اللّباب في علوم الكتاب - ج ٤

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ٤

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٥٨

ربّي ، اللهمّ رضيت ، وسلّمت لأمرك ، وأنكح أخته زوجها (١).

الثاني : روى مجاهد ، والسدي : أنّ جابر بن عبد الله ، كانت له ابنة عمّ فطلقها زوجها ، وأراد رجعتها بعد العدّة ؛ فأبى جابر ؛ فأنزل الله ـ تعالى ـ هذه الآية ، وكان جابر يقول : فيّ نزلت هذه الآية (٢).

وقيل : الخطاب فيهما للأزواج ، ونسب العضل إليهم ؛ لأنهم كذلك كانوا يفعلون ، يطلّقون ، ويأبون أن تتزوج المرأة بعدهم ؛ ظلما وقهرا.

قوله : «أزواجهنّ» مجاز ؛ لأنه إذا أريد به المطلّقون ، فتسميتهم بذلك اعتبارا بما كانوا عليه ، وإن أريد بهم غيرهم ممّن يردن تزويجهم فباعتبار ما يؤولون إليه. قال ابن الخطيب (٣) : وهذا هو المختار ؛ لأن قوله : (وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ) شرط ، والجزاء قوله : (فَلا تَعْضُلُوهُنَّ) والشرط خطاب مع الأزواج ، فيكون الجزاء خطابا معهم أيضا ؛ لأنه لو لم يكن كذلك ، لصار تقدير الآية : إذا طلقتم النساء أيّها الأزواج ، فلا تعضلوهنّ أيها الأولياء ، وحينئذ لا يكون بين الشرط والجزاء مناسبة أصلا ، وذلك يوجب تفكيك نظم الآية ، وتنزيه كلام الله ـ عزوجل ـ عن مثل هذا ، واجب. ثم يتأكد بوجهين آخرين :

الأول : أنّه من أوّل آية الطّلاق إلى هذا الموضع ، خطاب مع الأزواج ، ولم يجر للأولياء ذكر ألبتّة ، وصرف الخطاب إلى الأولياء خلاف النّظم.

الثاني : أنّ ما قبل هذه الآية خطاب مع الأزواج في كيفية معاملتهم مع النساء بعد انقضاء العدّة ، فكان صرف الخطاب إلى الأزواج ، أولى ؛ لأنه ترتيب حسن لطيف.

واستدلّ الأولون بما تقدّم من سبب النزول.

ويمكن الجواب عنه من وجهين :

الأول : أنّ المحافظة على نظم كلام الله ـ تعالى ـ ، أولى من المحافظة على خبر الواحد.

__________________

(١) أخرجه بهذا اللفظ الحاكم (٢ / ١٧٤) والبيهقي (٧ / ١٣٨) والطبري في «تفسيره» (٥ / ١٩) عن الحسن.

وأخرجه الحاكم (٢ / ١٨٠) والطبري في «تفسيره» (٥ / ١٨) مختصرا عن معقل بن يسار.

وقال الحاكم : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.

وتعقبه الذهبي فقال : الفضل ضعفه ابن معين وقواه غيره.

وأخرجه باختصار أيضا البخاري (٩ / ٤٢٥ ـ ٤٢٦) والطبري في «تفسيره» (٥ / ١٧) عن الحسن عن معقل بن يسار.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٥ / ٢١ ـ ٢٢) والأثر ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ٥١١) وزاد نسبته لابن المنذر عن السدي.

(٣) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٦ / ٩٦.

١٦١

الثاني : أنّ الرّوايتين في سبب النزول تعارضتا ؛ فروي أنّ معقل كان يقول : فيّ نزلت هذه الآية ، وجابر كان يقول فيّ نزلت ، وإذا تعارضت الروايتان تساقطتا فبقي ما ذكرناه من التّمسك بنظم كلام الله ـ تعالى ـ سليما عن المعارض ، وفي هذا الاستدلال نظر ، ولا تعارض بين الخبرين ؛ لأن مدلولهما واحد.

واحتجوا أيضا بأن هذه الآية لو كانت خطابا مع الأزواج ، فلا تخلو إمّا أن تكون خطابا معهم قبل انقضاء العدّة ، أو بعد انقضائها.

والأول باطل ؛ لأنّ ذلك مستفاد من الآية الأولى ، فلما حملنا هذه الآية على هذا المعنى ، كان تكرارا من غير فائدة ، وأيضا فقد قال تعالى : (فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ) فنهى عن العضل حال حصول التراضي ، ولا يحصل التراضي بالنكاح ، إلّا بعد التصريح بالخطبة ولا يجوز التصريح بالخطبة إلّا بعد انقضاء العدّة ، وقال تعالى : (وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ) [البقرة : ٢٣٥].

والثاني ـ أيضا ـ باطل ؛ لأنّ بعد انقضاء العدّة ، ليس للزوج قدرة على عضل المرأة ، فكيف يصرف هذا النهي إليه؟!

ويمكن أن يجاب : بأن الرجل يمكن أن يكون بحيث يشتد ندمه على مفارقة المرأة ، بعد انقضاء عدّتها ، وتلحقه الغيرة ، إذا رأى من يخطبها ، وحينئذ يعضلها عن من ينكحها ، إمّا بأن يجحد الطلاق ، أو يدّعي أنه كان راجعها في العدّة ، أو يدس إلى من يخطبها بالتهديد والوعيد ، أو يسيء القول فيها : بأن ينسبها إلى أمور تنفّر الرجال عنها ، فنهى الله تعالى الأزواج عن هذه الأفعال ، وعرّفهم أن تركها أزكى ، وأطهر ، من دنس الآثام.

واحتجوا ـ أيضا ـ بقوله تعالى : (أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ) قالوا : معناه : ولا يمنعوهن أن ينكحن الذين كانوا أزواجا لهنّ قبل ذلك ، وهذا الكلام لا ينتظم إلّا إذا جعلنا الآية خطابا للأولياء.

ويمكن الجواب : بأنّ معنى قوله : (أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ) أن ينكحن من يردن أن يتزوّجنه ، فيكونون أزواجا لهن والعرب تسمي الشّيء بما يؤول إليه.

[وقيل : الخطاب فيهما للأولياء ، وفيه بعد ؛ من حيث إنّ الطلاق لا ينسب إليهم إلا بمجاز بعيد ، وهو أن جعل تسبّبهم في الطّلاق طلاقا] والفاء في (فَلا تَعْضُلُوهُنَّ) جواب «إذا».

والعضل : قيل : المنع ، ومنه : «عضل أمته» ، منعها من التزوّج ، يعضلها بكسر العين وضمّها ؛ قال ابن هرمز : [الوافر]

١٦٢

١١١٨ ـ وإنّ قصائدي لك فاصطنعني

كرائم قد عضلن عن النّكاح (١)

وقال : [الطويل]

١١١٩ ـ ونحن عضلنا بالرّماح نساءنا

وما فيكم عن حرمة الله عاضل (٢)

ومنه : «دجاجة معضل» ، أي : احتبس بيضها ، وقيل : أصله الضّيق ؛ قال أوس : [الطويل]

١١٢٠ ـ ترى الأرض منّا بالفضاء مريضة

معضّلة منّا بجيش عرمرم (٣)

أي : ضيّقة بهم ، وعضلت المرأة ، أي : نشب ولدها في بطنها ، وكذلك عضلت الشّاة ، وأعضل الدّاء الأطبّاء : إذا أعياهم ، ويقال : داء عضال ، أي : ضيّق العلاج ؛ وقالت ليلى الأخيلية : [الطويل]

١١٢١ ـ شفاها من الدّاء العضال الّذي بها

غلام إذا هزّ القناة شفاها (٤)

والمعضلات : المشكلات ؛ لضيق فهمها ؛ قال الشافعيّ : [المتقارب]

١١٢٢ ـ إذا المعضلات تصدّينني

كشفت حقائقها بالنّظر (٥)

قوله تعالى : «أن ينكحن» فيه وجهان :

أحدهما : أنه بدل من الضمير المنصوب في «تعضلوهنّ» بدل اشتمال ، فيكون في محلّ نصب ، أي : فلا تمنعوا نكاحهنّ.

والثاني : أن يكون على إسقاط الخافض ، وهو إمّا «من» ، أو «عن» ، فيكون في محلّ «أن» الوجهان المشهوران : أعني مذهب سيبويه (٦) ، ومذهب الخليل. و «ينكحن» مضارع «نكح» الثّلاثيّ ، وكان قياسه أن تفتح عينه ؛ لأنّ لامه حرف حلق.

