اللّباب في علوم الكتاب - ج ٤

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ٤

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٥٨

من ذوات الأقراء أن تطول عدّتها لكي يراجعها الزّوج ، وقد تحبّ تقصير عدّتها لتبطل رجعته ولا يتمّ لها ذلك إلّا بكتمان بعض الحيض في بعض الأوقات ، فوجب حمل النّهي على مجموع الأمرين.

وقال ابن عبّاس وقتادة : هو الحيض (١) فقط ؛ لقوله تعالى : (هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ) [آل عمران : ٦] ، ولأن الحيض خارج عن الرّحم لا مخلوق فيه ، وحمل قوله ـ تعالى ـ : (ما خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحامِهِنَّ) على الولد الذي هو شريف ، أولى من حمله على شيء قذر خسيس.

وأجيب بأن المقصود منعها عن إخفاء هذه الأحوال الّتي لا اطّلاع لغيرها عليها ، وبسببها يختلف الحلّ والحرمة في النّكاح ، فوجب حمل اللّفظ على الكلّ ، وقيل : هو الحيض ؛ لأن هذا الكلام إنّما ورد عقيب ذكر «الأقراء» ، ولم يتقدّم ذكر الحمل.

وأجيب : بأنّ هذا كلام مستأنف مستقلّ بنفسه ، من غير أن يردّ إلى ما تقدّم ، فوجب حمله على كلّ ما يخلق في الرّحم.

وقوله : (إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) ليس المراد : أن ذلك النّهي مشروطا بكونها مؤمنة ، بل هذا كقول المظلوم للظّالم : «إن كنت مؤمنا فينبغي أن يمنعك إيمانك عن ظلمي» ، وهذا تهديد شديد في حقّ النّساء ؛ فهو كقوله في الشّهادة : (وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ) [البقرة : ٢٨٣] ، وقوله : (فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ) [البقرة : ٢٨٣].

قوله تعالى : (وَبُعُولَتُهُنَّ) الجمهور على رفع تاء «بعولتهنّ» وسكّنها (٢) مسلمة بن محارب (٣) ، وذلك لتوالي الحركات ، فخفّف ، ونظيره قراءة (٤) : (وَرُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ) [الزخرف : ٨٠] بسكون اللام حكاها أبو زيد ، وحكى أبو عمرو : أنّ لغة تميم تسكين المرفوع من «يعلّمهم» ونحوه ، وقيل : أجرى ذلك مجرى «عضد ، وعجز» ؛ تشبيها للمنفصل بالمتصل ، وقد تقدّم ذلك.

و «أحقّ» خبر عن «بعولتهنّ» وهو بمعنى حقيقون ؛ إذ لا معنى للتفضيل هنا ؛ فإنّ غير الأزواج لا حقّ لهم فيهنّ البتّة ، ولا حقّ أيضا للنّساء في ذلك ، حتى لو أبت هي الرّجعة ، لم يعتدّ بذلك.

وقال بعضهم : هي على بابها ؛ لأنه تعالى قال : (وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٤ / ٥١٦ ـ ٥١٧) عن مجاهد وابن عمر بمعناه.

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ٤٩٢) وعزاه لسعيد بن منصور والبيهقي عن عكرمة.

(٢) انظر الشواذ ١٤ ، والبحر المحيط ٢ / ١٩٩.

(٣) مسلمة بن محارب بن دثار ينظر غاية النهاية ٢ / ٢٩٨.

(٤) ستأتي في الزخرف ٨٠.

١٢١

اللهُ فِي أَرْحامِهِنَّ) فكان تقدير الآية : فإنّهن إن كتمن لأجل أن يتزوّج بهنّ زوج آخر ، فإنّ الزّوج الأوّل أحقّ بردّها ؛ لأنه ثبت للزّوج الثّاني حقّ في الظّاهر ؛ لادّعائها انقضاء عدّتها.

وأيضا : فإنّها إذا كانت معتدّة ، فلها في انقضاء العدّة حقّ انقطاع النّكاح ، فلما كان لهنّ هذا الحقّ الذي يتضمّن إبطال حقّ الزّوج ، جاز أن يقول : «وبعولتهنّ أحقّ» حيث إن لهم أن يبطلوا بسبب الرّجعة ما هنّ عليه من العدّة.

و «البعولة» فيها قولان :

أحدهما : إنه جمع «بعل» كالفحولة والذّكورة والجدودة والعمومة ، والهاء زائدة مؤكّدة لتأنيث الجماعة ولا ينقاس ، بل إنّما يجوز إدخالها في جمع رواة أهل اللّغة عن العرب ، فلا يقال في كعب : كعوبة ، ولا في كلب : كلابة.

والبعل زوج المرأة ؛ قالوا : وسمّي بذلك على المستعلي ، فلما علا من الأرض فشرب بعروقه. ويقال : بعل الرّجل يبعل ؛ كمنع يمنع. ويشترك فيه الزّوجان ؛ فيقال للمرأة : بعلة ؛ كما يقال لها : زوجة في كثير من اللّغات ، وزوج في أفصح الكلام ، فهما بعلان كما أنّهما زوجان ، وأصل البعل : السّيّد المالك فيما نقل ، يقال : من بعل هذه النّاقة؟ كما يقال من ربّها؟ وبعل : اسم صنم ، كانوا يتّخذونه ربّا ؛ قال ـ تعالى ـ : (أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ) [الصافات : ١٢٥] ، وقد كان النّساء يدعون أزواجهن بالسودد.

الثاني : أنّ البعولة مصدر ، يقال : بعل الرّجل يبعل بعولة وبعالا ، إذا صار بعلا ، وباعل الرّجل امرأته : إذا جامعها ؛ ومنه الحديث : أن النبيّ ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ قال في أيّام التّشريق : «إنّها أيّام أكل وشرب وبعال» (١) ، وامرأة حسنة التّبعّل إذا كانت تحسن عشرة زوجها ، ومنه الحديث : «إذا أحسنتنّ تبعّل أزواجكن».

قوله : «بردّهنّ» متعلّق ب «أحقّ». وقوله (فِي ذلِكَ) فيه وجهان :

أحدهما : أنه متعلق أيضا ب «أحقّ» ، ويكون المشار إليه بذلك على هذا وقت العدّة ، أي تستحقّ رجعتها ما دامت في العدّة ، وليس المعنى : أنه أحقّ أن يردّها في العدّة ، وإنما يردّها في النكاح ، أو إلى النكاح.

والثاني : أن يتعلّق بالردّ ، ويكون المشار إليه بذلك على هذا النّكاح ، قاله أبو البقاء (٢).

والضمير في «بعولتهنّ» عائد على بعض المطلّقات ، وهنّ الرّجعيّات خاصّة ، وقال أبو حيّان : «والاولى عندي : أن يكون على حذف مضاف دلّ عليه الحكم ، أي : وبعولة رجعيّاتهنّ».

__________________

(١) تقدم.

(٢) ينظر : الإملاء ١ / ٩٦.

١٢٢

ومعنى الردّ هنا : الرّجوع ؛ قال ـ تعالى ـ : (وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي) [الكهف : ٣٦] ، وقال في موضع آخر : (وَلَئِنْ رُجِعْتُ) [فصلت : ٥٠].

فإن قيل : ما معنى الرّدّ في الرّجعيّة وهي زوجة ، ما دامت في العدّة؟

فالجواب : أنّ الردّ والرّجعة يتضمّن إبطال التّربّص والتّحرّي في العدّة ، فإنّها ما دامت في العدّة ، كأنّها جارية إلى إبطال حقّ الزّوج ، وبالرّجعة بطل ذلك فسمّيت الرّجعة ردّا ، لا سيّما ومذهب الشّافعيّ أنه يحرم الاستمتاع بها إلّا بعد الرّجعة ، فالردّ على مذهبه فيه معنيان :

أحدهما : ردّها من التّربّص إلى خلافه.

والثاني : ردّها من الحرمة إلى الحلّ.

قوله : (إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً) فالمعنى : أن الأزواج أحقّ بالمراجعة ، إن أرادوا الإصلاح ولم يريدوا المضارّة ؛ ونظيره قوله ـ تعالى ـ : (وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ) [البقرة : ٢٣١].

والسّبب في ذلك : أنّ الرّجل كان في الجاهليّة يطلّق امرأته ، فإذا قرب انقضاء عدّتها ، راجعها ثم تركها مدّة ثمّ طلّقها ، فإذا قرب انقضاء عدّتها ، راجعها ثمّ طلّقها ثم بعد مدّة طلقها يقصد بذلك تطويل عدّتها ، فنهوا عن ذلك (١) ، وجعل إرادة الإصلاح شرطا في المراجعة.

فإن قيل : الشّرط يقتضي انتفاء الحكم عند انتفائه ، فيلزم إذا لم توجد إرادة الإصلاح ألّا تصحّ الرّجعة؟

فالجواب : أنّ الإرادة صفة باطنة لا اطّلاع لنا عليها ، والشّرع لم يوقف صحّة المراجعة عليها ؛ بل جوازها فيما بينه وبين الله ـ تعالى ـ موقوف على هذه الإرادة ، فإن راجعها لقصد المضارّة ، استحقّ الإثم.

