اللّباب في علوم الكتاب - ج ٣

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ٣

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٤٤

[وقد راعى لفظ «من» مرة فأفرد في قوله : «يقتل» ، ومعناها أخرى ، فجمع في قوله: (أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ)](١) و «اللام» هنا للعلة ، ولا تكون للتبليغ ؛ لأنهم لم يبلّغوا الشهداء قوله هذا.

والجملة من قوله : «هم أموات» في محلّ نصب بالقول ؛ لأنها محكية به.

وأم ا «بل هم أحياء» فيحتمل وجهين :

أحدهما : ألا يكون له محل من الإعراب ، بل هو إخبار من الله ـ تعالى ـ بأنهم أحياء ، ويرجحه قوله : (وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ) ؛ إذ المعنى لا شعور لكم بحياتهم.

والثاني : أن يكون محلّه النصب بقول محذوف تقديره ، بل قولوا : هم أحياء ، ولا يجوز أن ينتصب بالقول الأول لفساد المعنى ، وحذف مفعول «يشعرون» لفهم المعنى : أي بحياتهم ، والله أعلم.

قوله تعالى : (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ)(١٥٥)](٢)

قال القفال [رحمه‌الله :] هذا متعلق بقوله تعالى : (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ) فإنما نبلوكم بالخوف وبكذا ، وفيه مسائل.

فإن قيل : إنه تعالى قال : (وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ) [البقرة : ١٥٢] والشكر يوجب المزيد ، لقوله : (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ) [إبراهيم : ٧] فكيف أردفه بقوله : (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ)؟.

[قال ابن الخطيب](٣) : والجواب من وجهين :

الأول : أنه ـ تعالى ـ أخبر أنّ إكمال الشرائع إتمام النعمة ، فكأنه كذلك موجبا للشّكر ، ثم أخبر أن القيام بتلك الشرائع لا يمكن إلا بتحمّل المحن ، فلا جرم أمر فيها بالصّبر.

الثاني : أنه ـ تبارك وتعالى ـ أنعم أولا فأمر بالشكر ، ثم ابتلى وأمر بالصّبر ، لينال [الرجل](٤) درجة الشاكرين والصّابرين معا ، فيكمل إيمانه على ما قال عليه الصلاة والسلام : «الإيمان نصفان نصف صبر ، ونصف شكر» (٥).

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) في أ : إلى قوله تعالى : «والصابرين».

(٣) سقط في ب.

(٤) في أ : العبد.

(٥) ذكره السيوطي في الجامع الصغير قم (٣١٠٦) من رواية البيهقي في «شعب الإيمان» ورمز لضعفه.

قال المناوي في «فيض القدير» (٣ / ١٨٨) : وفيه يزيد الرقاشي قال الذهبي وغيره : متروك.

والحديث ذكره الحافظ العراقي في «تخريج الإحياء» (٤ / ٦٠) وقال : أخرجه أبو منصور الديلمي في «مسند الفردوس» من رواية يزيد الرقاشي عن أنس ويزيد ضعيف. ـ

٨١

قال بعضهم : الخطاب لجميع أمّة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقال عطاء والرّبيع بن أنس : المراد بهذه المخاطبة أصحاب النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بعد الهجرة وهذا الابتلاء لإظهار المطيع من المعاصي لا ليعلم شيئا ، ولم يكن عالما به ، وقد يطلق الابتلاء على الأمانة ؛ كهذه الآية الكريمة ، والمعنى : وليصيبنكم الله بشيء من الخوف ، وقد تقدّم الكلام فيه ، في قوله تعالى : (وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ) [البقرة : ١٢٤].

وفي حكمة هذا الابتلاء وجوه :

أحدها : ليوطّنوا أنفسهم على الصبر عليها إذا وردت ، فيكون ذلك أبعد لهم من الجزع ، وأسهل عليهم بعد الورود.

وثانيها : أنهم إذا علموا أنه ستصل إليهم تلك المحن ، اشتدّ خوفهم (١) فيصير ذلك الخوف تعجيلا للابتلاء ، فيستحقّون به مزيد الثّواب.

وثالثها : أن الكفار إذا شاهدوا محمدا وأصحابه مقيمين على دينهم مستقرّين عليه ، مع ما كانوا عليه من نهاية الضر (٢) والمحنة والجوع ، يعلمون أن القوم إنّما اختاروا هذا الدّين لقطعهم بصحّته ، فيدعوهم ذلك إلى مزيد التأمّل في دلائله.

ومن المعلوم الظّاهر أنّ التّبع إذا عرفوا أن المتبوع في أعظم المحن بسبب المذهب الذي ينصره ، ثم رأوه مع ذلك مصرّا على ذلك المذهب كان ذلك أدعى لهم إلى اتّباعه مما إذا رأوه مرفّه الحال ، لا كلفة عليه في ذلك المذهب.

ورابعها : أنه تعالى أخبر بوقوع ذلك الابتلاء قبل وقوعه ، فوجد مخبر ذلك الخبر على ما أخبر عنه ، فكان ذلك إخبارا عن الغيب ، فكان معجزا.

وخامسها : أنّ من المنافقين من أظهر متابعة الرسول صلوات الله وسلامه عليه طمعا منه في المال ، وسعة الرزق ، فإذا اختبره تعالى بنزول هذه المحن فعند ذلك يتميز المنافق من الموافق ؛ لأنّ المنافق إذا سمع ذلك ، نفر منه ، وترك دينه ، فكان في هذا الاختبار هذه الفائدة.

وسادسها : أن إخلاص الإنسان حالة [البلاء ، ورجوعه إلى باب الله تعالى](٣) أكثر من إخلاصه حال إقبال الدنيا عليه.

قوله تعالى : (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ) هذا جواب قسم محذوف ، ومتى كان جوابه مضارعا مثبتا مستقبلا ، وجب تلقيه باللام وإحدى النونين خلافا للكوفيين حيث يعاقبون بينهما ، ولا

__________________

ـ والحديث ذكره المتقي الهندي في «كنز العمال» (٦١).

وذكره الألباني في «الضعيفة» (٢ / ٨٩) رقم ٦٢٥.

(١) في ب : فوقهم.

(٢) في أ : الصبر.

(٣) في أ : الابتلاء.

٨٢

يجيز البصريون ذلك إلا في الضرورة ، وفتح الفعل المضارع لاتصاله بالنون ، وقد تقدم تحقيق (١) ذلك وما فيه من الخلاف.

[قال القرطبيّ : وهذه «الواو» مفتوحة عند سيبويه ؛ لالتقاء السّاكنين. وقال غيره : لمّا ضمّتا إلى النّون الثّقيلة بني الفعل مضارعا بمنزلة خمسة عشر ، والبلاء يكون حسنا ويكون سيّئا ، وأصله : المحنة ، وقد تقدّم](٢).

قوله تعالى : (بِشَيْءٍ) متعلق بقوله : (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ) و «الباء» معناها الإلصاق ، وقراءة الجمهور على إفراد «شيء» ، ومعناها الدلالة على التقليل ؛ إذ لو جمعه لاحتمل أن يكون ضربا من كل واحد.

وقرأ (٣) الضحاك بن مزاحم : «بأشياء» على الجمع.

وقراءة الجمهور لا بد فيها من حذف تقديره : وبشيء من الجوع ؛ وبشيء من النقص.

وأما قراءة الضحاك فلا تحتاج إلى هذا.

وقوله : (مِنَ الْخَوْفِ) في محلّ جرّ صفة لشيء ، فيتعلّق بمحذوف.

فصل في أقسام ما يلاقيه الإنسان من المكاره

اعلم أنّ كلّ ما يلاقي الإنسان من مكروه ومحبوب ، فينقسم إلى موجود في الحال ، وإلى ما كان موجودا في الماضي ، وإلى ما سيوجد في المستقبل.

