اللّباب في علوم الكتاب - ج ٣

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ٣

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٤٤

الأول : بمعنى «ما» كهذه الآية ، وقوله : (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ) [الأعراف : ٥٣].

الثاني : بمعنى «قد» كقوله تعالى : (هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ) [الإنسان : ١] أي : قد أتى ، وقوله : (وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ) [ص : ٢١] و (هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ) [الغاشية : ١] ، أي : قد أتاك.

والثالث : بمعنى «ألا» قال تعالى : (هَلْ أَدُلُّكُمْ) [طه : ٤٠] أي : ألا أدلكم ، ومثله (هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ) [الشعراء : ٢٢] أي : ألا أنبئكم.

الرابع : بمعنى الاستفهام ، قال تعالى : (هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ) [الروم : ٤٠].

و «ينظرون» هنا بمعنى ينتظرون ، وهو معدّى بنفسه ، قال امرؤ القيس : [الطويل]

١٠٢٨ ـ فإنّكما إن تنظراني ساعة

من الدّهر ينفعني لدى أمّ جندب (١)

وليس المراد هنا بالنظر تردد العين ؛ لأنّ المعنى ليس عليه ؛ واستدلّ بعضهم على ذلك بأن النظر بمعنى البصر يتعدّى ب «إلى» ، ويضاف إلى الوجه ، وفي الآية الكريمة متعدّ بنفسه ، وليس مضافا إلى الوجه ، ويعني بإضافته إلى الوجه قوله تعالى : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) [القيامة : ٢٢ ، ٢٣] فيكون بمعنى الانتظار ، وهذا ليس بشيء ، أما قوله : إن الذي بمعنى البصر يتعدّى ب «إلى» فمسلم ، وقوله : «وهو هنا متعدّ بنفسه» ممنوع ، إذ يحتمل أن يكون حرف الجر وهو «إلى» محذوفا ؛ لأنه يطّرد حذفه مع «أن» و «أنّ» ، إذا لم يكن لبس ، وأمّا قوله : «يضاف إلى الوجه» ، فممنوع أيضا ، إذ قد جاء مضافا للذات ؛ قال تعالى : (أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ) [الأعراف : ١٤٣] (أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ) [الغاشية : ١٧]. والضمير في «ينظرون» عائد على المخاطبين بقوله : «زللتم» فهو التفات.

قوله : (إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ) هذا مفعول «ينظرون» وهو استثناء مفرّغ ، أي : ما ينظرون إلا إتيان الله.

والمعنى ما ينظرون ، يعني التاركون الدخّول في السّلم.

قوله تعالى : (فِي ظُلَلٍ) فيه أربعة أوجه :

أحدها : أن يتعلّق بيأتيهم ، والمعنى : يأتيهم أمره أو قدرته أو عقابه أو نحو ذلك ، أو يكون كناية عن الانتقام ، إذ الإتيان يمتنع إسناده إلى الله تعالى حقيقة.

والثاني : أن يتعلّق بمحذوف على أنه حال ، وفي صاحبها وجهان :

أحدهما : هو مفعول يأتيهم ، أي : في حال كونهم مستقرين في ظلل ، وهذا حقيقة.

__________________

(١) تقدم برقم ٧٢٣.

٤٨١

والثاني : أنه الله تعالى بالمجاز المتقدّم ، أي : أمر الله في حال كونه مستقرا في ظلل.

الثالث : أن تكون «في» بمعنى الباء ، وهو متعلق بالإتيان ، أي : إلّا أن يأتيهم بظلل ؛ ومن مجيء «في» بمعنى الباء قوله : [الطويل]

١٠٢٩ ـ ..........

خبيرون في طعن الكلى والأباهر (١)

لأنّ «خبيرين» إنّما يتعدّى بالباء ؛ كقوله : [الطويل]

١٠٣٠ ـ .......... فإنّني

خبير بأدواء النّساء طبيب (٢)

الرابع : أن يكون حالا من «الملائكة» مقدّما عليها ويحكى عن أبيّ ، والأصل : إلّا أن يأتيهم الله والملائكة في ظلل ، ويؤيّد هذا قراءة عبد الله إياه كذلك ، وبهذا ـ أيضا ـ يقلّ المجاز ، فإنه ـ والحالة هذه ـ لم يسند إلى الله تعالى إلّا الإتيان فقط بالمجاز المتقدم.

وقرأ أبيّ (٣) وقتادة والضّحاك : في ظلال ، وفيها وجهان :

أحدهما : أنها جمع ظلّ ؛ نحو : صلّ وصلال.

والثاني : أنها جمع ظلّة ؛ كقلّة وقلال ، وخلّة وخلال ، إلّا أنّ فعالا لا ينقاس في فعلة.

قوله تعالى : (مِنَ الْغَمامِ) فيه وجهان :

أحدهما : أنه متعلق بمحذوف ؛ لأنه صفة ل «ظلل» التقدير : ظلل كائنة من الغمام.

و «من» على هذا للتبعيض.

والثاني : أنه متعلق ب «يأتيهم» ، وهي على هذا لابتداء الغاية ، أي : من ناحية الغمام.

والجمور على رفع «الملائكة» ؛ عطفا على اسم «الله».

وقرأ الحسن (٤) وأبو جعفر : بجرّ «الملائكة» وفيه وجهان :

أحدهما : العطف على «ظلل» ، أي : إلّا أن يأتيهم في ظلل ، وفي الملائكة.

__________________

(١) تقدم برقم ٩٤٧.

(٢) تقدم برقم ١٠.

(٣) انظر : الشواذ ٢٠ ، والمحرر الوجيز ١ / ٢٨٣ ، والبحر المحيط ٢ / ١٣٤ ، والدر المصون ١ / ٥١٣.

(٤) انظر : الشواذ ٢٠ ، والمحرر الوجيز ١ / ٢٨٣ ، ونسبها ابن عطية إلى الحسن ويزيد بن القعقاع وأبي حيوة.

وانظر : البحر المحيط ٢ / ١٣٤ ، والدر المصون ١ / ٥١٣.

٤٨٢

والثاني : العطف على «الغمام» أي : من الغمام ومن الملائكة ، فتوصف الملائكة بكونها ظللا على التشبيه ، وعلى الحقيقة ، فيكون المعنى يأتيهم أمر الله وآياته ، والملائكة يأتون ليقومون بما أمروا به من الآيات والتعذيب ، أو غيرهما من أحكام يوم القيامة.

قوله : (وَقُضِيَ الْأَمْرُ) الجمهور على «قضي» فعلا ماضيا مبنيا للمفعول ، وفيه وجهان :

أحدهما : أن يكون معطوفا على «يأتيهم» وهو داخل في حيّز الانتظار ، ويكون ذلك من وضع الماضي موضع المستقبل ، والأصل : ويقضى الأمر ، وإنما جيء به كذلك ؛ لأنه محقق كقوله : (أَتى أَمْرُ اللهِ) [النحل : ١] وقوله : (وَإِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ (١) لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي) [المائدة : ١١٦] والسبب في اختيار هذا المجاز ، إمّا التنبيه على قرب الآخرة ، وكأنها قد أتت ، أو المبالغة في تأكيد وقوعها ، كأنها قد وقعت.

والثاني : أن يكون جملة مستأنفة برأسها ، أخبر الله تعالى بأنه قد فرغ من أمرهم ، فهو من عطف الجمل ، وليس داخلا في حيّز الانتظار.

وقرأ معاذ بن جبل (١) : «وقضاء الأمر» قال الزمخشريّ : «على المصدر المرفوع ؛ عطفا على الملائكة». وقال غيره : بالمدّ والخفض ؛ عطفا على «الملائكة».

قيل : وتكون على هذا «في» بمعنى «الباء» أي : بظلل ، وبالملائكة ، وبقضاء الأمر ، فيكون عن معاذ قراءتان في الملائكة : الرفع والخفض ، فنشأ عنهما قراءتان له في قوله : «وقضي الأمر».

ومعنى قضي الأمر ؛ هو فصل القضاء ببين الخلق يوم القيامة ، وإنزال كلّ واحد منزلته من جنّة ، أو نار ؛ قال تعالى : (وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِ) [إبراهيم : ٢٢].