قوله : (إِذا تَراضَوْا) في ناصب هذا الظّرف وجهان :

أحدهما : «ينكحن» أي : أن ينكحن وقت التّراضي.

والثاني : أن يكون «تعضلوهنّ» أي : لا تعضلوهنّ وقت التّراضي ، والأول أظهر. و «إذا» هنا متمحّضة للظرفية. والضمير في : «تراضوا» يجوز أن يعود إلى الأولياء وللأزواج ، وأن يعود على الأزواج والزوجات ، ويكون من تغليب المذكر على المؤنث.

قوله : «بينهم» ظرف مكان مجازيّ ، وناصبه «تراضوا».

__________________

(١) ينظر : الكشاف ٢ / ٢٧٨ ، الدر المصون ١ / ٥٦٦.

(٢) ينظر : البحر ٢ / ٢١٥ ، الدر المصون ١ / ٥٦٦.

(٣) ينظر : ديوانه (١٢١) ، اللسان : مرض ، الدر المصون ١ / ٥٦٦.

(٤) ينظر ديوانها (١١٨) ، اللسان : عضل ، الدر المصون ١ / ٥٦٧.

(٥) ينظر : ديوانه (٤٨) ، البحر ٢ / ٢١٦ ، الدر المصون ١ / ٥٦٧.

(٦) ينظر : الكتاب لسيبويه ١ / ١٧.

١٦٣

قوله : «بالمعروف» فيه أربعة أوجه :

أحدها : أنه متعلق بتراضوا ، أي : تراضوا بما يحسن من الدّين والمروءة.

والثاني : أن يتعلّق ب «ينكحن» فيكون «ينكحن» ناصبا للظرف ، وهو «إذا» ؛ ولهذا الجارّ أيضا.

والثالث : أن يتعلّق بمحذوف على أنّه حال من فاعل تراضوا.

والرابع : أنه نعت مصدر محذوف ، دلّ عليه الفعل ، أي : تراضيا كائنا بالمعروف.

فصل

تمسّك بهذه الآية من يشترط الوليّ في النكاح ؛ بناء على أنّ الخطاب في هذه الآية للأولياء ، قال : لأنّ المرأة لو كانت تزوّج نفسها ، أو توكّل من يزوّجها ، ما كان الوليّ قادرا على عضلها من النّكاح ، ولو لم يكن قادرا على العضل لما نهاه الله عن العضل وقد تقدم ما فيه من البحث ، وإن سلم ، فلم لا يجوز أن يكون المراد بالنّهي عن العضل أن يخليها ورأيها في ذلك ؛ لأنّ الغالب في الأيامى أن يرجعن إلى رأي الأولياء ، في باب النكاح ، وإن كان الاستئذان الشرعي حاصلا لهن ، وأن يكنّ تحت رأيهم ، وتدبيرهم ، وحينئذ يكونون متمكّنين من منعهنّ ؛ لتمكنهم من تخليتهن ، فيكون النّهي محمولا على هذا الوجه ، وهذا منقول عن ابن عبّاس ، في تفسير هذه الآية (١). وأيضا فثبوت العضل في حقّ الولي ممتنع ؛ لأنه متى عضل القريب فلا يبقى لعضله أثر.

وتمسّك أبو حنيفة بقوله تعالى : (أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ) على أنّ النكاح بغير وليّ جائز ، قال : لأنه أضاف النكاح إليها إضافة الفعل إلى فاعله ، ونهى الوليّ عن منعها منه ، قال : ويتأكّد هذا بقوله تعالى : (حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ) ، وبقوله : (فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ) ، وتزويجها نفسها من الكفء ، فعل بالمعروف ؛ فوجب أن يصحّ.

وقوله تعالى : (وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِ) [الأحزاب : ٥٠] دليل واضح مع أنّه لم يحضر هناك ولي البتّة.

وأجاب الأولون : بأن الفعل كما يضاف إلى المباشر ، قد يضاف إلى المتسبّب ، يقال : بنى الأمير دارا ، وضرب دينارا ، وإن كان مجازا ، إلّا أنّه يجب المصير إليه ؛ لدلالة الأحاديث على بطلان هذا النّكاح.

__________________

(١) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٦ / ٩٧.

١٦٤

فصل في اختلاف البلوغين

قال الشّافعيّ ـ رحمه‌الله ـ دلّ سياق الكلامين ـ أي في الآيتين ـ على افتراق البلوغين ، ومعناه أنّه تعالى قال في الآية الأولى : (فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) ولو كانت عدّتها قد انقضت ، لما قال : (فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) لأن إمساكها بعد العدّة لا يجوز وتكون مسرّحة ، فلا حاجة إلى تسريحها ، وأما هذه الآية ، فإنه نهى عن عضلهن عن التّزويج ، وهذا النّهي إنّما يحسن في الوقت الذي يمكنها أن تتزوّج فيه ، وذلك إنّما يكون بعد انقضاء العدّة ، فهذا هو المراد من قول الشافعي «دلّ سياق الكلامين على افتراق البلوغين».

فصل في معنى التراضي بالمعروف

في التّراضي بالمعروف ، وجهان :

أحدهما : ما وافق الشّرع من عقد حلال ، ومهر جائز ، وشهود عدول.

الثاني : هو ما يضادّ قوله : (وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا) فيكون معناه : أن يرضى كلّ واحد منهما بما لزمه بحق هذا العقد لصاحبه ؛ حتى تحصل الصّحبة الجميلة ، وتدوم الألفة.

قال بعضهم : التراضي بالمعروف ، هو مهر المثل ، وفرّعوا عليه مسألة فقهية ، وهي أنها إذا زوّجت نفسها بأنقص من مهر مثلها ، نقصانا فاحشا ، فالنكاح صحيح عند أبي حنيفة ، وللولي أن يعترض عليها بسبب ذلك النّقصان.

وقال أبو يوسف ومحمّد ليس للوليّ ذلك.

قوله : «ذلك» مبتدأ و «يوعظ» وما بعده خبره. والمخاطب قيل : إمّا الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ أو كلّ سامع ، ولذلك جيء بالكاف الدالّة على الواحد ، وقيل : للجماعة ، وهو الظّاهر ، فيكون «ذلك» بمعنى : «ذلكم» ، ولذلك قال بعده : «منكم» وهو جائز في اللّغة ، والتّثنية والجمع أيضا جائز ، قال تعالى : (ذلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي) [يوسف : ٣٧] وقال : (فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ) [يوسف : ٣٢] وقال : (ذلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ) [الطلاق : ٢] وقال : (أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ) [الأعراف : ٢٢] وإنّما وحّد الخطاب وهو للأولياء ؛ لأن الأصل في مخاطبة الجمع «لكم» ثم كثر حتّى توهّموا أن «الكاف» من نفس الحرف ، وليست بكاف خطاب ؛ فقالوا ذلك ، فإذا قالوا هذا ، كانت الكاف موحّدة منصوبة في الاثنين ، والجمع ، والمؤنّث ، و «من كان» في محلّ رفع ؛ لقيامه مقام الفاعل. وفي «كان» اسمها ، يعود على «من» و «يؤمن» في محلّ نصب ، خبرا ل «كان» و «منكم» : إمّا متعلّق بكان عند من يرى أنها تعمل في الظّرف وشبهه ، وإمّا بمحذوف على أنه حال من فاعل يؤمن. فإن قيل : لم أتى باسم الإشارة

١٦٥

البعيد والمشار إليه قريب وهو الحكم المذكور في العضل؟

والجواب : أنّ ذلك دليل على تعظيم المشار إليه. وخصّص هذا الوعظ بالمؤمنين دون غيرهم ؛ لأنّهم المنتفعون به فلذلك حسن تخصيصهم ؛ كقوله : (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) [البقرة : ٢] وهو هدى للكلّ ، كما قال : (هُدىً لِلنَّاسِ) [البقرة : ١٨٥] ، وقال : (إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها) [النازعات : ٤٥] (إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ) [يس : ١١] ، مع أنّه كان منذرا للكلّ ؛ كما قال : (لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً) [الفرقان : ١].

فصل في خطاب الكفار بفروع الشريعة (١)

احتجّوا بهذه الآية على أنّ الكفار ليسوا بمخاطبين بفروع الإسلام ؛ لأن تخصيصه

__________________

(١) تحرير محل النزاع هو هل الكفار مخاطبون بأداء فروع الشريعة مع انتفاء شرطها وهو الإيمان وهل يعاقبون في الآخرة على تركها كما يعاقبون على ترك الإيمان أم لا؟ مع أنهم متفقون على أن الكفار مخاطبون بالإيمان والعقوبات والمعاملات والعبادات في حق المؤاخذة في الآخرة بترك الاعتقاد.

