة قوله : (وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ).

فصل

هؤلاء المذكورون في هذه الآية يحتمل أن يكونوا هم الملائكة ، ويحتمل أن يكونوا الملائكة وسائر من يشفع يوم القيامة من النّبيين ، والصّديقين والشهداء والصالحين.

وفي معنى الاستثناء قولان :

أحدهما : أنّهم لا يعلمون شيئا من معلوماته إلا ما أراد هو أن يعلمهم كما قالوا (لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا) [البقرة : ٣٢].

الثاني : أنّهم لا يعلمون الغيب إلّا بما شاء أن يطلع بعض أنبيائه على بعض الغيب كقوله تعالى (عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ) [الجن : ٢٦ ـ ٢٧].

قوله : (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) : الجمهور على «وسع» بفتح الواو وكسر السّين وفتح العين فعلا ماضيا.

و «كرسيّه» بالرّفع على أنّه فاعله ، وقرئ «وسع» سكّن عين الفعل تخفيفا نحو : علم في علم. وقرئ أيضا : «وسع كرسيّه» بفتح الواو وسكون السين ورفع العين على الابتداء ، و «كرسيّه» خفض بالإضافة «السّموات» رفعا على أنه خبر للمبتدأ.

__________________

(١) في ب : المخلوقات.

(٢) في ب : الطاعات.

(٣) في ب : هو الذي.

(٤) ينظر : البحر المحيط ٢ / ٢٨٩ ، والدر المصون ١ / ٦١٥.

٣٢١

واعلم أنه يقال : وسع فلانا الشّيء يسعه سعة إذا احتمله وأطاقه وأمكنه القيام به ، ولا يسعك هذا أي : لا تطيقه ولا تحتمله ، ومنه قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لو كان موسى حيّا ما وسعه إلّا اتّباعي» أي : لا يجتمل غير ذلك.

والكرسيّ : الياء فيه لغير النّسب ، واشتقاقه من الكرس ، وهو الجمع ؛ ومنه الكرّاسة للصّحائف الجامعة للعلم ؛ ومنه قول العجّاج : [الرجز]

١١٧٨ ـ يا صاح ، هل تعرف رسما مكرسا؟

قال : نعم ، أعرفه وأبلسا (١)

وقيل : أصله من تراكب الشّيء بعضه على بعض ، ومنه الكرس أبوال الدّوابّ وأبعارها يتلبد بعضها فوق بعض. [وأكرست الدّار : إذا كثرت الأبعار والأبوال فيها ، وتلبّد بعضها فوق بعض](٢) ، وتكارس الشّيء : إذا تركب ومنه الكرّاسة ، لتركب بعض الأوراق على بعض. و «الكرسيّ» هو هذا الشّيء المعروف لتركب خشباته بعضها فوق بعض.

وجمعه كراسيّ كبختيّ وبخاتيّ ، وفيه لغتان : أشهرهما ضمّ كافه ، والثانية كسرها ، وقد يعبّر به عن الملك ؛ لجلوسه عليه ، تسمية للحالّ باسم المحلّ ؛ ومنه : [الرجز]

١١٧٩ ـ قد علم القدّوس مولى القدس

أنّ أبا العبّاس أولى نفس

في معدن الملك القديم الكرسي (٣)

وعن العلم ؛ تسمية للصفة باسم مكان صاحبها ؛ ومنه قيل للعلماء : «الكراسيّ» ؛ قال القائل : [الطويل]

١١٨٠ ـ يحفّ بهم بيض الوجوه وعصبة

كراسيّ بالأحداث حين تنوب (٤)

وصفهم بأنهم عالمون بحوادث الأمور ، ونوازلها ؛ ويعبّر به عن السّرّ ؛ قال : [البسيط]

١١٨١ ـ ما لي بأمرك كرسيّ أكاتمه

ولا بكرسيّ ـ علم الله ـ مخلوق (٥)

وقيل : الكرسيّ لكلّ شيء : أصله.

فصل في حقيقة «الكرسيّ»

واختلفوا فيه على أربعة أقوال :

__________________

(١) تقدم.

(٢) سقط في ب.

(٣) البيتان للعجاج ينظر ديوانه ٢ / ٢١٧ ، البحر ٢ / ٢٨٩ ، الطبري ٥ / ٤٠٣ ، اللسان : كرس ، الدر المصون ١ / ٦١٥.

(٤) ينظر الطبري ٥ / ٤٠٢ ، القرطبي ٣ / ٢٧٧ ، البحر ٢ / ٢٩٠ ، الدر المصون ١ / ٦١٥.

(٥) ينظر : البحر ٢ / ٢٩٠ ، الدر المصون ١ / ٦١٥.

٣٢٢

أحدها : أنّه جسم عظيم يسع السّموات ، والأرض قال الحسن : هو العرش نفسه (١).

وقال أبو هريرة : الكرسيّ : موضوع أمام العرش (٢) ومعنى قوله : (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) أي : سعته مثل سعة السّموات والأرض.

وقال السّدّيّ : إنّه دون العرش ، وفوق السّماء السّابعة (٣) ، وفي الأخبار أن السموات والأرض في جنب الكرسيّ كحلقة في فلاة (٤) ، والكرسي في جنب العرش كحلقة في فلاة.

وأمّا ما روي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال : الكرسيّ : موضع القدمين (٥) فمن البعيد أن يقول ابن عباس هو موضع القدمين لأن الله سبحانه وتعالى منزه عن الجوارح.

وثانيها : أنّ «الكرسي» هو السّلطان ، والقدرة ، والملك.

ثالثها : هو العلم ، لأنّ العلم هو الأمر المعتمد عليه «والكرسيّ» هو الشّيء الذي يعتمد عليه ، وقد تقدّم هذا.

ورابعها : ما اختاره القفّال (٦) وهو : أنّ المقصود من هذا الكلام تصوير عظمة الله وكبريائه ؛ لأنّه خاطب الخلق في تعريف ذاته ، وصفاته بما اعتادوه في ملوكهم ، وعظمائهم كما جعل الكعبة بيتا له يطوف النّاس به كما يطوفون ببيوت ملوكهم ، وأمر النّاس بزيارته ، كما يزورون بيوت ملوكهم (٧).

وذكر في الحجر الأسود «أنّه يمين الله في أرضه» (٨) وجعله موضوعا للتقبيل كما

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٥ / ٣٩٩) عن الحسن وذكره السيوطي في «الدر المنثور» وعزاه لابن جرير وحده.

(٢) ينظر : تفسير البغوي ١ / ٢٣٩.

(٣) أخرجه ابن أبي حاتم عن السدي كما في «الدر المنثور» (١ / ٥٨١).

(٤) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ٥٨١) وعزاه لسعيد بن منصور وعبد بن حميد وأبي الشيخ عن مجاهد.

(٥) أخرجه الحاكم (٢ / ٢٨٢) عن ابن عباس وقال : هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ووافقه الذهبي وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ٥٨٠) وزاد نسبته للفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ والبيهقي في «الأسماء والصفات».

وله شاهد من حديث أبي موسى :

أخرجه الطبري في «تفسيره» (٥ / ٣٩٨) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ٥٨٠) وزاد نسبته لابن المنذر وأبي الشيخ والبيهقي في «الأسماء والصفات».

(٦) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٧ / ١٢.

(٧) سقط في ب.

(٨) أخرجه الخطيب في «تاريخ بغداد» (٦ / ٢٣٨) ، وابن عدي في «الكامل» (٥ / ١٧٨٠) وابن الجوزي في ـ

٣٢٣

يقبل الناس أيضا أيدي ملوكهم ، وكذلك ما ذكر في محاسبة العباد يوم القيامة من حضور الملائكة والنبيين والشّهداء ، ووضع الميزان ، فعلى هذا القياس أثبت لنفسه العرش في قوله : (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) [طه : ٥] ووصف العرش بقوله : «وكان عرشه على الماء» ثم قال : (وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ) [الزمر : ٧٥] ثم قال : (وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ) [الحاقة : ١٧] وقال : (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ) [غافر : ٧] ، وكذلك إثبات الكرسيّ.

