اللّباب في علوم الكتاب - ج ٤

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ٤

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٥٨

الكنّ ، وفي النّفس ؛ بمعنى ، ومنه (ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ) [القصص : ٦٩] ، و (بَيْضٌ مَكْنُونٌ) [الصافات : ٤٩] وفرّق قوم بينهما ، فقالوا : كننت الشيء : إذا صنته حتّى لا تصيبه آفة ، وإن لم يكن مستورا يقال : درّ مكنون وجارية مكنونة ، وبيض مكنون مصون عن التدحرج ؛ وأمّا «أكننت» فمعناه : أضمرت ويستعمل ذلك في الشيء الذي يخفيه الإنسان ، ويستره عن غيره ، وهو ضدّ أعلنت وأظهرت ، ومفعول «أكنّ» محذوف يعود على «ما» الموصولة في قوله : (فِيما عَرَّضْتُمْ) أي : أو أكننتموه ، ف (فِي أَنْفُسِكُمْ) متعلّق ب «أكننتم» ، ويضعف جعله حالا من المفعول المقدّر.

فصل في عدوم وجوب الحد بالتعريض

استدلّ بعضهم (١) بهذه الآية على أنّه لا يجب الحدّ بالتعريض بالقذف [لأنّ الله تعالى لمّا دفع الجرج في التعريض بالنّكاح ، دلّ على أنّ التعريض بالقذف](٢) لا يوجب الحد.

وأجيب بأنّ الله ـ تعالى ـ لم يحلّ التصريح بالخطبة في النكاح للمعتدّة ، وأذن في التعريض الذي يفهم منه النكاح ، فهذه يدلّ على أنّ التعريض يفهم منه القذف (٣) والأعراض يجب صيانتها ، وذلك يوحب الحدّ على المعرّض ؛ لئلا يتعرض الفسقة إلى أخذ الأعراض بالتعريض الذي يفهم منه ما يفهم بالتصريح.

فصل في المقصود من الآية

والمقصود من الآية أنّه لا حرج في التعريض للمرأة في عدّة الوفاة ، ولا فيما يضمره الرجل من الرغبة فيها.

فإن قيل : إنّ التعريض بالخطبة أعظم حالا من أن يميل بقلبه إليها ، ولا يذكر باللّسان شيئا ، فلمّا قدّم جواز التعريض بالخطبة ، كان قوله بعد ذلك (أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ) جار مجرى إيضاح الواضحات.

فالجواب : ليس المراد ما ذكرتم ، بل المراد أنّه أباح التعريض ، وحرّم التصريح في الحال ، ثم قال : (أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ) والمراد : أن يعقد قلبه على أنه سيصرح بذلك في المستقبل ، ففي أوّل الآية أباح التعريض في الحال ، وحرّم التصريح في الحال ، وها هنا أباح له أن يعقد عليه على أنّه سيصرّح بذلك بعد انقضاء العدّة ، ثم إنّه تعالى ذكر الوجه الذي لأجله أباح ذلك ، فقال : «علم أنّكم ستذكرونهنّ» لأنّ شهوة النفس إذا حصلت للنكاح ، لا يكاد يخلو ذلك المشتهي من العزم ، والتّمنّي ، فلمّا كان دفع هذا

__________________

(١) ينظر : تفسير القرطبي ٣ / ١٢٥.

(٢) سقط في ب.

(٣) في أ : النكاح.

٢٠١

الخاطر ، كالشيء الشّاقّ أسقط عنه هذا الحرج ، وأباح له ذلك ، ثمّ قال : (وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا) وهذا الاستدراك فيه ثلاثة أوجه :

أحدها : أنه استدراك من الجملة قبله ، وهي قوله : (سَتَذْكُرُونَهُنَّ) ؛ فإنّ الذّكر يقع على أنحاء كثيرة ، ووجوه متعددة ، فاستدرك منه وجه نهي فيه عن ذكر مخصوص ، ولو لم يستدرك ، لكان من الجائز ؛ لاندارجه تحت مطلق الذّكر ، وهو نظير : «زيد سيلقى خالدا ، ولكن [لا] يواجهه بشرّ» ، لمّا كانت أحوال اللقاء كثيرة ، من جملتها مواجهته بالشّرّ ، استدركت هذه الحالة من بينها.

والثاني : ـ قاله أبو البقاء (١) ـ : أنه مستدرك من قوله : (فِيما عَرَّضْتُمْ) وليس بواضح.

والثالث : ـ قاله الزمخشريّ ـ أنّ المستدرك منه جملة محذوفة قبل «لكن» تقديره : «فاذكروهنّ ، ولكن لا تواعدوهنّ سرّا» وقد تقدّم أنّ المعنى على الاستدراك من الجملة قبله ، فلا حاجة إلى حذف ؛ وإنما الذي يحتاجه ما بعد «لكن» وقوع ما قبلها من حيث المعنى ، لا من حيث اللفظ ؛ لأنّ نفي المواجهة بالشّرّ يستدعي وقوع اللقاء.

قوله : «سرّا» فيه خمسة أوجه :

أحدها : أن يكون مفعولا ثانيا.

والثاني : أنه حال من فاعل «تواعدوهنّ» ، أي : لا تواعدوهنّ مستخفين بذلك.

والثالث : أنه نعت مصدر محذوف ، أي : مواعدة سرّا.

والرابع : أنه حال من ذلك المصدر المعرّف ، أي : المواعدة مستخفية.

والخامس : أن ينتصب على الظرف مجازا ، أي : في سرّ.

وعلى الأقوال الأربعة : فلا بدّ من حذف مفعول ، تقديره : لا تواعدوهنّ نكاحا.

والسّرّ : ضدّ الجهر ، وقيل : يطلق على الوطء ، وعلى الزّنا بخصوصيّة ؛ وأنشدوا للحطيئة: [الوافر]

١١٣٧ ـ ويحرم سرّ جارتهم عليهم

ويأكل جارهم أنف القصاع (٢)

وقول الآخر ـ هو الأعشى ـ : [الطويل]

١١٣٨ ـ ولا تقربنّ جارة إنّ سرّها

حرام عليك فانكحن أو تأبّدا (٣)

وقال الفرزدق : [الطويل]

__________________

(١) ينظر : الإملاء لأبي البقاء ١ / ٩٩.

(٢) ينظر ديوانه (٦٢) القرطبي ٣ / ١٩١ ، البحر ٢ / ٢٣٧ ، الدر المصون ١ / ٥٨٠.

(٣) تقدم برقم ١٠٧٤.

٢٠٢

١١٣٩ ـ موانع للأسرار إلّا من أهلها

ويخلفن ما ظنّ الغيور المشفشف (١)

أي : الذي شغفه بهن ، يعني : أنهنّ عفائف يمنعن الجماع إلّا من أزواجهنّ ؛ وقال امرؤ القيس : [الطويل]

١١٤٠ ـ ألا زعمت بسباسة اليوم أنّني

كبرت وألّا يحسن السّرّ أمثالي (٢)

فصل في بيان السر في الآية

اختلفوا في السّرّ هنا ، فقال قوم : هو الزّنا ، كان الرجل يدخل على المرأة من أجل الزّنية وهو يعرّض بالنّكاح (٣) ، ويقول لها : دعيني أجامعك ، فإذا وفيت عدّتك ، أظهرت نكاحك قاله الحسن ، وقتادة ، وإبراهيم ، وعطاء (٤) ، ورواه عطية عن ابن عباس (٥).

وقال زيد بن أسلم : أي : لا ينكحها سرّا فيمسكها فإذا حلّت ، أظهرت ذلك (٦).

وقال مجاهد : هو قول الرجل لا تفوّتيني بنفسك ، فإنّي ناكحك (٧). وقال الشعبيّ ، والسدّيّ : لا يؤخذ ميثاقها ، ألّا ينكح غيرها (٨). وقال عكرمة : لا يخطبها في العدّة (٩).

