اللّباب في علوم الكتاب - ج ٣

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ٣

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٤٤

الصلاة والسلام ـ كان يصلّي إلى الكعبة ، ثم أمر بالصلاة إلى «بيت المقدس» بعد الهجرة تأليفا لليهود ، ثم حول إلى الكعبة فقال : (وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ) الجهة (الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها) أولا يعني : وما رددناك إليها إلا امتحانا للناس.

الثاني : يجوز أن يكون قوله : (الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها) لسانا للحكمة في جعل بيت المقدس قبلة يعني أصل أمرك أن تستقبل الكعبة ، وأن استقبالك «بيت المقدس» كان أمرا عارضا لغرض ، وإنما جعلنا القبلة الجهة التي كنت عليها قبل وقتك هذا ، وهي «بيت المقدس» لنمتحن الناس ، وننظر من يتبع الرسول ، ومن لا يتبعه وينفر عنه.

وذكر أبو مسلم وجها ثالثا فقال : لو لا الروايات لم تدلّ الآية على قبلة من قبل الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ عليها ، لأنه قد يقال : كنت بمعنى : صرت ، كقوله تعالى : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ) وقد يقال : كان في معنى لم يزل كقوله تعالى : (وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً) [النساء : ١٥٨] فلا يمتنع أن يراد بقوله : (وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها) أي : التي لم تزل عليها ، وهي الكعبة إلّا كذا وكذا.

قوله : (إِلَّا لِنَعْلَمَ) قد تقدم أنه في أحد الأوجه يكون مفعولا ثانيا.

وأما على غيره فهو استثناء مفرّغ من المفعول العام ، أي : ما سبب تحويل القبلة لشيء من الأشياء إلّا لكذا. وقوله : «لنعلم» ليس على ظاهره ، فإن علمه قديم ، ونظره في الإشكال قوله: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ) [محمد : ٣١].

وقوله : (الْآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً) [الأنفال : ٦٦] ، وقوله : (لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى) [طه : ٤٢] ، وقوله : (فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا) [العنكبوت : ٣].

وقوله : (وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ) [سبأ : ٢١] ، فلا بد من التأويل وهو من أوجه :

أحدها : لتمييز التابع من النّاكص إطلاقا للسبب ، وإرادة للمسبّب.

وقيل : على حذف مضاف أي : لنعلم رسولنا فحذف ، كما يقول الملك : فتحنا البلدة الفلانية بمعنى : فتحها أولياؤنا.

ومنه يقال : فتح عمر السّواد.

ومنه قوله عليه الصلاة والسلام فيما يحكيه عن ربه : «استقرضت عبدي فلم يقرضني ، وشتمني ولم يكن ينبغي له أن يشتمني يقول : وادهراه وأنا الدهر».

وفي الحديث : «من أهان لي وليّا فقد أهانني».

وقيل : معناه : إلا لنرى.

فصل

قال القرطبي رحمه‌الله : وهذا قول ابن أبي طالب وقول العرب ، تضع العلم مكان

٢١

الرؤية ، والرؤية مكان العلم ، كقوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ) [الفيل : ١] بمعنى ألم تعلم ، وعلمت ، وشهدت ، ورأيت ، ألفاظ تتعاقب.

وقيل : حدوث العلم في هذه الآية راجع إلى المخاطبين ، معناه : لتعلموا.

والغرض من هذا الكلام الاستمالة والرفق في الخطاب كقوله : (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً) [سبأ : ٢٤] فأضاف الكلام الموهم للشك إلى نفسه ترقيقا للخطاب ، ورفقا بالمخاطب.

وقيل : يعاملكم معاملة المختبر الذي كأنه لا يعلم.

وقيل : العلم صلة زائدة معناه إلّا ليحصل اتباع المتبعين ، وانقلاب المنقلبين.

ونظيره قولك في الشيء الذي تنفيه عن نفسك : ما علم الله هذا مني أي ما كان هذا مني ، والمعنى : أنه لو كان لعلمه الله.

قوله : «من يتّبع» في «من» وجهان :

أحدهما : أنها موصولة ، و «يتبع» صلتها ، والموصول وصلته في محلّ المفعول ل «نعلم» ؛ لأنه يتعدّى إلى واحد.

والثاني : أنها استفهامية في محلّ رفع بالابتداء ، و «يتبع» خبره ، والجملة في محلّ نصب ؛ لأنها معلقة للعلم ، والعلم على بابه ، وإليه نحا الزّمخشري في أحد قوليه.

وقد رد أبو البقاء هذا الوجه ، فقال : لأن ذلك يوجب تعلّق «نعلم» عن العمل ، وإذا علقت عنه لم يبق ل «من» ما تتعلّق به ، لأن ما بعد الاستفهام لا يتعلّق بما قبله ، ولا يصحّ تعلقها ب «يتبع» ؛ لأنها في المعنى متعلّقة بلا علامة ، وليس المعنى : أي فريق يتبع ممن ينقلب انتهى.

وهو رد واضح إذ ليس المعنى على ذلك ، إنما المعنى على أن يتعلق «ممّن ينقلب» ب «نعلم» نحو : علمت من أحسن إليك ممّن أساء ، وهذا يقوي التجوز بالعلم عن التمييز ، فإن العلم لا يتعدى ب «من» إلا إذا أريد به التمييز.

وقرأ الزهري : «إلّا ليعلم» على البناء للمفعول ، وهي قراءة واضحة لا تحتاج إلى تأويل ، فإنا لا نقدر ذلك الفاعل غير الله تعالى.

قوله : (عَلى عَقِبَيْهِ) في محلّ نصب على الحال ، أي ينقلب مرتدّا راجعا على عقبيه ، وهذا مجاز ، [ووجه الاستعارة أن : المنقلب على عقبيه قد ترك ما بين يديه وأدبر عنه ، فلما تركوا الإيمان والدلائل بمنزلة المدبر عما بين يديه ، فوصفوا بذلك لما قال تعالى : (ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ) [المدثر : ٢٣] وقوله تعالى : (كَذَّبَ وَتَوَلَّى) [طه : ٤٨]](١).

وقرىء «على عقبيه» بسكون القاف ، وهي لغة «تميم».

__________________

(١) سقط في ب.

٢٢

فصل

اختلفوا في هذه المحنة ، هل حصلت بسبب تعيين القبلة ، أو بسبب تحويلها؟ فقال بعضهم : إنما حصلت بسبب تعيين القبلة ؛ لأنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ كان يصلّي إلى الكعبة ، فلما جاء «المدينة» صلى إلى «بيت المقدس» ، فشق ذلك على العرب لترك قبلتهم.

قال القرطبي رحمه‌الله : والآية جواب لقريش في قولهم : (ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها) [البقرة : ١٤٢] وكانت قريش تألف الكعبة ، فأراد الله ـ عزوجل ـ أن يمتحنهم بغير ما ألفوه.

وقال الأكثرون : حصلت بسبب التحويل قالوا : إن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم لو كان على يقين من أمره لما تغير رأيه.

روى القفّال عن ابن جريج أنه قال : بلغني أنه رجع ناس ممن أسلموا ، فقالوا : مرة ههنا ومرة ههنا (١).

وقال السدي رحمه‌الله تعالى : لما توجه النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ نحو المسجد الحرام واختلف الناس ، فقال المنافقون : ما بالهم كانوا على قبلة ثم تركوها؟

وقال المسلمون : ليتنا نعلم حال إخواننا الذين ماتوا وهم يصلون نحو بيت المقدس.

وقال آخرون : اشتاق إلى بلد أبيه ومولده.

وقال المشركون : تحيّر في دينه (٢).

