اللّباب في علوم الكتاب - ج ٣

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ٣

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٤٤

يأخذ من اللّيل شيئا ، وأمّا من وقف بعرفة باللّيل ، فإنّه لا خلاف بين الأئمّة في تمام حجّة ، [فإذا غربت الشّمس ، دفع الإمام من عرفات وأخّر صلاة المغرب](١) وعند أحمد ـ رضي الله عنه ـ وقت الوقوف من طلوع فجر يوم عرفة إلى طلوع فجر يوم النحر.

فصل

قال القرطبيّ (٢) : لا خلاف بين العلماء أنّ الوقوف بعرفة راكبا لمن قدر عليه أفضل ؛ لفعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذلك ، وعرفة كلها موقف إلّا بطن عرنة.

قال : ولا بأس بالتّعريف في المساجد يوم عرفة ؛ تشبيها بأهل عرفة.

فصل

فإذا غربت الشّمس دفع الإمام من عرفات ، وأخّر صلاة المغرب حتى يجمع بينها وبين العشاء بالمزدلفة.

وفي تسميتها بالمزدلفة (٣) أقوال :

أحدها : أنّهم يقربون فيها من منى ، والازدلاف : القرب.

والثاني : أنّ النّاس يجتمعون فيها ، والاجتماع الازدلاف.

والثالث : يزدلفون إلى الله ـ تعالى ـ ، أي : يتقرّبون بالوقوف ، ويقال للمزدلفة : جمع ؛ لأنّه يجمع فيها بين المغرب والعشاء ؛ قاله قتادة (٤).

وقيل : إنّ آدم ـ عليه‌السلام ـ اجتمع فيها مع حوّاء ، وازدلف إليها (٥) ، أي : دنى

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) ينظر : تفسير القرطبي ٢ / ٢٧٦.

(٣) المزدلفة : بالضّم ثم السكون ، ودال مفتوحة مهملة ، ولام مكسورة وفاء ، اختلف فيها لم سميت بذلك؟ فقيل : مزدلفة منقولة من الازدلاف ؛ وهو الاجتماع ، وفي التنزيل : (وَأَزْلَفْنا ثَمَّ الْآخَرِينَ) ، وقيل : الازدلاف الاقتراب ؛ لأنها مقربة من الله ، وقيل : لازدلاف الناس في «منّى» بعد الإفاضة ، وقيل : لاجتماع الناس بها ، وقيل : لازدلاف آدم وحواء بها ، أي : لاجتماعهما ، وقيل : لنزول الناس بها في زلف الليل ، وهو جمع أيضا ، وقيل : الزلفة القربة ، فسمّيت مزدلفة ؛ لأن الناس يزدلفون فيها إلى الحرم ، وقيل : إن آدم لمّا هبط إلى الأرض ، لم يزدلف إلى حوّاء أو تزدلف إليه ، حتّى تعارفا ب «عرفة» واجتمعا ب «المزدلفة» فسميت جمعا ومزدلفة ، وهو مبيت للحاج ومجمع الصلاة إذا صدروا من عرفات ، وهو مكان بين بطن محسّر والمأزمين ، والمزدلفة : المشعر الحرام ، ومصلّى الإمام يصلي فيه العشاء والمغرب والصبح ، وقيل : لأن الناس يدفعون منها زلفة واحدة ، أي : جميعا ، وحدّه إذا أفضت من عرفات تريده ، فأنت فيه حتى تبلغ القرن الأحمر ، دون محسّر وقزح الجبل الذي عند الموقف ، وهي فرسخ من «منّى» بها مصلى ، وسقاية ، ومنارة ، وبرك عدّة إلى جنب جبل ثبير.

ينظر : معجم البلدان ٥ / ١٤٢.

(٤) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ١٥٠.

(٥) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ١١١) ، وعزاه لابن سعد في «الطبقات» وابن عساكر في «التاريخ» عن ابن عباس.

٤٢١

منها ، فإذا أتى الإمام المزدلفة ، جمع المغرب والعشاء بإقامتين ، ثم يبيتون بها ، فإن لم يبت بها فعليه دم [شاة] ، فإذا طلع الفجر ، صلّوا الصّبح بغلس ، والتّغليس هنا أشدّ استحبابا منه في غيره بالاتّفاق ، فإذا صلّوا الصبح ، أخذوا منها حصى الرّمي ، كلّ إنسان سبعين حصاة ، ثم يذهبون إلى المشعر الحرام ، وهو جبل يقال له : «قزح» ، وسمّي مشعرا ؛ لأنّه من الشّعار وهو العلامة ؛ لأنه معلم الحجّ ، والصّلاة والمبيت به ، والدعاء عنده من شعائر الحجّ ، وسمّي بالحرام لحرمته وهو أقصى المزدلفة مما يلي منى ، فيرقى عليه إن أمكنه ، أو يقف قريبا منه إن لم يمكنه ، ويحمد الله ـ تعالى ـ ويهلّله ويكبّره إلى أن يسفر جدا ، ثم يدفع قبل طلوع الشّمس ، ويكفي المرور كما في عرفة ، ثم يذهبون منه إلى وادي محسر (١) ، فإذا بلغوا بطن محسر فمن كان راكبا ، حرّك دابته ، ومن كان ماشيا ، أسرع قدر رمية بحجر ، فإذا أتوا منى رموا جمرة العقبة في بطن الوادي بسبع حصيات ، يقطع التّلبية مع ابتداء الرّمي ، فإذا رمى جمرة العقبة ، ذبح الهدي وإن كان معه ، والهدي سنّة لو تركه ، فلا شيء عليه ، فإذا ذبح حلق رأسه ، أو قصّر شعره بأن يقطع طرفه ، ثم يأتي إلى مكّة بعد الحلق ، فيطوف بالبيت طواف الإفاضة ، ويسمّى طواف الزّيارة ، ويصلي ركعتي الطّواف ، ويسعى بين الصّفا والمروة ، ثم يعود إلى منى في بقيّة يوم النّحر ، وعليه المبيت بمنى ليالي التّشريق لأجل الرّمي ، وسمّيت «منى» لأنه يمنى فيه الدّم ، أي : يراق ، فإذا حصل الرّمي والحلق والطّواف ، فقد حلّ.

فصل

اعلم أنّ أهل الجاهليّة كانوا قد غيّروا مناسك الحجّ عن سنّة إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ وذلك أنّ قريشا وقوما آخرين سمّوا أنفسهم بالحمس ، وهم أهل الشّدّة في دينهم ، والحماسة الشّدّة ، يقال : رجل أحمس وقوم حمسّ ، ثم إن هؤلاء كانوا لا يقفون في عرفات ، ويقولون : لا نخرج من الحرم ، ولا نتركه وقت الطّاعة ، وكان غيرهم يقفون بعرفات ، والّذين كانوا يقفون بعرفة يفيضون قبل غروب الشّمس ، والذين يقفون بالمزدلفة يفيضون إذا طلعت الشّمس ، ويقولون : أشرق ثبير كيما نغير ، ومعناه : أشرق يا ثبير بالشّمس ، كيما نندفع من مزدلفة ، فيدخلون في غور من الأرض ، فأمر الله ـ تعالى ـ محمّدا ـ عليه‌السلام ـ بمخالفة القوم في الدّفعتين ، فأمره بأن يفيض من عرفة بعد المغرب ، وبأن يفيض من مزدلفة قبل طلوع الشّمس ، فالسّنّة بيّنت المراد من الآية الكريمة.

__________________

(١) محسّر : بضم الميم ، وفتح الحاء ، بعدها سين مهملة مشدّدة مكسورة ، بعدها راء ، كذا قيده البكري : وهو واد بين مزدلفة ومنى ، وقيل : سمي بذلك ؛ لأن فيل أصحاب الفيل حسّر فيه ، أي : أعيا. وقال البكري : هو واد بجمع. وقال الجوهري : هو موضع ب «منّى».

ينظر : المطلع ص ٩٦ ، ١٩٧.

٤٢٢

فصل

الآية دلّت على وجوب ذكر الله عند المشعر الحرام ، عند الإفاضة من عرفات ، والإفاضة من عرفة مشروطة بالحصول في عرفة ، ما لا يتمّ الواجب إلّا به وكان مقدورا للمكلّف ، فهو واجب ، فدلّت الآية الكريمة على أنّ الحصول في عرفات واجب في الحجّ ، فإذا لم يأت به لم يكن آتيا بالحجّ المأمور به ؛ فوجب ألّا يخرج عن العهدة ، وهذا يقتضي أن يكون الوقوف بعرفة شرطا.