وقال ابن الخطيب (١) ـ رحمه‌الله ـ : وهذا جواب مبيّن إلّا أنّ المعتمد هو الأوّل ، وأنّ ترك الظّاهر بغير دليل لا يجوز.

قوله : (وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما) يقال : آده كذا ، أي : أثقله ، ولحقه منه مشقّة ؛ قال القائل : [الطويل]

١١٨٢ ـ ألا ما لسلمى اليوم بتّ جديدها

وضنّت وما كان النّوال يؤودها (٢)

أي : يثقلها ، ومنه الموءودة للبنت تدفن حيّة ، لأنّهم يثقلونها بالتّراب. وقرئ (٣) : «يوده» بحذف الهمزة ، كما تحذف همزة «أناس» ، وقرئ «يووده» بإبدال الهمزة واوا.

و «حفظ» : مصدر مضاف لمفعوله ، أي : لا يئوده أن يحفظهما.

و «العليّ» أصله : «عليو» ، فأدغم ؛ نحو : ميّت ؛ لأنّه من علا يعلو ؛ قال القائل في ذلك البيت : [الطويل]

١١٨٣ ـ فلمّا علونا واستوينا عليهم

تركناهم صرعى لنسر وكاسر (٤)

فصل في المراد بالعلو

والمراد بالعلو علو القدر والمنزلة لا علو المكان لأن الله سبحانه وتعالى منزه عن التحيز والعلي والعالي القاهر الغالب للأشياء تقول العرب : علا فلان فلانا أي غلبه وقهره ؛ قال الشاعر: [الطويل]

__________________

ـ «العلل» (٢ / ٥٧٥) بلفظ الحجر الأسود يمين الله في الأرض يصافح بها عباده. وقال ابن الجوزي هذا حديث لا يصح ، وإسحاق بن بشر ـ أحد رواة الحديث ـ قد كذبه أبو بكر بن أبي شيبة وغيره وقال الدارقطني هو في عداد من يضع الحديث.

(١) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٧ / ١٢.

(٢) ينظر : البحر المحيط ٢ / ٢٨١ ، الدر المصون ١ / ٦١٥.

(٣) انظر : البحر المحيط ٢ / ٢٩٠ ، والدر المصون ١ / ٦١٥ ، وقال ابن عطية ١ / ٣٤٢ : وروي عن الزهري وأبي جعفر والأعرج بخلاف عنهم تخفيف الهمزة التي على الواو الأولى ، وجعلوها بين بين لا تخلص واوا مضمومة ولا همزة محققة كما قيل في لؤم : لوم.

(٤) تقدم برقم ٣٤٧.

٣٢٤

١١٨٤ ـ فلمّا علونا ...

 .......... (١)

البيت المتقدّم ، وقال تعالى : (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ) [القصص : ٤].

قال ابن الخطيب (٢) : لو كان علوّه بالمكان لكان متناهيا ؛ فإنّ الجزء المفروض فوقه ، أعلى منه ، فلا يكون عليّا مطلقا ، وإن كان غير متناه ، وقد دلّت البراهين اليقينيّة على استحالة بعد غير متناه.

وأيضا فلو فرضنا في ذلك نقطا (٣) غير متناهية ، فإن لم يحصل فوق تلك النّقط نقطة (٤) أخرى ، وكانت تلك النّقطة طرفا (٥) لذلك البعد ، فيكون متناهيا ، وإن لم يوجد في ذلك البعد سفلا فلا يكون فيها ما هو فوق على الإطلاق ، وذلك ينفي حصول العلوّ المطلق ، ولأنّ العالم كرة ، فكل علوّ بالنسبة إلى أحد وجهي الأرض هو سفل بالنسبة للوجه الثاني ، فينقلب العلوّ سفلا ، ولأن لو كان علّوه بالمكان ، لكان حصول العلوّ للمكان بالذّات ، والله تعالى بالعرض (٦) وما بالذات أشرف منها بالعرض ، فيكون علوّ المكان أشرف من علوّه سبحانه ، وذلك باطل.

و «العظيم» تقدّم معناه ، وقيل : هو هنا بمعنى المعظّم ؛ كما قالوا : «عتيق» بمعنى : معتّق ؛ قال القائل : [الخفيف]

١١٨٥ ـ فكأنّ الخمر العتيق من الإس

فنط ممزوجة بماء زلال (٧)

قيل : وأنكر ذلك لانتفاء هذا الوصف. وقيل في الجواب عنه : إنّه صفة فعل ، كالخلق ، والرّزق ، والأوّل أصحّ.

قال الزّمخشريّ : «فإن قلت : كيف ترتّبت الجمل في آية الكرسيّ من غير حرف عطف؟ قلت : ما منها جملة إلّا وهي واردة على البيان لما ترتّبت عليه ، والبيان متّحد بالمبيّن ، فلو توسّط بينهما عاطف لكان كما تقول العرب : «بين العصا ولحائها» فالأولى بيان لقيامه بتدبير الخلق وكونه مهيمنا عليه غير ساه عنه ، والثانية لكونه مالكا لما يدبّره ، والثالثة لكبرياء شأنه ، والرابعة لإحاطته بأحوال الخلق وعلمه بالمرتضى منهم ، المستوجب للشّفاعة وغير المرتضى ، والخامسة لسعة علمه ، وتعلّقه بالمعلومات كلّها ، أو لجلاله وعظم قدرته» انتهى. يعني غالب الجمل وإلّا فبعض الجمل فيها معطوفة وهي قوله : (وَلا يُحِيطُونَ) ، وقوله (وَلا يَؤُدُهُ) وقوله (وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ).

__________________

(١) تقدم برقم ٣٤٧ ، ١١٨٣.

(٢) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٧ / ١٢.

(٣) في ب : لفظا.

(٤) في ب : اليقطة يقظة.

(٥) في ب : اليقظة ظرفا.

(٦) في ب : بالغرض.

(٧) البيت للأعشى ينظر : ديوانه (٥) ، الطبري ٣ / ١٤ ، البحر ٢ / ٢٩١ ، الدر المصون ١ / ٦١٦.

٣٢٥

فصل في فضل هذه الآية

في فضل هذه الآية الكريمة روي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «ما قرئت هذه الآية في دار إلّا اهتجرها الشّيطان ثلاثين يوما ، ولا يدخلها ساحر ولا ساحرة أربعين ليلة» (١).

وعن عليّ ـ رضي الله عنه ـ قال : سمعت نبيّكم على أعواد المنبر وهو يقول : «من قرأ آية الكرسيّ في دبر كلّ صلاة مكتوبة ، لم يمنعه من دخول الجنّة إلّا الموت ، ولا يواظب عليها إلّا صدّيق ، أو عابد ، ومن قرأها إذا أخذ مضجعه ؛ أمّنه الله على نفسه وجاره ، وجار جاره ، والأبيات التي حوله» (٢).

وتذاكر الصّحابة أفضل ما في القرآن ، فقال لهم عليّ : أين أنتم من آية الكرسيّ قال قال لي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يا عليّ سيّد البشر آدم ، وسيّد العرب محمّد ، ولا فخر ، وسيّد الكلام القرآن ، وسيّد القرآن البقرة وسيّد البقرة آية الكرسيّ» (٣) وعن أبيّ بن كعب قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يا أبا المنذر ؛ أيّ آية في كتاب الله أعظم»؟ قلت : الله لا إله إلّا هو الحيّ القيّوم ، قال : فضرب صدري ثم قال : «ليهنك العلم يا أبا المنذر» ثم قال : «والّذي نفس محمّد بيده إنّ لهذه الآية لسانا وشفتين تقدّس الملك عند ساق العرش» (٤).

وعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال : وكلني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بحفظ زكاة رمضان فأتاني آت ، فجعل يحثو من الطّعام ، فأخذته فقلت : لأرفعنك إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : [إنّي محتاج ، ولي عيال ، ولي حاجة شديدة قال : فخلّيت عنه ، فأصبحت فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم](٥) «يا أبا هريرة ما فعل أسيرك البارحة» ؛ قلت يا رسول الله ؛ شكا حاجة شديدة ، وعيالا ؛ فرحمته ، فخلّيت سبيله. قال : «أما إنّه قد كذبك وسيعود» فعرفت أنه سيعود ، بقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فرصدته ، فجاء يحثو من الطّعام ، فأخذته فقلت لأرفعنك إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : دعني فإنّي محتاج ولي عيال ولا أعود فرحمته فخليت سبيله ، فأصبحت فقال لي النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «يا أبا هريرة ما فعل أسيرك البارحة» قلت : يا رسول الله شكا حاجة ،

__________________

(١) ذكره الفخر الرازي في «التفسير الكبير» (٧ / ٣).

(٢) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ٥٧٤) وعزاه للبيهقي في «شعب الإيمان» وذكره ابن عراق في «تنزيه الشريعة» (١ / ٢٨٨).

(٣) ذكره الحافظ ابن حجر في «تخريج الكشاف» (١ / ٣٠٣) وقال لم أجده.

(٤) أخرجه أحمد (٥ / ٨٥) وأبو الشيخ وابن الضريس والروياني كما في «كنز العمال» (٤٠٦٣).

وذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (٦ / ٣٢٤) وقال : رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح وهو في الصحيح باختصار.

(٥) سقط في ب.

٣٢٦

وعيالا فرحمته ، وخلّيت سبيله قال : «أمّا إنّه قد كذبك ، وسيعود» فعرفت أنه سيعود ؛ لقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنه سيعود فرصدته الثالثة : فجاء يحثو من الطّعام ؛ فأخذته ، فقلت لأرفعنّك إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهذا آخر ثلاث مرات أنّك تزعم ألّا تعود ، ثم تعود قال : دعني أعلّمك كلمات ، ينفعك الله بها ، قلت : ما هي قال : إذا أويت إلى فراشك ، فاقرأ آية الكرسيّ (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) حتى تختم الآية ، فإنّك لن يزال عليك من الله حافظ ، ولا يقربك شيطان ، حتّى تصبح ، فخلّيت سبيله فأصبحت ، فقال لي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ما فعلت بأسيرك البارحة؟ قلت : يا رسول الله ـ عليك الصّلاة والسّلام ـ زعم أنّه يعلمني كلمات ينفعني الله بها ، فخلّيت سبيله ـ قال : ما هي قلت : قال لي إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسيّ من أولها ، حتى تتمّ الآية ، وقال لي لا يزال عليك من الله حافظ ، ولا يقربك شيطان ، حتى تصبح ، وكانوا أحرص شيء على الخير ، فقال النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أما إنّه قد صدقك ، وهو كذوب ، تعلم من تخاطب منذ ثلاث ليال يا أبا هريرة؟» قلت : لا ، قال : «ذلك شيطان» (١).

قوله تعالى : (لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى لا انْفِصامَ لَها وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)(٢٥٦)

قوله تعالى : (لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ) : كقوله : (لا رَيْبَ فِيهِ) [البقرة : ٢] وقد تقدّم. وأل في «الدّين» للعهد ، وقيل : عوض من الإضافة أي «في دين الله» لقوله تعالى (فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى) ، أي : تأوي.

والجمهور على إدغام دال «قد» في تاء «تبيّن» ؛ لأنّها من مخرجها.

والرّشد : مصدر رشد بفتح العين يرشد بضمّها ، ومعناه في اللّغة ، إصابة الخير. وقرأ (٢) الحسن «الرّشد» بضمتين كالعنق ، فيجوز أن يكون هذا أصله ، ويجوز أن يكون إتباعا ، وهي مسألة خلاف أعني ضمّ عين الفعل. وقرأ (٣) أبو عبد الرحمن الرّشد بفتح الفاء والعين ، وهو مصدر رشد بكسر العين يرشد بفتحها ، وروي عن أبي عبد الرّحمن أيضا : «الرّشاد» بالألف.

ومعنى الإكراه نسبتهم إلى كراهة الإسلام. قال الزّجّاج : «لا تنسبوا إلى الكراهة من أسلم مكرها» ، يقال : «أكفره» نسبه إلى الكفر ؛ قال : [الطويل]

__________________

(١) أخرجه البخاري (٣ / ٢٠٤) كتاب الوكالة باب إذا وكل رجل ... الخ رقم (٢٣١١) ، (٤ / ٢٥٠) كتاب بدء الخلق باب صفة إبليس وجنوده رقم (٣٢٧٥) ، (٦ / ٣٢٣) كتاب فضائل القرآن باب فضل سورة البقرة رقم (٣٢٧٥).

(٢) انظر : المحرر الوجيز ١ / ٣٤٤ ، البحر المحيط ٢ / ٢٩٢ ، الدر المصون ١ / ٦١٧.

(٣) ونسبها ابن عطية ١ / ٣٤٤ إلى الحسن والشعبي ومجاهد.

٣٢٧

١١٨٦ ـ وطائفة قد أكفروني بحبّهم

وطائفة قالوا مسي ومذنب (١)

قوله «من الغيّ» متعلّق بتبيّن ، و «من» للفصل ، والتمييز كقولك : ميّزت هذا من ذاك. وقال أبو البقاء (٢) : «في موضع نصب على أنّه مفعول» وليس بظاهر ؛ لأنّ معنى كونه مفعولا به غير لائق بهذا المحلّ. ولا محلّ لهذه الجملة من الإعراب ؛ لأنّها استئناف جار مجرى التّعليل لعدم الإكراه في الدين.

والتّبيين : الظهور والوضوح ، بان الشّيء ، واستبان ، وتبّين : إذا ظهر ووضح ومنه المثل : تبيّن الصّبح لذي عينين.

قال ابن الخطيب : وعندي أنّ الإيضاح ، والتعريف ، إنّما سمّي بيانا ؛ لأنّه يوقع الفصلة ، والبينونة بين المقصود وغيره.

والغيّ : مصدر غوى بفتح العين قال : (فَغَوى) [طه : ١٢١] ، ويقال : «غوى الفصيل» إذا بشم ، وإذا جاع أيضا ، فهو من الأضداد. وأصل الغيّ : «غوي» فاجتمعت الياء والواو ، فأدغمت نحو : ميّت وبابه.

والغيّ : نقيض الرّشد : يقال : غوى يغوي ، غيّا ، وغواية إذا سلك خلاف طريق الرّشد.

فصل في معنى «الدّين» في الآية

قال القرطبيّ (٣) : المراد «بالدّين» في هذه الآية الكريمة المعتقد ، والملة بدليل قوله (قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ).

قال سعيد بن جبير عن ابن عبّاس : كانت المرأة من الأنصار تكون مقلاة ، لا يعيش لها ولد ، فكانت تنذر لئن عاش لها ولد لتهودنّه فإذا عاش ولدها جعلته في اليهوديّة. فلمّا جاء الإسلام ، وفيهم منهم ، فلما أجليت بنو النضير كان فيهم عدد من أولاد الأنصار ، فأرادت الأنصار استردادهم ، وقالوا : أبناؤنا وإخواننا ، فنزلت (لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ) ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «قد خيّر الله أصحابكم ، فإن اختاروكم فهم منكم ، وإن اختاروهم ، فأجلوهم معهم»(٤).