قال ابن الخطيب : وهذا القول أولى ؛ لأن الشبهة في أمر النّسخ أعظم من الشبهة الحاصلة بسبب تعيين القبلة [وقد وصفها الله ـ تعالى ـ بالكبر فقال عزوجل : (وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللهُ) فكان حمله عليه أولى](٣).

قوله : (وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً) «إن» هي المخففة من الثقيلة دخلت على ناسخ المبتدأ والخبر ، وهو أغلب أحوالها ، و «اللام» للفرق بينها وبين «إن» النافية ، وهل هي لام الابتداء ، أو لام أخرى أتى بها للفرق؟ خلاف مشهور (٤).

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٣ / ١٥٨) عن ابن جريج ، والأثر ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ٢٦٨).

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٣ / ١٥٧) عن السدي ، وانظر «الدر المنثور» (١ / ٢٦٢).

(٣) سقط في ب.

(٤) قال أبو حيّان في «ارتشاف الضرب» : مذهب سيبويه ، والأخفشين أبوي الحسن ، وأكثر نحاة بغداد : أنّ هذه اللام لام الابتداء التي كانت مع المشددة ، لزمت للفرق بين (إنّ) التي هي لتأكيد النسبة وبين (إنّ) النافية ، وهو اختيار أبي الحسن بن الأخضر من أئمة بلادنا ، وابن عصفور ، وابن مالك. ومذهب الفارسي : أنها ليست لام الابتداء ، بل لام أخرى اجتلبت للفرق ، وهو اختيار أبي عبد الله بن أبي العافية ، والأستاذ أبي علي ، وأبي الحسين بن أبي الرّبيع. وقيل : إن دخلت على الجملة الاسمية ، كانت لام ابتداء لزمت للفرق ، أو على الفعلية ، كانت غيرها فارقة ، وثمرة الخلاف بين القولين ـ

٢٣

وزعم الكوفيون أنها بمعنى «ما» النافية ، وأن «اللام» بمعنى «إلا» ، والمعنى : ما كانت إلا كبيرة ، نقل ذلك عنهم أبو البقاء رحمه‌الله [وفيه نظر. واعلم أن «إن» المكسورة الخفيفة تكون على أربعة أوجه :

جزاء ، وهي تفيد ربط إحدى الجملتين بالأخرى ، فالمستلزم هو الشرط ، واللازم هو الجزاء ، كقولك : إن جئتني أكرمتك.

ومخففة من الثقيلة ، وهي تفيد توكيد المعنى في الجملة بمنزلة المشددة ، كقولك : إن زيدا لقائم ، قال تعالى : (إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ) [الطارق : ٤] ، (إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولاً) [الإسراء : ١٠٨].

وللجحد ، لقوله تعالى : (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ) [الأنعام : ٥٧] (إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَ) [الأنعام : ١٤٨] (وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما) [فاطر : ٤١]. أي : ما يمسكهما. وزائدة كقوله : ما إن رأيت زيدا](١) ، والقراءة المشهورة نصب «كبيرة» على خبر «كان» ، واسم كان مضمر فيها يعود على التولية ، أو الصلاة ، أو القبلة المدلول عليها بسياق الكلام.

وقرأ اليزيدي (٢) عن أبي عمرو : برفعها.

وفيه تأويلان :

أحدهما ـ وذكره الزمخشري ـ : أن «كان» زائدة ، وفي زيادتها عاملة نظر لا يخفى ؛ وقد استدلّ الزمخشري على ذلك بقوله : [الوافر]

٨٢٥ ـ فكيف إذا مررت بدار قوم

وجيران لنا كانوا كرام (٣)

__________________

ـ الأولين : أنّها إن كانت لام الابتداء ، وجب كسر همزة «إن» في مثل : قد علمنا إن كنت لمؤمنا ، وإن كانت غيرها جاءت للفرق ، وجب فتح همزة «إن» ، والجملة الفعلية هي الفعل الناسخ ، والمثبت من باب «كان» غير ليس ، ولا الواقع صلة ، فلا يدخل على «ليس» ولا على ما أوله حرف نفي ، ولا على «دام» ، ومن باب «ظن» غير الذي لا يتصرّف ، فلا تدخل على (هب) ونحوها ، وتلزم اللام ما وقع في اللّفظ ثانيا من معمول «كان» ، و «معمولي ظن» وأخواتها ، ولا تدخل على ما خبره منفي في باب «كان» ، ولا على ما ثانية منفي في باب «ظن» ، وسواء في ذلك الفعل المضارع والماضي ؛ قال تعالى : (وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ) ، (وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ) ، (وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكاذِبِينَ) و (إِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ) ودعوى ابن مالك : أنه إذا كان بلفظ المضارع ، يحفظ ولا يقاس عليه ، ليست بشيء.

١) سقط في ب.

(٢) انظر الشواذ : ١٠ ، والبحر المحيط : ١ / ٥٩٨ ، والدر المصون : ١ / ٣٩٥.

(٣) البيت للفرزدق ينظر ديوانه : ٢ / ٢٩٠ ، وتخليص الشواهد : ص ٢٥٢ ، وخزانة الأدب : ٩ / ٢١٧ ، ٢٢١ ، ٢٢٢ ، وشرح التصريح : ١ / ١٩٢ ، وشرح شواهد المغني : ٢ / ٦٩٣ ، والكتاب : ٢ / ١٥٣ ، والمقاصد النحوية : ٢ / ٤٢ ، والمقتضب : ٤ / ١١٦ ، والأزهية : ص ١٨٨ ، وشرح الأشموني : ١ / ١١٧ ، وأسرار العربية : ص ١٣٦ ، وأوضح المسالك : ١ / ٢٥٨ ، وشرح ابن عقيل : ص ١٤٦ ، والأشباه والنظائر : ١ / ١٦٥ ، والصاحبي في فقه اللغة : ص ١٦١ ، ولسان العرب (كون) ، ومغني اللبيب : ١ / ٢٨٧ ، والدر المصون : ١ / ٣٩٥.

٢٤

فإن قوله : «كرام» صفة ل «جيران» ، وزاد بينهما «كانوا» ، وهي رافعة للضمير ، ومن منع ذلك تأول «لنا» خبرا مقدما ، وجملة الكون صفة ل «جيران».

والثاني : أن «كان» غير زائدة ، بل يكون «كبيرة» خبرا لمبتدأ محذوف ، والتقدير : وإن كانت لهي كبيرة ، وتكون هذه الجملة في محلّ نصب خبرا لكانت ، ودخلت لام الفرق على الجملة الواقعة خبرا. وهو توجيه ضعيف ، ولكن لا توجه هذه القراءة الشّاذة بأكثر من ذلك.

[والضمير في «كانت» فيه وجهان :

الأول : أنه يعود على القبلة ؛ لأن المذكور السابق هو القبلة.

والثاني : يعود إلى ما دلّ عليه الكلام السّابق ، وهو مفارقة القبلة ، والتأنيث للتولية أي : وإن كانت التولية ؛ لأن قوله تعالى : (ما وَلَّاهُمْ) يدل على القولية ، ويحتمل أن يكون المعنى : وإن كانت هذه الفعلة نظيره «فبها ونعمت».

ومعنى «كبيرة» ثقيلة شاقّة مستنكرة.

وقوله تعالى : (كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ) [الكهف : ٥]](١).

قوله : (إِلَّا عَلَى الَّذِينَ) متعلق ب «كبيرة» ، وهو استثناء مفرغ.

فإن قيل : لم يتقدم هنا نفي ولا شبهة ، وشرط الاستثناء المفرغ تقدم شيء من ذلك.

فالجواب : أن الكلام وإن كان موجبا لفظا فإنه في معنى النفي ؛ إذ المعنى أنها لا تخف ولا تسهل إلا على الذين ، وهذا التأويل بعينه قد ذكروه في قوله : (وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ) [البقرة : ٤٥].

