اللّباب في علوم الكتاب - ج ٣

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ٣

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٤٤

فصل في معاني كلمة «أمة»

قد جاءت الأمة على خمسة أوجه :

الأوّل : «الأمّة» الملّة ، كهذه الآية ، أي : ملّة واحدة ، ومثله : (وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً) [المؤمنون : ٥٢] أي : ملتكم.

الثاني : الأمّة الجماعة ؛ قال تعالى (وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِ) [الأعراف : ١٨١] أي : جماعة.

الثالث : الأمّة السنين ؛ قال تعالى : (وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ) [هود : ٨] ، أي : إلى سنين معدودة ، ومثله (وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ) أي : بعد سنين.

الرابع : بمعنى إمام يعلّم الخير ؛ قال تعالى : (إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ) [النحل : ١٢٠].

الخامس : الأمّة : إحدى الأمم ؛ قال تعالى : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) [آل عمران : ١١٠] ، وباقي الكلام على ذلك يأتي في آخر «النحل» عند قوله تعالى : (إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً) [النحل : ١٢٠].

فصل في المراد بالأمة ، وهل كانوا على الحق؟ ومتى اختلفوا؟

واختلف المفسّرون على خمسة أقوال :

القول الأول : أنهم كانوا على الحقّ ، وهو قول أكثر المحققين ؛ قال القفّال (١) : لأنّه تعالى قال بعده : (فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ) ف «الفاء» في قوله : «فبعث الله» تقتضي أن يكون بعثهم بعد الاختلاف ، فلو كانوا قبل ذلك أمة واحدة في الكفر لكانت بعثة الرسل قبل الاختلاف أولى ؛ لأنّهم لما بعثوا ، وبعض الأمّة محقّ وبعضهم مبطل فلأن يبعثوا عند كون الجميع على الكفر أولى.

وأيضا فإن آدم ـ عليه‌السلام ـ لما بعث إلى أولاده ، كانوا مسلمين مطيعين ، ولم يحدث بينهم اختلاف في الدّين ، إلى أن قتل قابيل هابيل ؛ بسبب الحسد والبغي ، وهذا ثابت بالتواتر ، فإنّ الناس ـ وهم : آدم وحوّاء ، وأولادهما ـ كانوا أمّة واحدة على الحق ، ثم اختلفوا ؛ بسبب البغي ، والحسد ، كما حكى الله تعالى عن ابني آدم بالحق (إِذْ قَرَّبا قُرْباناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ) [المائدة : ٢٧] وأيضا قوله ـ عليه‌السلام ـ : «كلّ مولود يولد على الفطرة ؛ فأبواه يهوّدانه أو ينصرانه أو يمجّسانه» فدلّ ذلك على أنّ

__________________

(١) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٦ / ١١.

٥٠١

المولود لو ترك مع فطرته الأصلية ، لما كان على شيء من الأديان الباطلة ، وأنّه إنّما يقدم على الدين الباطل ، لأسباب خارجية.

وقال الكلبيّ (١) : هم أهل سفينة نوح ، لما غرقت الأرض بالطوفان ، لم يبق إلّا أهل السفينة على الحق ، والدّين الصّحيح ، ثم اختلفوا بعد ذلك ؛ وهذا مما ثبت بالتّواتر.

وقال مجاهد : أراد آدم وحده ، وكان أمّة واحدة ، وسمّى الواحد بلفظ الجمع ؛ لأنّه أصل النّسل ، وأبو البشر ، وخلق الله منه حوّاء ، ونشر منها (٢) الناس.

قال قتادة وعكرمة : كان الناس من وقت آدم إلى مبعث نوح ، وكان بينهما عشرة قرون كلّهم على شريعة واحدة من الحق ، والهدى ، ثم اختلفوا في زمن نوح ـ عليه‌السلام ـ فبعث الله إليهم نوحا ، وكان أوّل بني بعث (٣).

وحكى القرطبيّ (٤) : قال ابن أبي خيثمة : منذ خلق الله آدم ـ عليه‌السلام ـ إلى أن بعث الله محمدا ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ خمسة آلاف سنة وثمانمائة سنة ، وقيل : أكثر من ذلك ، وكان بينه وبين نوح ألف سنة ومائتا سنة ، وعاش آدم تسعمائة وستين سنة ، وكان الناس في زمانه أمة واحدة ، على ملّة واحدة متمسكين بالدّين ، تصافحهم الملائكة ، وداموا على ذلك إلى أن رفع إدريس ـ عليه‌السلام ـ فاختلفوا.

قال (٥) : وهذا فيه نظر ؛ لأنّ إدريس بعد نوح على الصحيح.

وقيل : كان العرب على دين إبراهيم إلى أن غيّره عمرو بن لحيّ.

وروى أبو العالية ، عن أبيّ بن كعب قال : «كان النّاس حين عرضوا وأخرجوا من ظهر آدم ، وأقرّوا أمّة واحدة مسلمين كلهم ، ولم يكونوا أمّة واحدة قطّ غير ذلك اليوم ، ثم اختلفوا بعد آدم» (٦).

القول الثاني : أنّهم كانوا أمّة واحدة في الكفر ، وهو قول ابن عبّاس ، وعطاء ، والحسن(٧).

وقال الحسن وعطاء : كان الناس من وقت وفاة آدم إلى مبعث نوح أمّة واحدة على ملّة الكفر ؛ أمثال البهائم ، فبعث الله إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ وغيره من النبيين (٨) ، واستدلّوا بقوله (فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ) وهو لا يليق إلا بذلك.

__________________

(١) ينظر : تفسير البغوي ١ / ١٨٦.

(٢) ينظر : تفسير البغوي ١ / ١٨٦.

(٣) ينظر : تفسير البغوي ١ / ١٨٦.

(٤) ينظر : تفسير القرطبي ٣ / ٢٢.

(٥) ينظر : تفسير القرطبي ٣ / ٢٢.

(٦) ينظر : تفسير البغوي ١ / ١٨٦.

(٧) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٤ / ٢٧٥) وأورده السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ٤٣٥) وزاد نسبته لابن أبي حاتم عن ابن عباس.

(٨) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ٤٣٦) وعزاه لعبد بن حميد وابن أبي حاتم عن قتادة بمعناه.

٥٠٢

وجوابه ما بينا : أنّ هذا لا يليق بضده ، ثم اختلف القائلون بهذا القول : متى كانوا متفقين على الكفر على ما قدّمنا ثمّ سألوا أنفسهم سؤالا وقالوا : أليس فيهم من كان مسلما كهابيل ، وشيث ، وإدريس.

وأجابوا : بأنّ الغالب كان هو الكفر ، والحكم للغالب ، ولا يعتدّ بالقليل في الكثير كما لا يعتدّ بالشعير القليل في البر الكثير ، فقد يقال : دار الإسلام ، وإن كان فيها غير المسلمين ، ودار الحرب وإن كان فيها مسلمون.

الثالث : قال أبو مسلم (١) : كانوا أمّة واحدة في التمسّك بالشرائع العقلية ، وهي الاعتراف بوجود الصانع ، وصفاته ، والاشتغال بخدمته ، وشكر نعمه ، والاجتناب عن القبائح العقليّة كالظّلم ، والكذب ، والجهل ، والعبث ، وأمثالها.

واحتجّ القاضي (٢) على صحّة قوله : بأنّ لفظ النّبيين يفيد العموم والاستغراق ، وحرف «الفاء» يفيد التّراخي ، فقوله (فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ) يفيد أنّ بعثة الأنبياء كانت متأخّرة عن كون الناس أمّة واحدة ، فتلك الواحدة المتقدمة على بعثة جميع الشرائع ، لا بدّ وأن تكون واحدة في شرعة غير مستفادة من الأنبياء فواجب أن تكون في شريعة مستفادة من العقل وذلك ما بيّنّاه ، وأيضا فالعلم بحسن شكر المنعم (٣) ، وطاعة الخالق ، والإحسان إلى الخلق ، والعدل ؛ مشترك فيه بين الكلّ ، والعلم يقبح الكذب ، والظّلم ، والجهل ، والعبث ، وأمثالها مشترك فيه بين الكل ، فالأظهر أنّ الناس كانوا في أوّل الأمر على ذلك ، ثم اختلفوا بعد ذلك ؛ لأسباب منفصلة ، ثم قال : فإن قيل : أليس أوّل الإسلام آدم ـ عليه الصلاة والسلام ـ مع أولاده كانوا مجتمعين على التّمسك بالشرائع العقلية أوّلا ، ثم إنّ الله تعالى بعثه بعد ذلك إلى أولاده ، ويحتمل أن صار شرعه مندرسا بعد ذلك ، ثم رجع الناس إلى الشرائع العقلية؟

قال ابن الخطيب (٤) : وهذا القول لا يصحّ إلّا بعد تحسين العقل ، وتقبيحه ، والكلام فيه مشهور.