قوله : (وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) هذا الجار متعلق بما بعده ، وإنما قدّم للاختصاص ، أي : لا ترجع إلّا إليه دون غيره. وقرأ الجمهور : «ترجع» بالتأنيث لجريان جمع التكسير مجرى المؤنث ، إلّا أنّ حمزة والكسائي ونافعا قرؤوا (٢) ببنائه للفاعل ، والباقون ببنائه للمفعول ، و «رجع» يستعمل متعديا تارة ، ولازما أخرى ، وقال تعالى : (فَإِنْ رَجَعَكَ اللهُ) [التوبة : ٨٣] ، فجاءت القراءتان على ذلك ، وقد سمع في المتعدي «أرجع» رباعيا ، وهي

__________________

(١) انظر : الشواذ ٢٠ ، والكشاف ١ / ٢٥٤ ، والمحرر الوجيز ١ / ٢٨٤ ، والبحر المحيط ٢ / ١٣٤ ، والدر المصون ١ / ٥١٣.

(٢) وبها قرأ ابن عامر ، وخلف ويعقوب ، ووافقهم ابن محيصن والمطوعي والحسن.

انظر : إتحاف ١ / ٤٣٥ ، وحجة القراءات ١٣٠ ، ١٣١ ، والحجة ٢ / ٣٠٤ ، وشرح شعلة ٢٨٨ ، والعنوان ٧٣.

٤٨٣

لغة ضعيفة ، ولذلك أبت العلماء أن تجعل قراءة من بناه للمفعول مأخوذة منها. وقرأ خارجة (١) عن نافع (٢) : «يرجع» بالتذكير ، وببنائه للمفعول ؛ لأن تأنيثه مجازي ، والفاعل المحذوف في قراءة من بناه للمفعول : إمّا الله تعالى ، أي : يرجعها إلى نفسه بإفناء هذه الدار ، وإمّا ذوو الأمور ؛ لأنه لمّا كانت ذواتهم وأحوالهم شاهدة عليهم بأنهم مربوبون مجزيّون بأعمالهم كانوا رادّين أمورهم إلى خالقها.

قال القفّال ـ رحمه‌الله ـ : في قوله : (تُرْجَعُ الْأُمُورُ) بضم التاء ثلاثة معان :

أحدها : ما ذكرناه ، وهو أنه جلّ جلاله يرجعها إلى نفسه.

والثاني : أنه على مذهب العرب ، من قولهم «فلان يعجب بنفسه» ويقول الرجل لغيره : «إلى أين يذهب بك» ، وإن لم يكن أحد يذهب به.

والثالث : أن ذوات الخلق لما كانت شاهدة عليهم ، بأنهم مخلوقون محاسبون ، كانوا رادّين أمرهم إلى خالقهم ، فقوله (تُرْجَعُ الْأُمُورُ) أي : يردّها العباد إليه ، وإلى حكمه بشهادة أنفسهم ، وهو كقوله (يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) [الجمعة : ١] فإن هذا التسبيح بحسب الحال ، لا بحسب النطق ، وقوله : (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً) [الرعد : ١٥] قيل : المعنى يسجد له المؤمنون طوعا ، ويسجد له الكفّار كرها بشهادة أنفسهم بأنّهم عبيد الله.

فصل في تفسير «الظلل»

«الظّلل» جمع ظلّة ، وهو ما أظلّك الله به «والغمام» هو السّحاب الأبيض الرّقيق ، سمّي غماما ؛ لأنه يغمّ ، أي : يستر.

وقال مجاهد : هو غير السحاب ، ولم يكن إلّا لبني إسرائيل في تيههم (٣).

وقال مقاتل : كهيئة الضّبابة أبيض (٤).

قال الحسن : في سترة من الغمام (٥). والأولى في هذه الآية وما شاكلها أن يؤمن الإنسان بظاهرها ، ويكل علمها إلى الله تعالى ؛ على ذلك مضت أئمة السّلف ، وعلماء السّنّة.

__________________

(١) خارجة بن مصعب أحد أعلام القراءات روى عنه العباس بن الفضل وتوفي سنة ١٦٨ ه‍ ينظر غاية النهاية ١ / ٦٨.

(٢) انظر : الشواذ ١٣ ، والسبعة ١٨١ ، والحجة ٢ / ٣٠٤ ، والبحر المحيط ٢ / ١٣٤ ، والدر المصون ١ / ٥١٤.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٤ / ٢٦٣) عن مجاهد.

(٤) ينظر : تفسير البغوي ١ / ١٨٤.

(٥) ينظر : تفسير البغوي ١ / ١٨٤.

٤٨٤

قال ابن عباس ، في رواية أبي صالح ، والكلبي : هذا من المكتوم الذي لا يفسّر (١) ، وكان مكحول ، والزّهريّ ، والأوزاعيّ ، ومالك ، وابن المبارك ، وسفيان الثّوريّ ، واللّيث بن سعد ، وأحمد ، وإسحاق (٢) يقولون فيه وفي أمثاله : أمرّها كما جاءت بلا كيف.

قال سفيان بن عيينة (٣) : كلّ ما وصف الله به نفسه في كتابه ، فتفسيره : قراءته ، والسكوت عنه ؛ ليس لأحد أن يفسّره إلّا الله ورسوله.

وروي عن ابن عبّاس (٤) أنه قال : نزل القرآن على أربعة أوجه :

وجه لا يعرفه أحد لجهالته ، ووجه يعرفه العلماء ، ووجه نعرفه من قبل العربيّة فقط ، ووجه لا يعلمه إلّا الله.

وقال جمهور المتكلّمين : لا بدّ من التّأويل ، وفيه وجوه :

أحدها : أنّ المرا د «يأتيهم أمر الله» آيات الله. فجعل مجيء الآيات مجيئا له ؛ على التفخيم لشأن الآيات ؛ لأنه قال قبله : (فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ) ثم ذكر هذه الآية في معرض التهديد ، ومعلوم أنه بتقدير أن يصح المجيء على الله تعالى لم يكن مجرد حضوره سببا للتهديد والزّجر ، وإذا ثبت أنّ المقصود من الآية إنّما هو الوعيد والتهديد والزجر ، وجب أن يضمن في الآية مجيء الآيات والقهر والتّهديد ، ومتى أضمرنا ذلك ، زالت الشّبهة بالكلية.

الثاني : أن يأتيهم أمر الله ، كقوله : (إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ) [المائدة : ٣٣] والمراد : يحاربون أولياءه. وقوله : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) [يوسف : ٨٢] والمراد : أهل القرية ، فكذا قوله : (يَأْتِيَهُمُ اللهُ) المراد : يأتيهم أمر الله ، كقوله : (وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا) [الفجر : ٢٢] ، وليس فيه إلّا حذف المضاف ، وإقامة المضاف إليه مقامه ، وهو مجاز مشهور كثير في كلامهم ، تقول : «ضرب الأمير فلانا ، وصلبه ، وأعطاه» وهو إنّما أمر بذلك ، لا أنه تولّى ذلك بنفسه ، ويؤكد هذا قوله في سورة النحل : (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ) [النحل : ٣٣] فصارت هذه الآية مفسرة لتلك الآية ، لأن هذه الآيات لمّا وردت في واقعة واحدة ، لم يبعد حمل بعضها على البعض ، ويؤيّده ـ أيضا ـ قوله بعده : (وَقُضِيَ الْأَمْرُ) والألف واللام للمعهود السّابق ، وهو الأمر الذي أضمرناه.

فإن قيل : أمر الله صفة قديمة ، فالإتيان عليها محال.

وعند المعتزلة : أنه أصوات ، فتكون أعراضا ، فالإتيان عليها ـ أيضا ـ محال.

__________________

(١) ينظر : تفسير البغوي ١ / ١٨٤.

(٢) ينظر : تفسير البغوي ١ / ١٨٤.

(٣) ينظر : تفسير البغوي ١ / ١٨٤.

(٤) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ١٨٢.

