اللّباب في علوم الكتاب - ج ٣

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ٣

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٤٤

ثم قال : فإن قيل : أليس أنّه لو قيل : آتنا الحسنة في الدّنيا والحسنة وفي الآخرة ، لكان متناولا لكلّ الأقسام ، فلم ترك ذلك وذكره منكّرا؟

وأجاب (١) بأن قال : إنّا بيّنّا أنّه ليس للدّاعي أن يقول : اللهم أعطني كذا وكذا ، بل يجب أن يقول : اللهم إن كان كذا وكذا مصلحة لي ، وموافقا لقضائك وقدرك ، فأعطني

__________________

ـ ونصّ عليه سيبويه ، فإنه قال : قولك شربت ماء البحر محكوم بفساده ؛ لعدم الإمكان ، ولو لا اقتضاؤه العموم ، لما جاء الفساد.

لكن اختلف أصحابنا في أن العموم فيه من حيث اللفظ أو المعنى على وجهين ، حكاهما الشيخ أبو حامد ، وسليم الرازي في «التقريب» ، وابن السّمعاني في «القواطع» ، وصحّح ابن السّمعاني أنه من حيث المعنى ، وكأنه لما قال : (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ) [سورة المائدة : ٣٨] فهم أن القطع من أجل السّرقة.

وصحّح «سليم» أنه من جهة اللفظ ؛ لأن اللام إما للعهد وهو مفقود ، فبقي أن يكون لاستغراق الجنس ، وذلك مأخوذ من اللفظ ، وشرط بعضهم لإفادته العموم أن يصلح أن يخلف اللام فيه «كل» ؛ كقوله تعالى : (إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ) [سورة العصر : ٢] ولهذا صحّ الاستثناء منه.

والثاني : أنه يفيد تعريف الجنس ، ولا يحمل على الاستغراق إلا بدليل ، وحكاه صاحب «المعتمد» عن أبي هاشم ، وحكاه صاحب «الميزان» عن أبي علي الفارسي النحوي ، واختاره الإمام فخر الدين وأتباعه ، وحكى بعض شراح «اللمع» عن الجبائي أنه على العهد ، ولا يقتضي الجنس ، قال : وحقيقة هذا القول أنه إذا لم يعرف عين المعهود ، صار مجملا ، لأنه لا يعرف المراد إلا بتفسير ، وهذا صفة المجمل.

والثالث : أنه مشترك يصلح للواحد والجنس ، ولبعض الجنس ، ولا يصرف إلى الكل إلا بدليل ، وحكاه الغزالي ، وقال الأستاذ أبو إسحاق : ذهب بعض أصحابنا إلى أنه مجمل يحكم بظاهره ، ويطلب دليل المراد به.

والرابع : التفصيل بين ما فيه الهاء ، وبين ما لا هاء فيه ، فما ليس فيه الهاء للجنس عند فقدانها ، وفي القسم الآخر التوقف ، ونقله الأبياري عن إمام الحرمين ، وقال : إنه الصحيح ، والذي في «البرهان» ونقله عنه المازري : أنه إن تجرد عن عهد ، فللجنس ؛ نحو : الزانية والزاني ، وإن لاح عدم قصد المتكلم للجنس ، فللاستغراق ، نحو : الدينار أشرف من الدرهم ، وإن لم يعلم هل خرج على عهد أو إشعار بجنس ، فمجمل ، وأنه حيث يعم لا يعم بصيغة اللفظ ، وإنما ثبت عمومه ، وتناوله الجنس بحالة مقترنة معه مشعرة بالجنس.

الخامس : التفصيل بين أن يتميز لفظ الواحد فيه عن الجنس بالتاء ؛ كالتمر والتمرة ، فإذا عرّي عن التاء ، اقتضى الاستغراق ؛ كقوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ : (لا تبيعوا البر بالبر ، والتمر بالتمر). قال في «المنخول» : وأنكره «الفرّاء» مستدلا بجواز جمعه على «تمور» ، وردّ بأنه جمع على اللفظ لا المعنى ، وإن لم تدخل فيه التاء للتوحيد ، فإن لم يتشخص مدلوله ، ولم يتعدد ؛ «كالذهب» فهو لاستغراق الجنس ؛ إذ لا يعبر عن أبعاضه بالذهب الواحد ، وإن تشخّص مدلوله وتعدد ؛ كالدينار والرجل ، فيحتمل العموم ، نحو : «لا يقتل المسلم بالكافر» ، ويحتمل تعريف الماهية ، ولا يحمل على العموم إلا بدليل ، وإنما يفهم الجنس في قولك : الدينار أفضل من الدرهم ، بقرينة التّسعير.

ينظر : البحر المحيط ٣ / ٩٧ ـ ١٠٠.

(١) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ١٦١.

٤٤١

ذلك ، فلو قال : الله م أعطني الحسنة في الدّنيا ، لكان ذلك جزما ، وقد بيّنّا أنّه غير جائز ، فلمّا ذكره على سبيل التّنكير ، كان المراد منه حسنة واحدة ، وهي التي توافق قضاءه وقدره ، وكان ذلك أحسن وأقرب إلى رعايته الأدب.

وقوله : «قنا» ممّا حذف منه فاؤه ولامه من وقى يقي وقاية ، أمّا حذف فائه ، فبالحمل على المضارع ؛ لوقوع الواو بين ياء وكسرة كما حذفت يقي ويشي مثل بعد ، هذا قول البصريّين ، وقال الكوفيّون : حذفت فرقا بين اللازم والمتعدّي.

قال محمّد بن زيد : وهذا خطأ ؛ لأن العرب تقول : ورم يرم ، فيحذفون الواو وأمّا حذف لامه ؛ فلأنّ الأمر جار مجرى المضارع المجزوم ، وجزمه بحذف حرف العلة ؛ فكذلك الأمر منه ، فوزن «قنا» حينئذ : عنا ، والأصل : اوقنا ، فلمّا حذفت الفاء استغني عن همزة الوصل ، فحذفت ، و «عذاب» مفعول ثان.

قوله تعالى : «أولئك» : مبتدأ و «لهم» خبر مقدم ، و «نصيب» مبتدأ ، وهذه الجملة خبر الأول ، ويجوز أن يكون «لهم» خبر «أولئك» ، و «نصيب» فاعل به ؛ لما تضمنّه من معنى الفعل لاعتماده ، والمشار إليه ب «أولئك» فيه قولان :

أظهرهما : أنهما الفريقان : طالب الدنيا وحدها وطالب الدنيا والآخرة ، وقيل : بل لطالب الدنيا والآخرة ؛ لأنه ـ تعالى ـ ذكر حكم الفريق الأوّل ؛ حيث قال : (وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ).

قوله : (مِمَّا كَسَبُوا) متعلّق بمحذوف ؛ لأنه صفة ل «نصيب» ، فهو في محلّ رفع ، وفي «من» ثلاثة أقوال :

أحدها : أنها للتبعيض ، أي : نصيب من جنس ما كسبوا.

والثاني : أنها للسببية ، أي : من أجل ما كسبوا.

والثالث : أنها للبيان.

فصل

قال ابن عبّاس في قوله : (أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا) : هو الرّجل يأخذ مالا يحجّ به من غيره ؛ فيكون له ثواب.

و «ما» يجوز فيها وجهان : أن تكون مصدرية ، أي : من كسبهم ؛ فلا تحتاج إلى عائد.

والثاني : أنها بمعنى «الّذي» ، فالعائد محذوف ؛ لاستكمال الشروط ، أي : من الذي كسبوه.

و «الكسب» : يطلق على ما يناله العبد بعمله ، بشرط أن يكون لجرّ منفعة ، أو دفع مضرّة.

٤٤٢

قوله : (وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسابِ) السّريع فاعل من السّرعة قال ابن السّكّيت (١) : سرع يسرع سرعا وسرعة ، فهو سريع ؛ مثل عظم يعظم.

و «الحساب» مصدر كالمحاسبة ، ومعنى الحساب في اللّغة : العدّ ؛ قال : حسب يحسب حسابا وحسبة وحسبا إذا عدّ ذكره الليث وابن السّكّيت (٢) ، والحسب ما عدّ ؛ ومنه حسب الرّجل : وهو ما يعدّ من مآثره ومفاخره ، والمعنى أنّ الله سريع الحساب : لا يحتاج إلى عدّ ولا إلى عقد كما يفعله الحسّاب ، والاحتساب : الاعتداد بالشّيء.