القول الرابع : أنّ الآية دلّت على أنّ الناس كانوا أمّة واحدة ، وليس فيها أنّهم كانوا على الإيمان ، أو على الكفر ، فهو موقوف على الدّليل (٥).

القول الخامس : أنّ المراد ب «النّاس» هنا أهل الكتاب ممّن آمن بموسى ـ عليه‌السلام ـ وذلك لأنّا بينا أنّ هذه الآية متعلقة بما تقدم من قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً) [البقرة : ٢٠٨] وذكرنا أنّ كثيرا من المفسرين زعموا أن تلك

__________________

(١) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٦ / ١٢.

(٢) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٦ / ١٣.

(٣) سيأتي الكلام على شكر المنعم في سورة الأنعام.

(٤) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٦ / ١٣.

(٥) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٦ / ١٣.

٥٠٣

الآية نزلت في اليهود ؛ فقوله تعالى : (كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً) أي : كان الذين آمنوا بموسى أمّة واحدة على دين واحد ، ثم اختلفوا بسبب البغي ، والحسد ؛ فبعث الله النبيّين ، وهم الذين جاءوا بعد موسى ـ عليه‌السلام ـ وأنزل معهم الكتاب كما بعث الزبور إلى داود ، والإنجيل إلى عيسى ، والفرقان إلى محمد ـ عليه الصلاة والسلام ـ لتكون تلك الكتب حاكمة عليهم في تلك الأشياء التي اختلفوا فيها ، وهذا القول مطابق لنظم الآية ، وموافق لما قبلها وما بعدها ، وليس فيه إشكال إلّا أنّ تخصيص لفظ الناس بقوم معينين خلاف الظّاهر ، ويعتذر عنه بأن الألف واللّام كما تكون للاستغراق ، فقد تكون أيضا للعهد.

فصل في بيان لفظة «كان»

قال القرطبيّ (١) : لفظة «كان» على هذه الأقوال على بابها من المضيّ المنقضي ، وكان من قدّر الناس في الآية مؤمنين قدّر في الكلام : فاختلفوا ، فبعث الله ، ويدلّ على هذا الحذف قوله : (وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ) وكل من قدّرهم كفّارا كانت بعثة النبيين إليهم ، ويحتمل أن تكون «كان» للثّبوت ، والمراد الإخبار عن الناس الذين هم الجنس كله : أنهم أمة واحدة من خلوّهم عن الشرائع ، وجهلهم بالحقائق لو لا أنّ الله تعالى منّ عليهم بالرسل ؛ تفضلا منه ؛ فعلى هذا لا تختصّ «كان» بالمضيّ فقط ، بل يكون معناها كقوله تعالى (وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) [النساء : ٩٦] وقوله : (فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ) قال بعض المفسرين (٢) : وجملتهم مائة وأربعة وعشرون ألفا ، والرسل منهم ثلاثمائة وثلاثة عشر ، والمذكور في القرآن بأسمائهم : ثمانية عشر نبيّا.

قوله تعالى : (مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ) حالان من «النّبيّين». قيل : وهي حال مقارنة ؛ لأنّ بعثهم كان وقت البشارة والنّذار وفيه نظر ؛ لأنّ البشارة والنّذارة [بعد البعث. والظاهر أنها حال مقدّرة ، وقد تقدّم معنى البشارة والنذارة] في قوله : (أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا) [يونس : ٢].

وقوله : (وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ) هذا الظرف فيه وجهان :

أحدهما : أنه متعلّق بأنزل. وهذا لا بدّ فيه من تأويل ؛ وذلك أنّه يلزم من تعلّقه بأنزل أن يكون النبيون مصاحبين للكتاب في الإنزال ، وهم لا يوصفون بذلك ؛ لعدمه فيهم.

وتأويله : أنّ المراد بالإنزال الإرسال ، لأنّه مسبّب عنه ، كأنّه قيل : وأرسل معهم الكتاب فتصحّ مشاركتهم له في الإنزال بهذا التّأويل.

والثاني : أن يتعلّق بمحذوف ، على أنه حال من الكتاب ، وتكون حالا مقدرة ، أي :

__________________

(١) ينظر : تفسير القرطبي ٣ / ٢٢ ـ ٢٣.

(٢) ينظر : القرطبي ٣ / ٢٣.

٥٠٤

وأنزل مقدّرا مصاحبته إياهم ، وقدّره أبو البقاء (١) بقوله : «شاهدا لهم ومؤيّدا» ، وهذا تفسير معنى لا إعراب.

والألف واللام في «الكتاب» يجوز أن تكون للعهد ، بمعنى أنّه كتاب معين ؛ كالتوراة مثلا ، فإنها أنزلت على موسى ، وعلى النّبيّين بعده ؛ بمعنى أنّهم حكموا بها ، واستداموا على ذلك ، وأن تكون للجنس ، أي : أنزل مع كلّ واحد منهم من هذا الجنس.

قال القاضي (٢) : ظاهر الآية يدلّ على أنّه لا نبيّ إلّا ومعه كتاب ، أنزل فيه بيان الحق : طال ذلك الكتاب ، أم قصر ، ودوّن ، أو لم يدوّن ، وكان ذلك الكتاب معجزا ، أم لم يكن.

وقيل : هو مفرد وضع موضع الجمع : أي وأنزل معهم الكتب ، وهو ضعيف.

وهذا الجملة معطوفة على قوله : «فبعث» ولا يقال : البشارة والنّذارة ناشئة عن الإنزال فكيف قدّما عليه؟ لأنّا لا نسلّم أنّهما إنما يكونان بإنزال كتاب ، بل قد يكونان بوحي من الله تعالى غير متلوّ ولا مكتوب. ولئن سلّمنا ذلك ، فإنّما قدّما ، لأنهما حالان من «النّبيّين» فالأولى اتّصالهما بهم.

قوله : «بالحقّ» فيه ثلاثة أوجه :

أحدها : أن يكون متعلّقا بمحذوف على أنه حال من الكتاب ـ أيضا ـ عند من يجوّز تعدّد الحال ، وهو الصحيح.

والثاني : أن يتعلّق بنفس الكتاب ؛ لما فيه من معنى الفعل ، إذ المراد به المكتوب.

والثالث : أن يتعلّق بأنزل ، وهذا أولى ؛ لأنّ جعله حالا لا يستقيم إلّا أن يكون حالا مؤكدة ، إذ كتب الله تعالى لا تكون ملتبسة بالحقّ ، والأصل فيها أن تكون مستقلّة ولا ضرورة بنا إلى الخروج عن الأصل ، ولأنّ الكتاب جار مجرى الجوامد.

قوله : «ليحكم» هذا القول متعلق بقوله : «أنزل» واللام للعلة ، وفي الفاعل المضمر في «ليحكم» ثلاثة أقوال :

أحدها : وهو أظهرها ، أنه يعود على الله تعالى : لتقدّمه في قوله : «فبعث الله» ولأنّ نسبة الحكم إليه حقيقة ، ويؤيّده قراءة الجحدري (٣) فيما نقله عنه مكّي «لنحكم» بنون العظمة ، وفيه التفات من الغيبة إلى التكلّم. وقد ظنّ ابن عطية أن مكيا غلط في نقل

__________________

(١) ينظر : الإملاء لأبي البقاء ١ / ٩١.

(٢) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٦ / ١٤.

(٣) انظر : المحرر الوجيز ١ / ٢٨٦ ، والبحر المحيط ٢ / ١٤٥ ، والدر المصون ١ / ٥١٩.