أقصى ما في الباب : أنّ الحجّ يحصل عند ترك بعض المأمورات بدليل منفصل ، إلّا أنّ الأصل ما ذكرنا ، وذهب كثير من العلماء إلى أنّ الآية لا دلالة فيها على أنّ الوقوف شرط ، ونقل عن الحسن (١) أن الوقوف بعرفة واجب ، إلّا أنه إن فاته ذلك ، قام الوقوف بجميع الحرم مقامه ، واتّفق الفقهاء على أنّ الحجّ لا يحصل إلّا بالوقوف بعرفة.

قوله : (عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ) فيه وجهان :

أحدهما : أن يتعلّق ب «اذكروا».

والثاني : أن يتعلّق بمحذوف على أنه حال من فاعل «اذكروا» أي : اذكروه كائنين عند المشعر.

والمشعر : المعلم من الشّعار وهو العلامة ؛ لأنّه من معالم الحجّ ، وأصله من قولك : شعرت بالشّيء إذا علمته ، وليت شعري ما فعل فلان ، أي : ليت بلغه وأحاط به ، وشعار الشّيء علامته ، واختلفوا :

فقال بعضهم : هو المزدلفة ، لأن الصّلاة والمقام والمبيت بها ، والدّعاء عنده ، قاله الواحدي في البسيط (٢).

وقال الزّمخشري : الأصحّ أنه قزح وهو آخر المزدلفة.

وقال ابن الخطيب (٣) ـ رحمه‌الله تعالى ـ : والأول أقرب ؛ لأنّ الفاء في قوله : (فَاذْكُرُوا اللهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ) تدلّ على أنّ الذّكر عند المشعر الحرام يحصل عقيب الإفاضة من عرفات ، وما ذاك إلّا البيتوتة بالمزدلفة.

فصل

قوله : (فَاذْكُرُوا اللهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ) يدلّ على أن الحصول عند المشعر الحرام واجب ، ويكفي فيه المرور به ، كما في عرفة ، فأمّا الوقوف هناك فمسنون.

وروي عن علقمة والنّخعي ؛ أنّهما قالا : الوقوف بالمزدلفة ركن بمنزلة الوقوف

__________________

(١) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ١٥١.

(٢) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ١٥٢.

(٣) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ١٥٢.

٤٢٣

بعرفة ، لقوله تعالى : (فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ) ، فإذا قلنا : بأن الوقوف بعرفة ركن وليس ذكره صريحا في الكتاب ، وإنّما وجب بإشارة الآية الكريمة أو بالسّنّة ـ فالمشعر الحرام فيه أمر جزم.

وقال جمهور الفقهاء : ليس بركن ؛ لقوله ـ عليه‌السلام ـ : «الحجّ عرفة ، فمن وقف بعرفة ، فقد تم حجّه» وقوله «من أدرك عرفة فقد أدرك الحجّ ، ومن فاته عرفة فقد فاته الحجّ» (١) ، وأيضا فقوله تعالى : (فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ) أمر بالذّكر لا بالوقوف فالوقوف بالمشعر الحرام يقع للذّكر ، وليس بأصل ، وأمّا الوقوف بعرفة فهو أصل ؛ لأنه قال : (فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ) ولم يقل عند الذكر بعرفات.

فصل

اختلفوا في الذّكر المأمور به عند المشعر الحرام.

فقال بعضهم (٢) : هو الجمع بين صلاتي المغرب والعشاء ، والصّلاة تسمّى ذكرا ؛ قال تعالى : (وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي) [طه : ١٤] ، وأيضا فإنه أمر بالذّكر هناك ، والأمر للوجوب ، ولا ذكر هناك يجب إلّا هذا.

وقال الجمهور : هو ذكر الله بالتّسبيح والتّحميد والتّهليل.

قال ابن عبّاس ـ رضي الله عنهما ـ : كان النّاس إذا أدركوا هذه اللّيلة لا ينامون (٣).

قوله : (كَما هَداكُمْ) فيه خمسة أقوال :

أحدها : أن تكون «الكاف» في محلّ نصب نعتا لمصدر محذوف.

والثاني : أن تكون في محلّ نصب على الحال من ضمير المصدر المقدّر ، وهو مذهب سيبويه.

والثالث : أن يكون في محلّ نصب على الحال من فاعل «اذكروا» تقديره : مشبهين لكم حين هداكم ، قال أبو البقاء (٤) : «ولا بدّ من حذف مضاف ؛ لأنّ الجثّة لا تشبه الحدث».

ومثله : «كذكركم آباءكم» الكاف نعت لمصدر محذوف.

__________________

(١) أخرجه الترمذي (٨٨٩) وأبو داود (١٩٤٩) والنسائي (٥ / ٢٦٤ ـ ٢٦٥) وابن ماجه (٣٠١٥) وأحمد (٤ / ٣٠٩ ـ ٣١٠) والبيهقي (٥ / ١١٦) وابن حبان (١٠٠٩ ـ زوائده) وابن خزيمة (٢٨٢٢) والحميدي (٢ / ٣٩٩) رقم (٨٩٩) والدارقطني (٢ / ٢٤١ ـ ٢٤٢) والطحاوي (٢ / ٢٠٩) والطيالسي (١ / ٢٢٠) رقم (١٠٥٦) والدارمي (٢ / ٥٩) والحاكم (٢ / ٢٧٨) وصححه وسكت عنه الذهبي.

(٢) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ١٥٢.

(٣) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ١٥٢.

(٤) ينظر : الإملاء ١ / ٨٧.

٤٢٤

قال القرطبيّ : والمعنى : «اذكروه ذكرا حسنا كما هداكم هداية حسنة».

الثالث : أن يكون حالا ، تقديره : فاذكروا الله مبالغين.

والرابع : للتعليل بمعنى اللام ، أي : اذكروه لأجل هدايته إيّاكم ، حكى سيبويه (١) رحمه‌الله : «كما أنّه لا يعلم ، فتجاوز الله عنه». وممّن قال بكونها للعلّيّة الأخفش وجماعة.

و «ما» في «كما» يجوز فيها وجهان :

أحدهما : أن تكون مصدرية ، فتكون مع ما بعدها في محلّ جر بالكاف ، أي : كهدايته.

والثاني ـ وبه قال الزمخشريّ وابن عطية ـ أن تكون كافّة للكاف عن العمل ، فلا يكون للجملة التي بعدها محلّ من الإعراب ، بل إن وقع بعدها اسم ، رفع على الابتداء كقول القائل : [الطويل]

١٠٠٢ ـ وننصر مولانا ونعلم أنّه

كما النّاس مجروم عليه وجارم (٢)

وقال آخر : [الوافر]

١٠٠٣ ـ لعمرك إنّني وأبا حميد

كما النّشوان والرّجل الحليم

أريد هجاءه وأخاف ربّي

وأعلم أنّه عبد لئيم (٣)

وقد منع صاحب «المستوفى» (٤) كون «ما» كافة للكاف ، وهو محجوج بما تقدّم.

والخامس : أن تكون الكاف بمعنى «على» ؛ كقوله : (وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ) [البقرة : ١٨٥].

فإن قيل : قوله تعالى : «واذكروا (اللهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ) ثم قال : «واذكروه» فما فائدة هذا التّكرار؟

فالجواب من وجوه :

أحدها : أنّ أسماء الله ـ تعالى ـ توقيفيّة ؛ فقوله أولا : «اذكروا الله» أمر بالذّكر ،

__________________

(١) ينظر : الكتاب ١ / ٤٧٠.

(٢) البيت لعمرو بن براقة ينظر : أمالي القالي ٢ / ١٢٢ ، والدرر ٤ / ٢١٠ ، وسمط اللآلي ص ٧٤٩ ، وشرح التصريح ٢ / ٢١ ، وشرح شواهد المغني ١ / ٢٠٢ ، ٥٠٠ ، ٢ / ٧٢٥ ، ٧٧٨ ، والمؤتلف والمختلف ص ٦٧ ، والمقاصد النحوية ٣ / ٣٣٢ ، وأوضح المسالك ٣ / ٧ ، والجنى الداني ص ١٦٦ ، ٤٨٢ ، وجواهر الأدب ص ١٣٣ ، وخزانة الأدب ١٠ / ٢٠٧ ، والدرر ٦ / ٨١ ، وشرح الأشموني ٢ / ٢٩٩ ، وشرح ابن عقيل ص ٣٧١ ، ومغني اللبيب ١ / ٦٥ ، وهمع الهوامع ٢ / ٣٨ ، ١٣٠ ، والدر المصون ١ / ٤٩٥.

