اللّباب في علوم الكتاب - ج ٣

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ٣

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٤٤

١٠١٣ ـ ما قلت ما قال وشاة سعوا

سعي عدوّ بيننا يرجف (١)

وقال الضّحّاك : وإذا تولّى ، أي : ملك الأمر ، وصار واليا سعى في الأرض (٢).

وقال مجاهد : إذا ولّي ، وعمل بالعدوان ، والظّلم ، أمسك الله المطر ، وأهلك الحرث والنّسل (٣).

قوله : «في الأرض» متعلّق ب «سعى» ، فإن قيل : معلوم أنّ السّعي لا يكون إلّا في الأرض قيل : لأنّه يفيد العموم ، كأنه قيل : أيّ مكان حلّ فيه من الأرض أفسد فيه ، فيدلّ لفظ الأرض على كثرة فساده ، إذ يلزم من عموم الظّرف عموم المظروف ، و «ليفسد» متعلّق ب «سعى» علّة له.

قوله : (وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ) الجمهور على : «يهلك» بضمّ الياء ، وكسر اللام ونصب الكاف. «الحرث» مفعول به ، وهي قراءة واضحة من : أهلك يهلك ، والنّصب عطف على الفعل قبله ، وهذا شبيه بقوله تعالى : (وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ) [البقرة : ٩٨] فإنّ قوله : «ليفسد» يشتمل على أنّه يهلك الحرث والنّسل ، فخصّهما بالذّكر لذلك. وقرأ أبيّ (٤) : «وليهلك» بإظهار لام العلّة ، وهي معنى قراءة الجمهور ، وقرأ أبو حيوة ـ ورويت عن ابن كثير وابن عمرو ـ «ويهلك الحرث والنّسل» بفتح الياء ، وكسر اللام من هلك الثّلاثي ، و «الحرث» فاعل ، و «النّسل» عطف عليه. وقرأ قوم : «ويهلك الحرث» من أهلك ، و «الحرث» مفعول به إلا أنّهم رفعوا الكاف. وخرّجت على أربعة أوجه : أن تكون عطفا على «يعجبك» أو على «سعى» ؛ لأنّه في معنى المستقبل ، أو على خبر مبتدأ محذوف ، أي : وهو يهلك ، أو على الاستئناف. وقرأ الحسن (٥) : «ويهلك» مبنيّا للمفعول ، «الحرث» رفعا ، وقرأ أيضا : «ويهلك» بفتح الياء واللام ورفع الكاف ، «الحرث» رفعا على الفاعلية ، وفتح عين المضارع هنا شاذّ لفتح عين ماضيه ، وليس عينه ولا لامه حرف حلق ، فهو مثل ركن يركن بالفتح فيهما.

و «الحرث» في اللّغة : الشّقّ ، ومنه المحراث لما يشقّ به الأرض ، والحرث : كسب المال وجمعه ، والحرث : الزّرع ، والحرّاث الزرّاع ، وقد حرث ، واحترث مثل : زرع وازدرع.

__________________

(١) ينظر : البحر ٢ / ١٢٤ ، الدر المصون ١ / ٥٠٦.

(٢) ينظر : تفسير البغوي ١ / ١٨٠.

(٣) أخرجه الطبري في تفسيره (٤ / ٢٣٨) عن مجاهد وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ٤٢٩) وزاد نسبته لابن أبي حاتم.

(٤) انظر في هذه القراءات :

الشواذ ١٢ ، ١٣ ، والمحرر الوجيز ١ / ٢٨٠ ، والبحر المحيط ٢ / ١٢٥ ، والدر المصون ١ / ٥٠٦.

(٥) انظر السابق.

٤٦١

ويقال : احرث القرآن ؛ أي : ادرسه ، وحرثت النّاقة وأحرثتها ، أي : سرت عليها حتّى هزلت ، وحرثت النّار حرّكتها والمحراث ما يحرك به نار التّنور نقله الجوهري. وقد تقدّم.

والنّسل : مصدر نسل ينسل ، أي : خرج بسرعة ، ومنه : نسل وبر البعير ، ونسل ريش الطّائر ، أي : خرج وتطاير وقال القرطبيّ (١) : النّسل ما خرج من كلّ أنثى من ولد وأصله الخروج ، والسّقوط.

وقيل : النّسل الخروج متتابعا ، ومنه : «نسال الطّائر» ما تتابع سقوطه من ريشه ؛ قال امرؤ القيس : [الطويل]

١٠١٤ ـ وإن تك قد ساءتك منّي خليقة

فسلّي ثيابي من ثيابك تنسل (٢)

وقوله : (مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ) [النساء : ٩٦] يحتمل المعنيين. و «الحرث والنّسل» وإن كانا في الأصل مصدرين فإنهما هنا واقعان موقع المفعول به.

فصل في المراد ب «التولي»

ذكروا في هذا التولّي قولين :

أحدهما : معناه : إذا انصرف من عندك سعى بالفساد (٣) ، وهذا الفساد يحتمل وجهين :

أحدهما : إتلاف الأموال بالتّخريب ، والتّحريق ، والنّهب كما تقدّم.

والوجه الثاني : أنّه كان بعد الانصراف من حضرة النّبيّ ـ عليه‌السلام ـ يلقي الشّبه في قلوب المؤمنين ويستخرج الحيل في تقوية الكفر ، قال تعالى حكاية عن فرعون (إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ) [غافر : ٢٦] وسمي هذا المعنى فسادا ، لأنّه يوقع اختلافا بين النّاس ، ويفرّق كلمتهم ، ويتبّرأ بعضهم من بعض ؛ فتنقطع الأرحام وتسفك الدماء.

القول الثّاني في التّولّي والسّعي ؛ أي : رجع عن قوله واجتهد في إيقاع الفساد ، وأصل السّعي المشي بسرعة ، ولكنّه يستعار لإيقاع الفتنة بين النّاس ، ومنه يقال : فلان يسعى بالنّميمة ، والمراد ب «الحرث» الزّرع وب «النّسل» : تلك الحمر على التّفسير الأوّل ، وهو يقع على ما يحرث ويزرع.

وقيل : إنّ الحرث هو شقّ الأرض ، ويقال لما يشقّ به : محرث.

__________________

(١) ينظر : تفسير القرطبي ٣ / ١٤.

(٢) ينظر : ديوانه (١٣) ، شرح القصائد العشر (٧٦) ، الدر المصون : ١ / ٥٠٦.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٤ / ٢٣٧) عن ابن عباس.

٤٦٢

والنّسل في اللّغة الولد ، ومن قال : إنّ الأخنس بيّت على قوم ثقيف وقتل منهم جمعا ، فالمراد بالحرث : الرجال والنساء.

أمّا النساء فلقوله تعالى : (نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ) [البقرة : ٢٢٣].

وأمّا الرجال : فهم الذين يشقون أرض التوليد ، وأمّا النسل فالمراد منه الصبيان.

قوله : (وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ).

قال العباس بن الفضل : الفساد هو الخراب (١).

وقال سعيد بن المسيب : قطع الدراهم من الفساد في الأرض (٢).

وقال عطاء : كان رجل يقال له عطاء بن منبه أحرم في جبّة ، فأمره النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أن ينزعها.

قال قتادة : قلت لعطاء : إنّا كنا نسمع أن يشقها ، فقال عطاء : إنّ الله لا يحب الفساد(٣).

قال القرطبي (٤) : والآية تعمّ كلّ فساد كان في الأرض ، أو مال أو دين ، وهو الصحيح.

وقيل : معناه لا يجب الفساد من أهل الصلاح ، أو لا يحبه دينا ، أو المعنى لا يأمر به.

فصل في بيان فساد قول المعتزلة في معنى المحبة

استدلت المعتزلة به على أنّه تبارك وتعالى لا يريد القبائح ، قالوا : المحبة عبارة عن الإرادة لقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا) [النور : ١٩] والمراد أنهم يريدون.