فإذا خطر بالبال [وجود شيء](٤) فيما مضى سمي ذكرا وتذكرا ، وإن كان موجودا في الحال يسمى ذوقا ووجدا ، وإنما سمي وجدا ؛ لأنها حالة تجدها من نفسك.

وإن خطر بالبال وجود شيء في الاستقبال وغلب ذلك على القلب سمّي انتظارا وتوقّعا.

فإن كان المنتظر مكروها يحصل منه ألم في القلب يسمى خوفا وإشفاقا ، وإن كان محبوبا سمي ذلك ارتياحا في القلب.

فصل في الفرق بين الخوف والجوع والنّقص

قال ابن عباس رضي الله عنهما : الخوف خوف العدوّ والجوع القحط والنقص من الأموال بالخسران والهلاك والأنفس بمعنى القتل.

__________________

(١) في أ : تحقيقه.

(٢) سقط في ب.

(٣) انظر المحرر الوجيز : ١ / ٢٢٨ ، والبحر المحيط : ١ / ٦٢٣ ، والدر المصون : ١ / ٤١٢.

(٤) في ب : موجود.

٨٣

وقيل : بالمرض والسبي.

وقال القفال رحمه‌الله : أما الخوف الشديد فقد حصل لهم عند مكاشفتهم العرب بسبب الدّين ، فكانوا لا يؤمنون قصدهم إياهم واجتماعهم عليهم ، وقد كان من الخوف وقعة «الأحزاب» ما كان ، قال الله تعالى : (هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالاً شَدِيداً) [الأحزاب : ١١].

وأما الجوع فقد أصابهم في أول مهاجرة النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ إلى «المدينة» لقلّة أموالهم ، حتى أنه عليه الصلاة والسلام [كان يشدّ الحجر على بطنه.

وروى أبو الهيثم بن التّيهان أنه ـ عليه‌السلام](١) ـ لما خرج التقى بأبي بكر قال : ما أخرجك؟ قال : الجوع ، قال : أخرجني ما أخرجك [وأما نقص الأموال والأنفس ، فقد يحصل ذلك عند محاربة العدوّ ، بأن ينفق ماله في الاستعداد والجهاد ، وقد يقتل ؛ فهناك يحصل النّقص في المال والنفس](٢) وقال الله تعالى : (وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ) [التوبة : ٤١] وقد يحصل الجوع في سفر الجهاد عند فناء الزّاد ؛ قال الله تعالى : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللهِ) [التوبة : ١٢٠].

وأما نقص الثمرات فقد يكون بالجدب ، وقد يكون بترك عمارة الضّياع للاشتغال بجهاد الأعداء ، وقد يكون ذلك بالإنفاق على من كان يرد على رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ من الوفود.

قال الشافعي رضي الله عنه : الخوف : خوف الله عزوجل ، والجوع : صيام شهر رمضان ، والنقص من الأموال : بالزكوات والصدقات ، ومن الأنفس بالأمراض ، ومن الثمرات ، موت الأولاد.

قوله تعالى : (وَنَقْصٍ) فيه وجهان :

أحدهما : أن يكون معطوفا على «شيء» ، والمعنى : بشيء من الخوف وبنقص.

والثّاني : أن يكون معطوفا على الخوف ، أي : شيء من نقص الأموال.

والأول أولى ؛ لاشتراكهما في التنكير.

قوله : «من الأموال» فيه خمسة أوجه :

أحدها : أن يكون متعلقا ب «نقص» ؛ لأنه مصدر «نقص» ، وهو يتعدّى إلى واحد ، وقد حذف ، أي : ونقص شيء من كذا.

الثّاني : أن يكون في محلّ جرّ صفة لذلك المحذوف ، فيتعلّق بمحذوف ، أي : ونقص شيء كائن من كذا.

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) سقط في ب.

٨٤

الثّالث : أن يكون في محلّ نصب صفة لمفعول محذوف نصب بهذا المصدر المنون ، والتقدير : ونقص شيء كائن من كذا ، ذكره أبو البقاء.

ويكون معنى «من» على هذين الوجهين التّبعيض.

الرّابع : أن يكون في محل جرّ صفة ل «نقص» ، فيتعلق بمحذوف أيضا ، أي : نقص كائن من كذا ، وتكون «من» لابتداء الغاية.

الخامس : أن تكون «من» زائدة عند الأخفش ، وحينئذ لا تعلّق لها بشيء.

قوله تعالى : (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ) الخطاب لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولمن أتى بعده من أمته ، أي : الصابرين على البلاء والرّزايا ، أي بشرهم بالثواب على الصبر ، والصبر أصله الحبس وثوابه غير مقدر ، ولكن لا يكون ذلك إلا بالصّبر عند الصّدمة الأولى [لقوله عليه الصلاة والسّلام : «إنّما الصّبر عند الصّدمة الأولى» (١)](٢) أي الشاقة على النفس الذي يعظم الثواب عليه ، إنما هو عند هجوم المصيبة ومرارتها.

والصّبر صبران ؛ صبر عن معصية الله تعالى فهذا مجاهد ، والصبر على طاعة الله فهذا عابد.

قوله تعالى : (الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ (١٥٦) أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ)(١٥٧)

(٣) في قوله : «الّذين» أربعة أوجه.

أحدها : أن يكون منصوبا على النّعت للصابرين ، وهو الأصحّ.

الثّاني : أن يكون منصوبا على المدح.

الثّالث : أن يكون مرفوعا على خبر مبتدأ محذوف ، أي هم الذين ، وحنيئذ يحتمل أن يكون على القطع ، وأن يكون على الاستئناف.

الرّابع : أن يكون مبتدأ ، والجملة الشرطية من «إذا» وجوابها صلة ، وخبره ما بعده من قوله : (أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ).

__________________

(١) أخرجه البخاري (٢ / ١٧١) كتاب الجنائز باب زيارة القبور (١٢٨٣) وأبو داود (٢ / ٢١٠) كتاب الجنائز باب الصبر عند الصدمة الأولى رقم (٣١٢٤) وابن ماجه (١ / ٥٠٩) كتاب الجنائز باب ما جاء في الصبر على المصيبة رقم (١٥٩٦) وابن عساكر (٥ / ٢٧٤ ـ تهذيب).

وأخرجه بلفظ : إنما الصبر عند أول صدمة مسلم كتاب الجنائز باب (١٥) وأبو داود (٢ / ٢١٠) رقم (٣١٢٤).

(٢) سقط في ب.

(٣) «قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ» زيادة في أفقط.

٨٥

قوله تعالى : (أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ).

والمصيبة : [كلّ ما يؤذي المؤمن ويصيبه](١) ، يقال : أصابه إصابة ومصابة ومصابا.

والمصيبة : واحدة المصائب.

والمصوبة «بضم الصّاد» مثل المصيبة.

وأجمعت العرب على همز المصائب ، وأصله «الواو» ، كأنّهم شبّهوا الأصلي بالزائد ويجمع على «مصاوب» ، وهو الأصل ، والمصاب الإصابة. قال الشاعر : [الكامل]

٨٤٧ ـ أسليم إنّ مصابكم رجلا

أهدى السّلام تحيّة طلم (٢)

وصاب السّهم القرطاس يصيبه صيبا لغة في أصابه.

والمصيبة : النّكبة ينكبها الإنسان وإن صغرت ، وتستعمل في الشر.