فذهب الشافعية ، والمالكية ، وفي إحدى الروايات عن أحمد ، والمعتزلة ، والعراقيون من الحنفية ؛ إلى أنهم مخاطبون بفروع الشريعة ؛ كما أنهم مخاطبون بالاعتقاد ، ويعاقبون على ترك الاعتقاد والفروع جميعا في الآخرة ، وقالوا : بأن الكفر لا يصلح أن يكون مانعا من دخولهم في الإسلام ، لأنهم متمسكون في إزالته بالإيمان ، ويكون زمن الكفر ظرفا للتكليف لا للإيقاع ، فهو مأمور بأن يسلم ثم يوقع الفعل. والمقتضي للتكليف قائم والمانع مفقود كالمحدث ، والحديث يقتضي سبق التكليف به ولكنه يسقط ترغيبا في الإسلام.

وذهب مشايخ علماء سمرقند من الحنفية ، ومنهم أبو زيد ، وشمس الأئمة السرخسي ، وفخر الإسلام البزدوي ، وأبو حامد الإسفرائيني من الشافعية وعزاه البيضاوي في «المنهاج» إلى المعتزلة. وفي «مسلم الثبوت» ، وفي إحدى الروايات عن أحمد إلى أنهم غير مكلفين بفروع الشريعة ، ولا يعاقبون في الآخرة ، إلا على ترك الاعتقاد بها ولا يعاقبون على ترك أدائها ، وقالوا بأن الكافر ليس أهلا للأداء وتصير ذمته كالمعدومة حكما في الصلاحية ؛ لوجوب أداء العبادات تحقيقا لمعنى الهوان في حقهم ؛ لأن التكليف بالفروع إنما هو لتهذيب الأخلاق الحميدة وتكميل الإيمان ، والتقرب إلى الله ونيل الدرجات العلى والكافر لا يصلح لهذا كله ، فلا يصلح للتكليف ، فمثله كمريض لا يرجى تأثير الدواء فيه فيعرض الطبيب عنه فإعراض الله تعالى لا يسمى تشريفا لهم ، بل لكمال إذلالهم ، فاندفع ما قيل بأن الكفر لا يصلح مرفها بإسقاط التكليف ، واعلم أن هذه المسألة ليست محفوظة عن أبي حنيفة وأصحابه نصّا ، وإنما استنبطها مشايخ سمرقند اللاحقون من الفروع الفقهية من قول محمد بن الحسن فيمن نذر صوم شهر فارتد ، ثم أسلم لم يلزمه المنذور ، فعلم أن الكفر يبطل وجوب أداء العبادات ؛ لعدم الفرق بين الواجب بالنذر وسائر الواجبات في الوجوب.

وهناك مذهب ثالث ذهب إلى التفصيل : وهو أنهم مكلفون بالنواهي دون الأوامر ، والفرق أن النواهي يخرج المكلف عن عهدتها بمجرد تركها وإن لم يشعر بها ، فضلا عن القصد إليها وأما الأمر فلا يخرج عن عهدته حتى يعتقد وجوبه.

قال النووي في «شرح المهذب» : وأما الكافر الأصلي : فاتفق أصحابنا في كتب الفروع على أنه لا تجب عليه الصلاة والزكاة والصوم ، والحج وغيرها من فروع الإسلام ، وأما في كتب الأصول فقال

١٦٦

المؤمنين بالأحكام المشار إليها ، دليل على أنّ التكليف مختصّ بمن يؤمن بالله واليوم الآخر.

وأجيبوا بأنّ التكليف قد ورد عامّا ؛ قال تعالى (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) [آل عمران : ٩٧] وبيان الأحكام وإن كان عامّا في حق كل المكلّفين ، إلّا أنّه قد يكون ذلك البيان وعظا للمؤمنين ؛ لأن هذه التكاليف إنّما تتوجه على الكفّار على سبيل إثباتها بالدليل القاهر الملزم المعجز ، وأمّا المؤمن المقرّ فإنّما تذكر له وتشرح على سبيل العظة ، والتحذير.

قوله تعالى : (أَزْكى لَكُمْ وَأَطْهَرُ) [البقرة : ٢٣٢] زكا الزرع إذا نما وألف أزكى منتقلة عن واو ، وقوله : «أزكى» إشارة إلى استحقاق الثّواب ، وقوله : «أطهر» إشارة إلى إزالة الذنوب.

قال المفسّرون : أزكى لكم وأطهر لقلوبكم من الرّيبة. و «لكم» متعلق بمحذوف ؛ لأنه صفة ل «أزكى» فهو في محلّ رفع وقوله : «وأطهر» أي : لكم ، والمفضّل عليه محذوف ؛ للعلم به ، أي : من العضل.

قوله : (وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) معناه : أنّ المكلّف وإن كان يعلم وجه الصّلاح في هذه التكاليف على الجملة ، إلّا أنّ التفصيل غير معلوم ، والله تعالى عالم في كل ما أمر ونهى ، بالكمية والكيفية بحسب الواقع وبحسب التقدير ؛ لأنّه تعالى عالم بما لا نهاية له من المعلومات.

قال بعض المفسّرين (١) : معناه أنّ لكل واحد من الزوجين ، قد يكون في نفسه من

__________________

ـ جمهورهم : هو مخاطب بالفروع ، كما هو مخاطب بأصل الإيمان ، وقيل : لا يخاطب بالفروع ، وقيل : يخاطب بالمنهي عنه ؛ كتحريم الزنا والسرقة والخمر وأشباهها دون المأمور به كالصلاة والحج ، والصحيح الأول ، وليس هو مخالفا لقولهم في الفروع ، لأن المراد هنا غير المراد هناك ، فمرادهم في كتب الفروع أنهم لا يطالبون بها في الدنيا مع كفرهم وإذا أسلم أحدهم ، لم يلزمه قضاء الماضي ، ولم يتعرضوا لعقوبة الآخرة ، ومرادهم في كتب الأصول أنهم يعذبون عليها في الآخرة زيادة على عذاب الكفر ، فيعذبون عليها وعلى الكفر جميعا لا على الكفر وحده ولم يتعرضوا للمطالبة في الدنيا ، فذكروا في الأصول حكم أحد الطرفين ، وفي الفروع حكم الطرف الآخر.

البحر المحيط للزركشي ٣ / ٦٣ ، التمهيد للإسنوي ص ٣٦٤ ، ونهاية السول له ١ / ٣٦٩ ، زوائد الأصول ص / ١٧٠ ، منهاج العقول للبدخشي ١ / ٢٠٣ ، التحصيل من المحصول للأرموي ١ / ٣٢١ ، المنخول للغزالي ص / ٣١ ، الإبهاج لابن السبكي ١ / ١٧٧ ، الآيات البينات لابن قاسم العبادي ١ / ٢٨٥ ، تخريج الفروع على الأصول للزنجاني ص ٩٨ ، كشف الأسرار للنسفي ١ / ١٣٧ ، شرح التلويح على التوضيح لسعد الدين مسعود بن عمر التفتازاني ١ / ٢١٣ ، نسمات الأسحار لابن عابدين ص / ٦٠ ، ميزان الأصول للسمرقندي ١ / ٣٠٤.

(١) ينظر : تفسير البغوي ١ / ٢١١.

١٦٧

الآخر علاقة حبّ لم يؤمن أن يتجاوز ذلك إلى غير ما أحلّ الله لهما ، ولم يؤمن من الأولياء أن يسبق إلى قلوبهم منهما ما لعلهما أن يكونا بريئين من ذلك ، فيأثمون والله يعلم من حبّ كلّ واحد منهما لصاحبه ، ما لا تعلمون أنتم.

قوله تعالى : (وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَها لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ فَإِنْ أَرادا فِصالاً عَنْ تَراضٍ مِنْهُما وَتَشاوُرٍ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِذا سَلَّمْتُمْ ما آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)(٢٣٣)

قوله تعالى : (وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ) كقوله (وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ) فليلتفت إليه.

قال القرطبي : لما ذكر الله تعالى النّكاح والطّلاق ذكر الولد ؛ لأن الزّوجين قد يفترقان وثمّ ولد فالآية إذن في المطلّقات اللاتي لهنّ أولاد من أزواجهنّ ، قاله السّدّيّ ، وغيره (١).