وقال الزّجّاج (٣) : الحساب في اللّغة مأخوذ من قولهم : «حسبك كذا» ، أي : كفاك ، فسمّي الحساب في المعاملات حسابا ؛ لأنّه يعلم به ما فيه كفاية ، وليس فيه زيادة على المقدار ولا نقصان.

وقيل : (وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسابِ) قال الحسن (٤) : أسرع من لمح البصر.

وقيل : إتيان القيامة قريب ؛ لأن ما هو آت لا محالة قريب ؛ قال ـ تعالى ـ : (وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ) [الشورى : ١٧].

وقيل : سريع الحساب ، أي : سريع القبول لدعاء عباده والإجابة لهم ؛ لأنّه ـ تعالى ـ في الوقت الواحد يسأله السّائلون ، كلّ واحد منهم أشياء مختلفة من أمور الدّنيا والآخرة ، فيعطي كلّ واحد مطلوبه من غير أن يشتبه عليه شيء من ذلك.

فصل في أن الله هو المحاسب

اختلف الناس في معنى كونه ـ تعالى ـ محاسبا للخلق على وجوه :

أحدها : أنّ معنى الحساب : أنّه ـ تعالى ـ يعلّمهم ما لهم و [ما] عليهم ، بمعنى أنّه يخلق علوما ضروريّة في قلوبهم ، بمقادير أعمالهم وكمّيّتها وكيفيّاتها ، ومقادير ما لهم من الثّواب والعقاب.

قالوا : ووجه المجاز فيه أنّ الحساب سبب لحصول علم الإنسان بما له و [ما] عليه ، فإطلاق اسم الحساب على هذا الإعلام يكون من باب إطلاق اسم السّبب على المسبّب ، وهو مجاز مشهور.

ونقل عن ابن عباس (٥) ـ رضي الله عنهما ـ أنّه قال : لا حساب على الخلق ، بل يقفون بين يدي الله ـ تعالى ـ ، يعطون كتبهم بأيمانهم فيها سيئاتهم ، فيقال لهم : هذه سيّئاتكم قد تجاوزت عنها ، ثم يعطون حسناتهم ، ويقال لهم : هذه حسناتكم قد ضاعفتها لكم.

__________________

(١) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ١٦٢.

(٢) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ١٦٢.

(٣) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ١٦٢.

(٤) ينظر : تفسير الفخر الرازي ١ / ١٧٨.

(٥) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ١٦٢.

٤٤٣

الثاني : أنّ المحاسبة عبارة عن المجازاة ؛ قال ـ تبارك وتعالى ـ : (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها وَرُسُلِهِ فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً) [الطلاق : ٨] ، ووجه المجاز : أنّ الحساب سبب للأخذ والعطاء ، وإطلاق اسم السّبب على المسبّب جائز ؛ فحسن إطلاق لفظ الحساب على المجازاة.

الثالث : أنّه تعالى يكلّم العباد في أحوال أعمالهم ، وكيفيّة ما لها من الثّواب والعقاب ، فمن قال : إن كلامه ليس بحرف ولا صوت ، قال : إنّه تعالى يخلق في أذن المكلّف سمعا يسمع به كلامه القديم ؛ كما أنّه يخلق في عينيه رؤية يرى بها ذاته القديمة ، ومن قال : إنه صوت ، قال : إنّه ـ تعالى ـ يخلق كلاما يسمعه كلّ مكلّف ، إمّا بأن يخلق ذلك الكلام في أذن كلّ واحد منهم ، أو في جسم يقرب من أذنه ، بحيث لا تبلغ قوّة ذلك الصوت أن تمنع الغير من فهم ما كلّف به ، والله أعلم.

قوله تعالى : (وَاذْكُرُوا اللهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقى وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٢٠٣) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيُشْهِدُ اللهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ (٢٠٤) وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ (٢٠٥) وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهادُ)(٢٠٦)

قوله : «معدودات» : صفة لأيام ، وقد تقدّم أن صفة ما لا يعقل يطّرد جمعها بالألف والتاء ، وقد ذكر أبو البقاء هنا سؤالا ؛ فقال : إن قيل «الأيّام» واحدها «يوم» و «المعدودات» واحدتها «معدودة» ، واليوم لا يوصف بمعدودة ، لأنّ الصفة هنا مؤنثة ، والموصوف مذكّر ، وإنما الوجه أن يقال : «أيّام معدودة» فتصف الجمع بالمؤنث ، فالجواب أنه أجرى «معدودات» على لفظ «أيّام» ، وقابل الجمع بالجمع مجازا ، والأصل «معدودة» ؛ كما قال : (لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً) [البقرة : ٨٠] ، ولو قيل : إن الأيام تشتمل على السّاعات ، والساعة مؤنّثة ، فجاء الجمع على معنى ساعات الأيّام ، وفيه تنبيه على الأمر بالذّكر في كلّ ساعات هذه الأيام ، أو في معظمها ، لكان جوابا سديدا ، ونظير ذلك الشهر والصّيف والشتاء ؛ فإنها يجاب بها عن «كم» ، و «كم» إنما يجاب عنها بالعدد ، وألفاظ هذه الأشياء ليست عددا ، وإنما هي أسماء المعدودات ، فكانت جوابا من هذا الوجه. قال شهاب الدين وهذا تطويل من غير فائدة ، وقوله «مفرد معدودات معدودة بالتأنيث» ممنوع ، بل مفردها «معدود» بالتذكير ، ولا يضرّ جمعه بالألف والتاء ، إذ الجمع بالألف والتاء لا يستدعي تأنيث المفرد ؛ ألا ترى إلى قولهم : حمّامات وسجلّات وسرادقات.

٤٤٤

قال الكوفيّون : الألف والتّاء في «معدودات» لأقلّ العدد.

وقال البصريّون : هما للقليل والكثير ؛ بدليل قوله تعالى : (وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ) [سبأ : ٣٧] والغرفات كثيرة.

فصل

اعلم أنّ الله ـ تعالى ـ لمّا ذكر المشعر الحرام ، لم يذكر الرّمي لوجهين :

أحدهما : أنّ ذلك كان أمرا مشهورا عندهم ، وكانوا منكرين لذلك إلّا أنّه ـ تعالى ـ ذكر ما فيه من ذكر الله ـ تعالى ـ ؛ لأنهم كانوا لا يفعلونه.

الثاني : لعلّه إنما لم يذكر الرّمي ؛ لأن في الأمر بذكر الله في هذه الأيّام دليلا عليه ؛ إذ كان من سنّته التكبير على كلّ حصاة.

فصل

قال هنا : في أيّام معدودات ، وفي سورة الحجّ : (وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ) [الحج : ٢٨] ، فقال أكثر أهل العلم : الأيّام المعلومات : عشر ذي الحجّة ، آخرهن يوم النّحر.

والمعدودات : هي أيّام التّشريق (١) ؛ وهي أيّام منى ، ورمي الجمار ، وسمّيت معدودات لقلّتهن ؛ كقوله : (دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ) [يوسف : ٢٠] ولقوله تعالى بعده : (فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) ، وأجمعت الأمّة على أنّ هذا الحكم إنّما يثبت في أيّام منى ؛ وهي أيّام التّشريق.

قال الواحديّ (٢) ـ رحمه‌الله ـ : أيّام التّشريق ثلاثة أيّام بعد يوم النّحر :

أولها : يوم النّفر ؛ وهو الحادي عشر من ذي الحجّة ، يستقرّ النّاس فيه بمنّى.

والثاني : يوم النّفر الأول ؛ لأن بعض النّاس ينفرون في هذا اليوم من منّى.

والثّالث : يوم النّفر الثّاني ، وهذه الأيّام الثّلاثة مع يوم النّحر كلّها أيّام النّحر ، وعند أحمد ـ رحمه‌الله ـ : عند آخر وقت النّحر إلى يومين من أيّام التّشريق ، وأيّام التّشريق مع يوم النّحر أيام رمي الجمار ؛ وأيّام التكبير أدبار الصّلوات.

واستدلّ القفّال على أنّ الأيّام المعدودات هي أيّام التّشريق بما روى عبد الرّحمن بن يعمر الدئلي ؛ أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمر مناديا فنادى : «الحجّ عرفة ، من جاء ليلة جمع قبل

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٤ / ٢٠٨) والبيهقي في «شعب الإيمان» (٣ / ٣٥٩) رقم (٣٧٦٩) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ٤٢٠) وزاد نسبته للفريابي وعبد بن حميد والمروزي في «العيدين» وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والضياء في المختارة من طرق عن ابن عباس.

(٢) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ١٦٤.