٤٨٥

والجواب : أن الأمر في اللغة له معنيان :

أحدهما : الفعل (١) والشّأن والطّريق ؛ قال تعالى : (وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ) [القمر : ٥٠] ، (وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ) [هود : ٩٧] ، وفي المثل : «لأمر ما جدع قصير أنفه» (٢) ، و «لأمر ما يسوّد من يسوّد» ، فيجعل الأمر عبارة عن الفعل ، وهو ما يليق بتلك المواقف من الأهوال ، وهذا هو التّأويل الأول ، وإن حملنا الأمر على ضدّ النهي ، ففيه وجهان :

أحدهما : أن مناديا ينادي يوم القيامة ألا إن الله يأمركم بكذا ، وكذا ، فذاك هو إتيان الأمر.

وقوله : «في ظلل» ، أي : مع ظلل ، والتقدير : أن سماع ذلك النداء ووصول تلك الظلل يكون في زمان واحد.

الثاني : أن يكون المراد من إتيان أمر الله في ظلل حصول أصوات مقطّعة مخصوصة في تلك الغمامات ، تدلّ على حكم الله تعالى على كلّ ما يليق به ؛ من السّعادة ، والشقاوة ، وتكون فائدة الظّلل من الغمام أنه تعالى جعله أمارة لما يريد إنزاله بالقوم ، فعنده يعلمون أنّ الأمر قد حضر وقرب.

الوجه الثالث : أن يأتيهم الله بما وعد من الحساب ، والعذاب ، فحذف ما يأتي به ، تهويلا عليهم ؛ إذ لو ذكر كان أسهل عليهم في باب الوعيد ، وإذا لم يذكر كان أبلغ ؛ لانقسام خواطرهم ، وذهاب فكرهم في كل وجه ، كقوله تعالى : (فَأَتَى اللهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ) [النحل : ٢٦] وقوله : (فَأَتاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا) [الحشر : ٢] أو قوله : (فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ) [النحل : ٢٦] وآتاهم العذاب ، كالتفسير لقوله (فَأَتَى اللهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ) [النحل : ٢٦].

الوجه الرابع : أن تكون «في» بمعنى «الباء» ، وتقديره : هل ينظرون إلّا أن يأتيهم الله بظلل من الغمام ، وحروف الجرّ يقام بعضها مقام بعض.

الوجه الخامس : قال ابن الخطيب (٣) : وهو أوضح عندي من كلّ ما سلف ، وهو أنّا ذكرنا أنّ قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً) نزلت في اليهود ، فعلى هذا قوله : (فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) يكون

__________________

(١) في ب : العقل.

(٢) في المستقصى في أمثال العرب ٢ / ٢٤٠ :

لأمر ما حزّ قصير أنفه : وهو قصير بن سعد آخذ ثأر جذيمة ، قال المتلمس : [الطويل]

ومن حذر الأيام ما حز أنفه

قصير ورام الموت بالسيف بيهس

(٣) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ١٨٤.

٤٨٦

خطابا مع اليهود ، [وحينئذ يكون قوله : (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ) حكاية عن اليهود](١) ، والمعنى : أنهم لا يقبلون دينك حتى يأتيهم الله في ظلل من الغمام ، وذلك لأنهم فعلوا مع موسى عليه الصلاة والسلام مثل ذلك ، فقالوا : (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً) [البقرة : ٥٥].

وإذا كان هذا حكاية عن اليهود ، لم يمتنع إجراء الآية على ظاهرها ؛ لأن اليهود كانوا مشبّهة ، وكانوا يجوّزون على الله تعالى المجيء والذّهاب ، وكانوا يقولون : إنّه تعالى تجلّى لموسى ـ عليه‌السلام ـ على الطّور في ظلل من الغمام ، وطلبوا مثل ذلك في زمن محمد ـ عليه‌السلام ـ وعلى هذا فيكون الكلام حكاية عن معتقد اليهود القائلين بالتشبيه ، فلا يحتاج حينئذ إلى تأويل ، ولا إلى حمل اللفظ على المجاز.

وبالجملة فالآية الكريمة تدلّ على أنّ قوما ينتظرون أن يأتيهم الله ، وليس في الآية دلالة على أنهم محقّون في ذلك الانتظار ، أو مبطلون ؛ فزال ذلك الإشكال.

فإن قيل : فعلى هذا التّأويل ، كيف يتعلق قوله تعالى : (وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ)؟

قلنا : الوجه فيه أنّه تعالى لمّا حكى عنادهم ، وتوقفهم في قبول الدّين على هذا الشرط الفاسد ، ذكر بعده ما يجري مجرى التهديد ، فقال : (وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ).

قال ابن تيميّة : وهذا من أعظم الافتراء على الله ، وعلى كتابه ؛ حيث جعل خطاب الله مع المؤمنين خطابا مع اليهود وهو قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ) أنّ ذلك خطابا مع اليهود ، مع أنّ الله تعالى دائما يفصل في كتابه بين الخطابين ، فيقول للمؤمنين : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) ، ويقول لأولئك : (يا بَنِي إِسْرائِيلَ) ، و (يا أَهْلَ الْكِتابِ) ، فكيف يجعل خطاب المؤمنين الصريح خطابا لليهود فقط؟ وهذا من أعظم تبديل للقرآن.

وأيضا فقوله بعد ذلك : (فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ) لا يقال : إن زللتم لمن هم مقيمون على الكفر والضلال.

وأما قوله في قوله تعالى : (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ) أنه من اعتقاد اليهود الفاسد ، لا من كلام الله تعالى الذي توعّد به عباده ، فهذا افتراء على الله ، وكذب على اليهود ، وأيضا فإنه لم ينقل أحد عنهم أنهم كانوا ينتظرون في زمن محمد ـ عليه‌السلام ـ أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام.

وقد ذكر المفسرون وأهل السّير والمغازي في مخاطبات اليهود الذين كانوا بالحجاز للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع كثرة من كان من اليهود بالحجاز ، وكثرة ما نزل بسببهم من القرآن ، وكذلك ما نقل عنهم أنّهم كانوا يقولون : إنّ الله تجلّى ل «موسى» على الطّور في ظلل من الغمام وهو أمر لم يذكره الله تعالى عنهم على هذا الوجه ، فإن كان هذا حقّا عنهم ، وكانوا

__________________

(١) سقط في ب.

٤٨٧

ينتظرون مثل ذلك ، فيكونون قد جوّزوا أن يكون الله تجلّى لرسول الله كما تجلّى لموسى ، ومعلوم أنّ اليهود لم يقولوا ذلك ، وما ذكره الله تعالى عنهم من طلبهم رؤية الله جهرة ، فهذا حقّ ، ولكن أخبر أنّهم طلبوا الرؤية ولم يخبر أنّهم انتظروها ، والمطلب للشيء معتقد ؛ لأنه يكون لا طالب من غير أن يكون ، وهذا كقوله تعالى : (أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ) [البقرة : ١٠٨].

قوله تعالى : (سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ)(٢١١)

قرأ الجمهور : «سل» وهي تحتمل وجهين :

أحدهما : أن تكون من لغة : سال يسال ، مثل : خاف يخاف ، وهل هذه الألف مبدلة من همزة ، أو واو ، أو ياء؟ خلاف تقدّم في قوله : (فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ) [البقرة : ٦١] فحينئذ يكون الأمر منها : «سل» مثل «خف» لمّا سكنت اللام حملا للأمر على المجزوم ، التقى ساكنان فحذفت العين لذلك ، فوزنه على هذا فل ، وبهذا التقدير قرأ نافع (١) ، وابن عامر «سال سائل» على وزن «قال» ، «وكان».

والثاني : أن تكون من سأل بالهمز.

قال قطرب : سأل يسأل مثل زار الأسد يزأر ، والأصل : اسأل ثم ألقيت حركة الهمزة على السّين ، تخفيفا ، واعتددنا بحركة النقل ، فاستغنينا عن همزة الوصل فحذفناها ، ووزنه أيضا فل بحذف العين ، وإن اختلف المأخذ.