وقال أبو حيان : [هو استثناء من مستثنى محذوف تقديره : وإن كانت لكبيرة على النّاس إلا على الذين](٢) وليس استثناء مفرغا ؛ لأنه لم يتقدمه نفي ولا شبهة ، وقد تقدم جواب ذلك [واستدل الأصحاب رحمهم‌الله ـ تعالى ـ بهذه الآية على خلق الأعمال](٣).

قوله : (وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ) في هذا التركيب وما أشبهه [مما ورد في القرآن وغيره] نحو : (وَما كانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ) [آل عمران : ١٧٩] ، (ما كانَ اللهُ لِيَذَرَ) [آل عمران : ١٧٩] قولان :

أحدهما : قول البصريين ؛ وهو أن خبر «كان» محذوف ، وهذه اللام تسمى لام الجحود ينتصب الفعل بعدها بإضمار «أن» وجوبا ، فينسبك منها ومن الفعل مصدر منجرّ بهذه «اللام» ، وتتعلق هذه اللام بذلك الخبر المحذوف.

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) سقط في أ.

(٣) سقط في ب.

٢٥

والتقدير : وما كان الله مريدا لإضاعة أعمالكم ، وشرط لام الجحود عندهم أن يتقدمها كون منفي.

[واشترط بعضهم مع ذلك أن يكون كونا ماضيا ، ويفرق بينها وبين «لام» ما ذكرنا من اشتراط تقدم كون منفي](١) ، ويدلّ على مذهب البصريين التصريح بالخبر المحذوف في قوله : [الوافر]

٨٢٦ ـ سموت ولم تكن أهلا لتسمو

 .......... (٢)

والقول الثاني للكوفيين : وهو أن «اللام» وما بعدها في محلّ الجر ، ولا يقدرون شيئا محذوفا ، ويزعمون أن النصب في الفعل بعدها بنفسها لا بإضمار «أن» ، وأن «اللام» للتأكيد ، وقد رد عليهم أبو البقاء فقال : وهو بعيد ، لأن «اللام» لام الجر ، و «أن» بعدها مرادة ، فيصير التقدير على قولهم : وما كان لله إضاعة إيمانكم ، وهذا الرد غير لازم لهم ، فإنهم لم يقولوا بإضمار «أن» بعد اللام كما قدمت نقله عنهم ، بل يزعمون النصب بها ، وأنها زائدة للتأكيد ولكن للرد عليهم موضع غير هذا.

واعلم أن قولك : «ما كان زيد ليقوم» ب «لام» الجحود أبلغ من : «ما كان زيد يقوم».

أما على مذهب البصريين فواضح ، وذلك أن مع «لام» الجحود نفي الإرادة للقيام والتّهيئة ، ودونها نفي للقيام فقط ، ونفي التّهيئة والإرادة للفعل أبلغ من نفي الفعل ؛ إذ لا يلزم من نفي الفعل نفي إرادته.

وأما على مذهب الكوفيين فلأن «اللام» عندهم للتوكيد ، والكلام مع التوكيد أبلغ منه بلا توكيد.

وقرأ الضحاك (٣) : «ليضيّع» بالتشديد ، وذلك أن : أضاع وضيّع بالهمزة ، والتضعيف للنقل من «ضاع» القاصر ، يقال : ضاع الشيء يضيع ، وأضعته أي : أهملته ، فلم أحفظه.

وأما ضاع المسك يضوع أي : فاح ، فمادة أخرى.

فصل في مناسبة اتّصال هذه الآية بما قبلها

وجه اتصال هذه الآية الكريمة بما قبلها أن رجالا من المسلمين كأبي أمامة ، وسعد ابن زرارة ، والبراء بن عازب ، والبراء بن معرور ، وغيرهم ماتوا على القبلة.

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) ينظر الجنى الداني : (١١٩) ، ارتشاف الضرب : ٢ / ٤٠٠ ، الهمع : ٢ / ٨ ، والدر المصون : ١ / ٣٩٦ ، البحر : ١ / ٦٠٠.

(٣) انظر الشواذ : ١٠ ، والمحرر الوجيز : ١ / ٢٢١ ، والبحر المحيط : ١ / ٦٠٠ ، والدر المصون : ١ / ٣٩٦.

٢٦

قال عشائرهم : يا رسول الله توفي إخواننا على القبلة الأولى ، فكيف حالهم؟

فأنزل الله ـ تعالى ـ هذه الآية (١).

[واعلم أنه لا بد من هذا السبب ، وإلا لم يتّصل بعض الكلام ببعض ، ووجه تقرير الإشكال أن الذين لم يجوّزوا النسخ إلا مع البداء يقولون : إنه لمّا تغير الحكم وجب أن يكون الحكم مفسدة](٢) فبين أن النسخ نقل من مصلحة إلى مصلحة ، ومن تكليف إلى تكليف ، والأول كالثاني في أن القائم به متمسّك بالدين ، وأن من هذا حاله ، فإنه لا يضيع أجره.

ونظيره : ما سألوا بعد تحريم الخمر عمن مات ، وكان يشربها ، فأنزل الله تعالى : (لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ) [المائدة : ٩٣] فعرفهم الله ـ تعالى ـ أنه لا جناح عليهم فيما مضى لما كان ذلك بإباحة الله تعالى.

فإن قيل : إذا كان الشك إنما تولّد من تجويز البداء على الله ـ تعالى ـ فكيف يليق ذلك بالصحابة؟

فالجواب من وجوه :

أحدها : أن ذلك الشّك وقع لمنافق ، فذكر الله ـ تعالى ـ ذلك ليذكره المسلمون جوابا لسؤال ذلك المنافق.

وثانيها : لعلهم اعتقدوا أن الصّلاة إلى الكعبة أفضل فقالوا : ليت إخواننا ممن مات أدرك ، فذكر الله ـ تعالى ـ هذا الكلام جوابا عن ذلك.

وثالثها : لعله ـ تعالى ـ ذكر هذا الكلام ليكون دفعا لذلك السؤال لو خطر ببالهم.

ورابعها : لعلهم توهموا أن ذلك لما نسخ وبطل ، وكان ما يؤتى به بعد النسخ من الصلاة إلى الكعبة كفّارة لما سلف ، واستغنوا عن السؤال عن أمر أنفسهم لهذا الضرب من التأويل ، فسألوا عن إخوانهم الذين ماتوا ، ولم يأتوا بما يكفر ما سلف ؛ قال : (وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ) ، والمراد : أهل ملّتكم ، كقوله لليهود الحاضرين في زمان محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً) [البقرة : ٧٢] ، (وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ) [البقرة : ٥٠] ، ويجوز أن يكون السؤال واقعا عن الأحياء والأموات معا ، فإنهم أشفقوا على ما كان من صلاتهم أن يبطل ثوابهم ، وكان الإشفاق واقعا في الفريقين ، فقيل : إيمانكم للأحياء والأموات ، إذ من شأن العرب إذا أخبروا عن حاضر وغائب أن يغلبوا الخطاب ، فيقولوا : كنت أنت وفلان الغائب فعلتما والله أعلم.

__________________

(١) أخرجه أحمد (١ / ٣٤٧) والترمذي (٢٩٦٨) وأبو داود (٤٦٨٠) والدارمي (١ / ٢٨١) والطبراني (١١ / ٢٧٨) والحاكم (٢ / ٢٦٩) والطيالسي (١٩٢٤) وابن حبان (١٧١٨ ـ زوائده) والطبري في «التفسير» (٢٠ / ١٧) من طرق عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس ، وقال الترمذي : حسن صحيح. وقال الحاكم : صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.

(٢) سقط في أ.

٢٧

وقال أبو مسلم : يحتمل أن يكون ذلك خطابا لأهل الكتاب ، والمراد بالإيمان صلاتهم ، وطاعتهم قبل البعثة ثم نسخ.