قوله تعالى : (إِنَّا لِلَّهِ) إنّ واسمها وخبرها في محلّ نصب بالقول ، والأصل : إنّنا بثلاث نونات ، فحذفت الأخيرة من «إنّ» لا الأولى ؛ لأنه قد عهد حذفها ، ولأنها طرف من الأطراف الأولى بالحذف ، لا يقال : إنها لو حذفت الثانية لكانت مخفّفة ، والمخففة لا تعمل على [الأفصح](٣) فكان ينبغي أن تلغى ، فينفصل الضمير المرفوع حينئذ ، إذ لا عمل لها فيه ، فدل عدم ذلك على أن المحذوف النّون الأولى لأن هذا الحذف حذف لتوالي الأمثال لا ذلك الحذف المعهود في «إن» (٤) وأصابتهم مصيبة من التّجانس المغاير ؛ إذ إحدى كلمتي المادّة اسم والأخرى فعل ، ومثله : (أَزِفَتِ الْآزِفَةُ) [النجم : ٥٧] (وَقَعَتِ الْواقِعَةُ) [الواقعة : ١].

__________________

(١) في أ : كما تؤذي المؤمن وتصيبه.

(٢) البيت للحارث بن خالد المخزومي ينظر ديوانه : ص ٩١ ، والاشتقاق : ص ٩٩ ، ١٥١ ، والأغاني : ٩ / ٢٢٥ ، وخزانة الأدب : ١ / ٤٥٤ ، والدرر : ٥ / ٢٥٨ ، ومعجم ما استعجم : ص ٥٠٤ ، وللعرجي ينظر ديوانه : ص ١٩٣ ، ودرة الغواص : ص ٩٦ ، ومغني اللبيب : ٢ / ٥٣٨ ، وللحارث أو للعرجي في إنباه الرواة : ١ / ٢٨٤ ، وشرح التصريح : ٢ / ٦٤ ، وشرح شواهد المغني : ٢ / ٨٩٢ ، والمقاصد النحوية : ٣ / ٥٠٢ ، ولأبي دهبل الجمحي في ديوانه : ص ٦٦ ، والأشباه والنظائر : ٦ / ٢٢٦ ، وأوضح المسالك : ٣ / ٢١٠ ، وشرح الأشموني : ٢ / ٣٣٦ ، وشرح شذور الذهب : ص ٥٢٧ ، وشرح عمدة الحافظ : ص ٧٣١ ، ومجالس ثعلب : ص ٢٧٠ ، ومراتب النحويين : ص ١٢٧ ، وهمع الهوامع : ٢ / ٩٤.

(٣) في أ : الصحيح.

(٤) في أ : وقال الكسائي في بعض النّون في «أن» ، و «لام» «لله» والباقون بالتفخيم ، وإنما جازت الإمالة في «هذه» ؛ للكسرة مع كثرة الاستعمال ، حتى صارت بمنزلة الكلمة الواحدة قال الفرّاء والكسائي : لا يجوز إمالة «إنّ» مع غير اسم الله تعالى ، وإنما وجب ذلك ؛ لأن الأصل في الحروف وما جرى مجراها امتناع الإمالة ، وكذلك لا يجوز إمالة «حتى» و «لكن».

٨٦

فصل في الكلام على الآية

قال بعضهم : (إِنَّا لِلَّهِ) إقرار منّا له بالملك ، (وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ) إقرار على أنفسنا بالهلاك ، لا بمعنى الانتقال إلى مكان أو جهة فإن ذلك على الله محال ، بل المراد أنه يصير إلى حيث لا يملك الحكم سواه ، وذلك هو الدّار الآخرة ؛ لأنّ عند ذلك لا يملك لهم أحد نفعا ولا ضرّا ، وما داموا في الدنيا ، قد يملك غير الله نفعهم وضرهم بحسب الظاهر ، فجعل الله ـ تعالى ـ هذا رجوعا إليه تعالى ، كما يقال : إن الملك والدولة ترجع إليه لا بمعنى الانتقال بل بمعنى القدرة ، وترك المنازعة.

وقال بعضهم : (وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ) في الآخرة.

[روي عن النّبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أنه قال : «من استرجع عند المصيبة جبر الله مصيبته ، وأحسن عقباه ، وجعل الله له خلفا صالحا يرضاه» (١).

وروي أنه طفىء سراج رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فقال : (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ). فقال: (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ) ، فقيل : مصيبة هي؟ قال : «نعم ، كلّ شيء يؤذي المؤمن فهو مصيبة» (٢).

وقالت أمّ سلمة : حدثني أبو سلمة ، أنه عليه الصلاة والسلام قال : «ما من مسلم يصاب مصيبة فيفزع إلى ما أمره الله به من قوله : إنّا لله وإنّا إليه راجعون ، اللهمّ أجرني في مصيبتي ، وأخلف لي خيرا منها» قالت : فلما توفي أبو سلمة ذكرت هذا الحديث ، وقلت هذا القول ، فأخلف الله لي محمدا صلّى الله عليه وعلى آله وسلم ، وشرف ، وكرم ، ومجد وبجل ، وعظم (٣).

وقال ابن عبّاس : أخبر الله ـ تعالى ـ أن المؤمن إذا أسلم أمره لله ، واسترجع عند مصيبته كتب الله له ثلاث خصال : الصّلاة من الله ، والرحمة ، وتحقيق سبيل الهدى (٤).

__________________

(١) أخرجه الطبراني في «الكبير» (١٢ / ٢٥٥) والطبري في «التفسير» (٢ / ٢٦).

والحديث أورده الهيثمي في «مجمع الزوائد» (٢ / ٣٣٤) وقال : وفيه علي بن أبي طلحة وهو ضعيف.

وذكره المنذري في «الترغيب والترهيب» (٤ / ٣٣٧) وذكره أيضا المتقي الهندي في «كنز العمال» (٣ / ٣٠٠) رقم (٦٦٥٠) وعزاه لأبي الشيخ عن ابن عباس.

(٢) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ٢٨٨) وعزاه لعبد بن حميد وابن أبي الدنيا في «العزاء» عن عكرمة.

(٣) أخرجه ابن ماجه (١ / ٥٠٩) رقم (١٥٩٨).

(٤) أخرجه الطبري (٣ / ٢٢٣) ، والطبراني في «الكبير» كما في مجمع الزوائد (٢ / ٣٣٠ ـ ٣٣١) للهيثمي.

وقال الهيثمي : وفيه علي بن أبي طلحة وهو ضعيف.

والأثر ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ٢٨٥) وزاد نسبته لابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الشعب عن ابن عباس.

٨٧

وقال ابن مسعود : لأن أخرّ من السماء أحبّ إليّ من أن أقول لشيء قضاه الله : ليته لم يكن](١).

قال أبو بكر الرازي : اشتملت الآية الكريمة على حكمين فرض ونفل.

أمّا الفرض فهو التّسليم لأمر الله تعالى ، والرّضا بقضائه ، والصبر على أداء فرائضه ، لا يصرف عنها مصائب الدنيا.

وأما النّفل فإظهارا لقول : (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ).

[ذكروا من قول هذه الكلمة فوائد.

منها : الاشتغال بهذه الكلمة عن كلام لا يليق.

ومنها : أنها تسلّي قلب المصاب ، وتقلّل حزنه.

ومنها : تقطع طمع الشّيطان في أن يوافقه في كلام لا يليق.

ومنها : أنّه إذا سمعه غيره اقتدى به.

ومنها : أنه إذا قال بلسانه يذكر في قلبه الاعتقاد الحسن ، فإنّ الحساب عند المصيبة ، فكان هذا القول مذكرا له التّسليم لقضاء الله وقدره](٢).

فإن في إظهاره فوائد جزيلة :

منها أن غيره يقتدي به إذا سمعه.

ومنها غبط الكفار ، وعلمهم بجده واجتهاده في دين الله ، والثبات عليه وعلى طاعته.

وحكي عن بعضهم أنه قال : الزهد في الدنيا ألّا يحبّ البقاء فيها ، وأفضل الأعمال الرضا عن الله ، ولا ينبغي للمسلم أن يحزن ؛ لأنه يعلم أنّ لكلّ مصيبة ثوابا.

قوله تعالى : «أولئك» مبتدأ ، و «صلوات» مبتدأ ثان ، و «عليهم» خبره مقدّم عليه ، والجملة خبر قوله : «أولئك».