فصل

نقل القرطبي (٢) عن مالك ، قال : إذا وطئ المعتدّة الرّجعيّة في عدّتها ، وهو يريد الرّجعة وجهل أن يشهد ، فهي رجعة ، وينبغي للمرأة أن تمنعه الوطء حتى يشهد ؛ لقوله ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ : «إنّما الأعمال بالنّيّات وإنّما لكلّ امرئ ما نوى» (٣) فإن وطئ

__________________

(١) ينظر : تفسير البغوي ١ / ٢٠٥.

(٢) ينظر : تفسير القرطبي ٣ / ٨٠.

(٣) أخرجه البخاري (١ / ١٥) كتاب بدء الوحي : باب كيف كان بدء الوحي حديث (١) ، (٥ / ١٩٠) كتاب العتق : باب الخطأ والنسيان (٢٥٢٩) ، (٧ / ٢٦٧) كتاب مناقب الأنصار حديث (٣٧٩٧).

ومسلم (٣ / ١٥١٥) كتاب الإمارة : باب بيان قدر ثواب من غزا فغنم حديث (١٥٥ / ١٩٠٧) من حديث عمر.

١٢٣

في العدّة ، لا ينوي به الرّجعة ؛ فقال مالك : يراجع في العدّة ، ولا يطأ حتى يستبرئها من مائه الفاسد.

قال سعيد بن المسيّب ، والحسن البصري ، وابن سيرين ، والزّهري ، وعطاء ، والثّوري : إذا جامعها فقد راجعها (١).

فصل

من قبّل أو باشر ولم ينو بذلك الرّجعة ، كان آثما وليس بمراجع. وقال أبو حنيفة وأصحابه : إن وطئها ، أو لمسها بشهوة أو نظر إلى فرجها بشهوة ، فهي رجعة ، وينبغي أن يشهد وهو قول الثّوريّ.

فصل

قال أحمد : ولها التّزيّن لزوجها ، والتّشرّف ، وله الخلوة والسّفر بها.

وقال مالك : لا يخلو معها ولا يدخل عليها إلّا بالإذن ، ولا ينظر إليها إلّا وعليها ثيابها ، ولا ينظر إلى شعرها.

وقال ابن القاسم : رجع مالك عن ذلك.

قوله : (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ) خبر مقدّم ، فهو متعلّق بمحذوف ، وعلى مذهب الأخفش من باب الفعل والفاعل ، وهذا من بديع الكلام ، وذلك أنه قد حذف من أوّله شيء ثم أثبت في آخره نظيره ، وحذف من آخره شيء أثبت نظيره في الأول ، وأصل التركيب : «ولهنّ على أزواجهنّ مثل الذي لأزواجهنّ عليهنّ» ، فحذف «على أزواجهنّ» لإثبات نظيره ، وهو «عليهنّ» ، وحذفت «لأزواجهنّ» لإثبات نظيره ، وهو «لهنّ».

قوله : (بِالْمَعْرُوفِ) فيه وجهان :

أحدهما : أن يتعلّق بما تعلّق به «لهنّ» من الاستقرار ، أي : استقرّ لهنّ بالمعروف.

والثاني : أن يتعلّق بمحذوف على أنه صفة ل «مثل» ؛ لأنّ «مثل» لا يتعرّف بالإضافة ؛ فعلى الأوّل : هو في محلّ نصب ؛ وعلى الثاني : هو في محلّ رفع.

قوله : (وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ) فيه وجهان :

أظهرهما : أنّ «للرّجال» خبر مقدّم ، و «درجة» مبتدأ مؤخر ، و «عليهنّ» فيه وجهان على هذا التقدير : إمّا التعلّق بما تعلّق به «للرّجال» ، وإمّا التعلق بمحذوف على أنه حال من «درجة» مقدّما عليها ؛ لأنه كان صفة في الأصل ، فلمّا قدّم انتصب حالا.

والثاني : أن يكون «عليهنّ» هو الخبر ، و «للرجال» حال من «درجة» ؛ لأنه يجوز

__________________

(١) ينظر : تفسير القرطبي ٣ / ٨٠.

١٢٤

أن يكون صفة لها في الأصل ، ولكنّ هذا ضعيف ؛ من حيث إنه يلزم تقديم الحال على عاملها المعنويّ ؛ لأنّ «عليهنّ» حينئذ هو العامل فيها ؛ لوقوعه خبرا. على أنّ بعضهم قال : متى كانت الحال نفسها ظرفا أو جارّا ومجرورا ، قوي تقديمها على عاملها المعنويّ ، وهذا من ذاك ، هذا معنى قول أبي البقاء (١). وردّه أبو حيان بأنّ هذه الحال قد تقدّمت على جزأي الجملة ، فهي نظير : «قائما في الدّار زيد» ، قال : وهذا ممنوع ، لا ضعيف ؛ كما زعم بعضهم ، وجعل محلّ الخلاف فيما إذا لم تتقدّم الحال ـ العامل فيها المعنى ـ على جزأي الجملة ، بل تتوسّط ؛ نحو : «زيد قائما في الدّار» ، قال : «فأبو الحسن يجيزها ، وغيره يمنعها». و «الرّجل» مأخوذ من الرّجلة ، أي : القوّة ، وهو أرجل الرّجلين ، أي : أقواهما وفرس رجيل : قويّ على المشي ، والرّجل معروف لقوّته على المشي ، وارتجل الكلام ، أي : قوي عليه من غير حاجة فيه إلى فكرة ورويّة ، وترجّل النّهار : قوي ضياؤه.

و «الدّرجة» هي المنزلة ، وأصلها : من درجت الشّيء أدرجه درجا ، وأدرجته إدراجا إذا طويته ، ودرج القوم قرنا بعد قرن ، أي : فنوا ، ومعناه : أنّهم طووا عمرهم شيئا فشيئا ، والمدرجة : قارعة الطّريق ؛ لأنّها تطوي منزلا بعد منزل ، والدّرجة : المنزلة من منازل الجنّة ، ومنه الدّرجة التي يرتقى فيها ، والدّرج : ما يرتقى عليها ، والدّرك ما يهوى فيها.

فصل

لما بيّن أن المقصود من المراجعة إصلاح حالها ، لا إيصال الضّرر إليها ، بيّن أن لكلّ واحد من الزّوجين حقّا على الآخر.

روي عن ابن عبّاس ، قال : إني لأتزيّن لامرأتي كما تتزيّن لي ؛ لقوله تعالى : (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ)(٢).

وقال بعضهم : يجب أن يقوم بحقّها ومصالحها ، ويجب عليها الانقياد والطّاعة له.

وقيل : لهنّ على الزّوج إرادة الإصلاح عند المراجعة ، وعليهنّ ترك الكتمان فيما خلق الله في أرحامهن ، وهذا أوفق لصدر الآية.

وأما درجة الرجل على المرأة فيحتمل وجهين :

الأول : أن الرّجل أزيد في الفضيلة من النّساء لأمور : في كمال العقل ، وفي الدّية ،

__________________

(١) ينظر : الإملاء لأبي البقاء ١ / ٩٦.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٤ / ٥٣٢) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ٤٩٣) وزاد نسبته لوكيع وسفيان بن عيينة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس موقوفا.

١٢٥

وفي الميراث ، وفي القيمة ، وفي صلاحية الإمامة (١) ، والقضاء (٢) ، والشّهادة ، وللزّوج أن

__________________

(١) عرفها كثير من علماء الشريعة الإسلامية بتعريفات ترجع إلى معنى واحد : وهو رياسة الحكومة الإسلامية الجامعة لمصالح الدين والدنيا.

قال السعد في «متن المقاصد» :

(الفصل الرابع في الإمامة ، وهي رياسة عامة في أمر الدين والدنيا خلافة عن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ).

وقال البيضاوي في «طوالع الأنوار» :

(الإمامة عبارة عن خلافة شخص من الأشخاص للرسول ـ عليه‌السلام ـ في إقامة القوانين الشرعية ، وحفظ حوزة الملّة على وجه يجب اتباعه على كافة الأمة).

وقال أبو الحسن الماوردي في «الأحكام السلطانية» :

(الإمامة موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا).

وقد زاد الإمام الرازي قيدا آخر في التعريف ؛ فقال : (هي رياسة عامة في الدين والدنيا لشخص واحد من الأشخاص).

وقال : هو احتراز عن كل الأمة إذا عزلوا الإمام لفسقه.

وترادف الخلافة ، الإمامة العظمى ، وإمارة المؤمنين فهي ثلاث كلمات متحدة المعنى في لسان الشرعيين ، والقائم بهذه الوظيفة يسمى خليفة ، وإماما ، وأمير المؤمنين.