(٣) تقدم برقم ٨٤٣.

(٤) علي بن مسعود بن محمود بن الحكم الفرخاني القاضي كمال الدين أبو السعد. ينظر : البغية ٢ / ٢٠٦.

٤٢٥

وقوله تعالى : (وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ) أمر بأن نذكره بالأسماء والصّفات التي بيّنها لنا وهدانا إليها ، لا بأسماء تذكر بحسب الرّأي والقياس.

وقيل : أمر بالذّكر أولا ، ثم قال : (وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ) ، أي : وافعلوا ما أمركم به من الذّكر كما هداكم لدين الإسلام ، كأنّه قال : إنّما أمرتكم بهذا الذّكر ؛ لتكونوا شاكرين لتلك النّعمة ، ونظيره ما أمرهم به من التكبير عند فراغ رمضان ، فقال : (وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ) [البقرة : ١٨٥] ، وقال في الأضاحي : (كَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ) [الحج : ٣٧].

وقيل : أمر أولا بالذّكر باللّسان ، وثانيا بالذّكر بالقلب ، فإن الذكر في كلام العرب ضربان:

أحدهما : الذّكر ضد النّسيان.

والثاني : الذّكر بالقول.

فالأول : كقوله : (وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ) [الكهف : ٦٣].

والثاني : كقوله : (فَاذْكُرُوا اللهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ) [البقرة : ٢٠٠] ، و (وَاذْكُرُوا اللهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ) [البقرة : ٢٠٣] فالأول محمول على الذّكر باللّسان ، والثاني على الذكر بالقلب.

وقال ابن الأنباري (١) : معنى قوله : (اذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ) أي : اذكروه بتوحيده كما ذكركم بهدايته.

وقيل : المراد مواصلة الذكر بالذّكر ؛ كأنه قيل لهم : اذكروا الله واذكروه ، أي : اذكروه ذكرا بعد ذكر ؛ كما هداكم هداية بعد هداية ، نظيره قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللهَ ذِكْراً كَثِيراً) [الأحزاب : ٤١].

وقيل : المراد بالذكر الأول : ذكر الله بأسمائه وصفاته الحسنى ، والمراد بالثاني : الاشتغال بشكر نعمائه ، والشّكر مشتمل أيضا على الذّكر.

فصل

قال بعضهم (٢) : إن هذه الهداية خاصّة ، والمراد : كما هداكم في مناسك حجّكم إلى سنّة إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ.

وقال بعضهم (٣) : بل هي عامّة متناولة لكل أنواع الهدايات.

قوله : (وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ:) «إنّ» هذه هي المخفّفة من الثقيلة ، واللام

__________________

(١) ينظر : تفسير القرطبي ٥ / ١٥٣.

(٢) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ١٥٣.

(٣) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ١٥٣.

٤٢٦

بعدها للفرق بينها وبين النافية ، وجاز دخول «إن» على الفعل ؛ لأنه ناسخ ، وهل هذه اللام لام الابتداء التي كانت تصحب «إنّ» ، أو لام أخرى غيرها ؛ اجتلبت للفرق؟ قولان هذا رأي البصريّين.

وأمّا الكوفيون فعندهم فيها خلاف : فزعم الفرّاء أنها بمعنى «إن» النافية ، واللام بمعنى «إلّا» ، أي : ما كنتم من قبله إلّا من الضالّين ، ومذهب الكسائيّ التفصيل : بين أن تدخل على جملة فعليّة ، فتكون «إن» بمعنى «قد» ، واللّام زائدة للتوكيد ؛ كقوله : (وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكاذِبِينَ) [الشعراء : ١٨٦] ، وبين أن تدخل على جملة اسميّة ، كقوله : (إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ) [الطارق : ٤] ؛ فتكون كقول الفرّاء.

و «من قبله» متعلّق بمحذوف يدلّ عليه «لمن الضّالّين» ، تقديره : كنتم من قبله ضالّين لمن الضّالّين ، ولا يتعلّق بالضالّين بعده ؛ لأنّ ما بعد «أل» الموصولة ، لا يعمل فيما قبلها ، إلا على رأي من يتوسّع في الظرف ، والهاء في «قبله» عائدة على «الهدى» المفهوم من قوله «كما هداكم».

وقيل : تعود إلى القرآن ، والتقدير : واذكروه كما هداكم ، بكتابه الذي بيّن لكم معالم دينه ، وإن كنتم من قبل إنزاله عليكم من الضّالّين.

وقيل : إلى الرّسول.

قوله تعالى : (ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)(١٩٩)

استشكل الناس مجي «ثمّ» هنا ؛ من حيث إنّ الإفاضة الثانية هي الإفاضة الأولى ؛ لأنّ قريشا كانت تقف بمزدلفة ، وسائر الناس بعرفة ، فأمروا أن يفيضوا من عرفة كسائر الناس ، فكيف يجاء ب «ثمّ» التي تقتضي الترتيب والتراخي؟ والجواب من وجوه :

أحدها : أنّ الترتيب في الذّكر ، لا في الزمان الواقع فيه الأفعال ، وحسّن ذلك ؛ أن الإفاضة الأولى غير مأمور بها ، إنما المأمور به ذكر الله ، إذا فعلت الإفاضة.

ثانيها : أن تكون هذه الجملة معطوفة على قوله : (وَاتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ) ففي الكلام تقديم وتأخير ، وهو بعيد.

ثالثها : أن تكون «ثمّ» بمعنى الواو ، قال بعض النّحاة : فهي لعطف كلام منقطع من الأول.

قال بعضهم : وهي نظير قوله تعالى : (وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ فَكُّ رَقَبَةٍ) [البلد : ١٢ ، ١٣] إلى قوله : (ثُمَّ كانَ) [البلد : ١٧] ، أي : كان مع هذا من المؤمنين ، وفائدة «ثمّ» ههنا : تأخّر أحد الخبرين عن الآخر ، لا تأخّر المخبر عنه [عن ذلك المخبر عنه].

رابعها : أن الإفاضة الثانية هي من جمع إلى منى ، والمخاطبون بها جميع الناس ،

٤٢٧

قاله الضّحّاك ، ورجّحه الطبريّ ، وهو الذي يقتضيه ظاهر القرآن ، فتكون «ثمّ» على بابها ، قال الزمخشريّ : «فإن قلت : كيف موقع «ثمّ»؟ قلت : نحو موقعها في قولك : أحسن إلى النّاس ، ثمّ لا تحسن إلى غير كريم» تأتي ب «ثمّ» ؛ لتفاوت ما بين الإحسان إلى الكريم ، والإحسان إلى غيره ، وبعد ما بينهما ، فكذلك حين أمرهم بالذكر عند الإفاضة من عرفات ، قال : «ثمّ أفيضوا» ؛ لتفاوت ما بين الإفاضتين ، وأنّ إحداهما صواب والثانية خطأ» ، قال أبو حيّان : «وليست الآية نظير المثال الذي مثّله ، وخاصل ما ذكر أن «ثمّ» تسلب الترتيب ، وأنّ لها معنى غيره سمّاه بالتفاوت ، والبعد لما بعدها عمّا قبلها ، ولم يذكر في الآية إفاضة الخطأ حتّى تجيء «ثمّ» لتفاوت ما بينهما ، ولا نعلم أحدا سبقه إلى إثبات هذا المعنى ل «ثمّ» قال شهاب الدين ـ رحمه‌الله تعالى ـ : وهذا الذي ناقش الزمخشريّ به تحامل عليه ، فإنه يعني بالتفاوت والبعد التراخي الواقع بين الرتبتين ، وسيأتي له نظائر ، وبمثل هذه الأشياء لا يردّ بها على مثل هذا الرجل.

و «من حيث» متعلّق ب «أفيضوا» ، و «من» لابتداء الغاية ، و «حيث» هنا على بابها من كونها ظرف مكان ، وقال القفّال : «هي هنا لزمان الإفاضة» وقد تقدّم أن هذا قول الأخفش ، وتقدّم دليله ، وكأن القفال رام بذلك التغاير بين الإفاضتين ؛ ليقع الجواب عن مجيء «ثمّ» هنا ، ولا يفيد ذلك ؛ لأن الزّمان يستلزم مكان الفعل الواقع فيه.