قال : «والوالدات» ولم يقل والزّوجات ، لأن أمّ الطّفل قد تكون مطلّقة والوالد والوالدة صفتان غالبتان ، جاريتان مجرى الجوامد ؛ ولذلك لم يذكر موصوفهما.

وقوله : «حولين» منصوب على ظرف الزمان ، ووصفهما بكاملين دفعا للتجوّز ، إذ قد يطلق «الحولان» على الناقصين شهرا وشهرين ، من قولهم أقام فلان بمكان كذا حولين أو شهرين وإنّما أقام حولا وبعض الآخر ، ومثله : (فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ) [البقرة : ٢٠٣] ومعلوم أنه يتعجّل في يوم ، وبعض اليوم الثّاني ، والحول من حال الشّيء يحول إذا انقلب ، فالحول منقلب من الوقت الأول إلى الثاني. وسمّيت السنة حولا ؛ لتحوّلها ، والحول أيضا : الحيل ، ويقال : لا حول ولا قوة ، ولا حيل ولا قوّة.

فصل في تفسير «الولدات»

في «الوالدات» ثلاثة أقوال :

أحدها : أنّ المراد منه جميع الوالدات سواء كنّ مطلقات ، أو متزوّجات لعموم اللّفظ.

الثاني : المراد منه المطلقات ؛ لأنّه ذكر هذه الآية عقيب آية الطّلاق ، ومناسبته من وجهين:

الأول : أنه إذا طلّقت المرأة ، فيحصل التباغض ، فقد تؤذي المرأة الطفل لأمرين :

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٥ / ٣٨).

١٦٨

إمّا لأنّ إيذاءه يتضمّن إيذاء الأب ، وإمّا لرغبتها في زوج آخر فيفضي إلى إهمال أمر الطّفل.

الثاني : قال السّدّيّ : ومما يدلّ على أنّ المراد منه المطلقات ، قوله بعد ذلك : «وعلى المولود له رزقهنّ وكسوتهنّ». ولو كانت زوجة ، لوجب على الزّوج ذلك من غير إرضاع.

ويمكن الجواب عن الأوّل : أنّ هذه الآية مشتملة على حكم مستقلّ بنفسه ، فلم يجب تعلّقها بما قبلها ، وعن قول السديّ : أنّه لا يبعد أن تستحقّ المرأة قدرا من المال ، لمكان الزوجيّة ، وقدرا آخر للإرضاع ، ولا منافاة بين الأمرين.

القول الثالث : قال الواحديّ في «البسيط» الأولى أن يحمل على الزوجات في حال بقاء النكاح ؛ لأن المطلّقة لا تستحقّ إلّا الأجرة.

فإن قيل : إذا كانت الزوجية باقية ، فهي مستحقة للنفقة ، والكسوة ؛ بسبب النكاح سواء أرضعت الولد ، أو لم ترضعه ، فما وجه تعليق هذا الاستحقاق بالإرضاع؟

قلنا : النفقة والكسوة يجبان في مقابلة التمكين ، فإذا اشتغلت بالحضانة والإرضاع ولم تتفرغ لخدمة الزوج ، ربّما توهّم متوهّم أنّ نفقتها وكسوتها تسقط بالخلل الواقع في خدمة الزوج ؛ فقطع الله ذلك الوهم بإيجاب الرّزق إذا اشتغلت المرأة بالرضاع (١).

فصل

هذا الكلام ، وإن كان خبرا فمعناه الأمر ؛ وتقديره : يرضعن أولادهنّ في حكم الله الذي أوجبه ؛ إلّا أنه حذف ذلك للتصرف في الكلام مع زوال الإيهام ، وهو أمر استحباب ، لا إيجاب ؛ لأنها لو وجب عليها الرضاع لما استحقت الأجرة ، وقد قال : (فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَ) [الطلاق : ٦] وقال : (وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى) [الطلاق : ٦] وإذا ثبت الاستحباب ، فهو من حيث إنّ تربية الطفل بلبن الأمّ أصلح له من سائر الألبان ، ومن حيث إنّ شفقة الأم أتمّ من شفقة غيرها.

فصل

قال القرطبي (٢) : اختلف الناس في الرضاع : هل هو حقّ عليها أو هو حق عليه؟ واللفظ محتمل ؛ لأنه لو أراد التّصريح بوجوبه لقال : وعلى الوالدات رضاع أولادهنّ ؛ كما قال : «وعلى المولود له رزقهنّ وكسوتهنّ» ولكن هو حقّ عليها في حقّ الزّوجيّة ؛ لأنه يلزم في العرف إذ قد صار كالشّرط ، إلّا أن تكون شريفة ذات ترفّه ، فعرفها ألّا ترضع وذلك كالشرط ؛ ويجب عليها إن لم يقبل غيرها ، وهو عليها إذا كان الأب معدما ؛

__________________

(١) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٦ / ١٠٠.

(٢) ينظر : تفسير القرطبي ٣ / ١٠٦.

١٦٩

لاختصاصها به ، فإن مات الأب ولا مال للصّبيّ ، فذهب مالك في «المدوّنة» إلى أنّ الرضاع لازم للأمّ بخلاف النّفقة ، وفي كتاب «ابن الجلاب» : رضاعه في بيت المال ، فأمّا المطلّقة طلاقا بائنا ، فلا رضاع عليها ، والرّضاع على الزّوج إلّا أن تشاء الأمّ ، فهي أحقّ بأجرة المثل ، إذا كان الزوج موسرا ، فإن كان معدما ، لم يلزمها الرضاع إلّا أن يكون المولود لا يقبل غيرها فتجبر على الرّضاع وكل من لزمها الإرضاع ، فأصابها عذر يمنعها منه ، عاد الإرضاع على الأب ، وعن مالك : أنّ الأب إذا كان معدما ، ولا مال للصبي أنّ الرضاع على الأم فإن لم يكن لها لبن ، ولها مال ، فإنّ الإرضاع عليها في مالها. وقال الشّافعيّ : لا يلزم الرضاع إلّا والدا أو جدّا وإن علا.

فصل في تحديد الحولين

اختلف العلماء في تحديد الحولين فقال بعضهم (١) : هو حدّ لبعض المولودين.

روى عكرمة عن ابن عبّاس : أنّها إذا وضعت لستّة أشهر ، فإنّها ترضعه حولين كاملين ، وإن وضعت لسبعة أشهر ، ترضعه ثلاثة وعشرين شهرا ، وإن وضعت لتسعة أشهر ، ترضعه إحدى وعشرين شهرا ؛ كل ذلك تمام ثلاثين شهرا (٢) ؛ لقوله تعالى : (وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً) [الأحقاف : ١٥].

وقال آخرون : هو حدّ لكلّ مولود ، لا ينقص رضاعه عن حولين ، إلّا باتّفاق الأبوين فأيّهما أراد الفطام قبل تمام الحولين ، ليس له ذلك إلّا أن يجتمعا عليه ؛ لقوله تعالى : (فَإِنْ أَرادا فِصالاً عَنْ تَراضٍ مِنْهُما) وهذا قول ابن جريج ، والثوري ، ورواية الوالبي ، عن ابن عباس (٣).

وقيل : المراد من الآية : بيان الرضاع الذي يثبت به الحرمة ، أن يكون في الحولين ، ولا يحرم ما يكون بعد الحولين (٤).

قال قتادة : فرض الله على الوالدات إرضاع حولين كاملين ثم أنزل التخفيف ؛ فقال «لمن أراد أن يتمّ الرّضاعة» ، أي : هذا منتهى الرضاع ، ليس فيما دون ذلك حدّ محدود ، إنّما هو على قدر صلاح الصّبي ، وما يعيش به ، وهذا قول عليّ ، وابن مسعود ، وابن عباس ، وابن عمر ، وعلقمة ، والشّعبيّ ، والزهريّ ـ رضي الله عنهم ـ (٥).

وقال أبو حنيفة : مدة الرّضاع ثلاثون شهرا ، واحتج الأولون بقوله تعالى : (وَفِصالُهُ

__________________

(١) ينظر : تفسير البغوي ١ / ٢١٢.

(٢) أخرجه الطبري ٥ / ٣٤ عن ابن عباس.

(٣) ينظر : تفسير البغوي ١ / ٢١٢.

(٤) ينظر : المصدر السابق.

(٥) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٦ / ١٠١ ، وتفسير البغوي ١ / ٢١٢.