(٢) القضاء له في اللغة معان كثيرة ترجع كلها إلى انقضاء الشيء وتمامه. فمن تلك المعاني : الأمر نحو قوله تعالى : وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ. أي : أمر بذلك ، ولا يصح أن يكون معنى قضى هنا حكم أي قدر وعلم. وإلا لما تخلف أحد عن عبادته ؛ لأن ما قدره تعالى وعلمه لا يتخلف. ومنها الأداء نحو قضيت الدين أي أديته. ومنها الفراغ نحو قضى فلان الأمر أي فرغ منه. ومنها : الفعل نحو قوله تعالى : فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ. أي افعل ما تريده. ومنها : الإرادة نحو : فإذا قضى الله أمرا.

ومنها الموت نحو قضى نحبه. ومنها : المعلم نحو قضيت إليك بكذا أي : أعلمتك به. ومنه قوله تعالى : (وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ) ومن هنا صح تسمية المفتي والقاضي قاضيا ؛ لأنهما معلمان بالحكم. ومنها : الفصل نحو : قضى بينهم بالحق ومنها الخلق نحو قوله تعالى : (فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ). أي : خلقهن. ومنها الحكم نحو : قضيت عليك بكذا أي : حكمت عليك به. وهذا المعنى الأخير متلائم مع المعنى الاصطلاحي الذي سنذكره ، فالقضاء في اللغة مشترك لفظي بين تلك المعاني السابقة ، ومن يتأمل يدرك أن هذه المعاني متقاربة بعضها إلى الآخر ، ويجمعها كلها انقضاء الشيء وتمامه كما تقدم.

أما معناه في اصطلاح الشرعيين : فقد اختلفت فيه عبارات المؤلفين ؛ لاختلاف أنظارهم ومقاصدهم : فبعضهم نظر إلى كونه صفة يتصف بها القاضي فعرفه على أنه صفة ، وبعضهم نظر إلى المعنى المصدري الذي يحصل من القاضي بين الخصوم ؛ فعرفه على أنه فعل القاضي. ثم من نظروا إلى المعنى الأول منهم من اكتفى في تعريفه بما يصور الحقيقة تصويرا إجماليّا ، فلم يأت بعبارة مانعة جامعة ، ومنهم من جاء بعبارة جامعة مانعة ، وكذلك من نظروا إلى المعنى الثاني ، ومن المعلوم أن المعنيين متلازمان فالصفة لا يتحقق مقتضاها بدون المعنى المصدري ، والمعنى المصدري لا يتحقق إلا إذا وجدت هذه الصفة ، وعلى هذا فمن عرف المعنى المصدري يسهل عليه جدا معرفة الصفة الحكمية التي يتصف بها من يصدر منه ذلك المعنى ، ومن عرف الصفة التي ينشأ عنها ذلك المعنى لم يخف عليه الفعل الناشئ عنها ، فلا غضاضة على واحد من الطرفين في سلوكه المسلك الذي اختاره ؛ لأن كلّا منهما موصل لمعرفة القضاء. والقضاء هو ـ على ما قال ابن عرفة ـ صفة حكمية توجب لموصوفها ـ

١٢٦

يتزوّج عليها ويتسرّى ، وليس لها ذلك مع الزّوج ، والزوج قادر على طلاقها وعلى رجعتها شاءت أو أبت ، وليس لها ذلك.

الوجه الثاني : أن الزّوج اختصّ بأنواع من الحقوق وهي التزام المهر والنّفقة ، والذّبّ عنها ، والقيام بمصالحها ، ومنعها من مواقع الآفات ، فكان قيام المرأة بخدمة الرّجل آكد وجوبا لهذه الحقوق الزّائدة ؛ كما قال ـ تعالى ـ : (الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ) [النساء : ٣٤] ، قال ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ : «لو أمرت أحدا بالسّجود لغير الله ، لأمرت المرأة بالسّجود لزوجها» (١) وإذا كان كذلك ، فالمرأة كالأسير العاجز في يد الرّجل ، ولهذا قال ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ : «استوصوا بالنّساء خيرا فإنّهنّ عندكم عوان» (٢) ، وفي خبر آخر : «اتّقوا الله في الضّعيفين : اليتيم والمرأة» (٣).

ثم قال : «والله عزيز حكيم» أي : غالب لا يمنع ، مصيب في أحكامه.

__________________

ـ نفوذ حكمه الشرعي ، ولو بتعديل أو تجريح لا في عموم مصالح المسلمين.

ينظر : تاج العروس ١٠ / ٢٩٦ ، المصباح المنير ٢ / ٧٨١ ، حاشية الباجوري ٢ / ٣٥٥ ، الدرر ٢ / ٤٠٤ ، حاشية الخرشي ٧ / ١٣٨ ، حاشية الدسوقي على الشرح الكبير ٤ / ١٢٩ ، الفقهاء ص (٢٢٨) ، كشاف القناع ٦ / ٢٨٥.

(١) أخرجه الترمذي (١ / ٢١٧) وابن حبان (١٢٠١) والبيهقي (٩١٧) وفيه قصة وأخرجه الحاكم (٤ / ١٧١ ـ ١٧٢) دون ذكر القصة عن أبي هريرة مرفوعا.

وقال الترمذي : حسن غريب.

وأخرجه الحاكم من طريق آخر (٤ / ١٧٢) عن أبي هريرة أيضا.

وقال : صحيح الإسناد.

وتعقبه الذهبي فقال : سليمان ضعفوه.

وله شاهد من حديث أنس بلفظ : لا يصلح لبشر أن يسجد لبشر ولو صلح لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها من عظم حقه عليها.

أخرجه أحمد (٣ / ١٥٨) والبزار (٢٤٥٤ ـ كشف). وذكره الهيثمي في «المجمع» (٩ / ٤) وقال : ورجاله رجال الصحيح غير حفص ابن أخي أنس وهو ثقة.

وللحديث شاهد آخر عن عبد الله بن أبي أوفى :

أخرجه ابن ماجه (١٨٥٣) وابن حبان (١٢٩٠) والبيهقي (٧ / ٢٩٢). وشاهد آخر عن قيس بن سعد : أخرجه أبو داود (٢١٤٠) والحاكم (٢ / ١٨٧) والبيهقي (٧ / ٢٩١) وقال الحاكم : صحيح الإسناد ووافقه الذهبي.

(٢) أخرجه الترمذي (١ / ٢١٨) وابن ماجه (١٨٥١) عن عمرو بن الأحوص وقال الترمذي : حديث حسن صحيح.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٤ / ١٦٤) وذكره المتقي الهندي في «كنز العمال» (٧ / ٢٧٧ ـ ٢٧٨) رقم (١٨٨٦٤) وعزاه للبيهقي في شعب الإيمان عن أنس.

وأخرجه ابن عساكر كما في «كنز العمال» (٢٥٠٠٤) عن ابن عمر بلفظ : اتقوا الله في الضعيفين المملوك والمرأة.

١٢٧

قوله تعالى : (الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاَّ أَنْ يَخافا أَلاَّ يُقِيما حُدُودَ اللهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيما حُدُودَ اللهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلا تَعْتَدُوها وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (٢٢٩)

قوله : (الطَّلاقُ مَرَّتانِ) : مبتدأ وخبر ، و «الطّلاق» يجوز أن يكون مصدر «طلقت المرأة طلاقا» ، وأن يكون اسم مصدر ، وهو التطليق ؛ كالسّلام بمعنى التّسليم ، ولا بد من حذف مضاف قبل المبتدأ ؛ ليكون المبتدأ عين الخبر ، والتقدير : عدد الطّلاق المشروع فيه الرّجعة مرّتان.

والتثنية في «مرّتان» حقيقة يراد بها شفع الواحد ، وقال الزمخشريّ : «إنها من باب التثنية الّتي يراد بها التكرير» وجعلها مثل : لبّيك وسعديك وهذااذيك. وردّ عليه أبو حيّان (١) بأنّ ذلك مناقض في الظاهر لما قاله أولا ، وبأنه مخالف للحكم في نفس الأمر ، أمّا المناقضة ، فإنه قال : الطّلاق مرّتان ، أي : الطلاق الشرعيّ تطليقة بعد تطليقة على التفريق دون الإرسال دفعة واحدة ، فقوله هذا ظاهر في التثنية الحقيقيّة ، وأمّا المخالفة ، فلأنه لا يراد أن الطلاق المشروع يقع ثلاث مرات فأكثر ، بل مرتين فقط ؛ ويدلّ عليه قوله بعد ذلك : «فإمساك» ، أي : بالرّجعة من الطّلقة الثانية ، «أو تسريح» أي : بالطلقة الثالثة ؛ ولذلك جاء بعده «فإن طلّقها». انتهى ما ردّ به عليه ، قال شهاب الدين : والزّمخشريّ إنما قال ذلك لأجل معنى ذكره ، فينظر كلامه في «الكشّاف» ؛ فإنه صحيح.