ويجوز أن تكون «صلوات» فاعلا بقوله : «عليهم».

قال أبو البقاء : لأنه قد قوي بوقوعه خبرا.

والجملة من قوله «أولئك» وما بعده خبر «الذين» على أحد الأوجه المتقدمة ، أو لا محلّ لها على غيره من الأوجه.

و «قالوا» هو العامل في «إذا» ؛ لأنه جوابها وتقدم الكلام في ذلك وأنها هل تقتضي التكرار أم لا؟

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) سقط في ب.

٨٨

قوله تعالى : (وَرَحْمَةٌ) عطف على الصلاة ، وإن كانت بمعناها ، فإن الصلاة من الله رحمة ؛ لاختلاف اللفظين كقوله : [الوافر]

٨٤٨ ـ وقدّمت الأديم لراهشيه

وألفى قولها كذبا ومينا (١)

وقوله : [الطويل]

٨٤٩ ـ ألا حبّذا هند وأرض بها هند

وهند أتى من دونها النّأي والبعد (٢)

قوله تعالى : (مِنْ رَبِّهِمْ) فيه وجهان :

أحدهما : أنه متعلق بمحذوف ؛ لأنه صفة ل «صلوات» و «من» للابتداء ، فهو في محلّ رفع ، أي : صلوات كائنة من ربّهم.

والثّاني : أنه يتعلق بما تضمنه قوله : «عليهم» من الفعل إذا جعلناه رافعا ل «صلوات» رفع الفاعل ، فعلى الأول ، يكون قد حذف الصفة بعد «رحمة» أي : ورحمة منه.

وعلى الثّاني : لا يحتاج إلى ذلك.

وقوله : (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) نظير : (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [البقرة : ٥] وفيه وجوه :

أحدها : أنهم هم المهتدون لهذه الطّريقة الموصّلة بصاحبها إلى كل خير.

وثانيها : المهتدون إلى الجنّة الفائزون بالثواب.

وثالثها : المهتدون لسائر ما لزمهم.

فصل في الكلام على الآية

قال أبو البقاء : (هُمُ الْمُهْتَدُونَ) هم : مبتدأ أو توكيد أو فصل.

فإن قيل : لم أفرد الرحمة وجمع الصّلوات؟

فالجواب : قال بعضهم : إن الرحمة مصدر بمعنى التعطّف والتحنّن ، ولا يجمع و «التّاء» فيها بمنزلتها في الملّة والمحبّة والرأفة ، والرحمة ليست للتحذير ، بل منزلتها في مرية وثمرة ، فكما لا يقال : رقات ولا خلات ولا رأفات ، لا يقال : رحمات ، ودخول الجمع يشعر بالتحذير والتقييد بعده ، والإفراد مطلقا من غير تحديد ، فالإفراد ـ هنا ـ أكمل وأكثر معنى من الجمع ؛ لأنه زيد بمدلول المفرد أكثر من مدلول الجمع ، ولهذا كان قوله تعالى : (فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ) [الأنعام : ١٤٩] أعمّ وأتمّ معنى من أن يقال : لله الحجج البوالغ ، وكذا قوله : (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لا تُحْصُوها) [إبراهيم : ٣٤] أتمّ معنى

__________________

(١) تقدم برقم (٤٩٢).

(٢) تقدم برقم (٤٩٣).

٨٩

من أن يقال : وإن تعدّوا نعم الله لا تحصوها ، وقوله سبحانه وتعالى : (رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً) [البقرة : ٢٠١] أتمّ معنى من قوله : حسنات ، وقوله : (بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ) [آل عمران : ١٧٤] ، أتمّ معنى من قوله : بنعم. ونظائره كثيرة.

وأما الصّلوات فالمراد بها درجات الثّواب ، وهي إنما تحصل شيئا بعد شيء ، فكأنه دلّ على الصّفة المقصودة.

قوله تعالى : (إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ)(١٥٨)

في تعلّق هذه الآية بما قبلها وجوه.

أحدها : أنّه سبحانه وتعالى بيّن أنّه إنّما حوّل القبلة إلى الكعبة ؛ ليتمّ إنعامه على محمّد [صلوات البرّ الرّحيم وسلامه عليه] وأمّته بإحياء شريعة إبراهيم ـ عليه الصّلاة والسلام ـ لقوله تعالى : (وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ) [البقرة : ١٥٠] ، وكان السّعي بين الصّفا والمروة من شريعة إبراهيم [عليه الصّلاة والسّلام] فذكر هذا الحكم عقب تلك الآية.

وقيل : إنّه تبارك وتعالى [لمّا] أمر بالذّكر مطلقا في قوله تعالى : «فاذكروني» بيّن الأحوال الّتي يذكر فيها وإحداها الذّكر مطلقا.

والثّانية : الذكر في حال النّعمة ، وهو المراد بقوله تعالى : (وَاشْكُرُوا لِي) [البقرة : ١٥٢].

الثالثة : الذّكر في حال الضّرّاء ، فقال تعالى : (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ) إلى قوله تعالى : (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ) [البقرة : ١٥٥] ثم بيّن في هذه الآية المواضع الّتي يذكر فيها ، ومن جملتها عند الصّفا والمروة ، وبقيّة المشاعر.

وثانيها : أنّه لمّا قال سبحانه : (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ) [الآية] إلى قوله سبحانه : (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ ،) ثم قال [عزوجل] : (إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ) ، وإنما جعلها كذلك ، لأنّها من أثار «هاجر ، وإسماعيل» ، وما جرى [عليهما](١) من البلوى ويستدلّ بذلك على أنّ من صبر على البلوى ، لا بدّ وأن يصل إلى أعظم الدّرجات.

وثالثها : أنّ [أقسام](٢) التّكليف ثلاثة :

أحدها : ما يحكم العاقل [بحسنه](٣) في أوّل الأمر ، فذكره أوّلا ، وهو قوله تعالى : «اذكروني أذكركم ، (وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ؛) فإنّ كلّ عاقل يعلم أنّ ذكر المنعم بالمدح ، والشّكر ، أمر مستحسن في العقل.

__________________

(١) في ب : بينهما.

(٢) بياض في ب.

(٣) سقط في ب.

٩٠

وثانيها : ما يحكم العقل [بقبحه](١) في أوّل الأمر ، إلّا أنّه لمّا ورد الشّرع به ، وبيّن الحكمة فيه ، [وهي](٢) الابتلاء ، والامتحان ؛ على ما قال تعالى : (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ) ، فحينئذ يعتقد المسلم حسنه ، وكونه حكمة وصوابا.

[وثالثها] : ما لا يهتدي العقل إلى حسنه ، ولا إلى [قبحه] ، بل [يراها] كالعبث الخالي عن المنفعة والمضرّة ، وهو مثل أفعال الحجّ من السّعي بين الصّفا والمروة ، فذكر الله تعالى هذا القسم عقيب القسمين الأوّلين ؛ ليكون قد نبّه على جميع أقسام التكاليف.

قوله [تعالى] : (إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ:) [الصّفا :] اسم «إنّ» ، و «من شعائر الله» خبرها.

قال أبو البقاء (٣) ـ رحمه‌الله تعالى ـ : وفي الكلام حذف مضاف ، تقديره «طواف الصّفا ، أو سعي الصّفا». وألف «الصّفا» [منقلبة] عن واو ؛ بدليل قلبها في التثنية واوا ؛ قالوا : صفوان ؛ والاشتقاق يدلّ عليه أيضا ؛ لأنّه من الصّفو ، وهو الخلوص ، [والصّفا : الحجر الأملس].

وقال القرطبيّ (٤) : «والصّفا مقصور» جمع صفاة ، وهي الحجارة الملس.