٥٠٥

هذه القراءة عنه ، وقال : إنّ الناس رووا عن الجحدري : «ليحكم» على بناء الفعل للمفعول وفي «النّور» موضعين هنا ، وفي «آل عمران» ولا ينبغي أن يغلّطه ؛ لاحتمال أن يكون عنه قراءتان.

والثاني : أنه يعود على «الكتاب» أي : ليحكم الكتاب ، ونسبة الحكم إليه مجاز ؛ كنسبة النّطق إليه في قوله تعالى : (هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِ) [الجاثية : ٢٩].

وقوله : (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ) [الإسراء : ٩].

ونسبة القضاء إليه في قوله : [الكامل]

١٠٣٧ ـ ضربت عليك العنكبوت بنسجها

وقضى عليك به الكتاب المنزل (١)

ووجه المجاز : أنّ الحكم فيه ؛ فنسب إليه. وقيل : إنه يعود على النّبيّ ، واستضعفه أبو حيّان من حيث إفراد الضمير ، إذ كان ينبغي على هذا أن يجمع ؛ ليطابق «النّبيّين». ثمّ قال : وما قاله جائز على أن يعود الضمير على إفراد الجمع ، على معنى : ليحكم كلّ نبيّ بكتابه.

و «بين» متعلّق ب «يحكم». والظّرفية هنا مجاز. وكذلك «فيما اختلفوا» متعلق به أيضا. و «ما» موصولة ، والمراد بها الدّين ، أي : ليحكم الله بين الناس في الدّين ، بعد أن كانوا متفقين عيه. ويضعف أن يراد ب «ما» النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ؛ لأنها لغير العقلاء غالبا. و «فيه» متعلّق ب «اختلفوا» ، والضمير عائد على «ما» الموصولة.

قوله : (وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ) الضمير في «فيه» فيه أوجه.

أظهرها : أنه عائد على «ما» الموصولة أيضا ، وكذلك الضمير في «أوتوه» وقيل : يعودان على الكتاب ، أي : وما اختلف في الكتاب إلّا الّذين أوتوا الكتاب. وقيل : يعودان على النبيّ ، قال الزّجّاج (٢) : أي : وما اختلف في النبيّ إلّا الذين أوتوا علم نبوّته. وقيل : يعود على عيسى ؛ للدلالة عليه.

وقيل : الهاء في «فيه» تعود على «الحقّ» وفي «أوتوه» تعود على «الكتاب» أي : وما اختلف في الحقّ إلّا الذين أوتوا الكتاب.

فصل

والمراد باختلافهم يحتمل معنيين :

أحدهما : تكفير بعضهم بعضا ؛ كقول اليهود : (وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ) [البقرة : ١١٣] أو قولهم (نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ) [النساء : ١٥٠] والآخر : تحريفهم وتبديلهم ، وهذا يدلّ على أنّ الاختلاف في الحقّ لم يوجد إلّا بعد بعثة الأنبياء ،

__________________

(١) تقدم برقم ٥٤١.

(٢) ينظر : معاني القرآن للزجاج ١ / ٢٧٦.

٥٠٦

وإنزال الكتاب ، وذلك يوجب أنّ قبل البعثة لم يكن الاختلاف في الحقّ حاصلا ، بل كان الاتفاق في الحق حاصلا وهو يدل على أنّ قوله تعالى : (كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً) معناه أمة واحدة في دين الحقّ.

وقوله : «من بعد» فيه وجهان :

أحدهما وهو الصحيح : أن يتعلّق بمحذوف تقديره : اختلفوا فيه من بعد.

والثاني : أن يتعلّق ب «اختلف» الملفوظ به ، قال أبو البقاء (١) : ولا تمنع «إلّا» من ذلك ، كما تقول : «ما قام إلّا زيد يوم الجمعة». وهذا الذي أجازه أبو البقاء ، فيه كلام كثير للنّحاة ، وملخّصه : أنّ «إلّا» لا يستثنى بها شيئان دون عطف أو بدلية ؛ وذلك أنّ «إلّا» معدّية للفعل ، ولذلك جاز تعلّق ما بعدها بما قبلها ، فهي كواو مع وهمزة التعدية ، فكما أنّ واو «مع» وهمزة التّعدية ، لا يعدّيان الفعل لأكثر من واحد ، إلّا مع العطف ، أو البدلية كذلك «إلّا» وهذا هو الصّحيح ، وإن كان بعضهم خالف. فإن ورد من لسانهم ما يوهم جواز ذلك يؤوّل ، فمنه قوله : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ) [يوسف : ١٠٩].

ثم قال «بالبيّنات» ، فظاهر هذا أنّ «بالبينات» متعلّق بأرسلنا ، فقد استثني ب «إلّا» شيئان ، أحدهما «رجالا» والآخر «بالبينات».

وتأويله أنّ «بالبيّنات» متعلّق بمحذوف ، لئلا يلزم منه ذلك المحذور. وقد منع أبو الحسن ، وأبو عليّ : «ما أخذ أحد إلّا زيد درهما» و «ما ضرب القوم إلا بعضهم بعضا» واختلفا في تصحيحها ، فقال أبو الحسن : طريق تصحيحها بأن تقدّم المرفوع الذي بعد «إلّا» عليها ، فيقال : ما أخذ أحد زيد إلا درهما ، فيكون «زيد» بدلا من «أحد» و «درهما» مستثنى مفرغ من ذلك المحذوف ، تقديره : «ما أخذ أحد زيد شيئا إلا درهما».

وقال أبو عليّ : طريق ذلك زيادة منصوب في اللّفظ فيظهر ذلك المقدّر المستثنى منه ، فيقال : «ما أخذ أحد شيئا إلا زيد درهما» فيكون المرفوع بدلا من المرفوع ، والمنصوب بدلا من المنصوب ، وكذلك : ما ضرب القوم أحدا إلّا بعضهم بعضا.

وقال أبو بكر بن السّرّاج : تقول «أعطيت الناس درهما إلا عمرا» [جائز. ولو قلت : «عطيت الناس درهما إلا عمرا] الدنانير لم يجز ، لأنّ الحرف لا يستثنى به إلّا واحد. فإن قلت : «ما أعطيت الناس درهما إلّا عمرا دانقا» [على الاستثناء لم يجز ، أو على البدل جاز فتبدل «عمرا» من النّاس ، و «دانقا» من «درهما». كأنك قلت : «ما أعطيت إلّا عمرا دانقا] يعني أنّ الحصر واقع في المفعولين.

قال بعض المحقّقين : «وما أجازه ابن السراج من البدل في هذه المسألة ، ضعيف ؛

__________________

(١) ينظر : الإملاء لأبي البقاء ١ / ٩١.

٥٠٧

وذلك أنّ البدل في الاستثناء لا بدّ من مقارنته ب «إلّا» ، فأشبه العطف ، فكما أنّه لا يقع بعد حرف العطف معطوفان ، لا يقع بعد إلّا بدلان».

فإذا عرف هذا الأصل ، وما قال الناس فيه ، كان إعراب أبي البقاء في هذه الآية الكريمة ، من هذا الباب ؛ وذلك أنه استثناء مفرّغ ، وقد وقع بعد «إلّا» الفاعل ، وهو «الّذين» ، والجارّ والمجرور ، وهو «من بعد» ، والمفعول من أجله ، وهو «بغيا» فيكون كلّ منهما محصورا. والمعنى : وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه إلّا من بعد ما جاءتهم البينات إلا بغيا. وإذا كان التقدير كذلك ، فقد استثني ب «إلّا» شيئان دون الأول الذي هو فاعل من غير عطف ولا بدلية وهي مسألة يكثر دورها.

قوله : «بغيا» في نصبه وجهان :

أظهرهما : أنه مفعول من أجله ، لاستكمال الشّروط ، وهو علة باعثة ، والعامل فيه مضمر على ما اخترناه ، وهو الذي تعلّق به «فيه» ، و «اختلف» الملفوظ به عند من يرى أنّ «إلّا» يستثنى بها شيئان.

والثاني : أنه مصدر في محلّ حال ، أي : باغين ، والعامل فيها ما تقدّم. و «بينهم» متعلق بمحذوف ؛ لأنه صفة ل «بغيا» أي : بغيا كائنا بينهم.