والألف واللام في «الطّلاق» قيل : هي للعهد المدلول عليه بقوله : (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ) وقيل : هي للاستغراق ، وهذا على قولنا : إن هذه الجملة مقتطعة ممّا قبلها ، ولا تعلّق لها بها.

قوله : «فإمساك» في الفاء وجهان :

أحدهما : أنها للتعقيب ، أي : بعد أن عرّف حكم الطلاق الشرعيّ ؛ أنه مرّتان ، فيترتّب عليه أحد هذين الشيئين.

والثاني : أن تكون جواب شرط مقدّر ، تقديره : فإن أوقع الطّلقتين ، وردّ الزّوجة فإمساك.

وارتفاع «إمساك» على أحد ثلاثة أوجه : إمّا مبتدأ وخبره محذوف متقدّما ، تقديره عند بعضهم : فعليكم إمساك ، وقدّره ابن عطية متأخّرا ، تقديره : فإمساك أمثل أو أحسن.

والثاني : أن يكون خبر مبتدأ محذوف ، أي : فالواجب إمساك.

__________________

(١) ينظر : البحر المحيط ٢ / ٢٠٣.

١٢٨

والثالث : أن يكون فاعل فعل محذوف ، أي : فليكن إمساك بمعروف.

قوله : «بمعروف» و «بإحسان» في هذه الباء قولان :

أحدهما : أنها متعلّقة بنفس المصدر الذي يليه ، ويكون معناها الإلصاق.

والثاني : أن تتعلّق بمحذوف على أنها صفة لما قبلها ، فتكون في محلّ رفع ، أي : فإمساك كائن بمعروف ، أو تسريح كائن بإحسان.

قالوا : ويجوز في العربيّة نصب «فإمساك» و «تسريح» على المصدر ، أي : فأمسكوهنّ إمساكا بمعروف ، أو سرّحوهنّ تسريحا بإحسان ، إلّا أنّه لم يقرأ به أحد.

والتّسريح : الإرسال والإطلاق ، ومنه قيل للماشية : سرح ، وناقة سرح ، أي : سهلة السّير ؛ لاسترسالها فيه.

وتسريح الشّعر : تخليص بعضه من بعض ، والإمساك خلاف الإطلاق ، والمساك والمسكة اسمان منه ؛ يقال : إنّه لذو مسكة ومساكة إذا كان بخيلا.

قال الفرّاء (١) : يقال : إنه ليس بمساك غلمانه ، وفيه مساكة من جبر ، أي : قوّة.

قال القرطبي (٢) : وصريح الطّلاق ثلاثة ألفاظ ورد القرآن بها : وهي الطّلاق والسّراح والفراق (٣) ، وهو قول الشّافعي.

__________________

(١) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٦ / ٨٤.

(٢) ينظر : تفسير القرطبي ٣ / ٨٨.

(٣) إذا صح أن الطلاق لا يقع إلا بلفظ يشعر به وما قام مقامه عند العجز كإشارة الأخرس ، فاعلم أن الألفاظ التي يخاطب بها الرجل زوجته في الطلاق تنقسم إلى قسمين ؛ لأنها إما أن تحتمل الفراق بوجه ، أو لا تحتمله أصلا ، الثاني : كقومي أو اقعدي لا يقع به الطلاق وإن نواه ؛ لعدم احتمال اللفظ للفراق بوجه ، وأمّا ما يحتمل الفراق فعلى ضربين : صريح ، وهو ما لا يحتمل ظاهره غير حل عصمة النكاح وتقع به الفرقة من غير نية. وكناية ؛ وهي في الأصل الخفاء والإيماء إلى الشيء من غير تصريح ؛ ولما كانت ألفاظ الكناية فيها خفاء وإيماء إلى الطلاق سميت كناية ، والمراد بها هنا : كل لفظ احتمل الطلاق وغيره ، وتقع بها الفرقة مع النية ، ولا تقع بها من غير نية ، ولكل منها ألفاظ وللصريح ألفاظ تنقسم إلى قسمين : صريح بنفسه ، وصريح بغيره.

الصريح بنفسه : هو ثلاثة : الطلاق ، والفراق ، والسراح. فيقع الطلاق بما اشتق منه إجماعا ؛ ولاشتهاره فيه لغة وشرعا ، كطلقتك ، وكذا أنت طالق ، ويكون صريحا في واحدة فقط ، وكناية في الثنتين والثلاثة.

والصريح بغيره : أما الصريح بغيره ، فهو مشتق كالخلع ، وكذا لفظ المفاداة على التحقيق ، إذا وجد أحدهما مع واحد من ثلاث ، ذكر المال ، أو نيته أو إضمار قبول الزوجة ، ويقع في الكل بائنا إن قبلت ، ويلزمه في الأول المسمى ، وفي الثاني ما نواه إن اتفقت نيتهما ، وإلا فما توافقا عليه ، فإن اختلفا في النية رجع إلى مهر المثل ، ويجب في الثالثة مهر المثل قطعا ، فإن لم تقبل لم يقع شيء إن نوى التماس قبولها ، وإلا فكناية.

ومن الصريح بغيره ما لو قيل له استخبارا : أطلقت زوجتك؟ فقال نعم ، أو ما يرادفها كجير وأجل ، ويكون مقرا بالطلاق ، فإن كان صادقا طلقت ظاهرا وباطنا ، وتكون في الباطن له زوجة إن كان كاذبا ، ـ

١٢٩

فصل

روى عروة بن الزّبير ، قال : كان النّاس في الابتداء يطلّقون من غير حصر ولا عدد ، وكان الرّجل يطلق امرأته ، فإذا قاربت انقضاء عدّتها ، راجعها ثم طلّقها كذلك ، ثم راجعها يقصد مضارّتها ، فنزلت هذه الآية : (الطَّلاقُ مَرَّتانِ)(١).

وروي : أن الرّجل كان في الجاهليّة يطلّق امرأته ، ثم يراجعها قبل أن تنقضي عدّتها ، ولو طلّقها ألف مرّة ، كانت القدرة على المراجعة ثابتة ، فجاءت امرأة إلى عائشة ـ رضي الله عنها ـ ، فشكت أنّ زوجها يطلّقها ويراجعها ، يضارّها بذلك ، فذكرت عائشة ذلك لرسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فنزل قوله تعالى (٢) : (الطَّلاقُ مَرَّتانِ) يعني : الطلاق الّذي يملك الرّجعة عقيبه مرتان ، فإذا طلّق ثلاثا ، فلا تحلّ له إلّا بعد نكاح زوج آخر.

فصل

اختلف المفسّرون في هذه الآية :

فقال بعضهم : هذا حكم مبتدأ ، ومعناه : أن التّطليق الشّرعيّ يجب أن يكون تطليقة بعد أخرى ، على التّفريق دون الجمع والإرسال دفعة واحدة ، وهذا قول من قال : الجمع بين الثّلاث حرام.

قال أبو زيد الدّبوسيّ (٣) : هذا قول عمر وعثمان وعبد الله بن عبّاس ، وعبد الله بن عمر ، وعمران بن حصين ، وأبي موسى الأشعري وأبي الدّرداء ، وحذيفة.

وقال آخرون : ليس بابتداء كلام ، وإنّما هو متعلّق بما قبله والمعنى : أن الطّلاق الرّجعيّ مرّتان ، ولا رجعة بعد الثّلاث ، وهو قول من جوّز الجمع بين الثّلاث ، وهو مذهب الشّافعي.

حجّة القول الأوّل : أن الألف واللام في «الطّلاق» إذا لم يكونا للمعهود ، أفادا

__________________

ـ ويصدق بيمينه إن قال : أردت طلاقا ماضيا وراجعت ، وإن لم يعرف له طلاق سابق ـ لاحتمال ما يدعيه فإن قال كان بائنا وجددت لم يصدق إلا إن عرف له طلاق سابق.

(١) أخرجه الترمذي (٢ / ٢١٩) ومالك في «الموطأ» ص (٢٨٨) والشافعي في «مسنده» (٢ / ٣٤) والبيهقي (٧ / ٣٣٣) والطبري في «تفسيره» (٤ / ٥٤٠).

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ٤٩٤) وزاد نسبته لعبد بن حميد وابن أبي حاتم عن عروة بن الزبير.

(٢) أخرجه الترمذي (٢ / ٢١٨ ـ ٢١٩) والحاكم (٢ / ٢٧٩ ـ ٢٨٠) والبيهقي (٧ / ٣٣٣) وابن مردويه كما في «تفسير ابن كثير» (١ / ٥٣٨).

وقال الحاكم : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يتكلم أحد في يعقوب بن حميد بحجة وتعقبه الذهبي فقال : قد ضعفه غير واحد.

(٣) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٦ / ٨٣.

١٣٠

الاستغراق ، فصار تقدير الآية : كلّ الطّلاق مرّتان ومرّة ثالثة ، ولو قال هكذا ، لأفاد أن الطّلاق المشروع متفرّق ؛ لأن المرّات (١) لا تكون إلّا بعد تفريق الاجتماع.