وأيضا : نقل عن النبيّ ـ عليه‌السلام ـ أنّه قال : «إنّ الله أحبّ لكم ثلاثا ، وكره لكم ثلاثا : أحبّ لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا ، وأن تتناصحوا من ولاه أمركم ، ويكره لكم القيل والقال ، وإضاعة المال ، وكثرة السّؤال» (٥) فجعل الكراهة ضدّ المحبة ، وإذا ثبت أنّ الإرادة نفس المحبة ، فقوله : (وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ) ، كقوله : لا يريد الفساد ، وكقوله (وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ) [غافر : ٣١] ، وإذا كان لا يريد الفساد ، لا يكون خالقا له ؛ لأنّ الخلق لا يمكن إلّا مع الإرادة. وأجيبوا بوجهين :

__________________

(١) ذكره القرطبي في «تفسيره» (٣ / ١٤).

(٢) ذكره البغوي في تفسيره (١ / ١٨٠) ، وينظر المصدر السابق.

(٣) ذكره القرطبي في «تفسيره» (٣ / ١٤).

(٤) ينظر : القرطبي ٣ / ١٤.

(٥) أخرجه مسلم كتاب الأقضية (١٠ ، ١١) وأحمد (٢ / ٣٦٧) والبيهقي (٨ / ١٦٣) والبغوي في «تفسيره» (١ / ٣٩٢) والبخاري في «الأدب» (٤٤٢) والبغوي في «شرح السنة» (١ / ٢٠٢).

وذكره المتقي الهندي في «كنز العمال» (٤٣٢٧٥).

٤٦٣

أحدهما : أنّ المحبة غير الإرادة ، بل المحبّة عبارة عن مدح الشيء.

والثاني : سلّمنا أنّ المحبة نفس الارادة ، لكن قوله تعالى (وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ) [البقرة : ٢٠٥] لا يفيد العموم ؛ لأنّ الألف واللّام الداخلتين في اللفظ لا يفيدان العموم ، ثم يهدم كلامهم وجهان :

الأول : أنّ قدرة العبد صالحة للإصلاح ، والفساد ؛ فترجّح الفساد على الصلاح إن وقع لا لمرجح ، لزم نفي الصانع ، وإن وقع لمرجح ، فذلك المرجّح لا بدّ وأن يكون من الله ؛ وإلّا لزم التسلسل ، فثبت أنّ الله سبحانه هو المرجح لجانب الفساد ، فكيف يعقل أن يقال إنّه لا يريده؟

والثاني : أنّه عالم بوقوع الفساد ، فإن أراد ألّا يقع الفساد ، لزم أن يقال : إنّه أراد أن يقلب علم نفسه جهلا ، وذلك محال.

قوله تعالى : (وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللهَ:) هذه الجملة الشرطية تحتمل الوجهين المتقدّمين في نظيرتها ، أعني : كونها مستأنفة ، أو معطوفة على «يعجبك» ، وقد تقدّم الخلاف في الذي قام مقام الفاعل عند قوله : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا) [البقرة : ١١].

قوله : «أخذته العزّة» ، أي حملته العزّة وحميّة الجاهلية على الفعل.

قوله : «بالإثم» أي : بالظلم وفي هذه الباء ثلاثة أوجه :

أحدها : أن تكون للتعدية ، وهو قول الزمخشري فإنه قال : «أخذته بكذا إذا حملته عليه ، وألزمته إياه ، أي : حملته العزّة على الإثم ، وألزمته ارتكابه» قال أبو حيان : «وباء التعدية بابها الفعل اللازم ، نحو : (ذَهَبَ اللهُ) [البقرة : ١٧] ، (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ) [البقرة : ٢٠] ، وندرت التعدية بالباء في المتعدّي نحو : «صككت الحجر بالحجر» أي : جعلت أحدهما يصكّ الآخر».

الثاني : أن تكون للسببية ، بمعنى أنّ إثمه كان سببا لأخذ العزّة له ؛ كما في قوله : [الرمل]

١٠١٥ ـ أخذته عزّة من جهله

فتولّى مغضبا فعل الضّجر (١)

فتكون الباء بمعنى اللام ، فتقول : فعلت هذا بسببك ، ولسببك ، وعاقبته لجنايته ، وبجنايته.

الثالث : أن تكون للمصاحبة ؛ فتكون في محلّ نصب على الحال ، وفيها حينئذ وجهان :

أحدهما : أن تكون حالا من «العزّة» أي : ملتبسة بالإثم.

__________________

(١) ينظر : البحر ٢ / ١٢٦ ، الدر المصون ١ / ٥٠٧.

٤٦٤

والثاني : أن تكون حالا من المفعول ، أي : أخذته ملتبسا بالإثم.

قال القرطبيّ : وقيل : «الباء» بمعنى «مع» أي : أخذته العزّة مع الإثم.

وفي قوله : «العزّة بالإثم» من علم البديع التتميم وهو عبارة عن إرداف الكلمة بأخرى ، ترفع عنها اللّبس ، وتقرّبها من الفهم ، وذلك أنّ العزّة تكون محمودة ومذمومة.

فمن مجيئها محمودة : (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) [المنافقون : ٨] (أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ) [المائدة : ٥٤] فلو أطلقت لتوهّم فيها بعض من لا عناية له المحمودة ؛ فقيل «بالإثم» تتميما للمراد ، فرفع اللّبس بها.

فصل

اعلم أنّ الله سبحانه وتعالى حكى عن هذا المنافق أفعالا مذمومة وهي اشتغاله بالكلام الحسن في طلب الدّنيا ، واستشهاده بالله كذبا ولجاجة في أبطال الحقّ وإثبات الباطل ، وسعيه في الأرض بالفساد ، وإهلاك الحرب والنّسل ، وكلّها أفعال قبيحة ، فالظاهر من قوله : (وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللهَ) أن يصرف إلى الكلّ ؛ لأنّ صرفه إلى البعض ليس أولى من البعض ، فكأنّه قيل له : اتّق الله في إهلاك الحرث والنّسل ، وفي السّعي بالفساد ، وفي اللّجاج في إبطال الحقّ ونصرة الباطل ، وفي الاستشهاد بالله كذبا ، وفي الحرص على طلب الدّنيا.

وقيل : قوله : (أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ) راجع إلى أنه قيل له : اتّق الله فقط ؛ على ما سيأتي ، فيكون معنى الآية الكريمة أنّ الموصوف بهذه الصّفات هو الّذي إذا قيل له : اتّق الله ، أخذته العزة بالإثم ؛ فحسبه جهنّم.

و «العزّة» القوّة والغلبة من : عزّه يعزّه ، إذا غلبه ، ومنه (وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ) [ص : ٢٣].

وقيل : العزّة هنا : الحميّة ؛ قال الشّاعر : [الرّمل]

١٠١٦ ـ أخذته عزّة من جهله

فتولّى مغضبا فعل الضّجر (١)

وقيل : العزّة هنا : المنعة وشدّة النّفس ، أي : اعتزّ في نفسه ، فأوقعته (٢) تلك العزّة في الإثم ، وألزمته إيّاه.

قوله : «فحسبه جهنّم» ، «حسبه» مبتدأ ، و «جهنّم» خبره أي : كافيهم جهنّم ، وقيل : «جهنّم» فاعل ب «حسب» ، ثمّ اختلف القائل بذلك في «حسب» فقيل : هو بمعنى اسم الفاعل ، أي : الكافي ، وهو في الأصل مصدر أريد به اسم الفاعل ، والفاعل ـ وهو جهنّم

__________________

(١) تقدم برقم ١٠١٥.

(٢) في ب : فإذا وقعت.

٤٦٥

ـ سدّ مسدّ الخبر ، وقوي «حسب» لاعتماده على الفاء الرابطة للجملة بما قبلها ، وهذا كلّه معنى كلام أبي البقاء (١).

وقيل : بل «حسب» اسم فعل ، والقائل بذلك اختلف ؛ فقيل : اسم [فعل] ماض ، أي : كفاهم وقيل : فعل أمر ، أي : ليكفيهم ، إلّا أن إعرابه ودخول حروف الجرّ عليه يمنع كونه اسم فعل.

وقد تلخّص أنّ «حسب» هل هو بمعنى اسم الفاعل وأصله مصدر ، أو اسم فعل ماض ، أو فعل أمر؟ وهو من الأسماء اللازمة للإضافة ، ولا يتعرّف بإضافته إلى معرفة ؛ تقول : مررت برجل حسبك ، وينصب عنه التمييز ، ويكون مبتدأ ؛ فيجرّ بباء زائدة ، وخبرا ؛ فلا يجرّ بها ، ولا يثنّى ولا يجمع ، ولا يؤنّث ، وإن وقع صفة لهذه الأشياء.