وقال مجاهد : كان ناس مسترضعين في اليهود من الأوس ، فلما أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بإجلاء بني النّضير قال الذين كانوا مسترضعين فيهم : لنذهبنّ معهم ولندينن بدينهم ،

__________________

(١) البيت للكميت ينظر : البحر ٢ / ٢٩٢ ، الدر المصون ١ / ٦١٦.

(٢) ينظر : الإملاء لأبي البقاء ١ / ١٠٧.

(٣) ينظر : تفسير القرطبي ٣ / ١٨١.

(٤) أخرجه بهذا اللفظ الطبري في «تفسيره» (٥ / ٤٠٨ ـ ٤٠٩) والبيهقي (٩ / ١٨٦) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ٥٨٢) وزاد نسبته لسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر عن سعيد بن جبير.

٣٢٨

فمنعهم أهلوهم وأكرهوهم على الإسلام فنزلت (لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ ...)(١).

وقال مسروق : كان لرجل من الأنصار من بني سالم بن عوف ابنان متنصّران قبل مبعث النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم قدما المدينة في نفر من النّصارى يحملون الطّعام فلزمهما أبوهما ، وقال لا أدعكما حتى تسلما فأبيا أن يسلما فاختصموا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «يا رسول الله أيدخل بعضي النّار وأنا أنظر ، فأنزل الله تعالى (لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ) ، فخلى سبيلهما (٢).

وقال قتادة وعطاء : نزلت في أهل الكتاب إذا قبلوا الجزية ، وذلك أنّ العرب كانت أمّة أمّية لم يكن لهم كتاب ، فلم يقبل منهم إلّا الإسلام ، فلما أسلموا طوعا ، أو كرها ؛ أنزل الله تعالى (لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ) ؛ فأمر بقتال أهل الكتاب إلى أن يسلموا ، أو يقرّوا بالجزية ، فمن أعطى منهم الجزية ، لم يكره على الإسلام (٣).

وقال ابن مسعود كان هذا في ابتداء الإسلام ، قبل أن يؤمر بالقتال ، فصارت منسوخة بآية السّيف (٤). ومعنى (تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ) ، أي : تميّز الحقّ من الباطل ، والإيمان من الكفر ، والهدى من الضّلالة بالحجج والآيات الظّاهرة.

قوله : «بالطّاغوت» متعلّق ب «يكفر» ، والطاغوت بناء مبالغة كالجبروت والملكوت. واختلف فيه ، فقيل : هو مصدر في الأصل ، ولذلك يوحّد ويذكّر ، كسائر المصادر الواقعة على الأعيان ، وهذا مذهب الفارسيّ ، وقيل : هو اسم جنس مفرد ، فلذلك لزم الإفراد والتّذكير ، وهذا مذهب سيبويه (٥) رحمه‌الله. وقيل هو جمع ، وهذا مذهب المبرّد ، وهو مؤنّث لقوله تعالى (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ) [البقرة : ٢٥٧] قال أبو علي الفارسي : وليس الأمر كذلك ، لأن «الطّاغوت» مصدر كالرّغبوت ، والرّهبوت ، والملكوت ، فكما أنّ هذه الأسماء آحاد ، كذلك هذا الاسم مفرد ، وليس بجمع ومما يدلّ على أنّه مصدر مفرد وليس بجمع قوله تبارك وتعالى : (أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ) ، فأفرد في موضع الجمع ، كما يقال هم رضا ، وهم عدل (٦) انتهى. وهو مؤنّث لقوله تعالى (وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها) [الزمر : ١٧].

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٥ / ٤١١) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ٥٨٣) وزاد نسبته لعبد بن حميد وابن المنذر وسعيد بن منصور وابن أبي حاتم عن مجاهد.

(٢) أخرجه عبد بن حميد عن عبد الله بن عبيدة كما في «الدر المنثور» (١ / ٥٨٣).

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٥ / ٤١٣) عن قتادة. وزاد السيوطي نسبته في «الدر المنثور» (١ / ٥٨٣) لعبد بن حميد وأبي داود في ناسخه.

(٤) ذكره البغوي في «تفسيره» (١ / ٢٤٠).

(٥) ينظر : الكتاب لسيبويه ٢ / ٢٢.

(٦) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٧ / ١٤.

٣٢٩

وأجاب من ادّعى التّذكير عن هذا الاستدلال بأنّه إنما أنّث هنا ؛ لإرادة الآلهة وقال آخرون (١) : ويكون مذكرا ، ومؤنثا ، وواحدا وجمعا قال تعالى في المذكر والواحد : (يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ) [النساء : ٦٠] وقال في المؤنث : (وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها) [الزمر : ١٧] وقال في الجمع : (يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ). واشتقاقه من طغى يطغى ، أو من طغا يطغو ، على حسب ما تقدّم أول السورة ، هل هو من ذوات الواو أو من ذوات الياء؟ وعلى كلا التّقديرين ، فأصله طغيوت ، أو طغووت لقولهم : «طغيان» في معناه ، فقلبت الكلمة بأن قدّمت اللّام وأخّرت العين ، فتحرّك حرف العلّة ، وانفتح ما قبله فقلب ألفا ، فوزنه الآن فلعوت ، وقيل : تاؤه ليست زائدة ، وإنّما هي بدل من لام الكلمة ، ووزنه فاعول من الطّغيان كقولهم «حانوت» ، و «تابوت» ، والتاء فيهما مبدلة من «ها» التأنيث.

قال مكي (٢) «وقد يجوز أن يكون أصل لامه واوا ، فيكون أصله طغووتا ؛ لأنه يقال : طغى يطغى ويطغو ، وطغيت وطغوت ، ومثله في القلب والاعتلال ، والوزن : حانوت ؛ لأنّه من حنا يحنو وأصله حنووت ، ثم قلب وأعلّ ، ولا يجوز أن يكون من : حان يحين لقولهم في الجمع حوانيت» انتهى قال شهاب الدين : كأنّه لمّا رأى أنّ الواو قد تبدل تاء كما في تجاه ، وتخمة ، وتراث ، وتكأة ، ادّعى قلب الواو التي هي لام تاء ، وهذا ليس بشيء.

وقدّم ذكر الكفر بالطّاغوت على ذكر الإيمان بالله ـ تعالى ـ اهتماما بوجوب الكفر بالطّاغوت ، وناسبه اتصاله بلفظ «الغيّ».

فصل في المراد بالطاغوت

واختلف في الطّاغوت فقال عمر ، ومجاهد ، وقتادة : هو الشّيطان (٣).

وقال سعيد بن جبير : هو الكاهن (٤). وقال أبو العالية : هو الساحر (٥). وقال بعضهم: الأصنام (٦).

وقيل مردة الجنّ والإنس (٧) ، وكلّ ما يطغى الإنسان (٨).

__________________

(١) ينظر : تفسير البغوي ١ / ٢٤١.

(٢) ينظر : المشكل ١ / ١٠٧.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٥ / ٤١٧) عن عمر ومجاهد وقتادة والشعبي وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ٥٨٤) وزاد نسبته للفريابي وسعيد بن منصور وابن أبي حاتم عن عمر بن الخطاب.

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٥ / ٤١٨) عن سعيد بن جبير وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ٥٨٤) عن عكرمة وعزاه لابن أبي حاتم.

(٥) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٥ / ٤١٧ ـ ٤١٨) عن أبي العالية.

(٦) انظر : تفسير الرازي (٧ / ١٥).

(٧) انظر : المصدر السابق.

(٨) انظر : المصدر السابق.

٣٣٠

وقيل : الطّاغوت هو كلّ ما عبد من دون الله ، وكان راضيا بكونه معبودا ، فعلى هذا يكون الشّيطان والكهنة ، والسّحرة ، وفرعون والنمروذ كلّ واحد منهم طاغوتا ؛ لأنهم راضون بكونهم معبودين وتكون الملائكة ، وعزير ، وعيسى ليسوا بطواغيت ، لأنهم لم يرضوا بأن يكونوا معبودين.