١٧٠

فِي عامَيْنِ) [لقمان : ١٤] وقال ـ عليه‌السلام والصلاة ـ لا رضاع بعد فصال (١).

وروى ابن عباس قال : قال ـ عليه الصلاة والسلام ـ «لا يحرم من الرضاع إلا ما كان في الحولين» (٢).

فصل

روي أن رجلا جاء إلى علي ـ رضي الله عنه ـ فقال : تزوجت جارية بكرا ، وما رأيت بها ريبة ، ثم ولدت لستة أشهر ، فقال علي ـ رضي الله عنه ـ قال الله تعالى : (وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً) وقال تعالى : (وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ) فالحمل ستة أشهر ؛ الولد ولدك (٣).

وعن عمر ـ رضي الله عنه ـ أنه جيء بامرأة ، وضعت لستة أشهر ، فشاور في رجمها ، فقال ابن عباس : إن خاصمتكم بكتاب الله ـ تعالى ـ خصمتكم ، ثم ذكر هاتين الآيتين (٤) واستخرج منهما أن أقل الحمل ستة أشهر ، قال : فكأنما أيقظهم.

قوله : (لِمَنْ أَرادَ) في هذا الجار ثلاثة أوجه :

أحدها : أنه متعلق بيرضعن ، وتكون اللام للتعليل ، و «من» واقعة على الآباء ، أي : الوالدات يرضعن لأجل من أراد إتمام الرضاعة من الآباء ، وهذا نظير قولك : «أرضعت فلا نة لفلان ولده»

والثاني : أنها للتبيين ؛ فتتعلق بمحذوف ، وتكون هذه اللام كاللام في قوله تعالى : (هَيْتَ لَكَ) [يوسف : ٢٣] ، وفي قولهم : «سقيا لك». فاللام بيان للمدعو له بالسقي وللمهيت به ، وذلك أنه لما ذكر أن الوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين ، بين أن ذلك الحكم إنما هو لمن أراد أن يتم الرضاعة ؛ و «من» تحتمل حينئذ أن يراد بها الوالدات فقط ، أوهن والوالدون معا ، كل ذلك محتمل.

والثالث : أن هذه اللام خبر لمبتدإ محذوف ، فتتعلق بمحذوف ، والتقدير : ذلك الحكم لمن أراد. و «من» على هذا تكون للوالدات والوالدين معا.

قوله : (أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ) «أن» وما في حيزها في محل نصب ؛ مفعولا بأراد ، أي :

__________________

(١) أخرجه البيهقي (٧ / ٣١٩ ، ٣٢٠ ، ٤٦١) والطبراني في «الصغير» (٢ / ٦٨) والخطيب في «تاريخ بغداد» (٥ / ٢٩٩ ، ٧ / ٢٥١) وعبد الرزاق (١٣٩٠١) وابن عدي (٣ / ١٢٢١).

(٢) أخرجه البيهقي (٧ / ٤٦٢) وابن عدي (٧ / ٢٥٦٢) وذكره المتقي الهندي في «كنز العمال» (١٥٦٧٣) والسيوطي في «الدر المنثور» (١ / ٥١٣).

(٣) ذكر هذا الأثر السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٤٠) وعزاه لا بن أبي حاتم وابن المنذر.

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٥ / ٣٤) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ٥١٣) وزاد نسبته لوكيع وعبد الرزاق وابن أبي حاتم.

١٧١

لمن أراد إتمامها. والجمهور على «يتم الرضاعة» بالياء المضمومة من «أتم» وإعمال أن الناصبة ، ونصب «الرضاعة» مفعولا به ، وفتح رائها.

وقرأ (١) مجاهد ، والحسن ، وابن محيصن ، وأبو رجاء : «تتم» بفتح التاء من تم ، و «الرضاعة» بالرفع فاعلا ، وقرأ أبو حياة (٢) ، وابن أبي عبلة كذلك ، إلا أنهما كسرا راء «الرضاعة» ، وهي لغة كالحضارة ، والحضارة ، والبصريون يقولون : فتح الراء مع هاء التأنيث ، وكسرها مع عدم الهاء ، والكوفيون يزعمون العكس. وقرأ (٣) مجاهد ـ ويروى عن ابن عباس ـ : «أن يتم الرضاعة» برفع «يتم» وفيها قولان :

أحدهما : قول البصريين : أنها «أن» الناصبة ، أهملت ؛ حملا على «ما» أختها ؛ لا شتراكهما في المصدرية ، وأنشدوا على ذلك قوله : [مجزوء الكامل]

١١٢٣ ـ إني زعيم يا نوي

قة إن أمنت من الرزاح

أن تهبطين بلاد قو

م يرتعون من الطلاح (٤)

وقول الآخر : [البسيط]

١١٢٤ ـ يا صاحبي فدت نفسي نفوسكما

وحيثما كنتما لقيتما رشدا

أن تقرآن على أسماء ويحكما

مني السلام وألا تشعرا أحدا (٥)

فأهملها ، ولذلك ثبتت نون الرفع ، وأبوا أن يجعلوها المخففة من الثقيلة لوجهين :

أحدهما : أنه لم يفصل بينها وبين الجملة الفعلية بعدها.

والثاني : أن ما قبلها ليس بفعل علم ويقين.

القول الثاني : وهو قول الكوفيين أنها المخففة من الثقيلة ، وشذ وقوعها موقع الناصبة ، كما شذ وقوع «أن» الناصبة موقعها في قوله : [البسيط]

١١٢٥ ـ ... قد علموا

ألا يدانينا في خلقه أحد (٦)

__________________

(١) انظر : المحرر الوجيز ١ / ٣١١ ، والبحر المحيط ٢ / ٢٢٣ ، والدر المصون ١ / ٥٦٩ ، وإتحاف فضلاء البشر ١ / ٤٤٠.

(٢) وقرأ بها الجارود بن أبي سبرة.

انظر : المحرر الوجيز ١ / ٣١١ ، والبحر المحيط ٢ / ٢٢٣ ، والدر المصون ١ / ٥٦٩.

(٣) انظر : البحر المحيط ٢ / ٢٢٣ ، والدر المصون ١ / ٥٦٩.

(٤) البيتان للقاسم بن معن ينظر شرح المفصل ٧ / ٩ ، الأزهية (٥٨) العيني ٣ / ٢٩٧ ، الأشموني ١ / ٢٩٢.

(٥) ينظر البيتان : الخزانة ٣ / ٥٩ ، الإنصاف (٥٦٣) مجالس ثعلب (٣٢٣) ، أوضح المسالك ٣ / ١٦٦ ، الدر المصون ١ / ٥٦٩.

(٦) تقدم برقم ١١١٤.

١٧٢

وقرأ مجاهد (١) : «الرضعة» بوزن القصعة.

وعن ابن عباس أنه قرأ أن يكمل الرضاعة.

فصل

قال القرطبي (٢) : قوله تعالى : (لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ) يدل على أن إرضاع الحولين ليس حتما ؛ لأنه يجوز الفطام قيل الحولين ولكنه تحديد لقطع التنازع بين الزوجين في مدة الرضاع ، ولا يجب على الأب إعطاء الأجرة ، لأكثر من حولين ، وإن أراد الأب الفطام قبل هذه المدة ، ولم ترض الأم ، لم يكن له ذلك.

والرضع : مص الثدي ، ويقال للئيم : راضع ، وذلك أنه يخاف أن يحلب الشاة ؛ فيسمع منه الحلب ؛ فيطلب منه اللبن ، فيرتضع ثدي الشاة بفمه.

قوله : «وعلى المولد له» هذا الجار خبر مقدم ، والمبتدأ قوله : «رزقهن» ، و «أل» في المولود موصولة ، و «له» قائم مقام الفاعل للمولود ، وهو عائد الموصول ، تقديره : وعلى الذي ولد له رزقهن ، فحذف الفاعل ، وهو الوالدات ، والمفعول ، وهو الأولاد ، وأقيم هذا الجار والمجرور مقام الفاعل.

وذكر بعض الناس أنه لا خلاف في إقامة الجار والمجرور مقام الفاعل ، إلا السهيلي ، فإنه منع من ذلك ؛ وليس كما ذكر هذا القائل ، فإن البصريين أجازوا هذه المسألة مطلقا ، والكوفيون قالوا : إن كان حرف الجر زائدا جاز نحو : ما ضرب من أحد ، وإن كان غير زائد ، لم يجز ، ولا يجوز عندهم أن يكون الاسم المجرور في موضع رفع باتفاق بينهم. ثم اختلفوا بعد هذا الاتفاق في القائم مقام الفاعل.