فإن قيل : هذه الآية وردت لبيان الطّلاق المسنون.

فالجواب : ليس في الآية بيان صفة السّنّة ، بل مفسّرة لأصل الطّلاق ، وهذا الكلام ـ وإن كان لفظه الخبر ـ إلّا أن معناه الأمر ، أي : طلّقوا مرّتين ، يعني : دفعتين ، وإنما عدل عن لفظ الخبر ؛ لما تقدّم من أن التّعبير عن الأمر بلفظ الخبر يفيد تأكيد معنى الأمر ، فثبت أن هذه الآية دالّة على الأمر بتفريق الطّلقات ، وعلى التّشديد في ذلك الأمر والمبالغة فيه. واختلف القائلون بهذا على قولين :

الأول ـ وهو اختيار كثير من علماء أهل البيت ـ : أنّه لو طلّقها اثنتين أو ثلاثا ، لا يقع إلّا واحدة.

قال ابن الخطيب (٢) : وهذا القول هو الأقيس ، لأن النّهي يدلّ على اشتمال المنهيّ عنه على مفسدة راجحة ، والقول بالوقوع سعي في إدخال تلك المفسدة في الوجود ، وهو غير جائز ، فوجب أن يكون الحكم بعدم الوقوع.

والثاني : قول أبي حنيفة ـ رضي الله عنه ـ : إن الجمع ـ وإن كان محرّما ـ إلا أنّه يقع ، وهذا منه بناء على أنّ النّهي لا يدلّ على الفساد (٣).

حجّة القول الثّاني : هو أنّ الآية متعلّقة بما قبلها ؛ لأنه ـ تعالى ـ بيّن في الآية الأولى أن حقّ المراجعة ثابت للزّوج ، ولم يبيّن أنّ ذلك الحقّ ثابت دائما ، أو إلى غاية

__________________

(١) في ب : الثلاثة.

(٢) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٦ / ٨٣.

(٣) اختلفوا في أنّ النهي عن التصرّفات والعقود المفيدة لأحكامها كالبيع والنكاح ونحوهما ، هل يقتضي فسادها أو لا؟

فذهب جماهير الفقهاء من أصحاب الشافعي ومالك وأبي حنيفة والحنابلة وجميع أهل الظاهر وجماعة من المتكلّمين إلى إفسادها ، لكن اختلفوا في جهة الفساد : فمنهم من قال إنّ ذلك من جهة اللغة ؛ ومنهم من قال إنّه من جهة الشرع دون اللغة ؛ ومنهم من لم يقل بالفساد ، وهو اختيار المحقّقين من أصحابنا كالقفّال وإمام الحرمين والغزالي وكثير من الحنفية ؛ وبه قال جماعة من المعتزلة كأبي عبد الله البصري وأبي الحسين الكرخي والقاضي عبد الجبار وأبي الحسين البصري وكثير من مشايخهم ، ولا نعرف خلافا في أنّ ما نهي عنه لغيره أنّه لا يفسد كالنهي عن البيع في وقت النداء يوم الجمعة ، إلّا ما نقل عن مذهب مالك وأحمد بن حنبل في إحدى الروايتين عنه.

ينظر المستصفى ٢ / ٢٤ المنخول ١٢٦ التبصرة ١٠٠ الإحكام للآمدي ٢ / ١٧٤ ـ ١٧٥ شرح الكوكب ٣ / ٨٣ جمع الجوامع ٢ / ٣٩٣ شرح العضد ٢ / ٨٥ ، كشف الأسرار ١ / ٢٥٨ تيسير التحرير ١ / ٣٧٦ القواعد والفوائد لابن اللحام (١١٠) العدة لأبي يعلى ٢ / ٤٣٢ ـ ٤٤٧ اللمع ص ١٤ روضة الناظر ١١٣ المسودة (٨٢) شرح تنقيح الفصول ١٧٣.

١٣١

معيّنة ، فكان كالمجمل المفتقر إلى المبيّن ، أو العامّ المفتقر إلى المخصص ، فبيّن في هذه الآية أن ذلك الطّلاق الّذي ثبت فيه للزّوج حقّ الرّجعة ، هو أن يوجد طلقتان ، فأمّا بعد الطّلقتين ، فلا يثبت ألبتّة حق الرّجعة فالألف واللام في «الطّلاق» للمعهود السّابق ، فهذا تفسير مطابق لنظم الآية ، فيكون أولى لوجوه :

الأول : أن قوله : (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ) إن كان عامّا في كلّ الأحوال ؛ فهو مفتقر إلى المخصّص ، وإن لم يكن عامّا فهو مجمل ؛ لأنه ليس فيه بيان الشّرط الّذي عنده يثبت حقّ الرّجعة ، فافتقر إلى البيان ، فإذا جعلنا الآية متعلّقة بما قبلها ، كان المخصص حاصلا مع العامّ المخصوص ، أو كان البيان حاصلا مع المجمل ، وذلك أولى من ألّا يكون كذلك ؛ لأن تأخير البيان عن وقت الخطاب ـ وإن كان جائزا ـ ، إلا أن الأرجح ألّا يتأخّر.

الثاني : أنّا إذا جعلنا هذا الكلام مبتدأ ، كان قوله : (الطَّلاقُ مَرَّتانِ) يقتضي ذكر الطّلقة الثّانية ، وهي قوله : (أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ) فصار تقدير الآية : الطّلاق مرّتان ومرّة ؛ لأنا نقول : إن قوله : (أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ) متعلّق بقوله : (فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ) لا بقوله : (الطَّلاقُ مَرَّتانِ) ، ولأن لفظ التّسريح بالإحسان لا إشعار فيه بالطّلاق ، ولأنّا لو جعلنا التّسريح هو الطّلقة الثّالثة ، لكان قوله : (فَإِنْ طَلَّقَها) طلقة رابعة ، وهو غير جائز.

الثالث : ما روينا في سبب النّزول : من شكوى المرأة إلى عائشة كثرة تطليقها ومراجعتها قصدا للمضارّة ، وقد أجمعوا على أنّ سبب النّزول لا يجوز أن يكون خارجا عن عموم الآية ، فكان تنزيل الآية على هذا المعنى ، أولى من تنزيلها على حكم أجنبيّ عنها.

فصل

اعلم أن معنى الآية : أن الطّلاق التي يثبت فيه الرّجعة (١) هو أن يوجد مرّتان ، ثم

__________________

(١) الرجعة قال في «المصباح» بالفتح بمعنى : الرجوع ، وفلان يؤمن بالرجعة أي : بالعود إلى الدنيا. وأما الرجعة بعد الطّلاق ورجعة الكتاب فبالفتح والكسر ، وهو أفصح. قال ابن فارس : والرجعة : مراجعة الرجل أهله ، وقد تكسر وهو يملك الرجعة على زوجته ، وطلاق رجعي بالوجهين أيضا.

وفيه : رجعت المرأة إلى أهلها ؛ بموت زوجها أو طلاق ، فهي راجع ، ومنهم من يفرق فيقول : المطلّقة مردودة والمتوفى عنها راجع.

قال صاحب «المختار» : رجع الشّيء بنفسه من باب «جلس» ورجعه غيره من باب «قطع» ، وقوله تعالى : (يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ) : أي يتلاومون.

والرجعئ الرجوع ، وكذا المرجع ؛ ومنه قوله تعالى : (إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ) وهو شاذ ؛ لأن المصادر من «فعل» إنما تكون بالفتح.

ورجعه بفتح الراء وكسرها ، والفتح أفصح ، والراجع : المرأة يموت زوجها ، فترجع إلى أهليها ، وأما المطلّقة : فهي المردودة ، والرجّع : المطر ؛ قال تعالى : (وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ).

وقيل : معناه النفع.

١٣٢

الواجب بعد ذلك : إمّا إمساك بمعروف ، وهو أن يراجعها لا على قصد المضارّة ، بل على قصد الإصلاح ، وإما تسريح بإحسان ، وفيه وجهان :

أحدهما : أن يوقع عليها الطّلقة الثّالثة ، روي أنّه لمّا نزل قوله تعالى : (الطَّلاقُ مَرَّتانِ) ، قيل له ـ عليه الصلاة والسلام ـ : فأين الثّالثة؟ قال عليه الصّلاة والسّلام ـ : «هو قوله تسريح بإحسان» (١).

__________________

والمراجعة المعادة ، يقال : راجعه الكلام وراجع امرأته.

فهي لغة : المرة من الرجوع. وفي الشرع : رد المرأة إلى النكاح من طلاق غير بائن في العدة على وجه مخصوص.

وحكمة التشريع التي يمكن أن تتعرفها العقول ، وتصل إليها المدارك في شرع الله للرجعة بعد وقوع الطلاق : هي أن الزّوج الذي أقدم على ذلك الحلال المبغوض ، ربّما يكون قد استوثقت بينه وبين مطلّقته آصرة من المودة والإيلاف ، فقد أفضى بعضهم إلى بعض ، وكانت لباسا له ؛ كما كان لباسا لها ، وربّما احتمل العلوق ، أو يكون قد خرج من بينهم ذرية ضعاف يخاف عليهم الضياع والشتات.