وروى عباس عن أبي عمرو : «اسأل» على الأصل من غير نقل. وقرأ قوم (٢) : «اسل» بالنقل وهمزة الوصل ، كأنّهم لم يعتدّوا بالحركة المنقولة كقولهم : «الحمر» بالهمز.

وقرأ بعضهم «سل بني إسرائيل» بغير همز ، وقرأوا (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) [يوسف : ٨٢] (فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ) [يونس : ٩٤] (وَسْئَلُوا اللهَ مِنْ فَضْلِهِ) [النساء : ٣٢] بالهمز ، وقرأ (٣) الكسائيّ الكلّ بغير همز اتّباعا للمصحف ، فإنّ الألف ساقطة فيها أجمع ، و «بني» مفعول أول عند الجمهور.

وقوله : «كم آتيناهم» في «كم» وجهان :

أحدهما : أنها في محل نصب. واختلف في ذلك فقيل : نصبها على أنها مفعول ثان ل «آتيناهم» على مذهب الجمهور ، وأول على مذهب السّهيلي ، كما تقدّم.

__________________

(١) ستأتي في المعارج.

(٢) انظر : المحرر الوجيز ١ / ٢٨٤ ، البحر المحيط ٢ / ١٣٥ ، والدر المصون ١ / ٥١٤.

(٣) ستأتي.

٤٨٨

وقيل : يجوز أن ينتصب بفعل مقدّر يفسّره الفعل بعدها تقديره : كم آتينا آتيناهم ، وإنما قدرنا ناصبها بعدها ؛ لأنّ الاستفهام له صدر الكلام ، ولا يعمل فيه ما قبله ، قاله ابن عطيّة ، يعني أنه عنده من باب الاشتغال. قال أبو حيّان : وهذا غير جائز إن كان «من آية» تمييزا ؛ لأن الفعل المفسّر لم يعمل في ضمير «كم» ولا في سببيها ، وإذا لم يكن كذلك ، امتنع أن يكون من باب سببيّه.

ونظير ما أجازه أن تقول : «زيدا ضربت» ويكون من باب الاشتغال ، وهذا ما لا يجيزه أحد.

فإن قلنا إنّ تمييزها محذوف ، وأطلقت «كم» على القوم ، جاز ذلك ؛ لأنّ في جملة الاشتغال ضمير الأول ؛ لأنّ التقدير : «كم من قوم آتيناهم» قال شهاب الدّين : وهذا الذي قاله الشيخ من كونه لا يتمشّى على كون «من آية» تمييزا قد صرّح به ابن عطيّة فإنه قال : «وقوله : «من آية» هو على التقدير الأول ، مفعول ثان لآتيناهم ، وعلى الثاني في موضع التمييز» يعني بالأول نصبها على الاشتغال ، وبالثاني نصبها بما بعدها.

والوجه الثاني : أن تكون «كم» في محلّ رفع بالابتداء ، والجملة بعدها في محلّ رفع خبرا لها ، والعائد محذوف تقديره : كم آتيناهموها ، أو آتيناهم إيّاها ، أجازه ابن عطيّة وأبو البقاء (١) ، واستضعفه أبو حيّان من حيث إن حذف عائد المبتدأ المنصوب لا يجوز إلّا في ضرورة ، كقوله : [السريع]

١٠٣١ ـ وخالد يحمد ساداتنا

بالحقّ لا يحمد بالباطل (٢)

أي : وخالد يحمده. وهذا نقل بعضهم ، ونقل ابن مالك ، أنّ المبتدأ إذا كان لفظ «كلّ» ، أو ما أشبهها في الافتقار والعموم جاز حذف عائده المنصوب اتفاقا من البصريّين والكوفيّين ، ومنه : (وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى) [النساء : ٩٥] في قراءة (٣) نافع ، وإذا كان المبتدأ غير ذلك ، فالكوفيّون يمنعون ذلك إلا في السّعة ، والبصريّون يجيزونه بضعف ، ومنه : (أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ) [المائدة : ٥٠] برفع «حكم». فقد حصل أنّ الذي أجازه ابن عطية ممنوع عند الكوفيين ، ضعيف عند البصريين.

وهل «كم» هذه استفهامية ، أو خبرية؟ الظاهر الأول ، وأجاز الزمخشريّ فيها الوجهين ، ومنعه أبو حيّان من حيث إن «كم» الخبرية مستقلة بنفسها ، غير متعلقة بالسؤال ، فتكون مفلتة ممّا قبلها ، والمعنى يؤدي إلى انصباب السؤال عليها ، وأيضا فيحتاج إلى حذف المفعول الثاني للسؤال ، تقديره : سل بني إسرائيل عن الآيات التي

__________________

(١) ينظر : الإملاء لأبي البقاء ١ / ٩٠.

(٢) تقدم برقم ٧٤٤.

(٣) ستأتي في النساء ٩٥.

٤٨٩

آتيناهم ، ثم قال : كثيرا من الآيات التي آتيناهم ، والاستفهامية لا تحتاج إلى ذلك.

و «من آية» فيه وجهان :

أحدهما : أنها مفعول ثان على القول بأنّ «كم» منصوبة على الاشتغال ؛ كما تقدّم ، ويكون مميّز «كم» محذوفا ، و «من» زائدة في المفعول ؛ لأنّ الكلام غير موجب ، إذ هو استفهام ، وهذا إذا قلنا إنّ «كم» استفهامية لا خبرية ؛ إذ الكلام مع الخبرية إيجاب ، و «من» لا تزاد في الواجب إلّا على رأي الأخفش ، والكوفيّين ، بخلاف ما إذا كانت استفهامية. قال أبو حيّان : فيمكن أن يجوز ذلك فيه لانسحاب الاستفهام على ما بعده وفيه بعد ، لأنّ متعلّق الاستفهام هو المفعول الأول لا الثاني ، فلو قلت : «كم من درهم أعطيته من رجل» على زيادة «من» في «رجل» لكان فيه نظر» انتهى.

والثاني : أنها تمييز ، ويجوز دخول «من» على مميّز «كم» استفهامية كانت أو خبرية مطلقا ، أي : سواء وليها مميّزها ، أم فصل بينهما بجملة ، أو ظرف أو جارّ ومجرور ، على ما قرّره النحاة. و «كم» وما في حيّزها في محلّ نصب أو خفض ، لأنها في محل المفعول الثاني للسؤال فإنّه يتعدّى لاثنين : إلى الأوّل بنفسه وإلى الثّاني بحرف جرّ : إمّا عن ، وإمّا الباء ؛ نحو : سألته عن كذا وبكذا ؛ قال تعالى : (فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً) [الفرقان : ٥٩] ، وقد جمع بينهما في قوله: [الطويل]

١٠٣٢ ـ فأصبحن لا يسألنني عن بما به

 ..........(١)

وقد يحذف حرف الجرّ ، فمن ثمّ جاز في محلّ «كم» النصب ، والخفض بحسب التقديرين ، و «كم» هنا معلقة للسؤال ، والسؤال لا يعلّق إلا بالاستفهام ؛ كهذه الآية ، وقوله تعالى : (سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ) [القلم : ٤٠] ، وقوله : [الطويل]

١٠٣٣ ـ يا أيّها الرّاكب المزجي مطيّته

سائل بني أسد ما هذه الصّوت (٢)

وقال آخر : [البسيط]

__________________

(١) صدر بيت للأسود بين يعفر وعجزه :

أصعد في علو الهوى أم تصويا

ينظر : ديوانه ص ٢١ ، المغني ٢ / ٣٥٤ ، الأشموني ٣ / ٨٣ ، أوضح المسالك ٢ / ٨٩ ، التصريح ١٢ ، ١٣٠ ، اللسان : صعد وخزانة الأدب ٩ / ٥٢٧ ، ٥٢٨ ، ٥٢٩ ، وهمع الهوامع ٢ / ٢٢ ، ٣٠ ، ٧٨ ، ١٥٨ ، والبحر ٢ / ١٣٦ ، والدر المصون ١ / ٥١٦.