٤٤٥

طلوع الفجر ، فقد أدرك الحجّ ، وأيّام منى ثلاثة أيّام ، فمن تعجّل في يومين فلا إثم عليه ، ومن تأخّر فلا إثم عليه» ، وهذا يدلّ على أنّ الأيّام المعدودات هي أيّام التّشريق.

وروي عن ابن عبّاس : «المعلومات» يوم النّحر ويومان بعده ، و «المعدودات» أيام التّشريق (١).

وعن علي ـ رضي الله عنه ـ قال : «المعلومات يوم النّحر وثلاثة بعده» (٢).

وروى عطاء عن ابن عباس : «المعلومات يوم عرفة والنّحر وأيّام التّشريق» (٣).

وقال محمد بن كعب : هما شيء واحد ، وهي أيّام التّشريق (٤) ، وروي عن نبيشة الهذلي ؛ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أيّام التّشريق أيّام أكل وشرب وذكر الله ، ومن الذّكر في أيّام التّشريق التكبير» (٥).

فصل

اعلم أنّ المراد بالذكر في هذه الأيّام : التكبير عند رمي الجمرات ، وأدبار الصلوات.

وروي عن عمر ، وعبد الله بن عمر ؛ أنّهما كانا يكبّران بمنى تلك الأيّام خلف

__________________

(١) أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عباس كما في «الدر المنثور» (١ / ٤٢٠).

(٢) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ٤٢٠) وعزاه لعبد بن حميد وابن أبي الدنيا وابن أبي حاتم عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه.

(٣) ينظر : تفسير البغوي ١ / ١٧٨.

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٤ / ٢٠٩) عن مجاهد وعطاء.

(٥) أخرجه مسلم (٣ / ١٥٣) وأحمد (٣ / ٤٦٠) والبيهقي (٤ / ٢٩٧) عن كعب بن مالك عن أبيه.

وأخرجه مسلم (٣ / ١٥٤) وأحمد (٥ / ٧٥) والبيهقي (٤ / ٢٩٨) والطحاوي (١ / ٤٢٨) عن نبيشة الهذلي مرفوعا بلفظ : أيام التشريق أيام أكل وشرب وأخرجه النسائي (٢ / ٢٦٧) والدارمي (٢ / ٢٣ ـ ٢٤) وابن ماجه (١٧٢٠) والطحاوي (١ / ٤٢٩) والطيالسي (١٧١٩) وأحمد (٤ / ٤١٥ و ٤ / ٣٣٥) عن بشر بن سحيم وأخرجه ابن ماجه (١٧١٩) والطحاوي (١ / ٤٢٨) وأحمد (٧١٣٤ ـ شاكر) عن أبي هريرة. قال البوصيري في «الزوائد» (١ / ١٠٩) إسناده صحيح على شرط الشيخين.

وأخرجه الطحاوي (١ / ٤٢٩) والحاكم (١ / ٤٣٤ ـ ٤٣٥) والبيهقي (٤ / ٢٩٨) وأحمد (١ / ٩٣ ، ١٠٤) من حديث علي.

وقال الحاكم : صحيح على شرط مسلم ووافقه الذهبي.

وأخرجه أبو داود (٢٤١٩) والترمذي (١ / ١٤٨) والدارمي (٢ / ٢٣) والطحاوي (١ / ٣٣٥) وابن حبان (٩٥٨) وابن خزيمة (٢١٠٠) والحاكم (١ / ٤٣٤) والبيهقي (٤ / ٢٩٨) عن عقبة بن عامر مرفوعا.

وقال الترمذي : حديث حسن صحيح.

وقال الحاكم : صحيح على شرط مسلم ووافقه الذهبي.

وقد خرجناه موسعا في تعليقنا على بداية المجتهد لابن رشد.

٤٤٦

الصّلوات ، وفي المجلس ، وعلى الفراش والفسطاط ، وفي الطّريق ، ويكبّر النّاس بتكبيرهما ، ويتلون هذه الآية.

وذهب الجمهور إلى أنّ التكبير عقيب الصّلوات مختصّ بعيد الأضحى ، [في حق الحاجّ وغيره.

وذهب أحمد ـ رحمه‌الله ـ إلى أنّه يستحبّ التكبير ليلة العيدين](١). واختلفوا في ابتدائه وانتهائه.

فقال مالك الشّافعي : يكبّر المحرم وغيره عقيب الصّلوات ، من صلاة الظّهر من يوم النّحر ، إلى بعد صلاة الصّبح من آخر أيّام التّشريق ، وهو قول ابن عبّاس ، وابن عمر ؛ لأن التكبير إنّما ورد في حقّ الحاجّ والنّاس تبع لهم ، وذكر الحاجّ قبل هذا الوقت هو التّلبية ، وهي تنقطع مع ابتداء الرّمي.

وقال أحمد ـ رحمه‌الله ـ : يكبّر المحرم من صلاة الظّهر يوم النّحر إلى آخر أيّام التّشريق ، وغير المحرم يكبّر من صلاة الصّبح يوم عرفة إلى العصر من آخر أيّام التّشريق ، روي ذلك عن علي وبه قال مكحول وأبو يوسف ، وروي هذا القول عن بعضهم في حقّ المحرم أيضا ، روي عن علي وعمر وابن مسعود وابن عبّاس.

وقال أبو حنيفة : يكبر المحرم وغيره من صلاة الصّبح يوم عرفة ، إلى بعد العصر يوم النّحر ، يروى ذلك عن ابن مسعود وعلقمة والأسود والنّخعي.

وللشافعي قول آخر : أنّه يبتدىء من صلاة المغرب ليلة النّحر ، إلى صلاة الصّبح من آخر أيام التّشريق ، وله قول ثالث : أنّه يبتدىء من صلاة الصّبح يوم عرفة إلى العصر من يوم النّحر ؛ وهو كقول أبي حنيفة ـ رضي الله عنه ـ.

فإن قيل : التكبير مضاف إلى الأيّام المعدودات وهي أيّام التّشريق ، فينبغي ألّا تكون مشروعة يوم عرفة.

فالجواب : أنّ هذا يقتضي ألّا يكون يوم النّحر داخلا فيها وهو خلاف الإجماع.

وصفة التكبير عند أهل العراق شفعا : الله أكبر الله أكبر ، لا إله إلا الله ، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد ، روي ذلك عن ابن مسعود ـ رضي الله عنهما ـ وهو قول أحمد.

وقال أهل المدينة : صفة التكبير : الله أكبر الله أكبر الله أكبر ثلاثا نسقا ، وهو قول سعيد بن جبير والحسن ، وبه قال مالك والشّافعي وأبو حنيفة ، ويقول بعده : لا إله إلا الله ، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد.

قوله تعالى : (فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) «من» يجوز فيها وجهان :

__________________

(١) سقط في ب.

٤٤٧

أحدهما : أن تكون شرطية ، ف «تعجّل» في محلّ جزم ، والفاء في قوله : «فلا» جواب الشرط والفاء وما في حيّزها في محلّ جزم أيضا على الجواب.

والثاني : أنها موصولة ب «تعجّل» فلا محلّ ل «تعجّل» ؛ لوقوعه صلة ، ولفظه ماض ، ومعناه يحتمل المضيّ والاستقبال ؛ لأنّ كلّ ما وقع صلة ، فهذا حكمه ؛ والفاء في «فلا» زائدة في الخبر ، وهي وما بعدها في محلّ رفع خبرا للمبتدأ.

قال القرطبي : «من» في قوله : (فَمَنْ تَعَجَّلَ) رفع بالابتداء ، والخبر (فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) ، ويجوز في غير القرآن : فلا إثم عليهم ؛ لأن معنى «من» جماعة ؛ كقول ـ تبارك وتعالى ـ : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ) [يونس : ٤٢] ، وكذلك «من تأخّر».

و «في يومين» متعلّق ب «تعجّل» ولا بدّ من ارتكاب مجاز ؛ لأن الفعل الواقع في الظرف المعدود يستلزم أن يكون واقعا في كلّ من معدوداته ، تقول : «سرت يومين» لا بد وأن يكون السير وقع في الأول والثاني أو بعض الثاني ، وهنا لا يقع التعجيل في اليوم الأول من هذين اليومين بوجه ، ووجه المجاز : إمّا من حيث إنّه نسب الواقع في أحدهما واقعا فيها ؛ كقوله : (نَسِيا حُوتَهُما) [الكهف : ٦١] و (يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ) [الرحمن : ٢٢] ، والنّاسي أحدهما ، وكذلك المخرج من أحدهما ، وإمّا من حيث حذف مضاف ، أي : في تمام يومين أو كمالهما.