ولا يغيب عن البال أن الأبناء والذرية الذين يتربّون في غير أحضان الآباء والأمهات معا ، تكلأ لهم أعينهم ، ويحوطهم الحفظ من السّقوط في حمأة التّشرد ، لا شك يكونون شرّا مستطيرا ، ونواة سيّئة في المجتمع الذي يعيشون فيه ، وإننا لا ننكر أن الأم من الضّعف ، وعدم القدرة على صيانة الولد خارج المنزل ، ما الله عالم به ، وربما دفعها فرط الشّفقة عليه ، وشدة الحنان والحدب عليه إلى التغاضي عن سيئه ، وقد لا تدري ما العاقبة الوخيمة وما نتيجة هذا التّفريط.

وكثيرا ما يكنّ جاهلات لا يعرفن من أمور الحياة وشئون تربية الأبناء إلّا كونهم آلة تقوم بتنظيف المسكن وإنضاج الطعام وغسل الملابس ؛ ولا تعرف لابنها إلا أن تلقمه ثديها رضيعا ، وتقدم إليه كسر الخبر والطّعام بعد فطامه وفي يفاعه.

وأيضا قد يتزوّج كل من الأبوين بعد انفصام عقدة النكاح ، وهنا الطّامة تطمّ على الأبناء ، فالأمّ منصرفة عن ابنها إلى الزّوج الجديد ، والأب لاه بزوجته ، وربما كانت الزّوجة عامل إفساد تربية هؤلاء الصّغار ؛ من أجل ذلك كلّه شاء ربّك الحكيم ألا يهمل أمر هؤلاء الصغار ، وألّا تتوتر آصرة المحبة والإيلاف بين الزوجين ، وشاء ألّا يندم الزّوج على ما فرّط فيه ، فشرع الرجعة وملكها الزوج ؛ حتى لا يطول ندمه ، ولا تطول محنة الأبناء ، وأيضا قد تكون الزوجة لا عائل لها ، وليس ثمت من يرغب في نكاحها ، فكان بالرجعة مجال لدرء ما عساه أن يقع ؛ ولدفع الفاقة عن البائسات.

واصطلاحا :

عرفها الحنفية بأنها : استدامة الملك القائم في العدة برد الزوجة إلى زوجها ، وإعادتها إلى حالتها الأولى.

عرفها الشافعية بأنها : رد المرأة إلى النكاح من طلاق غير بائن في العدة ، على وجه مخصوص.

عرفها المالكية بأنها : عود الزوجة المطلقة للعصمة من غير تجديد عقد.

عرفها الحنابلة بأنها : إعادة المطلقة غير بائن إلى ما كانت عليه بغير عقد. ينظر : القاموس المحيط ٣ / ٢٨.

وانظر الاختيار ١٠٠ ، اللباب ٥٦ ، الإقناع ٢ / ١٧٥ ، حاشية الدسوقي ٢ / ٤١٥ ، كشاف القناع ٥ / ٣٤١.

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٤ / ٥٤٥ والبيهقي (٧ / ٣٤٠) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ٤٩٥) وزاد نسبته لوكيع وعبد الرزاق وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وأبي داود في «ناسخه» وابن ـ

١٣٣

الثاني : أن التّسريح بالإحسان : أن يترك مراجعتها حتى تبين بانقضاء العدّة ، وهو مرويّ عن الضّحّاك والسّدّيّ (١).

قال ابن الخطيب (٢) : وهو أقرب لوجوه :

أحدها : أن «الفاء» في قوله : (فَإِنْ طَلَّقَها) تقتضي وقوع هذه الطّلقة متأخّرة عن ذلك التّسريح ، فلو كان المراد بالتّسريح هو الطّلقة الثّالثة ، لكان قوله : فإن طلّقها طلقة رابعة ؛ وهو لا يجوز.

وثانيها : أنّا إذا حملنا التّسريح على ترك المراجعة ، كانت الآية متناولة لجميع الأحوال ؛ لأنّه بعد الطّلقة الثّانية إمّا أن يراجعها وهو المراد بقوله : (فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ) أو لا يراجعها ، بل يتركها حتى تنقضي عدّتها وتبين ، وهو المراد بقوله : (أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ) أو يطلّقها وهو المراد بقوله : (فَإِنْ طَلَّقَها) ، فكانت الآية مشتملة على بيان كلّ الأقسام ، وإذا جعلنا التّسريح بالإحسان طلاقا آخر لزم ترك أحد الأقسام الثّلاثة ، ولزم التكرير في ذكر الطّلاق ، وهو غير جائز.

وثالثها : أنّ ظاهر التّسريح هو الإرسال والإهمال ، فحمله على ترك المراجعة أولى من حمله على التّطليق.

ورابعها : أنّه قال بعد ذلك التّسريح : «ولا يحلّ لكم أن تأخذوا ممّا آتيتموهنّ شيئا» والمراد به الخلع ، ومعلوم أنه لا يصحّ الخلع بعد التّطليقة الثّالثة ، فهذه الوجوه ظاهرة ، لو لم يثبت الخبر الّذي رويناه ، فإن صحّ ذلك الخبر ، فلا مزيد عليه.

فصل في الحكمة في الرّجعة

والحكمة في إثبات حقّ الرّجعة : أن الإنسان إذا كان مع صاحبه ، لا يدري هل تشقّ عليه مفارقته أم لا؟ فإذا فارقه بعد ذلك يظهر ، فلو جعل الله الطّلقة الواحدة مانعة من الرّجوع ، لعظمت المشقّة على الإنسان بتقدير أن تظهر المحبّة بعد المفارقة مرّتين ، وعند ذلك تحصل التّجربة ، فإن كان الأصلح الإمساك ، راجعها وأمسكها بالمعروف ، وإن كان الأصلح التّسريح ، سرّحها بإحسان.

فصل

واختلف العلماء إذا كان أحد الزّوجين رقيقا :

__________________

ـ المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي رزين الأسدي.

وللحديث شاهد عن أنس بن مالك : أخرجه البيهقي (٧ / ٣٤٠) وابن مردويه كما في «الدر المنثور» (١ / ٤٩٥).

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٤ / ٥٤١ ـ ٥٤٢).

(٢) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٦ / ٨٤.

١٣٤

فذهب أكثرهم إلى أنّه يعتبر عدد الطّلاق بالزّوج ؛ فالحرّ يملك على زوجته الأمة ثلاث تطليقات ، والعبد لا يملك على زوجته الحرّة إلّا طلقتين.

قال عبد الله بن مسعود : الطّلاق بالرّجال والعدّة بالنّساء (١) ، يعني : يعتبر في الطّلاق حال الرّجال ، وفي قدر العدّة حال المرأة ، وهو قول عثمان ، وزيد بن ثابت ، وابن عبّاس ، وبه قال عطاء وسعيد بن المسيّب ، وإليه ذهب مالك ، والشّافعي ، وأحمد ، وإسحاق.

وذهب قوم إلى أن الاعتبار بالمرأة في عدد الطّلاق ، فيملك العبد على زوجته الحرّة ثلاث طلقات ، ولا يملك الحرّ على زوجته الأمة إلّا طلقتين ، وهو قول سفيان الثّوريّ وأصحاب الرّأي.

فصل

إذا طلّقها ثلاثا بكلمة واحدة ، لزمه الطّلاق بالإجماع.

وقال عليّ بن أبي طالب ، وابن مسعود : يلزمه طلقة واحدة.

وقال ابن عبّاس : وقوله : ثلاثا لا معنى له ؛ لأنّه لم يطلّق ثلاث مرّات وإنّما يجوز قوله : في ثلاث إذا كان مخبرا عمّا مضى ، فيقول : طلّقت ثلاثا ، فيكون مخبرا عن ثلاثة أفعال كانت منه في ثلاثة أوقات ؛ فهو كقول الرّجل : قرأت سورة كذا ثلاث ؛ فإن كان قرأها ثلاث مرّات ، كان صادقا ، وإن كان قرأها مرّة واحدة ، كان كاذبا ، وكذا لو قال : أحلف بالله ثلاثا يردد الحلف كانت ثلاثة أيمان ، ولو قال : أحلف بالله ثلاثا ، لم يكن حلف إلا يمينا واحدة والطّلاق مثله. وقاله الزّبير بن العوّام ، وعبد الرّحمن بن عوف ، قاله القرطبي (٢).

قوله : «أن تأخذوا» : «أن» وما في حيّزها في محلّ رفع على أنه فاعل «يحلّ» ، أي: ولا يحلّ لكم أخذ شيء ممّا آتيتموهنّ. و «ممّا» فيه وجهان : أحدهما : أن يتعلّق بنفس «تأخذوا» ، و «من» على هذا لابتداء الغاية.