(٢) البيت لرويشد الطائي ينظر : شرح الحماسة ١ / ١٠٢ ، المفصل لابن يعيش ٥ / ٩٥ ، الخصائص ٢ / ٤١٦ ، الدرر ٢ / ٢١٦ ، الإنصاف ٢ / ٧٧٣ ، الهمع ٢ / ١٥٧ ، وسر صناعة الإعراب ص ١١ ، واللسان (صوت) ، والأشباه والنظائر ٢ / ١٠٣ ، ٥ / ٢٣٧ ، وتخليص الشواهد ص ١٤٨ ، وخزانة الأدب ٤ / ٢٢١ ، والدر المصون ١ / ٥١٦.

٤٩٠

١٠٣٤ ـ ..........

واسأل بمصقلة البكريّ ما فعلا (١)

وإنما علّق السؤال ، وإن لم يكن من أفعال القلوب ؛ قالوا : لأنه سبب للعلم ، والعلم يعلّق ، فكذلك سببه ، وإذا كانوا قد أجروا نقيضه في التعليق مجراه في قوله : [الطويل]

١٠٣٥ ـ ومن أنتم إنّا نسينا من أنتم

وريحكم من أيّ ريح الأعاصر (٢)

فإجراؤهم سببه مجراه أولى.

واختلف النحاة في «كم» : هل بسيطة ، أو مركبة من كاف التّشبيه وما الاستفهامية ، حذفت ألفها ؛ لانجرارها ، ثم سكنت ميمها ، كما سكّنت ميم «لم» من «لم فعلت كذا» في بعض اللغات ، فركّبتا تركيبا لازما؟ والصحيح الأول. وأكثر ما تجيء في القرآن خبريّة مرادا بها التكثير ، ولم يأت مميّزها في القرآن إلا مجرورا بمن.

قال أبو مسلم : في الآية حذف ، والتّقدير : كم آتيناهم من آية بيّنة ، وكفروا بها ، ويدلّ على هذا الإضمار قوله : (وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللهِ).

فصل

اعلم أنّه ليس المقصود اسأل بني إسرائيل ليخبروك عن تلك الآيات لتعلمها ؛ لأنه ـ عليه‌السلام ـ كان عالما بها بإعلام الله له ، وإنما المقصود المبالغة في الزّجر عن الإعراض عن دلائل الله تعالى ، فهو سؤال على جهة التّقريع والتّوبيخ ؛ لأنه أمر بالإسلام ، ونهى عن الكفر بقوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ) [البقرة : ٢٠٨] ثم قال : (فَإِنْ زَلَلْتُمْ) [البقرة : ٢٠٩] أي : أعرضتم عن هذا التكليف صرتم مستحقين للتهديد ، بقوله : (فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [البقرة : ٢٠٩] ، ثم هدّدهم بقوله : (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ) [البقرة : ٢١٠] ، ثم ثلّث التهديد بقوله : (سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ) يعني هؤلاء الحاضرين كم آتينا أسلافهم آيات بينات فأنكروها ، فلا جرم استوجبوا العقاب ، وهذا تنبيه لهؤلاء الحاضرين على أنهم لو زلّوا عن آيات الله ، لوقعوا في العذاب.

وفي المراد ب «الآية البيّنة» قولان :

__________________

(١) عجز بيت للأخطل وصدره :

دع المغمر لا تسأل بمصرعه

ينظر : ديوانه (١٥٧) ، الكتاب ٢ / ٢٩٩ ، وأدب الكاتب ص ٥٠٩ ، واللسان (صقل) وخزانة الأدب ٩ / ١٣٠ ، والمعاني ص ١٢٠٨ ، والدر المصون ١ / ٥١٦.

(٢) تقدم برقم ٤٥٢.

٤٩١

أحدهما : معجزات موسى ـ عليه‌السلام ـ كما تقدّم نحو : فلق البحر ، وتظليل الغمام ، وإنزال المن والسلوى ، ونتق الجبل ، وتكليم الله تعالى موسى ـ عليه‌السلام ـ ، والعصا ، واليد البيضاء ، وإنزال التوراة ، وبيّن لهم الهدى من الكفر.

وقيل : المراد بالآية الحجّة ، والدلالة التي آتاهم ، التوراة ، والإنجيل على نبوة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصدقه ، وصحّة شريعته.

قوله : (وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللهِ) «من» شرطية في محلّ رفع بالابتداء ، وقد تقدّم الخلاف في خبر اسم الشرط ما هو؟ ولا بدّ للتبديل من مفعولين : مبدّل وبدل ، ولم يذكر هنا إلّا أحدهما وهو المبدّل ، وحذف البدل ، وهو المفعول الثاني ؛ لفهم المعنى ، وقد صرّح به في قوله : (بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْراً) [إبراهيم ٢٨] فكفرا هو المحذوف هنا. وقد تقدّم عند قوله تعالى : (فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا) [البقرة : ١٥٩] أن «بدّل» يتعدّى لاثنين : أحدهما بنفسه ، وهو البدل ، وهو الذي يكون موجودا ، وإلى الآخر بحرف الجر ، وهو المبدّل ، وهو الذي يكون متروكا ، وقد يحذف حرف الجرّ لفهم المعنى ، فالتقدير هنا : «ومن يبدّل بنعمته كفرا» ، فحذف حرف الجر والبدل لفهم المعنى. ولا جائز أن تقدّر حرف الجر داخلا على «كفرا» فيكون التقدير : «ومن يبدّل بالكفر نعمة الله» ؛ لأنه لا يترتّب عليه الوعيد في قوله : (فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ). وكذلك قوله تعالى : (فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ) [الفرقان : ٧٠] تقديره : بسيئاتهم حسنات ، ولا يجوز تقديره : «سيّئاتهم بحسنات» ؛ لأنه لا يترتّب على قوله : (إِلَّا مَنْ تابَ).

وقرىء (١) : «يبدل» مخففا ، و «من» لابتداء الغاية. و «ما» مصدرية ، والعائد من جملة الجزاء على اسم الشرط محذوف ؛ لفهم المعنى ، أي : شديد العقاب له ، أو لأنّ «أل» نابت منابه عند الكوفيين.

قال القرطبيّ (٢) : وهذا اللفظ عامّ لجميع المكلّفين ، وإن كان المشار إليه بني إسرائيل لكونهم بدّلوا ما في كتبهم ، وجحدوا أمر محمد ـ عليه‌السلام ـ ، فاللّفظ مستحب على كلّ مبدّل نعمة الله تعالى.

فصل

فالنّعمة هاهنا إيتاء الآيات والدلائل ؛ لأنها أعظم نعم الله ، فإنها أسباب الهدى والنّجاة من الضّلالة ، وعلى هذا ففي تبديلهم إيّاها وجهان :

فمن قال : المراد بالآيات ما في التوراة والإنجيل من دلائل معجزات موسى ـ عليه

__________________

(١) انظر الشواذ ، والبحر المحيط ٢ / ١٣٦ ، والدر المصون ١ / ٥١٧.

(٢) ينظر : تفسير القرطبي ٣ / ٢٠.

٤٩٢

الصلاة والسلام ـ قال : تبديلها أنّ الله تعالى لمّا أظهرها لتكون أسبابا لضلالهم ، فجعلوها أسبابا لضلالهم ، كقوله : (فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ) [التوبة : ١٢٥].

ومن قال : المراد بالآيات ما في التّوراة والإنجيل من دلائل نبوّة محمّد ـ عليه‌السلام ـ قال : تبديلها تحريفها ، وإدخال الشّبهة فيها.

والقول الثاني : أنّ النعمة هي ما آتاهم الله من الصّحّة ، والأمن ، والكفاية ، فتركوا القيام بما وجب عليهم من العلم بتلك الآيات.

وقوله : (مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ) ، أي : من بعد التمكّن من معرفتها ، أو من بعدما عرفها ؛ كقوله : (ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) [البقرة : ٧٥] إن فسرنا النعمة بالقول الأول ، وإن فسرنا النعمة بالصحة والأمن ، فلا شك أن عند حصولها يجب الشكر ، ويقبح الكفر ، فلهذا قال : (فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ).

وقال الطّبريّ : النعمة هنا الإسلام.