فصل

قوله : (مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ) يقتضي أن يكون إيتاء الله تعالى إيّاهم الكتاب كان بعد مجيء الآيات البيّنات ، فتكون هذه البينات مغايرة ـ لا محالة ـ لإيتاء الكتاب ؛ وهذه البينات لا يمكن حملها على شيء سوى الدلائل العقليّة التي نصبها الله ـ تعالى ـ على إثبات الأصول التي لا يمكن القول بالنبوة إلّا بعد ثبوتها ؛ وذلك لأنّ المتكلّمين يقولون (١) : كلّ ما لا يصحّ إثبات النبوة إلّا بثبوته ، فذلك لا يمكن إثباته بالدلائل السّمعيّة ، وإلّا وقع الدور.

وقال بعض المفسرين (٢) : المراد «بالبينات» صفة محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ في كتبهم.

قول فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق «لما» متعلّق ب «هدى» و «ما» موصولة ومعنى هذا أي : أرشد إلى ما اختلفوا فيه ؛ كقوله تعالى : (يَعُودُونَ لِما قالُوا) [المجادلة : ٣] ، أي : إلى ما قالوا. ويقال : هديته الطريق وللطريق وإلى الطريق والضمير في «اختلفوا» عائد على «الذين أوتوه» وفي «فيه» عائد على «ما» ، وهو متعلّق ب «اختلف».

و «من الحقّ» متعلّق بمحذوف ؛ لأنه في موضع الحال من «ما» في «لما»

__________________

(١) ينظر : تفسير الفخر الرازي : ٦ / ١٥.

(٢) ينظر : تفسير البغوي ١ / ١٨٧.

٥٠٨

و «من» يجوز أن تكون للتبعيض ، وأن تكون للبيان عند من يرى ذلك ، تقديره : الذي هو الحقّ.

وأجاز أبو البقاء (١) أن يكون «من الحقّ» حالا من الضمير في «فيه» ، والعامل فيها «اختلفوا» فإن قيل لم قال هداهم فيما اختلفوا فيه ، وعساه أن يكون غير حقّ في نفسه قال : «والقلب في كتاب الله دون ضرورة تدفع إليه عجز وسوء فهم» انتهى.

قال شهاب الدّين : وهذا الاحتمال الذي جعله ابن عطية حاملا للفرّاء على ادّعاء القلب ، لا يتوهّم أصلا.

قوله «بإذنه» فيه وجهان :

أحدهما : أن يتعلّق بمحذوف ، لأنه حال من «الّذين آمنوا» ، أي : مأذونا لهم.

والثاني : أن يكون متعلّقا بهدى مفعولا به ، أي : هداهم بأمره.

قال الزّجّاج (٢) : المراد من الإذن ـ هنا ـ العلم ، أي : بعلمه ، وإرادته فيهم ، وقيل : بأمره ، أي : حصلت الهداية بسبب الأمر ؛ كما يقال : قطعت بالسّكّين.

وقيل (٣) : لا بدّ فيه من إضمار ، تقديره : هداهم فاهتدوا بإذنه.

فصل فيما اختلف فيه أهل الكتاب وهدانا الله إليه

قال ابن زيد : هذه الآية في أهل الكتاب ، اختلفوا في القبلة فصلّت اليهود إلى بيت المقدس ، والنصارى إلى المشرق ؛ فهدانا الله للكعبة ، واختلفوا في الصيام ؛ فهدانا الله لشهر رمضان واختلفوا في الأيام ، فأخذت اليهود السّبت ، والنّصارى الأحد ؛ فهدانا الله للجمعة ، واختلفوا في إبراهيم ؛ فقالت اليهود : كان يهوديّا ، وقالت النصارى : كان نصرانيّا. فقلنا : إنّه كان حنيفا مسلما ، واختلفوا في عيسى : فاليهود فرّطوا ، والنّصارى أفرطوا ؛ فهدانا الله للحقّ فيه(٤).

فصل في احتجاج بعضهم بالآية على أن الإيمان مخلوق والرد عليه

تمسّك بعضهم (٥) بهذه الآية على أنّ الإيمان مخلوق لله تعالى ، وهو ضعيف ؛ لأن الهداية غير الاهتداء كما أنّ الهداية إلى الإيمان غير الإيمان ، وأيضا فإنه قال في آخر الآية : «بإذنه» ولا يمكن صرف هذا الإذن إلى قوله : «فهدى الله» إذ لا جائز أن يأذن لنفسه ، فلا بدّ من إضمار لصرف الإذن إليه ، والتقدير : «فهدى الله الّذين آمنوا

__________________

(١) ينظر : الإملاء لأبي البقاء ١ / ٩١.

(٢) ينظر : تفسير الرازي ٦ / ١٧.

(٣) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٦ / ١٧.

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٤ / ٢٨٣ ـ ٢٨٤) عن ابن زيد.

(٥) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٦ / ١٥.

٥٠٩

لما اختلفوا فيه من الحقّ ـ فاهتدوا ـ بإذنه» وإذا كان كذلك ، كانت الهداية مغايرة للإهتداء.

فصل

احتج الفقهاء بهذه الآية على أنّ الله ـ تعالى ـ قد يخصّ المؤمن بهدايات لا يفعلها في حقّ الكافر.

وأجاب عنه المعتزلة بوجوه :

أحدها : أنهم اختصّوا بالاهتداء ، فهو كقوله : (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) [البقرة : ٢] ثم قال (هُدىً لِلنَّاسِ) [البقرة : ١٨٥].

وثانيها : أن المراد الهداية إلى الثواب وطريق الجنّة.

وثالثها : هداهم إلى الحقّ بالألطاف.

قوله : (وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) والكلام فيها مع المعتزلة كالتي في قبلها.

قوله تعالى : (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ)(٢١٤)

«أم» هذه فيها أربعة أقوال :

الأول : أن تكون منقطعة فتتقدّر ب «بل» والهمزة. ف «بل» لإضراب انتقال من إخبار إلى إخبار ، والهمزة للتقرير. والتقدير بل حسبتم.

والثاني : أنها لمجرد الإضراب من غير تقدير همزة بعدها ، وهو قول الزّجّاج وأنشد : [الطويل]

١٠٣٨ ـ بدت مثل قرن الشّمس في رونق الضّحى

وصورتها أم أنت في العين أملح (١)

أي : بل أنت.

والثالث : وهو قول الفرّاء وبعض الكوفيّين ، أنها بمعنى الهمزة. فعلى هذا يبتدأ بها في أوّل الكلام ، ولا تحتاج إلى الجملة قبلها يضرب عنها.

الرابع : أنها متّصلة ، ولا يستقيم ذلك إلا بتقدير جملة محذوفة قبلها.

قال القفّال : «أم» هنا استفهام متوسط ؛ كما أنّ «هل» استفهام سابق ، فيجوز أن

__________________

(١) تقدم برقم ٢٢٧.

٥١٠

يقال : هل عندك رجل ، أم عندك امرأة؟ ولا يجوز أن يقال ابتداء أم عندك رجل ، فأمّا إذا كان متوسطا ، جاز سواء كان مسبوقا باستفهام آخر ، أو لا يكون ، أمّا إذا كان مسبوقا باستفهام آخر فهو كقولك : أنت رجل لا تنصف ، أفعن جهل تفعل هذا ، أم لك سلطان؟ وأمّا الّذي لا يكون مسبوقا بالاستفهام ؛ فكقوله : (الم تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ) [السجدة : ١ ـ ٣] فكذا تقدير هذا الآية : فهدى الله الذين آمنوا فصبروا على استهزاء قومهم ، أفتسلكون سبيلهم أم تحسبون أن تدخلوا الجنّة من غير سلوك سبيلهم.

«حسب» هنا من أخوات «ظنّ» ، تنصب مفعولين أصلهما المبتدأ والخبر ، و «أنّ» وما بعدها سادّة مسدّ المفعولين عند سيبويه ، ومسدّ الأول والثاني محذوف عند الأخفش ، كما تقدّم ، ومضارعها فيه الوجهان :

الفتح ـ وهو القياس ـ والكسر. ولها نظائر من الأفعال تأتي إن شاء الله تعالى في آخر السورة ، ومعنها الظّنّ ، وقد تستعمل في اليقين ؛ قال : [الطويل]

١٠٣٩ ـ حسبت التّقى والجود خير تجارة

رباحا إذا ما المرء أصبح ثاقلا (١)

ومصدرها : الحسبان. وتكون غير متعدية ، إذا كان معناها الشقرة ، تقول : زيد ، أي : اشقرّ ، فهو أحسب ، أي : أشقر.