و «تعجّل» يجوز أن يكون بمعنى «استعجل» ك «تكبّر ، واستكبر» ، أو مطاوعا ل «عجّل» نحو «كسّرته فتكسّر» ، أو بمعنى المجرّد ، وهو «عجل» ، قال الزمخشريّ : «والمطاوعة أوفق» ؛ لقوله : «ومن تأخّر» ؛ كما هي في قوله : [البسيط]

١٠٠٦ ـ قد يدرك المتأنّي بعض حاجته

وقد يكون مع المستعجل الزّلل (١)

لأجل قوله «المتأنّي». و «تعجّل واستعجل» يكونان لازمين ومتعدّيين ، ومتعلّق التعجيل محذوف ، فيجوز أن تقدّره مفعولا صريحا ، أي : من تعجّل النّفر ، وأن تقدّره مجرورا أي : بالنّفر ، حسب استعماله لازما ومتعدّيا.

وفي هذه الآيات من علم البديع : الطباق ، وهو ذكر الشيء وضده في «تعجّل وتأخّر» ، فهو كقوله : «أضحك وأبكى» و (أَماتَ وَأَحْيا) [النجم : ٤٣ ، ٤٤] ، وهذا طباق غريب ، من حيث جعل ضدّ «تعجّل» : «تأخّر» ، وإنما ضدّ «تعجّل» : «تأنّى» ، وضدّ «تأخّر» : «تقدّم» ، ولكنه في «تعجّل» عبّر بالملزوم عن اللازم ، وفي «تأخّر» باللازم عن الملزوم ، وفيها من علم البيان : المقابلة اللفظيّة ، وذلك أن المتأخّر بالنّفر آت بزيادة في العبادة ، فله زيادة في الأجر على المتعجّل ، فقال في حقه أيضا : «فلا إثم عليه» ؛ ليقابل

__________________

(١) البيت للقطامي. ينظر : ديوانه (٢) ، ومجالس ثعلب ٢ / ٣٦٩ ، شواهد الكشاف ٤ / ٤٧٧.

٤٤٨

قوله أولا : (فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ ؛ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) ، فهو كقوله : (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) [الشورى : ٤٠] (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ) [البقرة : ١٩٤].

وذكر ابن الخطيب (١) هنا سؤالا ؛ فقال : قوله : (وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) فيه إشكال ؛ لأنه إذا كان قد استوفى كلّ ما يلزمه في تمام الحجّ ، فما معنى قوله : (فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) فهذا اللّفظ إنما يقال في حقّ المقصّر ، وأجاب بوجوه :

أحدها : ما تقدّم من المقابلة ، ونقله عن الواحدي.

وثانيها : أنّه ـ تعالى ـ لما أذن في التّعجيل على سبيل الرّخصة ، احتمل أن يخطر بالبال أنّ من لم يترخّص (٢) فإنه يأثم. كما قال أبو حنيفة ـ رضي الله عنه ـ : القصر عزيمة والإتمام غير واجب ، ومذهب أحمد ـ رحمه‌الله ـ : القصر والفطر في السّفر أفضل ، فأزال الله ـ تعالى ـ هذه الشّبهة ، وبيّن أنه لا إثم عليه في الأمرين ، فإن شاء تعجّل وإن شاء تأخّر.

وثالثها : قال بعض المفسّرين (٣) : إن منهم من كان يتعجّل ، ومنهم من كان يتأخّر ، وكل واحد من الفريقين يعيب على الآخر فعله ، ويقول : هو مخالف لسنّة الحجّ ، فبيّن الله ـ تعالى ـ أنّه لا عيب على كلّ واحد من الفريقين.

ورابعها : أنّ المعنى في إزالة الإثم عند المتأخّر ؛ إنما هو لمن زاد على مقام الثّلاث ؛ فكأنّه قيل : أيّام منى التي ينبغي المقام فيها هي ثلاث ، فمن نقّص منها وتعجّل في يومين ، فلا إثم عليه ، ومن زاد عليها فتأخّر عن الثّالث إلى الرّابع ؛ فلم ينفر مع النّاس ، فلا شيء عليه.

__________________

(١) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ١٦٥.

(٢) الرخصة لغة : السهولة ، وشرعا : الحكم المتغير من صعوبة على المكلف إلى سهولة ؛ لعذر ، مع قيام السبب للحكم الأصلي واجبا ؛ كأكل الميتة ، ومندوبا ؛ كالقصر إذا بلغ السفر ثلاثة أيام ؛ ومباحا ؛ كالسلم ، وخلاف الأولى ؛ كفطر المسافر الذي لا يجهده الصوم ، والحكم الأصلي في المذكورات : الحرمة ، والسبب : الخبث في الميتة ؛ ودخول وقتي الصلاة والصوم في القصر والفطر ؛ والغرر في السلم ، وهو قائم حال الحلّ ؛ والعذر لإضرار ، ومشقة السفر ، والحاجة إلى ثمن الغلات قبل إدراكها وسهولة الوجوب في أكل الميتة ، لموافقته لغرض النفس في بقائها ، فإن لم يتغير الحكم فهو العزيمة ؛ بأن لم يتغير أصلا ؛ كوجوب الصلوات الخمس ، أو تغير إلى صعوبة ؛ كحرمة الاصطياد بالإحرام بعد إباحته قبله ، أو إلى سهولة لا لعذر ؛ كحلّ ترك الوضوء لصلاة ثانية مثلا ، لمن لم يحدث بعد حرمته ؛ أو لعذر لا مع قيام السبب للحكم الأصلي ؛ كإباحة ترك ثبات الواحد مثلا من المسلمين ، للعشرة من الكفار في القتال بعد حرمته ، وسبب الحرمة : قلة المسلمين ، ولم تبق حال الإباحة ؛ لكثرتهم حينئذ ، والعذر في الإباحة مشقة الثبات المذكور ، لمّا كثروا.

واختلف الأئمة في القصر ، هل هو رخصة أو عزيمة فقال «أبو حنيفة» : هو عزيمة ، فهو عنده من النّوع الأول من أنواع العزيمة ، وقال «مالك» ، و «الشافعي» ، «وأحمد» : هو رخصة.

(٣) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ١٦٦.

٤٤٩

وخامسها : أنّه ذكر هذا الكلام ؛ مبالغة في أن الحجّ يكفّر الذّنوب والآثام ؛ كما إذا تناول الإنسان التّرياق فيقول له الطّبيب : إن تناولت السّمّ فلا ضرر وإن لم تتناوله فلا ضرر ، ومقصوده بيان أن التّرياق دواء كامل في دفع المضار ، لا بيان أن تناول السّمّ وعدم تناوله يجريان مجرّى واحدا ؛ فكذا ههنا المقصود من هذا الكلام بيان المبالغة في كون الحجّ مكفّرا لكلّ الذّنوب ؛ لأن التّعجيل وتركه سيّان ؛ ومما يدلّ على أن الحجّ سبب قويّ في تكفير الذّنوب قوله ـ عليه‌السلام ـ «من حجّ فلم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمّه» (١) ، وهنا قول عليّ وابن مسعود.

فصل

وقرأ الجمهور «فلا إثم» بقطع الهمزة على الأصل ، وقرأ (٢) سالم بن عبد الله : «فل اثم» بوصلها وحذف ألف لا ، ووجهه أنه خفّف الهمزة بين بين فقربت من الساكن ، فحذفها ؛ تشبيها بالألف ، فالتقى ساكنان : ألف «لا» وثاء «إثم» ، فحذفت ألف «لا» ؛ لالتقاء الساكنين ، وقال أبو البقاء (٣) ـ رحمه‌الله تعالى ـ : «ووجهها أنّه لمّا خلط الاسم ب «لا» حذف الهمزة ؛ تشبيها بالألف» يعني أنه لمّا ركّبت «لا» مع اسمها ، صارا كالشيء الواحد ، والهمزة شبيهة الألف ، فكأنه اجتمع ألفان ، فحذفت الثانية لذلك ، ثم حذفت الألف لسكونها وسكون الثّاء.

فصل

قال القرطبي : روى الثّقات ؛ أن النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمر أمّ سلمة أن تصبح بمكّة يوم النّحر ، وكان يؤمّها (٤) ، وهذا يدلّ على أنّها رمت الجمرة بمنى قبل الفجر ؛ لأن هذا لا يكون إلّا وقد رمت الجمرة بمنى ليلا قبل الفجر.

