اللّباب في علوم الكتاب - ج ٤

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ٤

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٥٨

فصل

قال القرطبيّ (١) : إذا حلف ألّا يطأ امرأته أكثر من أربعة أشهر ؛ فانقضت الأربعة أشهر ولم تطالبه ، ولم ترفعه إلى الحاكم ، لم يلزمه شيء عند مالك وأكثر أهل المدينة.

وقال بعض أصحابنا : يلزمه بانقضاء الأربعة أشهر طلقة رجعيّة ، وقال بعضهم : طلقة بائنة.

والصّحيح : ما ذهب إليه مالك ، وأكثر أهل المدينة وأصحابه.

فصل هل ينعقد الإيلاء في الغضب؟!

قال ابن عبّاس : لا يكون إيلاء إلّا في حال الغضب (٢) ، وهو المشهور عن عليّ (٣) ـ رضي الله عنه ـ وهو قول اللّيث ، والشّعبي ، والحسن ، وعطاء قالوا : لا يكون الإيلاء إلّا على وجه مغاضبة ومشادّة (٤).

وقال ابن سيرين : يكون في غضب ، وغير غضب (٥) ، وهو قول ابن مسعود ، والثوري ومالك وأهل العراق والشّافعيّ وأحمد.

فصل

والمدخول بها وغير المدخول بها سواء في صحّة الإيلاء منها.

قال القرطبي (٦) : والذّمّيّ لا يصحّ إيلاؤه كما لا يصحّ طلاقه ، ولا ظهاره ؛ لأن نكاح أهل الشّرك عندنا ليس بنكاح صحيح.

فصل

ومدّة الإيلاء أربعة أشهر في حق الحرّ والعبد لأنّها ضربت لمعنى يرجع إلى الطّبع ، وهو قلّة صبر المرأة عن الزّوج ، فيستوي فيه الحرّ والعبد ؛ كمدّة الفيئة ومدّة الرّضاع.

وعند مالك وأبي حنيفة : ينتصف بالرّقّ ، إلّا عند أبي حنيفة : ينتصف برقّ المرأة ، وعند مالك : برقّ الرّجل ؛ كقولهما في الطّلاق.

ولنا : ظاهر قوله تعالى : (لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ) فتتناول الكلّ من غير

__________________

(١) ينظر : تفسير القرطبي ٣ / ٧٠.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٤ / ٤٥٩) عن ابن عباس.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٤ / ٤٦٠) عن علي بن أبي طالب وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ٤٨٣) وعزاه لعبد بن حميد على علي بلفظ : الإيلاء إيلاءان إيلاء في الغضب وإيلاء في الرضا.

(٤) ينظر : تفسير القرطبي ٣ / ٧٠.

(٥) وهو مروي عن علي بن أبي طالب وقد تقدم.

(٦) ينظر : تفسير القرطبي ٣ / ٧١.

١٠١

تخصيص ، والتّخصيص خلاف الظّاهر ، والمعنى المتقدّم يمنع التّخصيص.

قال القرطبيّ (١) : وأجل المؤلي من يوم حلف ، لا من يوم المرافعة إلى الحاكم.

فصل فيمن يصح منه الإيلاء ومن لا يصح

كلّ زوج يتصوّر منه الوقاع ، وكان تصرّفه معتبرا في الشّرع ، صحّ منه الإيلاء.

وقال مالك : لا يصحّ الإيلاء إلّا في حال الغضب ، وقال غيره : يصحّ الإيلاء في حال الرّضى والغضب ، ويصحّ الإيلاء من الرّجعيّة ؛ لأنها زوجة ؛ بدليل أنّه لو قال : نسائي طوالق ، وقع عليها الطّلاق.

وإيلاء الخصيّ صحيح ، لأنه يجامع كالفحل ، وإنما فقد في حقّه الإنزال ، والمجبوب إن بقي منه ما يمكنه أن يجامع به ، صحّ إيلاؤه ، وإن لم يبق ، فيه خلاف.

قال أبو حنيفة : لا يصحّ إيلاؤه.

وقال غيره : يصحّ لعموم الآية ، ولا يصحّ الإيلاء [من أجنبيّة] ، فلو آلى منها ثم تزوّجها ، لم يكن مؤليا.

فصل

فإن امتنع من وطئها بغير يمين إضرارا بها ، أمر بوطئها ، فإن امتنع إضرارا بها ، فرّق الحاكم بينه وبينها ، من غير ضرب مدّة.

وقيل : يضرب له أجل الإيلاء ، فإذا حلف لا يطؤها حتى يفطم ولدها ؛ لئلا يمغل بولدها ، ولم يرد إضرارا بها حتى ينقضي أمد الرّضاع ، لم يكن لها مطالبته.

فصل

المولي لا يخلو إمّا أن يحلف على ترك الوطء بالله ـ تعالى ـ أو بغيره ، فإن حلف بالله تعالى كان مؤليا ، ثم إن جامعها في مدّة الإيلاء ، خرج عن الإيلاء ، وهل تجب عليه كفّارة؟ فيه قولان :

أصحّهما : أن عليه الكفّارة كما قدّمناه ؛ لعموم الدّلائل الموجبة للكفّارة عند الحنث باليمين بالله ـ تعالى ـ لأنه لا فرق بين قوله : «والله لا أقربك» ثم يقربها ، وبين قوله : «والله لا أكلّمك» ثم يكلّمها.

والقول الثاني : لا كفّارة عليه ؛ لقول تعالى : (فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ).

ولو كانت الكفّارة واجبة لذكرها ، والحاجة مناسبة إلى معرفتها ، ولا يجوز تأخير

__________________

(١) ينظر : تفسير القرطبي ٣ / ٧٠.

١٠٢

البيان عن وقت الحاجة ، والغفران يوجب ترك المؤاخذة.

وللأوّلين أن يجيبوا : بأنه إنما ترك ذكر الكفّارة ههنا لأنه ـ تعالى ـ بيّنها على لسان رسوله ـ عليه الصّلاة والسلام ـ في سائر المواضع ، وترك المؤاخذة بقوله : (غَفُورٌ رَحِيمٌ) يدل على عدم العقاب ، وهو لا ينافي وجوب الفعل ، كما أن التّائب عن الزّنا والقتل لا عقاب عليه ، ومع ذلك يجب عليه الحدّ والقصاص.

وأما إن كان الحالف في الإيلاء بغير الله ؛ كما إذا قال : إن وطأتك فعبدي حرّ ، أو أنت طالق ، أو ضرتك طالق ، أو التزم أمرا في الذّمّة ، فقال : إن وطأتك فلله عليّ عتق رقبة ، أو صدقة ، أو صوم ، أو حجّ ، أو صلاة ، فقال الشّافعي في «القديم» ، وأحمد في ظاهر الرّواية عنه : لا يكون مؤليا ؛ لأن الإيلاء المعهود هو الحلف بالله ؛ ولقوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ : «من حلف فليحلف بالله» (١).

وقال الشّافعيّ في «الجديد» ـ وهو قول أبي حنيفة ومالك وجماعة ـ إنه يكون مؤليا ؛ لأن لفظ الإيلاء يتناول الكلّ ، وعلى القولين فيمينه منعقدة ، فإن كان قد علّق به طلاقا أو عتقا ، وقع بوطئه ذلك المعلّق ، وإن كان المعلّق التزام قربة في الذّمّة ، فعليه ما في نذر اللّجاج (٢) ، إمّا كفّارة يمين ، وإمّا الوفاء بما سمّى.

وفائدة هذين القولين : أنا إن قلنا : يكون مؤليا ، فبعد أربعة أشهر يضيق الأمر عليه ، حتّى يفيء أو يعلّق ، وإن قلنا : لا يكون مؤليا ، لا يضيق عليه الأمر.

قال القرطبي (٣) : فإن حلف بالنّبيّ أو الملائكة ، أو الكعبة ألا يطأها أو قال : هو يهوديّ ، أو نصرانيّ ، أو زان إن وطئها ، فليس بمؤل ، قال : وإن حلف ألا يطأها ، واستثنى فقال : إن شاء الله ، فإنّه يكون مؤليا ، فإن وطئها ، فلا كفّارة عليه.

وقال ابن الماجشون في «المبسوط» : ليس بمؤل ، وهو الصّحيح.

قوله : «فإن فاءوا» ألف «فاء» منقلبة عن ياء ؛ لقولهم : فاء يفيء فيئة : رجع والفيء: الظلّ ؛ لرجوعه من بعد الزوال ، وقال علقمة : [الطويل]

١١٠٠ ـ فقلت لها فيئي فما تستفزّني

ذوات العيون والبنان المخضّب (٤)

__________________

(١) أخرجه مالك في الموطأ ٢ / ٤٨٠ كتاب «النذور والأيمان» : باب جامع الأيمان (١٤) والبخاري ١١ / ٥٣٨ ، كتاب «الأيمان والنذور» ، باب لا تحلفوا بآبائكم (٦٦٤٦) ، ومسلم ٢ / ١٢٦٦ كتاب الأيمان ، باب النهي عن الحلف بغير الله تعالى (٣ ـ ١٦٤٦) من حديث ابن عمر بلفظ «إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم ، فمن كان حالفا فليحلف بالله ، أو ليصمت».