وقيل : الصّفا اسم مفرد ؛ وجمعه «صفيّ» ـ بضمّ الصاد ـ [وأصفاء] ؛ على [وزن](٥) أرجاء.

قال [الرّاجز] : [الرجز]

٨٥٠ ـ كأنّ متنيه من النّفيّ

مواقع الطّير على الصّفيّ (٦)

وقيل : من شروط الصّفا : البياض والصّلابة ، واشتقاقه من : «صفا يصفو» ، أي : [أخلص من] التّراب والطّين ، والصّفا : الحجر الأملس.

وفي كتاب الخليل (٧) : الصّفا : الحجر الضّخم الصّلب الأملس ، وإذا [نعتوا] الصّخرة ، قالوا : صفاة صفواء ، وإذا ذكّروا ، قالوا : «صفا صفوان» ، فجعلوا الصّفا [والصّفاة] كأنّهما في معنى واحد.

قال المبرّد (٨) : «الصّفا» : كلّ حجر أملس لا يخالطه غيره ؛ من طين أو تراب ،

__________________

(١) في ب : بصحته.

(٢) في ب : وهو.

(٣) ينظر الإملاء لأبي البقاء : ١ / ٧٠.

(٤) ينظر تفسير القرطبي : ٢ / ١٢١.

(٥) في ب : وزن.

(٦) البيت للأخيل. ينظر : اللسان (صفا) ، القرطبي : ٢ / ١٢١ ، الرازي : ٤ / ١٤٣ ، وصوابه : «متنيّ» بدلا من «متنيه» ، كما أنشده ابن دريد هكذا ؛ لأن بعده : من طول إشرافي على الطّويّ.

(٧) ينظر تفسير الرازي : ٤ / ١٤٣.

(٨) ينظر تفسير الرازي : ٤ / ١٤٣.

٩١

ويتّصل به ، ويفرّق بين واحده وجمعه تاء التأنيث ؛ نحو : صفا كثير ، وصفاة واحدة ، وقد يجمع الصّفا على : فعول ، وأفعال ؛ قالوا : صفيّ ، بكسر الصاد ، وضمّها ؛ كعصيّ ، [وأصفاء] ، والأصل صفوو ، وأصفاو ، وقلبت الواو في «صفوو» ياءين ، والواو في «أصفاو» همزة ؛ ك «كساء» وبابه](١).

والمروة : الحجارة الصّغار ، فقيل : اللّينة.

وقال الخليل (٢) : البيض الصّلبة ، الشّديدة [الصّلابة].

وقيل : المرهفة الأطراف. وقيل : البيض.

وقيل : السّود. وهما في الآية علمان لجبلين معروفين ، والألف واللّام فيهما للغلبة ؛ كهما في البيت ، والنّجم ، وجمعها مرو ؛ كقوله [في ذلك] : [الرمل]

٨٥١ ـ وترى المرو إذا ما هجّرت

عن يديها كالفراش المشفتر (٣)

وقال بعضهم : جمعه في القليل : مروات ، وفي الكثير : مرو. قال أبو ذؤيب : [الكامل]

٨٥٢ ـ حتّى كأنّي للحوادث مروة(٤)

[بصفا المشقّر (٥) كلّ يوم تقرع (٦)](٧)

فصل في حد الصفا والمروة

قال الأزرقيّ (٨) : [ذرع](٩) ما بين الصّفا والمروة : [سبعمائة ذراع وستّة وستّون ذراعا](١٠) ونصف ذراع.

قال القرطبيّ : وذكر الصّفا ؛ لأنّ آدم [المصطفى ـ [صلوات الله ، وسلامه عليه] ـ وقف عليه ، فسمّي به ؛ ووقفت حوّاء على المروة ، فسمّيت باسم المرأة ، فأنثت لذلك ، والله أعلم](١١).

قال الشّعبيّ : كان على الصّفا صنم يدعى «إسافا» ، وعلى المروة صنم يدعى نائلة (١٢) ، فاطّرد ذلك في [التذكير والتأنيث] ، وقدّم المذكّر ، وما كان كراهة من كره الطّواف بينهما إلّا من أجل هذا ، حتّى رفع الله الحرج من ذلك ، وزعم أهل الكتاب :

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) ينظر تفسير الرازي : ٤ / ١٤٣.

(٣) البيت لطرفة بن العبد. ينظر ديوانه : (٤٢) ، والبحر المحيط : ١ / ٦٢٧ ، والدر المصون : ١ / ٤١٤.

(٤) في ب : جمة.

(٥) في أ : المشرقي.

(٦) في ب : يجمع.

(٧) ينظر المحرر الوجيز : ١ / ٢٢٩ ، القرطبي : ٢ / ١٢١ ، الرازي : ٤ / ١٤٣.

(٨) في ب : الأذرعي.

(٩) سقط في ب.

(١٠) في ب : سبعمائة وستون ذرعا.

(١١) ينظر تفسير القرطبي : ٢ / ١٢١.

(١٢) انظر تفسير السمرقندي «بحر العلوم» (١ / ١٧٠).

٩٢

أنّهما كانا آدميّين زنيا في الكعبة ، فمسخهما الله حجرين ، فوضعهما على الصّفا ، والمروة ؛ ليعتبر بهما ؛ فلمّا طالت المدّة ، عبدا من دون الله ، والله ـ تعالى ـ أعلم.

فصل في معنى «الشعائر»

و «الشّعائر» : جمه شعيرة ، وهي العلامة ، فكلّ شيء جعل علما من أعلام طاعة الله ، فهو من شعائر الله تعالى. قال تبارك وتعالى : (وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللهِ) [الحج : ٣٦] ، أي : علامة [للقربة] ، ومنه : إشعار السّنام [وهو أن تعلم بالمدية] ومنه : الشّعار في الحرب ، [وهي العلامة الّتي يتبيّن يها إحدى الفئتين من الأخرى](١) ومنه : قولهم : شعرت بكذا ، أي : علمت به ، وقيل : الشّعائر جمع [شعيرة] ، والمراد بها في الآية الكريمة مناسك الحجّ ، ونقل الجوهريّ أنّ الشّعائر هي العبادات ، والمشاعر أماكن العبادات ، ففرّق بين الشّعائر والمشاعر.

وقال الهرويّ : الأجود : لا فرق بينهما ، والأجود شعائر بالهمز ؛ لزيادة حرف المدّ ، وهو عكس «معايش» و «مصايب».

فصل في الشعائر هل تحمل على العبادات أو على موضع العبادات

الشّعائر : إمّا أن نحملها على العبادات ، أو النّسك ، أو نحملها على موضع العبادات والنّسك؟!

[فإن قلنا بالأوّل : حصل في الكلام حذف ؛ لأنّ نفس الجبلين لا يصحّ وصفهما بأنّهما دين ونسك ؛ فالمراد به أنّ الطّواف بينهما أو السّعي من دين الله تعالى.

وإن قلنا بالثاني : استقام ظاهر الكلام ؛ لأنّ هذين الجبلين يمكن أن يكونا موضعين للعبادة والنّسك](٢).

وكيف كان ؛ فالسّعي بينهما من شعائر الله ، ومن أعلام دينه ، وقد شرعه الله [تعالى] لأمّة محمّد ـ عليه الصلاة والسلام ـ [ولإبراهيم عليه الصلاة والسلام] ، قبل ذلك ، وهو من المناسك الّتي علّمها الله [تعالى] لإبراهيم ـ عليه الصلاة والسلام ـ إجابة لدعوته في [قوله تعالى] : (وَأَرِنا مَناسِكَنا). واعلم أنّ [السّعي ليس](٣) عبادة تامّة في نفسه ، بل إنما يصير عبادة إذ صار بعضا من أبعاض الحجّ والعمرة ، فلهذا بيّن الله تبارك وتعالى الموضع الّذي يصير فيه السّعي عبادة ، فقال [سبحانه] : (فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ ، فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما).