و (أَفاضَ النَّاسُ) في محلّ جرّ بإضافة «حيث» إليها ، والجمهور على رفع السّين من «النّاس». وقرأ سعيد بن جبير : «النّاسي» وفيها تأويلان :

أحدهما : أنه يراد به آدم ـ عليه‌السلام ـ وأيدوه بقوله : «فنسي ولم نجد له عزما».

والثاني : أن يراد به التارك للوقوف بمزدلفة ، وهم جمع النّاس ، فيكون المراد ب «النّاسي» جنس الناسين ، قال ابن عطيّة (١) : «ويجوز عند بعضهم حذف الياء ، فيقول : «النّاس» بكسر السّين ، فاكتفى بالكسرة عن الياء ، وبها قرأ (٢) الزّهريّ ؛ كالقاص والهاد ؛ قال : أمّا جوازه في العربية ، فذكره سيبويه وأمّا جوازه قراءة ، فلا أحفظه. قال أبو حيان : لم يجز سيبويه ذلك إلا في الشّعر ، وأجازه الفرّاء في الكلام ، وأمّا قوله : «لم أحفظه» ، فقد حفظه غيره ، حكاها المهدويّ قراءة (٣) عن سعيد بن جبير أيضا.

فصل في المراد بالإفاضة

في الآية الكريمة قولان :

__________________

(١) ينظر : المحرر الوجيز ١ / ٢٧٦.

(٢) ينظر : المحرر الوجيز ١ / ٢٧٦ ، والبحر المحيط ٢ / ١٠٩ ، والدر المصون ١ / ٤٩٧.

(٣) انظر : المحرر الوجيز ١ / ٢٧٦ ، ونصّه : ويجوز عند تخفيف الياء ، فيقول : «الناس» كالقاض والهاد.

وانظر : البحر المحيط ٢ / ١٠٩ ، والدر المصون ١ / ٤٩٧.

٤٢٨

الأول : أنّ المراد بهذه الإفاضة من عرفات.

قال المفسّرون (١) : كانت قريش وحلفاؤها وهم الحمس يقفون بالمزدلفة ، ويقولون : نحن أهل الله وقطّان حرمه ، فلا نخرج من الحرم ، ويستعظمون أن يقفوا مع النّاس بعرفات ، وسائر العرب كانوا يقفون بعرفات ، فإذا أفاض النّاس من عرفات ، أفاض الحمس من المزدلفة ، فأنزل الله ـ تعالى ـ هذه الآية الكريمة ، وأمرهم أن يقفوا بعرفات وأن يفيضوا منها كما يفعله سائر النّاس ، والمراد بالنّاس : العرب كلّهم غير الحمس.

وقال الكلبي (٢) : هم أهل اليمن وربيعة ، وروي أنّه ـ عليه‌السلام ـ لمّا جعل أبا بكر أميرا في الحجّ ، أمره بإخراج النّاس إلى عرفات ، فلمّا ذهب مرّ على الحمس وتركهم ، فقالوا له : إلى أين وهذا مقام آبائك وقومك فلا تذهب ، فلم يلتفت إليهم ومضى بأمر رسول الله إلى عرفات ، ووقف بها وأمر سائر النّاس بالوقوف بها. وقال بعضهم : «أفيضوا» أمر عامّ لكلّ النّاس.

وقوله : (مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ) المراد : إبراهيم وإسماعيل ـ عليهما‌السلام ـ : فإنّ سنّتهما كانت الإفاضة من عرفات.

وقيل : المراد بالنّاس : النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ فإنّه روي أنّ النّبيّ ـ عليه‌السلام ـ كان يقف في الجاهليّة بعرفة كسائر النّاس ويخالف الحمس.

وقال الضّحّاك (٣) : النّاس ههنا إبراهيم وحده ، وإيقاع اسم الجمع على الواحد جائز إذا كان رئيسا يقتدى به ، وهو كقوله ـ تبارك وتعالى ـ : (الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ) [آل عمران : ١٧٣] يعني به : نعيم ابن مسعود ، (إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ) [آل عمران : ١٧٣] يعني أبا سفيان ، وهو مجاز مشهور ؛ ومنه قوله : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) [القدر : ١].

وقال القفّال (٤) : قوله : (مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ) [عبارة عن تقادم الإفاضة من عرفات ، وأنّه هو الأمر القديم وما سواه فهو مبتدع محدث ؛ كما يقال : هذا ممّا فعله النّاس قديما.

وقال الزّهريّ (٥) : إنّ المراد من النّاس في هذه الآية : آدم ـ عليه‌السلام ـ ؛ واحتج بقراءة سعيد بن جبير المتقدّمة.

القول الثاني ـ وهو اختيار الضحّاك ورجّحه الطّبري (٦) ـ : أنّ المراد بهذه الإفاضة ، هي الإفاضة من مزدلفة إلى منى يوم النّحر ، قبل طلوع الشمس للرّمي والنّحر.

__________________

(١) ينظر : تفسير البغوي ١ / ١٧٥.

(٢) ينظر : تفسير البغوي ١ / ١٧٦.

(٣) ينظر : تفسير البغوي ١ / ١٧٦.

(٤) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ١٥٤.

(٥) ينظر : تفسير البغوي ١ / ١٧٦.

(٦) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ١٥٤.

٤٢٩

وقوله : (مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ)](١) المراد : إبراهيم وإسماعيل وأتباعهما (٢).

قوله : (وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ) «استغفر» يتعدّى لاثنين ، أولهما بنفسه ، والثاني ب «من» ؛ نحو : استغفرت الله من ذنبي ، وقد يحذف حرف الجر ؛ كقول القائل : [البسيط]

١٠٠٤ ـ أستغفر الله ذنبا لست محصيه

ربّ العباد إليه الوجه والعمل (٣)

هذا مذهب سيبويه (٤) ـ رحمه‌الله ـ وجمهور النّاس.

وقال ابن الطّراوة : إنه يتعدّى إليهما بنفسه أصالة ، وإنما يتعدّى ب «من» ؛ لتضمنه معنى ما يتعدّى بها ، فعنده «استغفرت الله من كذا» بمعنى تبت إليه من كذا ، ولم يجىء : «استغفر» في القرآن الكريم متعدّيا إلّا للأول فقط ، فأمّا قوله تعالى : (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ) [غافر : ٥٥] (وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ) [يوسف : ٢٩] (فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ) [آل عمران : ١٣٥] فالظاهر أنّ هذه اللام لام العلّة ، ولا لام التعدية ، ومجرورها مفعلو من أجله ، لا مفعول به. وأمّا «غفر» فذكر مفعوله في القرآن تارة : (وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ) [آل عمران : ١٣٥] ، وحذف أخرى : (وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ) [المائدة : ٤٠]. والسين في «استغفر» للطلب على بابها ، والمفعول الثاني هنا محذوف للعلم به ، أي : من ذنوبكم التي فرطت منكم.

فإن قيل : أمر بالاستغفار مطلقا ، وربما كان فيهم من لم يذنب ، فحينئذ لا يحتاج إلى الاستغفار.

فالجواب : أنّه إن كان مذنبا ، فالاستغفار واجب ، وإن لم يذنب ، فيجوز من نفسه صدور التّقصير في أداء الواجبات ، والاحتراز عن المحظورات ؛ فيجب عليه الاستغفار تداركا لذلك لخلل المجوّز ، وهذا كالممتنع في حقّ البشر.

وقوله : (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) فقد تقدّم أنّها صيغتي مبالغة من المغفرة والرّحمة.

فصل

واختلف العلماء ـ رضي الله عنهم ـ في هذه المغفرة الموعودة.

فقال بعضهم (٥) : إنّها عند الدّفع من عرفات إلى جمع.

وقال آخرون (٦) : إنها عند الدّفع من جمع إلى منى ، وهذا مبنيّ على الخلاف المتقدّم في قوله : (ثُمَّ أَفِيضُوا) على أيّ الأمرين يحمل.

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ١٥٤.

(٣) تقدّم برقم ٧٥١.

(٤) ينظر : الكتاب ١ / ١٧١.

(٥) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ١٥٦.

(٦) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ١٥٦.