وإنما اختار أبو مسلم هذا القول ، لئلا يلزمه وقوع النسخ في شرعنا.

قال القرطبي : «وسمى الصلاة إيمانا لاشتمالها على نيّة وقول وعمل».

استدلت المعتزلة بقوله : (وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ) على أن الإيمان اسم لفعل الطاعات ، فإنه ـ تعالى ـ أراد بالإيمان هاهنا الصلاة.

والجواب : لا نسلم أن المراد من الإيمان هنا الصلاة ، بل المراد منه التّصديق ، والإقرار ، فكأنه ـ تعالى ـ قال : إنه لا يضيع تصديقكم بوجوب تلك الصلاة.

سلمنا أن المراد من الإيمان هاهنا الصلاة ، ولكن الصلاة أعظم الإيمان ، وأشرف نتائجه وفوائده ، فجاز إطلاق اسم الإيمان على الصلاة على سبيل الاستعارة من هذه الجهة.

فصل في الكلام على الآية

قوله : (وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ) أي : لا يضيع ثواب إيمانكم ؛ لأن الإيمان قد انقضى وفني ، وما كان كذلك استحال حفظه وإضاعته ، إلّا أنّ استحقاق الثواب قائم بعد انقضائه ، فصح حفظه وإضاعته ، وهو كقوله تعالى : (أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ) [آل عمران : ١٩٥].

قوله : (لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ).

قرأ أبو عمرو (١) ، وحمزة ، والكسائي ، وأبو بكر : «لرؤف» على وزن : «ندس» و «رعف» مهموزا غير مشبع ، وهي لغة فاشية ، كقوله : [الوافر]

٨٢٧ ـ وشرّ الظّالمين فلا تكنه

يقاتل عمّه الرّؤف الرّحيما (٢)

وقال آخر : [الوافر]

٨٢٨ ـ يرى للمسلمين عليه حقّا

كحقّ الوالد الرّؤف الرّحيم (٣)

وقرأ الباقون : «لرؤوف» مثقلا مهموزا مشبعا على زنة «شكور».

وقرأ أبو جعفر (٤) «لروف» من غير همز ، وهذا دأبه في كل همزة ساكنة أو متحركة.

__________________

(١) انظر الكشف : ١ / ٢٦٦ ، والسبعة : ١٧١ ، والشواذ : ١٠ ، والحجة : ٢ / ٢٢٩ ، وحجة القراءات : ١١٦ ، والعنوان : ٧٢ ، وشرح الطيبة : ٤ / ٧١ ـ ٧٣ ، وشرح شعلة : ٢٧٨ ، وإتحاف فضلاء البشر : ١ / ٤٢١ ، ٤٢٢.

(٢) البيت للوليد بن عقبة. ينظر الطبري : ٣ / ١٧١ ، والمحرر الوجيز : ١ / ٤٤٢ ، والبحر المحيط : ١ / ٦٠١ ، القرطبي : ٢ / ١٠٧ ، والدر المصون : ١ / ٣٩٧.

(٣) البيت لجرير. ينظر ديوانه : (٣٨٢) ، البحر المحيط : ١ / ٦٠١ ، والدر المصون : ١ / ٣٩٧.

(٤) ينظر القراءة السابقة.

٢٨

و «الرأفة» : أشد الرحمة ، فهي أخص منها ، [وقيل بينهما عموم وخصوص ، فلا ترى فيه أكمل من الرحمة بالكيفية ، والرحمة اتصال النعمة برقة يكون معها إيلام كقطع العضو المتآكل وشرب الدواء](١).

وفي «رءوف» لغتان أخريان لم تصل إلينا بهما قراءة وهما : «رئف» على وزن «فخذ» ، و «رأف» على وزن «ضعف».

وإنم قدم على «رحيم» لأجل الفواصل ، والله أعلم.

فصل فيمن استدل بالآية على أن الله تعالى لا يخلق الكفر

استدلت المعتزلة بهذه الآية على أنه تعالى لا يخلق الكفر ولا الفساد قالوا : لأنه ـ تعالى ـ بين أنه بالنّاس لرءوف رحيم ، فوجب أن يكون رءوفا رحيما بهم ، وإنما يكون كذلك لو لم يخلق فيهم الكفر الذي يجرّهم إلى العقاب الدائم ، والعذاب السّرمدي ، ولو لم يكلّفهم ما لا يطيقون ، فإنه ـ تعالى ـ لو كان مع مثل هذا الإضرار رءوفا رحيما ، فعلى أيّ طريق يتصور ألّا يكون رءوفا رحيما.

واعلم أنّ الكلام عليه قد تقدّم مرارا ، والله أعلم.

قوله تعالى : (قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ)(١٤٤)

قال العلماء : هذه الآية متقدّمة في النزول على قوله تعالى : (سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ).

ومعنى «تقلّب وجهك» : تحرّك وجهك إلى السّماء.

اعلم أنّ «قد» هذه قال فيها بعضهم : إنها تصرف المضارع إلى معنى المضيّ ، وجعل من ذلك هذه الآية وأمثالها ، وقول الشاعر : [الطويل]

٨٢٩ ـ لقوم لعمري قد نرى أمس فيهم

مرابط للأمهار والعكر الدّثر (٢)

وقال الزّمخشريّ : «قد نرى» : ربّما نرى ، ومعناه كثرة الرؤية ؛ كقوله : [البسيط]

٨٣٠ ـ قد أترك القرن مصفرّا أنامله

كأنّ أثوابه مجّت بفرصاد (٣)

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) البيت لامرىء القيس ينظر ديوانه : ص ١١٢ ، جمهرة اللغة : ص ٧٧٠ ، ورصف المباني : ص ١١١ ، لسان العرب (دثر) ، والدر المصون : ١ / ٣٩٧.

(٣) البيت لعبيد بن الأبرص. ينظر ديوانه : ص ٦٤ ، خزانة الأدب : ١١ / ٢٥٣ ، ٢٥٧ ، ٢٦٠ ، شرح أبيات سيبويه : ٢ / ٣٦٨ ، الدرر : ٥ / ١٢٨ ، شرح شواهد المغني : ص ٤٩٤ ، الأزهية : ص ٢١٢ ، الجنى ـ

٢٩

قال أبو حيّان (١) : وشرحه هذا على التحقيق متضادّ ؛ لأنه شرح «قد نرى» ب «ربّما نرى» ، و «ربّ» على مذهب المحققين إنما تكون لتقليل الشّيء في نفسه ، أو لتقليل نظيره.

ثمّ قال : «ومعناه كثرة الرّؤية» فهو مضادّ لمدلول «ربّ» على مذهب الجمهور.

ثم هذا الذي ادّعاه من كثرة الرؤية لا يدل عليه اللفظ ، لأنه لم توضع للكثرة «قد» مع المضارع ، سواء أريد به المضي أم لا ، وإنّما فهمت الكثرة من متعلّق الرؤية ، وهو التقلب.

قوله : «في السّماء» في متعلّق الجار ثلاثة أقوال :

أحدها : أنه المصدر ، وهو «تقلّب» ، وفي «في» حينئذ وجهان :

أحدهما : أنها على بابها من الظرفية ، وهو الواضح.

والثّاني : أنها بمعنى : «إلى» أي : إلى السّماء ولا حاجة لذلك ، فإنّ هذا المصدر قد ثبت تعديه ب «في» ، قال تعالى : (لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ) [آل عمران : ١٩٦].

والثاني من الأقوال : أنه «نرى» ، وحينئذ تكون «في» بمعنى «من» أي : قد نرى من السّماء ، وذكر السماء وإن كان تعالى لا يتحيّز في جهة على سبيل التشريف.