وقال الكلبيّ وروي عن ابن عباس : أي تصفوا أنفسكم لهنّ بكثرة (١٠) الجماع ، فيقول آتيتك الأربعة والخمسة ، وأشباه ذلك ، وإنما قيل للزّنا والجماع سرّا ؛ لأنه يكون في خفاء بين الرجل والمرأة.

فصل في كراهة المواعدة في العدّة

حكى القرطبيّ (١١) ، عن ابن عطيّة ، قال : أجمعت الأمّة على كراهة المواعدة في

__________________

(١) ينظر ديوانه (٣٨٣) ، الإنصاف ٢ / ٧٨٨ ، أدب الكاتب ص ٤٨٩ ، جمهرة أشعار العرب ص ٨٧٥ ، ولسان العرب (شفف) ، والرازي ٦ / ١١٤.

(٢) ينظر : ديوانه (٢٨) ، القرطبي ٣ / ١٢٦.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٥ / ١٠٧) عن ابن عباس وقتادة والحسن والنخعي وعطاء.

وأخرجه عبد الرزاق عن الحسن وأبي مجلز والنخعي كما في «الدر المنثور» (١ / ٥١٨).

(٤) ينظر : تفسير البغوي ١ / ٢١٦.

(٥) ينظر : المصدر السابق.

(٦) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٥ / ١١٠) عن ابن زيد.

(٧) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٥ / ١٠٩) عن مجاهد.

(٨) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٥ / ١٠٨) عن السدي والشعبي.

(٩) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٥ / ١٠٦) عن عكرمة.

(١٠) في ب : بكره.

(١١) ينظر : تفسير القرطبي ٣ / ١٢٦.

٢٠٣

العدة للمرأة في نفسها ، وللأب في ابنته البكر ، والسيّد في أمته. قال ابن المواز : وأمّا الوليّ الذي لا يملك الجبر ، فأكرهه.

وقال مالك ـ رحمه‌الله ـ فيمن يواعد في العدّة ، ثم يتزوج بعدها : فراقها أحبّ إليّ ، دخل بها ، أو لم يدخل ، وتكون تطليقة واحدة هذه رواية ابن وهب ، وروى أشهب عن مالك ، أنّه يفرّق بينهما إيجابا ، وقاله ابن القاسم ، وحكى ابن الحارث مثله عن ابن الماجشون ، ورأى ما يقتضي أنّ التحريم يتأبدّ ، وقال الشافعيّ إن صرّح بالخطبة ، وصرّحت له بالإجابة ، ولم ينعقد النكاح [حتى] تنقضي العدّة ، فالنكاح ثابت [والتصريح لهما مكروه]

قوله : (إِلَّا أَنْ تَقُولُوا) في هذا الاستثناء قولان :

أحدهما : أنه استثناء منقطع ؛ لأنه لا يندرج تحت «سرّ» على أيّ تفسير فسّرته به ، كأنه قال لكن قولوا قولا معروفا.

والثاني : أنه متصل ، وفيه تأويلان ذكرهما الزمخشري فإنه قال : فإن قلت : بم يتعلّق حرف الاستثناء؟ [قلت] : ب «لا تواعدوهنّ» ، أي : لا تواعدوهنّ مواعدة قطّ إلا مواعدة معروفة غير منكرة ، أو لا تواعدوهنّ إلا بأن تقولوا ، أي : لا تواعدوهنّ إلّا بالتعريض ، ولا يكون استثناء منقطعا من «سرّا» ؛ لأدائه إلى قولك : «لا تواعدوهنّ إلّا التعريض» انتهى ، فجعله استثناء متصلا مفرّغا على أحد تأويلين :

الأول : أنه مستثنى من المصدر ؛ ولذلك قدّره : لا تواعدوهنّ مواعدة إلّا مواعدة معروفة.

والثاني : أنه من مجرور محذوف ؛ ولذلك قدّره ب «إلّا بأن تقولوا» ؛ [لأنّ التقدير عنده : لا تواعدوهنّ بشيء ، إلا بأن تقولوا ، ثم أوضح قوله بأن تقولوا] بالتعريض ، فلمّا حذفت الباء من «أن» ، وهي باء السببية بقي في «أن» الخلاف المشهور بعد حذف حرف الجرّ ، هل هي في محلّ نصب أم جرّ؟ وقوله : «لأدائه إلى قولك ... إلى آخره» يعني أنه لا يصحّ تسلّط العامل عليه ، فإنّ القول المعروف عنده المراد به التعريض ، وأنت لو قلت : «لا تواعدوهنّ إلّا التّعريض» لم يصحّ ؛ لأنّ التعريض ليس مواعدا.

وردّ عليه أبو حيان : بأنّ الاستثناء المنقطع ليس من شرطه صحّة تسلّط العامل عليه ، بل هو على قسمين : قسم يصحّ فيه ذلك ، وفيه لغتان : لغة الحجاز وجوب النصب مطلقا ، نحو : «ما جاء أحد إلّا حمارا» ولغة تميم إجراؤه مجرى المتصل ، فيجرون فيه النصب والبدلية بشرطه. وقسم لا يصحّ فيه ذلك ، نحو : «ما زاد إلّا ما نقص» ، و «ما نفع إلّا ما ضرّ» ، وحكم هذا النّصب عند العرب قاطبة ، فالقسمان يشتركان في التقدير ب «لكن» عند البصريين ، إلّا أنّ أحدهما يصحّ تسلّط العامل عليه في قولك : «ما جاء أحد

٢٠٤

إلّا حمار» لو قلت : «ما جاء إلّا حمار» ، صحّ ؛ بخلاف القسم الثاني ؛ فإنّه لا يتوجّه عليه العامل وقد تقدم البحث في مثل هذا كثيرا.

فصل في القول المعروف ما هو؟

قال بعض المفسرين : هو التعريض بالخطبة.

وقال آخرون : لمّا أذن في أوّل الآية بالتعريض ، ثم نهي عن المسارّة معها ؛ دفعا للريبة ، استثني منه المسارّة بالقول بالمعروف ، وهو أن يعدها في السرّ بالإحسان إليها ، والاهتمام بشأنها ، والتكفّل بمصالحها ؛ حتى يصير ذكر هذه الأشياء الجميلة ، مؤكّدا لذلك التعريض.

قوله : (وَلا تَعْزِمُوا) في لفظ «العزم» وجوه :

الأول : أنّه عبارة عن عقد القلب على فعل من الأفعال ، قال تعالى : (فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) [آل عمران : ١٥٩] فلا بدّ في الآية من إضمار فعل ، وهذا اللفظ إنما يعدّى للفعل بحرف «على» فيقال : فلان عزم على كذا ، فيكون تقدير الآية : «ولا تعزموا على عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله» والمقصود منه المبالغة في النهي عن النكاح في زمان العدّة ، فإنّ العزم متقدم على المعزوم عليه ، فإذا ورد النهي عن الإقدام على المعزوم عليه كان أولى.

الثاني : أنّ العزم عبارة عن الإيجاب ، يقال : عزمت عليكم ، أي : أوجبت ، ويقال هذا من باب العزائم ، لا من باب الرّخص ، وقال ـ عليه الصلاة والسلام ـ «عزمة من عزائم ربّنا» (١) وقال : «إنّ الله تعالى يحبّ أن تؤتى رخصه كما تؤتى عزائمه» (٢) ، فالعزم بهذا المعنى جائز على الله تعالى ، وبالوجه الأول لا يجوز.

وإذا ثبت هذا فنقول : الإيجاب سبب الوجود ظاهرا ، فلا يبعد أن يستفاد لفظ العزم من الوجود ، وعلى هذا فقوله : (وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ) ، أي : لا تحقّقوا ، ولا تنشئوا ، ولا تفرّعوا منه فعلا ؛ حتى يبلغ الكتاب أجله وهذا اختيار أكثر المحققين.

الثالث : قال القفّال (٣) : إنما لم يقل : ولا تعزموا على عقدة النكاح ؛ لأن معناه : ولا تعقدوا عقدة.