٤٣٠

قال القفّال (١) ـ رحمه‌الله ـ ويتأكّد الثّاني بما روى نافع عن ابن عمر ؛ قال : خطبنا رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ عشيّة عرفة ؛ فقال : «يا أيّها النّاس إن يطّلع الله عليكم في مقامكم هذا ، فقبل من محسنكم ، ووهب مسيئكم لمحسنكم ، والتّبعات عوّضها من عنده ، أفيضوا على اسم الله تعالى» قال أصحابه : يا رسول الله ، أفضت بنا بالأمس كئيبا حزينا ، وأفضت بنا اليوم فرحا مسرورا ، فقال عليه‌السلام ـ «إنّي سألت ربّي ـ عزوجل ـ بالأمس شيئا لم يجد لي به : سألته التّبعات فأبى عليّ ، فلمّا كان اليوم أتى جبريل ـ عليه‌السلام ـ فقال : إنّ ربّك يقرئك السّلام ويقول : التبعات ضمنت عوضها من عندي» (٢) والله أعلم.

قوله تعالى : (فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ (٢٠٠) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ (٢٠١) أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسابِ)(٢٠٢)

اعلم أن «قضى» إذا علّق بفعل النّفس ، فالمراد منه الإتمام والفراغ ؛ كقوله تعالى : (فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ) [فصلت : ١٢] (فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ) [الجمعة : ١٠] ، وقوله ـ عليه‌السلام ـ : «وما فاتكم فاقضوا» (٣) ، ويقال للحاكم عند فصل الخصومة : قضى بينهما. وإذا علّق على فعل الغير ، فالمراد به الإلزام ؛ كقوله : (وَقَضى رَبُّكَ) [الإسراء : ٢٣] وإذا استعمل في الإعلام ، فالمراد أيضا كذلك ؛ كقوله : (وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ) [الإسراء : ٤] ، أي : أعلمناهم ، وهذه الآية الكريمة من القسم الأوّل.

وقال بعضهم (٤) : يحتمل أن يكون المراد : اذكروا الله عند المناسك ، ويكون المراد من هذا الذّكر : ما أمروا به من الدّعاء بعرفات والمشعر الحرام والطّواف والسّعي ؛ كقول القائل : إذا حججت فطف وقف بعرفة ، ولا يريد الفراغ من الحجّ ، بل الدّخول فيه ، وحملهم على التّأويل صيغة الأمر.

__________________

(١) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ١٥٦.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٤ / ١٩٣ ـ ١٩٤) وأبو نعيم في «الحلية» (٨ / ١٩٩) عن ابن عمر.

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ٤١٣).

والحديث ذكره المنذري في «الترغيب والترهيب» (٢ / ١٢٧) بمعناه من حديث عبادة بن الصامت ثم قال : رواه الطبراني في الكبير ، ورواته محتج بهم في الصحيح إلا أن فيهم رجلا لم يسم.

وكذلك ذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (٣ / ٢٥٦ ـ ٢٥٧) من حديث أنس بمعناه وقال : رواه أبو يعلى وفيه صالح المري وهو ضعيف.

(٣) أخرجه البخاري (٢ / ٣٩٠) كتاب الجمعة : باب المشي إلى المساجد (٩٠٨) ومسلم (١ / ٤٢٠ ـ ٤٢١) كتاب المساجد باب استحباب إتيان الصلاة بوقار وسكينة (١ / ٢٥ / ٦٠٢) من حديث أبي هريرة.

(٤) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ١٥٧.

٤٣١

والمناسك ، جمع «منسك» بفتح السين وكسرها ، وسيأتي تحقيقهما ، وقد تقدّم اشتقاقها قريبا ، والقرّاء على إظهار هذا ، وروي عن أبي عمرو الإدغام ، قالوا : شبّه حركة الإعراب بحركة البناء فحذفها للإدغام ، وأدغم أيضا «مناسككم» ولم يدغم ما يشبهه من نحو : (جِباهُهُمْ) [التوبة : ٣٥] و (وُجُوهُهُمْ) [آل عمران : ١٠٦].

قال بعض (١) المفسّرين (٢) : إن جعلها جمع «منسك» الذي هو المصدر بمنزلة النّسك ، فالمراد : إذا قضيتم عبادتكم الّتي أمرتم بها في الحجّ ، وإن جعلتها جمع «منسك» الذي هو موضع العبادة ، فالتّقدير : فإذا قضيتم أعمال مناسككم ، فيكون من باب حذف المضاف.

إذا عرف هذا ؛ فنقول : قال بعضهم (٣) : المراد بالمناسك ما أمر الله ـ تعالى ـ به في الحجّ من العبادات ، وقال مجاهد : قضاء المناسك : إراقة الدّماء (٤) ، يقال : أنسك الرجل ينسك نسكا ، إذا ذبح نسيكته بعد رمي جمرة العقبة والاستقرار بمنى ، والفاء في قوله : (فَاذْكُرُوا اللهَ) تدلّ على أنّ الذّكر يجب عقيب الفراغ من المناسك ؛ فلذلك اختلفوا.

فمنهم من حمله على التكبير بعد الصّلاة يوم النّحر وأيّام التّشريق ـ على حسب اختلافهم في وقته ـ لأن بعد الفراغ من الحجّ لا ذكر مخصوص إلّا التكبير.

ومنهم من قال : بل المراد تحويل القوم عمّا اعتادوه بعد الحجّ من التّفاخر بالآباء (٥) ؛ لأنه تعالى لو لم ينه عنه بهذه الآية الكريمة ، لم يعدلوا عن هذه الطّريقة.

ومنهم من قال : بل المراد منه أنّ الفراغ من الحجّ يوجب الإقبال على الدّعاء والاستغفار ؛ كما أن الإنسان بعد الفراغ من الصّلاة يسنّ أن يشتغل بالذّكر والدّعاء.

قوله : (كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ) الكاف كالكاف في قوله (كَما هَداكُمْ) [البقرة : ١٩٨] إلّا في كونها بمعنى «على» أو بمعنى اللام ، فليلتفت إليه ، والجمهور على نصب «آباءكم» مفعولا به ، والمصدر مضاف لفاعله على الأصل ، وقرأ (٦) محمد بن كعب : «آباؤكم» رفعا ، على أنّ المصدر مضاف للمفعول ، والمعنى : كما يلهج الابن بذكر أبيه ، وروي عنه أيضا : «أباكم» بالإفراد على إرادة الجنس ، وهي توافق قراءة الجماعة في كون

__________________

(١) في ب : بعضهم.

(٢) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ١٥٧.

(٣) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ١٥٧.

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٤ / ١٩٥) عن مجاهد وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ٤١٦) وزاد نسبته لعبد بن حميد.

(٥) في ب : الإقبال.

(٦) انظر : المحرر الوجيز ١ / ٢٧٦ ، والبحر المحيط ٢ / ١١١ ، والدر المصون ١ / ٤٩٨.

٤٣٢

المصدر مضافا لفاعله ، ويبعد أن يقال : هو مرفوع على لغة من يجري «أباك» ونحوه مجرى المقصور.

فصل

قال جمهور المفسّرين (١) : إن القوم كانوا بعد الفراغ من الحجّ يبالغون في الثّناء على آبائهم وفي ذكر مناقبهم ؛ فقال تعالى : (فَاذْكُرُوا اللهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ) ، أي : فاجهدوا في الثّناء على الله وشرح الآية ، كما بذلتم جهدكم في الثّناء على آبائكم.

وقال الضّحّاك والرّبيع : اذكروا الله كذكركم آباءكم وأمّهاتكم (٢) ، واكتفى بذكر الآباء ، كقوله تعالى : (سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ) [النحل : ٨١] قالوا : وهو قول الصّبيّ أول ما يفصح للكلام أبه أبه أمّه أمّه ، أي : كونوا مواظبين على ذكر الله ؛ كمواظبة الصّغير على ذكر أبيه وأمّه.

وقال أبو مسلم (٣) : أجرى ذكر الآباء مثلا لدوام الذكر ، أي : كما أنّ الرّجل لا ينسى ذكر أبيه ، فكذلك يجب ألّا يغفل عن ذكر الله ـ تعالى ـ.

وقال ابن الأنباري (٤) : كانت العرب في الجاهليّة تكثير من القسم بالآباء والأجداد ؛ فقال تعالى : عظّموا الله كتعظيم آبائكم.

وقيل : كما أنّ الطّفل يرجع إلى أبيه في طلب جميع مهمّاته ، ويكون ذاكرا له بالتّعظيم فكونوا أنتم في ذكر الله كذلك.

وقيل : يحتمل أنّهم كانوا يذكرون آباءهم ؛ ليتوسّلوا بذكرهم إلى إجابة الدّعاء ، فعرّفهم الله ـ تعالى ـ أنّ آباءهم ليسوا في هذه الدّرجة ؛ إذ أفعالهم الحسنة محبطة بشركهم.