قوله : (وَلَمَّا يَأْتِكُمْ) الواو للحال ، والجملة بعدها في محلّ نصب عليها ، أي : غير آتيكم مثلهم. و «لمّا» حرف جزم ، معناه النفي ؛ ك «لم» ، وهو أبلغ من النفي ب «لم» ؛ لأنّها لا تنفي إلّا الزمان المتّصل بزمان الحال. والفرق بينها وبين «لم» من وجوه :

أحدها : أنه قد يحذف الفعل بعدها في فصيح الكلام ، إذا دلّ عليه دليل.

وهو أحسن ما تخرّج عليه قراءة «وإن كلّا لمّا» كقوله : [الوافر]

١٠٤٠ ـ فجئت قبورهم بدءا ولمّا

فناديت القبور فلم تجبنه (٢)

أي : ولمّا أكن بدءا ، أي : مبتدئا ؛ بخلاف «لم» فإنه لا يجوز ذلك فيها إلا ضرورة ؛ كقوله : [الكامل]

__________________

(١) البيت للبيد بن ربيعة في ديوانه ص ٢٤٦ ؛ وأساس البلاغة ص ٤٦ (ثقل) ؛ والدرر ٢ / ٢٤٧ ؛ وشرح التصريح ١ / ٢٤٩ ؛ ولسان العرب (ثقل) ، والمقاصد النحوية ٢ / ٣٨٤ ؛ وأوضح المسالك ٢ / ٤٤ ؛ وتخليص الشواهد ص ٤٣٥ ؛ وشرح الأشموني ١ / ١٥٦ ؛ وشرح ابن عقيل ص ٢١٣ ؛ وشرح قطر الندى ص ٢٧٤ ؛ وهمع الهوامع ١ / ١٤٩ ، والدر المصون ١ / ٥٢٢.

(٢) تقدم برقم ٢٣٠.

٥١١

١٠٤١ ـ واحفظ وديعتك الّتي أودعتها

يوم الأعازب إن وصلت وإن لم (١)

ومنها : أنّها لنفي الماضي المتصل بزمان الحال ، و «لم» لنفيه مطلقا أو منقطعا على ما مرّ.

ومنها : أنّ «لمّا» لا تدخل على فعل شرط ، ولا جزاء بخلاف «لم».

ومنها أنّ «لم» قد تلغى بخلاف «لمّا» ، فإنها لم يأت فيها ذلك ، وباقي الكلام على ما يأتي إن شاء الله تعالى في سورة «الحجرات» عند قوله تعالى : (وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ) [الحجرات : ١٤].

واختلف في «لمّا» فقيل : مركبة من لم و «ما» زيدت عليها.

وقال سيبويه : بسيطة وليست «ما» زائدة ؛ لأنّ «لما» تقع في مواضع لا تقع فيها «لم» ؛ يقول الرجل لصاحبه : أقدّم فلانا ، فيقول «لمّا» ، ولا يقال : «لم» مفردة.

قال المبرّد : إذا قال القائل : لم يأتني زيد ، فهو نفي لقولك أتاك زيد ، وإذا قال : لمّا يأتني ، فمعناه : أنّه لم يأتني بعد ، وأنا أتوقّعه ؛ قال النابغة : [الكامل]

١٠٤٢ ـ أرف التّرحّل غير أنّ ركابنا

لمّا تزل برحالنا وكأن قد (٢)

وفي قوله «مثل الّذين» حذف مضاف ، وحذف موصوف ، تقديره : ولمّا يأتكم مثل محنة المؤمنين الذين خلوا.

و «من قبلكم» متعلّق ب «خلوا» وهو كالتأكيد ، فإنّ الصلة مفهومة من قوله : «خلوا».

فصل في سبب نزول (أَمْ حَسِبْتُمْ) الآية

قال ابن عبّاس ، وعطاء : لمّا دخل أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المدينة اشتدّ عليهم الضرر ؛ لأنّهم خرجوا بلا مال ، وتركوا ديارهم ، وأموالهم بأيدي المشركين ، وآثروا رضا الله ورسوله ، وأظهرت اليهود العداوة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأسرّ قوم النفاق ، فأنزل الله تعالى ؛ تطييبا لطيوبهم : (أَمْ حَسِبْتُمْ)(٣).

وقال قتادة والسّديّ : نزلت في «غزوة الخندق» أصاب المسلمين ما أصابهم من الجهد ، والحزن ، وشدّة الخوف ، والبرد ، وضيق العيش ، وأنواع الأذى ؛ كما قال تعالى :

__________________

(١) البيت لإبراهيم بن هرمة ينظر ديوانه ص ١٩١ ، وخزانة الأدب ٩ / ١٠٠٨ ، والدرر ٥ / ٦٦ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٦٨٢ ، والمقاصد النحوية ٤ / ٤٤٣ ، والأشباه والنظائر ٤ / ١١٤ ، وأوضح المسالك ٤ / ٢٠٢ ، وجواهر الأدب ص ٢٥٦ ، ٤٢٤ ، والجنى الداني ص ٢٦٩ ، وشرح الأشموني ٣ / ٥٧٦ ، ومغني اللبيب ١ / ٢٨٠ ، وهمع الهوامع ٢ / ٥٦.

(٢) تقدم برقم ٥٦٦.

(٣) ذكره الرازي في «التفسير الكبير» (٦ / ١٧) عن ابن عباس.

٥١٢

(وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ)(١) [الأحزاب : ١٠] وقيل : نزلت في «غزوة أحد» لما قال عبد الله بن أبيّ لأصحاب النبي عليه‌السلام إلى متى تقتلون أنفسكم ، وترجون الباطل ، ولو كان محمد نبيا ، لمّا سلّط الله عليكم الأسر والقتل ، فأنزل الله تعالى هذه الآية (٢)(أَمْ حَسِبْتُمْ) ، أي : المؤمنون أن تدخلوا الجنّة بمجرد الإيمان بي ، وتصديق رسولي ، دون أن تعبدوا الله بكل ما تعبّدكم به ، وابتلاكم بالصبر عليه ، وأن ينالكم من أذى الكفار ، ومن احتمال الفقر ومكابدة الضر والبؤس ، ومقاساة الأهوال في مجاهدة العدوّ ؛ كما كان ذلك فيما كان من قبلكم من المؤمنين ، والمثل هو المثل ، وهو الشّبه ، إلّا أنّ المثل لحالة غريبة ، أو قصّة عجيبة لها شأن ؛ ومنه قوله تعالى : (وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى) [النحل : ٦٠] أي : الصفة التي لها شأن عظيم.

قوله : (مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ) في هذه الجملة وجهان :

أحدهما : أن تكون لا محلّ لها من الإعراب ؛ لأنها تفسيرية ، أي : فسّرت المثل وشرحته ، كأنه قيل : ما كان مثلهم؟ فقيل : مسّتهم البأساء.

والثاني : أن تكون حالا على إضمار «قد» جوّز ذلك أبو البقاء (٣) ، وهي حال من فاعل «خلوا». وفي جعلها حالا بعد.

و «البأساء» : اسم من البؤس بمعنى الشّدّة ، وهو البلاء والفقر.

و «الضّرّاء» : الأمراض ، والآلام ، وضروب الخوف.

قال أبو العبّاس المقريّ : ورد لفظ «الضّرّ» في القرآن على أربعة أوجه :

الأول : الضّرّ : الفقر ؛ كهذه الآية ، ومثله : (وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ) [يونس : ١٢] ، وقوله تعالى : (وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ) [النحل : ٥٣] أي : الفقر.

الثاني : الضّرّ : القحط ؛ قال تعالى : (أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ) [الأعراف : ٩٤] ، أي : قحطوا.

أو قوله تعالى : (وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ) [يونس : ٢١] أي : قحط.

الثالث : الضّرّ : المرض ؛ قال تعالى : (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ) [يونس : ٢٠٧] أي : بمرض.

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٤ / ٢٨٩) عن قتادة والسدي وأورده السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ٤٣٦ ـ ٤٣٧) عن قتادة وزاد نسبته لعبد الرزاق وابن المنذر.