قال القرطبيّ : عزم الشيء وعزم عليه قال تعالى : (وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ) [البقرة : ٢٢٧]

__________________

(١) أخرجه أبو داود (١ / ٤٩٤) كتاب الزكاة : باب في زكاة السائمة حديث (١٥٧٥) والنسائي (٥ / ١٥ ـ ١٦) كتاب الزكاة : باب عقوبه مانع الزكاة والحاكم (١ / ٣٩٧ ـ ٣٩٨) من طريق بهز بن حكيم عن أبيه عن جده به. وقال الحاكم : صحيح الإسناد ولم يخرجاه.

(٢) تقدم.

(٣) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٦ / ١١٥.

٢٠٥

وقال هنا : «ولا تعزموا عقدة النّكاح». وحكى سيبويه : ضرب فلان الظهر والبطن أي : «على».

قال سيبويه : والحذف في هذه الأشياء لا يقاس عليه.

وقال النحاس (١) : ويجوز أن يكون ولا تعقدوا عقدة النكاح ؛ لأنّ معنى «تعزموا» و «تعقدوا» واحد.

ويقال : تعزموا ، بضم الزاي.

فصل

اعلم أنّ الإنسان إذا فعل فعلا ، فلا بدّ أن يتقدم ذلك الفعل ستّ مقدّمات.

الأولى : أن يسنح له ذلك الفعل ، ومعنى «يسنح له» : أن يجنح إلى فعله ، ويعرض له فعله.

وثانيها : أن يفكّر في فعله أن يفعله ، أم لا.

وثالثها : أن يخطر بباله فعله ، بمعنى أنه يترجّح فعله على تركه.

ورابعها : أن يريد فعله.

وخامسها : أن يهمّ بفعله ، وهو عزم غير جازم.

وسادسها : أن يعزم عزما جازما فيفعله.

فصل في أصل العقد

وأصل العقد : الشدّ ، والعهود ، والأنكحة تسمّى عقودا لأنها تعقد كعقود الحبل في التوثيق.

قوله : «عقدة» في نصبه ثلاثة أوجه :

أحدها : أنه مفعول به على أنه ضمّن «عزم» معنى ما يتعدّى بنفسه ، وهو : تنووا أو تباشروا ، ونحو ذلك.

والثاني : أنه منصوب على إسقاط حرف الجر ، وهو «على» ؛ فإنّ «عزم» يتعدّى بها ، قال : [الوافر]

١١٤١ ـ عزمت على إقامة ذي صباح

لأمر مّا يسوّد من يسود (٢)

وحذفها جائز ؛ كقول عنترة : [الكامل]

١١٤٢ ـ ولقد أبيت على الطّوى وأظلّه

حتّى أنال به كريم المطعم (٣)

__________________

(١) ينظر : تفسير القرطبي ٣ / ١٢٧.

(٢) تقدم برقم ١١٠٢.

(٣) ينظر ديوانه (١٨٧) ، شرح القصائد العشر (٣٢٥) ، البحر ٢ / ٢٣٩ ، المفصل ٧ / ١٠٦ ، ابن الشجري ٢ / ٤٦ ، الخصائص لابن جني ١ / ٣٤٤.

٢٠٦

أي : وأظلّ عليه.

والثالث : أنه منصوب على المصدر ؛ فإنّ المعنى : ولا تعقدوا عقدة ؛ فكأنه مصدر على غير الصّدر ؛ نحو : قعدت جلوسا ، والعقدة مصدر مضاف للمفعول ، والفاعل محذوف ، أي : عقدتكم النّكاح.

قوله تعالى : (حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ) في «الكتاب» وجهان :

أحدهما : أن المراد به المكتوب ، والمعنى : حتى تبلغ العدّة المفروضة آخرها.

الثاني : أن يكون المراد «الكتاب» نفسه ، لأنه في معنى الفرض ؛ كقوله : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ) [البقرة : ١٨٣] فيكون المعنى : حتى يبلغ هذا التكليف آخره ونهايته ، وقال تعالى : (إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً) [النساء : ١٠٣] أي : مفروضة.

قال القرطبي (١) : وقيل : في الكلام حذف ، أي : حتى يبلغ فرض الكتاب أجله ، فالكتاب على هذا المعنى بمعنى القرآن.

ثم قال تعالى : (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ) وهذا تنبيه على أنّه تعالى لمّا كان عالما بالسرّ ، والعلانية ؛ وجب الحذر منه في السرّ ، والعلانية ، فالهاء في «فاحذروه» تعود على الله تعالى ، ولا بدّ من حذف مضاف ، أي : فاحذروا عقابه. ويحتمل أن تعود على «ما» في قوله (ما فِي أَنْفُسِكُمْ) بمعنى ما في أنفسكم من العزم على ما لا يجوز ، قاله الزمخشريّ.

ثم قال : (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ) أي : لا يعجّل بالعقوبة.

قوله تعالى : (لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ)(٢٣٦)

قوله : «ما لم» في «ما» ثلاثة أقوال :

أظهرها : أن تكون مصدرية ظرفية ، تقديره : مدّة عدم المسيس ، كقوله تعالى : (خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) [هود : ١٠٧] وقوله : (وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ) [المائدة : ١١٧].

وقول الآخر : [الكامل]

١١٤٣ ـ إنّي بحبلك واصل حبلي

وبريش نبلك رائش نبلي

ما لم أجدك على هدى أثر

يقرو مقصّك قائف قبلي (٢)

__________________

(١) ينظر : تفسير القرطبي ٣ / ١٢٧.

(٢) البيت لامرئ القيس ينظر ديوانه ص ٢٣٩ ، وشرح أبيات سيبويه ١ / ٤٠٦ ، ولسان العرب (حبل) ، وللنمر بن تولب ينظر ملحق ديوانه ص ٤٠٥ ، ورصف المباني ص ٤٤٧ ، والكتاب ١ / ١٦٤ ، والبحر ٢ / ٢٤٠ ، والجمل (٩٨) ، والدر المصون ١ / ٥٨١.

٢٠٧

والثاني : أن تكون شرطية ، بمعنى «إن» نقله أبو البقاء (١). وليس بظاهر ؛ لأنه يكون حينئذ من باب اعتراض الشرط على الشرط ، فيكون الثاني قيدا في الأول ؛ نحو : «إن تأت إن تحسن إليّ أكرمك» أي : إن أتيت محسنا ، وكذا في الآية الكريمة : إن طلّقتموهنّ غير ماسّين لهنّ ، بل الظاهر : أنّ هذا القائل إنما أراد تفسير المعنى ؛ لأنّ «ما» الظرفية مشبّهة بالشرطيّة ، ولذلك تقتضي التعميم.

والثالث : أن تكون موصولة بمعنى «الّذي» ، وتكون للنساء ؛ كأنه قيل : إن طلّقتم النّساء اللّائي لم تمسّوهنّ ، وهو ضعيف ، لأنّ «ما» الموصولة لا يوصف بها ، وإن كان يوصف ب «الّذي» ، و «الّتي» ، وفروعهما.

وقرأ الجمهور : «تمسّوهنّ» ثلاثيّا وهي واضحة ؛ لأن الغشيان من فعل الرجل ؛ قال تعالى حكاية عن مريم (وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ) [مريم : ٢٠]. وقرأ حمزة (٢) والكسائيّ في الأحزاب «تماسّوهنّ» من المفاعلة ، فيحتمل أن يكون «فاعل» بمعنى «فعل» ك «سافر» ، فتوافق الأولى ، ويحتمل أن تكون على بابها من المشاركة ؛ كما قال تعالى : (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا) [المجادلة : ٣] ، وأيضا : فإنّ الفعل من الرجل والتمكين من المرأة ، ولذلك قيل لها زانية ، ورجّح الفارسيّ قراءة الجمهور ؛ بأنّ أفعال هذا الباب كلّها ثلاثيّة ؛ نحو : نكح ، فرع ، سفد ، وضرب الفحل.