والثاني : أن يتعلّق بمحذوف على أنه حال من «شيئا» قدّمت عليه ؛ لأنها لو تأخّرت عنه لكانت وصفا ، و «من» على هذا للتبعيض ، و «ما» موصولة ، والعائد محذوف ، تقديره : من الذي آتيتموهنّ إيّاه ، وقد تقدّم الإشكال والجواب في حذف العائد المنصوب المنفصل عند قوله تعالى : (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) [البقرة : ٣] وهذا مثله ، فليلتفت إليه.

و «آتى» يتعدّى لاثنين ، أولهما «هنّ» والثاني هو العائد المحذوف ، و «شيئا»

__________________

(١) ينظر : تفسير البغوي ١ / ٢٠٦.

(٢) ينظر : تفسير القرطبي ٣ / ٨٧ ـ ٨٨.

١٣٥

مفعول به ناصبه «تأخذوا». ويجوز أن يكون مصدرا ، أي : شيئا من الأخذ. والوجهان منقولان في قوله : (لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً) [يس : ٥٤].

قوله : (إِلَّا أَنْ يَخافا) هذا استثناء مفرّغ ، وفي (أَنْ يَخافا) وجهان :

أحدهما : أنه في محلّ نصب على أنه مفعول من أجله ، فيكون مستثنى من ذلك العامّ المحذوف ، والتقدير : ولا يحلّ لكم أن تأخذوا بسبب من الأسباب ، إلا بسبب خوف عدم إقامة حدود الله ، وحذف حرف العلة ؛ لاستكمال شروط النصب ، لا سيما مع «أن» ولا يجيء هنا خلاف الخليل وسيبويه (١) : أهي في موضع نصب ، أو جرّ بعد حذف اللام ، بل هي في محلّ نصب فقط ، لأنّ هذا المصدر لو صرّح به ، لنصب ، وهذا قد نصّ عليه النحويّون ، أعني كون «أن» وما بعدها في محلّ نصب ، بلا خلاف ، إذا وقعت موقع المفعول له.

والثاني : أنه في محلّ نصب على الحال ، فيكون مستثنى من العامّ أيضا ، تقديره : ولا يحلّ لكم في كلّ حال من الأحوال إلّا في حال خوف ألّا يقيما حدود الله ، قال أبو البقاء (٢) : والتقدير : إلّا خائفين ، وفيه حذف مضاف ، تقديره : ولا يحلّ لكم أن تأخذوا على كلّ حال ، أو في كلّ حال إلا في حال الخوف ، والوجه الأول أحسن ، وذلك أنّ «أن» وما في حيّزها مؤوّلة بمصدر ، وذلك المصدر واقع موقع اسم الفاعل المنصوب على الحال ، والمصدر لا يطّرد وقوعه حالا ، فكيف بما هو في تأويله!! وأيضا فقد نصّ سيبويه (٣) على أنّ «أن» المصدرية لا تقع موقع الحال.

والألف في قوله «يخافا» و «يقيما» عائدة على صنفي الزوجين ، وهذا الكلام فيه التفات ، إذ لو جرى على نسق الكلام ، لقيل : «إلّا أن تخافوا ألّا تقيموا» بتاء الخطاب للجماعة ، وقد قرأها (٤) كذلك عبد الله ، وروي عنه أيضا بياء الغيبة ، وهو التفات أيضا.

والقراءة في «يخافا» بفتح الياء واضحة ، وقرأها (٥) حمزة وأبو جعفر ويعقوب بضمّها على البناء للمفعول ، وقد استشكلها جماعة ، وطعن فيها آخرون لعدم معرفتهم بلسان العرب ، وقد ذكروا فيها توجيهات كثيرة ، أحسنها أن يكون «أن يقيما» بدلا من الضمير في «يخافا» ؛ لأنه يحلّ محلّه ، تقديره : إلّا أن يخاف عدم إقامتهما حدود الله ،

__________________

(١) ينظر : الكتاب لسيبويه ١ / ١٧.

(٢) ينظر : الإملاء لأبي البقاء ١ / ٩٦.

(٣) ينظر : الكتاب لسيبويه ١ / ١٩٥.

(٤) انظر : البحر المحيط ٢ / ٢٠٧ ، والدر المصون ١ / ٥٥٩.

(٥) انظر : المحرر الوجيز ١ / ٣٠٧ ، والبحر المحيط ٢ / ٢٠٧ إلا أن أبا حيان قال : وقرأ حمزة ويعقوب ويزيد بن القعقاع : إلا أن يخافوا بضم الياء مبنيا للمفعول ؛ فذكر الفعل مسندا لواو الجماعة ، والقراءة المذكورة الفعل مسند فيها إلى ألف الاثنين.

١٣٦

وهذا من بدل الاشتمال ؛ كقولك : «الزّيدان أعجباني علمهما» ، وكان الأصل : «إلا أن يخاف الولاة الزوجين ألّا يقيما حدود الله» ، فحذف الفاعل الذي هو «الولاة» ؛ للدلالة عليه ، وقام ضمير الزوجين مقام الفاعل ، وبقيت «أن» وما بعدها في محلّ رفع بدلا ؛ كما تقدّم تقريره.

وقد خرّجه ابن عطيّة على أنّ «خاف» يتعدّى إلى مفعولين ك «استغفر» ، يعني : إلى أحدهما بنفسه ، وإلى الآخر بحرف الجرّ ، وجعل الألف هي المفعول الأول قامت مقام الفاعل ، و «أن» وما في حيّزها هي الثاني ، وجعل «أن» في محلّ جرّ عند سيبويه والكسائيّ ، وقد ردّ عليه أبو حيان هذا التخريج ؛ بأنّ «خاف» لا يتعدّى لاثنين ، ولم يعدّه النحويون حين عدّوا ما يتعدّى لاثنين ؛ ولأنّ المنصوب الثاني بعده في قولك : «خفت زيدا ضربه» ، إنما هو بدل لا مفعول به ، فليس هو كالثاني في «استغفرت الله ذنبا» ، وبأن نسبة كون «أن» في محلّ جر عند سيبويه (١) ليس بصحيح ، بل مذهبه أنها في محلّ نصب ، وتبعه الفراء ، ومذهب الخليل : أنها في محلّ جرّ ، وتبعه الكسائيّ ، وهذا قد تقدّم غير مرة.

وقال غيره كقوله ؛ إلّا أنّه قدّر حرف الجرّ «على» ، والتقدير : إلّا أن يخاف الولاة الزّوجين على ألّا يقيما ، فبني للمفعول ، فقام ضمير الزوجين مقام الفاعل ، وحذف حرف الجر من «أن» فجاء فيه الخلاف المتقدّم بين سيبويه والخليل.

وهذا الذي قاله ابن عطية سبقه إليه أبو عليّ ، إلّا أنه لم ينظّره ب «استغفر».

وقد استشكل هذه القراءة قوم وطعن عليها آخرون ، لا علم لهم بذلك ، فقال النحّاس (٢) : لا أعلم في اختيار حمزة أبعد من هذا الحرف ؛ لأنه لا يوجبه الإعراب ، ولا اللفظ ، ولا المعنى.

أمّا الإعراب : فلأنّ ابن مسعود قرأ «إلّا أن تخافوا ألّا يقيموا» ، فهذا إذا ردّ في العربية لما لم يسمّ فاعله ، كان ينبغي أن يقال : «إلّا أن يخاف».

وأمّا اللفظ : فإن كان على لفظ «يخافا» ، وجب أن يقال : فإن خيف ، وإن كان على لفظ «خفتم» ، وجب أن يقال : إلّا أن تخافوا.

وأمّا المعنى : فأستبعد أن يقال : «ولا يحلّ لكم أن تأخذوا ممّا آتيتموهنّ شيئا إلّا أن يخاف غيركم» ، ولم يقل تعالى : «ولا جناح عليكم أن تأخذوا له منها فدية» ، فيكون الخلع إلى السلطان ، والفرض أنّ الخلع لا يحتاج إلى السلطان.

وقد ردّ الناس على النحّاس :

__________________

(١) ينظر : الكتاب لسيبويه ١ / ١٧.

(٢) ينظر : إعراب القرآن للنحاس ١ / ٢٩٥.

١٣٧

أمّا ما ذكره من حيث الإعراب : فلا يلزم حمزة ما قرأ به عبد الله.

وأمّا من حيث اللفظ : فإنه من باب الالتفات ؛ كما قدّمته أولا ، ويلزم النّحّاس أنه كان ينبغي على قراءة غير حمزة أن يقرأ : «فإن خافا» ، وإنّما هو في القراءتين من الالتفات المستحسن في العربية.

وأمّا من حيث المعنى : فلأنّ الولاة والحكام هم الأصل في رفع التظالم بين الناس وهم الآمرون بالأخذ والإيتاء.