وروى أبو داود عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة ؛ أنّها قالت : «أرسل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأمّ سلمة ليلة يوم النّحر ، فرمت الجمرة قبل الفجر ، ثم مضت فأفاضت (٥) ، وكان ذلك اليوم الذي يكون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عندها». فإذا ثبت ذلك فالرّمي باللّيل جائز لمن فعله ، والاختيار من طلوع الشّمس إلى زوالها ، وأجمعوا على أن من رماها قبل غروب الشّمس من يوم النّحر ، فقد أجزأ ولا شيء عليه ، إلا مالكا ؛ فإنه قال : يستحب له أن يهرق دما.

__________________

(١) تقدم.

(٢) انظر : البحر المحيط ٢ / ١٢٠ ، والدر المصون ١ / ٥٠٢.

(٣) ينظر : الإملاء ٢ / ٨٨.

(٤) انظر : تفسير القرطبي «الجامع الأحكام القرآن» (٣ / ٦).

(٥) أخرجه أبو داود (١ / ٥٩٨) كتاب المناسك : باب التعجيل من جمع (١٩٤٢).

٤٥٠

واختلفوا فيمن لم يرمها حتى غابت الشّمس ، ورماها من اللّيل أو من الغد ، هل يلزمه دم أم لا؟

فصل

المبيت بمنى ليالي منى (١) واجب ؛ لرمي الجمار في كلّ يوم بعد الزّوال إحدى وعشرين حصاة ، عند كل جمرة سبع حصيات ، ويرخّص في ترك المبيت لرعاء الإبل وأهل سقاية الحاجّ ، ثم من رمى اليوم الثاني من أيام التّشريق ، وأراد أن ينفر ويدع المبيت في اللّيلة الثّالية ، ورمى يومها ، فله ذلك ؛ بشرط أن ينفر قبل غروب الشمس ، فإن غربت الشمس وهو بمنى ، لزمه المبيت بها والرّمي من غد ، هذا مذهب الشّافعي وأحمد ، وهو قول أكثر التّابعين.

وقال أبو حنيفة : يجوز أن ينفر ما لم يطلع النحر ؛ لأن وقت الرّمي لم يدخل.

فصل

إذا ترك الرّمي ، فذكره بعدما صدر وهو بمكّة ، بعد ما خرج منها ، فعليه الهدي ، وسواء ترك الجمار كلّها ، أو جمرة منها ، أو حصاة من جمرة ، حتى خرجت أيّام منى فعليه دم ، وإن ترك جمرة واحدة ، كان عليه بكل حصاة من الجمرة إطعام مسكين نصف صاع ، إلى أن يبلغ دما ، إلّا جمرة العقبة فعليه دم.

__________________

(١) والقول بوجوب المبيت ب «منى» هو الأصح من قولي الشافعي ، وعليه النووي ، وبه قال «مالك» ، و «أحمد» ، والقول الثاني : إنه سنّة ، وعليه «الرافعي» ، وبه قال «أبو حنيفة».

ويبتدىء حدّ «منى» من «وادي محسّر» ، وينتهي إلى أوّل العقبة.

والحكمة في المبيت بمنى هي إعلان شوكة الإسلام ، وإظهار عزه وعظمته ؛ فإن الإسلام في حاجة شديدة إلى مثل هذا الاجتماع ، وخصوصا في مثل هذه الظروف العصيبة التي يجتازها المسلمون في مشرق الأرض ومغربها ؛ ليتمكنوا في خلال هذه الأيام من البحث في شئونهم والمعاهدات التي يعقدونها ، ومعالجة أمراض الضعف التي تفشت في أممهم ، وبذاك تقوى الروابط الأخوية ، وتتحد صفوف المسلمين ، وتفض الخصومات والمنازعات التي دبّت بين أمم الإسلام ، هذا ما عدا التعارف والتحابب والتآلف ، وازدياد إغداق الخيرات على أهل الحجاز طول هذه المدة ، وإنما كان ب «منى» لأن العرب كانوا في الجاهلية قد اتخذوها في زمن الحجّ متسوّقا ، تروج فيه بضاعتهم ؛ لحاجتهم الشديدة لذلك ، ولم يجعلوا ذلك ب «مكة» ؛ لأنهم علموا أنها تضيق بمن في ذلك الموسم ؛ ولأن في تخصيص بعض القبائل ب «منى» وهو فضاء واسعة الأرجاء ؛ ايغارا لصدورهم ، ثم استتبع ذلك ما هو ديدنهم من التفاخر والتكاثر ، فكانت كل قبيلة تظهر به ما في طاقتها من القوّة والمنعة ؛ ليسير ذلك بسير الركبان إلى أقاصي الأقطار ، فلما جاء الإسلام ورأى الشارع الحاجة إلى مثل هذا الاجتماع لتعلم فيه قوته ، وتظهر فيه شوكته ، فيعلو قدره ، ويسمو ذكره ، لم يكن بدّ من جعله في ذلك المكان ، وتطهيره ممّا كان به في الجاهلية ؛ من التفاخر ، والتكاثر بالأهل والعشيرة ، لما ينجم عن بقائهما من الشرّ والتفريق الذين جاء الإسلام بخلافهما.

٤٥١

وقال الأوزاعي : يتصدّق إن ترك حصاة ، وقال الثّوري : يطعم في الحصاة والحصاتين والثلاث ، فإن ترك أربعا فعليه دم ، وقال اللّيث : في الحصاة الواحدة دم ، نقله القرطبي.

فصل

قال القرطبي ـ رحمه‌الله تعالى ـ : من بقي في يده حصاة لا يدري من أيّ الجمار هي ، جعلها في الأولى ورمى بعدها الوسطى والآخرة ، فإن طال ، استأنف جميعا.

قوله : «لمن اتّقى» هذا الجارّ خبر مبتدأ محذوف ، واختلفوا في ذلك المبتدأ حسب اختلافهم في تعلّق هذا الجار من جهة المعنى ، لا الصناعة ، فقيل : يتعلّق من جهة المعنى بقوله : (فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) فتقدّر له ما يليق به ، أي : انتفاء الإثم لمن اتّقى ، وقيل : متعلّق بقوله : «واذكروا» أي : الذكر لمن اتقى ، وقيل : متعلّق بقوله : (غَفُورٌ رَحِيمٌ) ، أي : المغفرة لمن اتّقى ، وقيل : التقدير : السلامة لمن اتّقى ، وقيل : التقدير : ذلك التخيير ونفي الإثم عن المستعجل والمتأخّر ؛ لأجل الحاجّ المتّقي ؛ لئلّا يتخالج في قلبه شيء منهما ، فيحسب أنّ أحدهما يرهق صاحبه إثما في الإقدام عليه ؛ لأنّ ذا التقوى حذر متحرز من كل ما يريبه ، وقيل : التقدير : ذلك الذي مرّ ذكره من أحكام الحج وغيره لمن اتقى ؛ لأنه هو المنتفع به دون غيره ، كقوله : (ذلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ) [الروم : ٣٨] ، قال هذين التقديرين الزمخشريّ ، وقال أبو البقاء (١) : «تقديره : جواز التعجيل والتأخير لمن اتقى» ، وكلّها متقاربة ، ويجوز أن يكون (لِمَنِ اتَّقى) في محلّ نصب على أن اللام لام التعليل ، ويتعلّق بقوله (فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) أي : انتفى الإثم ؛ لأجل المتّقي ، ومفعول : «اتّقى» محذوف ، أي : اتّقى الله ، وقد جاء مصرّحا به في مصحف عبد الله ، وقيل : اتّقى الصّيد.

فصل

في هذه التّقوى وجوه :

أحدها : قال أبو العالية (٢) : ذهب أئمة أن «اتّقى» فيما بقي من عمره ، ولا يتّكل على ما سلف من أعمال الحجّ.

وثانيها : أنّ هذه المغفرة لا تحصل إلّا لمن كان متّقيا قبل حجّة ؛ كقوله : (إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) [المائدة : ٢٧] ؛ لأن المصرّ على الذّنب لا ينفعه حجّه ، وإن كان قد أدّى الفرض في الظّاهر.

وثالثها : أنّه المتّقي عن جميع المحظورات حال اشتغاله بالحجّ ؛ لقوله عليه‌السلام : «من حجّ فلم يرفث ولم يفسق ...».

__________________

(١) ينظر : الإملاء ١ / ٨٨.

(٢) ينظر : تفسير البغوي ١ / ١٧٩.