وقال الواحديّ (١) ـ رحمه‌الله ـ : وفيه إضمار والمعنى شديد العقاب له.

قال عبد القاهر النّحويّ في كتاب «دلائل الإعجاز» : إنّ ترك هذا الإضمار أولى ؛ لأنّ المقصود من الآية التخويف بكونه في ذاته موصوفا بأنه شديد العقاب لهذا أو لذاك ، ثم قال الواحديّ (٢) : والعقاب عذاب يعقب الجرم.

قال القرطبيّ : مأخوذ من العقب ، كأنّ المعاقب يمشي بالمجازاة له في آثار عقبه ، ومنه عقبة الراكب [وعقبة القدر].

قوله تعالي : (زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَاللهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ)(٢١٢)

قوله تعالى : (زُيِّنَ:) إنّما لم تلحق الفعل علامة تأنيث لوجوه :

أحدها : قال الفرّاء (٣) : لأنّ الحياة والإحياء واحد ، فإن أنث ، فعلى اللّفظ ، وبها قرأ (٤) ابن أبي عبلة ، وإن ذكّر ، فعلى المعنى ؛ كقوله : (فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ) [البقرة : ٢٧٥] (وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ) [هود : ٦٧].

__________________

(١) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٦ / ٤ ـ ٥.

(٢) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٦ / ٥.

(٣) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٦ / ٥.

(٤) قرأ ابن أبي عبلة : «زيّنت».

انظر : الشواذ ١٣ ، والمحرر الوجيز ١ / ٢٨٤ ، والبحر المحيط ٢ / ١٣٨ ، والدر المصون ١ / ٥١٧.

٤٩٣

وثانيها : قال الزّجّاج (١) : إنّ تأنيث الحياة ليس بحقيقي ؛ لأنّ معنى الحياة والعيش والبقاء واحد ، فكأنه قال : «زيّن للّذين كفروا البقاء».

وثالثها : قال ابن الأنباري (٢) : إنما لم يقل زيّنت ؛ لأنه فصل بين «زيّن» وبين الحياة الدنيا بقوله : «للذين كفروا» ، وإذا فصل بين فعل المؤنث ، وبين الاسم بفاصل حسن تذكير الفعل ؛ لأنّ الفاصل يغني عن تاء التأنيث ، وقرأ مجاهد وأبو حيوة : «زيّن» مبنيا للفاعل ، و «الحياة» مفعول ، والفاعل هو الله تعالى عند الأكثرين ، وعند الزجاج والمعتزلة يقولون : إنه الشيطان.

وقوله : «يسخرون» يحتمل أن يكون من باب عطف الجملة الفعلية على الجملة الفعلية ، لا من باب عطف الفعل وحده على فعل آخر ، فيكون من عطف المفردات ؛ لعدم اتّحاد الزمان.

ويحتمل أن يكون «يسخرون» خبر مبتدأ محذوف ، أي : وهم يسخرون ، فيكون مستأنفا ، وهو من عطف الجملة الاسمية على الفعلية. وجيء بقوله : «زيّن» ماضيا ؛ دلالة على أنّ ذلك قد وقع ، وفرغ منه ، وبقوله : «ويسخرون» مضارعا ؛ دلالة على التّجدّد ، والحدوث.

قوله : (وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ) مبتدأ وخبر ، و «فوق» هنا تحتمل وجهين :

أحدهما : أن تكون ظرف مكان على حقيقتها ؛ لأنّ المتقين في أعلى علّيّين ، والكافرين في أسفل السّافلين.

والثاني : أن تكون الفوقية مجازا : إمّا بالنسبة إلى نعيم المؤمنين في الآخرة ، ونعيم الكافرين في الدنيا. وإمّا أنّ حجة المؤمنين في القيامة فوق حجّة الكافرين ، وإمّا أن سخرية المؤمنين لهم في الآخرة ، فوق سخرية الكفار لهم في الدنيا.

و «يوم» منصوب بالاستقرار الذي تعلّق به «فوقهم» وقوله : (مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا) ثم قال : (وَالَّذِينَ اتَّقَوْا) لتبيين أنّ السعادة الكبرى لا تحصل إلّا للمؤمن التّقيّ.

فصل

قال ابن عبّاس (٣) : نزلت في كفّار قريش ، كانوا يسخرون من فقراء المسلمين كعبد الله بن مسعود ، وعمّار ، وخبّاب ، وسالم مولى أبي حذيفة ، وعامر بن فهيرة ، وأبي عبيدة بن الجرّاح ، وصهيب ، وبلال ، بسبب ما كانوا فيه من الفقر ، والصّبر على أنواع البلاء ، مع ما كان الكفّار فيه من النّعيم ، والرّاحة ، وبسط الرّزق.

__________________

(١) ينظر : الرازي ٦ / ٥.

(٢) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٦ / ٥.

(٣) تقدم.

٤٩٤

وقال عطاء (١) : نزلت في رؤساء اليهود ، وعلمائهم ، من بني قريظة ، والنّضير ، وبني قينقاع ؛ سخروا من فقر المسلمين المهاجرين حيث أخرجوا من ديارهم ، وأموالهم ، فوعدهم الله أن يعطيهم أموال بني قريظة والنّضير بغير قتال.

وقال مقاتل : نزلت في المنافقين كعبد الله بن أبيّ ، وأصحابه ؛ كانوا يتنعّمون في الدّنيا ، ويسخرون من ضعفاء المسلمين ، وفقراء المهاجرين ، ويقولون : انظروا إلى هؤلاء الذين يزعم محمد أنه يغلب بهم (٢).

قال ابن الخطيب (٣) : ولا مانع من نزولها في جميعهم.

روى أسامة بن زيد قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «وقفت على باب الجنّة ، فرأيت أكثر أهلها المساكين ، ووقفت على باب النّار ، فرأيت أكثر أهلها النّساء ، وإنّ أهل الجدّ محبوسون إلّا من كان منهم من أهل النّار ، فقد أمر به إلى النّار» (٤).

وروى سهل بن سعد السّاعديّ ، قال : مرّ رجل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال لرجل عنده جالس : «ما رأيك في هذا» فقال هذا رجل من أشراف النّاس ، هذا والله حريّ إن خطب أن ينكح ، وإن شفع أن يشفّع ، قال : فسكت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم مرّ رجل ، فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما رأيك في هذا»؟ فقال : يا رسول الله ، هذا من فقراء المسلمين ، هذا حريّ إن خطب ألّا ينكح وإن شفع ألا يشفّع ، وإن قال لا يسمع لقوله. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «هذا خير من ملء الأرض مثل هذا» (٥).

وروي عن عليّ ؛ أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من استذلّ مؤمنا أو مؤمنة ، أو حقّره لفقره وقلّة ذات يده ، شهره الله يوم القيامة ، ثم فضحه ، ومن بهت مؤمنا أو مؤمنة ، أو قال فيه ما ليس فيه أقامه الله تعالى في تلّ من نار يوم القيامة ؛ حتّى يخرج ممّا قال فيه ...» (٦).

فصل

قال الجبّانيّ (٧) : المزيّن هم غواة الجن ، والإنس ؛ زينوا للكفار الحرص على الدّنيا ، وقبّحوا أمر الآخرة.

__________________

(١) ينظر : تفسير البغوي ١ / ١٨٥.

(٢) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٦ / ٥ ، وتفسير البغوي ١ / ١٨٥.

(٣) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٦ / ٥.

(٤) أخرجه عبد الرزاق (٢٠٦١١) وابن قانع كما في كنز العمال (٦ / ٤٨٦) رقم (١٦٦٦٢) عن أسامة بن زيد.

(٥) أخرجه البخاري (٧ / ١٢) كتاب النكاح باب (الأكفاء في الدين) رقم (٥٠٩١) و (٨ / ١٧١) كتاب الرقاق باب فضل الفقر رقم (٦٤٤٧).

(٦) ذكره ابن عراق في تنزيه الشريعة (٢ / ٣١٦) وعزاه إلى ابن لال في (مكارم الأخلاق) من حديث علي وحكم عليه بالوضع.