فذهب الفراء : إلى أن حرف الجر وحده في موضع رفع ، كما أن «يقوم» من «زيد يقوم» في موضع رفع.

وذهب الكسائي ، وهشام : إلى أن مفعول الفعل ضمير مستتر فيه ، وهو ضمير مبهم من حيث أن يراد به ما يدل عليه الفعل من مصدر ، وزمان ، ومكان ، ولم يدل دليل على أحدها.

وذهب بعضهم إلى أن القائم مقام الفاعل ضمير المصدر ، فإذا قلت : «سير بزيد» فالتقدير : سير هو ، أي : السير ؛ لأن دلالة الفعل على مصدره قوية ، وو افقهم في هذا بعض البصريين.

قوله : «بالمعروف» يجوز أن يتعلق بكل من قوله : «رزقهن» و «كسوتهن» على أن

__________________

(١) انظر : البحر المحيط ٢ / ٢٢٣ ، والدر المصون ١ / ٥٦٩.

(٢) ينظر : تفسير القرطبي ٣ / ١٠٧.

١٧٣

المسألة من باب الإعمال ، وهو على إعمال الثاني ، إذ لو أعمل الأول ، لأضمر في الثاني ، فكان يقال : وكسوتهن به بالمعروف. هذا إن أريد بالرزق والكسوة ، المصدران ، وقد تقدم أن الرزق يكون مصدرا ، وإن كان ابن الطراوة قد رد على الفارسي ذلك ؛ في قوله : (ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ شَيْئاً) [النحل : ٧٣] كما سيأتي تحقيقه في النحل ، إن شاء الله تعالى. وإن أريد بهما اسم المرزوق ، والمكسو كالطحن ، والرعي ، فلا بد من حذف مضاف ، تقديره : اتصال ، أو دفع ، أو ما أشبه ذلك ، مما يصح به المعنى ، ويكون «بالمعروف» متعلقا بمحذوف ، على أنه حال منهما. وجعل أبو البقاء (١) العامل في هذه الحال الاستقرار الذي تضمنه «على».

والجمهور على «كسوتهن» بكسر الكاف ، وقرأ (٢) طلحة بضمها ، وهما لغتان في المصدر ، واسم المكسو وفعلها يتعدى لا ثنين ، وهما كمفعولي «أعطى» في جواز حذفهما ، أو حذف أحدهما ؛ اختصارا أو اقتصارا ، قيل : وقد يتعدى إلى واحد ؛ وأنشدوا : [المتقارب]

١١٢٦ ـ وأركب في الروع خيفانة

كسا وجهها سعف منتشر (٣)

ضمنه معنى غطى ، وفيه نظر ؛ لاحتمال أنه حذف أحد المفعولين ؛ للدلالة عليه ، أي : كسا وجهها غبار أو نحوه.

فصل

و «المولود له» هو الوالد ، وإنما عبر عنه بهذا الاسم لوجوه :

أحدها : قال الزمخشري : والسبب فيه أن يعلم أن الوالدات إنما ولدت الأولاد للآباء ولذلك ينسبون إليهم لا إلى الأمهات ؛ وأنشدوا للمأمون : [البسيط]

١١٢٧ ـ وإنما أمهات الناس أوعية

مستودعات وللآباأ أبناء

وثانيها : أنه تنبيه على أن الولد إنما يلتحق بالوالد ؛ لكونه مولودا على فراشه ، على ما قاله ـ عليه الصلاة والسلام ـ : «الولد للفراش» (٤) فكأنه قال : إذا ولدت المرأة الولد

__________________

(١) ينظر : الإملا لأبي البقاء ١ / ٩٧.

(٢) انظر : البحر المحيط ٢ / ٢٢٥ ، والدر المصون ١ / ٥٧٠.

(٣) البيت لامرئ القيس : ينظر ديوانه (١٦٣) ، المغني (٥٨١) ، الدر المصون ١ / ٥٧٠.

(٤) أخرجه البخاري (٣ / ١١٥) كتاب البيوع باب تفسير المشبهات رقم (٢٠٥٣) ، (٩ / ١٣١) كتاب الأحكام باب من قضي له بحق رقم (٧١٨٢) ومسلم الرضاع ٣٦ ، ٣٧ وأبو داود (٢٢٧٣) وابن ماجه (٢٠٠٦ ، ٢٠٠٧) والترمذي (١١٥٧) وأحمد (١ / ٥٩) والدارمي (٢ / ١٥٢) والبيهقي (٦ / ٨٦) ، (٧ / ١٥٧) والشافعي في «مسنده» (١٨٨) والحميدي (١٠٨٥) ومالك في «الموطأ» (٧٣٩) وعبد الرزاق (٥٨٠٠) والطبراني في «الكبير» (١٠ / ٢٩٧ ، ١١ / ١٥٣ ، ١٧ / ٣٣ ، ٣٤ ، ٣٥) والطحاوي في «شرح معاني الآثار» (٣ / ١٠٤) وسعيد بن منصور (٤٢٧ ، ٢١٣١ ، ٢١٣٢).

١٧٤

لأجل الرجل وعلى فراشه ، وجب عليه رعاية مصالحه ، [فنبه على أن سبب النسب ، والالتحاق محدود بهذا القدر.

وثالثها : ذكر الوالد بلفظ «المولود [له]» تنبيها على أن نفقته عائدة إليه ، فيلزمه رعاية مصالحه](١) كما قيل : كله لك ، وكله عليك.

فإن قيل : فما الحكمة في قول موسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ لأخيه : (قالَ يَا بْنَ أُمَ) [طه : ٩٤] ولم يذكر أباه.

فالجواب : أنه أراد بذكر الأم [أن] يذكر الشفقة فإن شفقة الأم أعظم من شفقة الأب.

فصل

اعلم أن الله تعالى كما وصى الأم برعاية جانب الطفل ، في قوله : (وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ) ـ وصى برعاية جانب الأم ، حتى تقوى على رعاية مصلحة الطفل ، فأمره برزقها ، وكسوتها بالمعروف ، وهذا المعروف قد يكون محدودا بشرط وعقد ، وقد يكون غير محدود إلا من جهة العرف لأنه إذا قام بما يكفيها من طعام وكسوتها ، فقد استغنى عن تقدير الأجرة فإنه إن لم يقم بما يكفيها من ذلك ، تضررت وضررها يتعدى إلى الولد ، ولما وصى الأم برعاية الطفل أولا ، ثم وصى الأب برعايته ثانيا ، دل على أن احتياج الطفل إلى رعاية الأم أشد من احتياجه إلى رعاية الأب ؛ لأنه ليس بين الطفل وبين رعاية الأم واسطة ألبتة ؛ ورعاية الأب إنما تصل إلى الطفل بواسطة ، فإنه يستأجر المرأة على رضاعته ، وحضانته بالنفقة ، والكسوة ، وذلك يدل على أن حق الأم أكثر من حق الأب ، والأخبار المطابقة لهذا المعنى كثيرة مشهورة.

قوله : «لا تكلف نفس» الجمهور على «تكلف» مبنيا للمفعول ، «نفس» قائم مقام الفاعل ، وهو الله تعالى ، «وسعها» مفعول ثان ، وهو استثناء مفرغ ؛ لأن «كلف» يتعدى لا ثنين. قال أبو البقاء (٢) : «ولو رفع الوسع هنا ، لم يجز ؛ لأنه ليس ببدل».

وقرأ (٣) أبو رجاء : «لا تكلف نفس» بفتح التاء ، والأصل : «تتكلف» فحذفت إحدى التاءين ؛ تخفيفا : إما الأولى ، أو الثانية على خلاف في ذلك تقدم ، فتكون «نفس» فاعلا ، و «وسعها» مفعول به ، استثناء مفرغا أيضا. وروى أبو الأشهب عن أبي رجاء (٤) أيضا : «لا يكلف نفسا» بإسناد الفعل إلى ضمير الله تعالى ، فتكون «نفسا» و «وسعها» مفعولين.

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) ينظر : الإملا لأبي البقاء ١ / ٩٧.

(٣) انظر : المحرر الوجيز ١ / ٣١٢ ، والبحر المحيط ٢ / ٢٢٥ ، والدر المصون ١ / ٥٧٠.

(٤) ينظر : المصدر السابق.