و «جهنّم» اختلف الناس فيها فقال يونس وأكثر النّحاة : هي اسم للنّار التي يعذّب بها في الآخرة وهي أعجمية وعرّبت ، وأصلها كهنّام ، فمنعها من الصرّف للعلمية والعجمة.

وقيل : بل هي عربية الأصل ، والقائلون بذلك اختلفوا في نونها : هل هي زائدة ، أم أصلية؟ فالصحيح أنها زائدة ، ووزنها «فعنّل» مشتقة من «ركيّة جهنّام» ، أي : بعيدة القعر ، وهي من الجهم ، وهو الكراهة ، وقيل : بل نونها أصليّة ، ووزنها فعلّل ؛ ك «عدبّس» ؛ قال : لأن «فعنّلا» مفقود في كلامهم ، وجعل «زونّكا» فعلّلا أيضا ؛ لأنّ الواو أصل في بنات الأربعة ؛ ك «ورنتل» ، لكنّ الصحيح إثبات هذا البناء ، وجاءت منه ألفاظ ، قالوا : «ضغنّط» من الضّغاطة ، وهي الضّخامة ، و «سفنّج» و «هجنّف» للظّليم ، والزّونّك : القصير سمّي بذلك ؛ لأنه يزوك في مشيته ، أي : يتبختر ؛ قال حسّان : [الكامل]

١٠١٧ ـ أجمعت أنّك أنت ألأم من مشى

في فحش زانية وزوك غراب (٢)

وهذا كلّه يدلّ على أنّ النون زائدة في «زونّك» وعلى هذا فامتناعها للتأنيث والعلمية.

قوله : «ولبئس المهاد» المخصوص بالذّمّ محذوف ، أي : ولبئس المهاد جهنّم ، وحسّن حذفه هنا كون «المهاد» وقع فاصلة. وتقدّم الكلام على «بئس» وحذف هذا المخصوص بذلك على أنه مبتدأ ، والجملة من نعم وبئس خبره ، سواء تقدّم أو تأخّر ؛ لأنّا لو جعلناه خبر مبتدأ محذوف ، أو مبتدأ محذوف الخبر ، ثم حذفناه ، كنّا قد حذفنا الجملة بأسرها من غير أن ينوب عنها شيء ، وأيضا فإنّه يلزم من ذلك أن تكون الجملة

__________________

(١) ينظر : الإملاء لأبي البقاء ١ / ٨٩.

(٢) ينظر : ديوانه ١٧٦ ، واللسان «ذوك» و «زنك» والبحر المحيط ٢ / ١١٧ ، والدر المصون ١ / ٥٠٨.

٤٦٦

مفلتة ممّا قبلها ، إذ ليس لها موضع من الإعراب ، وليست معترضة ، ولا مفسّرة ، ولا صلة. والمهاد فيه قولان :

أحدهما : أنّه جمع «مهد» ، وهو ما يوطّأ للنوم قال تعالى : و (فَرَشْناها فَنِعْمَ الْماهِدُونَ) [الذاريات : ٤٨].

والثاني : أنه اسم مفرد ، سمّي به الفراش الموطّأ للنّوم وقيل : «المستقر» كقوله تعالى : (جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَبِئْسَ الْقَرارُ) [إبراهيم : ٢٩] وهذا من باب التّهكم والاستهزاء ، أي : جعلت جهنّم لهم بدل مهاد يفترشونه ؛ وهو كقوله : [الوافر]

١٠١٨ ـ وخيل قد دلفت لها بخيل

تحيّة بينهم ضرب وجيع (١)

أي : القائم لهم مقام التحية ، الضرب الوجيع.

قوله تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ)(٢٠٧)

لمّا وصف في الآية المتقدّمة حال من يبذل دينه لطلب الدّنيا ذكر في هذه الآية حال من يبذل دينه ونفسه لطلب الدين ، وفي سبب النزول روايات (٢).

إحداها : عن ابن عبّاس ، والضّحّاك (٣) : أنّها نزلت في سريّة الرّجيع ، وذلك أنّ كفّار قريش بعثوا إلى رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وهو بالمدينة ، أنّا قد أسلمنا ، فابعث إلينا نفرا من علماء أصحابك ؛ يعلّموننا دينك ، وكان ذلك مكرا منهم فبعث إليهم خببب بن عديّ الأنصاريّ ومرثد بن أبي مرثد الغنويّ ، وخالد بن بكير ، وعبد الله بن طارق بن شهاب البلويّ ، وزيد بن الدّثنّة ، وأمّر عليهم عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح الأنصاريّ.

قال أبو هريرة (٤) : بعث رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ عشرة عينا ، وأمّر عليهم عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح الأنصاريّ (٥) فساروا ، فنزلوا بطن «الرّجيع» بين مكّة والمدينة ، ومعهم تمر عجوة ، فأكلوا فمرّت عجوز ، فأبصرت النّوى ، فرجعت إلى قومها بمكة ، وقالت : قد سلك هذا الطريق أهل يثرب من أصحاب محمّد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فركب سبعون رجلا منهم معهم الرّماح ، حتى أحاطوا بهم.

وقال أبو هريرة (٦) : ذكروا الحيّ من هذيل يقال لهم بنو لحيان ، فنفروا لهم بقريب من مائة راجل رام ، فاقتفوا آثارهم ، حتّى وجدوا مآكلهم التمر في منزل نزلوه ؛ فقالوا : تمر يثرب ، فاتّبعوا آثارهم ، فلمّا أحسّ بهم عاصم وأصحابه لجأوا إلى فدفد ، فأحاط بهم

__________________

(١) تقدم برقم ٧٢٠.

(٢) في ب : وجوه.

(٣) ينظر : تفسير البغوي ١ / ١٨٠.

(٤) ينظر : تفسير البغوي ١ / ١٨١.

(٥) سقط في ب.

(٦) ينظر : تفسير البغوي ١ / ١٨١.

٤٦٧

القوم ، فقتلوا مرثدا وخالدا وعبد الله بن طارق ، ونثر عاصم بن ثابت كنانته ، وفيها سبعة أسهم ، فقتل بكلّ سهم رجلا من عظماء المشركين ، ثمّ قال : اللهمّ ، إنّي قد حميت دينك صدر النهار فاحم لحمي آخر النهار ، ثمّ أحاط به المشركون فقتلوه ، فلمّا قتلوه أرادوا جزّ رأسه ؛ ليبيعوه من سلافة بنت سعد بن شهيد ، وكانت قد نذرت حين أصاب ابنها يوم أحد لئن قدرت على رأس عاصم لتشربنّ في قحفه الخمر ، فأرسل الله رجلا من الدّبر ، وهي الزّنابير ، فحمت عاصما ، فلم يقدروا عليه ، فسمّي حميّ الدّبر ، فقالوا : دعوه حتى نمسي ، فتذهب عنه ، فنأخذه ، فجاءت سحابة سوداء ، وأمطرت مطرا كالغزال فبعث الله الوادي غديرا فاحتمل عاصما به فذهب به إلى الجنّة ، وحمل خمسين من المشركين إلى النار.