(٢) (اللّجاج) بفتح اللام ، وهو مصدر لججت بكسر الجيم ، يلجّ بفتح اللّام لجاجا ولجاجة فهو لجوج ، ولجوجة بالهاء للمبالغة ، والملاجّة التّمادي في الخصومة. ينظر تحرير التنبيه ص ١٩٤.

(٣) ينظر : تفسير القرطبي ٣ / ٦٩.

(٤) ينظر : ديوانه (٨٣) ، البحر ٢ / ١٨٦ ، الدر المصون ١ / ٥٢٢.

١٠٣

وفرّقوا بين الفيء والظّل : فقالوا : الفيء ما كان بالعشيّ ؛ لأنه الذي نسخته الشّمس ، والظّلّ ما كان بالغداة ؛ لأنه لم تنسخه الشّمس ، وفي الجنة ظلّ وليس فيها فيء ؛ لأنه لا شمس فيها ؛ قال تعالى : (وَظِلٍّ مَمْدُودٍ) [الواقعة : ٣٠] ؛ وأنشد : [الطويل]

١١٠١ ـ فلا الظّلّ من برد الضّحى تستطيعه

ولا الفيء من برد العشيّ تذوق (١)

وقيل : فلان سريع الفيئة ، أي : سريع الرّجوع عن الغضب إلى الحالة المتقدّمة ، حكاه الفرّاء عن العرب (٢).

وقيل لما ردّه الله على المسلمين من مال المشركين : فيء ؛ كأنه كان لهم فرجع إليهم ، فقوله: «فاءوا» معناه : رجعوا عمّا حلفوا عليه من ترك الجماع ، فإنه غفور رحيم.

فصل في وجوب الكفّارة

قال القرطبيّ (٣) : جمهور العلماء أوجبوا الكفّارة على المؤلي إذا فاء بجماع امرأته.

وقال الحسن : لا كفّارة عليه (٤).

قال القرطبي (٥) : إذا كفّر عن يمينه ، سقط عنه الإيلاء.

قوله تعالى : (وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ) في نصب «الطّلاق» وجهان :

أحدهما : أنه على إسقاط الخافض ؛ لأنّ «عزم» يتعدّى ب «على» ، قال : [الوافر]

١١٠٢ ـ عزمت على إقامة ذي صباح

لأمر مّا يسوّد من يسود (٦)

والثاني : أن تضمّن «عزم» معنى «نوى» ؛ فينتصب مفعولا به.

والعزم : عقد القلب وتصميمه : عزم يعزم عزما وعزما بالفتحة والضمة ، وعزيمة وعزاما بالكسر ، ويستعمل بمعنى القسم : عزمت عليك لتفعلنّ ؛ والعزم والعزيمة : توطين النّفس على المراد المطلوب ، والأمر المقصود. والطلاق : انحلال العقد ، وأصله الانطلاق.

وقال القرطبي (٧) : والطّلاق : التّخلية ، يقال : نعجة طالق ، وناقة طالق أي : مهملة ؛ قد تركت في المرعى ، لا قيد عليها ولا راعي وبعير طلق : بضم الطّاء واللام ، والجمع

__________________

(١) ينظر : تهذيب اللغة (ظل) ، والرازي ٦ / ٧٠.

(٢) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٦ / ٧٠.

(٣) ينظر : تفسير القرطبي ٣ / ٧٣.

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٤ / ٤٧٤) عن الحسن بلفظ إذا فاء فلا كفارة عليه.

(٥) ينظر : تفسير القرطبي ٣ / ٧٣.

(٦) البيت لأنس بن مدركة ينظر : أمالي ابن الشجري ١ / ١٨٦ ، المقتضب ٤ / ٤٣٥ شرح المفصل (٣ / ١٢) ، الدرر ١ / ١٦٨ ، الدر المصون ١ / ٥٥٢.

(٧) ينظر : تفسير القرطبي ٣ / ٧٤.

١٠٤

أطلاق ويقال : طلقت بفتح اللام تطلق فهي طالق وطالقة ؛ قال الأعشى : [الطويل]

١١٠٣ ـ أيا جارتا بيني فإنّك طالقة

 ..........(١)

وحكى ثعلب : «طلقت» بالضم ، وأنكره الأخفش. والطلاق يجوز أن يكون مصدرا ، أو اسم مصدر ، وهو التطليق.

قوله : «فإنّ الله» ظاهره أنّه جواب الشرط ، وقال أبو حيان : ويظهر أنّه محذوف ، أي : فليوقعوه ، وقرأ (٢) عبد الله : «فإن فاءوا فيهنّ» وقرأ أبيّ «فيها» والضمير للأشهر.

وقراءة الجمهور ظاهرها أنّ الفيئة والطّلاق إنما تكون بعد مضيّ الأربعة الأشهر ، إلّا أنّ الزمخشريّ لمّا كان يرى بمذهب أبي حنيفة : وهو أنّ الفيئة في مدّة الأربعة الأشهر ، ويؤيّده القراءة المتقدّمة ، احتاج إلى تأويل الآية بما نصّه : «فإن قلت : كيف موقع الفاء ، إذا كانت الفيئة قبل انتهاء مدة التربّص؟ قلت : موقع صحيح ؛ لأنّ قوله : (فَإِنْ فاؤُ). (وَإِنْ عَزَمُوا) تفصيل لقوله : (لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ) ، والتفصيل يعقب المفصّل ، كما تقول : أنا نزيلكم هذا الشّهر ، فإن أحمدتكم ، أقمت عندكم إلى آخره ، وإلّا لم أقم إلّا ريثما أتحوّل» ، قال أبو حيان (٣) : «وليس بصحيح ، لأنّ ما مثل به ليس نظير الآية ؛ ألا ترى أنّ المثال فيه إخبار عن المفصّل حاله ، وهو قوله : «أنّا نزيلكم هذا الشّهر» ، وما بعد الشرطين مصرّح فيه بالجواب الدالّ على اختلاف متعلّق فعل الجزاء ، والآية ليست كذلك ؛ لأنّ الذين يؤلون ليس مخبرا عنهم ، ولا مسندا إليهم حكم ، وإنما المحكوم عليه تربّصهم ، والمعنى : تربّص المؤلين أربعة أشهر مشروع لهم بعد إيلائهم ، ثم قال : (فَإِنْ فاؤُ وَإِنْ عَزَمُوا) فالظاهر أنّه يعقب تربّص المدة المشروعة بأسرها ، لأنّ الفيئة تكون فيها ، والعزم على الطلاق بعدها ؛ لأنّ التقييد المغاير لا يدلّ عليه اللفظ ، وإنما يطابق الآية أن تقول : «للضّيف إكرام ثلاثة أيّام ، فإن أقام ، فنحن كرماء مؤثرون ، وإن عزم على الرحيل ، فله أن يرحل» ، فالمتبادر إلى الّذّهن أنّ الشرطين مقدّران بعد إكرامه».

قوله : (سَمِيعٌ عَلِيمٌ) قال أبو حنيفة : سميع لإيلائه ، عليم بعزمه.

قال القرطبي (٤) : دلّت هذه الآية على أنّ الأمة الموطوءة بملك اليمين لا يكون فيها إيلاء ، إذ لا يقع عليها طلاق.

__________________

(١) صدر بيت وعجزه :

كذاك أمور الناس غاد وطارقه

ينظر : ديوانه (٢٦٣) ، الإنصاف (٧٦٠) ، المخصص ٣ / ٤٨ ، القرطبي ٣ / ١١٠ ، الدر المصون ١ / ٥٥٢.

(٢) انظر : المحرر الوجيز ١ / ٣٠٣ ، غير أن ابن عطية نسبهما إلى أبي ، وانظر : البحر المحيط ٢ / ١٩٣.

(٣) ينظر : البحر المحيط ٢ / ١٩٥.

(٤) ينظر : تفسير القرطبي ٣ / ٧٤.

١٠٥

فصل

قال أبو حنيفة والثّوري : إنه لا يكون مؤليا حتى يحلف ألّا يطأها أربعة أشهر أو فيما زاد.

وقال الشّافعيّ وأحمد ومالك : لا يكون مؤليا حتّى تزيد المدّة على أربعة أشهر.

وفائدة الخلاف : أنه إذا آلى منها أكثر من أربعة أشهر أجل أربعة أشهر ، وهذا المدّة تكون حقّا للزّوج ، فإذا مضت تطالب المرأة الزّوج بالفيئة أو بالطّلاق فإن امتنع الزّوج منهما ، طلّقها الحاكم عليه ، وعند أبي حنيفة : إذا مضت أربعة أشهر ، يقع الطّلاق. حجة الشّافعي وجوه :

الأول : أنّ «الفاء» في قوله (فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) ، (وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) يقتضي كون هذين الحكمين مشروعين متراخيا على انقضاء الأربعة أشهر.