١٧٥

والتكليف : الإلزام ، وأصله من الكلف ، وهو الأثر من السواد في الوجه ؛ قال : [البسيط]

١١٢٨ ـ يهدي بها أكلف الخدين مختبر

من الجمال كثير اللحم عيثوم (١)

فمعنى «تكلف الأمر» ، أي : اجتهد في إظهار أثره.

وفلان كلف بكذا : أي مغرى به.

و «الوسع» هنا ما يسع الإنسان فيطيق أخذه من سعة الملك أي الغرض ، ولو ضاق لعجز عنه ، فالسعة بمنزلة القدرة ، ولهذا قيل : الوسع فوق الطاقة ، والمراد منه : أن أبا الصبي لا يتكلف الإنفاق عليه ، وعلى أمه ، إلا ما تتسع له قدرته ، لأن الوسع ما تتسع له القدرة ، ولا يبلغ استغراق القدرة ؛ وهو نظير قوله تعالى : (لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللهُ لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا ما آتاها) [الطلاق : ٧].

فصل في احتجاج المعتزلة بالآية

تمسّك المعتزلة بهذه الآية في أنّ الله ـ تعالى ـ لا يكلّف العبد ما لا يقدر عليه (٢).

وقوله : «لا تضارّ» ابن كثير ، وأبو عمرو (٣) : «لا تضارّ» برفع الراء مشددة ، وتوجيهها واضح ، لأنه فعل مضارع لم يدخل عليه ناصب ولا جازم فرفع ، وهذه القراءة مناسبة لما قبلها ، من حيث إنه عطف جملة خبريّة على خبرية مثلها من حيث اللفظ وإلّا فالأولى خبرية لفظا ومعنى ، وهذه خبرية لفظا نهييّة معنى ويدل عليه قراءة الباقين كما سيأتي.

قال الكسائيّ والفراء : هو نسق على قوله : «لا يكلّف» (٤).

قال علي بن عيسى : هذا غلط ؛ لأنّ النّسق ب «لا» إنّما هو إخراج على إخراج الثّاني مما دخل فيه الأوّل نحو : «ضربت زيدا لا عمرا» فأمّا أن يقال : يقوم زيد لا يقعد عمرو ، فهو غير جائز على النّسق ، بل الصواب أنّه مرفوع على الاستئناف في النّهي كما يقال : لا تضرب زيدا لا تقتل عمرا.

وقرأ باقي السّبعة : بفتح الراء مشدّدة ، وتوجيهها أنّ «لا» ناهية ، فهي جازمة ،

__________________

(١) البيت لعلقمة بن عبدة ينظر ديوانه ص ٧٦ ، وشرح أبيات سيبويه ٢ / ٤٠٤ ، والكتاب ٤ / ٢٦٧ ، ولسان العرب (عثم) والمفضليات ٤٠٤ ، والدر المصون ١ / ٥٧١.

(٢) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٦ / ١٠٣.

(٣) وقرأ كذلك أبان عن عاصم.

انظر : الحجة للقراء السبعة ٢ / ٣٣٣ ، وحجة القراءات ١٣٦ ، والعنوان ٧٤ ، وشرح الطيبة ٤ / ١٠٠ ـ ١٠٢ ، وشرح شعلة ٢٩٠ ، وإتحاف ١ / ٤٤٠.

(٤) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٦ / ١٠٣.

١٧٦

فسكنت الراء الأخيرة للجزم ، وقبلها راء ساكنة مدغمة فيها ، فالتقى ساكنان ؛ فحرّكنا الثانية لا الأولى ، وإن كان الأصل الإدغام ، وكانت الحركة فتحة ، وإن كان أصل التقاء الساكنين الكسر ؛ لأجل الألف ؛ إذ هي أخت الفتحة ، ولذلك لمّا رخّمت العرب «إسحارّ» وهو اسم نبات ، قالوا : «إسحار» بفتح الراء خفيفة ، لأنهم لمّا حذفوا الراء الأخيرة ، بقيت الراء الأولى ساكنة ، والألف قبلها ساكنة ؛ فالتقى ساكنان ، والألف لا تقبل الحركة ؛ فحرّكوا الثاني وهو الراء ، وكانت الحركة فتحة ؛ لأجل الألف قبلها ساكنة ، ولم يكسروا وإن كان الأصل ، لما ذكرنا من مراعاة الألف.

وقرأ الحسن بكسرها (١) مشدّدة ، على أصل التقاء السّاكنين ، ولم يراع الألف.

وقرأ أبو جعفر بسكونها مشدّدة ، كأنه أجرى الوصل مجرى الوقف ، فسكّن ، وروي عنه وعن ابن هرمز : بسكونها مخففة ، وتحتمل هذه وجهين :

أحدهما : أن يكون من «ضار» «يضير» ، ويكون السكون لإجراء الوصل مجرى الوقف.

والثاني : أن يكون من ضارّ يضارّ بتشديد الراء ، وإنما استثقل تكرير حرف هو مكرر في نفسه ؛ فحذف الثاني منهما ، وجمع بين الساكنين ـ أعني الألف والراء ـ إمّا إجراء للوصل مجرى الوقف ، وإمّا لأنّ الألف قائمة مقام الحركة ، لكونها حرف مدّ.

وزعم الزمخشريّ «أنّ أبا جعفر إنما اختلس الضّمة ، فتوهّم الراوي أنه سكّن ، وليس كذلك» انتهى. وقد تقدّم شيء من ذلك عند (يَأْمُرُكُمْ) [البقرة : ٦٧] ونحوه.

ثم قراءة تسكين الرّاء : تحتمل أن تكون من رفع ، فتكون كقراءة ابن كثير ، وأبي عمرو ، ويحتمل أن تكون من فتح ، فتكون كقراءة الباقين ، والأول أولى ؛ إذ التسكين من الضمة أكثر من التسكين من الفتحة ؛ لخفّتها.

وقرأ ابن عبّاس : بكسر الراء الأولى ، والفكّ ، وروي عن عمر بن الخطاب : «لا تضارر» بفتح الرّاء الأولى ، والفكّ ؛ وهذه لغة الحجاز ، أعني : [فكّ] المثلين فيما سكن ثانيهما للجزم أو للوقف ، نحو : لم نمرر ، وامرر ، وبنو تميم يدغمون ، والتنزيل جاء باللغتين نحو : (مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ) [المائدة : ٥٤] في المائدة ، قرئ في السّبع بالوجهين ، وسيأتي بيانه واضحا.

ثمّ قراءة من شدّد الراء : مضمومة أو مفتوحة ، أو مكسورة ، أو مسكّنة ، أو خفّفها تحتمل أن تكون الراء الأولى مفتوحة ، فيكون الفعل مبنيا للمفعول ، وتكون «والدة» مفعولا لم يسمّ فاعله ، وحذف الفاعل ؛ للعلم به ، ويؤيده قراءة عمر رضي الله عنه.

__________________

(١) انظر في هذه القراءات ، البحر المحيط ٢ / ٢٢٥ ، والدر المصون ١ / ٥٧١ ، ٥٧٢.

١٧٧

ويكون معنى الآية (لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها) فينزع الولد منها إلى غيرها بعد أن رضيت بإرضاعه (وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ) أي : لا تلقيه المرأة إلى أبيه بعد ما ألفها ؛ تضارّه بذلك.

وقيل (١) : معناه لا تضارّ والدة ، فتكره على إرضاعه ، إذا كرهت إرضاعه ، وقبل الصّبيّ من غيرها ؛ لأنّ ذلك ليس بواجب عليها ، ولا مولود له بولده فيحتمل أن يعطي الأمّ أكثر مما يجب لها ، إذا لم يرتضع الولد من غيرها.

وأن تكون مكسورة ، فيكون الفعل مبنيا للفاعل ، وتكون «والدة» حينئذ فاعلا به ، ويؤيده قراءة ابن عباس.

وفي المفعول على هذا الاحتمال ثلاثة أوجه :

أحدها ـ وهو الظاهر ـ أنه محذوف تقديره : لا تضارر والدة زوجها ، بسبب ولدها بما لا يقدر عليه من رزق وكسوة ونحو ذلك ، ولا يضارر مولود له زوجته بسب ولده بما وجب لها من رزق وكسوة ، فالباء للسببية.