قوله : (وَيُؤْمِنْ بِاللهِ) عطف على الشّرط وقوله (فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى) جواب الشّرط ، وفيه دليل على أنّه لا بدّ للكافر من أن يتوب أوّلا عن الكفر ، ثم يؤمن بعد ذلك.

وفيه دليل على أنّ درء المفاسد مقدّم على جلب المصالح (١) ؛ لأنّه قدّم الكفر بالطّاغوت [على الإيمان بالله اهتماما به فإن قيل الإيمان بالله مستلزم للكفر بالطّاغوت.

قلنا : لا نسلم ، قد يكفر بالطّاغوت](٢) ولا يؤمن بالله واستمسك أي : استمسك واعتصم (بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى) أي العقد الوثيق المحكم في الدّين.

و «العروة» : موضع شدّ الأيدي ، وأصل المادّة يدلّ على التّعلّق ، ومنه : عروته : ألممت به متعلّقا ، واعتراه الهمّ : تعلّق به ، و «الوثقى» : فعلى للتفضيل تأنيث الأوثق ، كفضلى تأنيث الأفضل ، وجمعها على وثق نحو : كبرى وكبر ، فأمّا «وثق» بضمّتين فجمع وثيق. وهذا استعارة المحسوس للمعقول ؛ لأنّ من أراد إمساك هذا الدّين تعلّق بالدلائل وأوضحها الدّالة عليه ، ولما كانت دلائل الإسلام أقوى الدّلائل وأوضحها وصفها الله تبارك وتعالى بأنّها العروة الوثقى.

__________________

(١) القوانين العادلة : هي التي تقوم على رعاية حفظ المصالح ودرء المفاسد ، ولا يختلف علماء الإسلام في أنّ أحكام الشريعة قائمة على رعاية هذين الأصلين ، وإذا كانت المصالح والمفاسد قد تخفى في بعض ما يشرع على أنه عبادة ـ فإن الأحكام المشروعة لغير العبادات من آداب الاجتماع ، ونظم المعاملات ، والجنايات لا تقصر العقول السليمة عن إدراك أسرارها ، ومن الميسور تقريرها على وجه يظهر به فضل الشريعة السماوية على القوانين الوضعية.

يقرر الباحثون عن حكمة التشريع من علمائنا : أن المصالح أربعة أنواع : اللذات وأسبابها ، والأفراح وأسبابها ، وأن المفاسد أربعة أنواع : الآلام وأسبابها ، والغموم وأسبابها ، ويسمون اللذات ، والأفراح بالمصالح الحقيقية ، وأسبابها : المصالح المجازية ؛ كما يسمون الآلام والغموم المفاسد الحقيقية ، وأسبابها المفاسد المجازية ، ويذكرون أن المصالح المحضة كالمفاسد المحضة نادرة الوجود ، وأكثر الوقائع ما تجتمع فيه المصلحة والمفسدة ، فما كان مصلحة محضة ، فحكمه الإذن قطعا. وما كان مفسدة محضة فحكمه النهي بلا مراء ، فأما ما يكون مصلحة من ناحية ومفسدة من ناحية أخرى ، فالشارع الحكيم ينظر إلى الأرجح منهما ، ويفصل الحكم على قدر الأرجحية ، فما رجحت مصلحته على مفسدته ، أذن فيه على وجه الإباحة ، أو الندب ، أو الوجوب ، وما رجحت مفسدته على مصلحته ، نهي عنه على وجه الكراهة أو التحريم.

ينظر : رسائل الإصلاح ٣ / ٢٧ ، ٢٨.

(٢) سقط في ب.

٣٣١

قال مجاهد : «العروة الوثقى» الإيمان (١).

وقال السّدّي : الإسلام (٢).

وقال ابن عباس ، وسعيد بن جبير والضحاك : لا إله إلّا الله (٣).

قوله : (لَا انْفِصامَ لَها) كقوله : (لا رَيْبَ فِيهِ) [البقرة : ٢] والجملة فيها ثلاثة أوجه.

أحدها : أن تكون استئنافا ، فلا محلّ لها حينئذ.

والثاني : أنها حال من العروة ، والعامل فيها «استمسك».

والثالث : أنها حال من الضمير المستتر في «الوثقى». و «لها» في موضع الخبر فتتعلّق بمحذوف ، أي : كائن لها. والانفصام ـ بالفاء ـ القطع من غير بينونة ، والقصم بالقاف قطع ببينونة ، وقد يستعمل ما بالفاء مكان ما بالقاف.

والمقصود من هذا اللّفظ المبالغة ؛ لأنّه إذا لم يكن لها انفصام ، فأن لا يكون لها انقطاع أولى ، ومعنى الآية : بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها ، والعرب تضمر «الّتي» و «الذي» و «من» وتكتفي بصلاتها منها.

قال سلامة بن جندل : [البسيط]

١١٨٧ ـ والعاديات أساليّ الدّماء بها

كأنّ أعناقها أنصاب ترجيب (٤)

يريد والعاديات التي قال تعالى : (وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ) [الصافات : ١٦٤] أي من له.

قوله (وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) فيه قولان :

أحدهما : أنّه تعالى يسمع قول من يتكلم بالشّهادتين ، وقول من يتكلّم بالكفر ، ويعلم ما في قلب المؤمن من الاعتقاد الطاهر ، وما في قلب الكافر من الاعتقاد الخبيث.

الثاني : روى عطاء عن ابن عبّاس رض الله عنهما قال : كان رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ يحب إسلام أهل الكتاب من اليهود الذين كانوا حول المدينة ، وكان يسأل الله ذلك سرّا ، وعلانية ، فمعنى قوله (وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) يريد لدعائك يا محمّد عليم بحرصك واجتهادك (٥).

قوله تعالى : (اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٥ / ٤٢١) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ٥٨٤) وزاد نسبته لسفيان وعبد بن حميد وابن أبي حاتم عن مجاهد.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٥ / ٤٢١) عن السدي.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٥ / ٤٢١) عن سعيد بن جبير والضحاك.

(٤) ينظر : ديوانه (٩٦) ، والرازي ٧ / ١٥.

(٥) ذكره الفخر الرازي في «التفسير الكبير» (٧ / ١٥) من طريق عطاء عن ابن عباس.

٣٣٢

كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ)(٢٥٧)

«الوليّ» فعيل بمعنى : فاعل من قولهم : ولي فلان الشّيء يليه ولاية ، فهو وال وولى ، وأصله من الولي الّذي هو القرب ؛ قال الهذليّ : [الكامل]

١١٨٨ ـ ..........

وعدت عواد دون وليك تشعب (١)

ومنه يقال داري تلي دارها ، أي : تقرب منها ومنه يقال للمحبّ المقارب ولي ؛ لأنّه يقرب منك بالمحبّة والنّصرة ، ولا يفارقك ، ومنه الوالي ؛ لأنّه يلي القوم بالتّدبير والأمر والنّهي ، ومنه المولى ، ومن ثمّ قالوا في خلاف الولاية : العداوة من عدا الشّيء : إذا جاوزه ، فلأجل هذا كانت العداوة خلاف الولاية ومعنى قوله تبارك وتعالى : (اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا) ، أي : ناصرهم ومعينهم ، وقيل : محبهم.

وقيل : متولي أمورهم لا يكلهم إلى غيره.

وقال الحسن : ولي هدايتهم.

قوله : (يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) ، أي : من الكفر إلى الإيمان.

قال الواقدي (٢) : كلّ ما في القرآن من الظلمات ، والنور فالمراد منه : الكفر والإيمان غير التي في سورة الأنعام (وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ) [الأنعام : ١] فالمراد منه اللّيل والنّهار ، سمي الكفر ظلمة لالتباس طريقه ، وسمي الإسلام نورا ، لوضوح طريقه.