وكان عاصم قد أعطى الله عهدا ألّا يمسّه مشرك ولا يمسّ مشركا أبدا ، فمنعه الله ، وكان عمر بن الخطّاب يقول حين بلغه أنّ الدّبر منعته : عجبا لحفظ الله العبد المؤمن ، كان عاصم نذر ألّا يمسّه مشرك ، ولا يمسّ مشركا أبدا ، فمنعه الله بعد وفاته ، كما امتنع عاصم في حياته ، وأسر المشركون خبيب بن عديّ ، وزيد بن الدّثنّة ، فذهبوا بهما إلى مكة ، فأمّا خبيب فابتاعه بنو الحارث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف ؛ ليقتلوه بأبيهم ، وكان خبيب هو الذي قتل الحارث يوم بدر ، فلبث خبيب عندهم أسيرا ، حتّى أجمعوا على قتله ، فاستعار من بعض بنات الحارث موسى ليستحدّ بها ، فأعارته ، فدرج بنيّ لها ، وهي غافلة ، فما راع المرأة إلّا خبيب قد أجلس الصّبيّ على فخذه ، والموسى بيده ، فصاحت المرأة ، فقال خبيب : أتخشين أن أقتله؟ ما كنت لأفعل ذلك ، إنّ الغدر ليس من شأننا ، فقالت المرأة : والله ما رأيت أسيرا خيرا من خبيب ؛ والله لقد وجدته يوما يأكل قطفا من عنب في يده ، وإنه لموثق بالحديد ، وما بمكة من ثمرة ، إن كان إلّا رزقا رزقه الله خبيبا ، ثم إنّهم خرجوا به من الحرم ليقتلوه في الحلّ ، وأرادوا أن يصلبوه ، فقال لهم خبيب : دعوني أصلّي ركعتين ؛ فتركوه ، فكان خبيب هو الذي سنّ لكل مسلم قتل صبرا الصلاة ، فركع ركعتين ، ثمّ قال خبيب : لو لا أن يحسبوا أنّ ما بي من جزع لزدت ، اللهمّ أحصهم عددا ؛ واقتلهم بددا ، ولا تبق منهم أحدا وأنشأ يقول : [الطويل]

١٠١٩ ـ ولست أبالي حين أقتل مسلما

على أيّ شقّ كان في الله مصرعي

وذلك في ذات الإله وإن يشأ

يبارك على أوصال شلو ممزّع (١)

فصلبوه حيّا ؛ فقال : اللهمّ إنّك تعلم أنّه ليس أحد حولى يبلّع سلامي رسولك فأبلغه سلامي ، ثم قام أبو سروعة عتبة بن الحارث فقتله ، ويقال : كان رجلا من المشركين يقال له سلامان أبو ميسرة ، معه رمح فوضعه بين ثديي خبيب ، فقال له خبيب :

__________________

(١) ينظر : البيتان في القرطبي ١١ / ٢٢ ، والثاني منهما في اللسان (مزع).

٤٦٨

اتّق الله ، فما زاده ذلك إلّا عتوّا ، فطعنه فأنفذه ، وذلك قوله : (وَإِذا قِيلَ لَهُ : اتَّقِ اللهَ) يعني سلامان.

وأمّا زيد بن الدثنة ، فابتاعه صفوان بن أميّة ؛ ليقلته بأبيه ، أمية بن خلف ، فبعثه مع مولى له يسمّى نسطاس إلى التنعيم ، ليقتله ، واجتمع رهط من قريش فيهم أبو سفيان بن حرب ، فقال له أبو سفيان حين قدّم ليقتل : أنشدك الله يا زيد ، أتحبّ أنّ محمدا عندنا الآن بمكانك ، وتضرب عنقه وإنّك في أهلك؟ فقال : والله ما أحبّ أنّ محمدا الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه ، وأنا جالس في أهلي ، فقال أبو سفيان : ما رأيت أحدا من الناس يحبّ أحدا كحبّ أصحاب محمّد محمّدا ، ثم قتله نسطاس.

فلمّا بلغ النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ هذا الخبر ، قال لأصحابه : «أيّكم ينزل خبيبا عن خشبته وله الجنة» فقال الزّبير أنا يا رسول الله ، وصاحبي المقداد بن الأسود ، فخرجا يمشيان في الليل ، ويكمنان بالنهار ، حتّى أتيا التنعيم ليلا ، وإذا حول الخشبة أربعون رجلا من المشركين نائمون نشاوى ، فأنزلاه ، فإذا هو رطب ينثني ، لم يتغيّر بعد أربعين يوما ، ويده على جراحته ، وهي تبصّ دما اللون لون الدّم ، والريح ريح المسك ، فحمله الزبير على فرسه ، وساروا ؛ فانتبه الكفار وقد فقدوا خبيبا ، فأخبروا قريشا ، فركب منهه سبعون رجلا ، فلمّا لحقوهما قذف الزبير خبيبا ؛ فابتلعته الأرض فسمّي بليع الأرض ، وقال الزبير : ما جرّأكم علينا يا معشر قريش ، ثم رفع العمامة عن رأسه ، وقال : أنا الزّبير بن العوّام ، وأمّي صفيّة بنت عبد المطلب ، وصاحبي المقداد بن الأسود ، أسدان رابضان يدفعان عن شبلهما ، فإن شئتم نازلتكم ، وإن شئتم انصرفتم. فانصرفا إلى مكّة ، وقدما على رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وجبريل عنده ، فقال : يا محمد ، إنّ الملائكة لتباهي بهذين من أصحابك ، فنزل في الزّبير والمقداد (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ) [البقرة : ٢٠٧] حين شريا أنفسهما لإنزال خبيب عن خشبته (١).

وقال أكثر المفسّرين (٢) : نزلت في صهيب بن سنان ، مولى عبد الله بن جدعان الرّوميّ ، وفي عمّار بن ياسر ، وفي سميّة أمّه ، وفي ياسر أبيه ، وفي بلال مولى أبي بكر ، وفي خبّاب بن الأرت وفي عابس مولى حويطب ؛ أخذهم المشركون فعذّبوهم ؛ فقال لهم صهيب : إنّي شيخ كبير لا يضرّكم أمنكم كنت أم من عدوّكم فهل لكم أن تأخذوا مالي ، وتذروني؟ ففعلوا ، وكان شرط عليهم راحلة ونفقة ، فأقام بمكة ما شاء الله ، ثم خرج إلى المدينة ، فتلقّاه أبو بكر وعمر في رجال فقال له أبو بكر : ربح بيعك يا أبا يحيى ؛ فقال : وبيعك فلا تخسر ما ذاك؟ فقال : أنزل الله فيك كذا وقرأ عليه الآية (٣).

__________________

(١) تقدم.

(٢) ينظر : تفسير البغوي ١ / ١٨٢.

(٣) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ٤٣٠) وعزاه لابن مردويه عن صهيب الرومي.

٤٦٩

وأمّا خبّاب بن الأرتّ وأبو ذرّ ففرّا إلى المدينة ، وأمّا سميّة فربطت بين بعيرين ثم قتلت ، وقتل ياسر.

وأمّا الباقون : فأعطوا بسبب العذاب بعض ما أراد المشركون ، فتركوا ، وفيهم نزل قوله تعالى : (وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا) بتعذيب أهل مكة (لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً) [النحل : ٤١] بالنّصر والغنيمة ، «ولأجر الآخرة أكبر» ، وفيهم أنزل (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ) [النحل : ١٠٦].

وقال سعيد بن المسيّب ، وعطاء (١) : أقبل صهيب مهاجرا نحو النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فاتّبعه نفر من مشركي قريش ، فنزل عن راحلته ، ونثل ما في كنانته ، ثمّ قال : يا معشر قريش ، لقد علمتم أنّي لمن أرماكم رجلا ، والله لا أضع سهما من كنانتي إلّا في قلب رجل منكم وأيم الله ، لا تصلون إليّ حتى أرمي بكل سهم في كنانتي ، ثم أضرب بسيفي ما بقي في يدي ، ثم افعلوا ما شئتم ، وإن شئتم دللتكم على مالي بمكة وخلّيتم سبيلي.

قالوا : نعم ، ففعل ذلك ، فنزلت الآية (٢) وقال الحسن : أتدرون فيمن نزلت هذه الآية؟ نزلت في المسلم يلقى الكافر فيقول له : قل لا إله إلّا الله ، فيأبى أن يقولها ، فيقول المسلم : والله لأشترينّ من نفسي لله ، فيتقدّم فيقاتل حتّى يقتل (٣).

وروي عن عمر ، وعليّ ، وابن عبّاس : أنّها نزلت في الأمر بالمعروف ، والنّهي عن المنكر(٤).

قال ابن عبّاس : أرى من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله يقوم فيأمر هذا بتقوى الله ، فإذا لم يقبل ، وأخذته العزّة بالإثم ، قال هذا : وأنا أشري نفسي فيقاتله ، وكان إذا قرأ هذه الآية يقول : اقتتلا وربّ الكعبة (٥) ، وسمع عمر بن الخطّاب إنسانا يقرأ هذه الآية ؛ فقال عمر : إنّا لله وإنّا إليه راجعون ، قام رجل يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر فقتل (٦).