قال تعالى : (لَمْ يَطْمِثْهُنَ) [الرحمن : ٧٤] ، وقال : (فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَ) [النساء : ٢٥] ، وأمّا قوله في الظّهار : (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا) [المجادلة : ٣] فالمراد به المماسّة التي هي غير الجماع ، وهي حرام في الظهار.

قوله : «أو تفرضوا» فيه أربعة أوجه :

أحدها : أنه مجزوم عطفا على «تمسّوهنّ» ، و «أو» على بابها من كونها لأحد الشيئين ، قاله ابن عطيّة.

والثاني : أنه منصوب بإضمار «أن» عطفا على مصدر متوهّم ، و «أو» بمعنى «إلّا» ، التقدير : ما لم تمسّوهنّ إلا أن تفرضوا ؛ كقولهم : «لألزمنّك أو تقضيني حقّي» قاله الزمخشريّ.

والثالث : أنه معطوف على جملة محذوفة ، تقديره : «فرضتم أو لم تفرضوا» ، فيكون هذا من باب حذف الجزم وإبقاء عمله ، وهو ضعيف جدّا ، وكأنّ الذي حسّن هذا كون لفظ «لم» موجودا قبل ذلك.

__________________

(١) ينظر : الإملاء لأبي البقاء ١ / ٩٩.

(٢) انظر : السبعة ١٨٣ ـ ١٨٤ ، والحجة ٢ / ٣٣٦ ، والعنوان ٧٤ ، وحجة القراءات ١٣٧ ـ ١٣٨ ، وشرح الطيبة ١٠٤ ـ ١٠٥ ، وشرح شعلة ٢٩١ ، وإتحاف ١ / ٤٤١.

٢٠٨

والرابع : أن تكون «أو» بمعنى الواو.

قال تعالى : (وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ) [الأعراف : ٤] أي : وهم قائلون (وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ) [الصافات : ١٤٧] أي : ويزيدون ، وقوله : (وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً) [الإنسان : ٢٤] وقوله : (وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى) [النساء : ٤٣] معناه وجاء أحد منكم من الغائط ، وأنتم مرضى أو مسافرون.

قال ابن الخطيب (١) : فإذا تأمّلت هذا القول ، علمت أنّه متكلف ، بل خطأ قطعا ، والفرض في اللغة : التقدير ، أي : تقدّروا لهن شيئا.

قوله : «فريضة» فيه وجهان :

أظهرهما : أنه مفعول به ، وهي بمعنى مفعولة ، أي : إلّا أن تفرضوا لهنّ شيئا مفروضا.

والثاني : أن تكون منصوبة على المصدر بمعنى فرضا ، واستجود أبو البقاء (٢) الوجه الأول ؛ قال : «وأن يكون مفعولا به ، وهو الجيّد» والموصوف محذوف ، تقديره : متعة مفروضة.

فصل في سبب النزول

هذه الآية نزلت في رجل من الأنصار تزوج امرأة من بني حنيفة ولم يسمّ لها مهرا ، ثم طلّقها قبل أن يمسّها ؛ فنزلت هذه الآية ؛ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «متّعها ولو بقلنسوتك» (٣).

قوله : «ومتّعوهنّ» : قال أبو البقاء (٤) : «ومتّعوهنّ» معطوف على فعل محذوف ، تقديره : «فطلّقوهنّ ومتّعوهنّ» ، وهذا لا حاجة إليه ؛ فإنّ الضمير المنصوب في «متّعوهنّ» عائد على المطلّقات قبل المسيس ، وقبل الفرض ، المذكورين في قوله : (إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ...) إلى آخرها.

فإن قيل : ظاهر الآية مشعر بأن نفي الجناح عن المطلق مشروط بعدم المسيس ، وليس كذلك ، فإنّه لا جناح عليه ـ أيضا ـ بعد المسيس.

فالجواب من وجوه :

الأول : أنّ الآية دالة على إباحة الطلاق قبل المسيس مطلقا في زمان الحيض ،

__________________

(١) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٦ / ١١٨.

(٢) ينظر : الإملاء لأبي البقاء ١ / ٩٩.

(٣) انظر : تفسير القرطبي «الجامع لأحكام القرآن» (٣ / ٢٠٢).

(٤) ينظر : الإملاء لأبي البقاء ١ / ٩٩.

٢٠٩

وغيره ؛ فكان عدم المسيس شرطا في إباحة الطلاق مطلقا.

الثاني : ما قدمناه من أنّ «ما» بمعنى «الذي» ، والتقدير : إن طلقتم النساء اللاتي لم تمسّوهنّ ؛ إلّا أنّ «ما» اسم جامد لا ينصرف ، ولا يبين فيه الإعراب ، وعلى هذا فلا تكون «ما» شرطا فزال السؤال.

الثالث : قال القفال (١) : إن المراد من الجناح في هذه الآية لزوم المهر ، وتقديره : لا مهر عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسّوهنّ أو تفرضوا لهنّ فريضة ، يعني : لا يجب المهر إلّا بأحد هذين الأمرين ، فإذا فقدا جميعا لم يجب المهر.

قال ابن الخطيب (٢) : وهذا ظاهر ، وبيان أنّ قوله : «لا جناح» معناه : لا مهر ؛ لأنّ إطلاق لفظ «الجناح» على المهر محتمل ؛ لأن أصل الجناح في اللغة : الثقل ، يقال : جنحت السفينة ، إذا مالت بثقلها ، والذنب يسمّى جناحا ؛ لما فيه من الثّقل ، قال تعالى : (وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ) [العنكبوت : ١٣] ، وإذا ثبت أن الجناح هو الثقل ، ولزوم أداء المال ثقل ، فكان جناحا ، ويدلّ على أنّ هذا هو المراد وجهان :

الأول : أنه تعالى قال : (لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً) نفى الجناح محدودا إلى غاية ، وهي إمّا المسيس ، أو الفرض والتقدير ، فوجب أن يثبت ذلك الجناح عند حصول أحد هذين الأمرين ، ثم إنّ الجناح الذي يثبت عند أحد هذين الأمرين ، هو لزوم المهر.

الوجه الثاني : أنّ تطليق النساء قبل المسيس ، وبعد تقدير المهر ، وهو المذكور في الآية التي بعدها ، هو تقدير المهر ، وقد أوجب فيه نصف المهر وهذا كالمقابل له ، فوجب أن يكون الجناح المنفي عنه هناك ، هو المثبت ها هنا ، فلما كان المثبت في الآية التي بعدها ، هو لزوم المهر ، وجب أن يقال : الجناح المنفي في هذه الآية هو لزوم المهر.

قوله : (عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ) جملة من مبتدأ وخبر ، وفيها قولان :

أحدهما : أنها لا محلّ لها من الإعراب ، بل هي استئنافيّة بيّنت حال المطلّق بالنسبة إلى إيساره وإقتاره.

والثاني : أنها في موضع نصب على الحال ، وذو الحال فاعل «متّعوهنّ».

قال أبو البقاء (٣) : «تقديره : بقدر الوسع» ، وهذا تفسير معنى ، وعلى جعلها حالية : فلا بدّ من رابط بينها وبين صاحبها ، وهو محذوف ، تقديره : على الموسع منكم ، ويجوز على مذهب الكوفيين ومن تابعهم : أن تكون الألف واللام قامت مقام الضمير المضاف إليه ، تقديره : «على موسعكم قدره».

__________________

(١) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٦ / ١١٧.

(٢) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٦ / ١١٧.

(٣) ينظر : الإملاء لأبي البقاء ١ / ٩٩.

٢١٠

وقرأ الجمهور : «الموسع» بسكون الواو وكسر السين ، اسم فاعل من أوسع يوسع ، وقرأ (١) أبو حيوة بفتح الواو وتشديد السين ، اسم مفعول من «وسّع». وقرأ حمزة (٢) والكسائيّ وابن ذكوان وحفص : «قدره» بفتح الدال في الموضعين ، والباقون بسكونها.