٤٥٢

ورابعها : روى الكلبي عن ابن عباس : «لمن اتّقى الصّيد وما يلزمه اجتنابه من محظورات الإحرام» (١).

قال ابن الخطيب (٢) : وهذا ضعيف من وجهين :

أحدهما : أنّه تقييد للّفظ المطلق بغير دليل.

والثاني : أنّ هذا لا يصحّ إلّا إذا حمل على ما قبل هذه الأيّام ؛ لأنه في يوم النّحر إذا رمى وطاف وحلق ، فقد تحلّل قبل رمي الجمار ، فلا يلزمه اتّقاء الصّيد في هذه الأيّام.

قوله : (وَاتَّقُوا اللهَ) فهو أمر في المستقبل ، وهو مخالف لقوله : (لِمَنِ اتَّقى) الذي أريد به الماضي ، فلا يكون تكرارا ، وقد تقدم أن التّقوى عبارة عن فعل الواجبات وترك المحظورات.

وقوله : (وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ).

فهو توكيد للأمر بالتّقوى ؛ لأن من تصور الحشر والمحاسبة والمساءلة ، وأنّ بعد الموت لا دار إلّا الجنّة أو النّار ، صار ذلك من أقوى الدّواعي إلى التّقوى ، وأمّا الحشر : فهو اسم يقع على ابتداء أوّل خروجهم من الأجداث ، يوم لا مالك سواه ولا ملجأ إلّا إيّاه.

قوله : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُه).

لمّا ذكر الذين قصرت همّتهم على الدّنيا في قوله : «ومن (النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا) حسنة» ، والمؤمنين الذين سألوا خير الدّارين ، ذكر المنافقين ؛ لأنّهم أظهروا الإيمان وأسرّوا الكفر.

قوله تعالى : (مَنْ يُعْجِبُكَ:) يجوز في «من» أن تكون موصولة ، وأن تكون نكرة موصوفة ، وقد تقدّم نظيرها ، والإعجاب : استحسان الشيء ، والميل إليه ، والتعظيم له ، والهمزة فيه للتعدّي.

وقال الراغب (٣) : «العجب حيرة تعرض للإنسان عند الجهل بسبب الشّيء ، وليس هو شيئا له في ذاته حالة ، بل هو بحسب الإضافات إلى من يعرف السّبب ومن لا يعرفه ، وحقيقة : أعجبني كذا : ظهر لي ظهورا لم أعرف سببه» ، ويقال : عجبت من كذا ، قال القائل : [الرجز]

__________________

(١) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ٤٢٣) وعزاه لسفيان بن عيينة وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس.

(٢) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ١٦٧.

(٣) ينظر : المفردات ٣٣٣.

٤٥٣

١٠٠٧ ـ عجبت والدّهر كثير عجبه

من عنزيّ سبّني لم أضربه (١)

قال بعض المفسّرين : يقال في الاستحسان : أعجبني كذا ، وفي الإنكار والكراهة : عجبت من كذا.

قوله : «في الحياة» فيه وجهان :

أحدهما : أن يتعلق ب «قوله» ، أي : يعجبك ما يقوله في معنى الدنيا ، لأنّ ادّعاءه المحبة بالباطل يطلب حظّا من الدنيا.

والثاني : أن يتعلّق ب «يعجبك» ، أي : قوله حلو فصيح في الدّنيا ، فهو يعجبك ولا يعجبك في الآخرة ، لما يرهقه في الموقف من الاحتباس واللّكنة ، أو لأنه لا يؤذن لهم في الكلام ، قال أبو حيان : «والذي يظهر أنه متعلّق ب «يعجبك» ، لا على المعنى الذي قاله الزمخشري ، بل على معنى أنك تستحسن مقالته دائما في مدّة حياته ؛ إذ لا يصدر منه من القول إلا ما هو معجب رائق لطيف ، فمقالته في الظاهر معجبة دائما ، لا تراه يعدل عن تلك المقالة الحسنة الرائعة إلى مقالة منافية».

قوله : (وَيُشْهِدُ اللهَ) في هذه الجملة وجهان :

أظهرهما : أنها عطف على «يعجبك» ، فهي صلة لا محلّ لها من الإعراب ، أو صفة ، فتكون في محلّ رفع على حسب القولين في «من».

والثاني : أن تكون حالية ، وفي صاحبها حينئذ وجهان :

أحدهما : أنه الضمير المرفوع المستكن في «يعجبك».

والثاني : أنه الضمير المجرور في «قوله» ، تقديره : يعجبك أن يقول في أمر الدنيا ، مقسما على ذلك.

وفي جعلها حالا نظر من وجهين :

أحدهما : من جهة المعنى ، فإنه يلزم منه أن يكون الإعجاب والقول مقيدين بحال ، والظاهر خلافه.

والثاني : من جهة الصّناعة وهو أنّه مضارع مثبت ، فلا يقع حالا إلا في شذوذ ؛ نحو : «قمت وأصكّ عينه» أو ضرورة ؛ نحو : [المتقارب]

١٠٠٨ ـ ..........

نجوت وأرهنهم مالكا (٢)

وتقديره مبتدأ قبله على خلاف الأصل ، أي : وهو يشهد.

__________________

(١) البيت لزياد الأعجم ، ينظر : الكتاب (١٨٠١) المحتسب ١ / ١٩٦ ، شرح المفصل ٩ / ٧٠ ، الهمع ٢ / ٢٠٨ ، الدرر ٢ / ٢٣٤ ، اللسان : (لمم) الدر المصون (١ / ٥٠٣).

(٢) تقدم برقم ٤٤٥.

٤٥٤

والجمهور على ضمّ حرف المضارعة وكسر الهاء ، مأخوذا من «أشهد» ونصب الجلالة مفعولا به ، وقرأ أبو حيوة وابن محيصن بفتحهما ورفع الجلالة فاعلا.

قال القرطبيّ ـ رحمه‌الله تعالى ـ : ويؤيّده قراءة (١) ابن عباس «والله يشهد على ما في قلبه».

وقرأ أبي (٢) : «يستشهد الله».

فأمّا قراءة الجمهور وتفسيرهم ، فإن المعنى : يحلف بالله ويشهده أنّه صادق ، وقد جاءت الشهادة بمعنى القسم في آية اللّعان ، وقيل : فيكون اسم الله منتصبا على حذف حرف الجر ، أي : يقسم بالله ، قال شهاب الدين : وهذا سهو من قائله ؛ لأنّ المستعمل بمعنى القسم «شهد» الثلاثيّ ، لا «أشهد» الرباعيّ ، لا تقول : أشهد بالله ، بل : أشهد بالله ، فمعنى قراءة الجمهور : يطّلع الله على ما في قلبه ، ولا يعلم به أحد ، لشدة تكتّمه.

وأمّا تفسير الجمهور : فيحتاج إلى حذف ما يصحّ به المعنى ، تقديره : ويحلف بالله على خلاف ما في قلبه ؛ لأن الذي في قلبه هو الكفر ، وهو لا يحلف عليه ، إنما يحلف على ضدّه ، وهو الذي يعجب سامعه ، ويقوّي هذا التأويل قراءة (٣) أبي حيوة ؛ إذ معناها : ويطّلع الله على ما قلبه من الكفر. وأمّا قراءة أبيّ : فيحتمل «استفعل» وجهين :

أحدهما : أن يكون بمعنى «أفعل» ؛ فيوافق قراءة الجمهور.

والثاني : أنه بمعنى المجرّد وهو «شهد» ، وتكون الجلالة منصوبة على إسقاط الخافض.

قوله : «وهو ألدّ الخصام» الكلام في هذه الجملة كالتي قبلها ، وهنا وجه آخر ، وهو أن تكون حالا من الضمير في «يشهد» ، والألد : الشديد ؛ من اللّدد ، وهو شدة الخصومة ؛ قال: [الخفيف]

١٠٠٩ ـ إنّ تحت التّراب عزما وحزما

وخصيما ألدّ ذا مغلاق (٤)

ويقال : لددت بكسر العين ألدّ بفتحها ، ولددته بفتح العين ألدّه بضمها أي : غلبته في ذلك ، فيكون متعديا ، قال الشاعر : [الرجز]

١٠١٠ ـ تلدّ أقران الرّجال اللّدّ (٥)

__________________

(١) انظر : الشواذ ١٢ ، والمحرر الوجيز ١ / ٢٧٩ ، والبحر المحيط ٢ / ١٢٢ ، والدر المصون ١ / ٥٠٤.