وسئل ابن عبّاس ـ رضي الله عنهما ـ عن قوله تعالى : (فَاذْكُرُوا اللهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً) ، فقيل : يأتي على الرّجل اليوم لا يذكر فيه أباه.

قال ابن عبّاس : ليس كذلك ؛ ولكن هو أن تغضب لله إذا عصي ، أشدّ من غضبك لوالديك إذا ذكرا بسوء (٥).

قوله : «أو أشدّ ذكرا» يجوز في «أشدّ» أن يكون مجرورا ، وأن يكون منصوبا : فأمّا جرّه ، فذكروا فيه وجهين :

__________________

(١) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ١٥٨.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» ٤ / ١٩٨ عن الضحاك.

(٣) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ١٥٨.

(٤) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ١٥٨.

(٥) الأثر ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ٤١٧) عن ابن عباس وعزاه لابن المنذر وابن أبي حاتم.

٤٣٣

أحدهما : أن يكون مجرورا عطفا على «ذكركم» المجرور بكاف التشبيه ، تقديره : أو كذكر أشدّ ذكرا ، فتجعل للذكر ذكرا مجازا ، وإليه ذهب الزّجّاج (١) ، وتبعه أبو البقاء (٢) ـ رضي الله عنه ـ وابن عطيّة.

والثّاني : أنه مجرور عطفا على المخفوض بإضافة المصدر إليه ، وهو ضمير المخاطبين ، قال الزمخشريّ : أو أشدّ ذكرا في موضع جرّ عطفا على ما أضيف إليه الذكر في قوله : (كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً) ؛ كما تقول : «كذكر قريش آباءهم أو قوم أشدّ منهم ذكرا» وهو حسن ، وليس فيه تجوّز بأن يجعل للذكر ذكر ؛ لأنه جعل «أشدّ» من صفات الذّاكرين ، إلا أن فيه العطف على الضّمير المجرور من غير إعادة الجار ، وهو ممنوع عند البصريين ، ومحلّ ضرورة.

وأمّا نصبه فمن أوجه :

أحدها : أن يكون معطوفا على «آباءكم» قاله الزمخشريّ ، فإنه قال : «بمعنى أو أشدّ ذكرا من آبائكم» ؛ على أنّ «ذكرا» من فعل المذكور هو كلام يحتاج إلى تفسير ، فقوله : «هو معطوف على آباءكم» : معناه أنك إذا عطفت «أشدّ» على «آباءكم» ، كان التقدير : أو قوما أشدّ ذكرا من آبائكم ، فكان القوم مذكورين ، والذكر الذي هو تمييز بعد «أشدّ» هو من فعلهم ، أي : من فعل القوم المذكورين ؛ لأنه جاء بعد «أفعل» الذي هو صفة للقوم ، ومعنى «من آبائكم» أي من ذكركم لآبائكم ، وهذا أيضا ليس فيه تجوزّ بأن جعل الذّكر ذاكرا.

الثاني : أن يكون معطوفا على محلّ الكاف في «كذكركم» ؛ لأنها عندهم نعت لمصدر محذوف ، تقديره : «ذكرا كذكركم آباءكم أو أشدّ» وجعلوا الذّكر ذاكرا مجازا ؛ كقولهم : شعر شاعر ، وهذا تخريج أبي عليّ وابن جنّي.

الثالث : قاله مكّيّ : أن يكون منصوبا بإضمار فعل ، قال : تقديره : «فاذكروه ذكرا أشدّ من ذكركم لآبائكم» ؛ فيكون نعتا لمصدر في موضع الحال ، أي : اذكروه بالغين في الذّكر.

الرابع : أن يكون منصوبا بإضمار فعل الكون ، قال أبو البقاء (٣) : «وعندي أنّ الكلام محمول على المعنى ، والتقدير : أو كونوا أشدّ لله ذكرا منكم لآبائكم ، ودلّ على هذا المعنى قوله : (فَاذْكُرُوا اللهَ) أي : كونوا ذاكريه ، وهذا أسهل من حمله على المجاز» يعني المجاز الذي تقدّم ذكره عن الفارسيّ وتلميذه.

__________________

(١) ينظر : معاني القرآن ١ / ٢٦٤.

(٢) ينظر : الإملاء ١ / ٨٨.

(٣) ينظر : الإملاء ١ / ٨٨.

٤٣٤

الخامس : أن يكون «أشدّ» نصبا على الحال من «ذكرا» ؛ لأنه لو تأخّر عنه ، لكان صفة له ؛ كقوله : [مجزوء الوافر]

١٠٠٥ ـ لميّة موحشا طلل

يلوح كأنّه خلل (١)

«موحشا» حال من «طلل» ؛ لأنّه في الأصل صفة ، فلما قدّم ، تعذّر بقاؤه صفة ، فجعل حالا ، قاله أبو حيّان ـ رحمه‌الله تعالى ـ ، فإنه قال بعد ذكره ثلاثة أوجه لنصبه ، ووجهين لجرّه : «فهذه خمسة أوجه كلّها ضعيفة ، والذي يتبادر إلى الذّهن في الآية أنهم أمروا بأن يذكروا الله ذكرا يماثل ذكر آبائهم ، أو أشدّ ، وقد ساغ لنا حمل هذه الآية الكريمة عليه بوجه ذهلوا عنه» ، فذكر ما تقدّم ، ثم جوّز في «ذكرا» ـ والحالة هذه ـ وجهين :

أحدهما : أن يكون معطوفا على محلّ الكاف في «كذكركم» ، ثم اعترض على نفسه في هذا الوجه ؛ بأنه يلزم منه الفصل بين حرف العطف ، وهو «أو» وبين المعطوف وهو «ذكرا» بالحال ، وهو «أشدّ» ، وقد نصّ النحويون على أن الفصل بينهما لا يجوز إلا بشرطين :

أحدهما : أن يكون حرف العطف أكثر من حرف واحد.

والثاني : أن يكون الفاصل قسما ، أو ظرفا أو جارّا ، وأحد الشرطين موجود ، وهو الزيادة على حرف ، والآخر مفقود ، وهو كون الفاصل ليس أحد الثلاثة المتقدّمة ، ثم أجاب بأن الحال مقدّرة بحرف الحر وشبّهه بالظرف ، فأجريت مجراهما.

والثاني من الوجهين في «ذكرا» أن يكون مصدرا لقوله : «فاذكروا» ، ويكون قوله : «كذكركم» في محلّ نصب على الحال من «ذكرا» ؛ لأنها في الأصل صفة له ، فلما قدّمت ، كانت في محلّ حال ، ويكون «أشدّ» عطفا على هذه الحال ، وتقدير الكلام : «فاذكروا الله ذكرا كذكركم ، أي : مشبها ذكركم أو أشدّ» ؛ فيصير نظير : «اضرب مثل ضرب فلان أو أشدّ» الأصل : اضرب ضربا مثل ضرب فلان أو أشدّ.

و «ذكرا» تمييز عند غير الشّيخ كما تقدّم ، واستشكلوا كونه تمييزا منصوبا ؛ وذلك أن أفعل التفضيل يجب أن تضاف إلى ما بعدها ، إذا كان من جنس ما قبلها ؛ نحو : «وجه زيد أحسن وجه» ، «وعلمه أكثر علم» ، وإن لم يكن من جنس ما قبلها ، وجب نصبه ؛ نحو : «زيد أحسن وجها ، وخالد أكثر علما» ، إذا تقرّر ذلك ، فقوله : «ذكرا» هو من جنس ما قبلها ، فعلى ما قرّر ، كان يقتضي جرّه ، فإنه نظير : «اضرب بكرا كضرب عمرو زيدا أو أشدّ ضرب» بالجرّ فقط. والجواب عن هذا الإشكال مأخوذ من الأوجه المتقدّمة في النصب والجر المذكورين في «أشدّ» ؛ من حيث أن يجعل الذّكر ذاكرا مجازا ؛ كقولهم :

__________________

(١) تقدم برقم ٦٥٣.

٤٣٥

«شعر شاعر» ؛ كما قال به الفارسيّ وصاحبه ، أو يجعل «أشدّ» من صفات الأعيان ، لا من صفات الإذكار ؛ كما قال به الزمخشريّ ، أو يجعل «أشدّ» حالا من «ذكرا» أو ننصبه بفعل و «أو» هنا قيل للإباحة ، وقيل للتخيير ، وقيل : بمعنى بل ، وهو قول أكثر المفسّرين.