__________________

(١) ينظر : تفسير البغوي ١ / ١٨٢.

(٢) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ٤٣٠) وعزاه لابن سعد والحارث بن أبي أسامة في «مسنده» وابن أبي حاتم عن سعيد بن المسيب.

(٣) ينظر : تفسير البغوي ١ / ١٨٢.

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١ / ٢٥٠) عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ٣٤٢) وزاد نسبته لوكيع وعبد بن حميد.

(٥) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ٣٤٢) وعزاه لعبد بن حميد أن عمر الخطاب ـ فذكره.

(٦) تقدم.

٤٧٠

وقيل : نزلت في عليّ بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ بات على فراش رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ليلة خروجه إلى الغار (١)

قوله تعالى : (مَنْ يَشْرِي:) في «من» الوجهان المتقدّمان في «من» الأولى ، ومعنى يشري : يبيع ؛ قال تعالى : (وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ) [يوسف : ٢٠] ، إن أعدنا الضمير المرفوع على الآخرة ، وقال [مجزوء الكامل]

١٠٢٠ ـ وشريت بردا ليتني

من بعد برد كنت هامه (٢)

قال القرطبيّ (٣) : برد هنا اسم غلام. فالمعنى : يبذل نفسه في الله ، وقيل : بل هو على أصله من الشّراء.

قوله : «ابتغاء» منصوب على أنه مفعول من أجله ، والشروط المقتضية للنصب موجودة ، والصّحيح أنّ إضافة المفعول له محضة ، خلافا للجرمي ، والمبرّد ، والرّياشي (٤) ، وجماعة من المتأخّرين.

و «مرضاة» مصدر مبنيّ على تاء التأنيث كمدعاة ، والقياس تجريده عنها ؛ نحو : مغزى ، ومرمى. قال القرطبيّ (٥) : والمرضاة : الرّضا ، تقول : رضي يرضى رضا ومرضاة ووقف حمزة عليها بالتاء ، وذلك لوجهين :

أحدهما : أنّ بعض العرب يقف على تاء التأنيث بالتاء قال القائل في ذلك : [الرجز]

١٠٢١ ـ دار لسلمى بعد حول قد عفت

بل جوز تيهاء كظهر الجحفت (٦)

وقد حكى هذه اللّغة عن سيبويه (٧).

والثاني : أن يكون وقف على نيّة الإضافة ، كأنّه نوى لفظ المضاف إليه ؛ لشدة اتّصال المتضايفين ، فأقرّ التاء على حالها ؛ منبهة على ذلك ، وهذا كما أشمّوا الحرف

__________________

(١) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ١٧٤.

(٢) ينظر : ديوان ابن مفرّغ (٢١٣) ، الدر المصون ١ / ٥٠٩.

(٣) ينظر : تفسير القرطبي ٣ / ١٦.

(٤) العباس بن الفرج أبو الفضل الرياشي اللغوي النحوي وثقه الخطيب وصنف كتاب الخيل ، وكتاب الإبل وغير ذلك توفي سنة ٢٠٧ ، البغية ٢ / ٢٧ ـ ٢٨.

(٥) ينظر : تفسير القرطبي ٣ / ١٧.

(٦) الرجز لسؤر الذّئب ، ينظر الخصائص ١ / ٣٠٤ ، سر الصناعة ١ / ٧٧ ، شرح المفصل ٢ / ١١٨ ، اللسان : (بلل) وشواهد الإيضاح ص ٣٨٧ ، والإنصاف ١ / ٣٧٩ ، جمهرة اللغة ص ١١٣٥ ، ورصف المباني ص ١٥٦ ، ١٦٢ ، ٢١٧ ، وشرح شافية ابن الحاجب ٢ / ٢٧٧ ، وشرح شواهد الشافية ص ١٩٨ ، والمحتسب ٢ / ٩٢ ، والدر المصون ١ / ٥٠٩.

(٧) ينظر : الكتاب لسيبويه ٢ / ٢٨١.

٤٧١

المضموم ؛ ليعلموا أنّ الضّمّة كالمنطوق بها. وقد أمال الكسائيّ (١) وورش «مرضات».

وفي قوله : «بالعباد» خروج من ضمير الغيبة إلى الاسم الظّاهر ؛ إذ كان الأصل «رؤوف به» أو «بهم» وفائدة هذا الخروج أنّ لفظ «العباد» يؤذن بالتشريف ، أو لأنه فاصلة فاختير لذلك.

فصل

إذا قلنا بأنّ المراد من هذا الشراء البيع ، فتحقيقة أنّ المكلّف باع نفسه بثواب الآخرة ، وهذا البيع هو أنّه بذلها في طاعة الله تعالى من الصلاة ، والصيام ، والحج والجهاد ، ثم يتوصل بذلك إلى وجدان ثواب الله تعالى فكان ما يبذله من نفسه كالسّلعة ، فكأنّه كالبائع ، والله كالمشتري ؛ كما قال : (إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ) [التوبة : ١١١] وقد سمّى الله تعالى ذلك تجارة ، فقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ) [الصف : ١٠ ، ١١] وإن أجرينا الآية على ظاهرها ، وقلنا : إنّ المراد هو الشراء ، فإن من أقدم على الكفر ، والتوسّع في ملاذّ الدنيا ، والإعراض عن الآخرة ، وقع في العذاب الدّائم ، فصار كأنّ نفسه كانت له ، فبسبب الكفر والفسق خرجت عن ملكه ، وصارت حقّا للنار ، فإذا ترك الكفر والفسق ، وأقبل على الإيمان والطاعة صار كأنه اشترى نفسه من النار والعذاب.

فإن قيل : إن الله تعالى جعل نفسه مشتريا بقوله : (إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ) وهذا يمنع كون المؤمن مشتريا.

فالجواب : أنه لا منافاة بين الأمرين ؛ فهو كمن اشترى ثوبا بعبد ، فكل واحد منهما بائع ومشتر فكذا هاهنا.

فصل

يدخل تحت هذا كلّ مشقّة يتحملها الإنسان في طلب الدّين ؛ كالجهاد والصابر (٢) على القتل ، كقتل والد عمّار وأمّه ، والآبق من الكفّار إلى المسلمين ، والمشتري نفسه من الكفار بماله ، كفعل صهيب ، ومن يظهر الدين والحقّ عند السلطان الجائر.

روي أنّ عمر ـ رضي الله عنه ـ بعث جيشا ، فحاصروا قصرا ، فتقدّم منهم واحد

__________________

(١) انظر : العنوان ٧٣ ، وإتحاف ١ / ٤٣٤ ، وحجة القراءات ١٢٩ ، وشرح الطيبة ٤ / ٩٦ ، والبحر المحيط ٢ / ١٢٨ ، والدر المصون ١ / ٥٠٩.

(٢) في ب : والصبر.

٤٧٢

فقاتل جتى قتل ، فقال بعض القوم : ألقى بيده إلى التّهلكة فقال عمر : كذبتم ، يرحم الله أبا فلان. وقرأ (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ)(١) واعلم أنّ المشقّة التي يتحمّلها الإنسان لا بدّ وأن تكون على وفق الشّرع حتى يدخل بسببه تحت الآية ، أمّا لو كان على خلاف الشرع فلا يدخل فيها ، بل يعدّ ذلك من إلقاء النّفس إلى التّهلكة ؛ كما لو خاف التّلف عند الاغتسال من الجنابة ففعل.

قوله : (وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ) فمن رأفته (٢) أنه جعل النّعيم الدّائم جزاء على العمل القليل المنقطع ، ومن رأفته (٣) جوّز لهم كلمة الكفر إبقاء (٤) على النفس ، ومن رأفته أنّه لا يكلف نفسا إلّا وسعها ، ومن رأفته ورحمته أن المصرّ على الكفر مائة سنة ، إذا تاب ـ ولو في لحظة ـ أسقط عنه عقاب تلك السنين ، وأعطاه الثواب الدائم.

ومن رأفته أنّ النفس له والمال ، ثم إنّه يشتري ملكه بملكه ؛ فضلا منه ورحمة وإحسانا وامتنانا.