واختلفوا : هل هما بمعنى واحد ، أو مختلفان؟ فذهب أبو زيد والأخفش (٣) وأكثر أئمة العربية إلى أنهما بمعنى واحد ، حكى أبو زيد : «خذ قدر [كذا] وقدر كذا» ، بمعنى واحد ، قال : «ويقرأ في كتاب الله : (فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها) [الرعد : ١٧] و «قدرها» ، وقال : (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) [الأنعام : ٩١] ولو حركت الدال ، لكان جائزا. وذهب جماعة إلى أنهما مختلفان ، فالساكن مصدر والمتحرك اسم ؛ كالعدّ والعدد ، والمدّ والمدد ، وكأنّ القدر بالتسكين الوسع ، يقال : «هو ينفق على قدره» أي وسعه ، وقيل : بالتّسكين الطاقة ، وبالتحريك المقدار ، قال أبو جعفر : «وأكثر ما يستعمل بالتحريك ، إذا كان مساويا للشيء ، يقال : هذا على قدر هذا».

وقرأ بعضهم بفتح الراء ، وفي نصبه وجهان :

أحدهما : أن يكون منصوبا على المعنى.

قال أبو البقاء (٤) : وهو مفعول على المعنى ؛ لأنّ معنى «متّعوهنّ» [ليؤدّ كلّ منكم قدر وسعه» وشرح ما قاله : أن يكون من باب التضمين ، ضمّن «متّعوهنّ»] معنى «أدّوا».

والثاني : أن يكون منصوبا بإضمار فعل ، تقديره : فأوجبوا على الموسع قدره ، وجعله أبو البقاء (٥) أجود من الأول ، وفي السّجاونديّ : «وقال ابن أبي عبلة : قدره ، أي : قدره الله» انتهى.

وظاهر هذا : أنه قرأ بفتح الدال والراء ، فيكون «قدره» فعلا ماضيا ، وجعل فيه ضميرا فاعلا يعود على الله تعالى ، والضمير المنصوب يعود على المصدر المفهوم من «متّعوهنّ» ، والمعنى: أنّ الله قدر وكتب الإمتاع على الموسع وعلى المقتر.

قوله : «متاعا» في نصبه وجهان :

__________________

(١) انظر : المحرر الوجيز ١ / ٣١٩ ، والبحر المحيط ٢ / ٢٤٣ ، والدر المصون ١ / ٥٨٢.

(٢) انظر : السبعة ١٨٤ ، والحجة ٢ / ٣٣٨ ، وحجة القراءات ١٣٧ ، والعنوان ٧٤ ، وشرح الطيبة ١٠٣ ـ ١٠٥ ، وشرح شعلة ٢٩١ ، وإتحاف ١ / ٤٤١ ـ ٤٤٢.

(٣) ينظر : معاني القرآن للأخفش ٣٧٢.

(٤) ينظر : الإملاء لأبي البقاء ١ / ٩٩.

(٥) ينظر : المصدر السابق.

٢١١

أحدهما : أنه منصوب على المصدر ، وتحريره أنه اسم مصدر ؛ لأنّ المصدر الجاري على صدره إنّما هو التمتيع ، فهو من باب : (أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً) [نوح : ١٧]. وقال أبو حيّان : قالوا : انتصب على المصدر ؛ وتحريره : أن المتاع هو ما يمتع به ، فهو اسم له ، ثم أطلق على المصدر ؛ على سبيل المجاز ، والعامل فيه : «ومتّعوهنّ» قال شهاب الدين : وفيه نظر ؛ لأنّ المعهود أن يطلق المصدر على أسماء الأعيان ؛ كضرب بمعنى مضروب ، وأمّا إطلاق الأعيان على المصدر ، فلا يجوز ، وإن كان بعضهم جوّزه على قلّة ؛ نحو قولهم : «تربا وجندلا» و «أقائما ، وقد قعد النّاس» ، والصحيح أن «تربا» ونحوه مفعول به ، و «قائما» نصب على الحال.

[والثاني من وجهي «متاعا» أن ينتصب على الحال] ، والعامل فيه ما تضمّنه الجارّ والمجرور من معنى الفعل ، وصاحب الحال ذلك الضمير المستكنّ في ذلك العامل ، والتقدير : قدر الموسع يستقرّ عليه في حال كونه متاعا.

قوله : «بالمعروف» فيه وجهان :

أحدهما : أن يتعلّق ب «متّعوهنّ» ، فتكون الباء للتعدية.

والثاني : أن يتعلّق بمحذوف على أنه صفة ل «متاعا» ؛ فيكون في محلّ نصب ، والباء للمصاحبة ، أي : متاعا ملتبسا بالمعروف.

قوله : «حقّا» في نصبه أربعة أوجه :

أحدها : أنه مصدر مؤكّد لمعنى الجملة قبله ؛ كقولك : «هذا ابني حقّا» وهذا المصدر يجب إضمار عامله ، تقديره : حقّ ذلك حقّا ، ولا يجوز تقديم هذا المصدر على الجملة قبله.

والثاني : أن يكون صفة ل «متاعا» ، أي : متاعا واجبا على المحسنين.

والثالث : أنه حال ممّا كان حالا منه «متاعا» وهذا على رأي من يجيز تعدّد الحال.

والرابع : أن يكون حالا من «المعروف» ، أي : بالذي عرف في حال وجوبه على المحسنين ، و «على المحسنين» يجوز أن يتعلّق ب «حقّا» ؛ الواجب ، وأن يتعلّق بمحذوف ؛ لأنه صفة له.

فصل

اعلم أن المطلقات أربعة أقسام :

القسم الأول : وهو ألّا يؤخذ منهن على الفراق شيء ظلما ، وأخبر أن لهن كمال المهر ، وعليهن العدّة.

القسم الثاني : المطلقة قبل الدّخول ، وقد فرض لها ـ وهي المذكورة في الآية التي بعد هذه ـ وبيّن أنّ لها نصف المفروض لها ، وبيّن في سورة الأحزاب أنّ لا عدّة على

٢١٢

غير المدخول بها ؛ فقال : (إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها) [الأحزاب : ٤٩].

القسم الرابع : المطلقة بعد الدّخول ، ولم يكن فرض لها ، وحكم هذا القسم ، مذكور في قوله تعالى : (فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَ) [النساء : ٢٤].

والقياس أيضا يدلّ عليه ، فإنّ الأمّة مجمعة على أن الموطوءة بشبهة لها مهر المثل ، والموطوءة بنكاح صحيح ، أولى بهذا الحكم.

فصل

تمسك (١) بعضهم بهذه الآية على أنّ جمع الثلاثة ليس بحرام ، قالوا : لأن قوله : (لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ) يتناول جميع أنواع التطليق بدليل أنّه يصحّ استثناء الثلاث منها ، فيقال : لا جناح عليكم إن طلّقتم النساء إلّا إذا طلّقتموهنّ بثلاث تطليقات فإنّ عليكم الجناح ، وحكم الاستثناء إخراج ما لولاه لدخل ، وعلى هذا فتتناول هذه الآية جميع أنواع التطليق مفردا أو مجموعا.

قال ابن الخطيب (٢) : وهذا الاستدلال ضعيف ؛ لأن الآية دالّة على تحصيل هذه الماهيّة في الوجود ، ويكفي في العمل بها إدخاله في الوجود مرّة واحدة ، ولهذا قلنا : إنّ الأمر المطلق لا يفيد التكرار ، كما إذا قال لامرأته : إن دخلت الدار ، فأنت طالق ، فإن اليمين انعقدت على المرّة الواحدة فقط ، فثبت أنّ هذا اللفظ لا يتناول حالة الجمع ، وأمّا الاستثناء فإنّه يشكل بالأمر ، لأنّه لا يفيد التكرار بالاتفاق من المحقّقين ، مع أنّه يصحّ أن يقال : صلّ إلّا في الوقت الفلانيّ.

فصل في جواز عقد النكاح بغير مهر

قال بعض العلماء (٣)(٤) : دلّت هذه الآية على أنّ عقد النكاح بغير المهر جائز.