(٧) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٦ / ٦.

٤٩٥

قال : وأمّا قول المجبّرة : إنّ الله تعالى زيّن ذلك فهو باطل ، لأنّ المزيّن للشيء كالمخبر على حسنه ، فإن كان صادقا ، فيكون ما زينه حسنا ، ويكون فاعله مصيبا ، وذلك يوجب أنّ الكفار مصيب في كفره ، وهذا القول كفر ، وإن كان كاذبا في ذلك التزيين ، فيؤدي إلى أن لا يوثق بخبره ، وهذا ـ أيضا ـ كفر ، فثبت أنّ المزيّن هو الشيطان.

قال ابن الخطيب (١) : وهذا ضعيف ، لأنّ قوله : (زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا) يتناول جميع الكفّار ، وهذا يقتضي أن يكون لجميع الكفار مزيّن ، فلا بدّ وأن يكون ذلك المزيّن مغايرا لهم ؛ لأنّ غواة الجنّ والإنس داخلون في الكفار أيضا ، إلّا أن يقال : إن كلّ واحد يزيّن للآخر فيصير دورا ، فثبت ضعف هذا التأويل.

وأمّا قوله : «المزيّن للشّيء كالمخبر عن حسنه» فهذا ممنوع ، بل المزين من يجعل الشيء موصوفا بالزينة ، ثم لئن سلّمنا أنّ المزين للشيء هو المخبر عن حسنه ، بمعنى أنه أخبر عمّا فيها من اللّذّات والراحات ، وذلك الإخبار ليس بكذب ، وتصديقه ليس بكفر.

وقال أبو مسلم (٢) : يحتمل أنهم زيّنوا لأنفسهم والعرب يقولون لمن يبعد منهم : أين يذهب بك؟ لا يريدون أنّ ذاهبا ذهب به ، وهو معنى قوله تعالى في الآي الكثيرة : (أَنَّى يُؤْفَكُونَ) [المائدة : ٧٥] ، (أَنَّى يُصْرَفُونَ) [غافر : ٦٩] إلى غير ذلك ، وأكّده بقوله : (لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ) [المنافقون : ٩] وأضاف ذلك إليهما ؛ لمّا كان كالسبب ولمّا كان الشيطان لا يملك أن يحمل الإنسان على الفعل قهرا ، فالإنسان في الحقيقة هو الذي زيّن لنفسه.

قال ابن الخطيب (٣) : وهذا ضعيف ؛ لأنّ قوله : «زيّن للنّاس» يقتضي أنّ مزيّنا زينه ، والعدول عن الحقيقة إلى المجاز غير ممكن.

التأويل الثالث : أنّ المزيّن هو الله تعالى ، ويدلّ عليه وجهان :

أحدهما : قراءة من قرأ «زيّن» مبنيّا للفاعل.

والثاني : قوله تعالى : (إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) [الكهف : ٧] والقائلون بهذا ذكروا وجوها :

الأول : أنّ هذا التزيين بما أظهره لهم في الدنيا من الزّهرة والنضارة ، والطّيب ، واللّذّة ؛ ابتلاء لعباده ؛ كقوله : (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ) إلى قوله : (قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ) [آل عمران : ١٤ ، ١٥].

وقال : (الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا) [الكهف : ٤٦] ثم قال : (وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلاً) [الكهف : ٤٦] فهذه الآيات متوافقة ، والمعنى: أنّ

__________________

(١) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٦ / ٦.

(٢) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٦ / ٦.

(٣) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٦ / ٦.

٤٩٦

الله تعالى جعل الدّنيا دار بلاء وامتحان ، وركّب في الطّباع الميل إلى اللذات ، وحبّ الشهوات ، لا على سبيل الإلجاء الذي لا يمكن تركه ، بل على سبيل التحبيب الذي تميل إليه النفس مع إمكان ردّها عنه ؛ ليتمّ بذلك الامتحان ، وليجاهد المؤمن هواه ، فيقبض نفسه عن المباح ، ويكفّها عن الحرام.

الثاني : أنّ المراد ب «التّزيين» أنه أمهلهم في الدنيا ، ولم يمنعهم عن الإقبال عليها ، والحرص في طلبها ، فهذا الإمهال هو المسمى ب «التزيين».

الثالث : أنّه زيّن لهم المباحات دون المحظورات ، وعلى هذا سقط الإشكال ، إلّا أنّ هذا ضعيف (١) ؛ لأن الله تعالى خصّ الكفّار ، وأيضا فإنّ المؤمن إذا تمتع بالمباحات ، وكثرة ماله ، يكون متعته مع الخوف من الحساب في الآخرة فعيشه مكدّر منغّص وأكبر غرضه أجر الآخرة ، إنما يعدّ الدنيا كالوسيلة إليها ، ولا كذلك الكافر ، فإنّه وإن قلّت ذات يده ، فسروره بها يغلب على قلبه لاعتقاده أنها المقصود دون غيرها.

وأيضا ، فإنّه تعالى أتبع الآية بقوله : (وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا) وذلك يشعر بأنهم كانوا يسخرون منهم في ترك اللّذات المحظورة ، وتحملهم المشاقّ الواجبة ، فدلّ ذلك على أنّ التزيين لم يكن في المباحات.

قال ابن الخطيب (٢) : ويتوجّه على المعتزلة سؤال ، وهو أنّ حصول هذه الزينة في قلوب الكفّار لا بدّ له من محدث ، وإلا فقد وقع المحدث ، لا عن مؤثر فهذا محال ، ثم هذا التزيين الحاصل في قلوب الكفار إمّا أن يكون قد رجّح جانب الكفر والمعصية على جانب الإيمان والطاعة ، فقد زال الاختيار ، لأنّ حال الاستواء لمّا امتنع حصول الرّجحان ، فحال صيرورة أحد الطرفين مرجوحا أولى بامتناع الوقوع ، وإذا صار المرجوح ممتنع الوقوع ، صار الراجح واجب الوقوع ضرورة أنّه لا خروج عن النقيضين ، فهذا توجيه السؤال ، وهو لا يدفع بالوجوه التي ذكرها المعتزلة ، فأمّا أصحابنا فإنهم حملوا التزيين على أنّ الله تعالى خلق في قلبه إرادة تلك الأشياء ، بل خلق تلك الأفعال ، والأقوال.

قوله تعالى : (وَاللهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ) مفعول «يشاء» محذوف ، أي : من يشاء أن يرزقه. و «بغير حساب» هذا الجارّ فيه وجهان :

أحدهما : أنه زائد.

والثاني : أنه غير زائد ، فعلى الأول لا تعلّق له بشيء ، وعلى الثاني هو متعلّق بمحذوف. فأما وجه الزيادة : فهو أنه تقدّمه ثلاثة أشياء في قوله : (وَاللهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ) الفعل والفاعل والمفعول ، وهو صالح لأن يتعلّق من جهة المعنى بكلّ واحد منها ، فإذا

__________________

(١) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٦ / ٧.

(٢) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٦ / ٧.

٤٩٧

تعلّق بالفعل كان من صفات الأفعال ، تقديره : والله يرزق رزقا غير حساب ، أي : غير ذي حساب ، أي : أنه لا يحسب ولا يحصى لكثرته ، فيكون في محلّ نصب على أنه نعت لمصدر محذوف ، والباء زائدة.

وإذا تعلّق بالفاعل ، كان من صفات الفاعلين ، والتقدير : والله يرزق غير محاسب بل متفضلا ، أو غير حاسب ، أي : عاد. ف «حساب» واقع موقع اسم فاعل من حاسب ، أو من حسب ، ويجوز أن يكون المصدر [واقعا موقع اسم مفعول من حاسب ، أي : الله يرزق غير محاسب] أي : لا يحاسبه أحد على ما يعطي ، فيكون المصدر في محلّ نصب على الحال من الفاعل ، والباء فيه مزيدة.