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٢٠٨) فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)(٢٠٩)

قوله تعالى : (السِّلْمِ) قرأ (٥) هنا «السّلم» بالفتح نافع ، والكسائيّ ، وابن كثير ، والباقون بالكسر ، وأمّا التي في الأنفال [آية ٦١] فلم يقرأها بالكسر إلّا أبو بكر وحده ، عن عاصم ، والتي في القتال [آية ٣٥] فلم يقرأها بالكسر إلّا حمزة وأبو بكر أيضا ، وسيأتي. فقيل : هما بمعنّى ، وهو الصلح مثل رطل ورطل وجسر وجسر وهو يذكّر ويؤنّث ، قال تعالى : (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها) ، وحكوا : «بنو فلان سلم ، وسلم» ، وأصله من الاستسلام ، وهو الانقياد ، قال تعالى : (إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) [البقرة : ١٣١] الإسلام : إسلام الهدى ، والسّلم على الصّلح ، وترك الحرب راجع إلى هذا المعنى ؛ لأنّ كلّ واحد كصاحبه ، ويطلق على الإسلام قاله الكسائي وجماعة ؛ وأنشدوا : [الوافر]

__________________

(١) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ١٧٥.

(٢) في ب : رحمته.

(٣) في ب : رحمته.

(٤) في ب : أيضا.

(٥) الصواب هنا العكس لا كما نقل المصنف ، فقد قرأ نافع ، والكسائي ، وابن كثير : بفتح السين والباقون بالكسر.

انظر : السبعة ١٨١ ، والحجة ٢ / ٢٩٢ ، وحجة القراءات ١٣٠ ، والعنوان ٧٣ ، وشرح شعلة ٢٨٨ ، وشرح الطيبة ٤ / ٩٥ ، ٩٦ ، وإتحاف ١ / ٤٣٥.

٤٧٣

١٠٢٢ ـ دعوت عشيرتي للسّلم لمّا

رأيتهم تولّوا مدبرينا (١)

ينشد بالكسر ، وقال آخر في المفتوح : [البسيط]

١٠٢٣ ـ شرائع السّلم قد بانت معالمها

فما يرى الكفر إلّا من به خبل (٢)

فالسّلم والسّلم في هذين البيتين بمعنى الإسلام ، إلّا أنّ الفتح فيما هو بمعنى الإسلام قليل ، وقرأ (٣) الأعمش بفتح السّين واللام «السّلم».

وقيل : بل هما مختلفا المعنى : فبالكسر الإسلام ، وبالفتح الصلح.

قال أبو عبيدة : وفيه ثلاث لغات : السّلم والسّلم والسّلم بالفتح والكسر والضمّ.

«كافة» منصوب على الحال ، وفي صاحبها ثلاثة أقوال.

أظهرها : أنه الفاعل في «ادخلوا» ، والمعنى : ادخلوا السّلم جميعا ، وهذه حال تؤكّد معنى العموم ، فإنّ قولك : «قام القوم كافة» بمنزلة : قاموا كلّهم.

والثاني : أنه «السّلم» قاله الزّمخشريّ ، وأبو البقاء (٤) ، قال الزمخشريّ : ويجوز أن تكون «كافة» حالا من «السّلم» ؛ لأنها تؤنّث كما تؤنّث الحرب ؛ قال الشاعر : [البسيط]

١٠٢٤ ـ السّلم تأخذ منها ما رضيت به

والحرب يكفيك من أنفاسها جرع (٥)

على أنّ المؤمنين أمروا أن يدخلوا في الطاعات كلّها ، ولا يدخلوا في طاعة دون طاعة. قال أبو حيّان تعليله كون «كافة» حالا من «السّلم» بقوله : «لأنّها تؤنّث كما تؤنّث الحرب» ليس بشيء ؛ لأنّ التاء في «كافّة» ليست للتأنيث ، وإن كان أصلها أن تدلّ عليه ، بل صار هذا نقلا محضا إلى معنى جميع وكلّ ، كما صار قاطبة وعامّة ، إذا كان حالا نقلا محضا.

فإذا قلت : «قام الناس كافة ، وقاطبة» لم يدلّ شيء من ذلك على التأنيث ، كما لا يدلّ عليه «كلّ» و «جميع».

والثالث : أن يكون صاحب الحال هما جميعا : أعني فاعل «ادخلوا» و «السّلم» فتكون حالا من شيئين.

وهذا ما أجازه ابن عطية فإنه قال : وتستغرق «كافة» حينئذ المؤمنين ، وجميع أجزاء

__________________

(١) ينظر : الطبري ٤ / ٢٥٣ ، المؤتلف والمختلف (٩) ، والوحشيات (٧٥) ، الدر المصون ١ / ٥١٠.

(٢) ينظر : البحر ٢ / ١١٨ ، الدر المصون ١ / ٥١٠.

(٣) انظر الكشاف ١ / ٢٥٢ ، والقرطبي ٣ / ١٧ ، وحكاه عن البصريين.

(٤) ينظر : الإملاء لأبي البقاء ١ / ٩٠.

(٥) البيت للعباس بن مرداس ينظر : ديوانه (٨٧) ، الخزانة ٢ / ٨٢ ، حاشية يس ٢ / ٢٨٦ ، إصلاح المنطق ٣٠ ، الكشاف ١ / ٢٥٢ ، البحر ٢ / ١٣٠ ، الدر المصون ١ / ٥١٠.

٤٧٤

الشّرع ، فتكون الحال من شيئين وذلك جائز نحو قوله : (فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ) [مريم : ٣٧]. ثم قال بعد كلام : وكافة معناه جميعا ، فالمراد بالكافّة الجماعة التي تكفّ مخالفيها.

وقوله : «نحو قوله فأتت به قومها تحمله» يعني أنّ «تحمله» حال من فاعل «أتت» ومن الهاء في «به» قال أبو حيّان : «هذا المثال ليس مطابقا للحال من شيئين لأنّ لفظ «تحمله» لا يحتمل شيئين ، ولا تقع الحال من شيئين إلّا إذا كان اللفظ يحتملهما ، واعتبار ذلك بجعل ذوي الحال مبتدأين ، وجعل تلك الحال خبرا عنهما ، فمتى صحّ ذلك صحّت الحال ؛ نحو قوله [الطويل]

١٠٢٥ ـ وعلّقت سلمى وهي ذات موصّد

ولم يبد للأتراب من ثديها حجم

صغيرين نرعى البهم يا ليت أنّنا

إلى اليوم لم نكبر ولم تكبر البهم (١)

فصغيرين حال من فاعل «علقت» ومن «سلمى» لأنك لو قلت : أنا وسلمى صغيران لصحّ ومثله قول امرىء القيس : [الطويل]

١٠٢٦ ـ خرجت بها نمشي تجرّ وراءنا

على أثرينا ذيل مرط مرحّل (٢)

فنمشي حال من فاعل «خرجت» ، ومن «ها» في «بها» ؛ لأنّك لو قلت : «أنا وهي نمشي» لصحّ ، ولذلك أعرب المعربون «نمشي» حالا منهما ، كما تقدّم ، و «تجرّ» حالا من «ها» في «بها» فقط ؛ لأنه لا يصلح أن تجعل «تجرّ» خبرا عنهما ، لو قلت : «أنا وهي تجرّ» لم يصحّ ؛ فكذلك يتقدّر بمفرد وهو «جارّة» وأنت لو أخبرت به عن اثنين ، لم يصحّ ؛ فكذلك «تحمله» لا يصلح أن يكون خبرا عن اثنين ، فلا يصحّ أن يكون حالا منهما ، وأمّا «كافّة» فإنها بمعنى «جميع» ، و «جميع» يصحّ فيها ذلك ، لا يقال : «كافّة» لا يصحّ وقوعها خبرا ، لو قلت : «الزّيدون والعمرون كافّة» لم يجز ، فلذلك لا تقع حالا ؛ على ما قرّرت ؛ لأنّ ذلك إنّما هو بسبب التزام نصب «كافة» على الحال ، وأنها لا تتصرّف لا من مانع معنوي ، بدليل أنّ مرادفها وهو «جميع» و «كلّ» يخبر به ، فالعارض المانع ل «كافّة» من التصرّف لا يضرّ ، وقوله : «الجماعة الّتي تكفّ مخالفيها» يعني : أنّها في الأصل كذلك ، ثم صار استعمالها بمعنى جميع وكلّ».