وقال القاضي (٥) : لا تدلّ على الجواز ، لكنها تدلّ على الصّحة ، فإنّه لو لم يكن صحيحا ، لم يكن الطلاق مشروعا ، ولم تلزم المتعة ، ولا يلزم من الصّحة الجواز ، بدليل أنّ الطلاق في زمن الحيض حرام وإذا أوقعه صحّ.

فصل

بيّن في هذه الآية أن المطلقة قبل الدخول والفرض ، لها المتعة ، وقد تقدّم تفسير

__________________

(١) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٦ / ١١٦.

(٢) ينظر : المصدر السابق.

(٣) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٦ / ١١٨.

(٤) هو أبو بكر الأصم والزجاج.

(٥) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٦ / ١١٨.

٢١٣

«المتعة» في قوله : (فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ) [البقرة : ١٩٦].

واعلم أنّ المطلّقة قبل الدخول ، إن كان قد فرض لها ، فلا متعة لها في قول الأكثرين ؛ لأن الله تعالى أوجب في حقّها نصف المهر ، ولم يذكر المتعة ، ولو كانت واجبة ، لذكرها. وإن لم يكن فرض لها فلها المتعة ؛ لهذه الآية.

قال القرطبي : من جهل المتعة حتّى مضت أعوام ، فليدفع ذلك إليها ، وإن تزوّجت ، وإلى ورثتها إن ماتت ، رواه ابن المواز ، عن ابن القاسم.

وقال أصبغ : لا شيء عليه ، إن ماتت ؛ لأنها تسلية للزوجة عن الطّلاق ، وقد فات ذلك.

ووجه الأول : أنه حقّ ثبت عليه ، فينتقل إلى ورثتها ، كسائر الحقوق.

واختلفوا في المطلّقة بعد الدّخول ، فذهب جماعة : إلى أنه لا متعة لها ؛ لأنها تستحق المهر ، وهو قول أصحاب الرأي. وذهب جماعة : إلى أنّ لها المتعة ؛ لقوله تعالى : (وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ) [البقرة : ٢٤١] ، وهو قول عبد الله بن عمر ، وبه قال عطاء ، ومجاهد ، والقاسم بن محمد ، وإليه ذهب الشافعيّ قال : لأنها تستحقّ المهر بمقابلة إتلاف منفعة البضع ، ولها المتعة على وحشة الفراق.

وقال الزّهريّ (١) : متعتان يقضي بإحداهما السلطان ، وهي المطلقة قبل الفرض ، والمسيس ، وهي قوله : (حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ) ومتعة تلزمه فيما بينه وبين الله تعالى لا يقضي بها السلطان وهي المطلقة بعد الفرض والمسيس وهي قوله : (حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ).

وذهب الحسن ، وسعيد بن جبير (٢) : إلى أنّ لكل مطلقة متعة ، سواء كان قبل الفرض ، والمسيس ، أو بعده ؛ كقوله تعالى : (وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ) ؛ ولقوله في سورة الأحزاب : (فَمَتِّعُوهُنَ) [الأحزاب : ٤٩] وقال الآخر : المتعة غير واجبة ، والأمر بها أمر ندب ، واستحباب.

روي أنّ رجلا طلّق امرأته ، وقد دخل بها ؛ فخاصمته إلى شريح في المتعة ؛ فقال شريح : لا تأب أن تكون من المحسنين ، ولا تأب أن تكون من المتّقين ، ولم يجبره على ذلك (٣).

فصل في بيان مقدار المتعة

اختلفوا في قدر المتعة ، فروي عن ابن عباس : أعلاها خادم ، وأوسطها ثلاثة

__________________

(١) ينظر : تفسير البغوي ١ / ٢١٨.

(٢) ينظر : تفسير البغوي ١ / ٢١٨.

(٣) ينظر : المصدر السابق.

(٣) ينظر : المصدر السابق.

٢١٤

أثواب : درع ، وخمار ، وإزار ، ودون ذلك وقاية ، أو شيء من الورق (١).

وبه قال الشّعبيّ ، والزّهريّ (٢) ، وهو مذهب الشافعي ، وأحمد. قال الشافعي : أعلاها على الموسع : خادم ، وأوسطها : ثوب ، وأقلّها : أقل ماله ثمن حسن ثلاثون درهما ، «وعلى المقتر» مقنعة.

وروي عن ابن عباس أنّه قال : أكثر المتعة خادم ، وأقلها مقنعة (٣) ، وأيّ قدر أدّى ، جاز في جانبي الكثرة ، والقلة.

وطلّق عبد الرحمن بن عوف امرأته وجمعها جارية سوداء ، أي : متّعها (٤).

ومتّع الحسن بن عليّ امرأته بعشرة آلاف درهم ، فقالت : متاع قليل من حبيب مفارق(٥).

وقال أبو حنيفة : المتعة لا تزاد على نصف مهر المثل ، قال : لأنّ حال المرأة التي يسمّى لها المهر ، أحسن من حال التي لم يسمّ لها ، فإذا لم يجب لها زيادة على نصف المسمّى ، إذا طلّقت قبل الدّخول ، فلأن لا يجب زيادة على نصف مهر المثل أولى.

فصل في دلالة الآية على حال الزوج من الغنى والفقر

دلّت الآية على أنّه يعتبر حال الزوج : في الغنى ، والفقر ؛ لقوله : «على الموسع قدره وعلى المقتر قدره».

وقال بعض العلماء : يعتبر حالهما وهو قول القاضي (٦).

وقال أبو بكر الرّازي (٧) : يعتبر في المتعة حال الرجل ؛ للآية ، وفي مهر المثل حالها ، وكذلك في النفقة ، واحتج القاضي بقوله : «بالمعروف» فإنّ ذلك يدلّ على حالهما ؛ لأنه ليس من المعروف أن يسوّي بين الشريفة ، الوضيعة.

فصل

إذا مات أحدهما قبل الدّخول ، والفرض ؛ اختلف أهل العلم في أنها هل تستحقّ المهر ، أم لا؟ فذهب عليّ ، وزيد بن ثابت ، وعبد الله بن عمر ، وعبد الله بن عباس (٨) : إلى أنّه لا مهر لها ، كما لو طلّقها قبل الفرض ، والدخول.

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٥ / ١٢١) عن ابن عباس والشعبي وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ٥١٩) وزاد نسبته لابن المنذر وابن أبي حاتم.

(٢) ينظر : تفسير البغوي ١ / ٢١٨.

(٣) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٦ / ١١٩.

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٥ / ١٢٣).

(٥) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٥ / ١٢٣).

(٦) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٦ / ١١٩.

(٧) ينظر : المصدر السابق.

(٨) ينظر : تفسير البغوي ١ / ٢١٨.

٢١٥

وذهب قوم إلى أنّ لها المهر ، لأن الموت كالدخول في تقرير المسمّى ، فكذلك في إيجاب مهر المثل ، إذا لم يكن في العقد مسمى ، وهو قول الثّوريّ ، وأحمد ، وأصحاب الرّأي.

واحتجّوا بما روى علقمة ، عن ابن مسعود : أنّه سئل عن رجل تزوّج امرأة ، ولم يفرض لها صداقا ، ولم يدخل بها حتى مات.

قال ابن مسعود : لها صداق نسائها ؛ لا وكس ، ولا شطط ؛ وعليها العدّة ، ولها الميراث ؛ فقام معقل بن يسار الأشجعيّ ، فقال : «قضى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في بروع بنت واشق ـ امرأة منّا ـ مثل ما قضيت» ، ففرح بها ابن مسعود (١).

وقال الشّافعيّ : فإن ثبت حديث بروع بنت واشق ، فلا حجّة في قول أحد دون النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وإن لم يثبت ، فلا مهر لها ؛ ولها الميراث. وكان عليّ ـ رضي الله عنه ـ يقول في حديث بروع : لا تقبل قول أعرابيّ من أشجع ، على كتاب الله ، وسنّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

فصل في اختلافهم في الخلوة

إنّما خصّ المحسنين ؛ لأنهم المنتفعون بهذا البيان ، كقوله : (إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها) [النازعات : ٤٥].