قال ابن الخطيب (١) لما ذكر قول الزّمخشريّ المتقدّم على سبيل الإيراد : وهذا ضعيف ، لأن قوله : (لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ) إشارة إلى حكمين :

أحدهما : صدور الإيلاء عنهم.

والثاني : وجوب تربّص هذه المدّة على النّساء.

والفاء في قوله : (فَإِنْ فاؤُ) ورد عقيب ذكرهما معا ، فلا بدّ وأن يكون هذا الحكم مشروعا عقيب الأمرين : عقيب الإيلاء ، وعقيب حصول التّربّص في هذه المدّة ، بخلاف المثال الّذي ذكره ، وهو قوله : «أنا أنزل عندكم ؛ فإن أكرمتموني بقيت وإلا ترحّلت» ؛ لأن هناك «الفاء» صارت مذكورة عقيب شيء واحد ، وهو النّزول ، وهي هنا مذكورة عقيب ذكر الإيلاء ، وذكر التّربّص ، فلا بدّ وأن يكون ما دخلت «الفاء» عليه واقعا بين هذين الأمرين.

الحجة الثّانية : قوله : (وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ) صريح في أنّ وقوع الطّلاق ، إنّما يكون بإيقاع الزّوج.

وعند أبي حنيفة : يقع الطّلاق بمضيّ المدّة ، لا بإيقاع الزّوج.

فإن قيل : الإيلاء طلاق في نفسه ؛ فالمراد من قوله : (وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ) الإيلاء المتقدّم.

فالجواب : هذا بعيد ؛ لأن قوله : (وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ) لا بدّ وأن يكون معناه : «وإن عزموا الّذين يؤلون من نسائهم الطّلاق» فجعل المؤلي عازما ، وهذا يقتضي أن يكون

__________________

(١) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٦ / ٧٢.

١٠٦

الإيلاء والعزم قد اجتمعا ، وأما الطّلاق فهو متعلّق العزم ، ومتعلّق العزم متأخر عن العزم ؛ فإذن الطّلاق متأخّر عن العزم لا محالة ، والإيلاء إمّا أن يكون مقارنا للعزم أو متقدّما عليه ، وهذا يفيد أن الطّلاق مغاير لذلك الإيلاء.

الحجة الثّالثة : قوله تعالى : (وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) يقتضي أن يصدر من الزّوج شيء يكون مسموعا وما ذاك إلّا أن نقول تقديره : «وإن عزموا الطّلاق وطلّقوا فالله سميع لكلامهم ، عليم بما في قلوبهم».

فإن قيل : لم لا يجوز أن يكون المراد إن الله سميع لذلك الإيلاء.

فالجواب : أنّ هذا التهديد لم يحصل على نفس الإيلاء ، بل إنّما حصل عن شيء حصل بعد الإيلاء ، فلا بدّ وأن يصدر عن الزّوج بعد ذلك الإيلاء ، وهو كلام غيره ؛ حتى يكون قوله : (فَإِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) تهديدا عليه.

الحجة الرّابعة : قوله : (فَإِنْ فاؤُ) ، (وَإِنْ عَزَمُوا) ظاهره التّخيير بين الأمرين ؛ وذلك يقتضي أن يكون ثبوتهما واحدا ، وعلى قول أبي حنيفة ليس الأمر كذلك.

الحجة الخامسة : أنّ الإيلاء في نفسه ليس بطلاق ، بل هو حلف على الامتناع عن الجماع مدّة مخصوصة ، إلّا أنّ الشّرع ضرب لذلك مقدارا معلوما من الزّمان ؛ وذلك لأنّ الرّجل قد يترك جماع المرأة مدّة من الزّمان لا بسبب المضارّة ، وهذا إنّما يكون إذا كان الزّمان قصيرا ، فأمّا ترك الجماع زمانا طويلا ، فلا يكون إلّا عند قصد المضارّة ، ولما كان الطّول والقصر في هذا الباب أمرا غير مضبوط ، قدّر له الشّارع حدّا فاصلا بين القصير والطّويل ، وذلك لا يوجب وقوع الطّلاق ، بل اللائق بحكم الشّرع عند ظهور قصد المضارّة ، أن يأمر بترك المضارّة ، أو بتخليصها من قيد الإيلاء ، وهذا المعنى معتبر في الشّرع ؛ كضرب الأجل في مدّة العنين (١) وغيره.

حجة أبي حنيفة ـ رضي الله عنه ـ : قراءة عبد الله بن مسعود : «فإن فاءوا فيهنّ».

والجواب : أنّ القراءة الشّاذّة مردودة ؛ لأن القرآن لا يثبت كونه قرآنا إلّا بالتّواتر ؛

__________________

(١) (العنّين) بكسر العين والنون المشدّدة ، وهو العاجز عن الوطء. وربّما اشتهاه ، ولا يمكنه. مشتقّ من عنّ الشّيء إذا اعترض لأنّ ذكره يعنّ أي يعترض عن يمين الفرج وشماله.

وقيل من عنان الدّابّة للينه. قالوا : يقال : عنّ يعنّ ويعنّ عنّا وعنونا.

واعتنّ اعترض ، قال ابن الأعرابي : جمع العنّين والمعنون عنن. قال : يقال : عنّ الرّجل ، وعنّن ، وعنن ، واعتنّ ، فهو عنّين ، معنون ، معنّ معنّن.

قال صاحب المحكم : هو عنّين بين العنانة والعنّينة ، والعنّينيّة.

قال أبو عبيد : امرأة عنينة وهي التي لا تريد الرجال ، وأما ما يقع في كتب أصحابنا من قولهم : العنّة يريدون التعنين فليس بمعروف في اللغة ، وإنما العنّة الحظيرة من الخشب تجعل للإبل والغنم تحبس فيها.

ينظر تحرير التنبيه ص ٢٨٣ ، ٢٨٤ ، المحكم ١ / ٤٨.

١٠٧

فحيث فلم يثبت بالتّواتر ، قطعنا بأنّه ليس بقرآن وأولى النّاس بهذا أبو حنيفة ؛ فإنّه تمسّك بهذا الحرف في أنّ التّسمية ليست من القرآن.

قوله تعالى : (وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)(٢٢٨)

لما ذكر ـ عزوجل ـ الإيلاء ، وأن الطّلاق قد يقع بيّن تعالى حكم المرأة بعد التّطليق.

قوله : (وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ) : مبتدأ وخبر ، وهل هذه الجملة من باب الخبر الواقع موقع الأمر ، أي : ليتربّصن ، أو على بابها؟ قولان ، وقال الكوفيون : إنّ لفظها أمر ؛ على تقدير لام الأمر ، ومن جعلها على بابها ، قدّر : وحكم المطلّقات أن يتربّصن ، فحذف «حكم» من الأول ، و «أن» المصدرية من الثاني ، وهو بعيد جدّا.

و «تربّص» يتعدّى بنفسه ؛ لأنه بمعنى انتظر ، وهذه الآية تحتمل وجهين :

أحدهما : أن يكن مفعول التربّص محذوفا ، وهو الظاهر ، تقديره : يتربّصن التزويج أو الأزواج ، ويكون «ثلاثة قروء» على هذا منصوبا على الظرف ؛ لأنّه اسم عدد مضاف إلى ظرف.

والثاني : أن يكون المفعول هو نفس «ثلاثة قروء» ، أي : ينتظرون مضيّ ثلاثة قروء.

وأمّا قوله : «بأنفسهنّ» [فيحتمل وجهين ، أحدهما ، وهو الظاهر : أن يتعلّق ب «يتربّصن» ، ويكون معنى الباء السببية ، أي : بسبب أنفسهنّ] ، وذكر الأنفس أو الضمير المنفصل في مثل هذا التركيب واجب ، ولا يجوز أن يؤتى بالضمير المتصل ، لو قيل في نظيره : «الهندات يتربّصن بهنّ» لم يجز ؛ لئلّا يتعدّى فعل المضمر المنفصل إلى ضميره المتصل في غير الأبواب الجائز فيها ذلك.

والثاني : أن يكون «بأنفسهنّ» تأكيدا للمضمر المرفوع المتصل ، وهو النون ، والباء زائدة في التوكيد ؛ لأنّه يجوز زيادتها في النفس والعين مؤكّدا بهما ؛ تقول : «جاء زيد نفسه وبنفسه وعينه وبعينه» ؛ وعلى هذا : فلا تتعلّق بشيء لزيادتها ، لا يقال : لا جائز أن تكون تأكيدا للضمير ؛ لأنّه كان يجب أن تؤكّد بضمير رفع منفصل ؛ لأنه لا يؤكّد الضمير المرفوع المتصل بالنّفس والعين ، إلّا بعد تأكيده بالضمير المرفوع المنفصل ؛ فيقال : «زيد جاء هو نفسه عينه» ؛ لأنّ هذا المؤكّد خرج عن الأصل ، لمّا جرّ بالباء الزائدة أشبه الفضلات ، فخرج بذلك عن حكم التوابع ، فلم يلتزم فيه ما التزم في غيره ، ويؤيّد ذلك قولهم : «أحسن بزيد ، وأجمل» ، أي : به ، وهذا المجرور فاعل عند البصريّين ، والفاعل عندهم لا يحذف ، لكنه لمّا جرى مجرى الفضلات ؛ بسبب جرّه بالحرف ، أو خرج عن

١٠٨

أصل باب الفاعل ؛ فلذلك جاز حذفه ، وعن الأخفش ذكر في «المسائل» أنهم قالوا : «قاموا أنفسهم» من غير تأكيد ، وفائدة التوكيد هنا أن يباشرن التربّص هنّ ، لا أنّ غيرهنّ يباشرنهنّ التّربّص ؛ ليكون ذلك أبلغ في المراد.