واعلم أنّ أصل «كافة» اسم فاعل من كفّ يكفّ ، أي : منع ، ومنه «كفّ الإنسان»؛

__________________

(١) البيتان للمجنون ينظر : ديوانه ص ١٨٦ ، وخزانة الأدب ٤ / ٢٣٠ ، وأسرار العربية ص ١٩٠ ، وتذكرة النحاة ص ٣٢٤ ، ومجالس ثعلب ٢ / ٦٠٠ ، والدر المصون ١ / ٥١١.

(٢) ينظر : ديوانه ص ١٤ ، وخزانة الأدب ١١ / ٤٢٧ ، والدرر ٤ / ١٠ ، وشرح التصريح ١ / ٣٨٧ ، وشرح شواهد الشافية ص ٢٨٦ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٦٥٢ ، ٩٠١ ، وشرح عمدة الحافظ ص ٤٦٢ ، ولسان العرب (نير) ، وأوضح المسالك ٢ / ٣٣٩ ، ورصف المباني ص ٣٣٠ ، وشرح شافية ابن الحاجب ٢ / ٣٣٨ ، ومغني اللبيب ٢ / ٥٦٤. وهمع الهوامع ١ / ٢٤٤ ، والدر المصون ١ / ٥١١.

٤٧٥

لأنها تمنع ما يقتضيه ، و «كفّة الميزان» لجمعها الموزون ، ويقال : كففت فلانا عن السّوء ، أي : منعته ، ورجل مكفوف ، أي : كفّ بصره من أن يبصر ، والكفّة ـ بالضّمّ ـ لكل مستطيل ، وبالكسر ، لكلّ مستدير.

وقيل : «كافة» مصدر كالعاقبة والعافية. وكافة وقاطبة ممّا لزم نصبهما على الحال ، فإخراجهما عن ذلك لحن.

فصل

لمّا بيّن الله ـ تعالى ـ أقسام النّاس ، وأنهم ينقسمون إلى مؤمن ، وكافر ، ومنافق قال هاهنا : كونوا على ملّة واحدة ، على الإسلام ، واثبتوا عليه.

قال ابن الخطيب (١) : حمل أكثر المفسرين السّلم على الإسلام ، وفيه إشكال ؛ لأنه يصير التقدير : يا أيّها الّذين آمنوا ادخلوا في الإسلام ، والإيمان هو الإسلام ، ومعلوم أنّ ذلك لا يجوز ، فلهذا ذكر المفسرون وجوها :

أحدها : أنّ المراد بالآية المنافقون ، والتقدير : يا أيّها الذي آمنوا بألسنتهم ادخلوا بكلّيتكم في الإسلام ، ولا تتّبعوا خطوات الشيطان ، أي آثار تزيينه ، وغروره في الإقامة على النّفاق ، واحتجوا على هذه بالآية ، فهذا التأويل على أنّ هذه الآية إنّما وردت عقيب ما مضى من ذكر المنافقين وهو قوله : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ) «الآية» فلمّا وصفهم بما ذكر ، دعاهم في هذه الآية إلى الإيمان بالقلب ، وترك النفاق.

وثانيها : روي أنّ هذه الآية نزلت في طائفة من مسلمي أهل الكتاب ك «عبد الله ابن سلام» وأصحابه ، وذلك لأنهم كانوا يعظّمون السّبت ، ويكرهون لحمان الإبل ، بعدما أسلموا وقالوا : يا رسول الله : إنّ التوراة كتاب الله ، فدعنا فلنقم بها في صلاتنا باللّيل ، فأمرهم الله بهذه الآية أن يدخلوا في السّلم كافّة (٢) [أي : في شرائع الإسلام كافة](٣) ولا يتمسّكوا بشيء من أحكام التوراة ، اعتقادا له وعملا به ، ولا تتبعوا خطوات الشيطان في التمسّك بأحكام التوراة بعد أن عرفتم أنها صارت منسوخة ، وقائل هذا القول جعل «كافّة» من وصف «السّلم» ، كأنه قيل : ادخلوا في جميع شعائر الإسلام اعتقادا وعملا.

وثالثها : أنّ هذا الخطاب لأهل الكتاب الّذين لم يؤمنوا بالنبي ـ عليه‌السلام ـ يعني : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا). أي : بالكتاب المتقدم (ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً) ، أي : آمنوا بجميع أنبيائه وكتبهم ، وبمحمّد ، وكتابه على التمام ، ولا تتبعوا خطوات الشيطان في

__________________

(١) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ١٧٦.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٤ / ٢٥٥ ـ ٢٥٦) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» وعزاه للطبري عن عكرمة.

(٣) سقط في ب.

٤٧٦

تحسينه الاقتصار على التوراة بسبب أنّه دين اتفق الكلّ على أنه حقّ ، بسبب أنّه جاء في التوراة : وتمسّكوا بالسبت ما دامت السموات والأرض ، فيكون المراد من خطوات الشيطان الشبهات التي يتمسّكون بها في بقاء تلك الشريعة (١).

قال ابن عبّاس : نزلت الآية في أهل الكتاب ، والمعنى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) بموسى وعيسى «ادخلوا» في الإسلام بمحمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ «كافّة» (٢).

وروى «مسلم» عن أبي هريرة ، عن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ قال : والّذي نفس محمّد بيده ، لا يسمع بي أحد من هذه الأمّة يهوديّ ولا نصرانيّ ، ثمّ لم يؤمن بالّذي أرسلت به إلّا كان من أصحاب النّار (٣).

ورابعها : أنّ المراد بهذا الخطاب المسلمون ، والمعنى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) دوموا على الإسلام فيما بقي من العمر ولا تخرجوا عنه (وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ) أي : ولا تلتفتوا إلى الشّبهات التي يلقيها إليكم أصحاب الضلالة والغواية (٤).

قال حذيفة بن اليمان في هذه الآية : الإسلام ثمانية أسهم : الصلاة سهم ، والزكاة سهم ، والصدقة سهم ، والحجّ سهم ، والعمرة سهم ، والجهاد سهم ، والأمر بالمعروف سهم ، والنّهي عن المنكر سهم ، وقد خاب من لا سهم له (٥).

فإن قيل : المؤمن الموصوف بالشيء يقال له : دم عليه ، ولا يقال له : ادخل فيه ، والمذكور في الآية هو قوله : «ادخلوا».

فالجواب : الكائن في الدار إذا علم أنّ له في المستقبل خروجا عنها ، فلا يمتنع أن يؤمر بدخولها في المستقبل ، وإن كان في الحال كائنا فيها ؛ لأن حال كونه فيها غير الحالة التي أمر أن يدخل فيها ، فإذا كان في الوقت الثاني قد يخرج عنها ، صحّ أن يؤمر بدخولها.

وقال آخرون : المراد ب «السّلم» في الآية الصّلح ، وترك المحاربة والمنازعة ، والتقدير : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً) ، أي : كونوا مجتمعين في نصرة الدين واحتمال البلوى فيه (وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ) بأن يحملكم على طلب الدّنيا ، والمنازعة مع الناس ، فهو كقوله : (وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ) [الأنفال : ٤٦] ، وقوله : (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا) [آل عمران : ١٠٣].

__________________

(١) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ١٧٦.

(٢) ينظر : تفسير القرطبي ٣ / ١٨.

(٣) تقدم.

(٤) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ١٧٦.

(٥) انظر : تفسير القرطبي «الجامع لأحكام القرآن» (٣ / ١٧ ـ ١٨) فقد ذكر هذا الأثر عن حذيفة بن اليمان.

٤٧٧

قوله تعالى : (وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ) أي : لا تطيعوه فيما يدعوكم إليه ، وتقدّم الكلام على خطواته.

وقوله : (إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ).

قال أبو مسلم (١) : مبين من صفات البليغ الذي يعرب عن ضميره.