والثالث : أنه محل نصب على الحال من «وجهك» ذكره أبو البقاء ، فيتعلّق حينئذ بمحذوف ، والمصدر هنا مضاف إلى فاعله ، ولا يجوز أن يكون مضافا إلى منصوبه ؛ لأنه مصدر ذلك التقليب ، ولا حاجة إلى حذف ، ومن قوله : «وجهك» وهو بصر وجهك ؛ لأن ذلك لا يكاد يستعمل ، بل ذكر الوجه ؛ لأنه أشرف الأعضاء ، وهو الذي يقلبه السّائل في حاجته ، وقيل : كنى بالوجه عن البصر ؛ لأنه محلّه.

قوله : (فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً) «الفاء» هنا للتّسبّب وهو واضح ، وهذا جواب قسم محذوف ، أي : فو الله لنولّينّك ، و «نولّي» يتعدّى لاثنين : الأول الكاف ، والثّاني «قبلة» ، و «ترضاها» الجملة في محلّ نصب صفة ل «قبلة».

قال أبو حيّان (٢) : وهذا ؛ يعني : «فلنولّينك» يدلّ على أن الجملة السابقة محذوفة تقديره : قد نرى تقلّب وجهك في السّماء طالبا قبلة غير التي أنت مستقبلها.

__________________

ـ الداني : ص ٢٥٩ ، شرح المفصل : ٨ / ١٤٧ ، الكتاب : ٤ / ٢٢٤ ، لسان العرب (قدد) ، مغني اللبيب : ص ١٧٤ ، تذكرة النحاة : ص ٧٦ ، رصف المباني : ص ٣٩٣ ، شرح شواهد الإيضاح : ص ٢٢٠ ، المقتضب : ١ / ٤٣ ، همع الهوامع : ٢ / ٧٣ ، البحر : ١ / ٦٠٢ ، الدر المصون : ١ / ٣٩٧.

(١) ينظر البحر المحيط : ١ / ٦٠٢.

(٢) ينظر البحر المحيط : ١ / ٦٠٣.

٣٠

فصل في الكلام على الآية

في الآية قولان :

القول الأول : وهو المشهور الذي عليه أكثر المفسّرين أن ذلك كان لانتظار تحويله من «بيت المقدس» إلى الكعبة ، وذكروا في ذلك وجوها :

أحدها : أنه كان يكره التوجّه إلى بيت المقدس ، ويحبّ التوجّه إلى الكعبة ، إلّا أنه ما كان يتكلّم بذلك ، فكان يقلّب وجهه في السّماء لهذا المعنى.

روي عن عباس أنه [صلى‌الله‌عليه‌وسلم] قال : «يا جبريل وددت أنّ الله ـ تعالى ـ صرفني عن قبلة اليهود ، إلى عينها فقد كرهتها».

فقال جبريل عليه الصلاة والسلام «أنا عبد مثلك فاسأل ربّك ذلك».

فجعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يديم النّظر إلى السماء ؛ رجاء مجيء جبريل بما سأل ، فأنزل الله تعالى هذه الآية (١) ، وهؤلاء ذكروا في سبب هذه المحنة أمورا :

الأول : أنّ اليهود كانوا يقولون : إنه يخالفنا ، ثم إنه يتبع قبلتنا ، ولو لا نحن لم يدر أين يستقبل. فعند ذلك كره أن يتوجّه إلى قبلتهم (٢).

الثّاني : أنّ الكعبة كانت قبلة إبراهيم عليه الصلاة والسلام.

[الثّالث : أنه ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ كان يقدّر أن يصير ذلك سببا لاستمالة العرب ، ولدخولهم في الإسلام.

الرّابع : أنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ أحبّ](٣) أن يحصل هذا الشرف للمسجد الذي في بلدته ومنشئه لا في مسجد آخر.

واعترض القاضي على هذا الوجه ، وقال : إنه لا يليق به ـ عليه الصلاة والسلام ـ أن يكره قبلة أمر أن يصلّي إليها ، ويحبّ أن يحوله ربّه عنها إلى قبلة يهواها بطبعه ، ويميل إليها بحسب شهوته ؛ لأنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ علم أنّ الصّلاح في خلاف الطّبع والميل.

قال ابن الخطيب : وهذا قليل التحصيل ؛ لأنّ المستنكر من الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ أن يعرض عما أمره الله ـ تعالى ـ به ، ويشتغل بما يدعوه طبعه إليه.

فأما أن يميل قلبه إلى شيء ، فيتمنى في قلبه أن يأذن الله له فيه ، فذلك مما لا إنكار

__________________

(١) أخرجه ابن سعد في «الطبقات الكبرى» (١ / ٢ / ٣).

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٣ / ١٧٣ ـ ١٧٤) عن مجاهد ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ٢٦٩) وزاد نسبته لعبد بن حميد.

(٣) سقط في أ.

٣١

عليه ، لا سيما إذا لم ينطق به ، [أي بعد في أن يميل طبع الرسول إلى شيء ، فيتمنى في قلبه أن يأذن الله له فيه ، وهذا مما لا استبعاد فيه بوجه من الوجوه](١).

الوجه الثاني : أنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ قد استأذن جبريل ـ عليه‌السلام ـ في أن يدعو الله ـ تعالى ـ بذلك ، فأخبره جبريل ـ عليه الصلاة والسلام ـ بأن الله قد أذن له في هذا الدعاء ، وذلك لأن الأنبياء لا يسألون الله تعالى شيئا إلا بإذن منه ، لئلا يسألون ما لا صلاح فيه ، فلا يجابوا إليه ، فيفضي ذلك إلى تحقير شأنهم ، فلما أذن الله ـ تعالى ـ له في الإجابة ، علم أنه يستجاب إليه ، فكان يقلّب وجهه في السّماء ينتظر مجيء جبريل ـ عليه‌السلام ـ بالوحي في الإجابة.

الوجه الثالث : قال الحسن : إن جبريل ـ عليه‌السلام ـ أتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يخبره أن الله ـ تعالى سيحوّل القبلة عن بيت المقدس إلى قبلة أخرى ، ولم يبين له إلى أي موضع يحوّلها ، ولم تكن قبلة أحبّ إلى الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ من الكعبة ، فكان رسول الله يقلّب وجهه في السّماء ينتظر الوحي ؛ لأنه ـ عليه‌السلام ـ علم أنّ الله تعالى لا يتركه بغير صلاة ، فأتاه جبريل عليه‌السلام ، فأمره أن يصلّي نحو الكعبة.

والقائلون بهذا الوجه اختلفوا ، فمنهم من قال : إنه ـ عليه‌السلام ـ منع من استقبال «بيت المقدس» ولم يعين له القبلة ، فكان يخاف أن يرد وقت الصلاة ، ولم تظهر القبلة ، فتتأخر صلاته ، فلذلك كان يقلّب وجهه. عن الأصم.

وقال آخرون : بل وعد بذلك ، وقبلة بيت المقدس باقية ، بحيث تجوز الصلاة إليها ، لكن لأجل الوعد كان يتوقع ذلك ، ولأنه كان يرجو عند التحويل عن «بيت المقدس» إلى «الكعبة» وجوها كثيرة من المصالح الدينية :

نحو : رغبة العرب في الإسلام ، والمباينة عن اليهود ، وتمييز الموافق من المنافق ، لهذا كان يقلّب وجهه ، وهذا الوجه أولى ، وإلّا لما كانت القبلة الثانية ناسخة للأولى ، [بل كانت مبتدأة.

والمفسرون أجمعوا على أنها ناسخة للأولى](٢) ، ولأنه لا يجوز أن يؤمر بالصلاة إلّا مع بيان موضع التوجّه.

الرابع : أن تقلب وجهه في السّماء هو الدعاء.