والحكمة في شرع هذا السّعي : ما حكي أن هاجر حين ضاق بها الأمر في عطشها ، وعطش ابنها إسماعيل ، سعت في هذا المكان إلى أن صعدت الجبل ، ودعت ، فأنبع الله

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) سقط في ب.

(٣) في ب : الصفا.

٩٣

لها زمزم ، وأجاب دعاءها ، وجعل فعلها طاعة لجميع المكلّفين إلى يوم القيامة.

قوله [تعالى] : (فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ).

«من» : شرطيّة في محلّ رفع بالابتداء و «حجّ» : في موضع جزم بالشرط ، و «البيت» نصب على المفعول به ، لا على الظّرف ، والجواب قوله : (فَلا جُناحَ عَلَيْهِ).

و «الحجّ» : قال القفّال (١) ـ رحمه‌الله ـ فيه أقوال :

أحدها : أنّ الحجّ في اللغة كثرة الاختلاف إلى الشّيء والتردّد إليه ، فإنّ الحاجّ يأتيه أوّلا ؛ ليزوره ، ثمّ يعود إليه للطّواف ، ثم ينصرف إلى منى ، ثم يعود إليه ؛ لطواف الزّيارة ، [ثم يعود لطواف الصّدر](٢).

وثانيها : قال قطرب [الحجّ](٣) الحلق ، يقال : احجج شجّتك ، وذلك أن يقطع الشعر من نواحي الشّجّة ؛ ليدخل القدح في الشّجّة (٤).

وقال الشاعر : [الطويل]

٨٥٣ ـ وأشهد من عوف حلولا كثيرة

يحجّون سبّ الزّبرقان المعصفرا (٥)

«السّبّ» : لفظ مشترك (٦) ، قال أبو عبيدة : السّبّ ، بالكسر : السّباب ، وسبّك أيضا : الذي يسابّك ؛ قال الشاعر : [الخفيف]

٨٥٤ ـ لا تسبّنّني فلست بسبّي

[إنّ سبّي] من الرّجال الكريم (٧)

والسّبّ أيضا : الخمار والعمامة.

قال المخبّل السّعديّ : [الطويل]

٨٥٥ ـ ..........

يحجّون سبّ الزّبرقان المعصفرا (٨)

والسّبّ أيضا : الحبل في لغة هذيل ؛ قال أبو ذؤيب : [الطويل]

٨٥٦ ـ تدلّى عليها بين سبّ وخيطة

بجرداء مثل الوكف يكبو غرابها (٩)

__________________

(١) ينظر تفسير الفخر الرازي : ٤ / ١٤٤.

(٢) سقط في ب.

(٣) سقط في ب.

(٤) ينظر تفسير الرازي : ٤ / ١٤٤.

(٥) البيت للمخبل السعدي. ينظر : اللسان (حجج) وفيه : الزبرقان المزعفرا ، القرطبي : ٢ / ١٢٢ ، تهذيب اللغة (سبب).

(٦) ينظر تفسير القرطبي : ٢ / ١٢٢.

(٧) البيت لعبد الرحمن بن حسان. ينظر : اللسان (سبب) ، القرطبي : ٢ / ١٢٢ ، تهذيب اللغة (سبب).

(٨) تقدم قريبا.

(٩) ينظر : اللسان (سبب) ، والقرطبي : ٢ / ١٢٢ ، تهذيب اللغة (سبب) ، وديوان الهذليين : ١ / ٧٩.

٩٤

والسّبوب : الحبال ، والسّبّ : شقّة كتان رقيقة والسّبيبة مثله ، والجمع : السّبوب والسّبائب ، قاله الجوهريّ (١) ؛ فيكون المعنى : حجّ فلان ، أي : حلّق.

قال القفّال (٢) ـ رحمه‌الله تعالى ـ : وهذا محتمل ؛ كقوله تعالى : (لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ) [الفتح : ٢٧] ، أي : حجّاجا وعمّارا ؛ فعبّر عن ذلك بالحلق ، فلا يبعد أن يكون الحجّ مسمّى بهذا الاسم لمعنى الحلق.

وثالثها : الحجّ : القصد.

ورابعها : الحجّ في اللغة : القصد مرّة بعد أخرى.

قال الشاعر : [البسيط]

٨٥٧ ـ يحجّ مأمومة في قعرها لجف

 .......... (٣)

اللّجف : الخسف أسفل البئر ، نقله القرطبيّ (٤).

يقال : رجل محجوج ، أي : مقصود ، بمعنى : أنّه يختلف إليه مرّة بعد أخرى.

قال الراغب : [الرجز]

٨٥٨ ـ لراهب يحجّ بيت المقدس

في منقل وبرجد وبرنس (٥)

وكذلك محجّة الطّريق : وهي التي كثر فيها السّير ، وهذا شبيه بالقول الأوّل.

قال القفّال : «والأول أشبه بالصّواب».

والاعتمار : الزّيارة.

وقيل : مطلق القصد ، ثم صارا علمين بالغلبة في المعاني ؛ كالبيت [والنّجم] في الأعيان.

وقال قطرب (٦) : العمرة في لغة [عبد](٧) القيس : المسجد والبيعة والكنيسة.

قال القفّال : والأشبه بالعمرة إذا أضيفت إلى البيت أن تكون بمعنى الزّيارة ؛ لأنّ المعتمر يطوف بالبيت ، وبالصفا ، والمروة ، ثم ينصرف كالزّائر (٨).

__________________

(١) ينظر تهذيب اللغة : ١٢ / ٣١٤.

(٢) ينظر تفسير الفخر الرازي : ٤ / ١٤٤.

(٣) صدر بيت لعذار بن درة الطائي ، وعجزه :

فاست الطبيب قذاها كالمغاريد

ينظر : اللسان (حجج) ، القرطبي : ٢ / ١٢٢ ، المفردات للراغب : ١٥٥ ، وتهذيب اللغة (حجج).

(٤) ينظر تفسير القرطبي : ٢ / ١٢٢.

(٥) ينظر البحر المحيط : ١ / ٦٢٨ ، الدر المصون : ١ / ٤١٤.

(٦) ينظر تفسير الفخر الرازي : ٤ / ١٤٤.

(٧) سقط في ب.

(٨) ينظر تفسير الرازي : ٤ / ١٤٤.

٩٥

قوله تعالى : (فَلا جُناحَ عَلَيْهِ) الظاهر : أنّ «عليه» خبر «لا» ، و «أن يطّوّف» : أصله [«في أن يطّوّف»] ، فحذف حرف الجرّ ، فيجيء في محلّها القولان النصب ، أو الجرّ ، والوقف في هذا الوجه على قوله «بهما» ، وأجازوا بعد ذلك أوجها ضعيفة :

منها : أن يكون الكلام قد تمّ عند قوله : (فَلا جُناحَ) ؛ على أن يكون خبر «لا» محذوفا ، وقدّره أبو البقاء (١) «فلا جناح في الحج» ، ويبتدأ بقوله (عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ) فيكون «عليه» خبرا مقدما وأن يطوف في تأويل مصدر مرفوع بالابتداء ؛ فإنّ الطواف واجب.

قال أبو البقاء (٢) ـ رحمه‌الله ـ : والجيد أن يكون «عليه» في هذا الوجه خبرا ، و «أن يطّوّف» مبتدأ.

ومنها : «أن يكون (عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ) من باب الإغراء ؛ فيكون «أن يطّوّف» في محلّ النصب ؛ كقولك : «عليك زيدا» أي : «الزمه» ، إلّا أنّ إغرار الغائب ضعيف ، حكى سيبويه (٣) : «عليه رجلا ليسني» قال : وهو شاذّ.

ومنها : أنّ «أن يطّوّف» في محلّ رفع خبرا ثانيا ل «لا» ، [والتقدير : فلا جناح عليه في الطّواف بهما.