فإن قيل : القروء : جمع كثرة ، ومن ثلاثة إلى عشرة يميّز بجموع القلة ولا يعدل عن القلة إلى ذلك ، إلا عند عدم استعمال جمع قلّة غالبا ، وههنا فلفظ جمع القلّة موجود ، وهو «أقراء» ، فما الحكمة بالإتيان بجمع الكثرة مع وجود جمع القلّة؟. فيه أربعة أوجه :

أوّلها : أنه لمّا جمع المطلّقات جمع القروء ، لأنّ كلّ مطلقة تترّبص ثلاثة أقراء ؛ فصارت كثيرة بهذا الاعتبار.

والثاني : أنه من باب الاتساع ، ووضع أحد الجمعين موضع الآخر.

والثالث : أنّ «قروءا» جمع «قرء» بفتح القاف ، فلو جاء على «أقراء» لجاء على غير القياس ؛ لأنّ أفعالا لا يطّرد في فعل بفتح الفاء.

والرابع ـ وهو مذهب المبرّد ـ : أنّ التقدير «ثلاثة من قروء» ، فحذف «من» ، وأجاز : ثلاثة حمير وثلاثة كلاب ، أي : من حمير ، ومن كلاب ، وقال أبو البقاء (١) : وقيل : التقدير «ثلاثة أقراء من قروء» وهذا هو مذهب المبرّد بعينه ، وإنما فسّر معناه وأوضحه.

فصل

اعلم أن المطلّقة هي المرأة الّتي وقع عليها الطّلاق ، وهي إمّا أن تكون أجنبية أو منكوحة.

فإن كان أجنبية ، فإذا وقع الطّلاق عليها فهي مطلّقة بحسب اللّغة ، لكنّها غير مطلّقة بحسب عرف الشّرع ، والعدّة غير واجبة عليها بالإجماع.

وأما المنكوحة : فإن لم يكن مدخولا بها ، لم تجب عليها العدّة ؛ لقوله تعالى : (إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها) [الأحزاب : ٤٩] ، وإن كانت مدخولا بها : فإن كانت حاملا ، فعدّتها بوضع الحمل ؛ لقوله تعالى : (وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَ) [الطلاق : ٤] ، وإن كانت حائلا ؛ فإن امتنع المحيض في حقّها لصغر مفرط أو كبر مفرط ، فعدّتها بالأشهر ؛ لقوله تعالى : (وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ) [الطلاق : ٤].

وإن لم يمتنع الحيض في حقّها ؛ فإذا كانت رقيقة ، فعدّتها قرءان ، وإن كان حرّة ، فعدّتها ثلاثة قروء.

__________________

(١) ينظر : الإملاء لأبي البقاء ١ / ٩٥.

١٠٩

فظهر من هذا أن العامّ إنّما يحسن تخصيصه ، إذا كان الباقي بعد التّخصيص أكثر ؛ لأن العادة جارية بإطلاق لفظ الكلّ على الغالب ؛ لأنّه يقال في الثّوب : إنه أسود إذا كان الغالب فيه السّواد وإن حصل فيه بياض قليل ، فأمّا إذا كان الغالب عليه البياض وكان السّواد قليلا ، كان إطلاق لفظ السّواد عليه كذبا ؛ فثبت شرط تخصيص العامّ ؛ أن يكون الباقي بعد التّخصيص أكثر (١) ، وهذه الآية ليست كذلك ، فإنه خرج

__________________

(١) اختلف في المقدار الذي لا بد من بقائه بعد التخصيص على مذاهب :

أحدها : أنه لا بد من بقاء جمع كثير ، ونقله الرازي والآمدي عن أبي الحسين البصري ، وصححه الرازي. وقال الآمدي : وبه قال أكثر أصحابنا ، وإليه مال إمام الحرمين ، ونقله ابن برهان عن المعتزلة. وقال الأصفهاني : ما نسبه الآمدي إلى الجمهور ليس بجيد ، نعم اختاره الغزالي والرازي. واختلف في ذلك الكثير. فقال أكثرهم : لا بد أن يعرف من مدلول اللفظ العام قبل التخصيص. وقال البيضاوي : لا بد أن يكون غير محصور. وقال ابن برهان في «الأوسط» : لم يحدّوا الكثرة هنا ؛ بل قالوا : تعرف بالقرائن ، وأغرب بعضهم ، فادّعى أنه ليس المراد بالكثير هنا الكثير عددا ؛ بل الكثير وقوعا ، والغالب وجودا بحيث يقرب أنه مما خطر بالبال عند ذكر اعتبار لفظ العام.

وقال آخرون : شرطه أن يكون الباقي معظم الأمر إما في الكثرة وإما في الاعتبار ؛ أما في الكثرة فكما إذا قلت : كل إنسان مصاب ، وكل محسن مشكور ، فإنه وإن كان في الناس من لم يصب بمصيبة إلا أنه يحدث قائل ذلك ، ويحسن أن لا يقدح في كلامه. وأما في الاعتبار فكما إذا قلت : خرج الناس كلهم للقاء الملك ، فإن المراد من له اعتبار ، وإن كان أكثر الناس لم يخرجوا.

والثاني : أن العام إن كان ظاهرا مفردا ك «من» و «الألف واللام» نحو : اقتل من في الدار ، واقطع السارق ، جاز التخصيص إلى أقل المراتب : وهو واحد ، لأن الاسم يصلح لهما جميعا. وإن كان بلفظ الجمع كالمسلمين جاز إلى أقل الجمع ، وذلك إما ثلاثة أو اثنان على الخلاف. قاله القفّال الشاشي.

كذا رأيته في كتابه في نسخة قديمة ، واعتمده ابن الصّبّاغ في «العدة» أيضا ، فاضبط ذلك ، فقد زل الناقلون عنه في هذه المسألة. فنقل ابن برهان في «الأوسط» عنه جواز الرد إلى الواحد مطلقا ، ونقل القاضي أبو الطيب في «شرح الكافية» وابن السّمعاني في «القواطع» عنه جواز الرد إلى ثلاثة ، ولا يجوز إلى ما دونها إلا بما يجوز به النسخ ، لكن ظاهر كلام القاضي أن «من ، وما» محل وفاق. فإنه قال : لنا أن كل ما جاز تخصيصه إلى ثلاثة ، جاز تخصيصه إلى ما دونها «كمن ، وما» انتهى. وبذلك صرح الشيخ أبو إسحق الإسفرايني ، فقال : لا خلاف في جواز التخصيص إلى واحد فيما إذا لم تكن الصيغة جمعا ، «كمن ، وما ، والمفرد المحلى بالألف واللام».

وحكى القاضي عبد الوهاب عنه أنه ألحق أسماء الأجناس : كالسارق والسارقة ، بالجمع المعرف في امتناع رده إلى الواحد كذلك ؛ والفرق بين الصيغتين أن ألفاظ الجموع موضوعة للجميع ، ففي التخصيص إلى الواحد إخراج عن الموضوع ، ولا كذلك «من ، وما ، والمفرد المحلى بالألف واللام» ، لتناولها الواحد والإثنين.

قال الأصفهاني : وينبغي أن يلحق «أيّ» «بمن ، وما» قلت : وهو كذلك ، لوجود العلة ، وبه صرح إلكيا الطبري. وقال بعض المتأخرين : ما أظن القفّال يقول به في كل تخصيص ، فإنه لا يخالف في صحة استثناء الأكثر إلى الواحد ، بل الظاهر قصر قوله على ما عدا الاستثناء من المخصّصات ، بدليل احتجاج بعض أصحابنا عليه بقول القائل : عليّ عشرة إلا تسعة ، ويحتمل أن يعم الخلاف إلا أن الظاهر خلافه من المنقول عنه. ـ

١١٠

من عمومها خمسة أقسام ، فأطلق لفظ «المطلّقات» على قسم واحد.

والجواب : أما الأجنبيّة فخارجة عن اللّفظ ، فإنّ الأجنبيّة لا يقال فيها : إنّها مطلّقة ، وأما غير المدخول بها فالقرينة تخرجها ؛ لأن أصل العدّة شرعت لبراءة الرّحم (١) ، والحاجة إلى البراءة لا تحصل إلّا عند سبق الشّغل ، وأمّا الحامل والآيسة فهما خارجتان عن اللّفظ ؛ لأن إيجاب الاعتداد بالأقراء ، يكون لمن يجب الأقراء في حقّه.