قوله : (فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا) «من» مبتدأ ، وخبره في الجارّ قبله ، ويجوز أن تكون فاعلة عند الأخفش ، وأن تكون نكرة موصوفة ، وفي هذا الكلام التفات ؛ إذ لو جرى على النسق الأول ، لقيل : «فمنكم» ، وحمل على معنى «من» ؛ إذ جاء جمعا في قوله : «ربّنا آتنا» ، ولو حمل على لفظها ، لقال «ربّ آتني».

وفي المفعول الثاني ل «آتنا» ـ لأنه يتعدّى لاثنين ثانيهما غير الأوّل ـ ثلاثة أقوال :

أظهرها : أنه محذوف ؛ اختصارا أو اقتصارا ؛ لأنه من باب «أعطى» ، أي : آتنا ما نريد ، أو مطلوبنا.

والثاني : أن «في» بمعنى «من» أي : من الدنيا.

والثالث : أنها زائدة ، أي : آتنا الدنيا. وليسا بشيء.

فصل

اعلم أنّه بيّن أولا مناسك الحجّ ، ثم أمر بعدها بالذّكر ، ثم بيّن بعد الذّكر كيفيّة الدّعاء ، وهذا من أحسن التّرتيب ؛ فإنّ تقديم العبادة يكسر النّفس ، وبعد العبادة لا بدّ من الاشتغال بذكر الله ، فإن به يكمل الدّعاء ؛ كما حكي عن إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ ؛ أنّه قدّم الذّكر على الدّعاء ، فقال : (الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ) [الشعراء : ٧٨] ثم قال : (رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) [الشعراء : ٨٣] ثم بيّن ـ تبارك وتعالى ـ أنّ الّذين يدعون فريقان : أحدهما يطلب الدّنيا ، والثّاني يطلب الدّنيا والآخرة ، وقد بقي قسم ثالث وهو طلب الآخرة ، واختلفوا في هذا القسم : هل هو مشروع أم لا؟ والأكثرون على أنّه غير مشروع ؛ لأن الإنسان ضعيف لا طاقة له بآلام الدّنيا ؛ فالأولى أن يستعيذ بربّه من كل شرّ في الدّنيا والآخرة.

روى القفّال (١) في «تفسيره» عن أنس ـ رضي الله عنه ـ أن النّبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ دخل على رجل يعوده ، قد أنهكه المرض حتّى صار كالفرخ ، فقال : ما كنت تدعو الله به قبل هذا؟ قال : كنت أقول : اللهمّ ما كنت تعاقبني به في الآخرة فعجّل به في الدّنيا ، فقال النبيّ ـ عليه‌السلام ـ : سبحان الله!! إنّك لا تطيق ذلك ؛ فهلا قلت : (رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ) قال : فدعا له رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فشفي (٢).

__________________

(١) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ١٥٩.

(٢) أخرجه مسلم كتاب الذكر باب فضل الدعاء : اللهم آتنا في الدنيا حسنة رقم (٢٦٩٠) والترمذي ـ

٤٣٦

فصل

اختلفوا في الّذين يقتصرون في الدّعاء على طلب الدّنيا على قولين.

فقال قوم : هم الكفّار ؛ روي عن ابن عبّاس ـ رضي الله عنهما ـ ؛ أنّ المشركين كانوا إذا وقفوا للدّعاء ، يقولون : اللهمّ أعطنا غنما وإبلا وبقرا ، وعبيدا ، وإماء ، وكان الرّجل يقوم ويقول : اللهم إنّ أبي كان عظيم القبّة ، كبير الجفنة ، كثير المال ؛ فأعطني مثلما أعطيته (١) ، ولم يطلبوا التّوبة والمغفرة ؛ لأنهم كانوا منكرين البعث والمعاد.

وعن أنس ؛ كانوا يقولون : اسقنا المطر ، وأعطنا على عدوّنا الظّفر (٢) ، فأخبر الله ـ تعالى ـ أنّ من كان هكذا ، فلا خلاق له في الآخرة ، أي : لا نصيب له.

قال القرطبي (٣) : فنهوا عن ذلك الدّعاء المخصوص بأمر الدّنيا ، وجاء النّهي بصيغة الخبر عنهم.

وقال آخرون : قد يكونوا مؤمنين ، ويسألون الله ـ تعالى ـ لدنياهم لا لآخرتهم ، ويكون سؤالهم هذا ذنبا ؛ لأنهم سألوا الله في أعظم المواقف حطام الدّنيا الفاني ، وأعرضوا عن سؤال نعيم الآخرة ، ويقال لمن فعل ذلك : أنّه لا خلاق له في الآخرة ، وإن كان مسلما ؛ كما روي في قوله ـ تعالى ـ (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ) [آل عمران : ٧٧] أنها نزلت فيمن أخذ مالا بيمين فاجرة.

وروي عن النّبيّ ـ عليه‌السلام ـ : إنّ الله يؤيّد هذا الدّين بأقوام لا خلاق لهم (٤) ، ومعنى ذلك على وجوه.

__________________

ـ (٣٤٨٣) وأحمد (٣ / ١٠٧) والبغوي في «تفسيره» (١ / ١٨٨) وابن أبي شيبة (١٠ / ٢٦١) والطحاوي في «مشكل الآثار» (٢ / ٤٢٧) وابن المبارك في «الزهد» (٣٤٧) وابن السني في «عمل اليوم والليلة» (٥٤٩) والطبري في «تفسيره» (٤ / ٢٠٤) وأبو يعلى (٦ / ٣٨٣٧).

والحديث ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ٤١٨) وزاد نسبته لعبد بن حميد والبخاري وابن أبي حاتم والبيهقي في «الشعب».

ولم أجده في البخاري وقد جزم ابن كثير بذلك ، فأورده في «التفسير» (١ / ٤٧٢ ـ ٤٧٣) من رواية المسند وقال : انفرد بإخراجه مسلم.

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٤ / ٢٠١) عن أبي وائل بمعناه.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٤ / ٢٠٢) عن أنس وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ٤١٨) وعزاه للطبري وحده.

(٣) ينظر : تفسير القرطبي ٢ / ٢٨٦.

(٤) أخرجه أحمد والطبراني في «الصغير» (١ / ٥١) وابن عدي في «الكامل» (٢ / ٥٧٣) وأبو نعيم في «الحلية» (٣ / ١٣) عن أبي بكرة.

وذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (٥ / ٣٠٥) وقال رواه الطبراني وأحمد ورجالهما ثقات.

والحديث ذكره الحافظ العراقي في «تخريج الإحياء» (١ / ٤٨) وقال : رواه النسائي بإسناد صحيح عن أنس.

٤٣٧

أحدها : أنّه لا خلاق له في الآخرة إلّا أن يتوب.

الثاني : لا خلاق له في الآخرة إلّا أن يعفو الله عنه.

والثالث : لا خلاق له في الآخرة كخلاق من سأل الله ـ تعالى ـ لآخرته ، وكذلك لا خلاق لمن أخذ مالا بيمين فاجرة ، كخلاق من تورّع عن ذلك ؛ ونظير هذه الآية قوله تعالى : (مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ) [الشورى : ٢٠].

قوله تعالى : (فِي الدُّنْيا حَسَنَةً) [البقرة : ٢٠١] يجوز في الجارّ وجهان.

أحدهما : أن يتعلّق ب «آتنا» كالذي قبله.

والثاني : أجازه أبو البقاء (١) أن يتعلّق بمحذوف على أنه حال من «حسنة» ؛ لأنه كان في الأصل صفة لها ، فلما قدّم عليها ، انتصب حالا.

قوله : «وفي الآخرة حسنة» هذه الواو عاطفة شيئين على شيئين متقدّمين ، ف «في الآخرة» عطف على «في الدّنيا» بإعادة العامل ، و «حسنة» عطف على «حسنة» ، والواو تعطف شيئين فأكثر ، على شيئين فأكثر ؛ تقول : «أعلم الله زيدا عمرا فاضلا ، وبكرا خالدا صالحا» ، اللهم إلا أن تنوب عن عاملين ، ففيها خلاف وتفصيل يأتي في موضعه ـ إن شاء الله تعالى ـ ، وليس هذا كما زعم بعضهم : أنه من باب الفصل بين حرف العطف وهو على حرف واحد ، وبين المعطوف بالجار والمجرور ، وجعله دليلا على أبي عليّ الفارسيّ ؛ حيث منع ذلك إلا في ضرورة ؛ لأن هذا من باب عطف شيئين على شيئين ؛ كما ذكرت لك ، لا من باب الفصل ، ومحلّ الخلاف إنما هو نحو : «أكرمت زيدا وعندك عمرا» ، وإنما يردّ على أبي عليّ بقوله : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ) [النساء : ٥٨] وقوله تعالى : (اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَ) [الطلاق : ١٢].