ومنها : «أن يطّوّف» : في محلّ نصب على الحال من الهاء في «عليه» ، والعامل في الحال العامل في الخبر](٤). والتقدير : «فلا جناح عليه في حال طوافه بهما» ، وهذان القولان ساقطان ذكرتهما تنبيها على غلطهما.

وقراءة الجمهور : «أنّ يطّوّف» بغير «لا» ، وقرأ (٥) أنس ، وابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ وابن سيرين ، وشهر بن حوشب : «أن لا يطّوّف» ، قالوا : وكذلك في مصحفي أبيّ ، وعبد الله ، وفي هذه القراءة احتمالان :

أحدهما : أنها زائدة ؛ كهي في قوله : (أَلَّا تَسْجُدَ) [الأعراف : ١٢] ، وقوله : [الرجز]

٨٥٩ ـ وما ألوم البيض ألّا تسخرا

لمّا رأين الشّمط القفندرا (٦)

وحينئذ يتّحد معنى القراءتين.

والثّاني : أنّها غير زائدة. بمعنى : أنّ رفع الجناح في فعل الشيء ، هو رفع في تركه ؛ إذ هو تمييز بين الفعل والتّرك ؛ نحو : (فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا) فتكون قراءة الجمهور فيها رفع الجناح في فعل الطّواف نصّا ، وفي هذه رفع الجناح في التّرك نصّا.

__________________

(١) ينظر الإملاء لأبي البقاء : ١ / ٧٠.

(٢) ينظر الإملاء لأبي البقاء : ١ / ٧٠.

(٣) ينظر الكتاب لسيبويه : ١ / ١٢٦.

(٤) سقط في ب.

(٥) ينظر الدر المصون : ١ / ٤١٥ ، المحرر الوجيز : ١ / ٢٢٩ ، والبحر المحيط : ١ / ٦٣١.

(٦) تقدم برقم ٨٦.

٩٦

والجناح : أصله من الميل ؛ من قولهم : جنح إلى كذا ، أي : مال إليه ؛ قال سبحانه وتعالى: (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها) [الأنفال : ٦١] وجنحت السّفينة : إذا لزمت الماء ، فلم تمض.

وقيل للأضلاع : «جوانح» ؛ لاعوجاجها ، وجناح الطّائر من هذا ؛ لأنّه يميل في أحد شقّيه ، ولا يطير على مستوى خلقته.

قال بعضهم : وكذلك أيضا عرف القرآن الكريم ، فمعناه : لا جناح عليه ، أي : لا ميل لأحد عليه بمطالبة شيء من الأشياء.

ومنهم من قال : بل هو مختصّ بالميل إلى الباطل ، وإلى ما يؤلم به.

و «أن يطّوّف» أي : «يتطوّف» ، فأدغمت التّاء في الطاء ؛ كقوله : (يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ) [المزمل : ١] ، و (يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ) [المدثر : ١] ويقال : طاف ، وأطاف : بمعنى واحد.

وقرأ (١) الجمهور «يطّوّف» بتشديد الطاء ، والواو ، والأصل «يتطّوّف» ، وماضيه كان أصله «تطوّف» ، فلما أرد الإدغام تخفيفا ، قلبت التاء طاء ، وأدغمت في الطاء ، فاحتيج إلى همزة وصل ؛ لسكون أوّله ؛ لأجل الإدغام ، فأتى بها فجاء مضارعه عليه «يطّوّف» ، فانحذفت همزة الوصل ؛ لتحصّن الحرف المدغم بحرف المضارعة ومصدره على «التّطوّف» ؛ رجوعا إلى أصل «تطوّف». وقرأ أبو السّمّال (٢) : «يطوف» مخفّفا من : طاف يطوف ، وهي سهلة ، وقرأ ابن عباس : «يطّاف» بتشديد الطاء ، [مع الألف ، وأصله «يطتوف» على وزن «يفتعل» ، وماضيه على «اطتوف» افتعل ، تحرّكت الواو ، وانفتح ما قبلها ، فقلبت ألفا ، ووقعت تاء الافتعال بعد الطاء ؛ فوجب قلبها طاء ، وإدغام الطاء](٣) فيها ؛ كما قالوا : اطّلب يطّلب ، والأصل : «اطتلب ، يطتلب» ، فصار «اطّاف» ، وجاء مضارعه عليه : «يطّاف» هذا هو تصريف هذه اللفظة من كون تاء الافتعال تقلب طاء ، وتدغم فيها الطاء الأولى.

وقال ابن عطيّة (٤) : فجاء «يطتاف» أدغمت [التاء بعد الإسكان في الطاء على مذهب من أجاز إدغام الثّاني](٥) في الأوّل ، كما جاء في «مدّكر» ومن لم يجز ذلك ، قال : قلبت التاء طاء ، ثم أدغمت الطاء في الظّاء ، وفي هذا نظر ؛ لأنّ الأصليّ أدغم في الزائد ، وذلك ضعيف. وقول ابن عطيّة فيه خطأ من وجهين :

__________________

(١) ينظر البحر المحيط : ١ / ٦٣٢ ، الدر المصون : ١ / ٤١٥.

(٢) ينظر المحرر الوجيز : ١ / ٢٢٩ ، الدر المصون : ١ / ٤١٥ ، البحر المحيط : ١ / ٦٣٢.

(٣) سقط في ب.

(٤) ينظر المحرر الوجيز : ١ / ٢٢٩.

(٥) سقط في ب.

٩٧

أحدهما : كونه يدّعي إدغام الثّاني في الأوّل ، وذلك لا نظير له ، إنّما يدغم الأوّل في الثّاني.

والثاني : قوله : كما جاء في «مدّكر» ؛ لأنّه كان ينبغي على قوله : أن يقال : «مذّكر» بالذّال المعجمة ، لا الدّال المهملة [وهذه لغة رديئة ، إنّما اللّغة الجيّدة بالمهملة ؛ لأنّا قلبنا تاء الافتعال بعد الذّال المعجمة دالا مهملة](١) ، فاجتمع متقاربان ، فقلبنا أوّلهما لجنس الثّاني ، وأدغمنا ، وسيأتي تحقيق ذلك.

ومصدر «اطّاف» على «الاطّياف» بوزن «الافتعال» ، والأصل «اطّواف» فكسر ما قبل الواو ، فقلبت ياء ، وإنّما عادت الواو إلى أصلها ؛ لزوال موجب قلبها ألفا ؛ ويوضّح ذلك قولهم : اعتاد اعتيادا والأصل : «اعتواد» ففعل به ما ذكرت [لك].

قوله تعالى : (وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً) قرأ حمزة (٢) والكسائيّ : «يطّوّع» هنا وفي الآية الّتي بعدها بالياء وجزم العين فعلا مضارعا.

قال ابن الخطيب (٣) ـ رحمه‌الله ـ : وهذا أحسن أيضا ؛ لأنّ المعنى على الاستقبال والشرط ، والجزاء ، والأحسن فيهما الاستقبال ، وإن كان يجوز أن يقال : «من أتاني ، أكرمته».

وقرأها الباقون (٤) بالتاء فعلا ماضيا ، فأما قراءة حمزة ، فتكون «من» شرطيّة ، فتعمل الجزم ، وافق يعقوب في الأولى ، وأصل «يطّوّع» «يتطوّع» فأدغم على ما تقدّم في «تطوّف» ، و «من» في محل رفع بالابتداء ، والخبر فعل الشّرط ؛ على ما هو الصحيح ؛ كما تقدّم تحقيقه.

وقوله : «فإنّ الله» جملة في محلّ جزم ، لأنّها جواب الشّرط ، ولا بدّ من عائد مقدّر ، أي : فإنّ الله شاكر له.