وأمّا الرقيق فتزويجهن كالنّادر ، فثبت أن الأعمّ الأغلب باق تحت العموم.

فإن قيل : «يتربّصن» خبر والمراد منه الأمر ، فما الفائدة في التّعبير عن الأمر بلفظ الخبر؟

__________________

والثالث : التفصيل بين أن يكون التخصيص بالاستثناء والبدل فيجوز إلى الواحد ، وإلا فلا. حكاه ابن المطهر.

والرابع : أنه لا يجوز رده إلى أقل الجمع مطلقا على حسب اختلافهم في أقل الجمع. حكاه ابن برهان وغيره.

والخامس : أنه يجوز في جميع ألفاظ العموم ما بقي في قضية اللفظ واحد ، وحكاه إمام الحرمين في «التلخيص» عن معظم أصحاب الشافعي.

والسادس : الذي اختاره ابن الحاجب. قال الأصفهاني في «شرح المحصول» : ولا نعرفه لغيره ، أن التخصيص إن كان متصلا ، فإن كان بالاستثناء أو البدل جاز إلى الواحد ، نحو أكرم الناس إلا الجهال ، وأكرم الناس تميما ، فيجوز وإن لم يكن العالم إلا واحدا. وإن كان بالصفة والشرط ، فيجوز إلى اثنين ، نحو أكرم القوم الفضلاء ، أو إذا كانوا فضلاء. وإن كان التخصيص بمنفصل ، وكان في العام المحصور القليل ، كقولك : قتلت كل زنديق ، وكانوا ثلاثة ، ولم يبق سوى اثنين ، جاز إلى اثنين. وإن كان غير محصور أو محصورا جاز بشرط كون الباقي قريبا من مدلول العام. ينظر البحر المحيط ٢ / ٢٥٥ ـ ٢٥٨.

(١) شرع الله العدة لحكم كثيرة ومصالح جمة ـ منها : العلم ببراءة الرحم ، وأن لا يجتمع ماء الواطئين فأكثر في رحم واحد ، فتختلط الأنساب وتفسد ، وفي ذلك ما تمنعه الشريعة الغرّاء ـ ومنها : إظهار شرف النكاح ، وحرمة العقد وخطورته ، وأنه ليس من الأمور التي يستهان بها ، ويجعل ألعوبة بيد المرأة حتى يتسنى لها بمجرد أن تنحل عقدتها من الرجل أن تفترش لغيره من ساعته ، بل لا بد من الانتظار والتربص وإظهار أثر النكاح بما يترتب عليه من العدة ؛ إعلاما بأن هذا النكاح من ذوي الشأن والميزات من بين العقود ، وما أجله من سر عند ذوي الأفهام الثاقبة ، والقرائح المتوقدة.

ومنها : قضاء حق الزوج وإظهار تأثير فقده في المنع من التزين والتجمل ، ولذلك شرع الإحداد عليه أكثر من الإحداد على الوالد والولد. فلو لم يكن ثمة عدة وتزوجت بغيره فورا ، لكان هذا من أعظم هضم لحقوق الزوج الذي طالما أمدها بنعمه وغرس في هيكل جسمها بذور نعمائه ؛ فلذلك شرعت لرعاية حرمته ، وحفظا لناموس كرامته.

ومنها : تطويل زمان الرجعة للمطلق ؛ لعله أن يتذكر فيندم ويتفكر طول عشرتها معه فيتألم ويشعر بخدمتها له ، فيرجع إليها فيتهذب ويتعلم.

ومنها : الأخذ بالأحوط لمصلحة الزوج والزوجة والقيام بشئون الولد ؛ لعلها بعد تفرقها من بعلها وهي ذات ولد أن ترجع عما يهجس بخاطرها من الغضب والغطرسة ، فترجع إلى زوجها ؛ لتربية ولدها في عز أبيه وصولة والده ، فتكون قد أحسنت لنفسها ولزوجها وولدها ، وأنعم بها حكمة وأكرم بها مصلحة.

١١١

فالجواب من وجهين :

الأول : أنه ـ تعالى ـ لو ذكره بلفظ الأمر ، لكان ذلك يوهم أنّه لا يحصل المقصود ، إلّا إذا شرعت فيها بالقصد والاختيار ، وعلى هذا التّقدير : فلو مات الزّوج ، ولم تعلم المرأة حتى انقضت العدّة ، وجب ألّا يكون ذلك كافيا في المقصود ؛ لأنّها إذا أمرت بذلك لم تخرج عن العهدة إلا إذا قصدت أداء التّكليف ، فلما ذكره بلفظ الخبر ، زال ذلك الوهم ، وعرف أنّه متى انقضت هذه القروء ، حصل المقصود سواء علمت بذلك أو لم تعلم ، وسواء شرعت في العدّة بالرّضا أو بالغضب.

الثاني : قال الزّمخشري : التّعبير عن الأمر بصيغة الخبر يفيد تأكيد الأمر ، والإشعار بأنّه ممّا يجب أن يتعلّق بالمسارعة إلى امتثاله ، فكأنّهنّ امتثلن الأمر بالتّربّص ، فهو يخبر عنه موجودا ؛ ونظيره قولهم في الدّعاء رحمك الله ؛ أخرج في صورة الخبر ثقة بالإجابة ، كأنّها وجدت الرّحمة فهو يخبر عنها.

فإن قيل : لو قال : «يتربّص المطلّقات» لكان ذلك جملة من فعل وفاعل ، فما الحكمة من ترك ذلك ، وعدوله عن الجملة الفعليّة إلى الجملة الاسميّة ، وجعل المطلّقات مبتدأ ، ثم قوله : «يتربّصن» إسناد للفعل إلى ضمير المطلّقات ، ثم جعل هذه الجملة خبرا عن ذلك المبتدأ.

قال الشّيخ عبد القاهر الجرجانيّ في كتاب «دلائل الإعجاز» : إنّك إذا قدّمت الاسم ، فقلت : زيد فعل ، فهذا يفيد من التّأكيد والقوّة ما لا يفيد قولك : «فعل زيد» ؛ وذلك لأنّ قولك : «زيد فعل» قد يستعمل في أمرين :

أحدهما : أن يكون لتخصيص ذلك الفعل بذلك الفاعل ؛ كقولك : أنا أكتب في المهمّ الفلانيّ إلى السّلطان ، والمراد دعوى الإنسان الانفراد.

والثاني : ألّا يكون المقصود الحصر ، بل إنّ تقديم ذكر المحدّث عنه بحديث كذا لإثبات ذلك الفعل له ؛ كقولهم : «هو يعطي الجزيل» ولا يريد الحصر ، بل أن يحقّق عند السّامع أنّ إعطاء الجزيل دأبه ؛ وذلك مثل قوله تعالى : (وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ) [النحل : ٢٠] ، وليس المراد تخصيص المخلوقيّة بهم ، وقوله تعالى : (وَإِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ) [المائدة : ٦١] ؛ وقول الشّاعر : [الطويل]

١١٠٤ ـ هما يلبسان المجد أحسن لبسة

شجيعان ما اسطاعا عليه كلاهما (١)

والسّبب في حصول هذا المعنى عند تقديم ذكر المبتدأ : أنّك إذا قلت : «عبد الله» فقد أشعرت بأنّك تريد الإخبار عنه ، فيحصل في النّفس شوق إلى معرفة ذلك ، فإذا

__________________

(١) ينظر : الرازي ٦ / ٧٥.

١١٢

ذكرت ذلك الخبر ، قبله العقل بتشوّق ، فيكون ذلك أبلغ في التّحقيق ، ونفي الشّبهة.

فإن قيل : هلا قيل : يتربّصن ثلاثة قروء ، وما الفائدة في ذكر الأنفس؟

فالجواب : إن في ذكر الأنفس بعث على التّربّص وتهييج عليه ؛ لأن فيه ما يستنكفن منه ، فيحملهنّ على أن يتربّصن ، وذلك لأنّ أنفس النّساء طوامح إلى الرّجال ، فأراد أن يقعن على أنفسهن ، ويغلبنها على الطّموح ، ويحرّضنها على التّربّص.

فإن قيل : لم لم يقل : ثلاث قروء ؛ كما يقال : ثلاث حيض؟

والجواب : أنه أتبع تذكير اللّفظ ، ولفظ «قرء» مذكّر.

والقرء في اللغة : أصله الوقت المعتاد تردده ، ومنه : قرء النّجم لوقت طلوعه وأفوله ، يقال: «أقرأ النّجم» ، أي : طلع أو أفل ، ومنه قيل لوقت هبوب الرّيح : قرؤها وقارئها ؛ قال الشاعر: [الوافر]

١١٠٥ ـ شنئت العقر عقر بني شليل

إذا هبّت لقاريها الرّياح (١)

أي : لوقتها ، وقيل : أصله الخروج من طهر إلى حيض ، أو عكسه ، وقيل : هو من قولهم: قريت الماء في الحوض ؛ أي : جمعته ، ومنه : قرأ القرآن. وقولهم : ما قرأت هذه الناقة في بطنها سلا قطّ ، أي لم تجمع فيه جنينا ؛ ومنه قول عمرو بن كلثوم : [الوافر]

١١٠٦ ـ ذراعي عيطل أدماء بكر

هجان اللّون لم تقرأ جنينا (٢)

فعلى هذا : إذا أريد به الحيض ، فلاجتماع الدّم في الرّحم ، وإن أريد به الطهر ، فلاجتماع الدّم في البدن ، وهذا قول الأصمعي ، والفرّاء ، والكسائيّ (٣).