وأورده عن السدي (١ / ٤٣٧) وزاد نسبته لابن أبي حاتم.

(٢) ذكره الرازي في «التفسير الكبير» (٦ / ١٧).

(٣) ينظر : الإملاء ١ / ٩١.

٥١٣

الرابع : الضر : الأهوال ؛ قال تعالى : (وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ) [الإسراء : ٦٧].

قوله : «وزلزلوا» أي : حرّكوا بأنواع البلايا والرّزايا.

قال الزّجّاج : أصل الزّلزلة في اللغة من زلّ الشيء عن مكانه ، فإذا قلت : زلزلته فتأويله : أنّك كررت تلك الإزالة فضوعف لفظه بمضاعفة معناه ؛ لأن ما فيه تكرير يكرّر فيه الفعل نحو : صرّ وصرصر ، وصلّ وصلصل ؛ وكفّ وكفكف ، وفسر بعضهم «زلزلوا» أي : خوّفوا ؛ وذلك لأنّ الخائف لا يستقر بل يضطرب قلبه.

قوله تعالى : (حَتَّى يَقُولَ) قرأ الجمهور : «يقول» نصبا ، وله وجهان :

أحدهما : أنّ «حتّى» بمعنى «إلى» ، أي : إلى أن يقول ، فهو غاية لما تقدّم من المسّ والزلزال ، و «حتّى» إنما ينصب بعدها المضارع المستقبل ، وهذا قد وقع ومضى. فالجواب : أنه على حكاية الحال ، [حكى تلك الحال].

والثاني : أنّ «حتّى» بمعنى «كي» ، فتفيد العلّة كقوله : أطعت الله حتّى أدخلني الجنة ، وهذا ضعيف ؛ لأنّ قول الرسول والمؤمنين ليس علّة للمسّ والزلزال ، وإن كان ظاهر كلام أبي البقاء (١) على ذلك ، فإنه قال : «بالرفع على أن يكون التقدير : زلزلوا فقالوا ، فالزّلزلة سبب القول» ، و «أن» بعد «حتّى» مضمرة على كلا التقديرين.

وقرأ نافع برفعه على أنّه حال ، والحال لا ينصب بعد «حتّى» ولا غيرها ؛ لأنّ الناصب يخلّص للاستقبال ؛ فتنافيا.

واعلم أنّ «حتّى» إذا وقع بعدها فعل : فإمّا أن يكون حالا أو مستقبلا أو ماضيا ، فإن كان حالا ، رفع ؛ نحو : «مرض حتّى لا يرجونه» أي : في الحال. وإن كان مستقبلا نصب ، تقول : سرت حتّى أدخل البلد ، وأنت لم تدخل بعد. وإن كان ماضيا فتحكيه ، ثمّ حكايتك له : إمّا أن تكون بحسب كونه مستقبلا ، فتنصبه على حكاية هذه الحال ، وإمّا أن يكون بحسب كونه حالا ، فترفعه على حكاية هذه الحال ، فيصدق أن تقول في قراءة الجماعة : حكاية حال ، وفي قراءة نافع أيضا : حكاية حال.

قال شهاب الدّين : إنّما نبّهت على ذلك ؛ لأنّ عبارة بعضهم تخصّ حكاية الحال بقراءة الجمهور ، وعبارة آخرين تخصّها بقراءة نافع.

قال أبو البقاء (٢) في قراءة الجمهور : «والفعل هنا مستقبل ، حكيت به حالهم ، والمعنى على المضيّ» وكان قد تقدّم أنه وجّه الرفع بأنّ «حتى» للتعليل.

قوله : «معه» هذا الظرف يجوز أن يكون منصوبا بيقول ، أي : إنهم صاحبوه في هذا

__________________

(١) ينظر : الإملاء ١ / ٩١.

(٢) ينظر : الإملاء ١ / ٩١.

٥١٤

القول وجامعوه فيه ، وأن يكون منصوبا بآمنوا ، أي : صاحبوه في الإيمان.

قوله : (مَتى نَصْرُ اللهِ) «متى» منصوب على الظرف ، فموضعه رفع ؛ خبرا مقدّما ، و «نصر» مبتدأ مؤخر.

وقال أبو البقاء (١) : «وعلى قول الأخفش : موضعه نصب على الظرف ، و «نصر» مرفوع به». و «متى» ظرف زمان لا يتصرّف إلا بجرّه بحرف. وهو مبنيّ ؛ لتضمّنه : إما لمعنى همزة الاستفهام ، وإمّا معنى «من» الشرطية ، فإنه يكون اسم استفهام ، ويكون اسم شرط فيجزم فعلين شرطا وجزاء.

قال القرطبي (٢) : «نصر الله» رفع بالابتداء على قول سيبويه ، وعلى قول أبي العباس ؛ رفع بفعل ، أي : متى يقع نصر الله.

و «قريب» خبر «إنّ» قال النّحّاس (٣) : ويجوز في غير القرآن «قريبا» أي : مكانا قريبا و «قريب» لا تثنّيه العرب ، ولا تجمعه ، ولا تؤنّثه في هذا المعنى ؛ قال تعالى : (إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ) [الأعراف : ٥٦] ؛ وقال الشّاعر : [الطويل]

١٠٤٣ ـ له الويل إن أمسى ولا أمّ هاشم

قريب ولا بسباسة ابنة يشكرا (٤)

فإن قلت : فلان قريب لي ثنيت وجمعت فقلت : قريبون ، وأقرباء ، وقرباء.

فصل

والظاهر أنّ جملة (مَتى نَصْرُ اللهِ) من قول المؤمنين ، وجملة (أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ) من قول الرسول ، فنسب القول إلى الجميع ؛ إجمالا ، ودلالة الحال مبيّنة للتفصيل المذكور. وهذا أولى من قول من زعم أن في الكلام تقديما وتأخيرا ، والتقدير : حتّى يقول الذين آمنوا : (مَتى نَصْرُ اللهِ)؟ فيقول الرسول «ألا إنّ» فقدّم الرسول ؛ لمكانته ، وقدّم المؤمنون ؛ لتقدّمهم في الزمان. قالوا : لأنه أخبر عن الرسول ، والذين آمنوا بكلامين :

أحدهما : أنهم قالوا : (مَتى نَصْرُ اللهِ)؟

والثاني : (أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ) فوجب إسناد كلّ واحد من هذين الكلامين إلى ما يليق به من ذينك المذكورين ، قال : الذين آمنوا قالوا : (مَتى نَصْرُ اللهِ) والرسل قالوا : (أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ) قالوا : ولهذا نظير في القرآن والشّعر :

أمّا القرآن : فقوله : (وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ)

__________________

(١) ينظر : الإملاء ١ / ٩١.

(٢) ينظر : تفسير القرطبي ٣ / ٢٥.

(٣) ينظر : تفسير القرطبي ٣ / ٢٥.

(٤) تقدم برقم ٥٦٦.

٥١٥

[القصص : ٧٣] ، والمعنى ؛ لتسكنوا في اللّيل ، ولتبتغوا من فضله في النهار.

وأمّا الشعر : فقول امرىء القيس : [الطويل]

١٠٤٤ ـ كأنّ قلوب الطّير رطبا ويابسا

لدى وكرها العنّاب والحشف البالي (١)

فشبه العنّاب بالرطب ، والحشف البالي باليابس.

قال ابن عطيّة : «هذا تحكّم وحمل للكلام على غير وجهه».

وقيل : الجملتان من قول الرسول والمؤمنين معا ، يعني أن الرسول قالهما معا ، وكذلك أتباعه. فإن قيل : كيف يليق بالرسول القاطع بصحّة وعد الله ووعيده أن يقول مستبعدا : متى نصر الله؟

والجواب من وجوه :

أحدها : التأويل المتقدّم.

والثاني : أن قول الرسول (مَتى نَصْرُ اللهِ) ليس على سبيل الشّكّ بل على سبيل الدعاء باستعجال النصر.