فصل

قال أبو البقاء (٥) : وإذا جعلت «من» شرطا ، لم يكن في الكلام حذف ضمير ؛ لأنّ ضمير «من» في «تطوّع» وهذا يخالف ما تقدّم عن النّحاة ؛ من أنّه إذا كان أداة الشّرط اسما ، لزم أن يكون في الجواب ضمير يعود عليه ، وتقدّم تحقيقه.

وأما قراءة الجمهور ، فتحتمل وجهين :

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) ينظر الدر المصون : ١ / ٤١٦ ، البحر المحيط : ١ / ٦٣٢.

(٣) ينظر تفسير الرازي : ٤ / ١٤٦.

(٤) ينظر البحر المحيط : ١ / ٦٣٢ ، الدر المصون : ١ / ٤١٦ ، والمحرر الوجيز : ١ / ٢٣٠.

(٥) ينظر الإملاء لأبي البقاء : ١ / ٧١.

٩٨

أحدهما : أن تكون شرطيّة ، والكلام فيها كما تقدّم.

والثاني : أن تكون موصولة ، و «تطوّع» صلتها ، فلا محلّ لها من الإعراب حينئذ ، وتكون في محلّ رفع بالابتداء أيضا ، و «فإنّ الله» خبره ، ودخلت الفاء ؛ لما تضمّن «من» معنى الشّرط ، والعائد محذوف كما تقدّم ، أي : شاكر له. وانتصاب «خيرا» على أحد أوجه :

أحدها : إمّا على إسقاط حرف الجرّ ، أي : تطوّع بخير ، فلمّا حذف الحرف ، انتصب ؛ نحو قوله : [الوافر]

٨٦٠ ـ تمرّون الدّيار ولم تعوجوا

 ..........(١)

وهو غير مقيس.

والثاني : أن يكون نعت مصدر محذوف ، أي : «تطوّعا خيرا».

والثالث : أن يكون حالا من ذلك المصدر المقدّر معرفة.

وهذا مذهب سيبويه (٢) ، وقد تقدّم [غير مرّة] ، أو على تضمين «تطوّع» فعلا يتعدّى ، أي : من فعل خيرا متطوّعا به.

وقد تلخّص مما تقدّم أنّ في قوله : (فَإِنَّ اللهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ) وجهين :

أحدهما : الجزم على القول بكون «من» شرطيّة.

والثاني : الرّفع ؛ على القول بكونها موصولة.

فصل في ظاهر قوله : «لا جناح عليه»

ظاهر قوله ـ تبارك وتعالى ـ : «لا (جُناحَ عَلَيْهِ) : أنه لا إثم عليه ، [وأن الذي يصدق عليه : أنّه لا إثم عليه](٣) في فعله يدخل تحته الواجب والمندوب ، والمباح ، فلا يتميّز أحدهما ، إلّا بقيد زائد ، فإذن : ظاهر الآية لا يدلّ على أنّ السّعي بين الصّفا والمروة واجب ، أو مسنون ؛ لأنّ اللّفظ الدّالّ على القدر المشترك بين الأقسام لا دلالة فيه ألبتة على خصوصيّة (٤) كلّ واحد (٥) من تلك الأقسام ، فإذن : لا بدّ من دليل خارجيّ ، يدلّ على وجوب السّعي ، أو مسنونيّته ، فذهب بعضهم إلى أنه ركن ، ولا يقوم الدّم مقامه.

وعند أبي حنيفة ـ رضي الله عنه ـ : أنه ليس بركن ، ويجبر بالدم ، وعن ابن الزّبير ، ومجاهد ، وعطاء : أنّ من تركه ، فلا شيء عليه (٦).

__________________

(١) تقدم برقم ١٥٩.

(٢) ينظر الكتاب : ١ / ١١٦.

(٣) سقط في ب.

(٤) في ب : خصوص.

(٥) في أ : أحد.

(٦) ينظر الرازي : ٤ / ١٥٤.

٩٩

احتجّ الأوّلون بقوله عليه [أفضل] الصّلاة والسّلام ـ «إنّ الله كتب عليكم السّعي ، فاسعوا» (١).

فإن قيل : هذا متروك الظّاهر ، لأنّه يقتضي وجوب السّعي ، وهو العدو ، وذلك غير واجب (٢).

قلنا : لا نسلّم أنّ السّعي عبارة عن العدو ؛ [بدليل قوله تعالى : (فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ) [الجمعة : ٩] والعدو فيه غير واجب](٣) وقال ـ تبارك وتعالى ـ : (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى) [النجم : ٣٩] وليس المراد منه العدو ، بل الجدّ ، والاجتهاد ، سلّمنا أنه العدو ، ولكنّ العدو مشتمل على صفة ترك العمل به في هذا الصّفات ، فيبقى أصل المشي واجبا.

واحتجّوا أيضا : بأنّه ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ لما دنا من الصّفا ، قال : «إنّ الصّفا والمروة من شعائر الله ، ابدءوا بما بدأ الله به» فبدأ بالصّفا فرقي عليه ، ثم سعى ، وقالصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «خذوا عنّي مناسككم» (٤) ، وقال تعالى : (وَاتَّبِعُوهُ) [الأعراف : ١٥٨] وقال تعالى : (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) [الأحزاب : ٢١] وقالوا : إنه أشواط شرعت في بقعة من بقاع الحرم ويؤتى به في إحرام كامل ، فكان جنسها ركنا ؛ كطواف الزّيارة ، ولا يلزم طواف الصّدر ، لأنّ الكلام للجنس ؛ لوجوبه مرة.

واحتجّ أبو حنيفة ـ رضي الله عنه ـ بوجوه :

منها : قوله تعالى : «لا (جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما) وهذا لا يقال في الواجبات ، وأكّد ذلك بقوله : «ومن تطوّع» فبيّن أنه تطوّع وليس بواجب.

ومنها : [قوله] : «الحجّ عرفة فمن أدرك عرفة ، فقد تمّ حجّة» (٥) ، وهذا يقتضي التمام

__________________

(١) أخرجه أحمد (٦ / ٤٢٢) والطبراني في «الكبير» (١١ / ١٨٣) والحديث ذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» وعزاه أيضا للطبراني في «الأوسط» وقال : وفيه المفضل بن صدقة وهو ضعيف.

والحديث ذكره المتقي الهندي في «كنز العمال» (١٢٠٤٢) وعزاه للطبراني عن ابن عباس.

وأخرجه البيهقي (٥ / ٩٨) والطبراني كما في «المجمع» (٣ / ١٤٨) وقال : وفيه المثنى بن الصباح وقد وثقه بن معين في رواية وضعفه جماعة.

(٢) هذه العبارة وردت هكذا في أ :

عبارة عن العدو ؛ بدليل قوله : (فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ) وهو العدو ، وذلك غير واجب فالجواب : لا نسلّم أن السّعي عبارة عن العدو ، وهو غير واجب.

(٣) سقط في ب.

(٤) أخرجه أحمد (٣ / ٣١٨) وابن خزيمة (٢٨٧٧) والبيهقي (٥ / ١٢٥) وابن عبد البر في التمهيد (٢ / ٦٩ ، ٩١ ، ٩٨) و (٤ / ٣٣٣) و (٥ / ١١٧) و (٨٧ / ٢٧٢) وأبو نعيم في «الحلية» (٧ / ٢٢٦).

وانظر نصب الراية (٣ / ٥٥) وفتح الباري (١ / ٢١٧) والإتحاف (٤ / ٤٣٧).

(٥) أخرجه الترمذي (٨٨٩) وأبو داود (١٩٤٩) والنسائي (٥ / ٢٦٤) والحاكم (١ / ٤٦٤) وابن خزيمة (٢٨٢٢) والبيهقي (٥ / ١١٦) والحميدي (٢ / ٣٩٩) وأحمد (٤ / ٣٠٩ ـ ٣١٠) وابن ماجه (٣٠١٥) ـ

١٠٠