فصل

ذكر المفسّرون في الحسنيين وجوها :

قال عليّ بن أبي طالب : في الدّنيا امرأة صالحة ، وفي الآخرة الجنّة (٢) ؛ روي عن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ؛ أنه قال : الدّنيا كلّها متاع وخير متاعها المرأة الصّالحة (٣).

__________________

(١) ينظر : الإملاء لأبي البقاء ١ / ٨٨.

(٢) ينظر : تفسير البغوي ١ / ١٧٧.

(٣) أخرجه مسلم كتاب الرضاع باب ١٧ رقم (٦٤) رقم (١٤٦٧) والبغوي في «شرح السنة» (٣ / ٩) وأبو نعيم في «الحلية» (٣ / ٣١٠).

٤٣٨

وقال الحسن (١) : في الدّنيا حسنة العلم والعبادة ، وفي الآخرة : الجنّة والنظر.

روى الضحّاك عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ ؛ أنّ رجلا دعا ربّه فقال : (رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ) فقال النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : «ما أعلم أنّ هذا الرّجل سأل الله شيئا من أمر الدّنيا» ، فقال بعض الصحابة : بلى يا رسول الله إنّه قال : (رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً) ، فقال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : «إنّه يقول ربّنا آتنا في الدّنيا عملا صالحا» (٢).

وقال السّدّيّ وابن حيان : في الدّنيا رزقا حلالا وعملا صالحا ، وفي الآخرة المغفرة والثّواب(٣).

وقال عوف : من آتاه الله الإسلام والقرآن وأهلا ومالا ، فقد أوتي في الدّنيا حسنة وفي الآخرة حسنة (٤).

وقيل : الحسنة في الدّنيا الصّحة والأمن ، والكفاية ، والولد الصّالح ، والزّوجة الصّالحة ، والنّصرة على الأعداء ؛ لأن الله تعالى سمّى الخصب والسّعة في الرّزق حسنة ؛ فقال : (إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ) [التوبة : ٥٠].

وقيل في قوله تعالى (قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ) [التوبة : ٥٢] أنهما الظّفر والنّصرة ، وأمّا الحسنة في الآخرة فهي الفوز بالثّواب والخلاص من العقاب.

وقال قتادة : هو طلب العافية في الدّارين (٥).

وبالجملة فهذا الدّعاء جامع لجميع مطالب الدّنيا والآخرة ؛ روى ثابت ؛ أنّهم قالوا لأنس : ادع لنا ، فقال : «اللهم آتنا في الدّنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النّار» قالوا : زدنا ، فأعادها ، قالوا : زدنا ، قال : ما تريدون ؛ قد سألت لك خير الدّنيا والآخرة (٦).

وعن أنس ؛ قال : كان رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ يكثر أن يقول : ربّنا آتنا في الدّنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النّار (٧).

__________________

(١) ينظر : تفسير البغوي ١ / ١٧٧.

(٢) ذكره الفخر الرازي في «التفسير الكبير» (٥ / ١٦١) من رواية الضحاك عن ابن عباس.

(٣) أخجره الطبري في «تفسيره» ٤ / ٢٠٥ عن السدي.

(٤) ينظر : تفسير البغوي ١ / ١٧٧.

(٥) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٤ / ٢٠٣) عن قتادة وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ٤١٩) وعزاه لعبد الرزاق في تفسيره.

(٦) أخرجه البخاري في «الأدب المفرد» رقم (٦٣٧) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ٤١٨) وزاد نسبته لابن أبي شيبة وابن أبي حاتم عن أنس.

(٧) أخرجه البغوي في «تفسيره» (١ / ١٨٩) عن أنس.

٤٣٩

وعن عبد الله بن السّائب ؛ أنّه سمع النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ يقول فيما بين ركن بني جمح والرّكن الأسود (رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ)(١).

فصل

قال ابن الخطيب (٢) : اعلم أن منشأ البحث في الآية الكريمة أنّه لو قيل : آتنا في الدنيا الحسنة وفي الآخرة الحسنة ، لكان ذلك متناولا لكل الحسنات ، ولكنه قال : (آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً) ، وهذا نكرة في محلّ الإثبات ، فلا يتناول إلّا حسنة واحدة ؛ فلذلك اختلف المفسّرون ، فكل واحد منهم حمل اللّفظ على ما رآه أحسن أنواع الحسنة ، وهذا بناء منه على أنّ الفرد المعرّف بالألف واللّام يعمّ (٣) ، وقد اختار في «المحصول» خلافه.

__________________

(١) أخرجه أبو داود كتاب الحج باب : الدعاء في الطواف (١٨٩٢) والنسائي في «الكبرى» كما في «تحفة الأشراف» (٤ / ٣٤٧) وأحمد (٣ / ٤١١) والشافعي في «مسنده» ص ١٢٧ والبغوي في «شرح السنة» (٧ / ١٢٨) رقم (١٩١٥) وابن حبان (١٠٩) والبيهقي (٥ / ٨٤) والحاكم (١ / ٤٥٥) وعبد الرزاق (٨٩٦٣) وابن أبي شيبة (٤ / ١٠٨ ، ١٠ / ٣٦٨) وابن سعد (٢ / ١ / ١٢٩) وابن الجارود في «المنتقى» (٤٥٦).

وقال الحاكم : صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.

(٢) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ١٦١.

(٣) اسم الجنس بأقسامه فإذا دخلت عليه الألف واللام سواء الاسم ؛ كالذهب ، والفضة ، أو الصفة المشتقة ؛ كالضارب ، والمضروب ، والقائم ، والسارق ، والسارقة ، فإن كان للعهد ، فخاص ، سواء الذّكري ؛ كقوله تعالى : كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً. فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ [سورة المزمل : ١٥ ، ١٦] أو الذّهني ؛ كقوله تعالى : (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً) [سورة الفرقان : ٢٧] ، فإن اللّام في الرسول للعهد ، وهو النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإن لم يجر له ذكر في اللفظ ، وإن لم يرد به معهود ، فاختلفوا فيه على أقوال :

أحدها : أنه يفيد استغراق الجنس ، ونقل عن نص الشافعي في «الرسالة» ، و «البويطي» ، ونقله أصحابه عنه في قوله تعالى : (وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ) [سورة البقرة : ٢٧٥] ، وهو كذلك في «الأم» من رواية الربيع ؛ ويدل عليه قوله تعالى : (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) [سورة المنافقون : ٨] إنكارا على قول عبد الله بن أبيّ (لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَ) [سورة المنافقين : ٨] فدلّ على أن اسم الجنس المعرّف يعمّ ، ولو لا ذلك ، لما تطابق ، والفقهاء كالمجمعين عليه في استدلالهم بنحو (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ) [سورة المائدة : ٣٨] ، (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي) [سورة النور : ٢] ، وهو الحق ؛ لأن الجنس معلوم قبل دخول الألف واللام ، فإذا دخلتا ولا معهود ، فلو لم يجعله للاستغراق ، لم يفد شيئا جديدا.

وقال الأستاذ أبو إسحاق الإسفرايني ، وسليم الرّازي في «التقريب» : «إنه المذهب» ونقله الأستاد أبو منصور عن القائلين بالصيغ. قال القاضي عبد الوهاب : وهو قول جمهور الأصوليين ، وكافة الفقهاء ، وقال به أبو عبد الله الجرجاني ، ونسبه لأصحابه الحنفية. وقال القرطبي : إنه مذهب مالك وغيره من الفقهاء. وقال الباجي : «إنه الصحيح» ، وبه قال الشيخ أبو إسحاق الشيرازي ، وابن برهان ، وابن السّمعاني ، والجبّائي ، ونصره عبد الجبار ، وصححه الكيا الطبري ، وابن الحاجب. ونقله الآمدي عن الشافعي والأكثرين ، ونقله الإمام فخر الدين عن المبرّد والفقهاء. ـ

٤٤٠