وقال أبو العبّاس المقرئ «الظّلمات» على خمسة أوجه :

الأول : «الظّلمات» الكفر كهذه الآية الكريمة.

الثاني : ظلمة اللّيل قال تعالى : (وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ) يعني اللّيل والنهار.

الثالث : الظّلمات ظلمات البر والبحر والأهوال قال تعالى : (قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) أي من أهوالهما.

الرابع «الظّلمات» بطون الأمّهات ، قال تعالى : (فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ) [الزمر : ٦] يعني المشيمة والرحم والبطن.

الخامس : بطن الحوت قال تعالى : (فَنادى فِي الظُّلُماتِ) [الأنبياء : ٢١] أي في بطن الحوت.

__________________

(١) عجز بيت لساعدة بن جؤية وصدره :

هجرت غضوب وحب من يتغضب

ينظر ديوان الهذليين ١ / ١٦٧ ، الأشباه والنظائر ٦ / ٢١ ، ولسان العرب (شعب) ، خزانة الأدب ٩ / ٤٢٩ ، شرح المفصل (١٣٨) ، تذكرة النحاة ص ٥٩٩.

(٢) ينظر : تفسير البغوي ١ / ٢٤١.

٣٣٣

فصل في سبب النّزول

ظاهر الآية يقتضي أنهم كانوا في الكفر ، ثم أخرجهم الله تعالى من ذلك الكفر إلى الإيمان ، وهاهنا قولان :

الأول : أنّ هذه الآية مختصّة بمن كان كافرا ، ثم أسلم ، وذكر في سبب النّزول روايات :

أحدها : قال مجاهد : نزلت هذه الآية في قوم آمنوا بعيسى ، وقوم كفروا به ، فلما بعث الله سبحانه وتعالى محمدا ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ آمن به من كفر بعيسى وكفر به من آمن بعيسى (١).

وثانيتها : أنها نزلت في قوم آمنوا بعيسى ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ على طريقة النّصارى ، ثم آمنوا بعده بمحمد ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ فقد كان إيمانهم بعيسى حين آمنوا به كفرا ، وظلمة ، لأنّ القول بالاتّحاد كفر بالله تعالى ، أخرجهم من تلك الظّلمات إلى نور الإسلام (٢).

وثالثتها : أنها نزلت في كلّ كافر أسلم وآمن بمحمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ (٣).

القول الثاني : أن يحمل اللّفظ على كلّ من آمن بمحمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ سواء كان ذلك الإيمان بعد كفر ، أو لم يكن ؛ لأنه إخراج من ظلمات الكفر إلى نور الإسلام ؛ لقوله تعالى : (وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها) [آل عمران : ١٠٣] ومعلوم أنهم ما كانوا في النار ألبتّة ، وقال في قصّة يوسف عليه الصّلاة والسّلام (إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ) [يوسف : ٣٧] ولم يكن فيها قطّ ، وسمع النّبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ إنسانا يقول : أشهد ألا إله إلا الله ، فقال : «على الفطرة» ، فلما قال : أشهد أنّ محمدا رسول الله قال : «خرج من النّار» (٤) ، ومعلوم أنه ما كان فيها.

روي أنه عليه‌السلام أقبل على أصحابه ، فقال «تتهافتون في النّار تهافت الجراد ، وها أنا آخذ بحجزكم» (٥) ومعلوم أنّهم ما كانوا متهافتين في النّار.

فصل

استدلّ بعض العلماء بهذه الآية على أنّ الغاية تدخل في المغيّا. لقوله تعالى على لسانه

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٥ / ٤٢٦).

(٢) انظر : «التفسير الكبير» للفخر الرازي (٧ / ١٨).

(٣) ينظر : المصدر السابق.

(٤) أخرجه أحمد (١ / ٤٠٧) والطبراني في «الكبير» (١٠ / ١١٥) والطحاوي في «شرح معاني الآثار» (١ / ١٤٦) والخطيب (٨ / ٢٢٠).

(٥) انظر : تفسير الفخر الرازي (٧ / ١٨).

٣٣٤

ـ عليه الصلاة والسلام ـ : (يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) فلو لم يدخلون في النّور لم يخرجهم من الظّلمات إلى النّور ، ولو لم تدخل الغاية في المغيّا ، لما أدخلوهم في النّور.

فصل

فإن قيل : هذه الآية صريحة في أنّ الله سبحانه وتعالى هو الّذي أخرج الإنسان من الكفر ، وأدخله في الإيمان ، فيلزم أن يكون الإيمان بخلق الله تعالى ؛ لأنّه لو حصل بخلق العبد ، لكان العبد هو الذي أخرج نفسه من الكفر إلى الإيمان وذلك يناقض صريح الآية (١).

أجاب المعتزلة بأنّ هذا محمول على نصب الأدّلة وإرسال الأنبياء ، وإنزال الكتب ، والتّرغيب في الإيمان ، والتّحذير عن الكفر بأقصى الوجوه :

قال القاضي (٢) : وقد نسب الله الإضلال إلى الصّنم بقوله تعالى : (رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ) [إبراهيم : ٣٦] ، لأجل أنّ الأصنام سبب بوجه ما لضلالهم ، فبأن يضاف الإخراج من الظّلمات إلى النّور إلى الله تعالى مع قوّة الأسباب التي فعلها بمن يؤمن أولى.

والجواب : من وجهين :

أحدهما : أنّ هذا حمل للّفظ على خلاف حقيقته.

الثاني : أنّ هذه التّرغيبات إن كانت مؤثرة في ترجيح الدّاعية ، صار الرّاجح واجبا والمرجوح ممتنعا ، وحينئذ يبطل قولهم ، وإن لم تؤثر في التّرجيح لم يصحّ تسميتها بالإخراج.

قوله تعالى : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ) : «الذين» مبتدأ أول ، وأولياؤهم مبتدأ ثان ، والطّاغوت : خبره ، والجملة خبر الأوّل. وقرأ (٣) الحسن «الطّواغيت» بالجمع ، وإن كان أصله مصدرا ؛ لأنه لمّا أطلق على المعبود من دون الله اختلفت أنواعه ، ويؤيّد ذلك عود الضمير مجموعا من قوله : «يخرجونهم».

قوله : «يخرجونهم» هذه الجملة وما قبلها من قوله : «يخرجهم» الأحسن ألّا يكون لها محلّ من الإعراب ، لأنّهما خرجا مخرج التفسير للولاية ، ويجوز أن يكون «يخرجهم» خبرا ثانيا لقوله : «الله» وأن يكون حالا من الضّمير في «وليّ» ، وكذلك «يخرجونهم» والعامل في الحال ما في معنى الطّاغوت ، وهذا نظير ما قاله الفارسيّ في قوله تعالى : (نَزَّاعَةً لِلشَّوى) [المعارج : ١٦] إنها حال العامل فيها «لظى» وسيأتي تحقيقه إن شاء الله تعالى و «من» [و] «إلى» متعلّقان بفعلي الإخراج.

__________________

(١) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٧ / ١٧.

(٢) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٧ / ١٧.

(٣) انظر : المحرر الوجيز ١ / ٣٤٥ ، والبحر المحيط ٢ / ٢٩٤ ، والدر المصون ١ / ٦١٨.

٣٣٥

فإن قيل كيف قال (يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ) وهم كفار لم يكونوا في نور قطّ.

فالجواب هم اليهود كانوا مؤمنين بمحمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ قبل أن يبعث لما يجدون في كتبهم من نعته ، فلما بعث كفروا به.

وقال مقاتل : يعني كعب بن الأشرف وحيي بن أخطب ، وسائر رؤوس الضلالة ؛ «يخرجونهم» يدعونهم.