القول الثاني : وهو قول أبي مسلم الأصفهاني ، قال : لو لا الأخبار التي دلّت على هذا القول ، وإلا فلفظ الآية يحتمل وجها آخر ، وهو أنه يحتمل أنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ إنما كان يقلّب وجهه في أول مقدمه «المدينة».

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) سقط في أ.

٣٢

فقد روي أنه ـ عليه‌السلام ـ كان إذا صلّى ب «مكة» جعل الكعبة بينه وبين «بيت المقدس» ، وهذه صلاة إلى الكعبة ، فلما هاجر لم يعلم أين يتوجه ، فانتظر أمر الله ـ تعالى ـ حتى نزل قوله : (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ).

فصل

اختلفوا في صلاته إلى بيت المقدس ، فقال قوم : كان ب «مكة» يصلي إلى الكعبة (١) فلما صار إلى المدينة أمر بالتوجه [إلى بيت المقدس سبعة عشر شهرا.

وقال قوم : بل كان ب «مكة» يصلي إلى بيت المقدس ، إلا أنه يجعل الكعبة بينه وبينها.

وقال قوم : بل كان يصلي إلى بيت المقدس فقط وب «المدينة» أولا سبعة عشر شهرا ، ثم أمره الله تعالى بالتوجه إلى الكعبة لما فيه من الصلاح.

واختلفوا في توجه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم](٢) إلى بيت المقدس هل كان فرضا لا يجوز غيره ، أو كان مخيرا في التوجه إليه وإلى غيره ، فقال الربيع بن أنس : قد كان مخيرا في ذلك. وقال ابن عباس : كان التوجه إليه فرضا.

وعلى كلا الوجهين صار منسوخا ، واحتج الأولون بالقرآن والخبر.

أما القرآن فقوله تعالى : (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) [البقرة : ١١٥].

وذلك يقتضي كونه مخيرا في التوجه إلى أي جهة شاء.

وأما الخبر فما روى أبو بكر الرّازي في كتاب «أحكام القرآن» : أن نفرا قصدوا الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ من «المدينة» إلى «مكة» للبيعة قبل الهجرة ، وكان فيهم البراء بن معرور ، فتوجّه بصلاته إلى الكعبة في طريقه ، وأبى الآخرون ، وقالوا : إنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ يتوجّه إلى بيت المقدس ، فلما قدموا «مكة» سألوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال له : قد كنت على قبلة يعني بيت المقدس لو ثبتّ عليها أجزأك ، ولم يأمره باستئناف الصلاة ، فدلّ على أنهم قد كانوا مخيرين.

واحتجّ الذاهبون إلى القول الثّاني بأنه ـ تعالى ـ قال : (فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها) فدلّ على أنه ـ عليه‌السلام ـ ما كان يرتضي القبلة الأولى ، فلو كان مخيرا بينها وبين الكعبة ما كان يتوجّه إليها ، فحيث توجّه إليها مع أنه كان ما يرتضيها علمنا أنه ما كان مخيرا بينها وبين الكعبة.

فصل في نسخ التوجه إلى بيت المقدس

المشهور أن التوجّه إلى «بيت المقدس» إنما صار منسوخا [بالأمر بالتوجّه إلى الكعبة.

__________________

(١) تقدم نحو من هذا الكلام.

(٢) سقط في أ.

٣٣

ومن الناس من قال : التوجّه إلى بيت المقدس صار منسوخا بقوله تعالى : (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) ثم إن ذلك صار منسوخا بقوله : (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ).

واحتجوا عليه بالقرآن والأثر.

أما القرآن فهو أنه تعالى ذكر أولا قوله : (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ)](١) ثم ذكر بعده : (سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها)

[البقرة : ١٤٢] ثم ذكر بعده : (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ).

وهذا الترتيب يقتضي صحّة المذهب الذي قلناه بأن التوجّه إلى بيت المقدس صار منسوخا بقوله : (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ).

فلزم أن يكون قوله تعالى : (سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ) [متأخرا في النزول والدرجة عن قوله تعالى : (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) فحينئذ يكون تقديمه عليه في الترتيب على خلاف الأصل ، فثبت ما قلناه.

وأما الأثر فما](٢) روي عن ابن عباس أن أمر القبلة أول ما نسخ من القرآن ، والأمر بالتوجه إلى بيت المقدس غير مذكور في القرآن ، إنما المذكور في القرآن (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) فوجب أن يكون قوله : (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) ناسخا لذلك ، لا للأمر بالتوجّه إلى «بيت المقدس».

قوله : (فَلَنُوَلِّيَنَّكَ) : فلنعطينّك ولنمكننّك من استقبالها من قولك : ولّيته كذا ، إذا جعلته واليا له ، أو فلنجعلنّك تلي سمتها دون سمت بيت المقدس.

قوله : «ترضاها» فيه وجوه :

أحدها : ترضاها : تحبّها وتميل إليها ؛ لأن الكعبة كانت أحبّ إليه من غيرها بحسب ميل الطبع ، وتقدم كلام القاضي عليه وجوابه.

وثانيها : «قبلة ترضاها» أي : تحبها بسبب اشتمالها على المصالح الدينية.

وثالثها : قال الأصم : أي : كل جهة وجّهك الله إليها ، فهي لك رضا لا يجوز أن تسخط كما فعل من انقلب على عقبيه من العرب الذين كانوا قد أسلموا ، فلما تحولت القبلة ارتدوا.

ورابعها : «ترضاها» أي : ترضى عاقبتها ؛ لأنك تعرف بها من يتبعك للإسلام ، ممن يتبعك لغير ذلك من دنيا يصيبها ، أو مال يكتسبه.

قوله : (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) «ولّى» يتعدى لاثنين :

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) سقط في أ.

٣٤

أحدهما : «وجهك».

والثاني : «شطر».

ويجوز أن ينتصب «شطر» على الظرف المكاني ، فيتعدى الفعل لواحد ، وهو قول النحاس ، ولم يذكر الزمخشري غيره.

والأول : أوضح ، وقد يتعدى إلى ثانيهما ب «إلى». [والمراد من الوجه هاهنا جملة بدن الإنسان ؛ لأن الواجب على الإنسان أن يستقبل القبلة بجملته لا بوجهه فقط ، والوجه قد يراد به العضو ، وقد يعبر عن كل الذات بالوجه.

قال أهل اللغة : «الشطر» اسم مشترك يقع على معنيين :

أحدهما : النصف من الشيء والجزء منه ، يقال : شطرت الشيء ، أي : جعلته نصفين ، ويقال في المثل : اجلب جلبا لك شطره ، أي : نصفه.

ومنه الحديث : «الطّهور شطر الإيمان».

وتكون من الأضداد.

ويقال : شطر إلى كذا إذا أقبل نحوه ، وشطر من كذا إذا ابتعد عنه وأعرض ، ويكون بمعنى الجهة والنحو ، واستشهد الشافعي ـ رضي الله عنه ـ في كتاب «الرسالة» في هذا بأربعة أبيات](١) قال : [الوافر]

٨٣١ ـ ألا من مبلغ عنّي رسولا

وما تغني الرّسالة شطر عمرو (٢)

وقال : [الوافر]

٨٣٢ ـ أقول لأمّ زنباع أقيمي

صدور العيس شطر بني تميم (٣)

وقال : [البسيط]

٨٣٣ ـ وقد أظلّكم من شطر ثغركم

هول له ظلم يغشاكم قطعا (٤)

وقال ابن أحمر : [البسيط]

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) البيت لعدي بن زيد ينظر ديوانه : ص ١٣٢ ، الأغاني : ٢ / ١٢٥ ، شرح عمدة الحافظ : ص ٦٥٠ ، الشعر والشعراء : ١ / ٢٣٥ ، الدر المصون : ١ / ٣٩٨.