(٢) انظر : القرطبي ٣ / ١٢.

(٣) وبها قرأ ابن مسعود.

انظر : المحرر الوجيز ١ / ٢٧٩ ، والبحر المحيط ٢ / ١٢٢ ، والدر المصون ١ / ٥٠٤.

(٤) البيت لمهلهل ينظر : القرطبي (٣ / ١٦) ، الدر المصون (١ / ٥٠٤).

(٥) ينظر : الطبري ٤ / ٢٣٥ ، الدر المصون (١ / ٥٠٥).

٤٥٥

تلدّ أقران الرّجال ، معناه أنّه في أي وجه أخذ خصمه من اليمين أو الشمال في أبواب الخصومة غلبه.

ورجل ألدّ وألندد ويلندد ، وامرأة لدّاء ، والجمع «لدّ» ك «حمر».

وفي اشتقاقه أقوال : قال الزجّاج (١) : من لديدي العنق ، وهما صفحتاه.

وقيل : من لديدي الوادي ، وهما جانباه ، سمّيا بذلك ؛ لا عوجاجهما.

وقيل : هو من لدّه إذا حبسه ، فكأنه يحبس خصمه عن مفاوضته.

و «الخصام» فيه قولان :

أحدهما : قال الزجّاج : وهو جمع خصم بالفتح ؛ نحو : كعب وكعاب ، وكلب وكلاب ، وبحر وبحار ، وعلى هذا فلا تحتاج إلىّ تأويل.

والثاني : قال الخليل وأبو عبيد إنه مصدر ، يقال : خاصم خصاما ، نحو قاتل قتالا ، وعلى هذا فلا بد من مصحّح لوقوعه خبرا عن الجثّة ، فقيل : في الكلام حذف من الأول ، أي وخصامه أشدّ الخصام ، وجعل أبو البقاء «هو» ضمير المصدر الذي هو «قوله» فإنه قال : ويجوز أن يكون «هو» ضمير المصدر الذي هو «قوله» وهو خصام ، والتقدير : خصامه ألدّ الخصام.

وقيل : من الثاني ، أي : وهو أشدّ ذوي الخصام ، وقيل : أريد بالمصدر اسم الفاعل ؛ كما يوصف به في قولهم : رجل عدل وخصم ، وقيل : «أفعل» هنا ليست للتفضيل ، بل هي بمعني لديد الخصام ، فهو من باب إضافة الصفة المشبهة ، وقال الزمخشريّ (٢) : والخصام المخاصمة ، وإضافة الألدّ بمعنى «في» ؛ كقولهم : «ثبت الغدر» يعني أن «أفعل» ليس من باب ما أضيف إلى ما هو بعضه ، بل هي إضافة على معنى «في» ؛ قال أبو حيان : وهذا مخالف لما يزعمه النحاة من أنّ «أفعل» لا تضاف إلا إلى ما هي بعضه ، وفيه إثبات الإضافة بمعنى «في» ، وهو قول مرجوح ، وقيل : «هو» ليس ضمير «من» بل ضمير الخصومة يفسّره سياق الكلام ، أي : وخصامه أشدّ الخصام.

فصل في بيان عموم هذه الآية

قال بعض المفسّرين : هذه الآية الكريمة مختصّة بأقوام معيّنين ، وقال بعضهم : إنّها عامة في كلّ من اتّصف بهذه الصّفة ، والأولون اختلفوا على وجوه :

أحدها : أنها نزلت في الأخنس بن شريق (٣) الثقفي حليف بني زهرة ، واسمه : أبي ، وسمّي الأخنس ؛ لأنه خنس يوم بدر بثلاثمائة من بني زهرة عن قتال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ،

__________________

(١) ينظر : معاني القرآن ١ / ٢٦٧.

(٢) ينظر : الإملاء ١ / ٨٩.

(٣) في ب : شريف.

٤٥٦

وكان رجلا حلو المنظر ، حلو الكلام ، وكان يأتي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيجالسه ويظهر الإسلام ، ويقول : إنيّ أحبّك ، ويحلف بالله على ذلك ، وكان منافقا ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يدنيه في مجلسه ، وكان حسن العلانية خبيث الباطن ، فخرج من عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فمرّ بزرع لقوم من المسلمين فأحرق الزّرع ، وقيل : المواشي ، وقيل : بيّت قوما من ثقيف فلبسهم ، وأهلك مواشيهم ، وأحرق زرعهم.

وقال مقاتل (١) : خرج إلى الطّائف مقتضيا مالا له على غريم فأحرق له كدسا (٢) ، وعقر له أتانا (٣) ، والنّسل : نسل كلّ حيوان من ناطق ، وغيره ؛ فنزلت الآية الكريمة.

الثّاني : أنّ الأخنس أشار على بني زهرة بالرّجوع يوم بدر وقال لهم : إنّ محمّد ابن أخيكم ، فإن يك كاذبا كفاكموه سائر النّاس ، وإن يك صادقا كنتم أسعد النّاس به ، قالوا نعم الرّأي ما رأيت قال : فإذا نودي في النّاس بالرحيل فإنّي أخنس بكم ، فاتّبعوني ، ثمّ انخنس بثلاثمائة من بني زهرة عن قتال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وسمّي بهذا السّبب الأخنس ، فبلغ ذلك رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فأعجبه.

قال ابن الخطيب (٤) : وعندي أنّ هذا القول ضعيف ، لأنّه لا يستوجب الذّمّ بهذا العمل ، والآية مذكورة في معرض الذّمّ ، فلا يمكن حملها عليه.

الثالث : روي عن ابن عبّاس والضحّاك أنّ كفّار قريش بعثوا إلى النّبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أنّا قد أسلمنا ، فابعث إلينا نفرا من علماء أصحابك ، فبعث إليهم جماعة ، فنزلوا ببطن الرجيع ، ووصل الخبر إلى الكفّار ، فركب منهم سبعون راكبا ، وأحاطوا بهم ، وقتلوهم ، وصلبوهم ، فنزلت هذه الآية الكريمة ، ولذلك عقّبه بقول (مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ)(٥) فنبّه بذلك على حال هؤلاء الشّهداء.

القول الثّاني : وهو اختيار أكثر المحقّقين من المفسّرين ، أنّها عامّة في كلّ من اتّصف بهذه الصّفة المذكورة ، نقل عن محمّد بن كعب القرظي (٦) أنّه جرى بينه وبين غيره كلام في الآية فقال : إنّها وإن نزلت فيمن ذكرتهم ، فلا يمتنع أن تنزل الآية الكريمة في

__________________

(١) ينظر : تفسير البغوي ١ / ١٠٨.

(٢) الكداس : الحب المحصود المجموع. ينظر : المعجم الوسيط ٢ / ٧٧٩.

(٣) الأتان : الحمارة. ينظر : المعجم الوسيط ١ / ٤.

(٤) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ١٦٨.

(٥) أخرجه الطبري «في تفسيره» (٤ / ٢٣٠) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ٤٢٧) وزاد نسبته لابن إسحق وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس.

(٦) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ١٦٨.

٤٥٧

الرّجل ، ثم تكون عامّة في كلّ من كان موصوفا بهذه الصّفات.

وروت عائشة ـ رضي الله عنهما ـ عن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : ـ «إنّ أبغض الرّجال إلى الله الألدّ الخصم» (١).

قال ابن الخطيب (٢) : نزول الآية الكريمة على سبب لا يمنع من العموم ، بل في الآية الكريمة ما يدلّ على العموم من وجوه :

الأول : أنّ ترتيب الحكم على الوصف المناسب مشعرا بالعلّيّة (٣).

الثاني : أنّ الحمل على العموم أكثر فائدة ، لأنّه زجر لكلّ مكلّف عن تلك الطّريقة المذمومة.

الثالث : أنّه أقرب إلى الاحتياط.

قال قتادة ومجاهد وجماعة من العلماء : نزلت في كلّ مبطن كفرا ، أو نفاقا ، أو كذبا أو إضرارا ، وهو يظهر بلسانه خلاف ذلك (٤) ، فهي عامة.

قال القرطبي (٥) رحمه‌الله : وهي تشبه ما ورد في التّرمذيّ أنّ في بعض الكتب أنّ الله تعالى يقول : «إنّ من عبادي قوما ألسنتهم أحلى من العسل ، وقلوبهم أمر من الصّبر ، يلبسون للنّاس جلود الضّأن من اللّين ، يشترون الدّنيا بالدّين ، يقول الله ـ تبارك وتعالى ـ إنّهم لمغترّون ، وعلى الله يجترئون فبي حلفت لأسلّطنّ عليهم فتنة تدع الحليم منهم حيران. ومعنى : (وَيُشْهِدُ اللهَ) ، أي : يقول : الله يعلم أنّي أقول حقّا.