قال ابن الخطيب (٢) : ويدلّ على صحة هذا المعنى قوله (حم وَالْكِتابِ الْمُبِينِ) [الدخان : ١ ـ ٢] ولا يعني بقوله «مبين» إلّا ذلك. فإن قيل : كيف يمكن وصف الشيطان بأنّه مبين مع أنّا لا نرى ذاته ، ولا نسمع كلامه؟

فالجواب أنه تعالى لمّا بيّن عداوته لآدم ونسله ، فلذلك الأمر صحّ أن يوصف بأنّه عدوّ مبين ، وإن لم يشاهد ؛ مثاله : من يظهر عدواته لرجل في بلد بعيد فقد يصح أن يقال : إنّ فلانا عدوّ مبين لك وإن لم يشاهده في الحال.

قال ابن الخطيب (٣) : وعندي فيه وجه آخر ، وهو : أن الأصل في الإبانة القطع ، والبيان إنّما سمّي بيانا لهذا المعنى فإنّه يقطع بعض الاحتمالات عن بعض ، فوصف الشيطان بأنه مبين بيانه : أنه يقطع الملكف بوسوسته عن طاعة الله وثوابه.

فإن قيل : كون الشيطان عدوّا لنا ، إمّا أن يكون بسبب أنه يقصد إيصال الآلام والمكاره إلينا في الحال ، أو بسبب أنّه بوسوسته يمنعنا عن الدين والثواب ، والأوّل باطل إذ لو كان كذلك لوقعنا في الأمراض والآلام وليس كذلك.

والثّاني ـ أيضا ـ باطل ؛ لأنّ من قبل منه تلك الوسوسة فإنه أتي من قبل نفسه ؛ لقوله : (وَما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ) [إبراهيم : ٢٢] وإذا كان الحال على ما ذكرناه ، فكيف يقال إنه عدوّ لنا؟

فالجواب : أنّه عدوّ من الوجهين معا أمّا من حيث أنّه يحاول إيصال البلاء إلينا ، فهو كذلك إلّا أنّ الله تعالى منعه عن ذلك ، ولا يلزم من كونه مريدا لإيصال الضرر إلينا أن يكون قادرا عليه ، وأمّا من حيث إنه يقدم على الوسوسة ، فمعلوم أنّ تزيين المعاصي وإلقاء الشبهات ، كلّ ذلك لوقوع الإنسان في الباطل وبه يصير محروما عن الثّواب.

قوله تعالى : (فَإِنْ زَلَلْتُمْ) الجمهور على «زللتم» : بفتح العين ، وأبو السّمّال (٤) قرأها

__________________

(١) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ١٧٨.

(٢) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ١٧٨.

(٣) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ١٧٨.

(٤) انظر : الشواذ ١٣ ، والمحرر الوجيز ١ / ٢٨٣ ، والبحر المحيط ٢ / ١٣٢ ، والدر المصون ١ / ٥١١.

٤٧٨

بالكسر ، فهما لغتان ؛ كضللت ، وضللت. و «ما» في «من بعدما» مصدريّة ، و «من» لابتداء الغاية ، وهي متعلّقة ب «زللتم».

معنى «زللتم» أي : ضللتم ، وقيل : ملتم ، يقال : زلّت قدمه تزلّ زلّا وزللا ، إذا دحضت ، وأصل الزلل في القدم ، واستعماله في الاعتقادات.

فصل

يروى عن ابن عباس : فإن زللتم في تحريم السّبت ، ولحم الإبل ، (مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ) يعني محمّدا وشرائعه ، (فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) في كلّ أفعاله ، فعند هذا قالوا : لئن شئت يا رسول الله ، لنتركنّ كلّ كتاب غير كتابك ، فأنزل الله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ) [النساء : ١٣٦] ومن قال : إن الآية الأولى في المنافقين قال في هذه الآية كذلك.

فإن قيل : إنّ الحكم المشروط إنما يحسن في حقّ من لا يكون عالما بعواقب الأمور ، وأجاب قتادة (١) عن ذلك فقال : قد علم أنّهم سيزلون ، ولكنه تعالى قدّم ذلك ، وأوعد فيه ؛ ليكون له الحجّة عليهم.

فصل

قوله : (مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ) يتناول جميع الدلائل العقليّة والسمعيّة.

أمّا العقليّة ، فالعلم بحدوث العالم ، وافتقاره إلى صانع يكون عالما بكلّ المعلومات ، قادرا على كل الممكنات ، غنيّا عن كل الحاجات.

وأمّا السمعيّة : فهي البيان الحاصل بالقرآن والسّنّة.

فصل

قال القرطبيّ (٢) : دلت الآية على أنّ عقوبة العالم بالذنب أعظم من عقوبة الجاهل به ، ومن لم تبلغه دعوة الإسلام لا يكون كافرا بترك الشّرائع.

فصل

قال القاضي (٣) : دلّت الآية على أنّ المؤاخذة بالذنب لا تحصل إلّا بعد البيان ، وإزاحة العلّة ، ودلت الآية على أنّ المعتبر حصول البيّنات ، لا حصول اليقين من المكلف.

__________________

(١) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ١٧١.

(٢) ينظر : تفسير القرطبي ٢ / ١٨.

(٣) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ١٧٩.

٤٧٩

وقوله : «عزيز» يدلّ على الزّجر ، والتهديد ، والوعيد ؛ لأن العزيز هو الذي لا يمنع عن مراده ، وذلك إنما يحصل بكمال القدرة ، وهو تعالى قادر على كل الممكنات ، فكأنّه تعالى قال : (فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ) فاعلموا أنّ الله قادر عليكم ، لا يمنعه عنكم مانع ، وهذا نهاية في الوعيد ، لأنه يجمع من ضروب الخوف ما لا يجمعه الوعيد بذكر العقاب ؛ كقول السيّد لعبده : إن عصيتني فأنت عارف بي ، وتعلم قدرتي عليك ، والآية كما أنها تدلّ على نهاية الوعد بقوله : «حكيم» فإنّ اللائق بالحكمة أن يميز بين المحسن والمسيء ، فكما يحسن من الحكيم إيصال العذاب إلى المسيء يحسن منه إيصال الثواب إلى المحسن ، بل هذا أليق بالحكمة ، وأقرب للرحمة ، وهذه الآية تدلّ على أنّه لا وجوب لشيء قبل الشّرع ؛ لأنه تعالى أثبت التهديد بشرط مجيء البينات ، وقبل الشرع لم تحصل كلّ البيّنات.

فصل

قال الجبّائيّ (١) : المجبرة تقول : إن الله تعالى يريد الكفر من الكفّار ، والسّفاهة من السّفهاء ، والله تعالى وصف نفسه بأنه حكيم ، ومن فعل السّفه وأراده لا يكون حكيما ، وأجيب بأن الحكيم هو العالم بعواقب الأمور ، فمعنى كونه تعالى حكيما أنّه عالم بجميع المعلومات وذلك لا ينافي كونه خالقا لكل الأشياء ، ومريدا لها.

فصل

يحكى أنّ قارئا قرأ (فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ فَاعْلَمُوا إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) فسمعه أعرابيّ ، فأنكره ؛ وقال : إنّ هذا كلام الله تعالى فلا يقول كذا ؛ الحكيم لا يذكر الغفران عند الزّلل ؛ [لأنه إغراء عليه].

قوله تعالى : (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) (٢١٠)

«هل» لفظه استفهام والمراد به النفي ؛ كقوله : [الطويل]

١٠٢٧ ـ وهل أنا إلّا من غزيّة إن غوت

غويت ، وإن ترشد غزيّة أرشد (٢)

أي : ما ينظرون ، وما أنا ، ولذلك وقع بعدها «إلّا» كما تقع بعد «ما». و «هل» تأتي على أربعة أوجه :

__________________

(١) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ١٨٠.

(٢) البيت لدريد بن الصمة ينظر : الحماسة ١ / ٣٩٧ ، الأصمعيات (١٠٧) ، الخزانة ٤ / ٥١٣ ، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي ص ٨١٥ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٩٣٨ ، والشعر والشعراء ٢ / ٧٥٤ ، واللسان (غزا) و (غوى) ، وجواهر الأدب ص ٣٦ ، والبحر ٢ / ١٣٢ ، والدر المصون ١ / ٥١٢.

٤٨٠