الثالث : أن كونه رسولا لا يمنع من أن يتأذّى من كيد الأعداء ؛ قال تعالى : (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ) [الحجر : ٩٧] وقال تعالى : (لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) [الشعراء : ٣] وقال تعالى : (حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا) [يوسف : ١١٠] ، وعلى هذا فإذا ضاق قلبه ، وقلّت حيلته ، وكان قد تقدم وعبد الله بنصره ، إلّا أنه لم يعيّن له الوقت ؛ قال عند ضيق قلبه : (مَتى نَصْرُ اللهِ) حتّى إنّه إذا علم قرب الوقت ، زال غمه وطاب قلبه ؛ ويؤيد ذلك قوله في الجواب (إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ) فلما كان الجواب بذكر القرب ؛ دلّ على أنّ السؤال كان واقعا عن القرب ، ولو كان السؤال وقع عن أنّه هل يوجد النصر ، أم لا؟ لما كان هذا الجواب مطابقا لذلك السؤال ، هذا على قول من قال إن قوله : (أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ) من كلام الله تعالى جوابا للرسول ، ومن قال إنه من كلام المؤمنين. قال : إنّهم لما علموا أنّ الله تعالى لا يعلي عدوه عليهم ، قالوا : (أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ) ، فنحن على ثقة بوعدك.

وقيل : إنّ الجملة الأولى من كلام [الرسول وأتباعه ، والجملة الأخيرة من كلام] الله تعالى ، على ما تقدم. فالحاصل أنّ الجملتين في محلّ نصب بالقول.

__________________

(١) ينظر : ديوانه ص ٣٨ ، وشرح التصريح ١ / ٣٨٢ ، وشرح شواهد المغني ١ / ٣٤٢ ، ٢ / ٥٩٥ ، ٨١٩ ، والصاحبي في فقه اللغة ص ٢٤٤ ، ولسان العرب (أدب) ، والمقاصد النحوية ٢ / ٢١٦ ، والمنصف ٢ / ١١٧ ، والأشباه والنظائر ٧ / ٦٤ ، وأوضح المسالك ٢ / ٣٢٩ ، ومغني اللبيب ١ / ٢١٨ ، ٢ / ٣٩٢ ، ٤٣٩.

٥١٦

فإن قيل : قوله : (إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ) يوجب في حق كل من لحقه شدّة أن يعلم أنه سيظفر بزوالها ، وذلك غير ثابت.

فالجواب : لا يمتنع أن يكون هذا من خواصّ الأنبياء ـ عليهم‌السلام ـ وأيضا فإن كان عامّا في حق الكل إذ كلّ من كان في بلاء ، فلا بدّ له من أحد أمرين :

إمّا أن يتخلص منه أو يموت ، فإن مات ، فقد وصل إلى من لا يهمل أمره ، ولا يضيع حقه ، وذلك من أعظم النصر ، وإنما جعله قريبا ؛ لأن الموت آت ؛ وكلّ آت قريب.

قوله تعالى : (يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ)(٢١٥)

قد تقدّم أنّ «ماذا» له استعمالات ستّة عند قوله : (ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً) [البقرة : ٢٦]. وهنا يجوز أن تكون «ماذا» بمنزلة اسم واحد ، بمعنى الاستفهام ؛ فتكون مفعولا مقدّما ل «ينفقون» ؛ لأنّ العرب يقولون : «عماذا تسأل» بإثبات الألف ، وحذفوها من قولهم : (عَمَّ يَتَساءَلُونَ) [النبأ : ١] وقوله (فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها) [النازعات : ٤٣] فلما لم يحذفوا الألف من آخر «ما» ، علمت أنه مع «ذا» بمنزلة اسم واحد ، ولم يحذفوا الألف منه ، لمّا لم يكن آخر الاسم ، والحذف يلحقها إذا كان آخرا ، إلّا أن يكون في شعر ؛ كقوله : [الوافر]

١٠٤٥ ـ على ما قام يشتمني لئيم

كخنزير تمرّغ في رماد (١)

قال القرطبي (٢) : إن خفّفت الهمزة ، قلت : يسلونك ، ومنه : ما «ينفقون» ويجوز أن تكون «ما» مبتدأ و «ذا» خبره ، وهو موصول. و «ينفقون» صلته ، والعائد محذوف ، و «ماذا» معلّق للسؤال ، فهو في موضع المفعول الثاني ، وقد تقدّم تحقيقه في قوله : (سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ كَمْ آتَيْناهُمْ) [البقرة : ٢١١].

قال القرطبي (٣) : متى كانت اسما مركبا ، فهي في موضع نصب إلّا ما جاء في قول الشاعر: [الطويل]

١٠٤٦ ـ وماذا عسى الواشون أن يتحدّثوا

سوى أن يقولوا : إنّني لك عاشق (٤)

__________________

(١) تقدم برقم ٦٦٥.

(٢) ينظر : تفسير القرطبي ٣ / ٢٦.

(٣) ينظر : تفسير القرطبي ٣ / ٢٦.

(٤) البيت لجميل بثينة ينظر ملحق ديوانه ص ٢٤٣ ، وخزانة الأدب ٦ / ١٥٠ ، ١٥٣ ، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي ص ١٣٨٣ ، ولسان العرب (ومق) ، وللمجنون ينظر ديوانه ص ١٦٠ ، والأغاني ٢ / ٥٠ ، وشرح الأشموني ١ / ٧٥.

٥١٧

فإنّ «عسى» لا تعمل فيه ، ف «ماذا» في موضع رفع ، وهو مركّب ؛ إذ لا صلة ل «ذا».

وجاء «ينفقون» بلفظ الغيبة ؛ لأنّ فاعل الفعل قبله ضمير غيبة في «يسألونك» ، ويجوز في الكلام «ماذا ننفق» كما يجوز : أقسم زيد ليضربنّ ولأضربنّ ، وسيأتي لهذا مزيد بيان في قوله تعالى : (يَسْئَلُونَكَ ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ) [المائدة : ٤] في المائدة إن شاء الله تعالى.

قوله : (قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ) يجوز في «ما» وجهان :

أظهرهما : أن تكون شرطيّة ؛ لتوافق ما بعدها ، ف «ما» في محلّ نصب ، مفعول مقدّم ، واجب التقديم ؛ لأنّ له صدر الكلام. و «أنفقتم» في محلّ جزم بالشرط ، و «من خير» تقدّم إعرابه في قوله : (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ) [البقرة : ١٠٦].

وقوله : «فللوالدين» جواب الشرط ، وهذا الجارّ خبر لمبتدأ محذوف ، أي : فمصرفه للوالدين ، فيتعلّق بمحذوف : إمّا مفرد ، وإمّا جملة على حسب ما ذكر من الخلاف فيما مضى. وتكون الجملة في محلّ جزم بجواب الشرط.

والثاني : أن تكون «ما» موصولة ، و «أنفقتم» صلتها ، والعائد محذوف ، لاستكمال الشروط ، أي : الذي أنفقتموه. والفاء زائدة في الخبر الذي هو الجارّ والمجرور.

قال أبو البقاء (١) في هذا الوجه : «ومن خير يكون حالا من العائد المحذوف».

فصل في سبب النزول

اعلم أنّه تعالى لمّا بيّن الوجوب على كل مكلّف ، بأن يكون معرضا عن طلب العاجل مشتغلا بطلب الآجل ، شرع في بيان الأحكام من هذه الآية إلى قوله (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ) [البقرة : ٢٤٣].

قال عطاء ، عن ابن عباس : نزلت الآية في رجل أتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : إن لي دينارا ، فقال : أنفقه على نفسك ، قال : إنّ لي آخر ، قال : أنفقه على أهلك ، فقال : إنّ لي آخر ، قال : أنفقه على خادمك ، قال : إنّ لي آخر ، قال : أنفقه على والديك قال : إنّ لي آخر ، قال : أنفقه على قرابتك ، قال : إنّ لي آخر قال : أنفقه في سبيل الله ، وهو أحسنها (٢).

وروى الكلبيّ ، عن ابن عباس أنّ الآية نزلت في عمرو بن الجموح ، وهو الذي قتل

__________________

(١) ينظر : الإملاء لأبي البقاء ١ / ٩٢.

(٢) أخرجه أبو داود في كتاب الزكاة باب : في صلة الرحم (١٦٩١) والنسائي (٥ / ٦٢) والشافعي في «مسنده» (٢٢٦) ، وأحمد (٢ / ٢٥١ ، ٤٧١) والبيهقي (٧ / ٤٦٦ ـ ٤٦٧) والحميدي في «مسنده» (١١٧٦) والبغوي في «شرح السنة» (٦ / ١٩٣) رقم (١٦٨٥) ، وابن حبان رقم (٣٣٣٤ و ٣٣٣٨) والحاكم (١ / ٤١٥) وأبو يعلى (١١ / ٤٩٣) رقم (٦٦١٦) من طرق عن المقبري عن أبي هريرة وقال الحاكم : صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.