قال شهاب الدّين : وهو غلط ؛ لأنّ هذا من ذوات الياء ، والقرء مهموز.

وإذا تقرّر ذلك فاختلف العلماء في إطلاقه على الحيض والطهر : هل هو من باب الاشتراك اللفظيّ ، ويكون ذلك من الأضداد أو من الاشتراك المعنويّ ، فيكون من المتواطئ ؛ كما إذا أخذنا القدر المشترك : إمّا الاجتماع ، وإمّا الوقت ، وإمّا الخروج ، ونحو ذلك. وقرء المرأة لوقت حيضها وطهرها ، ويقال فيهما : أقرأت المرأة ، أي : حاضت أو طهرت ، وقال الأخفش : أقرأت أي : صارت ذات حيض ، وقرأت بغير ألف ، أي : حاضت ، وقيل : القرء ، الحيض ، مع الطهر ، وقيل : ما بين الحيضتين. والقائل

__________________

(١) البيت لمالك بن الحارث : ينظر ديوان الهذليين ٣ / ٨٣ ، الطبري ٤ / ٥١١ ، الأضداد (٢٨) ، الدر المصون ١ / ٥٥٤.

(٢) ينظر شرح القصائد التسع للنحاس ٦٢١ ، واللسان (قرأ) ، والدر المصون ١ / ٥٥٤.

(٣) ينظر : الرازي ٦ / ٧٦.

١١٣

بالاشترك اللفظيّ وجعلهما من الأضداد هم جمهور أهل اللّسان ؛ كأبي عمرو ويونس وأبي عبيدة.

ومن مجيء القرء والمراد به الطهر قول الأعشى : [الطويل]

١١٠٧ ـ أفي كلّ عام أنت جاشم غزوة

تشدّ لأقصاها عظيم عزائكا

مورّثة عزّا وفي الحيّ رفعة

لما ضاع فيها من قروء نسائكا (١)

أراد : أنّه كان يخرج من الغزو ولم يغش نساءه ، فيضيع أقراءهنّ ، وإنما كان يضيع بالسّفر زمان الطّهر لا زمان الحيض.

ومن مجيئه للحيض قوله : [الرجز]

١١٠٨ ـ يا ربّ ذي ضغن عليّ فارض

له قروء كقروء الحائض (٢)

أي : طعنته فسال دمه كدم الحائض ، ويقال «قرء» بالضمّ نقله الأصمعيّ ، و «قرء» بالفتح نقله أبو زيد ، وهما بمعنى واحد.

وقرأ الحسن (٣) : «ثلاثة قرو» بفتح القاف وسكون الراء وتخفيف الواو من غير همز ؛ ووجهها : أنه أضاف العدد لاسم الجنس ، والقرو لغة في القرء ، وقرأ الزّهريّ ـ ويروى عن نافع ـ : «قروّ» بتشديد الواو ، وهي كقراءة الجمهور ، إلا أنه خفّف ، فأبدل الهمزة واوا ، وأدغم فيها الواو قبلها.

فصل

مذهب الشّافعيّ ـ رضي الله عنه ـ : أنها الأطهار ؛ وهو مرويّ عن ابن عمرو ، وزيد ، وعائشة ، والفقهاء السّبعة ، ومالك ، وربيعة ، وأحمد في رواية.

وقال عليّ ، وعمر ، وابن مسعود : هي الحيض ؛ وهو قول أبي حنيفة والثّوريّ والأوزاعيّ ، وابن أبي ليلى ، وابن شبرمة ، وإسحاق ، وأحمد في رواية ـ رضي الله عنهم ـ.

وفائدة الخلاف : أن مدّة العدّة عند الشّافعيّ أقصر ، وعندهم أطول حتّى لو طلّقها في حال الطّهر ، يحسب بقيّة الطّهر قرءا ، وإن حاضت عقيبه في الحال ، فإذا شرعت في الحيضة الثّالثة ، انقضت عدّتها ، وإن طلّقها في حال الحيض فإذا شرعت في الحيضة الرّابعة ، انقضت عدّتها.

__________________

(١) ينظر : ديوانه (٩١) ، والمحتسب ١ / ١٨٣ ، والهمع ٢ / ١٤١ ، والدرر ٢ / ١٩٤ ، والكشاف مع شواهده ١ / ٢٧١ ، والدر المصون ١ / ٥٥٥.

(٢) تقدم برقم ٥٧٢.

(٣) انظر الشواذ ١٤ ، والمحرر الوجيز ١ / ٣٠٤ ، والبحر المحيط ٢ / ١٩٧ ، والدر المصون ١ / ٥٥٥.

١١٤

وعند أبي حنيفة : ما لم تطهر من الحيضة الثّالثة ، إن كان الطّلاق في حال الطّهر ، ومن الحيضة الرّابعة إن كان الطلاق في حال الحيض ، لا يحكم بانقضاء عدّتها ، ثم قال : إذا طهرت لأكثر الحيض ، تنقضي عدّتها قبل الغسل ، وإن طهرت لأقلّ الحيض ، لم تنقض عدّتها.

وحجّة الشّافعي من وجوه :

أولها : قوله تعالى : (فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَ) [الطلاق : ١] أي : في وقت عدّتهن ؛ كقوله تعالى : (وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ) [الأنبياء : ٤٧] ، أي : في يوم القيامة ، والطّلاق في زمن الحيض منهيّ عنه ؛ فوجب أن يكون زمان العدّة غير زمان الحيض.

أجاب صاحب «الكشّاف» بأن معنى الآية : مستقبلات لعدّتهن كما يقال : لثلاث بقين من الشّهر ، يريد : مستقبلا لثلاث.

قال ابن الخطيب (١) : وهذا يقوّي استدلال الشّافعي ـ رضي الله عنه ـ لأن قوله : «لثلاث بقين من الشّهر» معناه : لزمان يقع الشّروع في الثّلاث عقيبه ، وإذا كان الإذن حاصلا بالتّطليق في جميع زمان الطّهر ، وجب أن يكون الطّهر الحاصل عقيب زمان التّطليق من العدّة ، وهو المطلوب.

وثانيها : روي عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ ؛ أنها قالت : «هل تدرون ما الأقراء؟ الأقراء الأطهار» (٢).

قال الشّافعي : والنّساء بهذا أعلم ؛ لأن هذا إنما يبتلى به النّساء.

وثالثها : وهو ما تقدّم من أن «القرء» عبارة عن الجمع ، واجتماع الدّم إنّما هو زمان الطّهر ؛ لأن الدّم يجتمع في ذلك الزّمان في البدن.

فإن قيل : بل زمان الحيض أولى بهذا الاسم ؛ لأنّ الدّم يجتمع في هذا الزّمان في الرّحم.

قلنا : لا يجتمع ألبتّة في زمان الحيض في الرّحم ، بل ينفصل قطرة قطرة ، وأمّا وقت الطّهر ، فالكلّ مجتمع في البدن لم ينفصل منه شيء ، وكان معنى الاجتماع وقت الطّهر أتم ؛ لأن الدّم من أوّل الطّهر يأخذ في الاجتماع والازدياد إلى آخره ، فكان آخر الطّهر هو القرء في الحقيقة.

__________________

(١) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٦ / ٧٦.

(٢) أخرجه مالك في «الموطأ» (٢ / ٥٧٦) رقم (٥٤) والبيهقي (٧ / ٤١٥) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ٤٨٩) وزاد نسبته للشافعي وعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم والنحاس في ناسخه عن عائشة رضي الله عنها.

وأخرجه الطبري في «تفسيره» (٤ / ٥٠٦).

١١٥

ورابعها : أن الأصل ألّا يكون لأحد على أحد من المكلّفين حقّ الحبس والمنع من التّصرّفات ، وإنما تركنا العمل بهذا عند قيام الدّليل عليه ، وهو أقلّ ما يسمّى بالأقراء الثّلاثة وهي الأطهار ؛ لأن الاعتداد بالأطهار أقلّ زمانا من الاعتداد بالحيض ، وإذا كان كذلك ، أثبتنا الأقلّ ضرورة العمل بهذه الآية ، واطرحنا الأكثر ؛ للدّلائل الدّالّة على أنّ الأصل ألّا يكون لأحد على غيره حقّ الحبس والمنع.

حجة أبي حنيفة وجوه :

أحدها : أنّ الأقراء في اللّغة ، وإن كانت مشتركة بين الأطهار والحيض ؛ إلا أن الشّرع غلّب استعمالها في الحيض ؛ لما روي أن النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «دعي الصّلاة أيّام أقرائك» (١) والمراد أيّام الحيض.