وقيل هو على العموم في حقّ جميع الكفّار ، وقالوا : منعهم إياهم من الدخول فيه إخراج ، كما يقول الرّجل لأبيه أخرجتني من مالك ، ولم يكن فيه ، ولما قدّمنا في التي قبلها.

فصل في دفع شبهة للمعتزلة

احتجت المعتزلة (١) بهذه الآية الكريمة على أنّ الكفر ليس من الله تعالى ، قالوا : لأنه تعالى أضافه إلى الطّاغوت لا إلى نفسه.

وأجيبوا بأنّ إسناد هذا إلى الطّاغوت مجاز بالاتفاق بيننا وبينكم ؛ لأن المراد ب «الطّاغوت» على أظهر الأقوال هو الصّنم ، وإذا كانت هذه الإضافة مجازية بالاتفاق ، خرجت عن أن تكون حجة لكم.

قوله : (أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) يحتمل أن يرجع ذلك إلى الكفّار فقط ويحتمل أن يرجع إلى الكفّار والطّواغيت معا.

قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتاهُ اللهُ الْمُلْكَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)(٢٥٨)

تقدّم الكلام في (أَلَمْ تَرَ إِلَى) في قوله : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ) [البقرة : ٢٤٣] قال القرطبيّ (٢) : وهذه ألف التوقيف ، وفي الكلام معنى التّعجب ، أي : اعجبوا له قال الفرّاء (٣) : «ألم تر» ، بمعنى : هل رأيت الّذي حاجّ إبراهيم ، وهل رأيت الّذي مرّ على قرية؟

وقرأ عليّ (٤) رضي الله عنه : بسكون الرّاء وتقدّم أيضا توجيهها. والهاء في «ربّه» فيها قولان :

أظهرهما : أنها تعود على «إبراهيم».

__________________

(١) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٧ / ١٨.

(٢) ينظر : تفسير القرطبي ٣ / ١٨٤.

(٣) ينظر : المصدر السابق.

(٤) انظر : المحرر الوجيز ١ / ٣٤٥ ، البحر المحيط ٢ / ٢٩٧ ، الدر المصون ١ / ٦١٨.

٣٣٦

والثاني : على «الّذي» ، ومعنى حاجّه : أظهر المغالبة في حجته.

فصل

أعلم أنّه تعالى ذكر هاهنا قصصا ثلاثا.

الأولى : في بيان إثبات العالم بالصّانع ، والثانية والثالثة : في إثبات الحشر والنّشر والبعث.

فالأولى مناظرة إبراهيم ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ مع ملك زمانه ، وهي هذه.

قال مجاهد هو النّمروذ بن كنعان بن سام بن نوح ، هو أول من وضع التّاج على رأسه ، وتجبر وادّعى الرّبوبيّة (١) ؛ حاجّ إبراهيم أي : خاصمه وجادله ، واختلفوا في وقت هذه المحاجّة. فقال مقاتل : لمّا كسّر الأصنام سجنه النمروذ ، ثم أخرجه ليحرقه فقال [له] : من ربّك الذي تدعونا إليه ؛ فقال : «ربّي الّذي يحيي ويميت».

وقال آخرون : كان هذا بعد إلقائه في النّار (٢).

وقال قتادة : هو أوّل من تجبّر ، وهو صاحب الصّرح ببابل (٣).

وقيل هو نمروذ بن فالج بن عابر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام ، وحكى السّهيليّ أنه النّمروذ بن كوش بن كنعان بن حام بن نوح ، وكان ملكا على السّواد ، وكان ملكه الضحاك الّذي يعرف بالأزدهاق وذلك أن النّاس قحطوا على عهد نمروذ ، وكان النّاس يمتارون من عنده الطّعام ، وكان إذا أتاه الرّجل في طلب الطّعام سأل : من ربّك فإن قال : أنت ؛ نال من الطعام فأتاه إبراهيم فيمن أتاه ، فقال له نمروذ : من ربّك ؛ فقال له إبراهيم : ربيّ الّذي يحيي ويميت. فاشتغل بالمحاجّة ، ولم يعطه شيئا ، فرجع إبراهيم عليه الصلاة والسلام فمر على كثيب من رمل أعفر ، فأخذ منه تطييبا لقلوب أهله إذا دخل عليهم ؛ فلما أتى أهله ، ووضع متاعه نام فقامت امرأته إلى متاعه ، ففتحته فإذا هو بأجود طعام رأته ؛ فصنعت له منه فقربته إليه ، فقال من أين هذا؟ قالت من الطّعام الّذي جئت به ، فعرف أن الله ـ تعالى ـ رزقه فحمد الله تعالى (٤).

قوله : (أَنْ آتاهُ اللهُ) فيه وجهان :

أظهرهما : أنّه مفعول من أجله على حذف العلّة ، أي : لأن آتاه ، فحينئذ في محلّ «أن» الوجهان المشهوران ، أعني النّصب ، أو الجرّ ، ولا بدّ من تقدير حرف الجرّ قبل

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٥ / ٤٣٠) عن مجاهد.

(٢) ينظر : تفسير البغوي ١ / ٢٤١.

(٣) ذكر هذه الأقوال الفخر الرازي في «تفسيره» (٧ / ٢٠).

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٥ / ٤٣٣) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ٥٨٦) وزاد نسبته لعبد الرزاق وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ في «العظمة» عن زيد بن أسلم.

٣٣٧

«أن» ؛ لأنّ المفعول من أجله هنا نقّص شرطا ، وهو عدم اتّحاد الفاعل ، وإنما حذفت اللام ، لأنّ حرف الجرّ يطّرد حذفه معها ، ومع أنّ ، كما تقدّم. وفي كونه مفعولا من أجله وجهان :

أحدهما : أنّه من باب العكس في الكلام بمعنى : أنه وضع المحاجّة موضع الشّكر ، إذ كان من حقّه أن يشكر في مقابلة إتيان الملك ، ولكنّه عمل على عكس القضية ، كقوله تعالى : (وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ) [الواقعة : ٨٢] ، وتقول : «عاداني فلان ؛ لأني أحسنت إليه» وهو باب بليغ.

والثاني : أنّ إيتاء الملك حمله على ذلك ؛ لأنّه أورثه الكبر والبطر ، فنشأ عنهما المحاجّة.

الوجه الثاني : أنّ «أن» ، وما في حيّزها واقعة موقع ظرف الزّمان ، قال الزّمخشريّ رحمه‌الله «ويجوز أن يكون التّقدير : حاجّ وقت أن آتاه الله». وهذا الذي أجازه الزمخشريّ فيه نظر ؛ لأنّه إن عنى أنّ ذلك على حذف مضاف ففيه بعد من جهة أنّ المحاجّة لم تقع وقت إيتاء الله له الملك ، إلّا أن يتجوّز في الوقت ، فلا يحمل على الظّاهر ، وهو أنّ المحاجّة وقعت ابتداء إيتاء الملك ، بل يحمل على أنّ المحاجّة وقعت وقت وجود الملك ، وإن عنى أنّ «أن» وما حيّزها واقعة موقع الظّرف ، فقد نصّ النّحويون على منع ذلك وقالوا : لا ينوب عن الظّرف الزّماني إلا المصدر الصّريح ، نحو : «أتيتك صياح الدّيك» ولو قلت : «أن يصيح الدّيك» لم يجز. كذا قاله أبو حيّان قال شهاب الدين وفيه نظر ، لأنه قال : «لا ينوب عن الظّرف إلا المصدر الصّريح» ، وهذا معارض بأنهم نصّوا على أنّ «ما» المصدرية تنوب عن الزّمان ، وليست بمصدر صريح.