٥١٨

يوم أحد ، وكان شيخا كبيرا هرما ، وعنده مال عظيم ، فقال ماذا ننفق من أموالنا؟ وأين نضعها؟ فنزلت الآية (١).

فإن قيل إنّ القوم سألوا عما ينفقون كيف أجيبوا ببيان المصرف؟

فالجواب من وجوه :

أحدها : أنّ في الآية حذفا ، تقديره : ماذا ينفقون ولمن يعطونه ، كما ذكرنا في رواية الكلبيّ في سبب النزول ، فجاء الجواب عنهما ، فأجاب عن المنفق بقوله : «من خير» وعن المنفق عليه بقوله : «فللوالدين» وما بعده.

ثانيها : أن يكون «ماذا» سؤالا عن المصرف على حذف مضاف ، تقديره : مصرف ماذا ينفقون؟

ثالثها : أن يكون حذف من الأوّل ذكر المصرف ، ومن الثاني ذكر المنفق ، وكلاهما مراد ، وقد تقدّم شيء من ذلك في قوله تعالى : (وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ) [البقرة : ١٧١].

رابعها : قال الزمخشريّ : قد تضمّن قوله : (ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ) بيان ما ينفقونه ، وهو كلّ خير ؛ وبني الكلام على ما هو أهمّ وهو بيان المصرف ؛ لأنّ النفقة لا يعتدّ بها إلّا أن تقع موقعها. قال : [الكامل]

١٠٤٧ ـ إنّ الصّنيعة لا تكون صنيعة

حتّى يصاب بها طريق المصنع (٢)

خامسها : قال القفّال : إنه وإن كان السؤال واردا بلفظ «ما ننفق» إلّا أن المقصود السؤال عن الكيفية ؛ لأنهم كانوا عالمين بأن الإنفاق يكون على وجه القربة ، وإذا كان هذا معلوما عندهم ، لم ينصرف الوهم إلى ذلك ، فتعيّن أنّ المراد بالسؤال إنّما هو طريق المصرف ، وعلى هذا يكون الجواب مطابقا للسؤال ، ونظيره قوله تعالى : (قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللهُ لَمُهْتَدُونَ قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ) [البقرة : ٧٠ ، ٧١] وإنّما كان هذا الجواب موافقا للسؤال ، لأنه كان من المعلوم أنها البقرة التي شأنها وصفتها كذا ، فقوله : «ما هي» لا يمكن حمله على طلب الماهيّة ؛ فتعين أن يكون المراد منه طلب الصّفة التي بها تتميز هذه البقرة عن غيرها ، فكذا هاهنا.

وسادسها : يحتمل أنّهم لما سألوا عن هذا السؤال ، فقيل لهم : هذا سؤال فاسد ، أي : أنفقوا ما أردتم بشرط أن يكون مصروفا إلى المصرف وهذا كقول الطبيب لمن سأله ماذا يأكل ، فقال الطبيب : كل في اليومين مرّتين ، ومعناه : كل ما شئت ، ولكن بهذا الشرط.

__________________

(١) ذكره الرازي في «التفسير الكبير» (٦ / ٢٠) من رواية الكلبي عن ابن عباس.

(٢) البيت لابن منظور ينظر : اللسان (صنع) ، الدر المصون ١ / ٥٢٥.

٥١٩

فصل

اعلم أنّه تعالى رتّب الإنفاق (١) ، فقدّم الوالدين (٢) ، لأنّهما كالمخرج للمكلّف من

__________________

(١) قال الجوهري في الصحاح : «نفق البيع نفاقا ، بالفتح ، أي : راج ، والنّفاق بالكسر ، فعل المنافق ، والنّفاق أيضا ، جمع النفقة من الدراهم» ـ ثم قال : «وقد أنفقت الدراهم من النفقة ا ه».

وقال المجد في القاموس : «النّفقة : ما تنفقه من الدراهم ونحوها» ثم قال : «وأنفق : افتقر ، وماله : أفقده ، كاستنفقه. ا ه».

وقال ابن منظور في لسان العرب : «أنفق المال : صرفه» ، وفي التنزيل : «وإذا قيل لهم : أنفقوا مما رزقكم الله» ، أي ؛ أنفقوا في سبيل الله ، وأطعموا ، وتصدقوا ، واستنفقه : أذهبه ، والنّفقة. ما أنفق ، والجمع ، نفاق» ـ ثم قال : «وقد أنفقت الدراهم ، من النّفقة. والنّفقة : ما أنفقت ، واستنفقت على العيال ، وعلى نفسك. ا ه».

واقتضت حكمة الله ـ تعالى ـ في بني آدم ، أن يكون الرجل هو القائم بأمر المرأة ، والقائد لزمامها ؛ وذلك لما منحه الله ـ تعالى ـ من القوة ، وكمال العقل ، والقدرة على تحمل المصاعب ، وتجشم الآلام الناشئة عن متاعب الحصول على العيش ، وحفظ كيان الأسرة ، حتى تظل قائمة في هذا الكون ، مؤدية وظيفتها في عمارته ، ويشهد لذلك قول الله ـ تعالى ـ : (الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ ،) وقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لو أمرت أحدا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها».

وهذا يدلّ على أن المرأة يجب أن تكون رهن إشارة زوجها ، وطوع أمره ، فلا تعصي له أمرا ، ولا تمنعه حقا وجب له عليها ، وقد أمر ـ جلّ شأنه ـ المرأة بالقرار في بيت زوجها ، ومنعها الخروج منه ؛ حرصا على المحافظة على حقوق الرجل ؛ ومنعا لما قد يفسد نظام العائلة ، ويجرها إلى الخسارة.

وإن المرأة أمام هذا الأوامر الإلهية ، التي يجب عليها أن تمتثلها ، وتنقاد إليها. تكون من غير شكّ عاجزة عن تحصيل قوتها ، وتدبير عيشها ... وحينئذ فمن ذا الذي يقدّم لها من القوت ، ما يدفع عنها ألم الجوع ، ويحفظ حياتها ، ومن الثياب ما تتقي به قيظ الحر ، وزمهرير البرد ، ومن المسكن ما تأمن فيه على نفسها ومتاعها ... فلو لم يوجب الله ـ جل شأنه ـ ذلك على الرجل لزوجته ، مع ما تقدّم من أمرها بملازمة بيته ـ لأدّى إلى هلاكها.

هذا في المرأة التي في عصمة الزوج ، وأما المطلّقة ، فإن كانت رجعيّة ، فهي في حكم الزوجة ؛ لأن له مراجعتها متى شاء ، فليست مالكة لأمرها ، ولا متمكّنة من التكسب ، أو التزوج بغيره ، ما دامت في العدة ، وإن كانت بائنا ، ففيها تختلف الأنظار.

فمن نظر إلى أنها محتبسة عن الزواج في العدة ؛ لعلاقة الزوجية السابقة ، أوجب لها النفقة والسكنى ، حاملا كانت أو حائلا. ومن نظر إلى أن هذا الاحتباس ، إنما هو حق لله ـ تعالى ـ ، لم يوجب شيئا منهما ، حاملا كانت أو حائلا.

ومن نظر إلى أن الحامل مشغولة الرحم بماء الزوج ، والحائل محتبسة لصيانة مائه ، أوجب للأولى السكنى والنفقة ؛ لأنّ اشتغال الرّحم بمائه ، ليس أقل شأنا من اشتغاله باستمتاعه السابق ، وأوجب للبائن السكنى ؛ لأن بها تتم صيانة الماء المذكور وحفظه ، ولم يوجب لها النفقة ؛ لأن احتباسها ليس لحقه ، وإنما هو لحق الله ـ تعالى ـ.

واصطلاحا :

عند الشافعية : قال الشرقاني في حاشيته على «شرح التحرير» : النفقة : طعام مقدّر لزوجة وخادمها على زوج ، ولغيرهما من أصل وفرع ، ورقيق ، وحيوان ما يكفيه. ـ

٥٢٠