وإذا تعلّق بالمفعول ، كان من صفاته أيضا ، والتقدير : والله يرزق من يشاء غير محاسب ، أو غير محسوب عليه ، أي : معدود عليه ، أي : إنّ المرزوق لا يحاسبه أحد ، أو لا يحسب عليه ، أي : لا يعدّ. فيكون المصدر أيضا واقعا موقع اسم مفعول من حاسب أو حسب ، أو يكون على حذف مضاف ، أي : غير ذي حساب ، أي : محاسبة ، فالمصدر واقع موقع الحال والباء ـ أيضا ـ زائدة فيه ، ويحتمل في هذا الوجه أن يكون المعنى أنه يرزق من حيث لا يحتسب ، أي : من حيث لا يظنّ أن يأتيه الرزق ، والتقدير : يرزقه غير محتسب ذلك ، أي : غير ظانّ له ، فهو حال أيضا ، ومثله في المعنى (وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) [الطلاق : ٣]. وكون الباء تزاد في الحال ذكروا لذلك شرطا ـ على خلاف في جواز ذلك في الأصل ـ وهو أن تكون الحال منفيّة ، كقوله : [الوافر]

١٠٣٦ ـ فما رجعت بخائبة ركاب

حكيم بن المسيّب منتهاها (١)

وهذه الحال ـ كما رأيت ـ غير منفية ، فالمنع من الزيادة فيها أولى.

وأمّا وجه عدم الزيادة ، فهو أن تجعل الباء للحال والمصاحبة ، وصلاحية وصف الأشياء الثلاثة ـ أعني الفعل ، والفاعل ، والمفعول ـ بقوله : «بغير حساب» باقية أيضا ، كما تقدّم في القول بزيادتها.

والمراد بالمصدر المحاسبة ، أو العدّ والإحصاء ، أي : يرزق من يشاء ، ولا حساب على الرزق ، أو ولا حساب للرازق ، أو ولا حساب على المرزوق ، وهذا أولى ؛ لما فيه من عدم الزيادة ، التي الأصل عدمها ، ولما فيه من تبعيّة المصدر على حاله ، غير واقع موقع اسم فاعل ، أو اسم مفعول ، ولما فيه من عدم تقدير مضاف بعد «غير» أي : غير ذي حساب. فإذا هذا الجارّ ، والمجرور متعلّق بمحذوف ؛ لوقوعه حالا من أيّ الثلاثة المتقدّمة شئت ؛ كما تقدّم تقريره ، أي : ملتبسا بغير حساب.

__________________

(١) تقدم برقم ١٥.

٤٩٨

فصل

يحتمل أن يكون المراد منه : ما يعطي في الدنيا لعبيده المؤمنين والكافرين ، ويحتمل أن يكون المراد منه : رزق الآخرة ، فإن حملناه على رزق الآخرة ، كان مختصا بالمؤمنين ، وهو من وجوه :

أحدها : أنّ الله يرزقهم بغير حساب ، أي : رزقا واسعا رغدا لا فناء له ؛ لأنّ كلّ ما دخل تحت الحساب ، فهو متناه.

وثانيها : أن المنافع الواصلة إليهم في الجنة بعضها ثواب ، وبعضها تفضل ؛ كما قال : (فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) [النساء : ١٧٣] فالفضل منه بلا حساب.

وثالثها : أنه لا يخاف نفادها عنده ؛ فيحتاج إلى حساب ما يخرج منه ؛ لأن المعطي إنّما يحاسب ، ليعلم مقدار ما يعطى وما يبقى كي لا يتجاوز في عطاياه إلى ما لا يجحف به ، والله عالم غني ، لا نهاية لمقدوراته.

ورابعها : «بغير حساب» ، أي : بغير استحقاق ؛ يقال : لفلان على فلان حساب ؛ إذا كان له عليه حق ، وهذا يدلّ على أنّه لا يستحق أحد عليه شيئا ، وليس لأحد معه حساب ، بل كلّ ما أعطاه ، فهو مجرّد فضل وإحسان ، لا بسبب استحقاق.

وخامسها : «بغير حساب» ، أي : يعطي زائدا على الكفاية ؛ يقال : فلان ينفق بغير حساب ، أي : يعطي كثيرا ؛ لأن ما دخله الحساب فهو قليل.

وهذه الوجوه كلّها محتملة ، وعطايا الله بها منتظمة ، فيجوز أن يكون الكلّ مرادا والله أعلم.

فإن قيل : قد قال الله ـ تعالى ـ في صفة المتقين ، وما يصل إليهم : (عَطاءً حِساباً) [النبأ : ٣٦] على المستحقّ بحسب الوعد ؛ كما هو قولنا ، وبحسب الاستحقاق ؛ كما هو قول المعتزلة ، فالسؤال : وهذا كالمناقض لهذه الآية.

فالجواب : من حمل قوله : «بغير حساب» على التفضّل ، وحمل قوله : «عطاء حسابا» على المستحق بحسب الوعد ، كما هو قولنا ، وبحسب الاستحقاق ، كما هو قول المعتزلة ، فالسؤال زائل ، ومن حمل قوله : «بغير حساب» على سائر الوجوه ، فله أن يقول : إن ذلك العطاء إذا كان يتشابه في الأوقات ، فصحّ من هذا الوجه أن يوصف بكونه : «عطاء حسابا» فلا تناقض ، وإن حملناه على أرزاق الدنيا ، ففيه وجوه :

أحدها ، وهو أليق بنظم الآية : أنّ الكفار كان يسخرون من فقراء المسلمين ؛ لأنهم كانوا يستدلّون بحصول السعادات الدنيوية ، على أنهم على الحقّ ، وبحرمان فقراء المسلمين على أنهم على الباطل ؛ فأبطل تعالى استدلالهم بقوله : (وَاللهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ) يعني : يعطي في الدنيا من يشاء من غير أن يكون ذلك منبئا عن كون

٤٩٩

المعطى محقّا أو مبطلا ، بل بمحض المشيئة ؛ كما وسّع على قارون وضيّق على أيّوب ـ عليه‌السلام ـ فقد يوسّع على الكافر ، ويضيق على المؤمن ؛ ابتلاء وامتحانا ؛ كما قال : (وَلَوْ لا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ) [الزخرف : ٣٣].

وثانيها : أنّ الله يرزق من يشاء في الدنيا : من كافر ، ومؤمن بغير حساب يكون لأحد عليه ولا مطالبة ، ولا تبعة (١) ، ولا سؤال سائل.

والمقصود منه : ألّا يقول الكافر : إنّ المؤمن على الحق فلم لم يوسّع عليه في الدنيا؟ وألّا يقول المؤمن : لو كان الكافر مبطلا ، فلم يوسّع عليه في الدنيا؟ بل الاعتراض ساقط ؛ و (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ) [الأنبياء : ٢٣].

وثالثها : بغير حساب أي : من حيث لا يحتسب ؛ كما يقول من جاءه ما لم يكن في قلبه : لم يكن هذا حسابي.

قال القفّال (٢) ـ رحمه‌الله ـ : وقد فعل ذلك بهم ، فأغناهم بما أفاء عليهم من أموال صناديد قريش ورؤساء اليهود ، وبما فتح على رسوله ، بعد وفاته على أيدي أصحابه ، حتى ملكوا كنوز كسرى ، وقيصر.

قوله تعالى : (كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ)(٢١٣)

وجه النظم أنه لما بيّن أن سبب إصرار الكفّار على كفرهم ، هو حبّ الدنيا بين في هذه الآية أن هذا المعنى غير مختص بهذا الزمان ، بل كان حاصلا في الأزمنة المتقادمة ، فإنّهم كانوا أمة واحدة على الحق ، ثم اختلفوا ، وما كان اختلافهم إلّا بسبب البغي ، والتحاسد ، والتّنازع في طلب الدنيا.

قال القفّال (٣) : «الأمّة» هم المجتمعون على الشّيء الواحد ، يقتدي بعضهم ببعض ؛ مأخوذ من الائتمام.

ودلّت الآية على أنّ الناس كانت أمّة واحدة ، ولم تدلّ على أنّهم كانوا أمّة واحدة : في الحقّ ، أم في الباطل.

__________________

(١) في ب : ساعة.

(٢) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٦ / ١٠.

(٣) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٦ / ١١.

٥٠٠