وقال أبو مسلم (٢) : من أراد أن يكون من المحسنين ، فهذا شأنه ، وطريقه ، والمحسن : هو المؤمن ؛ فيكون المعنى : أنّ العمل بما ذكرت هو طريق المؤمنين ، وقيل : «حقّا على المحسنين» إلى أنفسهم في المسارعة إلى طاعة الله تعالى.

قوله تعالى : (وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ إِلاَّ أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)(٢٣٧)

هذه الآية في المطلّقة قبل المسيس المفروض لها ؛ فبيّن أنّ لها نصف ما فرض لها.

واختلف أهل العلم في الخلوة ، فقال الشّافعيّ : إنها تقرر نصف المهر.

وقال أبو حنيفة : الخلوة الصّحيحة : أن يخلو بها ، وليس هناك مانع حسي ، ولا شرعيّ ، فالحسّي : كالرّتق ، والقرن والمرض أو معهما ثالث.

والشرعي : كالحيض ، والنّفاس ، وصوم الفرض ، وصلاة الفرض ، والإحرام المطلق ؛ فرضا كان ، أو نفلا.

__________________

(١) أخرجه النسائي (٦ / ١٢٢) رقم (٣٣٥٦ ، ٣٣٥٧) وسعيد بن منصور في «سننه» رقم (٩٢٩).

(٢) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٦ / ١٢٠.

٢١٦

واحتجّ الشّافعيّ : بأن الطلاق قبل المسيس يوجب سقوط نصف المهر ؛ لأن قوله تعالى : (فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ) ليس كلاما تاما ، بل لا بدّ من إضمار [شيء ، ليتم](١) الكلام ، فإمّا أن يضمر : «فنصف ما فرضتم ساقط» ، أو يضمر : «فنصف ما فرضتم ثابت» ، والإضمار الأوّل هو المقصود ؛ لوجوه :

أحدها : أنّ المعلّق على الشّيء بكلمة «إن» عدم عند عدم ذلك الشيء ظاهرا ؛ فلو حملناه على الوجوب ، تركنا العلم بمقتضى التعليق ، لأنّه غير منفي قبله ، وإذا حملناه على السقوط ، عملنا بمقتضى التّعليق ؛ لأنّه منفيّ قبله.

وثانيها : أنّ قوله تعالى : (وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً) يقتضي وجوب كلّ المهر عليه ، لأنه لمّا التزم كلّ المهر ، لزمه الكلّ بقوله تعالى : (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) [المائدة : ١] فلا حاجة إلى بيان ثبوت النصف ، وإنّما المحتاج إليه بيان سقوط النصف ؛ لأن المقتضي لوجوب الكل قائم ، فكان سقوط البعض ها هنا ، هو المحتاج إلى البيان ، فكان حمل الآية على بيان السقوط ، أولى من حملها على بيان الوجوب.

وثالثها : أن الآية الدّالة على وجوب إيتاء المهر ، قد تقدمت في قوله : (وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً) [البقرة : ٢٢٩] فحمل الآية على سقوط النّصف أولى.

ورابعها : أن المذكور في هذه الآية ، هو الطلاق قبل المسيس ، وهو يناسب سقوط نصف المهر ، ولا يناسب وجوب شيء ، فلمّا كان إضمار السقوط أولى ، لا جرم استقصينا هذه الوجوه ؛ لأن منهم من قال : معنى الآية : فنصف ما فرضتم واجب ، وتخصيص النصف بالوجوب ، لا يدلّ على سقوط الآخر ، إلّا من حيث دليل الخطاب ، وهو عند أبي حنيفة ليس بحجّة. وقد ذكرنا هذه الوجوه ؛ دفعا لهذا السؤال.

واستدلّ أبو حنيفة بقوله تعالى : (وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً) إلى قوله : (وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ) [النساء : ٢١] فنهى تعالى عن أخذ المهر ، ولم يفرّق بين الطلاق ، وعدم الطّلاق ، إلّا إن توافقنا على تخصيص الطلاق قبل الخلوة فمن ادّعى التخصيص ـ ها هنا ـ فعليه البيان ، وأيضا فإنّه تعالى نهى عن أخذ المهر ، وعلّل بعلّة الإفضاء ، وهي الخلوة ، لأنّ الإفضاء : مشتقّ من الفضاء ، وهو المكان الخالي فعلمنا أنّ الخلوة تقرّر المهر.

والجواب عن ذلك : بأن دليلهم عامّ ، ودليلنا خاصّ ، والخاصّ مقدّم على العامّ.

قوله تعالى : (وَقَدْ فَرَضْتُمْ) : هذه الجملة في موضع نصب على الحال ، وذو الحال يجوز أن يكون ضمير الفاعل ، وأن يكون ضمير المفعول ؛ لأنّ الرباط موجود فيهما ،

__________________

(١) في ب : حتى يلتئم.

٢١٧

والتقدير : وإن طلقتموهن فارضين لهن ، أو مفروضا لهنّ ، و «فريضة» فيها الوجهان المتقدمان.

والفاء في «فنصف» جواب الشرط ، فالجملة في محلّ جزم ؛ جوابا للشرط ، وارتفاع «نصف» على أحد وجهين : إمّا الابتداء ، والخبر حينئذ محذوف ، وإن شئت قدّرته قبله ، أي : فعليكم أو فلهنّ نصف ، وإن شئت بعده ، أي : فنصف ما فرضتم عليكم ـ أو لهنّ ـ وإمّا على خبر مبتدأ محذوف ، تقديره : فالواجب نصف.

وقرأت (١) فرقة : «فنصف» بالنصب على تقدير : «فادفعوا ، أو أدّوا» ، وقال أبو البقاء (٢) : «ولو قرئ بالنصب ، لكان وجهه فأدّوا [نصف]» فكأنه لم يطّلع عليها قراءة مرويّة.

والجمهور على كسر نون «نصف» ، وقرأ (٣) زيد وعليّ ، ورواها الأصمعيّ قراءة عن أبي عمرو : «فنصف» بضمّ النون هنا ، وفي جميع القرآن ، وهما لغتان ، وفيه لغة ثالثة : «نصيف» بزيادة ياء ، ومنه الحديث : «ما بلغ مدّ أحدهم ولا نصيفه» (٤).

والنّصيف ـ أيضا ـ : القناع ، قاله القرطبي (٥) ، والنّصف : الجزء من اثنين ، يقال : نصف الماء القدح ، أي : بلغ نصفه ، ونصف الإزار السّاق ، وكلّ شيء بلغ نصف غيره ، فقد نصفه.

و «ما» في «ما فرضتم» بمعنى «الّذي» ، والعائد محذوف لاستكمال الشروط ، ويضعف جعلها نكرة موصوفة.

قوله تعالى : (إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ) في هذا الاستثناء وجهان :

أحدهما : أن يكون استثناء منقطعا ، قال ابن عطيّة وغيره : لأنّ عفوهنّ عن النّصف ليس من جنس أخذهنّ».

والثاني : أنه متصل ، لكنه من الأحوال ؛ لأنّ قوله : (فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ) معناه : فالواجب عليكم نصف ما فرضتم في كلّ حال ، إلا في حال عفوهنّ ، فإنه لا يجب ، وإليه نحا أبو البقاء (٦) وهذا ظاهر ، ونظيره : (لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ) [يوسف : ٦٦] وقال

__________________

(١) انظر : المحرر الوجيز ١ / ٣٢٠ ، والبحر المحيط ٢ / ٢٤٤ ، والدر المصون ١ / ٥٨٤.

(٢) ينظر : الإملاء لأبي البقاء ١ / ١٠٠.

(٣) انظر : المحرر الوجيز ١ / ٣٢٠ ، والبحر المحيط ٢ / ٢٤٤ ، والدر المصون ١ / ٥٨٤.