والضمير في «آتاه» فيه وجهان :

أظهرهما : أن يعود على «الّذي» ، وهو قول جمهور المفسرين وأجاز المهدويّ أن يعود على «إبراهيم» ، أي : ملك النّبوّة. قال ابن عطيّة : «هذا تحامل من التّأويل» ، وقال أبو حيان : هذا قول المعتزلة ، قالوا : لأنّ الله تعالى قال : (لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) [البقرة : ١٢٤] والملك عهد ، ولقوله تبارك وتعالى : (فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً) [النساء : ٥٤]. وعود الضّمير إلى أقرب مذكور واجب ، وأقرب مذكور إبراهيم ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ وأجيب عن الأوّل بأنّ الملك حصل لآل إبراهيم ، وليس فيها دلالة على حصوله لإبراهيم ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ.

وعن الثاني : بأن الذي حاج إبراهيم كان هو الملك ، فعود الضّمير إليه أولى.

قوله : «إذ قال» فيه أربعة أوجه :

أظهرها : أنّه معمول لحاجّ.

٣٣٨

والثاني : أن يكون معمولا لآتاه ، ذكره أبو البقاء. (١) وفيه نظر من حيث إنّ وقت إيتاء الملك ليس وقت قول إبراهيم : «ربّي الّذي يحيي ويميت» ، إلّا أن يتجوّز في الظّرف كما تقدّم.

والثالث : أن يكون بدلا من (أَنْ آتاهُ اللهُ الْمُلْكَ) إذا جعل بمعنى الوقت ، أجازه الزّمخشريّ بناء منه على أنّ «أن» واقعة موقع الظّرف ، وقد تقدّم ضعفه ، وأيضا فإنّ الظّرفين مختلفان ، كما تقدّم إلا بالتّجوز المذكور. وقال أبو البقاء (٢) رحمه‌الله «وذكر بعضهم أنه بدل من (أَنْ آتاهُ الْمُلْكَ) وليس بشيء ؛ لأنّ الظرف غير المصدر ، فلو كان بدلا لكان غلطا إلا أن تجعل «إذ» بمعنى «أن» المصدرية ، وقد جاء ذلك» انتهى. وهذا بناء منه على أنّ «أن» مفعول من أجله ، وليست واقعة موقع الظّرف ، أمّا إذا كانت «أن» واقعة موقع الظرف فلا تكون بدل غلط ، بل بدل كلّ من كلّ ، كما هو قول الزمخشري وفيه ما تقدّم بجوابه ، مع أنّه يجوز أن تكون بدلا من «أن آتاه» ، و «أن آتاه» مصدر مفعول من أجله بدل اشتمال ؛ لأنّ وقت القول لاتّساعه مشتمل عليه وعلى غيره.

الرابع : أنّ العامل فيه «تر» من قوله : «ألم تر» ذكره مكيّ (٣) رحمه‌الله تعالى ، وهذا ليس بشيء ؛ لأنّ الرّؤية على كلا المذكورين في نظيرها لم تكن في وقت قوله : (رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ).

قوله : (الَّذِي يُحْيِي) مبتدأ في محلّ نصب بالقول.

فصل

الظّاهر أن هذا جواب سؤال سابق غير مذكور ؛ لأنّ الأنبياء بعثوا للدّعوة ومتى ادّعى الرسالة والدّعوة ، فلا بدّ وأن يطالبه المنكر بإثبات أنّ للعالم إلها ؛ ألا ترى لما قال موسى ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ (إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ) [الشعراء : ١٦] (قالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ) [الشعراء : ٢٣] فاحتّج موسى على إثبات الإله بقوله (رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [الشعراء : ٢٤] فكذا هاهنا لما ادّعى إبراهيم ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ الرّسالة قال النّمروذ من ربك؟ قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت.

وقرأ حمزة : «ربّي الّذي يحيي ويميت» بإسكان الياء ، وكذلك (حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ) [الأعراف : ٣٣] (سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ) [الأعراف : ١٤٦] ، و (قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ) [إبراهيم : ٣١] ، و (آتانِيَ الْكِتابَ) [مريم : ٣٠] و (مَسَّنِيَ الضُّرُّ) [الأنبياء : ٨٣] و (مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ) [ص : ٤١] و (عِبادِيَ الصَّالِحُونَ) [الأنبياء : ١٠٥] ، و (عِبادِيَ الشَّكُورُ) [سبأ : ١٣] و (إِنْ أَرادَنِيَ اللهُ) [الزمر : ٣٨] ، و (إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللهُ)

__________________

(١) ينظر : الإملاء لأبي البقاء ١ / ١٠٨.

(٢) ينظر : المصدر السابق.

(٣) ينظر : المشكل ١ / ١٠٨.

٣٣٩

[تبارك : ٢٨] أسكن الياء فيهن حمزة ؛ وافق ابن عامر والكسائي في (لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا) وابن عامر في «آياتي الّذين» ، وفتحها الآخرون.

فصل

استدلّ إبراهيم عليه الصّلاة والسّلام على إثبات الإله بالإحياء والإماتة ، وهو دليل في غاية القوّة لأنّه لا سبيل إلى معرفة الله تعالى إلّا بواسطة أفعاله التي لا يشاركه فيها أحد من القادرين ، والإحياء والإماتة كذلك ؛ لأنّ الخلق عاجزون عنهما والعلم بعد الاختيار ضروري ، وهذا الدّليل ذكره الله تعالى في مواضع من كتابه كقوله : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ) [المؤمنون : ١٢] إلى آخرها وقوله : (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ) [التين : ٤ ، ٥] وقال : (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ) [الملك : ٢].

فإن قيل : لم قدّم هنا ذكر الحياة على الموت في قوله (رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ) ، وقدّم الموت على الحياة في آيات كقوله (وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ) [البقرة : ٢٨] وقال (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ) [الملك : ٢] ، وحكى عن إبراهيم ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ قوله في ثنائه على الله تعالى (وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ) [الشعراء : ٨١].

فالجواب : أنّ الدّليل إذا كان المقصود منه الدّعوة إلى الله ـ تعالى ـ يجب أن يكون في غاية الوضوح ، ولا شكّ أنّ عجائب الخلقة حال الحياة أكثر ، واطلاع الإنسان عليها أتم ، فلا جرم قدّم ذكر الحياة هنا.

(قالَ أَنَا أُحْيِي) مبتدأ ، وخبر منصوب المحلّ بالقول أيضا. وأخبر عن «أنا» بالجملة الفعلية ، وعن «ربّي» بالموصول بها ؛ لأنّه في الإخبار بالموصول يفيد الاختصاص بالمخبر عنه بخلاف الثاني ، فإنّه لم يدّع لنفسه الخسيسة الخصوصية بذلك.

و «أنا» : ضمير مرفوع منفصل ، والاسم منه «أن» والألف زائدة ؛ لبيان الحركة في الوقف ، ولذلك حذفت وصلا ، ومن العرب من يثبتها مطلقا ، فقيل : أجري الوصل مجرى الوقف ؛ قال القائل في ذلك : [المتقارب]

١١٨٩ ـ وكيف أنا وانتحالي القوا

في بعد المشيب كفى ذاك عارا (١)

وقال آخر : [الوافر]

١١٩٠ ـ أنا سيف العشيرة فاعرفوني

حميدا قد تذرّيت السّناما (٢)

__________________

(١) ينظر ديوان الأعشى (٥٣) ، المفصل لابن يعيش ٤ / ٤٥ ، رصف المباني (١٤) ، تخليص الشواهد ص ١٠٣ ، الحماسة للمرزوقي ص ٧٠٩ ، شرح شواهد الإيضاح ص ٢٧٣ ، المقرب ٢ / ٣٥ ، الدر المصون ١ / ٦٢٠.

(٢) البيت لحميد بن ثور ينظر ديوانه ص ١٣٣ ، وأساس البلاغة ص ١٤٣ (ذري) ، وشرح شواهد الشافية ـ

٣٤٠