(٣) البيت لأبي زنباع الجذامي. ينظر في الدرر : ٣ / ٩٠ ، ولسان العرب (شطر) ، ولأبي ذؤيب الهذلي في شرح أشعار الهذليين : ١ / ٣٦٣ ، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي : ٢ / ٧٠٥ ، وهمع الهوامع : ١ / ٢٠١ ، والدر المصون : ١ / ٣٩٨.

(٤) البيت للقيط بن يعمر ينظر ديوانه : ص ٤٣ ، والدرر : ٣ / ٩١ ، وهمع الهوامع : ١ / ٢٠١ ، والدر المصون : ١ / ٣٩٨.

٣٥

٨٣٤ ـ تعدو بنا شطر نجد وهي عاقدة

قد قارب العقد من إيفادها الحقبا (١)

وقال : [المتقارب]

٨٣٥ ـ وأطعن بالرّمح شطر الملو

ك ..........(٢)

وقال : [البسيط]

٨٣٦ ـ إنّ العسير بها داء يخامرها

وشطرها نظر العينين محسور (٣)

كل ذلك بمعنى : «نحو» و «تلقاء» [فعلى هذا المراد الجهة ، وهو قول جمهور المفسّرين من الصحابة والتابعين والمتأخرين ، واختار الشافعي ـ رضي الله عنه ـ أن المراد جهة المسجد الحرام وتلقاءه. وقرأ أبي بن كعب تلقاء المسجد الحرام.

قال القرطبي : وهو في حرف ابن مسعود : «تلقاء المسجد الحرام» ، وقال الجبائي : المراد من التشطير هاهنا وسط المسجد ، ومنتصفه ؛ لأن الشطر هو النصف ، والكعبة لما كانت واقعة في نصف المسجد حسن أن يقول : (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) يعني : النصف من كل جهة ، كأنه عبارة عن بقعة الكعبة ، وهذا اختيار القاضي ، ويدل عليه وجهان :

الأول : أن المصلي خارج المسجد لو وقف بحيث يكون متوجها إلى المسجد ولكن لا يكون متوجها إلى منتصف المسجد الذي هو موضع الكعبة لم تنفع صلاته.

الثاني : لو فسرنا الشطر بالجانب لم يبق لذكر الشطر مزيد فائدة ؛ لأنك لو قلت : (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) لحصلت الفائدة المطلوبة.

وإذا فسرنا الشطر بما ذكرناه كان لذكره فائدة زائدة](٤).

ويقال : شطر : بعد ، ومنه : الشّاطر ، وهو الشّاب البعيد من الجيران الغائب عن منزله ، ويقال : شطر شطورا.

والشّطير : البعيد ، ومنه : منزل شطير ، وشطر إليه أي : أقبل.

وقال الراغب : وصار يعبر بالشّاطر عن البعيد ، وجمعه : شطر ، والشاطر أيضا لمن يتباعد من الحق ، وجمعه شطّار.

__________________

(١) البيت لابن أحمر ينظر ديوانه : ص ٤٣ ، وخزانة الأدب : ٦ / ٢٥٥ ، والدرر : ٣ / ٩١ ، وهمع الهوامع : ١ / ٢٠١ ، والدر المصون : ١ / ٣٣٨.

(٢) جزء بيت لدرهم بن زيد وتمامه :

حتى إذا خفق المجدح

ينظر اللسان (طعن) ، وفيه وأطعن بالقوم ، الدر المصون : ١ / ٣٩٩.

(٣) البيت لقيس بن خويلد. ينظر البحر المحيط : ١ / ٥٩٢ ، معاني القرآن للزجاج : ١ / ٢٠٤ ، اللسان (حسر) ، مجمع البيان : ٢ / ١٥ ، الدر المصون : ١ / ٣٩٩.

(٤) سقط في ب.

٣٦

[فصل في الكلام على المسجد الحرام

قال الأزرقي : ذرع المسجد الحرام مقصرا مائة ألف وعشرون ألف ذراع ، وعدد أساطينه من شقّه الشّرقي : مائة وثلاث أسطوانات. ومن شقّه الغربي : مائة وخمس أسطوانات ، ومن شقّه الشّامي : مائة وخمس وثلاثون أسطوانة ، ومن شقّه اليمني : مائة وإحدى وأربعون أسطوانة.

وذرع ما بين كل أسطوانتين ستة أذرع وثلاثة عشر إصبعا.

وللمسجد الحرام ثلاثة وعشرون بابا ، وعدد شرفاته مائتا شرفة واثنان وسبعون شرفة ونصف شرفة ، ويطلق المسجد الحرام ، ويراد به الكعبة.

قال تعالى : (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ).

ويطلق ويراد به المسجد معها.

وقال عليه الصلاة والسلام : «لا تشدّ الرّحال إلّا لثلاثة مساجد : المسجد الحرام» إلى آخره (١) ، ويطلق ويراد به «مكة» كلها ، قال سبحانه وتعالى : (سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) قال المفسرون : كان الإسراء من بيت أمّ هانىء بنت أبي طالب.

ويطلق ويراد به «مكة» كلها ، قال سبحانه وتعالى : (ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ).

قال البعض : حاضرو المسجد الحرام من كان منه دون مسافة نفر.

وقال تعالى : (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا) ، وهل تعتبر هذه المسافة من نفس «مكة» أو من طرف الحرم؟ والأصح أنها من طرف الحرم](٢).

فصل في المراد بالمسجد الحرام

اختلفوا في المراد من المسجد الحرام.

روي عن ابن عباس ، أنه قال : البيت قبلة لأهل المسجد (٣) ، والمسجد قبلة لأهل الحرم ، والحرم قبلة لأهل المشرق والمغرب ، وهذا قول مالك رضي الله عنه.

__________________

(١) أخرجه البخاري (٣ / ٧٠) كتاب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة باب بيت المقدس (١١٩٧٠) ومسلم (٢ / ٩٧٦) كتاب الحج باب سفر المرأة مع محرم وغيره (٤١٥ ـ ٨٢٧) وأبو داود (٢٠٣٣) والترمذي (٣٣٦) والنسائي (٢ / ٧٣) وابن ماجه (١٤٠٩ ، ١٤١٠) وابن أبي شيبة (٤ / ٦٥ ، ٦٦).

(٢) سقط في ب.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٣ / ١٧٩).

٣٧

وقال آخرون : القبلة هي الكعبة ، والدليل عليه ما أخرج في «الصحيحين» عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس ، قال : أخبرني أسامة بن زيد ، قال : إنه لمّا دخل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم البيت دعا في نواحيه كلها ، ولم يصلّ حتى خرج منه ، فلما خرج صلى ركعتين في قبل الكعبة ، وقال : هذه القبلة (١).

قال القفال : وقد وردت الأخبار الكثيرة في صرف القبلة إلى الكعبة.

وفي خبر البراء بن عازب : ثم صرف إلى الكعبة ، وكان يحبّ أن يتوجّه إلى الكعبة.

وفي خبر ابن عمر في صلاة أهل قباء : فأتاهم آت فقال : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حول إلى الكعبة.

وفي رواية ثمامة بن عبد الله بن أنس : جاء منادي رسول الله ، فنادى أن القبلة حولت إلى الكعبة. هكذا عامة الروايات.

وقال آخرون : بل المراد المسجد الحرام الحرم كلّه ، قالوا : لأن الكلام يجب إجراؤه على ظاهر لفظه ، إلّا إذا منع منه مانع.

وقال آخرون : المراد من المسجد الحرام الحرم كلّه ، والدليل عليه قوله تعالى : (سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) [الإسراء : ١] وهو ـ عليه الصلاة والسلام ـ إنما أسري به خارج المسجد ، فدلّ هذا على أن الحرم كله مسمى بالمسجد الحرام.