والثاني : ـ قاله الزمخشريّ ـ أن يكون «تضارّ» بمعنى تضرّ ، وأن تكون الباء من صلته أي : لا تضرّ والدة بولدها ، فلا تسيء غذاءه ، وتعهّده ، ولا يضرّ الوالد به بأن ينزعه منها بعد ما ألفها انتهى. ويعني بقوله «الباء من صلته» ، أي : تكون متعلقة به ، ومعدّية له إلى المفعول ، كهي في «ذهبت بزيد» ويكون ضارّ بمعنى أضرّ ، فاعل بمعنى أفعل ، ومثله : ضاعفت الحساب وأضعفته ، وباعدته وأبعدته ، فعلى هذا ، نفس المجرور بهذه الباء ، هو المفعول به في المعنى ، والباء على هذا للتّعدية ، كما نظّرنا ب «ذهبت بزيد» ، فإنه بمعنى أذهبته.

والثالث : أنّ الباء مزيدة ، وأنّ «ضارّ» بمعنى ضرّ ، فيكون «فاعل» بمعنى «فعل» المجرّد ، والتقدير : لا تضرّ والدة ولدها بسوء غذائه وعدم تعهّده ، ولا يضرّ والد ولده بانتزاعه من أمه بعد ما ألفها ، ونحو ذلك. وقد جاء «فاعل» بمعنى فعل المجرّد نحو : واعدته ، ووعدته ، وجاوزته وجزته ، إلّا أنّ الكثير في فاعل الدّلالة على المشاركة بين مرفوعه ومنصوبه ، ولذلك كان مرفوعه منصوبا في التّقدير ، ومنصوبه مرفوعا في التقدير ، فمن ثمّ كان التوجيه الأول أرجح من توجيه الزمخشريّ ، وما بعده ، وتوجيه الزمخشريّ أوجه ممّا بعده.

فإن قيل : لم قال «تضارّ» والفعل واحد؟

قلنا : معناه لا يضار الأمّ والأب بألّا ترضع الأم ، أو يمنعها الأب وينزعه منها ، أو يكون معناه أنّ كلّ واحد يقصد بإضرار الولد إضرار الآخر ؛ فيكون في الحقيقة مضارّة.

__________________

(١) ينظر : تفسير البغوي ١ / ٢١٢.

١٧٨

فصل في أحكام الحضانة

قال القرطبي (١) : في هذه الآية دليل لمالك على أنّ الحضانة للأم ، وهي في الغلام إلى البلوغ ، وفي الجارية إلى النّكاح ، وذلك حقّ لها.

وقال الشّافعيّ (٢) : إذ بلغ الولد ثماني سنين ، وهو سنّ التّمييز ، خيّر بين أبويه ، فإنه في تلك الحالة تتحرّك همّته لتعلّم القرآن ، والأدب ، والعبادات ، وذلك يستوي فيه الغلام والجارية.

وروى أبو هريرة : «أنّ امرأة جاءت إلى النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالت له : إنّ زوجي يريد أن يذهب بابني ، وقد سقاني من بئر أبي عنبة وقد نفعني ، فقال النّبيّ لله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إستهما عليه» فقال زوجها : من يحاقّني في ولدي؟ فقال النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «هذا أبوك ، وهذه أمّك ، فخذ بيد أيّهما شئت» فأخذ بيد أمه فانطلقت به» (٣).

ودليلنا ما روى أبو داود ، عن عبد الله بن عمرو : أنّ امرأة قالت : يا رسول الله إنّ ابني هذا كانت بطني له وعاء ، وثديي له سقاء ، وحجري له حواء ، وإنّ أباه طلّقني ، وأراد أن ينزعه مني ، فقال لها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أنت أحقّ به ما لم تنكحي» (٤).

فصل من أحق بالحضانة إذا تزوجت الأم؟

قال ابن المنذر : أجمع كلّ من نحفظ عنه من أهل العلم على ألّا حقّ للأمّ في الولد إذا تزوّجت.

وقال مالك ، والشّافعيّ ، والنّعمان ، وأبو ثور : إنّ الجدّة أمّ الأمّ أحقّ بحضانة الولد ، واختلفوا إذا لم يكن له أمّ ، وكانت له جدّة أمّ أب ، فقال مالك : أمّ الأب أحقّ إذا لم يكن للصّبي خالة. وقال الشّافعيّ : أمّ الأب أحقّ من الخالة.

فصل الحضانة للقادر على حقوق الولد

ولا حضانة لفاجرة ، ولا لضعيفة عاجزة عن القيام بحقّ الولد.

__________________

(١) ينظر : تفسير القرطبي ٣ / ١٠٨.

(٢) ينظر : تفسير القرطبي ٣ / ١٠٨.

(٣) أخرجه أبو داود (٢٢٧٧) وابن ماجه (٢٣٥١) والترمذي (١٣٥٧) والحميدي (٢ / ٤٦٤) رقم (١٠٨٣) وأحمد (٢ / ٢٤٦) والشافعي في «الأم» (٥ / ٩٢) والبيهقي (٨ / ٣) والبغوي في «شرح السنة» (٩ / ٣٣١) والحاكم (٤ / ٩٧) والطحاوي في «مشكل الآثار» (٤ / ١٧٦) وابن حبان (١٢٠٠ ـ موارد) وأبو يعلى (٣ / ٥١٢) رقم (٦١٣١) وقال الترمذي : حديث حسن صحيح.

وقال الحاكم : صحيح الإسناد ووافقه الذهبي.

(٤) أخرجه أبو داود (٢٢٧٦) والدارقطني (٤١٨) والحاكم (٢ / ٢٠٧) والبيهقي ٨ / ٤ ـ ٥) وأحمد (٢ / ١٨٢) من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعا.

وقال الحاكم : صحيح الإسناد ووافقه الذهبي.

١٧٩

وروي عن مالك : أنّ الحضانة للأمّ ، ثم الجدّة للأمّ ، ثم الخالة ، ثمّ الجدة للأب ، ثم أخت الصّبيّ ، ثم عمّته.

فصل

قال القرطبيّ (١) : إذا تزوّجت الأمّ لم ينزع منها ولدها حتى يدخل بها زوجها في المشهور عندنا.

وقال ابن المنذر (٢) : إذا خرجت الأمّ عن بلد ولدها ، ثمّ رجعت إليه ، فهي أحقّ بولدها : في قول الشّافعيّ ، وأبي ثور ، وأصحاب الرّأي وكذلك لو تزوّجت ثمّ طلّقت ، أو توفّي عنها زوجها ، رجعت إلى حقّها في الولد ، فإن تركت حقّها من الحضانة ، ولم ترد أخذه ، وهي فارغة غير مشغولة بزوج ، ثم أرادت بعد ذلك أخذه كان لها ذلك.

وقال القرطبيّ (٣) : إن كان تركها له من عذر ، كان لها ذلك ، وإن تركته رفضا له ، ومقتا ، لم يكن لها بعد ذلك أخذه.

فصل

فإن طلّقها الزّوج ، وكانت الزّوجة ذمّية ، فلا حضانة لها.

وقال أبو ثور ، وأصحاب الرّأي ، وابن القاسم : لا فرق بين الذّميّة والمسلمة. وكذلك اختلفوا في الزّوجين ؛ يفترقان أحدهما [حرّ] والآخر مملوك.

قوله : «له» في محلّ رفع لقيامه مقام الفاعل.

قوله : (لا تُضَارَّ والِدَةٌ) فيه دلالة على ما يقوله النّحويّون ، وهو أنّه إذا اجتمع مذكّر ومؤنّث ، معطوفا أحدهما على الآخر ، كان حكم الفعل السابق عليهما للسابق منهما ، تقول : قام زيد وهند ، فلا تلحق علامة تأنيث ، وقامت هند وزيد ، فتلحق العلامة ، والآية الكريمة من هذا القبيل ، ولا يستثنى من ذلك إلّا أن يكون المؤنث مجازيّا ، فيحسن ألّا يراعى المؤنّث ، وإن تقدّم ؛ كقوله تعالى : (وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ) [القيامة : ٩].

وفي هذه الجمل من علم البيان : الفصل ، والوصل.

أما الفصل : وهو عدم العطف بين قوله : (لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ) ، وبين قوله : (لا تُضَارَّ) ؛ لأنّ قوله : «لا تضارّ» كالشّرح للجملة قبلها ؛ لأنه إذا لم تكلّف النفس إلّا طاقتها ، لم يقع ضرر ، لا للوالدة ، ولا للمولود له. وكذلك أيضا لم يعطف : «لا تكلّف نفس» على ما قبلها ؛ لأنها مع ما بعدها تفسير لقوله «بالمعروف».

__________________

(١) ينظر : تفسير القرطبي ٣ / ١١٠.

(٢) ينظر : المصدر السابق.

(٣) ينظر : تفسير القرطبي ٣ / ١١٠.

١٨٠