فصل

اختلفوا في الموصوف بالصّفات المذكورة في الآية ، هل هو منافق أم لا؟

قال ابن الخطيب (٦) : إنّها لا تدلّ على ذلك ، فإنّ قوله : «يعجبك قوله في الحياة

__________________

(١) أخرجه البخاري (٩ / ١٣٣) كتاب الأحكام باب الألدّ الخصم رقم (٧١٨٨) ومسلم (٢٠٥٤) والنسائي (٨ / ٢٤٨) وأحمد (٦ / ٥٥) والترمذي (٢٩٧٦) والبيهقي (١٠ / ١٠٨) وفي «الأسماء والصفات» (٥٠١) والحميدي (٢٧٣).

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ٤٢٨) وزاد نسبته لوكيع وعبد بن حميد وابن مردويه عن عائشة.

(٢) ينظر تفسير الرازي ٥ / ١٦٨.

(٣) تنظر مصادر المسألة في : البرهان ٢ / ٨١٠ ، ٨١١ ، زوائد الأصول ص ٢٨٦ ، الإحكام للآمدي ٣ / ٥٦ ، الإبهاج ٣ / ٥٠ ، العضد ٢ / ٢٣٤ ، التلويح على التوضيح ٢ / ٦٨ ، تيسير التحرير ٤ / ٤٠ ، التحرير ص ٤٧٥ ، نهاية السول ٤ / ٦٥.

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٤ / ٢٣٢ ، ٢٣٣) عن قتادة.

(٥) ينظر : تفسير القرطبي ٣ / ١٢.

(٦) ينظر : الرازي ٥ / ١٦٨.

٤٥٨

الدّنيا» لا دلالة فيه على صفة مذمومة ، إلّا من جهة الإيماء (١) الحاصل بقوله (فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) ، فإنّك إذا قلت : فلان حلو الكلام فيما يتعلّق بالدّنيا أوهم نوعا من المذمّة.

وقوله : (يُشْهِدُ اللهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ) لا دلالة فيه على حالة منكرة ، وإن أضمرنا فيه أنّه يشهد الله على ما في قلبه ، مع أنّ قلبه بخلاف ذلك لأنّه ليس في الآية أنّ القول الّذي أظهره هو الإسلام والتّوحيد حتى يكون خلافه نفاقا ، بل يحتمل أن يضمر الفساد ، ويظهر ضدّه ، فيكون مرائيا.

وقوله : (وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ) أيضا لا يوجب النّفاق.

وقوله : (وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها) فالمفسد قد يكون مسلما.

وقوله : (وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ ، فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ) أيضا لا يقتضي النّفاق ، إلّا أنّ المنافق داخل في هذه الصّفات الخمس ، والمرائي أيضا.

فصل في ما أثر عن السلف في بيان «ألد الخصام»

قال مجاهد : ألدّ الخصام : معناه : ظالم لا يستقيم (٢) وقال السّدّيّ ـ رحمه‌الله تعالى ـ أعوج الخصام (٣).

وقال قتادة : شديد القسوة في المعصية ، جدل بالباطل ، عالم اللّسان ، جاهل العمل ، يتقلد بالحكمة ، ويعمل بالخطيئة (٤).

فصل في بيان أمر الاحتياط في الدّين

قال القرطبيّ (٥) : قال علماؤنا : في الآية الكريمة دليل على أنّ الاحتياط فيما يتعلق بأمور الدّين والدّنيا ، واستبراء أحوال الشهود والقضاة ، وأنّ الحاكم لا يعمل على ظاهر

__________________

(١) الإيماء : هو الاقتران بحكم ، لو لم يكن هو أو نظيره للتعليل ، كان بعيدا ، فيحمل على التعليل ؛ دفعا للاستبعاد ، وعرّفه بعض الأصوليين بأنه : ما يدل على عليّة وصف لحكم بواسطة قرينة من القرائن ، ويسمى بالتنبيه أيضا ، وله ستة أنواع ، وقد جعله بعضهم مسلكا مستقلا ؛ لأنه لا يدل على العليّة صراحة ، وبعضهم أدرجه تحت مسلك النص.

انظر : الإحكام للآمدي (٣ / ٦٣) ، مختصر ابن الحاجب ص (١٨٨) ، العضد (٢ / ٢٣٤) ، جمع الجوامع (٢ / ٣٦٦) نهاية السّول (٤ / ٦٣) شرح الكوكب المنير ص (٥١١) ، التلويح (٢ / ٦٨) ، إرشاد الفحول ص (٢١٢).

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٤ / ٢٣٦) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ٤٢٨) وعزاه لعبد بن حميد عن مجاهد.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٤ / ٢٣٦) عن السدي.

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٤ / ٢٣٦) عن قتادة.

(٥) ينظر : تفسير القرطبي ٣ / ١٢.

٤٥٩

أحوال النّاس وما يبدو من إيمانهم ، وصلاحهم ؛ حتى يبحث عن باطنهم ؛ لأنّ الله تعالى بيّن أحوال النّاس ، وأنّ منهم من يظهر قولا جميلا ، وهو ينوي قبيحا.

فإن قيل : هذا يعارض قوله عليه‌السلام : «أمرت أن أقاتل النّاس حتّى يقولوا : لا إله إلّا الله» (١). وقوله : «فأقضي له بنحو ما أسمع».

فالجواب : هذا كان في صدر الإسلام ، حيث كان إسلامهم سلامتهم ، وأمّا الآن ، وقد عمّ الفساد ، فلا ، قاله ابن العربيّ (٢).

والصّحيح : أنّ الظّاهر يعمل عليه ، حتّى يبين خلافه.

قوله تعالى : (وَإِذا تَوَلَّى سَعى) «سعى» جواب إذا الشّرطيّة ، وهذه الجملة الشّرطية تحتمل وجهين.

أحدهما : أن تكون عطفا على ما قبلها ، وهو «يعجبك» ، فتكون : إمّا صلة ، أو صفة حسب ما تقدّم في «من».

والثاني : أن تكون مستأنفة لمجرّد الإخبار بحاله ، وقد تمّ الكلام عند قوله : «ألدّ الخصام».

والتّولّي والسّعي يحتملان الحقيقة ، أي : تولّى ببدنه عنك وسعى بقدميه ، والمجاز بأن يريد بالتولّي الرّحوع عن القول الأوّل ، وبالسّعي العمل والكسب من السّعاية ، وهو مجاز شائع ؛ ومنه: (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى) [النجم : ٣٩] ، وقال امرؤ القيس : [الطويل]

١٠١١ ـ فلو أنّ ما أسعى لأدنى معيشة

كفاني ـ ولم أطلب ـ قليل من المال

ولكنّما أسعى لمجد مؤثّل

وقد يدرك المجد المؤثّل أمثالي (٣)

وقال آخر : [السريع]

١٠١٢ ـ أسعى على حيّ بني مالك

كلّ امرىء في شأنه ساعي (٤)

والسّعاية بالقول ما يقتضي التّفريق بين الأخلّاء ؛ قال القائل : [السريع]

__________________

(١) تقدم.

(٢) ينظر : تفسير القرطبي ٣ / ١٢.

(٣) ينظر : ديوانه ص ٣٩ ، والإنصاف ١ / ٨٤ ، وتذكرة النحاة ص ٣٣٩ ، وخزانة الأدب ١ / ٣٢٧ ، ٤٦٢ ، والدرر ٥ / ٣٢٢ ، وشرح شذور الذهب ص ٢٩٦ ، وشرح شواهد المغني ١ / ٣٤٢ ، ٢ / ٦٤٢ ، وشرح قطر الندى ص ١٩٩ ، والكتاب ١ / ٧٩ ، والمقاصد النحوية ٣ / ٣٥ ، وهمع الهوامع ٢ / ١١٠ ، وشرح الأشموني ١ / ٢٠١ ، ٣ / ٦٠٢ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٨٨٠ ، ومغني اللبيب ١ / ٢٥٦ ، والمقتضب ٤ / ٧٦ ، والمقرب ١ / ١٦١. والدر المصون ١ / ٥٠٦.

(٤) البيت لأبي القيس بن الأسلت. ينظر : البحر ٢ / ١١٥ ، اللسان : سعى ، الدر المصون : ١ / ٥٠٦.

٤٦٠