وثانيها : ما تقدّم من وروده بمعنى الحيض.

وثالثها : أنا إذا قلنا : بأن الأقراء هي الحيض ، أمكن معه استيفاء ثلاثة أقراء بكمالها ؛ لأنّا نقول إنّ المطلّقة يلزمها تربّص ثلاث حيض ، وإنّما تخرج عن العهدة بزوال الحيضة الثّالثة ، ومن قال : إنّه الطّهر يجعلها خارجة من العهدة بقرءين وبعض الثّالث ؛ لأن عنده إذا طلّقها في آخر الطّهر تعتدّ بذلك قرءا ، فإذا كان في أحد القولين تكمل حقيقة اللّفظ بالثّلاثة.

أجاب الشّافعي بأن قال : قال الله تعالى : (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ) [البقرة : ١٩٧] والأشهر جمع ، وأقلّه ثلاثة ، وقد حملناه على شهرين وبعض الثّالث ، وذلك شوّال ، وذو القعدة ، وبعض ذي الحجّة ، هكذا ههنا يجوز أن نحمل هذه الثّلاثة على طهرين وبعض الثّالث.

أجاب الجبّائي عن هذا بوجهين (٢) :

الأول : أنّا تركنا الظّاهر في هذه الآية بدليل ، ولا يلزمنا أن نترك الظّاهر هنا من غير دليل.

والثاني : أن في العدّة تربّصا متّصلا ، فلا بدّ من استعمال الثّلاثة ، ولا كذلك أشهر الحجّ ؛ لأنه ليس فيها فعل متصل ، فكأنّه قيل : هذه الأشهر وقت الحجّ لا على سبيل الاستغراق ، ثم إن الثّلاثة نصّ في إفرادها لا تحتمل التّنقيص ، ولا كذلك قوله : «أشهر» ؛ لأنّه ليس بنصّ في الثلاثة ؛ لأن العلماء اختلفوا في أقلّ الجمع (٣) ، ولا

__________________

(١) تقدم.

(٢) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٦ / ٧٧.

(٣) ليس محل الخلاف ما هو المفهوم من لفظ الجمع لغة ، فإن ج. م. ع. بموضوعها يقتضي ضم شيء إلى مثله وذلك حاصل في الاثنين والثلاثة بلا خلاف ، وكذلك أيضا ليس محل الخلاف عند المحققين تعبير الاثنين عن أنفسهما بضمير الجمع ، (فإنهما يقولان) فعلنا ، وقلنا ؛ لأن العرب لم تضع للمتكلم ضمير ـ

١١٦

يقاس ما فيه نصّ على ما لا نصّ فيه بل العكس.

وأجيب الجبّائي بوجهين :

__________________

التثنية كما وضعته للمخاطب والغائب فليس للاثنين إذا عبرا عن أنفسهما إلا الإتيان بضمير الجمع وذكر إمام الحرمين أيضا أن الخلاف ليس في مثل قوله تعالى : فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما وقول القائل ضربت رؤوس الرجلين ووطئت بطونهما ، وفيه نظر يأتي التنبيه عليه إن شاء الله تعالى.

فالخلاف إنما هو في صيغ الجموع سواء أكانت جمع سلامة أو جمع تكسير ، وفي عود الضمير البارز بصيغة الجمع أيضا.

وللعلماء في ذلك قولان مشهوران :

أحدهما : «أن أقل الجمع اثنان» رواه الحاكم في مستدركه عن زيد بن ثابت ـ رضي الله عنه ـ أنه كان يقول : الإخوة في كلام العرب أخوان فصاعدا. وروى نحوه عن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ أيضا ، والظاهر أنهما ما أرادا إلا بطريق الحقيقة وإلى هذا ذهب جماعة ، منهم : داود الظاهري والقاضي أبو بكر ابن الباقلاني ، والأستاذ أبو إسحق والإمام الغزالي ، وطائفة من الشافعية وحكاه القاضي أبو بكر عن مذهب مالك وأخذه ابن خويز منداد من قوله في حجب الأم إلى السدس بأخوين ، وهو قول عبد الملك بن الماجشون وأبي الحسن اللخمي من المالكية ، ونسبه بعضهم إلى الخليل وسيبويه ؛ لأن سيبويه قال : سألت الخليل عن قولهم ما أحسن وجوههما فقال : اثنان جمع ، وعزاه بعضهم إلى عثمان ـ رضي الله عنه ـ ، وليس كذلك ، بل مقتضى النقل الموافقة على أن أقله ثلاثة وهذا هو القول الثاني ؛ ففي كتاب المستدرك للحاكم وغيره بسند صحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه دخل على عثمان رضي الله عنه فقال : إن الأخوين لا يردّان الأم عن الثلث قال الله تعالى : (فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ) والأخوان بلسان قومك ليسا بإخوه فقال عثمان ـ رضي الله عنه ـ : لا أستطيع أن أرد ما كان قبلي وتوارث به الناس ومضى في الأمصار ، فمقتضى هذا أن عثمان وافق على أن أقل الجمع ثلاثة بطريق الحقيقة ، وقد ذكر إمام الحرمين وغيره أن هذا أيضا مقتضى قول ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ ؛ أخذا لذلك من قوله : إن الاثنين يقفان عن يمين الإمام وشماله وإذا كانوا ثلاثة اصطفوا خلفه ، وفي ذلك نظر ، لأن ابن مسعود عنده أن الجماعه تحصل بالإمام والمأموم فقط ، وإنما مأخذه في وقوف الاثنين والثلاثة رؤية ذلك عن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ولم يبلغه خلافه. وأيضا فقد قال ابن مسعود رضي الله عنه ـ : إن الاثنين يردّان الأم من الثلث إلى السدس ، فنسبة القول الأول إليه من هذا أقرب من نسبة القول الثاني أخذا من مسألة المأمومين. قال إمام الحرمين ومذهب الإمام الشافعي ـ (رضي الله عنه) ـ في مواضع تعرضه للأصول يشير إلى هذا ، يعني : أن أقل الجمع ثلاثة ، وهو مذهب أبي حنيفة وأصحابه وجماعة المعتزلة ، والأكثرين من أصحاب الشافعي ـ رحمهم‌الله ، قلت : وذكر القاضي عبد الوهاب : أنه مذهب مالك وجمهور أصحابه وأخذه المازري من قول مالك فيمن أقر بدراهم أنه يلزمه ثلاثة ، وهو اختيار أبي بكر ابن فورك وغيره من الأشعرية.

ثم اختلف هؤلاء في صحة إطلاقه على اثنين على وجه المجاز ، فقال قوم : لا يصحّ ذلك أصلا ، وقال المحققون : إنه يجوز التجوز به عن اثنين فقط ، وهو اختيار إمام الحرمين وابن الخطيب وأتباعه وابن الحاجب ، وتوقف الآمدي في ذلك على قاعدته ، ورأى إمام الحرمين أيضا أنه يصح التجوز به عن الواحد ، لا من حيث أصل الاستعمال ، بل من جهة الانتهاء في تخصيص العام إلى واحد ، كما سيأتي بيانه في فوائد المسألة إن شاء الله تعالى.

ومذهب الحنابلة أيضا : أنه حقيقة في الثلاثة مجاز إن أريد به الاثنان ؛ كقول الشافعي وأبي حنيفة (رضي الله عنهما).

١١٧

الأول : كما أن حمل الأقراء على الأطهار يوجب الزّيادة ؛ لأنه إذا طلّقها في أثناء الطّهر ، لم يحسب ما بقي من ذلك الطّهر في العدّة فتحصل الزّيادة.

واعتذروا عنه : بأن الزّيادة لا بدّ من تحمّلها لأجل الضّرورة ، لأنه لو جاز الطّلاق في الحيض ، لأمرناه بالطّلاق في آخر الحيض حتى يعتدّ بأطهار كاملة ، وإذا اختص الطّلاق بالطّهر ، صارت تلك الزّيادة محتملة للضّرورة.

ونحن نقول : لمّا صارت الأقراء مفسّرة بالأطهار ، والله تعالى أمرنا بالطّلاق في الطّهر صار تقدير الآية : يتربّصن بأنفسهن ثلاثة أطهار ؛ طهر الطّلاق وطهران آخران ، ثم لزم من كون الطّهر الأوّل طهر الطّلاق ، أن يكون ذلك الطّهر ناقصا ، ليعتدّ بوقوع الطّلاق فيه.

الوجه الثاني في الجواب : أنّا بيّنّا أن القرء اسم للاجتماع وكمال الاجتماع إنّما يحصل في آخر الطّهر ، فكان في الحقيقة الجزء الأخير من الطّهر قرءا تاما ، وعلى هذا التّقدير ؛ لم يلزم دخول النّقصان في شيء من الأقراء.

ورابعها : أنه ـ تعالى ـ نقل إلى الشّهور عند عدم الحيض ؛ قال : (وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ) [الطلاق : ٤] فأقام الأشهر مقام الحيض دون الأطهار.