(٤) أخرجه البخاري (٧ / ٢١) كتاب فضائل الصحابة باب قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لو كنت متخذا خليلا ومسلم (٤ / ١٩٦٧ ـ ١٩٦٨) كتاب فضائل الصحابة باب تحريم سب الصحابة (٢٢٢ ـ ٢٥٤١) وأبو داود (٤ / ٢١٤) كتاب السنة باب النهي عن سب أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والترمذي (٥ / ٦٥٣) كتاب المناقب باب فضل من بايع تحت الشجرة.

(٥) ينظر : تفسير القرطبي ٣ / ١٣٥.

(٦) ينظر : الإملاء لأبي البقاء ١ / ١٠٠.

٢١٨

أبو حيان «إلّا أنّ من منع أن تقع «أن» وصلتها حالا ، كسيبويه (١) ؛ فإنه يمنع ذلك ، ويكون حينئذ منقطعا».

وقرأ الحسن (٢) «يعفونه» بهاء مضمومة وفيها وجهان :

أحدهما : أنها ضمير يعود على النّصف ، والأصل : إلّا أن يعفون عنه ، فحذف حرف الجرّ ، فاتصل الضمير بالفعل.

والثاني : أنها هاء السكت والاستراحة ، وإنما ضمّها ؛ تشبيها بهاء الضمير ، كقول الآخر [الطويل]

١١٤٤ ـ هم الفاعلون الخير والآمرونه

 ..........(٣)

على أحد التأويلين في البيت أيضا.

وقرأ ابن أبي (٤) إسحاق : «تعفون» بتاء الخطاب ، ووجهها الالتفات من ضمير الغيبة إلى الخطاب ، وفائدة هذا الالتفات التحضيض على عفوهنّ ، وأنه مندوب.

و «يعفون» منصوب ب «أن» تقديرا ؛ فإنّه مبنيّ ؛ لاتصاله بنون الإناث ، هذا رأي الجمهور ، وأمّا ابن درستويه ، والسّهيليّ : فإنه عندهما معرب ، وقد فرّق الزمخشريّ وأبو البقاء (٥) بين قولك : «الرّجال يعفون» و «النّساء يعفون» وإن كان [هذا] من الواضحات بأنّ قولك «الرّجال يعفون» الواو فيه ضمير جماعة الذكور ، وحذف قبلها واو أخرى هي لام الكلمة ، فإن الأصل : «يعفوون» ، فاستثقلت الضمة على الواو الأولى ، فحذفت ، فبقيت ساكنة ، وبعدها واو الضمير أيضا ساكنة ، فحذفت الواو الأولى ؛ لئلّا يلتقي ساكنان ، فوزنه «يفعون» ، والنون علامة الرفع ؛ فإنه من الأمثلة الخمسة ـ وأنّ قولك : «النّساء يعفون» ، الواو لام الفعل ، والنون ضمير جماعة الإناث ، والفعل معها مبنيّ ، لا يظهر للعامل فيه أثر قال شهاب الدين : وقد ناقش الشيخ الزمخشريّ بأنّ هذا من الواضحات التي بأدنى قراءة في هذا العلم تعرف ، وبأنه لم يبيّن حذف الواو من قولك : «الرّجال يعفون» ، وأنه لم يذكر خلافا في بناء المضارع المتّصل بنون الإناث ، وكلّ هذا سهل لا ينبغي أن يناقش بمثله.

وقوله تعالى : (أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي) «أو» هنا فيها وجهان :

أحدهما : هي للتنويع.

والثاني : أنها للتخيير ، والمشهور فتح الواو ؛ عطفا على المنصوب قبله ، وقرأ

__________________

(١) ينظر : الكتاب لسيبويه ١ / ١٩٥.

(٢) انظر : الدر المصون ١ / ٥٨٥.

(٣) تقدم رقم ٧٧٥.

(٤) انظر : البحر المحيط ٢ / ٢٤٥ ، والدر المصون ١ / ٥٨٥.

(٥) ينظر : الإملاء لأبي البقاء ١ / ١٠٠.

٢١٩

الحسن (١) بسكونها واستثقل الفتحة على الواو ، فقدّرها كما يقدّرها في الألف ، وسائر العرب على استخفافها ، ولا يجوز تقديرها إلا في ضرورة ؛ كقوله ـ هو عامر بن الطّفيل ـ [الطويل]

١١٤٥ ـ فما سوّدتني عامر عن وراثة

أبى الله أن أسمو بأمّ ولا أب (٢)

ولمّا سكّن الواو ، حذفت للساكن بعدها ، وهو اللام من «الّذي» ، وقال ابن عطية «والذي عندي أنه استثقل الفتحة على واو متطرّفة قبلها متحرك ؛ لقّلة مجيئها في كلامهم» وقال الخليل : «لم يجئ في الكلام واو مفتوحة متطرفة قبلها فتحة إلا قولهم «عفوة» جمع عفو ، وهو ولد الحمار ، وكذلك الحركة ـ ما كانت ـ قبل الواو المفتوحة فإنّها ثقيلة» انتهى. قال أبو حيّان : فقوله : «لقلّة مجيئها» ، يعني : مفتوحة ، مفتوحا ما قبلها ، وهذا الذي ذكره فيه تفصيل ، وذلك أنّ الحركة قبلها : إمّا أن تكون ضمة ، أو كسرة ، أو فتحة ، فإن كانت ضمّة : فإمّا أن يكون ذلك في اسم أو فعل ، فإن كان في فعل ، فهو كثير ، وذلك جميع أمثلة المضارع الداخل عليها حرف نصب ؛ نحو : «لن يغزو» ، والذي لحقه نون التوكيد منها ؛ نحو : «هل يغزونّ» ، وكذلك الأمر ؛ نحو : «اغزونّ» ، وكذا الماضي على «فعل» في التعجب ؛ نحو : سرو الرّجل ؛ حتى إن ذوات الياء تردّ إلى الواو في التعجّب ، فيقولون : «لقضو الرّجل» ، على ما قرّر في باب التصريف ، وإن كان ذلك في اسم : فإمّا أن يكون مبنيّا على هاء التأنيث ، فيكثر أيضا ؛ نحو : عرقوة وترقوة وقمحدوة ، وإن كان قبلها فتحة ، فهو قليل ؛ كما ذكر الخليل ، وإن كان قبلها كسرة ، قلبت الواو ياء ؛ نحو : الغازي والغازية ، وشذّ من ذلك «أفروة» جمع «فروة» ، وهي ميلغة الكلب ، و «سواسوة» وهم : المستوون في الشّرّ ، و «مقاتوة» جمع مقتو ، وهو السائس الخادم ، وتلخّص من هذا أنّ المراد بالقليل واو مفتوحة متطرّفة مفتوح ما قبلها [في] اسم غير ملتبس بتاء التأنيث ، فليس قول ابن عطية «والّذي عندي إلى آخره» بظاهر.

والمراد بقوله : (الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ) قيل : الزوج ، وقيل : الوليّ و «أل» في النكاح للعهد ، وقيل بدل من الإضافة ، أي : نكاحة ؛ كقوله : [الطويل]

١١٤٦ ـ لهم شيمة لم يعطها الله غيرهم

من الجود ، والأحلام غير عوازب (٣)

أي : أحلامهم ، وهذا رأي الكوفييّن. وقال بعضهم : في الكلام حذف ، تقديره :

__________________

(١) انظر : المحرر الوجيز ١ / ٣٢١ ، والبحر المحيط ٢ / ٢٤٦ ، والدر المصون ١ / ٥٨٦.

(٢) ينظر المفصل لابن يعيش ١٠ / ١٠٠ ، الخزانة ٣ / ٢٣٧ ، الحماسة ١ / ٢١ ، البحر ٢ / ٢٤٦ ، مغني اللبيب (٦٧٧) ، العيني ١ / ٢٤٢ ، الأشموني ١ / ١٠١ ، الدر المصون ١ / ٥٨٦.

(٣) البيت للنابغة ينظر ديوانه (٥٦) ، القرطبي (٣ / ١٣٦) ، البحر ٢ / ٢٤٦ ، الدر المصون ١ / ٥٨٦.

٢٢٠