ووجّه الفراء (١) قراءة حمزة ، بأنه اعتبر قراءة عبد الله «إلّا أن تخافوا». وخطّأه الفارسيّ وقال : «لم يصب ؛ لأنّ الخوف في قراءة عبد الله واقع على «أن» ، وفي قراءة حمزة واقع على الرجل والمرأة». وهذا الذي خطّأ به الفراء ليس بشيء ؛ لأنّ معنى قراءة عبد الله : إلّا أن تخافوهما ، أي : الأولياء ، الزوجين ألّا يقيما ، فالخوف واقع على «أن» وكذلك هي في قراءة حمزة الخوف واقع عليها أيضا بأحد الطريقين المتقدّمين : إمّا على كونها بدلا من ضمير الزوجين ؛ كما تقدّم تقريره ، وإمّا على حذف حرف الجرّ ، وهو «على». والخوف هنا فيه ثلاثة أوجه :

أحدها : أنه على بابه من الحذر والخشية ، فتكون «أن» في قراءة غير حمزة في محلّ جرّ ، أو نصب ؛ على حسب الخلاف فيها بعد حذف حرف الجرّ ؛ إذ الأصل : من ألّا يقيما ، أو في محلّ نصب فقط ؛ على تعدية الفعل إليها بنفسه ؛ كأنه قيل : إلّا أن يحذر عدم إقامة حدود الله.

والثاني : أنه بمعنى العلم ، وهو قول أبي عبيدة (٢). وأنشد : [الطويل]

١١٠٩ ـ فقلت لهم خافوا بألفي مدجّج

سراتهم في الفارسيّ المسرّد (٣)

ومنه أيضا : [الطويل]

١١١٠ ـ ولا تدفننّي في الفلاة فإنّني

أخاف إذا ما متّ أن لا أذوقها (٤)

ولذلك رفع الفعل بعد «أن» ، وهذا لا يصحّ في الآية ، لظهور النّصب ، وأما البيت ، فالمشهور في روايته «فقلت لهم ظنّوا بألفي».

والثالث : الظّنّ ، قاله الفراء ؛ ويؤيّده قراءة أبيّ (٥) : «إلّا أن يظنّا» ؛ وأنشد : [الطويل]

__________________

(١) ينظر : معاني القرآن للفراء ١ / ١٤٦.

(٢) ينظر : مجاز القرآن ١ / ٧٤.

(٣) تقدم برقم (٤٥٨).

(٤) تقدم برقم ٩٢٤.

(٥) انظر : الكشاف ١ / ٢٧٥ ، والدر المصون ١ / ٥٦١.

١٣٨

١١١١ ـ أتاني كلام من نصيب يقوله

وما خفت يا سلّام أنّك عائبي (١)

وعلى هذين الوجهين ، فتكون «أن» وما في حيّزها سادّة مسدّ المفعولين عند سيبويه ومسدّ الأول والثاني محذوف عند الأخفش ؛ كما تقدّم مرارا والأول هو الصحيح ، وذلك أنّ «خاف» من أفعال التوقّع ، وقد يميل فيه الظنّ إلى أحد الجائزين ، ولذلك قال الراغب (٢) : «الخوف يقال لما فيه رجاء مّا ؛ ولذلك لا يقال : خفت ألّا أقدر على طلوع السماء ، أو نسف الجبال».

وأصل «يقيما» : يقوما ، فنقلت كسرة الواو إلى الساكن قبلها ، ثم قلبت الواو ياء ؛ لسكونها بعد كسرة ، وقد تقدّم تقريره في قوله : (الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) [الفاتحة : ٥].

وزعم بعضهم أنّ قوله : (وَلا يَحِلُّ لَكُمْ) معترض بين قوله : (الطَّلاقُ مَرَّتانِ) ، وبين قوله : (فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ) ، وفيه بعد.

قوله : (فَلا جُناحَ عَلَيْهِما) «لا» واسمها وخبرها ، وقوله : (فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ) متعلّق بالاستقرار الذي تضمّنه الخبر ، وهو : «عليهما» ، ولا جائز أن يكون «عليهما» متعلّقا ب «جناح» و «فيما افتدت» الخبر ؛ لأنه حينئذ يكون مطوّلا ، والمطوّل معرب ، وهذا ـ كما رأيت ـ مبنيّ.

والضمير في «عليهما» عائد على الزوجين ، أي : لا جناح على الزوج فيما أخذ ، ولا على المرأة فيما أعطت ، وقال الفراء (٣) : إنّما يعود على الزوج فقط ، وإنما أعاده مثنى ، والمراد واحد ؛ كقوله تعالى : (يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ) [الرحمن : ٢٢] (نَسِيا حُوتَهُما) [الكهف : ٦١] ؛ وقوله : [الطويل]

١١١٢ ـ فإن تزجراني يا بن عفّان أنزجر

وإن تدعاني أحم عرضا ممنّعا (٤)

وإنما يخرج من الملح ، والنّاسي «يوشع» وحده ، والمنادى واحد في قوله : «يا بن عفّان». و «ما» بمعنى «الذي» ، أو نكرة موصوفة ، ولا جائز أن تكون مصدرية ؛ لعود الضمير من «به» عليها ، إلا على رأي من يجعل المصدرية اسما ؛ كالأخفش وابن السّرّاج ومن تابعهما.

فصل

اعلم أنه ـ تعالى ـ لمّا أمر بأن يكون التّسريح بإحسان بين هنا أنّ من جملة

__________________

(١) البيت لأبي الغول الطهوي : ينظر النوادر (٤٦) ، الطبري ٤ / ٥٥٠ ، البحر ٢ / ٢٠٧ ، الدر المصون ١ / ٥٦١.

(٢) ينظر : المفردات للراغب ١٩٦.

(٣) ينظر : معاني القرآن للفراء ١ / ١٤٧.

(٤) البيت لسويد بن كراع ينظر الصاحبي (١٨٦) ، شرح شواهد الشافية (٤٨٤) ، الدر المصون ١ / ٥٦١.

١٣٩

الإحسان أنّه إذا طلّقها لا يأخذ منها شيئا ، ويدخل في هذا النّهي ألا يضيّق عليها ليلجئها إلى الافتداء ؛ كما قال في سورة النّساء : (وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَ) [النساء : ١٩] وقوله هنا : (إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللهِ) هو كقوله : (إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ) [النساء : ١٩] وقال أيضا : (وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ) [النساء : ٢٠ ـ ٢١].

فإن قيل : قوله : (وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا) هذا الخطاب كان للأزواج ، فكيف يطابقه قوله : (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللهِ) وإن كان للأئمّة والحكّام فهؤلاء لا يأخذون منهنّ شيئا؟

قلنا : الأمران جائزان :

فيجوز أن يكون أوّل الآية خطابا للأزواج ، وآخرها خطابا للأئمّة والحكّام ، وليس ذلك بغريب من القرآن.

ويجوز أن يكون الخطاب كلّه للأئمّة والحكّام ؛ لأنهم هم الّذين يأمرون بالأخذ والإيتاء عند التّرافع إليهم فكأنّهم هم الآخذون والمؤتون ، ويدلّ له قراءة حمزة المتقدّمة : «يخافا» بضم الياء ، أي : يعلم ذلك منهما ، يعني : يعلم القاضي والوالي ذلك من الزّوجين ، ويطابقه قوله : (فَإِنْ خِفْتُمْ) فجعل الخوف لغير الزّوجين ، ولم يقل : «فإن خافا». واعلم أنّه لما منع الرجل أن يأخذ من امرأته شيئا عند الطّلاق ، استثنى هذه الصّورة ، وهي مسألة الخلع (١) ، واختلفوا في هذا الاستثناء ؛ هل هو متّصل أو منقطع؟

وفائدة الخلاف تظهر في مسألة فقهيّة ؛ وهي أن أكثر المجتهدين جوّز الخلع في غير حالة الخوف والغضب.

وقال الزّهري والنّخعي وداود : لا يباح الخلع إلّا عند الغضب والخوف من ألّا يقيما حدود الله ، فإن وقع الخلع في غير هذه الحالة ، فالخلع فاسد ، واحتجّوا بهذه الآية ؛ فإنها صريحة في تحريم الأخذ من الزّوجة عند طلاقها ، واستثني هذه الصّورة.

وأما جمهور المجتهدين فقالوا : الخلع جائز في حالة الخوف وغيره ؛ لقوله تعالى : (فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً) [النساء : ٤] وإذا جاز لها أن تهب مهرها من غير أن تحصّل لنفسها شيئا بإزاء ما بذلت ، كان الخلع الّذي تصير بسببه مالكة لنفسها أولى ، ويكون الاستثناء منقطعا ؛ كقوله : (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً)

__________________

(١) والحاجة ماسّة إليه ؛ وإن كان المهر وقع في مقابلة المسيس ، قال تعالى : «وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ» إلا أن الزوجة قد تتضرر بعشرته وربما لا تسمح نفسه بمفارقتها مجانا فشرع الخلع دفعا للضرر من الجانبين.

١٤٠