وأيضا : لما شرعت الأشهر بدلا عن الأقراء ، والبدل يعتبر بتمامها ؛ لأن الأشهر لا بدّ من إتمامها ، فوجب أيضا أن يكون الكمال معتبرا في المبدل ، فوجب أن تكون الأقراء كاملة وهي الحيض ، وأما الأطهار فيجب فيها قرءان وبعض قرء.

وخامسها : قوله ـ عليه الصّلاة والسلام ـ : «طلاق الأمة تطليقتان وعدّتها حيضتان» (١) وأجمعوا على أنّ عدّة الأمة نصف عدّة الحرّة ، فوجب أن تكون عدّة الحرّة هي الحيض.

وسادسها : أجمعنا على وجوب الاستبراء في الجواري بالحيض ، فكذا العدّة ؛ لأن المقصود من الاستبراء والعدّة شيء واحد ؛ لأن أصل العدّة إنّما شرع لاستبراء الرّحم ، وإنما تستبرأ الرّحم بالحيض لا بالطّهر ؛ فوجب أن يكون هو المعتبر.

وسابعها : إن القول بأن القرء هو الحيض احتياط ، وتغليب لجانب الحرمة ؛ لأن المطلّقة إذا مرّ عليها بقية الطّهر ، وطعنت في الحيضة الثّالثة ، فإن جعلنا القرء هو

__________________

(١) أخرجه أبو داود (٢١٨٩) والترمذي (١ / ٢٢٢) وابن ماجه (٢٠٨٠) والحاكم (٢ / ٢٠٥).

وقال الترمذي : لا نعرفه إلا من حديث مظاهر ولا نعرف له غير هذا الحديث وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.

وأخرجه الدارقطني (٤ / ٣٩) والبيهقي (٧ / ٣٦٩ ـ ٣٧٠ ، ٤٢٦) عن عائشة بلفظ : طلاق العبد اثنتان ...

وأخرجه الدارقطني (٤ / ٣٩) عن عائشة بلفظ : طلاق الأمة اثنتان وقرؤها حيضتان.

١١٨

الحيض ، فحينئذ يحرم للغير التّزويج بها ، وإن جعلنا القرء هو الطّهر ، فحينئذ يجوز تزويجها ، وجانب التّحريم أولى بالرّعاية ؛ لقوله ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ : «ما اجتمع الحلال والحرام إلّا غلب الحرام الحلال» (١) ولأن الأصل في الأبضاع الحرمة ، وهذا

أقرب إلى الاحتياط ، فكان أولى ؛ لقوله ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ : «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك» (٢).

قوله : (وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ) الجارّ متعلّق ب «يحلّ» واللام للتبليغ ، كهي في «قلت لك».

قوله : (ما خَلَقَ اللهُ) في «ما» وجهان :

أظهرهما : أنّها موصولة بمعنى «الّذي».

والثاني : أنها نكرة موصوفة ، وعلى كلا التقديرين ، فالعائد محذوف لاستكمال الشروط ، والتقدير : ما خلقه ، و «ما» يجوز أن يراد بها الجنين ، وهو في حكم غير العاقل ، فلذلك أوقعت عليه «ما» وأن يراد بها دم الحيض.

قوله : (فِي أَرْحامِهِنَّ) فيه وجهان :

أحدهما : أن يتعلّق ب «خلق».

والثاني : أن يتعلّق بمحذوف ؛ على أنه حال من عائد «ما» المحذوف ، التقدير : ما خلقه الله كائنا في أرحامهنّ ، قالوا : وهي حال مقدّرة ؛ قال أبو البقاء (٣) : «لأنّ وقت خلقه ليس بشيء ، حتّى يتمّ خلقه» ، وقرأ مبشّر بن عبيد (٤) : «في أرحامهنّ» و «بردّهنّ» بضمّ هاء الكناية ، وقد تقدّم أنه الأصل ، وأنه لغة الحجاز ، وأنّ الكسر لأجل تجانس الياء والكسرة.

قوله : «إن كنّ» هذا شرط ، وفي جوابه المذهبان المشهوران : إمّا محذوف ، وتقديره من لفظ ما تقدّم ؛ لتقوى الدلالة عليه ، أي : إن كنّ يؤمنّ بالله واليوم الآخر ، فلا

__________________

(١) ذكره العجلوني في «كشف الخفا» (٢ / ٢٥٤) وقال : قال ابن السبكي في «الأشباه والنظائر» نقلا عن البيهقي : رواه جابر الجعفي عن ابن مسعود وفيه ضعف وانقطاع وقال الزين العراقي في تخريج منهاج الأصول : لا أصل له وأدرجه ابن مفلح في أول كتابه في الأصول فيما لا أصل له.

(٢) أخرجه النسائي (٢ / ٢٣٤) والترمذي (٢ / ٨٤) والحاكم (٤ / ٩٩) والطيالسي (١١٧٨) وأحمد (١ / ٢٠٠) وأبو نعيم في «الحلية» (٨ / ٢٦٤) عن الحسن بن علي وزادوا إلا النسائي فإن الصدق طمأنينة وإن الكذب ريبة.

وقال الترمذي : حديث حسن صحيح وسكت عنه الحاكم وقال الذهبي سنده قوي.

وأخرجه أبو نعيم في «الحلية» (٦ / ٣٥٢) وفي «أخبار أصبهان» (٢ / ٢٤٣) والخطيب في «تاريخ بغداد» (٢ / ٢٢٠ ، ٣٨٦) وقالا : غريب تفرد به عبد الله بن أبي رومان.

(٣) ينظر : الإملاء لأبي البقاء ١ / ٩٥.

(٤) ينظر : المحرر الوجيز ١ / ٣٠٥ ، والبحر المحيط ٢ / ١٩٨ ، والدر المصون ١ / ٥٥٥.

١١٩

يحلّ أن يكتمن ، وإمّا أنه متقدّم ؛ كما هو مذهب الكوفيين وأبي زيد ، وقيل : «إن» بمعنى «إذ» ، وهو ضعيف.

فصل في بيان تصديق قول المرأة في انقضاء عدتها

اعلم أن انقضاء العدّة لما كان مبنيا على انقضاء الأقراء في حقّ ذوات الأقراء ، وكان علم ذلك متعذّر على الرّجال ، جعلت المرأة أمينة على العدّة ، وجعل القول قولها إذا ادّعت انقضاء أقرائها في مدّة يمكن ذلك فيها ، وهو على مذهب الشّافعيّ اثنان وثلاثون يوما وساعة ؛ لأن أمرها يحمل على أنّها طلّقت طاهرة ، فحاضت بعد ساعة يوما وليلة ، وهو أقلّ الحيض ، ثم طهرت خمسة عشر يوما ، وهو أقلّ الطّهر ، ثم حاضت يوما وليلة ، ثم طهرت خمسة عشر يوما ، ثم رأت الدّم ، فقد انقضت عدّتها ؛ لحصول ثلاثة أطهار فمتى ادّعت هذا أو أكثر منه ، قبل قولها ، وكذلك إن كانت حاملا فادّعت أنها أسقطت فالقول قولها ؛ لأنها أمينة عليه.

فصل في المراد بالكتمان

قال القرطبي (١) : ومعنى النّهي عن الكتمان : النّهي عن الإضرار بالزّوج وإذهاب حقّه ، فإذا قالت المطلّقة : حضت وهي لم تحض ، ذهبت بحقّه في الارتجاع ، وإذا قالت : لم أحض وهي قد حاضت ، ألزمته من النّفقة ما لم يلزمه ، فأضرّت به ، أو تقصد بكذبها في نفس الحيض ألّا ترجع حتى تنقضي العدّة ويقطع الشّرع حقّه ، وكذلك الحامل تكتم الحمل ؛ لتقطع حقّه في الارتجاع.

قال قتادة : كانت عادتهن في الجاهليّة أن يكتمن الحمل ليلحقن الولد بالزّوج الجديد ؛ ففي ذلك نزلت الآية (٢).

فصل

اختلف المفسّرون في قوله : (ما خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحامِهِنَّ) :

فقيل : هو الحبل والحيض معا ، وذلك لأنّ المرأة لها أغراض كثيرة في كتمانها ؛ أمّا الحبل ؛ فإنه يكون غرضها فيه أنّ انقضاء عدّتها بالقروء ؛ لأنه يكون أقلّ زمانا من انقضاء عدّتها يوضع الحمل ، فإذا كتمت الحمل ، قصرت مدّة عدّتها فتتزوّج بسرعة وربما كرهت مراجعة الزّوج ، وربما أحبّت التّزويج بزوج آخر ، أو أحبّت أن تلحق ولدها بالزّوج الثّاني ، فلهذه الأغراض تكتم الحمل ، وأما كتمان الحيض ، فقد يكون غرضها إذا كانت

__________________

(١) ينظر : تفسير القرطبي ٣ / ٧٩.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٤ / ٥٢١) عن قتادة وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ٤٩٢) وزاد نسبته لابن المنذر وعبد الرزاق.

١٢٠