وقوله تعالى : (وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ) في «حيثما» هنا وجهان :

أظهرهما : أنها شرطية ، وشرط كونها كذلك زيادة «ما» بعدها خلافا للفراء ، ف «كنتم» في محلّ جزم بها ، و «فولّوا» جوابها ، وتكون هي منصوبة على الظرف ب «كنتم» فتكون هي عاملة فيه الجزم ، وهو عامل فيها النصب نحو : (أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) [الإسراء : ١١٠].

واعلم أن «حيث» من الأسماء اللازمة للإضافة فالجملة التي بعدها كان القياس يقتضي أن تكون في محلّ خفض بها ، ولكن منع من ذلك مانع ، وهو كونها صارت من عوامل الأفعال.

قال أبو حيان : وحيث هي ظرف مكان مضافة إلى الجملة ، فهي مقتضية للخفض بعدها ، وما اقتضى الخفض لا يقتضي الجزم ؛ لأن عوامل الأسماء لا تعمل في الأفعال ، والإضافة موضحة لما أضيف ، كما أن الصلة موضحة ، فينافي اسم الشرط ؛ لأن اسم

__________________

(١) أخرجه البخاري (١ / ١٧٦) كتاب الصلاة باب قول الله تعالى : «وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى» (٣٩٨) ومسلم (١ / ٣٧٦ ـ ٣٧٧) وأحمد (٥ / ٢١٠).

٣٨

الشرط مبهم ، فإذا وصلت ب «ما» زال منها معنى الإضافة ، وضمنت معنى الشرط وجوزي بها ، وصارت من عوامل الأفعال.

والثاني : أنها ظرف غير مضمن معنى الشرط ، والناصب له قوله : «فولّوا» قاله أبو البقاء ، وليس بشيء ، لأنه متى زيدت عليها «ما» وجب تضمّنها معنى الشرط. وأصل «ولّوا» : وليوا ، فاستثقلت الضمة على الياء ، فحذفت ، فالتقى ساكنان فحذف أولهما ، وهو الياء وضم ما قبله ليجانس الضمير ، فوزنه «فعوا».

وقوله : «شطره» فيه القولان ، وهما : إما المفعول به ، وإما الظرفية كما تقدم.

فصل في الصلاة في المسجد الحرام

قال صاحب التهذيب : الجماعة إذا صلوا في المسجد الحرام يستحب أن يقف الإمام خلف المقام ، والقوم يقفون مستدبرين البيت ، فإن كان بعضهم أقرب إلى البيت من الإمام جاز ، فلو امتدّ الصف في المسجد ، فإنه لا تصحّ صلاة من خرج عن محاذاة الكعبة.

وعند أبي حنيفة تصحّ ؛ لأن عنده الجهة كافية. وحجة الشّافعي رضي الله عنه : القرآن والخبر والقياس.

أما القرآن فهو ظاهر هذه الآية ، وذلك لأنا دللنا على أن المراد من شطر المسجد الحرام جانبه ، وجانب الشيء هو الذي يكون محاذيا له ، وواقعا في سمته ، والدليل عليه أنه لو كان كل واحد منهما إلى جانب المشرق ، إلا أنه لا يكون وجه أحدهما محاذيا لوجه الآخر ، لا يقال : إنه ولّى وجهه إلى جانب عمرو ، فثبت دلالة الآية على أن استقبال عين الكعبة واجب.

وأما الخبر فما روينا أنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ لما خرج من الكعبة ركع ركعتين في قبلة الكعبة ، وقال : «هذه القبلة».

وهذه الكلمة تفيد الحصر ، فثبت أنه لا قبلة إلا عين الكعبة ، وكذلك سائر الأخبار التي رويناها في أن القبلة هي الكعبة.

وأما القياس فهو أن مبالغة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم في تعظيم الكعبة أمر بلغ التواتر ، والصلاة من أعظم شعائر الدين ، وتوقيف صحتها على استقبال عين الكعبة مما يوجب حصول مزيد شرف الكعبة ، فوجب أن يكون مشروعا ، ولأن كون الكعبة قبلة أمر معلوم ، وكون غيرها قبلة أمر مشكوك ، والأولى رعاية الاحتياط في الصلاة ، فوجب توقيف صحة الصلاة على استقبال الكعبة.

واحتج أبو حنيفة بظاهر الآية ؛ لأنه ـ تعالى ـ أوجب على المكلف أن يولّي وجهه إلى جانبه ، فمن ولى وجهه إلى الجانب الذي حصلت الكعبة فيه ، فقد أتى بما أمر به ،

٣٩

سواء كان مستقبلا الكعبة أم لا ، فوجب أن يخرج على العهدة.

وروى أبو هريرة ـ رضي الله عنه ـ أنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ قال : «ما بين المشرق والمغرب قبلة» (١).

قال أصحاب الشافعي رحمه‌الله تعالى : ليس المراد من هذا الحديث أن كلّ ما يصدق عليه أنه بين مشرق ومغرب فهو قبلة ؛ لأن جانب القطب الشمالي يصدق عليه ذلك ، وهو بالاتفاق ليس بقبلة ، بل المراد أن الشيء الذي هو بين مشرق معين ، ومغرب معين قبلة ، ونحن نحمل ذلك على الذي يكون بين المشرق الشتوي ، وبين المغرب الصيفي ، فإن ذلك قبلة ، وذلك لأن المشرق الشتوي جنوبي متباعد عن خط الاستواء بمقدار الميل ، والمغرب الصيفي شمالي متباعد عن خطّ الاستواء بمقدار الميل ، والذي بينهما هو سمت «مكة».

قالوا : فهذا الحديث بأن يدل على مذهبنا أولى منه بالدلالة على مذهبكم ، أما فعل الصحابة فمن وجهين :

الأول : أن أهل مسجد «قباء» كانوا في صلاة الصبح ب «المدينة» مستقبلين لبيت المقدس ، مستدبرين للكعبة ؛ لأن «المدينة» بينهما.

فقيل لهم : ألا إن القبلة قد حوّلت إلى الكعبة ، فاستداروا في أثناء الصّلاة من غير طلب دلالة ، ولم ينكر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عليهم ، وسمى مسجدهم ب «ذي القبلتين» ومقابلة العين من المدينة إلى «مكة» لا تعرف إلا بأدلّة هندسية يطول النظر فيها ، فكيف أدركوها على البديهة في أثناء الصلاة وفي ظلمة الليل؟

الثاني : أن الناس من عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بنوا المساجد في جميع بلاد الإسلام ، ولم يحضروا قط مهندسا عند تسوية المحراب ، ومقابلة العين لا تدرك إلا بدقيق نظر الهندسة.

وأما القياس فمن وجوه :

الأول : لو كان استقبال عين الكعبة واجبا ، إما علما أو ظنّا ، وجب ألّا تصح صلاة أحد قط ؛ لأنه إذا كان محاذاة الكعبة مقدار نيف وعشرين ذراعا ، فمن المعلوم أن أهل المشرق والمغرب يستحيل أن يقفوا في محاذاة هذا المقدار ، بل المعلوم أن الذي يقع منهم في محاذاة هذا القدر القليل قليل بالنسبة إلى كثير.

ومعلوم أن العبرة في أحكام الشرع بالغالب ، والنادر ملحق به ، فوجب ألّا تصح

__________________

(١) أخرجه الترمذي (٢ / ١٧١ ـ ١٧٢) رقم (٣٤٢) والنسائي (٤ / ١٧٢) وابن ماجه (١٠١١) والحاكم (١ / ٢٠٥) والدارقطني (١ / ٢٧٠) والبيهقي (٢ / ٩) وابن أبي شيبة (٢ / ٣٦٢) وعبد الرزاق (٣٦٣٣ و ٣٦٣٤ و ٣٦٣٥ و ٦٣٣٦) وانظر تلخيص الحبير (١ / ٢١٣) ونصب الراية (١ / ٣٠٣).

٤٠